logo
الرئيسية/دروس علمية/دروس العشر الأواخر من رمضان/(6) باب نواقض الوضوء- من قوله: “الرابع: مسه بيده لا ظفره..”

(6) باب نواقض الوضوء- من قوله: “الرابع: مسه بيده لا ظفره..”

مشاهدة من الموقع

تتمة نواقض الوضوء

ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل”، وكنا في نواقض الوضوء، انتهينا من الثلاثة النواقض الأولى، ووقفنا عند الناقض الرابع.

الرابع: مس فرج الآدمي

الرابع: مَسُّه بيده -لا ظُفْرِه- فَرْجَ الآدمي، المُتَّصِلَ بلا حائلٍ.

يعني: مَسَّ الذَّكَر. وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، وسبب الخلاف هو الخلاف في الأحاديث المروية عن النبي ، وأشهر ما رُوي في ذلك حديثان:

الحديث الأول: حديث بُسرة بنت صفوان أنها سمعت النبي يقول: مَن مسَّ ذكره فليتوضأ [1]. وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن، وأخرجه الإمام أحمد، وصححه الإمام أحمد وابن معين والبخاري والترمذي والبيهقي، وقال البخاري: “إنه أصح شيءٍ في هذا الباب”.

والحديث الثاني: حديث طَلْق بن علي: سُئل رسول الله عن الرجل يمس ذَكَره وهو في الصلاة، قال: وهل هو إلا بَضْعةٌ منك؟[2]. قال عنه ابن المديني: إنه أحسن من حديث بُسرة.

لاحِظ أن قول ابن المديني يقابل قولَ البخاري، والبخاري يقول: إن حديث بُسرة أصحُّ، وهنا ابن المديني يقول: إن حديث طلق أحسن.

والواقع أن حديث بسرة أصح من حديث طلق؛ ولذلك فحديث بسرة لم يُختلف في تصحيحه، وأما حديث طلق فقد اختُلف في تصحيحه، فمِن العلماء مَن ضعفه، لكن كما قال ابن عبدالهادي: الذي يظهر أن حديث طلقٍ حسنٌ أو صحيح، وأن من ضعفه لم يأتِ بحجة. ثم حتى لو قيل بضعف إسناده، فله طُرق وشواهد متعددة، فهو بمجموعها ثابت.

فعلى هذا؛ يكون الحديثان ثابتين، وإن كان أحدُهما أصحَّ من الآخر، حديث بسرة أصح من حديث طلق.

وعلى ذلك؛ اختلف العلماء، بسبب هذا الاختلاف في الأحاديث، اختلف الفقهاء في هذه المسألة على عدة أقوال:

  • القول الأول: أن مس الذكر ينقض الوضوء مطلقًا، وإليه ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث بسرة: من مس ذكره فليتوضأ وما جاء في معناه.
  • يُقابله القول الثاني: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء مطلقًا، ولكن يُستحب الوضوء، وهذا هو مذهب الحنفية، واختاره ابن تيمية رحمه الله، واستدلوا بحديث طلق وهل هو إلا بَضعةٌ منك؟؛ قالوا: وعلى تقدير ثبوت الحديثين يكون حديث طلق صارفًا للأمر في حديث بسرة من الوجوب إلى الاستحباب.
  • القول الثالث: التفصيل: إن كان مسه لشهوة فإنه ينقض الوضوء، وإن كان لغير شهوة لا ينقض الوضوء، وهذا رواية عن الإمام أحمد.

وهذا القول الأخير هو القول الراجح، والله أعلم؛ لأنه هو الذي تجتمع فيه الأحاديث، فيُحمل حديث: مَن مسَّ ذكره فليتوضأ على المس بشهوة، ويُحمل حديث طلق بن علي وهل هو إلا بضعةٌ منك؟ على المس بغير شهوة.

ومما يدل لهذا أن العلة من كون مس الذكر ينقض الوضوء أن ذلك مظنة لخروج المذي، ومعلوم أن المذي يخرج من الإنسان وهو لا يشعر، وهذا إنما يكون مع الشهوة.

ومما يدل لهذا أيضًا أن حديث طلق بن علي جاء فيه أن النبي سُئل عن الرجل يمس ذكره وهو في الصلاة، ومعلوم أن الذي يمس ذكره في الصلاة يمسه بغير شهوة، طبعًا هذا كان في زمنهم؛ لمَّا كان ما عندهم ملابس، وكان الفقر شائعًا وكثيرًا، وكان كثير من الصحابة ليس له إلا ثوب واحد، فثوبه الواحد هذا يغطي به العورة، وأحيانًا مع تحريك هذا الإزار تقع اليد على الذكر.

هذا هو سبب السؤال، فلا تَقِس على الوضع في وقتنا الحاضر، في وقت النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال جابر: “أينا كان له ثوبان؟” [3]. فكان له ثوب واحد فقط يغطي به عورته، فأحيانًا مع تحريك الإزار تقع يده على الذَّكَر؛ ولذلك سُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن مس الذكر وهو في الصلاة.

فهذا هو القول الراجح، القول الثالث: وهو أنه إن كان بشهوةٍ نقض الوضوء وإلا فلا.

وعلى هذا؛ من كان مثلًا يلبس سراويله فوقعت يده من غير قصد على الذَّكَر، فعلى القول الراجح لا ينتقض وضوؤه، وأيضًا المرأة إذا كانت تغسل طفلها، فعلى القول الراجح أنه أيضًا لا ينتقض وضوؤها؛ لأن هذا كله مسٌّ بغير شهوة.

وقول المؤلف: (مسُّه بيده) لا بد من أن يكون باليدِ، واليدُ عند الإطلاق يُقصد بها الكف، كما قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] يعني: أكفهما، بالإجماع.

قال: (لا ظُفْره) يعني: لو مسَّ بالظفر فإنه لا ينتقض الوضوء؛ لأن هذا خاصٌّ بالكف.

وقول المؤلف: (فرج الآدمي) يشمل الرجل والمرأة، يشمل ذكر الرجل وفرج المرأة؛ ولهذا جاء في إحدى الروايات لحديث بُسرة: من مس فرجه فليتوضأ[4]، والإمام أحمد قال: “ما سمعت فيه شيئًا، لكن هي شقيقة الرجل، ويعجبني أن تتوضأ إذا مسته لشهوة”.

وقول المصنف: (المتصل) يعني: لا بد من أن يكون مس الفرج متصلًا، فلو مسه من وراء حائل لم ينتقض وضوؤه عند عامة أهل العلم.

وعلى ذلك فمن مس مثلًا الذَّكَر مِن خلف السراويل، أو من خلف أيضًا سراويل وعليه مثلًا ثوب، فلا ينتقض وضوؤه، هذا باتفاق العلماء، والكلام إذا مسه من غير حائل.

وقد رُوي في ذلك حديث أبي هريرة: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، وليس بينهما سترٌ ولا حجابٌ؛ فليتوضأ[5].

أو حَلْقةَ دُبُرِه.

يعني: إذا مسَّ حلقة الدبر انتقض وضوؤه قياسًا على مس الذكر.

والمسألة هذه فيها خلاف، وبناءً على ترجيح القول بأن مس الذكر لا ينقض الوضوء إلا إذا كان لشهوة، فمس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء لعدم الشهوة في ذلك.

لا مَسُّ الخِصيتين.

يعني: لا ينقض الوضوء بمس الخصيتين، وإنما يختص ذلك بمس الذكر؛ لأن الروايات إنما خَصت ذلك بالذَّكَر؛ ولأن العلة التي لأجلها قيل: إن مس الذكر ينقض الوضوء؛ لأن ذلك مظنة لخروج شيء من الرجل أو من المرأة، لكن مس الخصيتين لا يَرِد عليه هذا المعنى.

ولهذا قال صالح ابن الإمام أحمد: “سألتُ أبي: مَن مس أنثييه هل عليه وضوء؟ قال: لا، من القضيب وحده”.

وأما ما جاء في بعض الروايات: مَن مس ذكره أو أنثييه[6]، فهذا ضعيف لا يثبت عن النبي .

وعلى ذلك؛ فمسُّ الخصيتين لا ينقض الوضوء.

ولا مس محل الفرج البائن.

يعني: لو قُدِّر أن رجلًا قُطِع ذَكَره، فأتى إنسان ومس هذا الذكر وهو مقطوع، فلا ينتقض وضوؤه؛ لكونه بائنًا. والفقهاء يفترضون مسائل نادرة الوقوع، هذا ما يتعلق بهذا الناقض.

الخامس: لمس بشرة الذكر الأنثى أو العكس؛ لشهوة

الناقض الخامس: لمس بشرة الذكر الأنثى، أو الأنثى الذكر؛ لشهوة.

يعني: مس الرجل للمرأة أو المرأةِ الرجلَ، وقول المؤلف: (لشهوة)، هذا هو المذهب عند الحنابلة: أن مس المرأة لشهوة ينقض الوضوء، وهكذا مس المرأةِ الذَّكَرَ لشهوةٍ ينقض الوضوء.

وسبب الخلاف في هذه المسألة هو الخلاف في المراد باللمس في قول الله : أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وجاء في قراءةٍ سبعية: ﴿أو لمستم النساء﴾.

فمِن العلماء مَن فسَّر اللمس باللمس باليد، أخذه على ظاهره، قال: مجرد ما يلمس المرأة انتقض الوضوء.

ومنهم من فسره بالجماع، وقال: إن هذا هو مراد الشارع.

فالمَسُّ قد يُطلق على الجماع؛ ومن ذلك قول الله تعالى: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] المقصود بذلك: الجماع. والمس بمعنى اللمس أيضًا يرد في اللغة العربية؛ ومن ذلك قول الله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7].

ولذلك؛ اختلف العلماء في هذا على أقوال:

  • القول الأول: أن لمس المرأة ليس بناقضٍ للوضوء مطلقًا، سواءٌ كان لشهوة أو لغير شهوة. وهذا هو مذهب الحنفية، وهو قول عند الحنابلة؛ واستدلوا بحديث عائشة: أن رسول الله قَبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. ولكن هذا في سنده مقال[7].
  • القول الثاني: أن مس المرأة ناقض للوضوء مطلقًا. وهذا هو المشهور عند الشافعية؛ واستدلوا بالآية السابقة: أَوْ لامَسْتُمُ وفي قراءة: ﴿أو لمستم﴾، وأخذوها على ظاهرها.
  • القول الثالث: أن مس المرأة إن كان بشهوة فإنه ينقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة فإنه لا ينقض، وإليه ذهب الجمهور من المالكية والحنابلة، واستدلوا لكون مس لشهوة ينقض الوضوء بالآية: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، وحملوا ذلك على أن المقصودَ المسُّ بشهوة، أما إذا كان لغير شهوة فقالوا: لا ينقض الوضوء بدلالة السنة، فقد ورد في ذلك أحاديث، ومن ذلك حديث عائشة: كنت أنام بين يدي رسول الله ، ورِجلي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما[8] وفي لفظ: «وقعت يدي على رجليه» [9] فهذا مسٌّ لغير شهوة، فلم ينقض الوضوء، ولو كان ينقض الوضوء لقطع النبي صلاته وأعاد الوضوء.

وعند الموازنة والترجيح لا نجد دليلًا يدل على أن مس المرأة ينقض الوضوء، لا بشهوة ولا بغير شهوة، لا من القرآن ولا من السنة، فقوله: أَوْ لامَسْتُمُ المقصود به الجماع، كما قال ابن عباس: “إن ربكم حيي كريم يُكنِّي”، فالمقصود به الجماع، ولم يرد في السنة ما يدل على أن مس المرأة ينقض الوضوء، لا بشهوة ولا بغير شهوة.

ولهذا؛ فالقول الراجح: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا، سواءٌ أكان بشهوة أم بغير شهوة. فالراجح هو القول الأول، ولقد اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم، كابن تيمية وابن القيم، وأيضًا من مشايخنا الشيخ ابن باز، وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.

والأصل عدم النقض إلا بدليلٍ صحيحٍ صريح، ولم يرد في هذا دليلٌ صحيحٌ صريح يدل على النقض؛ ولهذا فالإمام ابن تيمية رحمه الله له مقولة نُقلت في “السلسبيل” (ص290)، قال: “إيجاب الوضوء مِن مس النساء بغير شهوة قولٌ شاذٌّ ليس له أصلٌ في الكتاب ولا في السنة، ولا في أثرٍ عن أحدٍ من سلف الأمة، ولا هو موافقٌ لأصول الشريعة”.

يعني: أن هذا القول قولٌ ضعيف، ثم أيضًا فيه حرج عظيم، يعني: مثل الإنسان وهو يطوف فقد يمس امرأة، فالقول بأن الوضوء ينتقض فيه حرجٌ عظيم، والقول الراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا، لا لشهوة ولا لغير شهوة.

وقد فرَّع المؤلف على هذه المسألة، قال:

من غير حائل.

يعني: لو كان اللمس بحائل لا ينقض الوضوء. ونحن رجحنا عدم النقض مطلقًا، قال:

ولو كان الملموس ميتًا، أو عجوزًا، أو مَحْرمًا.

لا يختلف الحكم.

لا لَمْسُ مَن دون سبعٍ، ولا لمس سنٍّ وظفرٍ وشعرٍ، ولا اللمس بذلك.

هذه كلها تفريعات، بناءً على ما أقره المؤلف من أن المس بشهوة ينقض الوضوء، ونحن قلنا: إن المس لا ينقض الوضوء مطلقًا؛ ولذلك لسنا في حاجة إلى هذه التفريعات.

ولا ينتقض وضوءُ الممسوسِ فَرْجُه، والملموسِ بدنُه، ولو وَجَد شهوة.

ونحن، على القول الراجح: لا ينتقض وضوءُ الماسِّ ولا الممسوس.

السادس: غسل الميت أو بعضه

السادس من نواقض الوضوء: غسل الميت أو بعضه.

وفسر المؤلفُ المقصودَ بالغاسل: الذي يقوم بالغسل، قال:

والغاسل: هو من يقلب الميت ويُباشره، لا من يصب الماء.

عند تغسيل الميت تجد أنه في الغالب يكون اثنان على الأقل، واحد هو الذي يُباشر التغسيل ويُقلب الميت ويُباشره، والثاني يصب عليه الماء، فالمقصود بالغاسل هو الذي يُباشره ويقلبه وليس الذي يصب الماء.

والقول بأن تغسيل الميت ينقض الوضوء هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، وذهب الجمهور إلى أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء.

واستدل الحنابلة بحديث أبي هريرة: من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ. وهذا الحديث أخرجه أحمد أبو داود والترمذي، لكنه حديثٌ ضعيف[10].

ومثله أيضًا حديث عائشة: “أن النبي كان يغتسل من أربع”، وذكرت منها: “غسل الميت”[11]، هو أيضًا حديثٌ ضعيف.

ومثل ذلك أيضًا: حديث عليٍّ فيه ضعف[12]، وعلى تقدير ثبوته فعليٌّ لم يُغسِّل أبا طالب وإنما واراه، وهو غير محل الخلاف.

فكلُّ ما اعتمَد عليه أحاديثُ ضعيفة، لكن كان من منهج الإمام أحمد أنه يعتمد على الأحاديث الضعيفة ويُقدِّمها على الرأي؛ فلذلك كان هذا القول من المفردات عند الحنابلة، أما الجمهور فقالوا: إن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء، وقالوا: الأصل عدم النقض، ولم يرد في هذا حديثٌ صحيح صريحٌ عن النبي ، بل إن الإمام أحمد نفسه قال: “ليس يثبت فيه حديث”، وقال ابن المنذر: “أجمع العلماء”؛ يعني: نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك.

وجاء في حديث أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله حين توفيت ابنته، وقال: اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك[13]، ولم يأمرهن بغُسْلِ ولا وضوء، ولو كان واجبًا لأمرهن بذلك؛ لأنه أرشدهن عدة إرشادات.

والقول الراجح هو قول الجمهور، بل إن القول الأول قولٌ ضعيف، والقول الراجح -لا شك في رجحانه- هو قول الجمهور، وهو أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء؛ إذ إن النقض يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدل على النقض، بل إن القول الأول كما ذكرت قولٌ ضعيف.

السابع: أكل لحم الإبل

أكل لحم الإبل.

وهو أيضًا من المفردات عند الحنابلة، لكن هنا قولهم قوي، وفي المسألة السابقة قلنا: قولهم ضعيف، وهو من المفردات، وهنا قلنا: قولُهم قوي.

وهذا يدل على أن المفردات تارةً يكون الراجح فيها، وتارةً لا يكون، وأما قول من قال: إن المفردات عند الحنابلة الغالب أنها يكون القول معها راجحًا، هذا على حسَب التتبع ليس مُسَلَّمًا، قد يكون راجحًا وقد لا يكون، في المسألة السابقة قلنا: القول ضعيف، مع أنه من المفردات، وفي هذه المسألة -يعني- القول قوي، وهو أيضًا من المفردات.

فالقول الأول: أن أكل لحم الإبل ناقضٌ للوضوء، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، وهو قول الشافعي في القديم، وهو قول عامة أصحاب الحديث.

والقول الثاني: أنه لا ينقض الوضوء، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية.

واستدل القائلون بالنقض بحديثين صحيحين: حديث جابر بن سَمُرة: أن رجلًا سأل النبي : «أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت. قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. وهذا الحديث في “صحيح مسلم”[14]، وهو صريحٌ في أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء.

وأيضًا بحديث البراء بن عازب: أن النبي سُئل عن الوضوء من لحوم الإبل؟ قال: توضؤوا منه، وسُئل عن لحوم الغنم؟ قال: لا تتوضؤوا منه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وسنده صحيح[15]؛ ولهذا قال الإمام أحمد: فيه صحيحان عن النبي .

أما الجمهور القائلون بأن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، فاستدلوا بحديث جابرٍ: “كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار”. أخرجه أبو داود والنسائي، وسنده صحيح[16].

قالوا: هذا يشمل جميع ما مسته النار، ومن ذلك لحوم الإبل، وعلى هذا يكون حديث جابر ناسخًا للأحاديث السابقة التي تدل على أن أكل لحم الإبل ناقضٌ للوضوء.

والقول الراجح هو القول الأول، وهو أن أكل لحم الإبل ناقضٌ للوضوء، وأما ما استدل به الجمهور من حديث جابر، فنقول: إن دعوى النسخ لا تستقيم؛ لأن حديث جابر في ترك الوضوء حديثٌ عام، وحديث البراء في الوضوء من لحوم الإبل خاص، فالجمع بينهما ممكن، ولا يُصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع.

وعلى ذلك نقول: إن القول الراجح هو أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء.

ثم فرَّع المؤلف مسائل على هذا القول، قال:

ولو نِيئًا.

يعني: لحم الإبل ينقض الوضوء، سواءٌ أُكل مطبوخًا أو نِيئًا.

فهل يجوز أكل اللحم وهو نِيء؟ إنسان ذبح ذبيحة وأصبح يأكل منها ولم يطبخها؟

نقول: المرجع في ذلك الأطباءُ؛ إذا قال الأطباء: إنه لا يضر فلا بأس.

ويُقال: إن الناس قديمًا كانوا يأكلونها نيئة، وإن الطبخ أصلًا يُفقد اللحم خواصه، هذا قد قيل، والله أعلم بصحته، لكن المرجع في ذلك أهل الاختصاص الأطباء، فإذا كان أكل اللحم نيئًا لا يضر فلا بأس به.

فلا نقض ببقية أجزائها.

يعني: أن أكل لحم الإبل هو الذي ينقض، أما بقية الأجزاء فلا ينقض.

ككبدٍ، وقلبٍ، وطِحَالٍ، وكَرِشٍ، وشحمٍ، وكُلْيةٍ، ورأسٍ، ولسانٍ، وسَنَامٍ، وكَوَارِعَ، ومُصْرَانٍ.

فلا ينتقض الوضوء بهذه الأجزاء، قالوا: لأن الحديث إنما ورد في اللحم.

والقول الثاني: وهو أيضًا رواية عن الإمام أحمد: أن هذه الأجزاء تأخذ حكم اللحم. وهذا هو القول الراجح؛ لأن اللحم في لغة الشارع يشمل جميع الأجزاء؛ ولهذا قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، لحم الخنزير يشمل جميع أجزائه، يشمل اللحم ويشمل الشحم ويشمل جميع الأجزاء، وهكذا أيضًا نقول هنا.

فالقول الراجح إذن: أنه يشمل جميع أجزائه، كلها تنقض الوضوء.

ومَرَقِ لحمٍ.

يعني: لا يُنقض الوضوء بمرق لحم الإبل، وهذا هو القول الراجح، حتى لو اكتسب المرق طعم لحم الإبل، لا ينقض الوضوء؛ لأن مَن شرب مرق اللحم لا يصدق عليه لا لغةً ولا شرعًا أنه أكل لحم الإبل، ثم إن أكثر الفقهاء كما ذكرنا أصلًا لا يقولون بأن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، إنما قال به الحنابلة.

طيب، إذا أخذنا مذهب الحنابلة، فينبغي أيضًا ألا نتوسع في هذا القول، فنقتصر على ضوابطهم أيضًا، فنقول: إن أكل اللحم فقط هو الذي ينقض الوضوء، أما مرق الإبل، مرق اللحم لا ينقض الوضوء.

طيب، شرب ألبان الإبل هل ينقض الوضوء؟

فيه خلافٌ في المذهب، والقول الراجح أنه لا ينقض الوضوء، وهذه الرواية المشهورة عند الحنابلة.

الحكمة من كون أكل لحم الإبل ينقض الوضوء

وأما الحكمة من كون أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، قال بعضهم: إن أكل لحم الإبل يهيج الأعصاب، والوضوء يُهدِّئها؛ ولذلك يقولون: الذي عنده أعصابٌ يُنصح بألا يأكل لحم الإبل، وقيل: إنَّ أكل لحمها يُورث قوةً شيطانية؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خُلِقت من الشياطين كما عند أصحاب السنن[17].

وهذه القوى الشيطانية يخففها الوضوء؛ لأن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والله تعالى أعلم بالحكمة في ذلك، ويكفينا معرفة أن هذا هو حكم الشرع، وحكم الله هو حكمة الحكم وهو غاية الحكم؛ لأننا على يقين بأن الله حكيمٌ عليم، وهو أحكم الحاكمين جل وعلا، سواءٌ عرفنا الحكمة أو لم نعرفها.

وهذا هو المنهج الذي ينبغي للمسلم أن يتبعه، أما كون الإنسان لا يقبل حكمًا إلا إذا اقتنع به، فهذا يُخالف مقتضى العبودية، ولا يكون الإنسان عبدًا لله، يكون عبدًا لهواه. الإنسان مطلوبٌ منه أن يأخذ بجميع الأحكام الشرعية بالتسليم، سواءٌ عرف الحكمة أم لم يعرفها، سواءٌ وافقت هواه أم لم توافق هواه، سواءٌ اقتنع بفائدتها أو لم يقتنع، المهم هو أن الدليل قد ثبت بها، الدليل من القرآن أو ما ثبت من السنة.

وهذا هو مقتضى العبودية لله ، تجد بعض الناس خاصة في الوقت الحاضر، بعض العقلانيين، إذا أتى حديث ما وافق عقله أنكره، وهذا.. لا شك في أن هذا مخالف لمقتضى العبودية: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

ولا يحنث بذلك مَن حلف لا يأكل لحمًا.

وعلى القول الراجح أن هذه الأجزاء يشملها مسمى اللحم، لحم الإبل؛ فيحنث.

الثامن: الردة

الناقض الثامن من نواقض الوضوء:

الردة.

لقول الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] والطهارة عملٌ، فينتقض الوضوء بذلك.

والقول الثاني: أن الردة لا تنقض الوضوء؛ لأن الله شرط لحبوط العمل شرطًا؛ فقال سبحانه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217]، هذا هو الشرط: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217].

وهذا هو القول الراجح: أن الردة لا تنقض الوضوء؛ لأن الآية اشترط الله تعالى فيها هذا الشرط، وهو أن الردة إنما تُحبط العمل إذا مات الإنسان عليها.

هذه أبرز نواقض الوضوء، وقد وافقنا المؤلف في أمورٍ، وخالفناه في أمورٍ أخرى.

ثم ذكر المؤلف ضابطًا، فقال:

وكل ما أوجب الغسل أوجب الوضوء.

ما الفرق بين الضابط والقاعدة؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت، الضابط خاص بباب واحد، والقاعدة في عدة أبواب، فهذا ضابط، يعتبر ضابطًا وليس قاعدة، كل ما أوجب الغسل أوجب الوضوء.

فمثلًا؛ خروج المني موجبٌ للغسل، وهو أيضًا موجبٌ للوضوء، وعلى هذا فالجنب لا بد من أن ينوي رفع الحدثين الأصغر والأكبر، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يُشترط ذلك، يكفي أن ينوي رفع الحدث. وهذا هو الأقرب والله أعلم.

واستثنى المؤلف من هذه المسألة الموت، فقال:

غير الموت.

فهو موجبٌ للغسل، لكنه لا يُوجب الوضوء.

هذه أبرز أحكام نواقض الوضوء.

حكم من تيقن الطهارة وشك في الحدث أو العكس

وختم المؤلف أحكام نواقض الوضوء بفصلٍ قال فيه:

من تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة؛ عمل بما تيقن.

وهذا يرجع لقاعدةٍ كبرى معروفة عند أهل العلم، وهي قاعدة: “اليقين لا يزول بالشك”، وأصل هذه القاعدة ما جاء في حديث عبدالله بن زيد: أن رجلًا شكا للنبي الرجل يُخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا[18].

فأخذ العلماء من هذا قاعدةً، وهي: أن اليقين لا يزول بالشك، وإنما يزول بيقينٍ مثله.

فمثلًا؛ من أتى متوضئًا ودخل المسجد، وشك: هل خرج منه الحدث أو لا؟ نقول: لا تلتفت لهذا الشك، وابنِ على اليقين.

طيب، لو حصل عنده غلبة ظن، هل يُلتفت إليه؟

أيضًا لا تلتفت إليه، حتى غلبة الظن لا تلتفت لها؛ ولهذا قال بعض السلف: لا ينصرف إلا إذا تيقن، بحيث لو قيل له: احلف أنه خرج منك شيء؛ لَحَلَفَ.

وهذا في الحقيقة يُريح المسلم، ويُزيل عنه الوساوس، فنقول: لا تلتفت لهذه ما لم تصل إلى درجة اليقين، بحيث لو قيل لك: احلف أنه خرج منك شيء؛ لَحَلَفْتَ، ما عدا ذلك لا تلتفت، هذا يقطع دابر الوسواس.

أما إذا كان الإنسان كلما أحس بشيء وشك بشيء، بدأ يلتفت لهذا ويُفكر ويقلق ويُشغل باله، فهذا قد يتحول للوسواس إن كان عنده استعداد للوسواس، يتحول لوسواس، ثم الوسواس يبدأ شيئًا فشيئًا إلى أن يُصبح وسواسًا قهريًّا.

ولذلك؛ فمن ثمرة الفقه في الدين أن يتبصر المسلم في هذه المسائل، يتبصر فيها، هذه تقطع عنه دابر الوسواس، نقول: ما دمت توضأت فلا تلتفت للشك، ولا حتى لغلبة الظن.

وقال بعض السلف، وهو مروي عن ابن عباس: إذا كنت تخشى من الوساوس، فخذ كفًّا من الماء ورش به السراويل، بحيث لو أتاك وساوس أنه خرج منك شيء، تقول: لا، هذا من الماء، وليس بولًا.

طيب، لو كانت المسألة بالعكس؛ أتى المسجد وشك: هل توضأ أو لم يتوضأ؟ نقول: الأصل عدم الوضوء، والوضوء مشكوكٌ فيه، فيلزمك أن تتوضأ.

فهذه قاعدةٌ عظيمة تدخل في كثير من أبواب الفقه: (اليقين لا يزول بالشك)، فإن شك في ترك ركنٍ فالأصل عدم الإتيان به، وهو اليقين. ولهذا؛ فالفقهاء يقولون: من شك في ترك ركنٍ فهو كتَرْكه.

طيب، شك: هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ اليقين كم؟ ثلاث، لكن القول الراجح أنه يبني على غلبة الظن، أما إذا لم يكن عنده غلبة ظن فيبني على اليقين، وهو الأقل.

ما يحرم على المُحدِث

ثم انتقل المؤلف لبيان ما يحرم على المُحدث، فقال:

ويحرم على المُحدث الصلاة.

سواءٌ كان حَدَثًا أصغر أو أكبر، يعني كونه يصلي على غير طهارة، بل إن بعض الفقهاء الحنفية شدَّدوا في هذه المسألة، وانتبهوا لهذه المسألة.

وبلغني أن بعض طلاب المدارس يصلون على غير وضوء، وهذه مسألة خطيرة، بعض فقهاء الحنفية يقولون: إن من صلى على غير وضوء متعمدًا كفر؛ لأن هذا استهزاء بالله .

وإن كان القول الراجح هو قول الجمهور، وهو أنه لا يكفر، لكن هذا يُبين لنا خطورة المسألة.

والطواف.

هل الطهارة شرط لصحة الطواف؟

يعني: يَحرُم على المُحدِث الطوافُ، وقد اختلف العلماء: هل الطهارة شرط لصحة الطواف أو ليست شرطًا؟ على قولين:

  • القول الأول: أن الطهارة شرطٌ لصحة الطواف. وإليه ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث عائشة أن النبي قال: افعلِي ما يفعل الحاجُّ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري[19]. قوله: غير أن لا تطوفي بالبيت قالوا: هذا يدل على أن الطهارة شرطٌ لصحة الطواف.
  • وذهب الحنفية إلى أن الطهارة ليست بشرط، وهو رواية عند الحنابلة، واختار هذا القول ابن تيمية رحمه الله، وقالوا: لأنه لم يرد في هذا حديثٌ صحيحٌ صريح.

وأما أمر عائشة بألا تطوف، فلأجل الحيض، وليس لأجل أن الطهارة شرط. قالوا: وقد حج مع النبي قرابة مائة ألف، ومائة ألف لا بد أن يكون فيهم من هو غير متطهر، مائة ألف فيهم العامي، وفيهم الفلاح، وفيهم الأعرابي، فلا بد من أن يكون فيهم من هو غير متطهر، فلو كانت الطهارة شرطًا لبيَّن هذا النبي كما بيَّن سائر الأحكام، كما قال: لا يلبس المُحرِمُ القُمُصَ ولا البرانس إلى آخره[20].

وهذا القول قولٌ قوي، القول بأن الطهارة ليست شرطًا لصحة الطواف قولٌ قوي، وقول الجمهور أحوط.

وسيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل لهذه المسألة في (كتاب: الحج).

والذي أُفتي به: أن الإنسان إذا سأل وهو في مكة، وقال: طفت على غير طهارة، قل: أَعِدِ الطواف، أما إذا كان عليه مشقة كأن يكون بعد انقضاء الحج أو بعد عودته لبلده، فنقول: طوافك صحيح.

وإنما نقول: أعد الطواف إذا كان في مكة ولا يشق عليه؛ لأن أكثر أهل العلم يرون أنه شرط؛ ولأن الأثر المترتب كبير، صحة الطواف وعدم صحته، الطواف ركن في الحج، وركن في العمرة، لكن إذا كان على الإنسان حرج ومشقة، فما عندنا دليل واضح يدل على أن الطهارة شرطٌ لصحة الطواف.

والعلماء يُفرقون في الفتوى بين الشيء قبل حدوثه وبعد حدوثه، وبين ما إذا كان يترتب على إعادته حَرَجٌ وبين ما إذا كان لا يترتب على إعادتِه حَرَجٌ، وهذا من فقه الفتوى.

الثالث، قال:

ومس المصحف ببشرته بلا حائل.

حكم مس المصحف للمحدث

يعني: أنه لا يجوز للمُحْدِث حَدَثًا أصغر أو أكبر، أن يمس المصحف بلا حائل، وإلى هذا ذهبت المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية، وخلاف الظاهرية فيه كلامٌ كثير، هل يُعتد به أو لا يُعتد؟

بعض العلماء يقول: أصلًا الظاهرية لا يُعتد بخلافهم، وبعضهم يقول: يعتد؛ ولذلك حُكي الإجماع على أن المُحدِث يجب عليه الوضوء إذا أراد مس المصحف.

واستدل الجماهير بكتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي لأهل اليمن، وفيه: أن لا يمس القرآن إلا طاهر. هذا الحديث ضعيفٌ من جهة الصناعة الحديثية، لكن تلقته الأمة بالقبول[21].

وهذا يدل على أنه ليس كل حديث لا بد من أن يكون ثابتًا بالسند الصحيح، يعني بعض الأحاديث من جهة الإسناد ضعيفة، لكن عملت بها الأمة، أو تلقتها الأمة بالقبول.

فانتبِه لهذه المسألة الدقيقة؛ لأن بعض الناس يأخذها بالمسطرة: إذا كان السند غير صحيح إذن أَتْرُكُه، هذا ليس بصحيح؛ لا بد من أن ننظر لفهم الأئمة وفهم السلف، كيف فهموا هذه المسائل، كيف عملوا فيها؟

نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، مِن قبلُ -مِن هؤلاء الأئمة والعُبَّاد والصالحين- كيف فهموا هذه المسائل؟ هذه ليست نوازل، هذه مسائل متقدمة، فلا بد من اعتبار فهمهم.

وعامة أهل العلم قالوا باشتراط الطهارة لِمَسِّ المصحف، واستدل بعضهم بقول الله تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، لكن الاستدلال بهذا -يعني- فيه إشكال، من جهة أن المقصود بقوله: إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ يعني: الملائكة.

لكن ابن تيمية ذكر أنه يمكن أن يُستدل بالآية بطريق الإشارة، قال: لأنه إذا كان لا يمس هذه الصحف إلا المطهرون من الملائكة، فأنتم يا بني آدم ينبغي ألا يمسه إلا المتطهرون منكم. فالاستدلال بطريق الإشارة.

فالقول الراجح: أنه تجب الطهارة لِمَسِّ المصحف، وقد حُكي إجماع العلماء على ذلك.

والشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى كان في أول أمره لا يرى وجوب الوضوء لمس المصحف؛ لأنه يرى أن كتاب عمرو بن حزم ضعيف، ثم نُوقش وروجع في ذلك، فرجع عن قوله، وأصبح يقول بأنه تجب الطهارة لمس المصحف.

فهذه من المسائل التي رجع فيها الشيخ محمد رحمه الله، وما رجع إليه هو الصواب.

وقوله: (بلا حائل)؛ يعني: إذا كان مس المصحف من وراء حائل فلا بأس.

يعني مثلًا: لو كُنتَ على غير طهارة، وأردت أن تمسح المصحف بالشِّمَاغ أو الغُتْرة مثلًا، فلا بأس، أو بِعُودٍ أو بأيِّ شيءٍ، المهم أنه مِن وراءِ حائلٍ. طيب، غلاف المصحف؟ هنا نص الفقهاء على أنه يجوز مس المصحف من وراء غلافه.

قال ابن مفلح في “الفروع”: “يجوز حَمْله بعِلَاقَتِه، أو في غلافه، أو في كُمِّه، وتصفُّحُه به وبعود”.

طيب، إذن بالغلاف يجوز، لكن المهم لا تمس الورق، الورق لا تمسه إلا من وراء حائل، لكن الغلاف إذا أردته أن تحمله بغلاف فيجوز، المهم هو الورق ألا تمسه إلا على طهارة، وإذا احتجت مع ذلك، ضع غُتْرتَكَ أو شِمَاغَكَ مثلًا، فالطرق كثيرة إذا احتجت لِمَسِّ المصحف.

الطالب:

الشيخ: لا، إذا كانوا بالغين فيؤمرون بالوضوء، أما إذا كانوا غير بالغين فلا يُشدَّد عليهم؛ لأن الصلاة أصلًا لا تجب عليهم، مرفوعٌ عنهم القلم.

حكم مس المصحف من شاشة الجوال

طيب، هل يجوز مس المصحف من شاشة الهاتف المنقول (الجوال)؟

نقول: الجواب: نعم يجوز؛ لأن ما يظهر من القرآن على الشاشة هو في الحقيقة مجرد ذبذبات إلكترونية، تظهر على شكل صورة المصحف، هو أشبه بمس صورة المصحف في المرآة في الحقيقة.

ثم على تقدير أن هذه الذبذبات تأخذ حكم المصحف، فأي هاتف جوال فيه شاشتان: شاشة داخلية وشاشة خارجية، فيكون مَن مس المصحف يكون مسه مِن وراء حائل، وهو الشاشة الخارجية؛ ولذلك لو انكسرت الشاشة الخارجية، تجد أنك تذهب بها إلى محل الجوالات وتستبدلها وتُصلحها، أليس كذلك؟ ففيه شاشتان: خارجية وداخلية.

لو افترضنا وتنزَّلنا وقلنا: إن هذه الذبذبات تأخذ حكم المصحف، نقول أيضًا: هو مسٌّ مِن وراء حائل، وعلى هذا فلا حرج في مس المصحف عن طريق شاشة الهاتف المنقول.

بل إنني أقول: إن وجود المصاحف في الهواتف المنقولة نعمةٌ عظيمة من الله تعالى علينا في هذا الزمان؛ لأن الهاتف المنقول معك في كل وقت.

وأيضًا نحن قلنا أيضًا: الراجح أنك يجوز أن تمسه وأنت على غير طهارة، ما عليك إلا أن تأخذ هذا الجوال وتفتح المصحف وتقرأ في أي مكان وفي أي وقت، فقامت الحجة.

يعني كان الناس في السابق لا بد من أن يبحث عن مصحف، وربما يصعب عليه وجود المصحف إذا لم يكن حافظًا. الآن مجرد أنك تفتح المصحف من شاشة الهاتف الجوال وتقرأ في الأوقات التي يكون لديك فيها فراغ.

فوجود هذه المصاحف في الجوالات من نِعَم الله علينا.

بعض العامة يعتقد أن القراءة في المصحف من الهاتف الجوال، أنها أقل أجرًا من القراءة في المصحف الورقي. هذا غير صحيح؛ العبرة أصلًا بالقراءة، ليست العبرة بكونك تقرأ في هذا المصحف أو في ذاك المصحف.

وهل المصحف الورقي الموجود عندنا هو الموجود في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا، في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان مكتوبًا على ألواح، وعلى الرِّقاع، وعلى كَرَبِ النَّخْل، ثم تطورت الصنعة فكُتب في عهد عثمان بدون نقاط، ثم تطورت الصنعة -يعني- فترقَّى شيئًا فشيئًا إلى أن وصل بهذه الطريقة. وأيضًا، تطورت الصنعة فأصبح موضوعًا على الهواتف الجوالة.

فالعبرة بالقراءة، فلا فرق في الأجر والثواب بين أن تقرأ المصحف من شاشة الهاتف المنقول، أو أن تقرأه من المصحف الورقي، لكن أحببتُ التنبيه على هذا؛ لأن بعض العامة عندهم هذا المعتقد.

حكم مس المصحف المكتوب بطريقة برايل

طيب، عندنا أيضًا نازلة لم تُذكر في “السلسبيل”؛ لعلها إن شاء الله تُضاف في الطبعات القادمة، لا أدري تكون في الطبعة هذه وتُلحَق عليها أو لا؟ لكن هذه طرأت مؤخرًا، فنُضيفها، وهي “مس المصحف المكتوب بطريقة برايل للمكفوفين”.

فالمصحف المكتوب بطريقة “برايل” يكون بحروف بارزة، يفهمها الكفيف، ويقرأ كما يقرأ المُبصِر تمامًا.

فهل هذه المصاحف المكتوبة بطريقة “برايل” تأخذ حكم المصحف المكتوب بالحروف العربية فتجب الطهارة لها، أو لا تجب؟

الطالب:

الشيخ: طيب، نريد أحد الإخوة المكفوفين أن يحضر معنا، الحقيقة نريد أن نسمع منهم، يمكن هم أقرب لهذه المسألة، الشيخ علي موجود؟ تفضل.

الطالب:

الشيخ: هناك رأيان للعلماء المعاصرين:

  • القول الأول: أنها لا تأخذ حكم المصحف المكتوب بالحروف العربية، فيجوز مسه للمحدث حتى ولو كان مُحدثًا حدثًا أكبر. هذا القول منقول عن الشيخ محمد بن إبراهيم، وعن الشيخ ابن باز، وأيضًا فيه فتوى للجنة الدائمة، وقالوا: لأن طريقة “برايل” ليست حروفًا، وإنما هي مجرد رموز يُتعرف من خلالها على الحروف باللمس، وأيضًا قياسًا على كتب التفسير وترجمة معاني القرآن.
  • القول الثاني: أن المصحف المكتوب بطريقة “برايل” يأخذ حكم المصحف المكتوب بالحروف العربية، سواءً بسواء، فيحرم على المحدثِ مسُّه على غير طهارة، واستدلوا قالوا: بأن الحروف العربية هي من اصطلاح الإنسان وليست توقيفًا، ليست من كلام الله تعالى، وإنما وُضعت ليتوصل بها للنطق بالمكتوب بها، فكذلك الرموز البارزة بطريقة “برايل”، وُضعت اصطلاحًا للمكفوفين ليتوصلوا بها للنطق بكلام الله .

ثم إذا قلنا: المصحف، ما هو المصحف؟ المصحف: هو كلام الله ما بين الدفتين من “الفاتحة” إلى “الناس”، هذا هو المصحف، وهذا المكتوب بطريقة “برايل”، يصدق عليه هذا التعريف، فالمكفوف يقرؤه كما يقرأ المُبصر تمامًا، ولو أن مكفوفًا سُئل وفي يده نسخة من مصحف مكتوب بطريقة “برايل”، يحمله، فقيل له: ما الذي معك؟ سيقول: مصحف، فهو يسميه مصحفًا، والناس يسمونه مصحفًا.

هذا هو القول الراجح، القول الراجح هو القول الثاني: أن المصحف المكتوب بطريقة “برايل” يأخذ حكم المصحف المكتوب بالحروف العربية، وتجب الطهارة عند مسه.

وأما مجرد الحروف، فهذه اصطلاحات، العبرة بالنطق، وأما أصحاب القول الأول، فقالوا: إن القائلين بأن طريقة “برايل” ليست حروفًا، وإنما مجرد رموز، نقول: القرآن هو كلام الله، فالمقروء يُسمى قرآنًا، سواءٌ كُتب باللغة العربية، أو كُتب بهذه الحروف البارزة بطريقة “برايل”، هو يُسمى قرآنًا.

وأما القياس على التفسير، فقياسٌ مع الفارق؛ لأن التفسير لم يتجرد فيه كلام الله. والقياس أيضًا على كتب الترجمة قياسٌ مع الفارق؛ لأن الترجمة لا تتضمن ألفاظ القرآن، وإنما معاني القرآن.

فالصواب: أن المصحف المكتوب بطريقة “برايل”، تجب الطهارة لِمَسِّه، ويأخذ حكم المصحف المكتوب باللغة العربية.

ويُعتذَر عن المشايخ، مثل الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ ابن باز، ومشايخ اللجنة، على جلالة علمهم وقدرهم، يُعتذَر لهم بأن هذه الفتاوى كانت قديمة، أوَّلَ ما ظهر مصحف “برايل”، فربما لم يكن التصور واضحًا في وقتها؛ لأنه كان قليلًا، وما أتى إلى المجتمعات الإسلامية إلا متأخرًا، فربما أن التصور لم يكن واضحًا كما هو واضحٌ الآن.

أظن أن المشايخ -يعني- لو قُدِّر وافترضنا طُرحت عليهم هذه النازلة في الوقت الحاضر، ربما أفتوا بالقول الثاني؛ لأن بعض النوازل أوَّلَ ما تقع لا تكون واضحةً الوضوحَ الذي يكون بعد حصول تلك النازلة بسنواتٍ، أما في وقتنا الحاضر فأصبح مصحف “برايل” نراه أمامنا واضحًا تمامًا، وهذه النازلة التصور فيها واضح تمامًا.

فالقول الراجح: أن المصحف المكتوب بطريقة “برايل”، يأخذ حكم المصحف المكتوب بالحروف العربية تمامًا، وتجب الطهارة لِمَسِّه.

حكم قراءة القرآن للجُنُب

طيب، نعود لعبارة المؤلف، قال:

ويزيد مَن عليه غسلٌ، بقراءة القرآن.

يعني: يَلزم مَن عليه غسلٌ، وهو الجنب والحائض، يحرم عليه ما يحرم على المحدث، ويزيد عليه أيضًا أنه يحرم عليه قراءة القرآن، وليس مس المصحف، ما الفرق بينهما؟

مس المصحف أنك تمس المصحف بيدك، أما قراءة القرآن تقرؤه عن ظهر قلب، فيقول: الجنب والحائض ومن عليه حدثٌ أكبر يحرم عليه قراءة القرآن.

يعني لو مثلًا إنسان جنب، يحرم عليه أن يقرأ آية الكرسي إذا أراد أن ينام، أو حائض؛ بناءً على كلام المؤلف.

أما الجنب فاستدلوا بحديث علي: كان رسول الله يقضي حاجته، ثم يخرج فيقرأ القرآن، ولم يكن يَحْجبه عن القرآن شيءٌ، ليس الجنابة. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه[22].

وهذا الحديث في سنده مقال، الترمذي صححه، والحاكم، وابن الملقن جوَّده، وأما الشافعي فقال: “أهل الحديث لا يُثبتونه”، والإمام أحمد كان يضعفه، ثم على تقدير ثبوته فليس صريحًا في إيجاب الطهارة على الجنب والحائض لقراءة القرآن، لكن النبي لما سلَّم عليه رجل وهو يبول، لم يرد عليه، وقال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة[23].

القول الثاني: أن الجنب يجوز له أن يقرأ القرآن من غير كراهة، وهذا مال إليه البخاري في “صحيحه”، وقال إبراهيم -يعني النخعي-: لا بأس أن تقرأ الآية، ولم يرَ ابن عباس بقراءة الجنب بأسًا، وكان النبي يذكر الله على كل أحيانه، وأيضًا سعيد بن المسيب رُوي عنه ذلك وقال: “أليس في جوفه؟”، وذهب إليه البخاري وابن منذر والطحاوي.

القول الثالث: قولٌ وسط، قالوا: يُكره للجنب أن يقرأ القرآن، يُكره كراهةً ولا يحرم، ودليل على أنه يُكره: حديث أن النبي لما سلَّم عليه رجل وهو يبول لم يرد عليه، وقال: كرهت أن أذكر الله على غير طهارة.

قالوا: هذا يدل على الكراهة، وأما حديث عليٍّ فلا يدل على التحريم أيضًا، لو ثبت فلا يدل على التحريم، وإنما هو حكايةُ واقعِ أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يحجزه شيءٌ عن قراءة القرآن إلا الجنابة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكره أن يذكر الله على غير طهارة.

والقول الراجح هو القول الثالث، وهو أن الجُنُب يُكره له أن يقرأ القرآن، لكن لا تصل المسألة إلى درجة التحريم، فالأدلة لا تقوى للتحريم، حديث عليٍّ لا يقوى: أولًا هو ضعيف ولو ثبت فلا يدل على التحريم، غاية ما يدل عليه الكراهة.

فالقول الراجح: أن الجُنب يُكره له أن يقرأ القرآن، لكنه لا يحرم عليه ذلك.

حكم قراءة القرآن للحائض

وأما الحائض فقد اختلف العلماء في قراءتها للقرآن على قولين:

  • منهم من قال: إنها ممنوعة من قراءة القرآن، وهو قول الجمهور، واستدلوا بحديث ابن عمر: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن[24]، ولكن هذا حديث من جهة الصناعة الحديثية لا يثبت، بل إن ابن تيمية قال: “إنه ضعيفٌ باتفاق أهل المعرفة بالحديث”.
  • القول الثاني: الجواز: وهو الرواية المشهورة عند المالكية، وأيضًا مذهب الظاهرية.

والقول الراجح هو القول الثاني، وهو أن الحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن؛ لأنه لم يرد هناك دليلٌ صحيح صريح يدل على منعها من قراءة القرآن؛ ولأن هذه المسألة مما تحتاج الأمة إلى بيانه، ولو كانت الحائض ممنوعة من قراءة القرآن لَبيَّن هذا النبي للأمة، ولَاشتُهِر كما اشتُهر مَنْعها من الصلاة، ومنعها من الصيام، ومنعها من الطواف.

ومما يدل لذلك: أن النبي لما حاضت عائشة قال: افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا تصلي هذا في رواية أحمد، وعند البخاري: فأمرها أن تفعل ما يفعل الحاجُّ غير أن لا تطوف بالبيت ولا تصلي[25].

فنهاها فقط عن الطواف والصلاة، ولا ريب أن قراءة القرآن من أفضل أعمال الحاجِّ، فلو كانت ممنوعة منها لنهاها النبي عنها؛ ولأن الحيض يستمر مدة طويلة، يعني: متوسط الحيض عند النساء كم يوم؟ سبعة أيام، ومن النساء من يستمر الحيض عندها خمسة عشر يومًا.

فكونها ممنوعة من قراءة القرآن، وقد تكون من الحافظات، هذا يحتاج إلى دليلٍ واضح، وليس عندنا دليلٌ واضح.

وعلى هذا؛ فالقول الراجح: أن الحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله، لكن لا تمس المصحف -يعني- إذا أرادت أن تقرأ القرآن، تلبس مثلًا قفازين وتقرأ القرآن، إذا أرادت أن تقرأ من المصحف.

حكم اللبث في المسجد للجنب والحائض والنفساء

واللُّبْثِ في المسجد بلا وضوء.

يعني: يحرم على المُحدث حدثًا أكبر أن يلبث في المسجد بلا وضوء، وهذا بنص الآية: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، فنهى الله تعالى الجنب عن اللبث في المسجد، إلا أن يكون عابر سبيل.

وعابر السبيل: هو المار، والحائض والنُّفَساء في معنى الجنب، فالحائض لا يجوز لها أن تلبث في المسجد؛ جاء في هذا حديث: لا أُحِلُّ المسجدَ لحائض ولا جنب[26]، لكنه حديثٌ ضعيف.

لكن جاء في حديث عائشة: أن النبي قال لها: ناوليني الخُمْرة. فقالت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك. وهذا في “صحيح مسلم”[27].

ووجه الدلالة أن عائشة لما قالت: “إني حائض” دل على أنها قد فهمت أن الحائض ممنوعة من اللُّبث في المسجد، وأقرها النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الفهم، لكن بيَّن لها أنها سوف تُنَاوِله الخمرة بيدها، والحيضة ليست في اليد.

فالحائض أيضًا ممنوعة من المُكث في المسجد، الجنب والحائض ممنوعان من الجلوس في المسجد.

وعلى هذا؛ مثلًا بعض حلقات تحفيظ القرآن الكريم النسائية تكون في المساجد، فإذا أتت المرأةَ الدورةُ الشهرية نقول: لا تَدخُلي المسجد.

ولهذا؛ ينبغي أن تكون حلقات القرآن الكريم النسائية في غير المساجد، حتى لا تُحرَم النساء؛ لأن على ذلك ربع النساء ينقطعن؛ لأن المرأة يأتيها الحيض أسبوعًا من أربعة أسابيع، فربع هؤلاء النسوة مِن طالباتٍ متعلمات ومعلمات ينقطعن، وهذا الانقطاع لا شك في أنه يؤثر في تعلمهن وتعليمهن.

ولهذا؛ ينبغي أن تكون حلقات التحفيظ للقرآن الكريم النسائية خارج المساجد، لا تكون داخل المساجد.

واستثنى المؤلف بالنسبة للجنب، قال: (بلا وضوء)، مع أن ظاهر عبارة المؤلف أنه يشمل أيضًا الحائض كذلك. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين:

القول الأول: أن من توضأ فله أن يلبث في المسجد إذا كان جنبًا، وهذا هو مذهب الحنابلة، واستدلوا بأثرٍ عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالًا من أصحاب النبي يجلسون في المسجد وهم مُجنِبُون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة. وهذا يعني في سنده مقال، وبعضهم جوَّد إسناده، لم يروه إلا سعيد بن منصور[28].

القول الثاني: قول الجماهير: أنه لا يلبث في المسجد ولو توضأ.

إذا أردنا الموازنة نجد أن منع الجنب من اللبث في المسجد ورد بأي دليل؟ بالقرآن: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، هل يقوى أثرٌ رواه التابعي عن عددٍ من الصحابة على تخصيص الآية؟ لا يقوى، يعني هذه مجرد آثار، بينما المنع مُحكَم، وبدليلٍ من القرآن.

ولذلك؛ فالصواب هو قول الجمهور: حتى لو توضأ لا يمكث في المسجد.

باب ما يُوجب الغسل

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب: ما يُوجب الغسل.

الغسل: اسم مصدر من الاغتسال، المصدر هو الاغتسال. اغتسل يغتسل، المصدر: اغتسالًا، واسم المصدر: الغسل.

والفرق بين المصدر واسم المصدر أن المصدر: ما تضمن معنى الفعل بحروفه، واسم المصدر: ما تضمن معنى الفعل دون حروفه.

فـ”اغتسل”: المصدر: اغتسالًا، واسم المصدر: غسلًا.

“توضأ”: المصدر: توضُّؤًا، واسم المصدر: وُضُوءًا.

“تسحر”، المصدر: تسحُّرًا، اسم المصدر: سُحُورًا، وهكذا.

وإيجاب الغسل، شُرع الغسل من المني دون البول، كما ذكر ابن القيم وغيره: أن هذا فيه حكمةٌ عظيمة؛ لأن المني يخرج من جميع البدن، فيصيب الإنسان معه ضعفٌ، فبالاغتسال يتنشط الإنسان ويقوى، بخلاف خروج النواقض الأخرى.

الأمور التي توجب الغسل، حصرها المؤلف في سبعة:

الأول: انتقال المني

الأول: أحدها انتقال المني.

فلو أحسَّ بانتقاله فحبسه فلم يخرج وجب الغسل. هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، أن مجرد انتقال المني ولو لم يخرج يوجب الغسل، مجرد الانتقال فقط.

وليس لهم دليل سوى تعليل فقط، قالوا: لأن معنى الجنابة: تباعد الماء عن مواضعه، وقد وُجد ذلك، فهذه مادة الجيم والنون والباء، تدل على التباعد، فما دام الماء تباعد عن مواضعه، إذن يجب الغسل.

وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة، إلى أن مجرد انتقال الماء دون خروجه لا يُوجب الغسل، وهذا هو القول الراجح؛ لأن النبي إنما علَّق الاغتسال برؤية الماء، قال: إنما الماء من الماء[29].

ولما سألته أمُّ سُلَيم: هل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء[30].

أشبه ببقية النواقض، مثلًا لو أحس بخروج الريح ولم تخرج منه الريح، هل ينتقض وضوؤه؟ لا. أو أحس بخروج البول ولم يخرج منه البول، هل ينتقض وضوؤه؟ لا.

وكذلك أيضًا هنا، أحس بانتقال المني ولم يخرج منه المني، فلا يوجب هذا الغسل على القول الراجح.

فلو اغتسل له ثم خرج بلا لذةٍ لم يُعِدِ الغُسل.

يعني: لو اغتسل لأجل انتقال المني مع عدم خروجه، ثم بعد الاغتسال خرج بلا لذة؛ لم يلزمه أن يعيد الغسل. وهذا مما يُبين ضعف هذا القول.

الثاني: خروج المني من مخرجه

الثاني من موجبات الغسل: خروجه من مخرجه ولو دمًا.

يعني: خروج المني من مخرجه. وهذا بالإجماع.

وقول المؤلف: (ولو دمًا) أحيانًا قد يختلط المني بالدم، كما لو عُمِل له قسطرة مثلًا، فاختلط المني بالدم، فهذا لا يمنع -اختلاط المني بالدم- من إيجاب الغسل.

ويُشترط أن يكون بلذةٍ، ما لم يكن نائمًا.

لا بد للمني الذي يوجب الغسل من أن يكون بلذة، وبعضهم يعبر: دَفْقًا بلذة، وهذه عبارة صاحب “زاد المستقنع”، لكن دَفْقًا، هذا من باب التوضيح؛ لأنه لا يمكن أن يكون بلذة إلا إذا كان دفقًا.

ويدل لذلك قول النبي : إذا فَضَخْتَ الماء فاغتسل[31]، وفي لفظ: إذا خَذَفْتَ الماء فاغتسل، وإذا لم تكن خَاذِفًا فلا تغتسل[32].

فهذا دليلٌ على أن خروج الماء على سبيل الغلبة والدَّفْق موجبٌ للغسل، وهذا هو الذي عليه جماهير الفقهاء.

وذهب الشافعية إلى أن مجرد خروج المني ولو بغير لذة يوجب الغسل، وهذا أحيانًا قد يخرج في أحوال قليلة، هل يتصور خروج المني بدون لذة؟ نعم، مع بعض الأمراض، ويمكن أحيانًا أيضًا مع شدة البرد، يقولون: إن شدة البرد قد يخرج المني بدون لذة.

وأذكر أن مستفتيًا اتصل علي وسأل، قال: إن الماء يخرج معي بدون لذة، هل هذا يوجب الغسل؟ فهذا موجود وإن كان قليلًا.

القول الراجح: أنه لا يوُجب الغسل إلا إذا خرج دَفْقًا بلذة.

طيب، يشتبه على بعض الناس الوَدْي، فيظنونه مَنِيًّا، الودي يخرج بعد البول. والودي: قليل، سائلٌ أبيض يُشبه المَنِيَّ، لكنه قليل، ويخرج بعد البول، ولا يخرج من جميع الناس، يخرج من عدد قليل من الناس، خاصةً مَن عنده مشكلات في المسالك البولية، فهو يخرج بعد البول.

وحكمه حكم البول تمامًا، ولا يرتبط بشهوة ولا بلذة، ولا بأي شيء، هذا يُسمى وَدْيًا.

المَذْيُ يرتبط بشهوة، لا بد من أن يكون بشهوة، وهو قليل جدًّا المذي، وأيضًا يخرج بدون دَفْق وبدون لذة. فهذا هو الفرق بينهما؛ لأن بعض الناس تشتبه عليه هذه المسائل، فلا بد أن تعرف الفرق:

المذي يخرج من الرجل ومن المرأة إذا كان بشهوة، فالمذي مرتبط بشهوة. أما المني فلا بد فيه من الدَّفْق واللذة، وهذا الدفق هو الذي يميز؛ لأن المرأة يخرج منها أشياء، فالذي يُميز المني عند المرأة هو الدفق.

الودي يخرج من الرجل بعد البول، ويخرج من -أيضًا- عدد قليل من الرجال، وليس من جميعهم.

ما لم يكن نائمًا ونحوه.

يعني: يُشترط خروج المني بلذة إذا لم يكن نائمًا، أما إذا كان نائمًا فلا يُشترط هذا الشيء؛ لأن النائم قد لا يحس باللذة، قد يستيقظ الإنسان ويجد أثر المني، فهذا يُوجب الغسل إذا رأى الماء.

طيب، إذا وجد أثر الماء ولم يتذكر احتلامًا، هل يجب عليه أن يغتسل؟ طيب، إذا تذكر احتلامًا ولم يجد أثر الماء؟ لا يجب الغسل.

فالعبرة إذن برؤية الماء؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، إذا رأت الماء[33].

والمرأة في ذلك كالرجل، إلا أن الاحتلام عند النساء قليل جدًّا أو نادر مقارنةً بالرجال؛ ولهذا لما سُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن احتلام المرأة، قالت أمُّ سلمة: “أوَتحتلم المرأة؟” كأنها مستنكرة يعني، هل المرأة تحتلم؟ قال: نعم[34].

فإذا استيقظ من نومه ووجد بَلَلًا، وشك هل هو منيٌّ أو لا؟ نقول: إذا وُجدت القرائن التي تدل على أنه منيٌّ، عَمِل بتلك القرائن، ومن ذلك أن يسبقه تفكيرٌ مثلًا، أو يتذكر احتلامًا، أما إذا لم يسبقه تفكيرٌ مثلًا، أو لم يتذكر احتلامًا، إذا لم يجد قرائن ووجد أثر ماء ولم يكن هناك شيءٌ يدل على أنه مني، فالأصل أنه لا يوجب الغسل، والأحوط أن يغتسل.

الثالث: تغييب الحشفة في فَرْج

الثالث: تغييب الحَشَفَةِ كلِّها.

الحشفة: هي رأس الذَّكَر الذي يُقطَع ما عليه من الجلد أثناء الختان.

وتغييب الشيء، معناه: أن يختفي فيه، يعني بمجرد الإيلاج واختفاء رأس الذَّكَر يُوجَب الغُسْلُ، ولو لم يحصل إنزال، يعني إذا حصل جماع من غير إنزال وجب الغسل.

وقد كان في أول الإسلام لا يجب الغسل إلا بالإنزال، وعلى ذلك حديث: إنما الماء من الماء[35]، ثم نُسخ ذلك بقول النبي : إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، وإن لم يُنزل[36]. وحصل في ذلك خلافٌ بين الصحابة، ثم رجعوا إلى عائشة رضي الله عنها، فذكرت الحديث.

فلو أن الإنسان اغتسل ثم خرج منه المني بعد غسله، فليس عليه أن يغتسل مرةً أخرى؛ لأن هذا مجرد بقايا للمني الأول.

أو قَدْرِها.

يعني: قَدْر الحَشَفة، وهذا إنما يكون في مقطوع الحشفة، الذي يمكنه أن يُجامِع، فقالوا: حتى لو كان مقطوع الحشفة وجامع، فبمجرد تغييبها يُوجَب الغُسْلُ.

بلا حائِلٍ.

فلو كان بحائل لم يُوجَب الغسل.

في فرجٍ.

قُبُلًا كان أو دُبُرًا.

ولو كان لميت.

يعني: هذا من باب افتراض بعض المسائل.

أو بهيمةٍ أو طير.

حتى لو كان ذلك لبهيمة أو طَيْرٍ.

وذِكْر المؤلف أو الفقهاء لهذه الأمثلة لا يدل على جوازها؛ لأن الفقهاء أحيانًا يذكرون المسائل لبيان حكمها، ولا يدل على جوازها، وإلا فإن هذا مُحرَّم ومن كبائر الذنوب.

لكن لا يجب الغُسل إلا على ابن عشرٍ وبنت تسعٍ.

يعني: لو جامع وعمره عشر، أو وُطِئَتْ بنت وعمرها تسع، وهما غير بالغين، هل يجب عليهما الغسل؟ المذهب أنه يجب إذا كان ابن عشر أو بنت تسعٍ. والقول الثاني: أن غير البالغ لا يجب عليه الغسل؛ لأنه إذا كانت لا تجب عليه الصلاة ولا يجب عليه الصيام ومرفوع عنه القلم، فالغسل من باب أولى أنه لا يجب عليه.

الرابع: إسلام الكافر

الرابع:

من المُوجِبات.

إسلام الكافر، ولو مُرْتَدًّا.

يعني: إذا أسلم الكافر وجب عليه أن يغتسل، وهذا هو المذهب عند الحنابلة والمالكية، واستدلوا بأن النبي أَمَر بعضَ مَن أسلم بالاغتسال، كما في حديث قيس بن عاصم[37]، وفي حديث ثُمَامة[38].

والقول الثاني: أنه لا يجب الغسل على الكافر إذا أسلم، وإنما يُستحب. وهذا هو القول الراجح، وهو قول الجمهور، واختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله.

قالوا: لأنه أسلم في عهد النبي أُناسٌ كثير، ولم يُنقل أن النبي أمر كل من أسلم بالاغتسال، وإنما أمر أفرادًا معينين، وهذا الأمر محمولٌ على الاستحباب. وهذا هو القول الراجح.

هذه المسألة يُحتاج إليها، أحيانًا يأتي بعض الناس ويعلن إسلامه قبل الصلاة، ثم يصلي مع الناس مثلًا، خاصة في شهر رمضان، يأتي بعد صلاة العشاء ويُعلن إسلامه ثم يصلي مع الناس، على القول بوجوب الاغتسال، نقول: اذهب واغتسل، ثم ارجع وصلِّ، فعلى القول الراجح لا يحتاج إلى ذلك، وإنما نقول: إن الاغتسال مستحب، وليس واجبًا.

الخامس: خروج الحيض

الخامس:

من موجبات الغسل.

خروج الحيض.

يعني: إذا انقطع عنها دم الحيض وجب عليها أن تغتسل، وهذا بالإجماع؛ لقول الله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، والمقصود بالطُّهر هنا الاغتسال، ونُقل الإجماع على ذلك.

السادس: خروج دم النفاس

السادس: خروج دَمِ النِّفَاس.

يعني: انقطاع النفاس بعد الطُّهر، فهذا موجبٌ للغسل أيضًا بالإجماع.

السابع: الموت

السابع: الموت تَعَبُّدًا.

يعني: إذا مات الإنسان وجب تغسيله.

تغسيل الميت، ما حكمه؟ فرض كفاية؛ لحديث أم عطية[39].

وقول المؤلف: (تعبدًا) احترازًا من تغسيله عن حدثٍ أو نجاسة بغير نية التعبد، فهذا لا يُجزئ، بل أن يقصد المُغسِّل التعبد بذلك.

هذه هي مُوجِبات الغُسل، ونقف عند (شروط الغسل)، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

نجيب عما تيسر من الأسئلة:

السؤال: هل كتاب “دليل الطالب مع شرحك”، يُغنينا إلى أن نرتقي إلى “زاد المستقنع مع شرحه”؟

الجواب: نعم يكفي، “الدليل” في معنى “زاد المستقنع”، بل من العلماء من يُفضِّله على “الزاد”، وهو من الناحية التعليمية -الدليل- أفضل؛ لأنه يجمع لك المسائل المتفرقة في موضع واحد؛ ولأنه مُرتَّب ومنظم أكثر، لكن من حيث كثرة المسائل فـ”الزاد” أكثر مسائل، يعني فهو في منزلته أو قريبٌ منه.

السؤال: هل يصح قياس الريح على الأخبثين، مع وجود مرض القولون، الذي قد يكون شدته للدفع كشدة الأخبثين؟

الجواب: نعم، وهذا يُسميه الفقهاء بالحاقز، يعني: حاقن أو حاقب أو حاقز.

الحاقن: هو محتقن البول، والحاقب: هو المحتقن بالغائط، والحاقز: هو المحتقن بالريح، ويأخذ حكمه.

السؤال: هل غسيل الكلى الدموي البروتيني ينقض الوضوء؟

الجواب: نعم، غسيل الكلى ينقض الوضوء، سواءٌ كان غسيلًا دمويًّا أو بروتينًا؛ وذلك لأنه مع غسيل الكلى تخرج مكونات البول، مكونات البول تخرج بغض النظر عن: هل خروج الدم ينقض أو لا ينقض الوضوء؟ حتى لو قلنا: إنه لا ينقض الوضوء، لكن مكونات البول تخرج.

ولذلك؛ فالذي يغسل الكلى لا يتبول، وإن تبول تبول شيئًا قليلًا جدًّا، أيُّ إنسان يغسل الكلى تجد أنه لا يتبول؛ لماذا؟ لأن البول خرج، مكونات البول خرجت مع غسيل الدم، فغسيل الكلى بنوعيه: الدموي والبروتيني، ينقض الوضوء.

السؤال: ما حكم قراءة سورة (البقرة) كاملةً كلَّ يوم، بنية الرقية من الأمراض؟

الجواب: لا بأس بذلك، قراءة (البقرة) أو (الفاتحة)، أو آية (الكرسي)، أو (الإخلاص) أو المعوذتين، لا بأس بهذا؛ لأن هذه كلها آيات، والقرآن كله رقية، فللإنسان أن يسترقي بما شاء. لكن، أعظم ما يُسترقى به سورة (الفاتحة).

فننصح السائل، نقول: كرر (الفاتحة) أحسنَ مِن أن تقرأ (البقرة) كاملة، كرر (الفاتحة)، يعني هذا الوقت الذي ستصرفه (البقرة)، (البقرة) كم جزءًا؟ تقريبًا جزآن ونصف أو إلا قليلًا، تقل عن النصف قليلًا، تأخذ.. الجزء عادةً يأخذ ربع ساعة، جزآن نصف ساعة، يعني تأخذ تقريبًا خمسة وأربعين دقيقة، لو كررت سورة (الفاتحة) خمسة وأربعين دقيقة، هذا أحسن من أنك تقرأ سورة (البقرة)؛ لأن (الفاتحة) هي أعظم سورة في القرآن، وأعظم ما يُسترقى بها.

السؤال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، هل هي قاعدة مطلقة أو لمن يعاني الوسوسة؟

الجواب: هذه قاعدة مطلقة، لمن يُعاني الوسوسة ولمن لا يُعاني، أي: لا يقطع صلاته إلا بيقين، وذَكَر النبي لهذا اليقين مثالين:

المثال الأول: سماع الصوت.

المثال الثاني: شم الرائحة، كأنه قال: لا ينصرف إلا بأمرٍ متيقن، لكنه عبَّر عن ذلك بالمثال.

السؤال: هل انتقال المني، ولم يخرج بنفسه، لا بحبسه، هل يُوجب الغسل؟

الجواب: على المذهب مجرد الانتقال يوجب الغسل، وعلى القول الراجح أنه لا يُوجب؛ وعلى هذا نقول للأخ السائل: نعم، إذا انتقل بنفسه فيوجب الغسل، لكن القول الراجح أنه لا يُوجب.

السؤال: إذا استمنى الصغير الذي عمره تسع أو عشر سنوات، وأنزل بالاستمناء، هل يكون بالغًا؟

الجواب: نعم، إذا أنزل دَفْقًا بلذة، يكون قد بلغ، والصبيان يختلفون في هذا اختلافًا كبيرًا، بعض الصبيان قد يبلغ وعمره عشر سنوات، وأيضًا بعض الفتيات تأتيها الدورة الشهرية وعمرها تسع سنوات، فمتى ما رأى إحدى علامات البلوغ يكون قد بلغ.

السؤال: هل الحائض تمس المصاحف المجزأة أجزاءً؟

الجواب: نعم، المجزأة تأخذ حكم المصحف، يعني: أحيانًا يكون جزء عَمَّ، أو جزء تَبَارَكَ، أو جزء قَدْ سَمِعَ، أو جزء يس، هذا جزءٌ من المصحف، فينطبق عليه ما ينطبق على المصحف.

السؤال: مس الذكر بحائلٍ لشهوة، هل ينقض الوضوء؟

الجواب: لا ينقض الوضوء، ما دام أنه من وراء حائل، فلا ينقض الوضوء، لكن ينبغي أن ينتبه: إذا مس الذكر لشهوة فقد يخرج منه المذي، والمذي يخرج من غير شعور، المذي يخرج ولا يشعر به الإنسان، فلينتبه من أن يخرج منه المذي وهو لا يشعر.

السؤال: هل يجوز مس أطراف ورق المصحف دون الآيات؟

الجواب: الذي يظهر: أن الورق كله لا يُمس على غير طهارة.

السؤال: إذا كان المسجد ليس له سُور، وإنما توجد مصليات متصلة بالمسجد يصلي فيها الناس، هل تأخذ حكم المسجد؟

الجواب: نعم، تأخذ حكم المسجد، المصليات أو ما يُسمى برَحْبة المسجد إذا كان لها سور تأخذ حكم المسجد، وإذا كان ليس لها سور فلا تأخذ حكم المسجد، وعلى ذلك جوابًا على سؤال الأخ الكريم: هذه المصليات التي من دون سور لا تأخذ حكم المسجد.

السؤال: إذا استيقظتُ من النوم أجد ماء المني بدون شهوة، وكثيرًا هذا يحدث لي بعد تغير الباطن علي؟

الجواب: إذا كنت متأكدًا أنه مني فيجب عليك الاغتسال حتى ولو كان بدون شهوة، نحن ذكرنا أنه أثناء النوم لا يُشترط الشهوة، ولا يُشترط اللذة، ولا يُشترط حتى أن تتذكر احتلامًا، لكن أحيانًا لا يكون منيًّا، أحيانًا يكون عَرَقًا، أحيانًا يكون مَذْيًا.

فإذا وُجدت قرائن تدل على أنه منيٌّ فيجب عليك الاغتسال، بغض النظر عن الشهوة، وبغض النظر عن كونك تتذكر أو لا تتذكر.

السؤال: هل للاحتلام غسل؟

الجواب: نعم، الاحتلام يُوجب الغسل بالإجماع.

السؤال: ما حكم أذان الجنب في المسجد إذا توضأ؟

الجواب: الجنب، القول الراجح أنه يصح الوضوءُ من الجنب، لكن الإشكال في الوقت الحاضر أن المُؤذِّنين الآن يؤذنون داخل المساجد، بينما المؤذنون فيما سبق كانوا يصعدون على المنارة، والمنارة تكون خارج المسجد، فهنا تجد في بعض كتب الفقه يقولون: إنه يجوز للمؤذن أن يؤذن وهو جنب، بناءً على وضع زمنهم أنهم كانوا يؤذنون على المنائر وهي خارج المسجد.

لكن المؤذنين الآن يؤذنون داخل المساجد، وعلى ذلك فالمؤذن ليس له أن يؤذن داخل المسجد؛ لأن هذا لُبْثٌ في المسجد، وعلى القول الراجح حتى ولو توضأ؛ لأن الآية صريحة: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43] وهو لم يعبر السبيل، سيبقى مدة الأذان يؤذن، وهذا لبثٌ في المسجد وهو جنب.

السؤال: قلتم في الدرس السابق: بأن الأحرف السبعة لم يتبقَّ منها إلا حرفٌ واحد، فهل القراءة الموجودة حاليًّا من اجتهاد واضعيها؟

الجواب: بقي حرفٌ واحد، وهذا الحرف الواحد تفرعت عنه هذه القراءات، وكلها قراءات صحيحة، يعني هي بلهجات العرب، وهذا من باب التيسير على الأمة، وليس باجتهاد واضعيها، وإنما هذا متواتر عن النبي .

ولهذا؛ فالقراءات السبع متواترة، وليست مجرد اجتهاد، وإنما هي متواترة.

ومن رحمة الله تعالى بالأمة أن وفق الصحابة لجمع الأمة على حرفٍ واحد، وإلا لو كانت الأحرف السبعة الأخرى أيضًا موجودة، لربما حصل شيء من الاختلاف، لكن وفق الله الصحابة فأجمعوا على جمع الأمة على حرفٍ واحد.

السؤال: يُوجد ظاهرة عند بعض العامة، وهي تقبيل المصحف ووضعه عند الجبهة؟

الجواب: لا بأس بهذا، وإن كان الأولى تركه، روي ذلك عن بعض الصحابة، روي عن عكرمة بن أبي جهل، وكان يقبل المصحف، ويقول: هذا كتاب ربي، ولكن أكثر الصحابة لم يكن يفعله، فالأولى تركه، لكن مَن فعله، لا نستطيع أن ننكر عليه، ليس هناك ما يستدعي أو ما يقتضي الإنكار.

السؤال: وضع المصحف في السيارة اعتقادًا بأنه يحفظ؟

الجواب: هذا لا أصل له، وضع المصحف في السيارة ليس له علاقة بالحفظ.

الحفظ؛ إذا أردت الحفظ فتحصن بالأذكار، أما مجرد وضع المصحف في السيارة فهذا يُشبه تعليق التمائم من المصحف، وهذه على القول الراجح أنها لا تجوز.

السؤال: ذكرتم كراهة قراءة القرآن للجنب، فهل الأذكار داخلة؟

الجواب: الأذكار غير داخلة، هذا خاص بقراءة القرآن، أما الأذكار فلا بأس بها للجنب عند جميع العلماء، فلو أردت أن تأتي بأذكار النوم وأنت جنب من غير الآيات فلا بأس، بل هذا هو المطلوب، كان النبي يذكر الله على كل أحيانه[40]، وإنما الخلاف في قراءة القرآن خاصة.

السؤال: بعد الجماع اغتسلت، وأنا ذاهبٌ للصلاة ظهر منيٌّ، وخروجه من غير شهوة، هل الوضوء انتقض؟

الجواب: نعم، انتقض الوضوء، لكن خروج هذا المني لا يوجب الغسل، أنت قد اغتسلت ثم خرج منك منيٌّ، فخروج المني هنا ليس خروجًا لشهوة، لكن كما مر معنا في الدرس السابق، الأصل أن ما خرج من السبيلين أنه ناقضٌ للوضوء.

فعلى ذلك؛ يلزمك أن تعيد الوضوء، وإذا كنت قد صليت ولم تُعِد الوضوء، فعليك الآن أن تعيد الصلاة، وأنت معذورٌ بالتأخير.

السؤال: …

الجواب: إذا كان يحصل أذية وتشويش، هنا يمنع منه، لكن أيضًا في المقابل نجد أن هذه شِبْهُ ظاهرةٍ، توجد الآن في كثيرٍ من المساجد: أن بعض الناس لا يرتل القرآن، يفتح المصحف ويقرأ قراءة صامتة بدون ترتيل، وهذا خلاف السنة، والله تعالى أمر بالترتيل: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، فكيف يكون الترتيل من غير صوت؟!

صحيح أنها تعتبر قراءة يُثاب عليها؛ لأنه يحرك لسانه، لكن الأكمل أن يرفع صوته قليلًا، وأن يرتل القرآن: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.

ثم إن الملائكة تستمع لقارئ القرآن؛ فينبغي أن يرفع صوته قليلًا، وأن يرتل القرآن، وأن يُحسن الصوت بالتلاوة، وتستمع له الملائكة، وهذا أيضًا أكثر للخشوع والتدبر.

أما مجرد القراءة الصامتة هكذا، بحجة أنه لا يريد أن يشوش، فهذا خلاف الأولى، لا نقول: ارفع صوتك رفعًا تشوش به على من بيمينك ومن بيسارك، لكن ارفعه قليلًا: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.

السؤال: …

الجواب: على كل حال، الحجامة ليست سنة أصلًا، الحجامة هي كشرب العسل، كاستعمال القُسْط البَحْري، والحبة السوداء، لكن هذا المرجع فيه لأهل الخبرة وأهل الطب، فهي مفيدة وحتى ولو لم يحتَج الإنسان إليها، مفيدة.

والقول بأن التبرع بالدم يُغني عنها، هذا غير صحيح؛ لأن التبرع بالدم يكون من العروق، بينما هذا من الدماء السطحية؛ ولذلك تجد أن الحَجَّام عندما يسحب الدم يسحب ويسحب إلى أن يتوقف، ولا يخرج دم، بينما الذي يخرج من العروق يستمر في الخروج، فبينهما فرقٌ كبير، فالحجامة تُفعل لمن به داء، ولمن ليس به داء، كلها نافعة ومفيدة بإذن الله .

السؤال: …

الجواب: أيْ نعم، دليل على أنها ليست توقيفية، أحسنت، يعني ممكن أنه يقرأ بآيات معينة، يختارها، ويغلب على ظنه أن فيها رقية وفائدة، فهذا لا بأس به؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أقر هذا الصحابي على هذا الاجتهاد.

فمثلًا؛ بعض الناس يقرأ آيات السِّحر إذا غلب على ظنه أن هذا مسحور، اختار آيات السحر وقرأها، وبعض الناس يقرأ الآيات التي فيها الشفاء.

هذا يدل على أن الاختيار ليس توقيفيًّا، لكن التوقيفي هو أن يقرأ بالآيات أو بما صحت به السنة عن النبي ، أو الأدعية التي ليس فيها تَعَدٍّ.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مالك: 58، وأحمد: 27293، وأبو داود: 181.
^2 رواه مالك: 13، وأحمد: 16286.
^3 رواه البخاري: 352.
^4 رواه أحمد: 27294، والنسائي: 444.
^5 رواه البزار في “مسنده”: 8552، وابن حبان في “صحيحه”: 994.
^6 رواه عبدالرزاق في “المصنف”: 443، والطبراني في “الأوسط”: 1457، والدارقطني: 536.
^7 رواه أحمد: 24329، والنسائي: 170، وابن ماجه: 503.
^8 رواه البخاري: 382، ومسلم: 512.
^9 رواه مسلم: 486.
^10 رواه أحمد: 9862، وأبو داود: 3161، والترمذي: 993، وابن ماجه: 1463.
^11 رواه أحمد: 25190، وأبو داود: 348.
^12 رواه أحمد: 759، والنسائي: 190.
^13 رواه البخاري: 1253، ومسلم: 939.
^14 رواه مسلم: 360.
^15 رواه أحمد: 18703، وأبو داود: 184، والترمذي: 81، وابن ماجه: 494.
^16 رواه أبو داود: 192، والنسائي: 185.
^17 رواه أحمد: 16799، وأبو داود: 184، والترمذي: 348، وابن ماجه: 769.
^18 رواه البخاري: 137، ومسلم: 361.
^19 رواه البخاري: 305، ومسلم: 1211.
^20 رواه البخاري: 1542، ومسلم: 1177.
^21 رواه مالك: 1، والدارمي: 2312.
^22 رواه أحمد: 840، وأبو داود: 229، والنسائي: 265.
^23 رواه أحمد: 19034، وأبو داود: 17.
^24 رواه الترمذي: 131، وابن ماجه: 596.
^25, ^33, ^35, ^39 سبق تخريجه.
^26 رواه أبو داود: 232.
^27 رواه مسلم: 298.
^28 رواه سعيد بن منصور في “السنن”: 646.
^29 رواه مسلم: 343.
^30, ^34 رواه البخاري: 130، ومسلم: 313.
^31 رواه أحمد: 868، وأبو داود: 206، والنسائي: 193.
^32 رواه أحمد: 847.
^36 رواه البخاري: 291، ومسلم: 348.
^37 رواه أحمد: 20611، وأبو داود: 355، والترمذي: 611.
^38 رواه البخاري: 462، ومسلم: 1764.
^40 رواه مسلم: 373.
zh