لأن قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] هذه نزلتْ في السنة التاسعة.
ما دام أن الحجَّ فُرِضَ في السنة التاسعة -على القول الراجح- لماذا لم يحج النبي في السنة التاسعة وأخَّر الحجَّ للسنة العاشرة؟
قيل في ذلك: إنه عليه الصلاة والسلام كان مُنشغلًا باستقبال الوفود؛ لأنه لما فُتحتْ مكة أصبحتْ قبائل العرب تَفِدُ على المدينة وتُعلن إسلامها، فأصبحتْ للنبي عليه الصلاة والسلام قوةٌ ودولةٌ، فكان مُنشغلًا باستقبال الوفود.
أيضًا ما زالتْ بقايا المشركين موجودةً في الحجِّ، وكانت لهم بعض المُعتقدات الجاهلية، فكانوا يطوفون بالبيت عُراةً إلا إذا كانوا من الحُمْس من قريش، أو يُعطيهم أحد الحُمْس ثوبًا.
يعني: انظر كيف كانت قريشٌ في الجاهلية يتحكمون في الناس؟
يقولون: أي أحدٍ ليس منا لا بد أن يطوف بالبيت عاريًا، رجلًا كان أو امرأةً!
وكانت المرأة عندما تطوف تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله | وما بدا منه فلا أُحِلُّه |
وهذه هي الفاحشة المذكورة في قول الله : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28]، الفاحشة هي: الطواف بالبيت عُراةً.
فكان عندهم هذا المُعتقد، ويقولون -يعني: حُجَّتهم-: كيف تطوف ببيت الله في ثوبٍ عصيتَ فيه الله؟!
فالإسلام أبطل هذا المُعتقد.
أيضًا كانت لهم بعض الأمور التي كانوا يفعلونها في الجاهلية؛ فكانت قريشٌ تقف بمُزدلفة، وبقية الناس يقفون بعرفات، وقريشٌ يقولون: نحن أهل الحرم، لا نخرج منه؛ لأن مُزدلفة من الحرم، فكيف نخرج إلى عرفة وهي من الحِلِّ؟
فأنزل الله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] من عرفة، وليس من حيث أفاضتْ قريشٌ.
فأرسل النبي في تلك السنة أبا بكر الصديق أميرًا على الحجِّ، وأمر أن يُنَادَى في الناس: ألا يحجَّ بعد هذا العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عُريان [1].
ثم في السنة العاشرة حجَّ النبي حجَّته العظيمة: حجَّة الوداع، وجميع مَن حجَّ معه من المسلمين، وأبطل بعض الاعتقادات التي كان أهل الجاهلية يعتقدونها أو يعملونها.
قال:
إذا عجز عن الحجِّ كما مثَّل المؤلف: إما بسبب كِبَرٍ أو مرضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه، يعني: عجز عن الحجِّ ببدنه، وكان قادرًا على الحجِّ بماله؛ فيلزمه أن يُقيم مَن يحجّ عنه، ويلزم أن يكون هذا النائب حرًّا، فلا يكون رقيقًا، ولو امرأة، يعني: يصح أن تحجَّ المرأة عن الرجل، والرجل عن المرأة، يحج ويعتمر عنه.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: جاءت امرأةٌ من خَثْعَم عام حجة الوداع، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، أَفَأَحُجُّ عنه؟ قال: نعم [2]، وفي لفظٍ: إن أبي شيخٌ كبيرٌ عليه فريضة الله في الحجِّ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظَهْر بعيره. قال: فَحُجِّي عنه [3].
ووجه الدلالة: أن هذه المرأة قالت: “إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركتْ أبي” يعني: وجب عليه الحجُّ، فأقرها النبي عليه الصلاة والسلام على هذا، ولم يقل: إن أباكِ لا يجب عليه الحج. إنما قال: فَحُجِّي عنه، وهذا دليلٌ على أن مَن كان قادرًا على الحجِّ بماله دون بدنه فيجب عليه أن يُنِيبَ مَن يحج عنه.
قال:
يعني: يكون النائب يحج من بلد المُسْتَنِيب، فإذا كان المُسْتَنِيب من الكويت يكون النائب من الكويت، ولا يصح أن يكون النائب من مكة، قالوا: لأن المُنِيبَ لو أراد أن يحجَّ لنفسه لحجَّ من مكانه، فكذا نائبه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يلزم النائب أن يحجَّ من مكان المُسْتَنِيب، وإنما له أن يحجَّ من أي مكانٍ.
فعلى ذلك لو كان المُسْتَنِيب من الكويت يصح أن يُنِيب مَن يحج عنه من مكة.
قالوا: لأن السَّعي إلى مكة ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مقصودٌ لغيره؛ ولهذا لو أن هذا المُنِيب كان قد ذهب لمكة لغرضٍ، ثم بدا له أن يحجَّ، فإنه يحج من مكة، ولا يلزمه أن يرجع إلى بلده الذي هو مُقيمٌ فيه فيحج منه.
وهذا هو القول الراجح: أنه لا يلزم أن يكون النائب يحج من بلد المُسْتَنِيب، وإنما يحج من أي مكانٍ.
وعلى ذلك إذا كان المُسْتَنِيب من الكويت لا بأس أن يكون النائب من أي بلدٍ: من الكويت، أو من مكة، أو من أي بلدٍ، هذا هو القول الراجح في المسألة.
قال:
فلو كان مريضًا مرضًا لا يُرْجَى بُرْؤُه، وأناب مَن يحج عنه، ثم إنه في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة شفاه الله بأي سببٍ: إما بدعوةٍ مُستجابةٍ، أو -مثلًا- استخدم علاجًا فَشُفِيَ؛ فهنا يلزمه أن يحجَّ هو بنفسه، ولا يُجزئ حجّ النائب عنه.
هذا إنسانٌ قادرٌ على الحجِّ بماله دون بدنه، لكنه لم يُنِبْ مَن يحج عنه، فهنا يلزم الورثة أن يُحْجِجُوا عنه من تركته؛ وذلك لأن الحجَّ يُعتبر دَيْنًا، لكنه دَينٌ لله، والله تعالى لما ذكر قسمة المواريث قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، والدَّين يشمل ديون الآدميين، ويشمل دَين الله ، ويدخل في ذلك الحج؛ ولذلك مَن لم يحجّ حجَّ الفريضة ومات، نقول لورثته: يلزمكم أن تُحْجِجُوا عنه من تركته.
قال:
وقد رُوِيَ في ذلك حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبْرُمَة. قال: مَن شُبْرُمَة؟ قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي. قال: حَجَجْتَ عن نفسك؟ قال: لا. قال: حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبْرُمَة [4]، وهذا الحديث الصحيح أنه موقوفٌ، ولا يصح مرفوعًا، لكن العمل عليه عند أهل العلم، فمَن لم يحجّ عن نفسه ليس له أن يحجَّ عن غيره.
وهنا مسألةٌ أُنبه عليها، وهي مقولة بعض الناس: إن أجر وثواب الحجِّ يكون للنائب، ويكون للمُنِيب.
وهذا لا دليل عليه، وظاهر الأدلة أن مَن وهب الثواب لغيره فإنه يكون أجر الحج لمَن وُهِبَ له، أما القول بأنه يكون للاثنين، فهذا يحتاج إلى دليلٍ.
فلو أنك وهبتَ الحجَّ لقريبٍ لك ميتٍ، قلتَ: يا ربّ، أنا سأحج عن فلانٍ. فأجر الحج يذهب لفلانٍ، أما أنت فما لك شيءٌ إلا أن تُؤجر على نيتك، تُؤجر على صلاتك، وعلى دعائك.
قال:
يعني: بعضهم يعتبره شرطًا سادسًا، وبعضهم يُدخله في شرط الاستطاعة، ولا مُشاحة في الاصطلاح.
لو قال المؤلف: “أن تجد مَحْرَمًا” لشمل الزوج؛ لأن مَحْرَم المرأة تعريفه هو: زوجها ومَن تَحْرُم عليه على التَّأبيد بنسبٍ أو سببٍ مُباحٍ.
وعلى ذلك فمحارم المرأة من الرضاع يجوز أن تحجَّ معهم: أخوها من الرضاع، أبوها من الرضاع، يجوز أن تحجَّ معهما.
وهذا المَحْرَم قال:
يعني: عاقلًا، وهذا ظاهرٌ.
واشتراط البلوغ في المَحْرَم محل خلافٍ بين الفقهاء، فالجمهور على اشتراطه، والمالكية على عدم اشتراطه، وإنما يُشترط حصول الكفاية به، وهذا هو الأقرب، يعني: لو كان -مثلًا- عمره أربع عشرة سنةً تحصل به الكفاية؛ يصح أن يكون مَحْرَمًا.
قال:
وفي وقتنا الحاضر نقول: تستطيع تكلفة الحجِّ مع شركة حجٍّ وحملة حجٍّ لها وله.
يعني مثلًا: إذا كانت تكلفة الحج 1500 دينار، يعني: تستطيع هي 3000 دينار، 1500 عن نفسها، و1500 عن مَحْرَمها.
فإن لم تجد المرأة المَحْرَم فلا يجب عليها الحج، لكن لو وجدت المرأة رُفْقَةً مأمونةً مع حملة حجٍّ أو شركة حجٍّ هل يجب عليها أن تحجَّ؟
هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:
فمنهم مَن قال: إنه لا يجب عليها الحج. وهو مذهب الحنفية والحنابلة.
ومنهم مَن قال: إنه يجب عليها الحج.
ومَن قال: “إنه لا يجب” استدلَّ بقول النبي للرجل الذي قال: إني اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجَّةً. قال عليه الصلاة والسلام: اذهب فَحُجَّ مع امرأتك [5]، فأمره أن يترك الجهاد الذي أصبح في حقِّه فرض عينٍ، وأن يحجَّ مع امرأته، فدلَّ ذلك على أن المرأة لا يجب الحج عليها إلا عند وجود المَحْرَم.
وأما مَن قالوا: إنه لا يُشترط وجود المَحْرَم لوجوب الحجِّ، وإنما تُشترط الرُّفْقَة المأمونة، فاستدلوا بما جاء في “صحيح البخاري” وغيره: أن أزواج النبي حَجَجْنَ في زمن عمر بن الخطاب وليس معهن مَحْرَمٌ [6]، وأيضًا بحديث عدي بن حاتم : إن طالتْ بك حياةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعينة ترتحل من الحِيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله يعني: وبدون مَحْرَمٍ [7].
والقول الراجح هو القول الأول، وهو: أن المرأة إذا لم تجد مَحْرَمًا لم يجب عليها الحج حتى لو وجدت الرُّفْقَة المأمونة، أما حجّ أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ..