logo
الرئيسية/دروس علمية/دورة في التعليق على كتاب الحج من كتاب السلسبيل (الكويت)/(06) باب الإحرام- من قوله: “وهو واجبٌ من الميقات ..”

(06) باب الإحرام- من قوله: “وهو واجبٌ من الميقات ..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

اللهم ارزقنا الفقه في دينك يا حيّ، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

هذا -أيها الإخوة- هو المجلس الثالث في هذه الدورة، وهو الدرس الثاني في “السلسبيل في شرح الدليل”، ونحن نستكمل ما بدأنا به من تعليقٍ على “السلسبيل” في “كتاب الحج”، وكنا قد وصلنا إلى “باب الإحرام”، وهذا الباب من أهم الأبواب.

باب الإحرام

قال المؤلف رحمه الله:

باب الإحرام.

تعريف الإحرام

ما معنى الإحرام؟

هذا أمرٌ مهمٌّ؛ لأن بعض الناس يلتبس عليه لبس ملابس الإحرام بحقيقة الإحرام، فلا بد أن نعرف المقصود بالإحرام.

الإحرام معناه في اللغة: الإحرام من التَّحريم، ويُطلق على نية الدخول في النُّسك.

وعلى هذا فالإحرام لا يتعلق باللباس، وإنما بالنية، فلو أردتَ -مثلًا- أن تعتمر أو تحجَّ لك أن تغتسل هنا في الكويت وتتنظف وتلبس ملابس الإحرام، لكن ما تنوي حتى الآن؛ فلا تُعتبر مُحْرِمًا، ولو كنتَ قد لبستَ ملابس الإحرام؛ لأنك لم تَنْوِ، والإحرام هو نية الدخول في النُّسك.

وربما يكون هذا هو الأحسن؛ لأنك لو أخَّرتَ لبس ملابس الإحرام في الطائرة، تعرفون وضع الطائرات، فدورات المياه صغيرةٌ، وربما يكون هناك زحامٌ، فالأحسن أنك تفعل هذا كله في البيت إذا كان ذهابك إلى مكة عن طريق الطائرة، فتتنظف وأنت في البيت وتغتسل وتلبس ملابس الإحرام، لكن لا تنوي، ثم إذا مررتَ بالميقات هنا تنوي، عندما تمر بالميقات تقول: لبيك عمرةً، أو لبيك حجًّا. وهنا تكون قد أحرمتَ، وقبل ذلك لستَ مُحْرِمًا ولو كنتَ لبستَ ملابس الإحرام.

وهذه نقطةٌ مهمةٌ؛ لأن بعض العامة يعتقد أنه من حين أن يلبس ملابس الإحرام يكون مُحْرِمًا، وهذا غير صحيحٍ؛ ولذلك تجد بعضهم يلبس ملابس الإحرام -مثلًا- من هنا في الكويت، ثم إذا وصل إلى مكة قال: أنا مُحْرِمٌ من الكويت.

وهنا ترد الإشكالية: ماذا كنتَ تقصد لما لبستَ ملابس الإحرام؟ هل كنتَ تقصد -فعلًا- أنك دخلتَ في النُّسك، أو أنك تقصد أنك لبستَ ملابس الإحرام؟

إذا كنت تعتقد أنك دخلتَ في النُّسك ففعلًا تكون قد أحرمتَ هنا من الكويت، لكنك أحرمتَ قبل الميقات، وهذا خلاف السنة، فالسنة أن تُحرم من مُحاذاة الميقات.

أما إذا كنت مجرد أنك لا تريد الدخول في النُّسك، فحينئذٍ تكون قد تجاوزتَ الميقات بدون إحرامٍ؛ ولذلك بعض العامة نقول: ماذا نويتَ؟ وهو ما يدري ماذا نوى، أو بعبارةٍ أخرى لا يستطيع أن يُفْصِح عما نوى.

ولذلك نطرح عليه أسئلةً: أقول له -مثلًا-: لو أنك لما لبستَ ملابس الإحرام وأنت هنا في الكويت، وركبتَ الطائرة، لو أراد شخصٌ أن يُعطرك، قال: معي -مثلًا- دهان عودٍ، افتح، أعطني يمينك أضع عطرًا. هل تقبل؟

إذا قال: لا، أنا ما أقبل. فمعنى ذلك: أنك نويتَ من هنا من الكويت.

إذا قال: نعم أقبل؛ لأني حتى الآن ما أحرمتُ، وأنا سأُحرم من عند الميقات. فمعنى ذلك: أنك لم تُحرم، وإنما لبستَ ملابس الإحرام.

فانتبهوا -بارك الله فيكم- لهذه المسألة التي يكثر السؤال عنها والاستفتاءات عنها.

بعض الناس لا يُفرق بين لبس ملابس الإحرام والإحرام نفسه.

الإحرام هو نية الدخول في النُّسك، ولبس ملابس الإحرام ليست إحرامًا، ليست هي الإحرام، فلو أنك هنا لبستَ ملابس الإحرام في الكويت، ووضعتَ الرداء على رأسك، يصح؟

يصح؛ لأنك لم تُحْرِم بعد، أنت ستُحْرِم عند مُحاذاة الميقات، وأنت الآن لم تُحْرِم، فهذه النقطة فهمها مهمٌّ جدًّا.

حكم الإحرام من الميقات

قال المؤلف:

وهو واجبٌ من الميقات.

الإحرام هو ركنٌ من أركان الحجِّ، وركنٌ من أركان العمرة، لكن كونه من الميقات هو الواجب، وهذا هو مقصود المُصنف رحمه الله، يعني: يجب أن يكون الإحرام من الميقات.

والمؤلف قال: “من الميقات” وأطلق، ولو أن المؤلف ذكر المواقيت ولو على سبيل الإجمال لكان أحسن، لكن هنا ذُكِرَتْ في “السلسبيل” بشكلٍ مُفصلٍ، وهي خمسة مواقيت: أربعة بالإجماع، والخامس مُختلفٌ فيه: هل هو من تحديد النبي عليه الصلاة والسلام أو من تحديد عمر ؟

ميقات أهل المدينة

الميقات الأول ميقات أهل المدينة: ذو الحُلَيفة، ويُسمى: أبيار علي، وهو أبعد المواقيت عن مكة، وقريبٌ جدًّا من المدينة، بل إن عمران المدينة الآن قد تجاوزه، يعني: دخل في عمران المدينة، ويبعد عن مكة عشر مراحل، أو عشرة أيامٍ لما كانوا يسيرون على الإبل، وبالكيلو مترات أربعمئة كيلو تقريبًا.

والنبي لما حجَّ أحرم من هذا الميقات، من ذي الحُلَيفة، وكان خروج النبي عليه الصلاة والسلام في السنة العاشرة من الهجرة، كان خروجه في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، وسار عليه الصلاة والسلام بعدما صلَّى صلاة الظهر، وكان عليه الصلاة والسلام قد تجهز، ولبس الإزار والرداء في بيته، ثم أتى إلى مسجده، وصلَّى بالناس صلاة الظهر أربع ركعاتٍ.

طيب، لماذا لم يَقْصر؟

هو الآن مُتَجَهِّزٌ للسفر، مُتَهَيِّئٌ للسفر.

مَن يُجيب عن هذا السؤال؟ لماذا ما صلَّاها عليه الصلاة والسلام ركعتين؟

لأنه لم يتجاوز عمران المدينة؛ ولذلك المسافر ليس له أن يترخص بِرُخَص السفر حتى يتجاوز العمران.

لو أنك هنا في الكويت تجهزتَ للسفر، لكنك ما سافرتَ، تجهزتَ أو حتى صليتَ، يعني: أنت تجهزتَ، حركتَ السيارة، لكن وقفتَ في مسجدٍ، أو في محطة وقودٍ، تُتمّ أو تَقْصر؟

تُتم، وما تقصر حتى تُفارق العمران؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان مُتجهزًا، وصلَّى في مسجده أربع ركعاتٍ، ولم يَقْصر.

بعد صلاة الظهر سار إلى ذي الحُلَيفة، وكما ذكرنا هي قريبةٌ من المدينة الآن، دخلتْ في عمران المدينة، ووصلها قبل صلاة العصر، وصلى صلاة العصر في ذي الحُلَيفة ركعتين؛ لأنه ابتدأ السفر الآن وفارق العمران.

ومكث في ذي الحُلَيفة العصر والمغرب والعشاء والفجر، وقال: أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجةٍ [1].

والنُّسك الذي اختاره النبي ما هو؟

التَّمتع أو الإفراد أو القِرَان؟

القِرَان؛ لأنه قد ساق الهدي، ومَن ساق الهدي فإنه يكون قارنًا.

قال الإمام أحمد: “لا أشك أن النبي كان قارنًا”.

أما مَن لم يَسُقِ الهدي سيأتي الكلام عنه، وأن الأفضل التَّمتع.

ثم بعد صلاة الفجر سار عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وبقي في الطريق عشرة أيامٍ، ووصل إلى مكة في ضُحى الرابع من ذي الحجة.

سبحان الله! عشرة أيامٍ ما بين مكة والمدينة، نقطعها الآن في كم؟

في أربع ساعاتٍ، فكانوا يُعانون مُعاناةً كبيرةً.

وفي الطريق حاضتْ عائشة رضي الله عنها قُبيل الوصول إلى مكة، في مكانٍ يُقال له: سَرِف، فدخل عليها النبي وهي تبكي، وهو عليه الصلاة والسلام عنده قوة فراسةٍ، ومباشرةً عرف السبب، وهو: أنها حاضتْ، فقال مُواسيًا لها: إن هذا شيءٌ كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت [2].

هنا بقي عليه الصلاة والسلام عشرة أيامٍ حتى وصل إلى مكة، فذو الحُلَيفة بينه وبين مكة عشر مراحل، تُعادل أربعمئة كيلو متر، ويُسمى الآن: أبيار علي.

ميقات أهل الشام ومصر والمغرب

الميقات الثاني ميقات أهل الشام ومصر والمغرب: الجُحْفَة.

أما أهل الشام فواضحٌ أنها مما تلي الجُحْفَة، لكن لماذا قال الفقهاء السابقون: إنه ميقات أهل مصر وهو من جهة الشمال؟

قالوا: ميقات أهل مصر لأن الناس قديمًا كانوا يأتون من مصر والمغرب عن طريق البَرِّ، ولم تكن قناة السويس موجودةً في ذلك الوقت، فكانوا يُحْرِمون من ميقات الجُحْفَة.

والجُحْفَة قريةٌ خَرِبَةٌ دعا النبي بأن تُنقل إليها حُمَّى المدينة، فإن المدينة كانت فيها حُمّى، كانت مشهورةً بالحُمَّى، ولما انتقل النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة مُهاجرين من مكة إلى المدينة أصابتْ بعض الصحابة الحُمَّى، فدعا النبي بأن تُنْقَل حُمّى المدينة إلى الجُحْفَة؛ لأنها كان فيها يهودٌ، فانتقلتْ إلى الجُحْفَة، ولما انتقلت الحُمَّى إلى الجُحْفَة خرج منها الناس؛ فَخَرِبَتْ، أصبحت قريةً خَرِبَةً، وأصبح الناس يُحْرِمون من رابغ، ورابغ تُحاذي الجُحْفَة، لكن الآن وُضِعَ في الجُحْفَة مسجدٌ، وأصبح الناس يُحْرِمون منه، أصبحوا يُحْرِمون من الجُحْفَة، ومن رابغ.

فسواء أحرمتَ من الجُحْفَة أو من رابغ تكون أحرمتَ من الميقات.

ميقات أهل اليمن

الميقات الثالث: يَلَمْلَم.

ويَلَمْلَم هو ميقات أهل اليمن.

المقصود بأهل اليمن يعني: جنوب الجزيرة العربية عمومًا، فيشمل حتى المنطقة الجنوبية في المملكة، يشمل الميقات عسير وما حولها، ميقاتهم هو يَلَمْلَم، وهو وادٍ كبيرٌ، وهو على مرحلتين من مكة.

ميقات أهل نجد

الميقات الرابع: ميقات أهل نجد، ويُسمى: قَرْن المنازل، والسَّيل الكبير، وهو ميقات الناس هنا في الكويت أيضًا، وهو وادٍ مُتَّسعٌ، كبيرٌ، وفي أعلى هذا الوادي: وادي محرم الذي هو في الهَدَا في الطائف، ووادي محرم ليس مُحاذيًا للسَّيل، وإنما هو أعلى الوادي.

فسواء أحرمتَ من السَّيل أو من وادي محرم فأنت أحرمتَ من الميقات.

هذه المواقيت الأربعة مُجمعٌ عليها، وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي وقَّت لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم: هُنَّ لهنَّ ولمَن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ والعمرة، ومَن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة [3].

ميقات أهل العراق

الميقات الخامس الذي هو محل خلافٍ: هل وَقَّته النبي أو الذي وَقَّته عمر ؟

هو ميقات أهل العراق، ويُسمى: ذات عِرْقٍ، فإن أهل العراق أتوا إلى عمر  وقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله وقَّت لأهل نجدٍ قَرْنًا، وهو جَوْرٌ عن طريقنا. فقال عمر : “انظروا إلى حَذْوها من طريقكم”، فحدد لهم ذات عِرْقٍ، لكن جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي وَقَّتَ لأهل العراق ذات عِرْقٍ [4].

والأقرب -والله أعلم- أن عمر  لم يبلغه توقيت النبي ، فاجتهد، فوافق اجتهاده توقيت النبي ، وهذا ليس بغريبٍ على عمر ، فإنه قد وافق الوحي في عدة مسائل، فعمر  مُلْهَمٌ، ووافق الوحي في عدة مسائل.

فالصحيح إذن أن ذات عِرْقٍ وَقَّته النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبلغ عمر ، فاجتهد فَوَقَّت لأهل العراق: ذات عِرْقٍ، فوافق اجتهاده توقيت النبي .

هذا هو القول المُرجح عند كثيرٍ من المُحققين من أهل العلم.

ذات عِرْقٍ كان شِعْبًا مهجورًا لا يأتيه أحدٌ، ما كان له طريقٌ مُسَفْلَتٌ، ولا كان فيه أيضًا مسجدٌ ودورات مياهٍ يغتسل الناس فيها، فكان مهجورًا، لكن في السنوات الأخيرة وُضِعَ إليه طريقٌ ومسجدٌ ومُغْتَسَلٌ، وأصبح الناس الآن يُحْرِمون منه، وهو الآن أيسر من السَّيل، والسَّيل قد يكون فيه زحامٌ، فالذين يذهبون إلى ذات عِرْقٍ هو مُحَاذٍ للسَّيل، وليس عليه زحامٌ كثيرٌ.

هذه المواقيت هي المواقيت لمَن أراد الإحرام بالحج أو العمرة: هُنَّ لهنَّ ولمَن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ والعمرة.

الإحرام من الطائرة

مَن مَرَّ بأحد هذه المواقيت بالسيارة فالأمر واضحٌ: يُحْرِم منها، لكن إذا كان مروره عن طريق الباخرة لبعض المواقيت -مثل: الجُحْفَة أو يَلَمْلَم- يُحْرِم أيضًا عند مُحاذاتها، أما إذا كان إحرامه عن طريق الطائرة فإنه يُحْرِم أيضًا عند مُحاذاة الميقات.

لكن نُنبه هنا إلى مسألةٍ مهمةٍ هي: أن الطائرة تسير بسرعةٍ كبيرةٍ جدًّا، تسير بسرعة أكثر من 800 كم في الساعة، والمواقيت مساحتها محدودةٌ، فالميقات قد يكون جبلًا أو واديًا، فالطائرة التي تسير بسرعة 800 كيلو ستقطع مساحة الميقات الصغيرة في وقتٍ وجيزٍ، ربما دقيقة أو أقلّ من دقيقةٍ، فالتَّأخر ولو دقيقة واحدة مُؤثرٌ، فربما لو تأخرتَ دقيقةً واحدةً تكون الطائرة قد تجاوزت الميقات.

لذلك ينبغي التَّنبه لهذه المسألة؛ لأن بعض الناس -مثلًا- يُعْلَن بأننا قد حاذينا الميقات، وتجده يبدأ يتجهز وكذا، يظن أن الأمر فيه سعة، وبعد دقيقةٍ واحدةٍ الطائرة قد تجاوزت الميقات، وإذا تجاوز الميقات يجب عليه أن يرجع للميقات ويُحْرِم منه، فإن لم يرجع فعليه دمٌ.

لذلك ينبغي أن يستعدَّ مَن يريد الإحرام في الطائرة بأن يلبس ملابس الإحرام، وأن يكون مُتَهَيِّئًا، فإذا حاذى الميقات أحرم، وسيأتيك بيان صفة الإحرام.

بعض الناس يلبس ملابس الإحرام في بيته، ويركب الطائرة، ثم ينام ولا يستيقظ حتى تصل الطائرة إلى جدة، فهذا يكون قد تجاوز الميقات بدون إحرامٍ، فيُقال له: ارجع للميقات وأحرم منه. فإن لم يرجع فعليه دمٌ.

يا إخواني، المسألة مسألة اهتمامٍ، فإذا ذهب الإنسان للعمرة والحج ينبغي أن يهتمَّ بهذه العبادة، كيف يركب الطائرة وينام؟! على الأقل إما أن يضع مُنَبِّهًا، أو يطلب من أحدٍ أن يُوقظه، أما أن ينام ولا يستيقظ إلا في جدة، فهذا يدل على الاستهتار وقِلة المُبالاة.

هذه أحكامٌ شرعيةٌ، والله تعالى في سورة البقرة لما قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قال في آخر الآية: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196]، فانظر كيف ختم الله تعالى آية الحج بهذا: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

هذه أحكامٌ شرعيةٌ ينبغي أن يهتمَّ بها المسلم، وكونه ما يستيقظ حتى يصل إلى جدة، هذا يدل على قِلة الاهتمام واللامُبالاة.

والإحرام من جدة سيأتي الكلام عنه.

مَن كان منزله دون الميقات فميقاته منزله

ومَن كان منزله دون الميقات فميقاته منزله.

مَن كان منزله دون الميقات مثل: أهل مكة، وأهل جدة، وأهل بحرة، أهل هذه البلدان التي هي دون المواقيت يُحْرِمون من بيوتهم؛ لقول النبي : ومَن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة، وهذا بالنسبة للحج والعمرة إلا أهل مكة بالنسبة للعمرة، فلا بد أن يخرجوا خارج حدود الحرم ويُحْرِموا من الحِلِّ، وأقرب الحِلِّ وأدناه هو التَّنعيم، وهو الذي ذهبتْ إليه أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وفيه الآن مسجدٌ يُسمى: مسجد عائشة.

المكان الذي أحرمتْ منه عائشة رضي الله عنها فيه مسجدٌ يُسمى: مسجد عائشة.

فأهل مكة ومَن كان مُقيمًا في مكة إذا أراد العمرة لا بد أن يخرج خارج حدود الحرم، ويُحْرِم من الحِلِّ، لكن لا يلزم أن يُحْرِم من التَّنعيم، فله أن يُحْرِم من عرفة -مثلًا- فعرفة من الحِلِّ، وله أن يُحْرِم من الجعرانة، ويُحْرِم من أي مكانٍ من الحِلِّ.

هل تُعتبر مدينة جدة ميقاتًا؟

جدة هل تُعتبر ميقاتًا؟

بعض المعاصرين قال: إن جدة تُعتبر ميقاتًا. ولهم في هذا عدة مسالك، يعني: بعضهم يقول: إن جدة تُحاذي الجُحْفَة ويَلَمْلَم. وآخرون يقولون: لا، إن جدة أصبح الآن معظم الحُجاج يأتون عن طريقها، ممكن ما لا يقل عن 90% من الحُجاج يأتون عن طريق جدة، ولو كان النبي حيًّا لجعل جدة ميقاتًا.

ولكن هذا الكلام محل نظرٍ، فالنبي لا ينطق عن الهوى، وإذا كان لا يعلم فالله يعلم أن الناس سيأتون من جدة، وسيكثر الحُجاج من جدة، فهذا الكلام كلامٌ غير مقبولٍ، لكنه موجودٌ ويُتناقل عن بعض العلماء المعاصرين.

القائلون بأن جدة تُحاذي أحد المواقيت هذا كلامٌ غير مُسلَّمٍ، جدة -في الحقيقة- دون المواقيت بدليل أنك إذا أتيتَ بالطائرة تريد جدة من أي جهةٍ -من الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الشمال الشرقي أو الجنوب الغربي- لا بد أن تُحاذي أحد المواقيت، لا بد، فكيف تكون جدة مُحاذيةً للمواقيت؟

أنت الآن ستمر بأحد المواقيت إلا في حالةٍ واحدةٍ وهم أهل سواكن بالسودان، فقد ذكر الفقهاء أن أهل سواكن بالسودان يمكن أن يصلوا إلى جدة ولم يُحاذوا أي ميقاتٍ؛ فَيُحْرِموا من جدة فقط، ومَن عداهم لا بد أن يُحاذي أحد المواقيت، لا بد أن يمر بأحد المواقيت، لا بد، فجدة دون المواقيت، والقول بأن جدة تُحاذي أحد المواقيت كلامٌ غير صحيحٍ.

وأذكر أن هناك مَن كتب كتابًا في هذا -في أن جدة يجوز الإحرام منها- وكتب شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله بيانًا، وبيَّن أن هذا الكلام غير صحيحٍ، وذكر الأدلة التي تدل على عدم صحته، وكان هو المُفتي العام في المملكة، وأمر بسحب هذا الكتاب من المكتبات.

إذن جدة هي دون المواقيت، الحقيقة دون المواقيت، بدليل أنك إذا أتيتَ بالطائرة من أي جهةٍ لا بد أن تُحاذي أحد المواقيت، فهي دون المواقيت.

ومنشأ الخطأ عند مَن قال: “إن جدة تُحاذي بعض المواقيت” هو الخطأ في تعريف المُحاذاة، فالمُحاذاة ليست كما فهموا: أنك تُوصل خطوطًا، لا، هذا غير صحيحٍ، إنما المقصود بالمُحاذاة: أن تكون المسافة بين الكعبة والميقات مُساويةً للميقات المُحاذي.

يعني مثلًا: ذات عِرْقٍ وقَرْن المنازل، المسافة بين قَرْن المنازل إلى الكعبة هي نفسها المسافة بين ذات عِرْقٍ إلى الكعبة.

فمعنى ذلك: أن هذا الميقات تأخذ يمينًا أو تأخذ شمالًا المسافة واحدةٌ، وإذا اختلفت المسافة لم يَعُد مُحاذيًا، هذا هو التفسير الصحيح للمُحاذاة.

فسبب الإشكال والخطأ في جعل جدة من المواقيت هو: الخطأ في تعريف المُحاذاة؛ ولذلك إذا عرفنا المُحاذاة التعريف الصحيح الذي ذكره الفقهاء يتَّضح تمامًا أن جدة داخل المواقيت؛ فلا يجوز تأخير الإحرام حتى يصل المُحْرِم إلى جدة، وإنما يجب عليه أن يُحْرِم إذا حاذى أحد المواقيت.

طيب، قبل هذا: مَن أراد أن يعتمر أو يحجَّ بالسيارة، هل يلزم أن يذهب لمسجد الميقات ويُصلي فيه؟

نقول: لا، ما يلزم، يمكن أن يأخذ -مثلًا- شقةً أو فندقًا في الطائف، ويغتسل هناك، ويلبس ملابسه، ويأتي عند الميقات ويُحرم منه.

وهذه المساجد التي وُضعتْ في المواقيت وُضعتْ مُؤخرًا، ولم تكن فيما قَبْل مساجد، فهو موضعٌ يُحرم الناس منه؛ ولذلك -خاصةً في أيام الحجِّ- يكون هناك زحامٌ شديدٌ، فيمكن للإنسان أن يُحْرِم في شقةٍ، يأخذ شقةً -مثلًا- أو فندقًا ويغتسل هناك ويُحرم، ويأتي فقط عند الميقات ويقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجة.

هذه النقطة يغفل عنها بعض الناس؛ فتجد أنه يذهب إلى هناك ويُزاحم، وربما يأخذ منه ساعات حتى يصل إليه الدور، مع أنه بإمكانه أن يسلك هذه الطريقة.

قال:

ولا ينعقد الإحرام مع وجود الجنون أو الإغماء أو السُّكْر.

وذلك لعدم وجود النية منهم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1534.
^2 رواه البخاري: 305، ومسلم: 1211.
^3 رواه البخاري: 1524، ومسلم: 1181.
^4 رواه أبو داود: 1739، والنسائي: 2653.
zh