logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(26) تتمة باب فضائل أبي ذر- من قوله “قلت فاكفني حتى أذهب فأنظر..”

(26) تتمة باب فضائل أبي ذر- من قوله “قلت فاكفني حتى أذهب فأنظر..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله جميعًا في هذا الدرس، وهو الدرس الخامس والعشرون في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء، الحادي عشر من شهر رجب، من عام 1442 للهجرة.

تتمة فضائل أبي ذر

ولا زلنا في فضائل أبي ذر ، وفي الدرس السابق أخذنا قصة إسلامه، ووعدنا بأن نتكلم عن الفوائد والأحكام في هذا الدرس، وقبل ذلك نكمل الرواية الأخرى في قصة إسلامه؛ لأن الإمام مسلمًا رحمه الله ذكر أكثر من رواية، ووصلنا إلى الرواية الأخرى:

رواية أخرى في قصة إسلامه

132 – قال حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ -قُلْتُ فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ- قَالَ: نَعَمْ، وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا.

“شَنِفُوا” يعني: أبغَضُوا، يقال رجل شَنِفٌ. يعني: شانئ مبغِض: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3].

“وتجهموا” يعني: قابلوه بوجوه غليظة كريهة.

ثم أيضًا ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريق عبدالله بن الصامت :

قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ : يَا ابْنَ أَخِي صَلَّيْتُ سَنَتَيْنِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ .

وقلنا: إن أبا ذر كان ممن يتعبد ويتأله قبل أن يُسلِم، وكان هناك نفر من عقلاء العرب كانوا على ملة إبراهيم ، وكانوا لا يعبدون الأصنام،، ويتألهون ويتعبدون ويتحنثون، وكان منهم أبو ذر .

قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ كُنْتَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: حَيْثُ وَجَّهَنِيَ اللهُ. وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَتَنَافَرَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْكُهَّانِ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ أَخِي أُنَيْسٌ يَمْدَحُهُ حَتَّى غَلَبَهُ، قَالَ: فَأَخَذْنَا صِرْمَتَهُ فَضَمَمْنَاهَا إِلَى صِرْمَتِنَا. قَالَ فَجَاءَ النَّبِيُّ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، قَالَ فَأَتَيْتُهُ، فَإِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ قُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

ذكرنا في الدرس السابق: أن هذا إما أن يكون إلهامًا، وإما أن يكون قد عَلِم ذلك، سأل وعلم بأن هذه هي تحية الإسلام.

قُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، مَنْ أَنْتَ؟. وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: فَقَالَ: مُنْذُ كَمْ أَنْتَ هَاهُنَا؟. قَالَ: قُلْتُ: مُنْذُ خَمْسَ عَشْرَةَ.

يعني: بقي أبو ذر خمس عشرة يومًا وليلة.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَلْحِقْنِي بِضِيَافَتِهِ اللَّيْلَةَ.

وفي بعض نسخ مسلم: “أتحفني”. يعني: قال للنبي عليه الصلاة والسلام: “أتحفني”. وفي هذه النسخة: “ألحقني”. يعني: أريد أن يكون ضيفًا عندي الليلة.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ بِمَكَّةَ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الْآخَرُ.

يعني: أخوه أُنَيْسٌ  كما مرَّ معنا في الدرس السابق.

حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

يقول أنيس أخو أبي ذر رضي الله عنهما: رأيته -يعني: رأيت النبي – يأمر بمكارم الأخلاق.

وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، قَالَ:

يعني: أبو ذر .

مَا شَفَيْتَنِي.

يعني: ما أتيتني بالتفاصيل.

مَا شَفَيْتَنِي فِيمَا أَرَدْتُ. فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ.

يعني: أراد أبو ذر أن يذهب ويأتي بالتفاصيل، ويقف بنفسه على خبر النبي .

حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، حَتَّى أَدْرَكَهُ -يَعْنِي اللَّيْلَ- فَاضْطَجَعَ، فَرَآهُ عَلِيٌّ بن أبي طالبٍ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ.

لأنه في تلك الفترة كان الناس على حذر وعلى خوف، يعني في بداية الإسلام، فكان فيه نوع من الحذر والتوجس، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء.

حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَا يَرَى النَّبِيَّ ، حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا آنَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ؟ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، وَلَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَقَامَهُ عَلِيٌّ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ هَذَا الْبَلَدَ؟

يقول علي لأبي ذر .

قَالَ أبو ذر : إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي، فَعَلْتُ. فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ -يعني علي- فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ، قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ.

يعني: كأني أريد أن أقضي حاجتي أتبول، و”أريق الماء”: لا زال هذا المصطلح مستعملًا إلى الآن، إذا أراد بعض الناس أن يتبول، يقول: أذهب أريق الماء.

فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتَّبِعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي. فَفَعَلَ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ.

إعلان أبي ذر  إسلامه

أعلن أبو ذر إسلامه.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي.

يعني: ادعهم إلى الإسلام.

فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ.

يقول أبو ذر : لأصرخنَّ بها، يعني لأعلِنّنَّ إسلامي بين أهل قريش.

فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى -يعني أبو ذر – بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَثَارَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تُجَّارِكُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ؟! فَأَنْقَذَهُ -يعني العباس- مِنْهُمْ.

وهذه كان أبو ذر يحسبها للعباس أنه أنقذه من ضرب كفار قريش له.

ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ بِمِثْلِهَا.

يعني: صرخ وأعلن إسلامه.

وَثَارُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ فَأَنْقَذَهُ.

أنقذه مرتين.

فوائد من قصة إسلام أبي ذر

هذه قصة إسلام أبي ذر ، وهي قصة عجيبة! ومليئة بالدروس والعبر والفوائد.

ومن أبرز فوائد هذه القصة:

  • فضل أبي ذر ، هذا الصحابي الجليل، وهذا الذي حصل منه يدل على سبقه في الإسلام، وعلى طلبه للحق، وعلى صلابته في الدين.
  • أيضًا من الفوائد: تقدم إسلامه؛ فإنه أسلم بعد البعثة بأكثر من سنتين؛ فهو يعتبر من السابقين الأولين إلى الإسلام .
  • أيضًا من الفوائد: بيان ما أنعم الله تعالى به على أبي ذر من هدايته للتوحيد قبل الإسلام؛ لأن أبا ذر -كما ذكرنا- كان من العرب الذين يتألهون قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتعبدون ويتحنثون، ولا يعبدون الأصنام، وكانوا على بقايا من دين إبراهيم .
    والإنسان بفطرته قد فُطر على الحق، وعلى اتباع الحق؛ كل مولود يولد على الفطرة [1]، بعض الناس يعطيه الله تعالى رُشدًا وعقلًا فيهديه للحق، ولذلك؛ كان أبو ذر يصلي قبل أن يسلم، بقي ثلاث سنين وهو يصلي قبل أن يسلم.
  • أيضًا من الفوائد: أن العاقل الموفق لا يزال يبحث عن الحق ويجتهد في الوصول إليه، فإن أبا ذر كان يبحث عن الحق من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أمر أخاه أنيسًا أن يذهب لمكة فيأتيه بخبر النبي عليه الصلاة والسلام، ثم لما لم يأته بالتفاصيل قال: ما شفيتني. وسافر هو بنفسه، وبقي في مكة متخفيًا خمس عشرة ليلة حتى لقي النبي وأعلن إسلامه؛ فهذا يدل على أن الإنسان إذا بحث صادقًا عن الحق فإن الله يهديه ويوفقه، كما حصل ذلك أيضًا لسلمان الفارسي في قصته المشهورة، كان يبحث عن الحق حتى هداه الله تعالى للإسلام.
    ونرى أيضًا في واقعنا المعاصر أناسًا من العقلاء يسألون الله أن يهديهم للحق، فهداهم الله تعالى لهذا الدين العظيم، دين الإسلام الذي أكمله وارتضاه للناس دينًا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3].
  • أيضًا من الفوائد: عظمة القرآن، فإن أُنَيسًا كان من أعظم شعراء العرب، وشهد بأن هذا القرآن ليس هو مثل كلام الكهان، وليس هو مثل كلام الشعراء، كان من فحول شعراء العرب.
    قال: لقد سمعتُ قول الكهنة؛ فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء -يعني أنواع- الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر.
    وهذا يدل على عظمة هذا القرآن، فهذا القرآن يعرف عظمته العرب الأقحاح، الذين يفهمون كلام العرب وأساليبهم والبلاغة والفصاحة والبيان ولذلك؛ جعله الله تعالى آية نبيه محمدٍ ؛ فإن الله تعالى أعطي كُلَّ نبي آية؛ حتى يصدقه الناس بأنه نبي من عند الله، فآية موسى العصا، ألقاها فإذا هي حية تسعى، وآية عيسى أنه يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، آية صالح الناقة، كل نبي له آية، وآية نبينا محمدٍ جعلها الله تعالى آية تراها جميع أمته، وهي هذا القرآن العظيم، هذا القرآن العظيم من عظمته؛ كما قال ربنا سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ[الحشر: 21].
    الجن لما سمعوا القرآن انبهروا فماذا قالوا؟ قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا۝يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ. جنٌّ لما سمعوا القرآن لأول مرة انبهروا من عظمته فتعجبوا، قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا۝يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ[الجن: 1، 2].
    فهذا القرآن عظيم، وجوانب العظمة لا يحيط بها كثير من الناس، لا يستطيعون أن يحيطوا بها، وكما قال بعض أهل العلم: لو أخذت أي لفظة من القرآن وأدرتها على جميع قواميس اللغة، لم تجد لفظة أحسن من هذه اللفظة في موضعها، ولا غَرْوَ في ذلك؛ فهذا كلام رب العالمين، خالق كل شيء، خالق البلاغة والفصاحة والبيان، وخالق كل شيء، وجعله آية وجعله معجزًا، فهذا القرآن العظيم لا تنقضي عجائبه.
  • أيضًا من الفوائد: ما عليه أبو ذر من الصلابة في الدين، وذلك لأنه لما أسلم قال : لأصرخن بها بين ظهرانيهم. مع أنه يعرف بأنه إذا فعل ذلك سيؤذونه، وقد فعل هذا وأعلن إسلامه، وقال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله. وضربوه حتى سال منه الدم، ولكن هذا يدل على صلابته وقوته، وكان معروفًا بصلابة الرأي، ولذلك؛ قال له النبي : يا أبا ذر، إني لأراك ضعيفًا؛ فلا تَأَمَّرنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم [2].

الجمع بين صلابة أبي ذر وضعفه

فإن قال قائل: كيف يُوصف أبو ذر بالصلابة في الرأي، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إني لأراك ضعيفًا؟

الجواب: أن الصلابة والتمسك بالرأي، وعدم المرونة، هي ضعف في الإنسان، وإن كان في جانب إعلان أبي ذر لإسلامه تعتبر جانب قوة، لكن في بقية الأمور إذا كان الإنسان دائمًا يتمسك برأيه، وليس عنده مرونة، فهذا يعتبر ضعفًا، بينما من كان عنده مرونة، ويأخذ ويعطي ويحاور، يُعتبر هذا قوة، ولهذا؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: إني لأراك ضعيفًا.

كان أبو ذر قد بدا له رأي، وهو أن ما زاد على حاجة الإنسان بعد ثلاثة أيام، فهو كنز يجب عليه أن ينفقه، وكان ينكر على الناس، وكلَّمه الصحابة  في هذا وقالوا: إن هذا الرأي غير صحيح، وذكروا له الأدلة، ولكنه تمسك برأيه حتى شكاه معاوية إلى عثمان ، فكلمه عثمان ، فاستأذن من عثمان أن يذهب إلى الرَّبَذَة ويقيم بها، ومات بها وحيدًا ، فالتمسك بالرأي بعض الناس يعتبره قوة، وهو ليس قوة، تمسك الإنسان برأيه في جميع الأحوال ليس قوة، بل هو ضعف؛ وإنما القوة أن يكون الإنسان مرنًا، ويحاور غيره ويرجع إلى الحق، ويحاور غيره، فإما أن يقتنع أو يُقنِع، هذه هي القوة، أما التمسك بالرأي في جميع الأحوال فيعتبر ضعفًا، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: إني لأراك ضعيفًا؛ فلا تأمَّرنَّ على اثنين..، وهذا لا ينقص من قدر هذا الصحابي الجليل، فهو صحابي عظيم، لكن الله تعالى خلق البشر على طبائع مختلفة، فخَلَق أبا ذر على هذه الصفة، ولهذا؛ النبي عليه الصلاة والسلام أخبره بذلك فقال: إني أراك ضعيفًا؛ فلا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم.

  • أيضًا من الفوائد: ما كان عليه أبو بكر الصديق من الكرم؛ فإنه لما لقي أبا ذر استضافه، وقدَّم له من زبيب الطائف، وأكل منه قال أبو ذر : وكان ذلك أول طعام أكلته بمكة.
    فأبو بكر الصديق كان كريمًا سخيًّا من أفاضل الصحابة، بل هو أفضلهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
  • أيضًا من الفوائد: في هذه القصة عَلَمٌ من أعلام النبوة؛ حيث أُري النبي دار هجرته قبل أن يهاجر، حيث قال: إنه قد وُجِّهَت لي أرضٌ ذات نخلٍ لا أُراها إلا يثرب [3].
  • أيضًا من الفوائد: فضل قبيلة غِفَارٍ؛ فإنهم أسلموا دون تردد، أسلم نصفهم لما دعاهم أبو ذر ، والنصف الباقي لما هاجر النبي ، وهذا يدل على فضل هذه القبيلة، وكانوا قبل الإسلام قطاع طرق، ولذلك؛ لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أبا ذر أول ما رآه قال: من أين؟. قال: من غفار. وضع النبي يديه على جبهته هكذا، يعني أنك من غفار وتأتي وتريد أن تسلم؛ لأنهم كانوا معروفين بقطع الطرق، لكن سبحان الله! هداهم الله ​​​​، فكانوا سِهَالًا لما دعاهم إلى الإسلام، وانقادوا إلى الإسلام، هذا من توفيق الله ​​​​ لهذه القبيلة.
    وبعض الناس ربما بسبب الجهل أو بسبب الفقر يقع في أمور، لكن ما إن يدعى إلى الحق حتى يقبل هذا الحق ويهتدي، وهذا هو ما حصل لهذه القبيلة، قبيلة غفار، ولهذا دعا لهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: غفار غفر الله لها [4].
  • أيضًا من الفوائد: فضل قبيلة أسلم، فإن أسلم لما أسلمت قبيلة غفار جاؤوا للنبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا: يا رسول الله إخوتنا -يعني غفار- أسلموا، فنريد أن نسلم على ما أسلموا عليه، فدعا لهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أسلم سالمها الله [5].

هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بقصة أبي ذر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

من فضائل جرير بن عبد الله

ننتقل بعد ذلك إلى قوله:

29 – بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ

وجريرٌ: هو جرير بن عبدالله البَجَلي، كان سيدًا لقومه، وكان رجلًا وسيمًا وجميلًا، ورُوِي عن عمر أنه قال: “هو يوسف هذه الأُمَّة”. أسلم في السنة التاسعة من الهجرة، يعني: كان إسلامه متأخرًا، لكن كان له مناقب وفضائل.

134 – (2475) قال حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِاللهِ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللهِ، ح وحَدَّثَنِي عبدالْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ بَيانٍ، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، يَقُولُ: قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِاللهِ : مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى:

قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ..

قوله: “ما حجبني” يعني: ما منعني من الدخول عليه في أي وقت من الأوقات، وهذا يدل على فضله وشرفه.

وقوله: “إلا ضحك” تفسره الرواية الأخرى، يعني: “إلا تبسم”، كان النبي عليه الصلاة والسلام كلما رآه تبسم فرحًا وبشاشة، وأيضًا إعجابًا برؤيته؛ فقد كان من أكمل الرجال خَلقًا وخُلقًا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثير التبسم، وكثرة التبسم هذه من مكارم الأخلاق، إذا قابلك إنسان وهو يتبسم انظر ما مشاعرك نحوه؛ بخلاف ما إذا قابلك إنسان ووجهه مُتَجَهِّم، لاحظ الفرق بين الاثنين، ولذلك؛ يقول عليه الصلاة والسلام: تبسمك في وجه أخيك صدقة [6]، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان كثير التبسم، طَلْقَ المُحَيَّا، وكان جريرٌ  يقول: ما رآني النبي إلا تبسم.

ثم قال المصنف رحمه الله:

وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ -يقول عن جرير في هذه الرواية- وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا.

وجاء في رواية أخرى: فبعد ذلك كان يثبت ولا يسقط من الخيل أبدًا ببركة دعوة النبي .

هدم ذي الخلصة

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:

136 – (2476) قال حَدَّثَنِي عَبْدُالحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْخَلَصَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ، وَالْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ، وَالْكَعْبَةِ الْيَمَانِيَةِ وَالشَّامِيَّةِ؟

وذو الخلصة كان صنمًا يطوف حوله الناس، وكانوا يسمونه: الكعبة اليمانية، والكعبة الكريمة المعروفة تسمى: الكعبة الشامية، يُفرَّق بينهما للتمييز.

وقال القاضي عياض رحمه الله: إن ذكر الكعبة الشامية هنا: إنه وهمٌ وغلطٌ من بعض الرواة، والصواب حذفه، وقد ذكره البخاري بهذا الإسناد وليس فيه هذه الزيادة والوهم، يعني: أن الرواية ذو الخلصة، وكان يقال له الكعبة اليمانية دون زيادة والكعبة الشامية.

وتعقب النووي رحمه الله كلام القاضي عياض رحمه الله، وقال: إن هذا ليس بجيد، بل يمكن تأويل هذا اللفظ ويكون التقدير: هل أنت مُريحي من قولهم: الكعبة اليمانية والشامية ووجود هذا الموضع الذي يلزم منه هذه التسمية؟

يعني: إما أن نلجأ للترجيح فنقول: رواية البخاري أرجح، وأن الراوية: وكان يقال الكعبة اليمانية. دون زيادة: الكعبة الشامية.

أو نقول: إن رواية مسلم رواية صحيحة، والمعنى: يعني هل أنت مريحي من هذا الصنم، ومن قولهم: الكعبة اليمانية والكعبة الشامية. فلا يكون في هذا إشكال.

قال: فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ أَحْمَسَ.

يعني: خرجت للقتال، خرج جرير ومعه مائة وخمسون رجلًا من أحمس.

فَكَسَرْنَاهُ.

كسروا هذا الصنم.

وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ.

يعني: ممن يحمونه ويطوفون به.

قال فَأَخْبَرْتُهُ فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث.

قال جرير:

قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : يَا جَرِيرُ، أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ. بَيْتٍ لِخَثْعَمَ كَانَ يُدْعَى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ، قَالَ: فَنَفَرْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ، فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي فَقَالَ: اللهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ، ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، رَجُلًا يُبَشِّرُهُ ويُكْنَى أَبَا أَرْطَاةَ مِنَّا، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ فَقَالَ لَهُ: مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْنَاهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، فَبَرَّكَ رَسُولُ اللهِ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا، خَمْسَ مَرَّاتٍ.

فوائد من حديث فضل جرير بن عبد الله

في هذا من الفوائد:

  • أولًا: فضل جرير بن عبدالله البَجَلي ، حيث إنه مع كونه قد أسلم متأخرًا، إلا أن له هذه الفضائل والمناقب.
  • أيضًا من الفوائد: بيان عظيم حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، حيث تعامل مع جرير بهذا التعامل، وما حجبه في أي وقت من الأوقات، وكلما رآه تبسم في وجهه، فكان لذلك عظيم الأثر في نفس جرير ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان على جانب عظيم من حسن الخلق، ولذلك؛ وصفه ربنا سبحانه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4]. وأكدَّ ذلك جل وعلا بعدة مؤكدات:
    المؤكد الأول: حرف التوكيد (إنَّ).
    المؤكد الثاني: اللام.
    والمؤكد الثالث: حرف الاستعلاء (على).
    والمؤكد الرابع: وصف الخُلق بأنه عظيم.
    فعندما يصف ربنا العظيم خلق نبيه عليه الصلاة والسلام، ويؤكد ذلك بهذه المؤكدات، فكيف سيكون هذا الخلق؟
    لا شك أنه خلق عظيم، ولذلك؛ أثَّر هذا الخلق في نفوس أصحابه تأثيرًا بليغًا، فكان عليه الصلاة والسلام من حسن خلقه أنه يَلقَى الناس بالتبسم، قال: ما رآني رسول الله إلا تبسم.
  • أيضًا من الفوائد: أن لقاء الناس بالتبسم من أخلاق النبوة، ولذلك؛ جاء في الحديث: تبسمك في وجه أخيك صدقة لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق [7].
    فينبغي للإنسان عندما يلقى أخاه أن يلقاه بوجه بشوش متبسمًا؛ لأن تبسمه في وجه أخيه يبعث له رسالة بالمحبة والمودة والأنس، ويجعل هذا الذي يلقاه يرتاح له؛ بخلاف ما إذا لقيه متَجَهِّمًا، ولذلك؛ ينبغي أن يُعّوِّد الإنسان نفسه على هذا الخلق الكريم، أن يلقى الناس بطلاقة وجه وتبسم، حتى لو كان عنده هموم وغموم، ينبغي أن يُعَوِّد نفسه على أن يَلَقَى الناس بوجه طليق وبتبسم، تبسمك في وجه أخيك صدقة [8].
    فانظر كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان فقط يتبسم لجرير ، وجرير تأثر من ذلك، ونقل هذا للرواة، ورأى كأن هذا معروف أسداه النبي عليه الصلاة والسلام إلى جرير ، قال: ما رآني النبي إلا تبسم. ولذلك؛ ينبغي أن نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام عندما نلقى الناس أن نلقاهم بوجه طليق، وأن نلقاهم بابتسامة؛ فإن هذا من كريم الخلق، ومن حسن الخلق، ومن أخلاق النبوة.
  • أيضًا من الفوائد: أن الرجل الوجيه في قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه؛ لأن جريرًا كان سيدًا في قومه، ولذلك؛ تعامل معه النبي عليه الصلاة والسلام على منزلته ومكانته؛ فما حجبه، وكان يتعامل معه بتعامل فيه احترام، مع أنه عليه الصلاة والسلام يحترم الجميع، لكن هذا الرجل السيد في قومه كان عليه الصلاة والسلام يتألفه، ويتعامل معه بمعاملة خاصة أثرت فيه؛ ولهذا جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم [9]. فإذا كان الإنسان له وجاهة في المجتمع، وله مكانه، فينبغي أن يُنَزَّل منزلتَه، وألا يبخس من حقه، وألا يبخس من قدره، فالنبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع هذا الرجل، الذي هو سيد لقومه، بهذه المعاملة من كريم الخلق، مع أنه كريم الخلق مع الجميع، فكان في هذا أعظم الأثر على هذا الرجل وعلى قومه.
  • من الفوائد أيضًا: فضل هذا الدعاء: اللهم اجعله هاديًا مهديًّا، فإنه -على اختصاره- دعاء عظيم، فإن فيه دعاءً بأن يكون هذا المدعو له هاديًا يدعو إلى الله ​​​​، وأن يكون مهديًّا، أي أن الله تعالى يرزقه الهداية والاستقامة على طاعته، فهذا الدعاء من أعظم الأدعية، أن تقول: اللهم اجعلني هاديًا مهديًّا. وعندما تدعو لغيرك تقول: جعلك الله هاديًا مهديًّا. فهذه الدعوة دعا بها النبي لجرير، وهي -على اختصارها- دعوة عظيمة جامعة لخصال كثيرة من الخير.
  • أيضًا من الفوائد: مشروعية إزالة ما يَفتَتِن به الناس من بناء وغيره، والمبالغة في إزالتها؛ فإن النبي كان متضايقًا من وجود ذي الخَلَصَة وطواف بعض الناس بها، ووقوع الشرك عندها، فأرسل النبي جريرًا مع مائة وخمسين رجلًا فأزالوها وبالغوا في إزالتها، حتى يقول المُبشِّر للنبي عليه الصلاة والسلام: حتى تركناها وكأنها جمل أجرب.
  • أيضًا من الفوائد: مشروعية استمالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم، وأيضًا استمالتهم بالدعاء لهم والثناء عليهم، فهذا أيضًا من كريم الخلق؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام أمَّر عليهم رجلًا منهم هو جرير، وأيضًا دعا لهم، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو لأصحابه، وهذا الدعاء يقع موقعًا عظيمًا في نفوس أصحابه، ولذلك؛ من صنع إليك معروفًا فينبغي أن تكافئه، فإن لم تجد ما تكافئه عليه فَادْعُ له، لكن لا تَبْقَ سلبيًّا يسدى لك المعروف ولا تتكلم، لا تكافئه على ذلك ولا تدعو له ولا تشكره؛ فهذا ليس من مكارم الأخلاق، كل من أسدى إليك معروفًا ينبغي إن استطعت أن تكافأه على هذا المعروف فعلت، فإن لم يمكن فعلى الأقل ادْعُ له واشكره على ذلك، كان هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
    ففي القصة السابقة دعا لغِفَار، قال: غِفَارٌ غفر الله لها، وأسلم سالَمَها الله [10].
    هنا في هذه القصة دعا النبي عليه الصلاة والسلام لأَحْمَسَ وبرَّك عليهم خمس مرات، ودعا لجريرٍ سيدهم، سيد هؤلاء، دعا له وقال: اللهم ثبِّته واجعله هاديًا مهديًّا. فينبغي أن يعَوِّد الإنسان نفسه على أن يكون شكورًا، فمن أسدى إليك معروفًا فإن استطعت أن تكافأه على ذلك المعروف، وإلا فاشكره وادع له، فعلى الأقل أن تقول: جزاك الله خيرًا، بارك الله فيك، شكر الله لك، ونحو ذلك من العبارات.
    أما أن يسدى إليك المعروف ومع ذلك تقف صامتًا، تقف سلبيًّا لا تتكلم بكلمة، هذا ليس من مكارم الأخلاق، على الأقل قل: جزاك الله خيرًا، بارك الله فيك، شكر الله لك، ونحو ذلك من الدعوات الطيبات.
  • أيضًا من الفوائد: ذكر الشراح أن من فوائد هذه القصة: استحباب إرسال البشير بالفتوح ونحوها، كانوا في السابق إذا أتى أمر يسر به الإنسان يرسلون له البشير، وهذا من قديم في قصة يوسف : فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا[يوسف: 96]، وفي قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، لما نزلت توبة الله عليهم أُرسل بشير على فرس يريد أن يبشرهم، فقام رجل ورَقَى الجبل ونادى بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك! فكان الصوت أسرع من الرجل الذي على الفرس، فكان هذا معروفًا من قديم، أنهم يرسلون المبشر يبشر الإنسان بما يسره.
    لكن في وقتنا الحاضر يغني عن ذلك وسائل التواصل؛ الجوالات والهواتف، ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت تؤدي هذا الغرض، ويكون التبشير فيها سريعًا، فإذا علمت خبرًا يسر أخًا لك في الله، فينبغي أن تبادر بتبشيره، تتصل عليه تخبره، تدخل السرور عليه، إذا عملت مثلًا بهذا الخبر قبل أن يعلم، فتبادر وتبشره بذلك، فكان هذا معروفًا عند العرب من قديم، ذكره الله تعالى في قصة يوسف ، وأيضًا ورد في قصة الثلاثة الذين خلفوا، وهنا في هذه القصة بعث جرير إلى النبي عليه الصلاة والسلام رجلًا يبشره -يُكْنَى أبا أَرْطَاة- قبل أن يصل جرير ومن معه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هذا يدل على مشروعية تبشير الإنسان بما يسره، وينبغي أن تكون هذه البشارة سريعة، كانوا في السابق يرسلون البشير، وفي الوقت الحاضر يمكن أن يكون ذلك عن طريق وسائل الاتصالات، ووسائل التواصل الاجتماعي.
    مثلًا علمت بترقية، بأمر يسر الإنسان لم يعلم به هو، ينبغي أن تبادر وتبشره بذلك، فإنك بهذا تكون قد أحسنت له، وأدخلت السرور على نفسه.

من فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

ننتقل بعد ذلك إلى:

30 – بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا

ترجمة مختصرة لابن عباس رضي الله عنهما

عبدالله بن عباس: هو عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب، يلتقي مع النبي عليه الصلاة والسلام في عبدالمطلب، فهو ابن عم النبي ، والنبي هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وعبدالله بن عباس، هو عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب، فيلتقي مع النبي عليه الصلاة والسلام في جده عبدالمطلب.

ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولما توفي النبي كان عمره ثلاث عشرة سنة، ودعا له النبي عليه الصلاة والسلام -كما في هذا الحديث- فرزقه الله تعالى فقهًا وعلمًا عظيمًا، وكان عمر يُدْنِيه ويقرِّبه ويدخله مع مجالس الرجال، ومع مجالس الكبار، فتكلم بعض الناس وقالوا: كيف يأتي بهذا الصبي ويدخله معنا، وأولادنا لا يدخلون؟ فأراد عمر أن يبين منقبة ابن عباس رضي الله عنهما وعِلْمه، فطرح سؤالًا على الجميع وقال لهم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر: 1]، ما تقولون فيها؟ كلهم قالوا: إنه إذا جاء نصر الله والفتح، أمر الله نبيه  بأن يُسبِّح ويستغفر. قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: أقول: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، فهذه علامة على دُنُوِّ أجلك يا محمد، فسبح بحمد ربك، واستغفره إنه كان توابًا. فقال عمر : والله ما أعلم إلا كما تعلم.

انظر إلى عظيم فقهه مع أنه كان صغيرًا في ذلك الوقت، توفي النبي عليه الصلاة والسلام وعمره ثلاث عشرة سنة، فأظهر عمر للأشياخ من الصحابة وكبار الصحابة  فضل هذا الصبي، وتوقع له مستقبلًا مشرقًا، وكان الأمر كذلك، فكان عالمًا عظيمًا وحبرًا، فهو يلقب بحبر هذه الأمة، ومن فقهاء الصحابة وعلمائهم وكبارهم، وانتقل في آخر حياته إلى الطائف، واختلف بسبب انتقاله من مكة إلى الطائف؛ فقيل: إنه خشي من مضاعفة السيئات، قال: لا أقيم في بلد تضاعف فيه السيئات، وقيل غير ذلك، لكنه في آخر عمره بقي في الطائف، وتوفي فيها سنة ثمان وستين للهجرة.

رَوَى ألفًا وستمائة حديث؛ في “الصحيحين” منها: أربعة وثلاثون حديثًا، لكن روى ألفًا وستمائة حديث، وتوفي النبي عليه الصلاة والسلام وعمره ثلاث عشرة سنة، هل سمع هذه الأحاديث كلها من النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة؟ الجواب: لا؛ لأنه كان صبيًّا، يعني عمره ثلاث عشرة سنة لا يُعقَل أنه سمع ألفًا وستمائة حديث، ولذلك؛ معظم ما يرويه ابن عباس بالواسطة، يعني عن صحابي آخر.

ومرسل الصحابي حجة ومقبول، ولا يضر جهالة الصحابي، يعني: إذا قال صحابي عن صحابي، لا تضر جهالة الصحابي الآخر؛ لأن الصحابة كلهم عدول رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فمعظم ما يرويه ابن عباس رضي الله عنهما بواسطة؛ وليس مباشرة عن النبي ؛ لأن النبي توفي وعمْر ابن عباس رضي الله عنهما ثلاث عشرة سنة.

دعاء النبي لابن عباس رضي الله عنه

138 – (2477) قال حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ قَالَا: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ الْيَشْكُرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَاللهِ بْنَ أَبِي يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ أَتَى الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ -فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: قَالُوا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ- قُلْتُ: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: اللهُمَّ فَقِّهْهُ.

وفي رواية البخاري: اللهم فقِّهه في الدين [11]. وفي رواية أحمد: وعلِّمه التأويل [12].

في هذه القصة: النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا أراد أن يذهب للخلاء، وضع ابن عباس له وَضوءًا، والوَضوء، بفتح الواو: هو الماء الذي يُتَوضأ به، والوُضوء بضم الواو: هو اسم للفعل نفسه، التوضُّؤ.

وضع لو وَضوءًا: أي ماء يتوضأ منه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من وضع هذا؟. قالوا: ابن عباس، فدعا له قال: اللهم فقِّهه في الدين.

فوائد من حديث اللهم فقهه في الدين

وفي هذا الحديث من الفوائد:

  • أولًا: فضل ابن عباس رضي الله عنهما، فإن له مناقب وفضائل، وهو من كبار فقهاء الصحابة وعلمائهم.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب الدعاء لمن عمل خيرًا مع الإنسان، كل من عمل لك خيرًا، وصنع لك معروفًا، فينبغي أن تدعو له.
    ولذلك؛ لما وضع ابن عباس رضي الله عنهما هذا الوضوء للنبي عليه الصلاة والسلام دعا له، قال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل. فينبغي للمسلم إذا صُنع له معروفٌ أن يدعو لمن صنع له هذا المعروف، ولو كان شيئًا يسيرًا، لو أعطاك إنسان عود سواك مثلًا، تدعو له: جزاك الله خيرًا، بارك الله فيك، شكر الله لك، ونحو ذلك، حتى لو كان عود سواك، صنع لك أي معروف ينبغي أن تدعو له، كان هذا هو هدي النبي .
  • من الفوائد أيضًا: فضيلة الفقه في الدين؛ فإن النبي دعا بذلك لابن عباس رضي الله عنهما وقال: اللهم فقهه في الدين. وفي رواية أحمد: وعلمه التأويل.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب الدعاء بظهر الغيب؛ فإن النبي دعا بهذه الدعوة: اللهم فقهه في الدين، لابن عباس رضي الله عنهما في ظهر الغيب.
    وقد ورد في فضل الدعاء للغير في ظهر الغيب: ما جاء في حديث أبي الدرداء ، أن النبي قال: من دعا لأخيه بظهر الغيب كان ملك قائم على رأسه يقول: آمين، ولك بمثله [13]. فإذا دعوت لأخيك بظهر الغيب فالملك يُؤمِّن على دعائك، ويقول: ولك بمثله. فتستفيد من دعائك لأخيك المسلم بظهر الغيب، تستفيد فائدتين:
    • الفائدة الأولى: فائدة خاصة بك، وهي أن دعاءك لأخيك أنه يكون لك مثله، إذا قلت مثلًا: اللهم اغفر له. فالملك يقول: آمين، ولك بمثله. يعني: كأنك دعوت لنفسك بالمغفرة.
      إذا قلت: اللهم ارحمه. الملك يقول: آمين، ولك بمثله. كأنك دعوت لنفسك بالرحمة.
    • الفائدة الثانية: أنك أحسنت لأخيك المسلم بهذا الدعاء، والله ​​​​ أثنى على الذين يقولون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10]. فأثنى الله عليهم، أثنى على هؤلاء الذين يدعون لإخوانهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا[الحشر: 10].
  • فمن علامات التوفيق للإنسان: أن يوفق للدعاء لإخوانه المسلمين جملة، ويسمِّي من شاء منهم، يدعو للمسلمين عمومًا بالخير والصلاح والتوفيق، ويدعو ويسمي من شاء منهم حتى ينال دعوة الملك.
    قال الإمام أحمد لابن الإمام الشافعي: ستة أدعو لهم عند السحر، منهم أبوك، يعني الإمام الشافعي.
    فإذا أردت أن تدعو، ادع للمسلمين عامة: اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، ثم تسمِّي من شئت من أصحابك وأحبابك وأقاربك، فتسمِّي فلانًا تدعو له، فإذا علمت بأن أخاك المسلم في كربة تدعو له بأن يفرج الله عنه كربته، تدعو له بالخير، تدعو له بالتوفيق، فهذا أثنى الله تعالى على من فعله، وهو من سمات الصالحين، وهو يدل على صدق الأخوة وصدق الإيمان، وقبل ذلك كله، أن الله ​​​​ يجعل على رأس هذا الداعي مَلَكًا يقول: آمين، ولك بمثله.
    فاحرص يا أخي الكريم، على هذا الأمر، كل يوم أو كل ليلة، احرص على أن تسمي بعض أقاربك أو أصحابك أو أحبابك، تسميهم بأسمائهم، وتدعو لهم بدعوات نافعات في أمور دينهم ودنياهم.
  • أيضًا من الفوائد: إجابة دعاء النبي ، حيث دعا لابن عباس رضي الله عنهما بالفقه في الدين، فكان من الفقه بالمحل الأعلى، ودعا له أيضًا بالعلم بتأويل القرآن، فكان من أعلم الصحابة بتفسير القرآن.
    قال أبو العباس القرطبي رحمه الله، وهو أحد شراح “صحيح مسلم” قال: ظَهَرَت عليه -يعني على ابن عباس- بركات هذه الدعوات، فاشتَهَرَت علومه وفضائله، وعَمَّت خيراته وفواضله، فارتحل طلاب العلم إليه، وازدحموا عليه، ورجعوا عند اختلافهم لقوله، كل هذا ببركة دعاء النبي .

من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

ننتقل بعد ذلك إلى:

31 – بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

ابن عمر: هو عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولد في السنة الثالثة من البعثة، وهاجر إلى المدينة وعمره عشر سنوات، وتوفي سنة أربع وثمانين للهجرة.

139 – (2478) حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ فِي يَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ، وَلَيْسَ مَكَانٌ أُرِيدُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا طَارَتْ إِلَيْهِ، قَالَ فَقَصَصْتُهُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهُ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : أَرَى عَبْدَ اللهِ رَجُلًا صَالِحًا.

هذه رؤيا رآها عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، يقول: رأيت في المنام كأن في يَدِي قطعة استبرق، والاستبرق: هو ما غَلُظ من الدِّيباج، من الحرير.

وليس مكان أريد من الجنة إلا طارت إليه، يعني: أن في يده هذه القطعة من الاستبرق، وأي مكان يريد من الجنة توصله إليه كأنها جناح طائر، يعني كأن هذه القطعة من الاستبرق جناح طائر تبلغه إلى أي مكان يريد من الجنة.

فقصَّ هذه الرؤيا على أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقصتها على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: أرى عبدالله رجلًا صالحًا. وهذه شهادة عالية من النبي لابن عمر رضي الله عنهما بالصلاح.

قصة رؤيا ابن عمر رضي الله عنهما للنار

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بروايةٍ أخرى:

140 – (2479) قال حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِعَبْدٍ- قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا أَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ ، قَالَ: وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا عَزَبًا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيِ الْبِئْرِ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ. فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُاللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُاللهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.

هذه أيضًا رؤيا أخرى: عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان رجلًا شابًّا، وكان أيضًا غير متزوج، أعزب، وكان ينام في المسجد، فتمنى أن يرى رؤيا حتى يقصها على رسول الله ، وتكون هذه الرؤيا فيها خير له، فرأى في النوم ملكين أخذاه فذهبا به إلى النار، فإذا هي مطويَّة كطي البئر، يعني هذه النار مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقَرْنَيِ البئر، قال القرطبي: القرنان منارتان تُبْنَيَان على جانبي البئر، يُجعل عليها الخشبة التي تُعلَّق عليها البكرة، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، يعني في النار ناس قد عرفهم، لكنه لم يسمهم، من باب الستر عليهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار. فلَقِيَهما مَلَك فقال لي: لم تُرَعْ. فقصصتها على حفصة رضي الله عنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل. كيف فهم النبي عليه الصلاة والسلام من رؤيا ابن عمر رضي الله عنهما للنار أن ابن عمر أنه ممدوح؟

قال أهل العلم: لأن عَرْض النار على ابن عمر رضي الله عنهما ثم معافاته منها، وقول الملك له: لم ترع، لا روع عليك. هذا يدل على صلاحه، فلذلك؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم الرجل عبدالله. فأثنى عليه، فهذا أيضا من دقائق علم التعبير، يعني عرض على النار ثم عفي عنه، هذا يدل على صلاحه، غير أنه لم يكن يقوم من الليل، ولو كان ذلك ما عُرض على النار -هذا من كلام القرطبي- ولا رآها، ففيه: أن قيام الليل مما يتقى به النار.

فوائد من قصة رؤيا عبد الله بن عمر

من فوائد هذه القصة:

  • أولًا: فضل ابن عمر رضي الله عنهما، فقد وصفه النبي بأنه رجل صالح، وهذه شهادة عظيمة عالية رفيعة من النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاح لهذا الصحابي الجليل.
  • أيضًا من الفوائد: جواز تمني الرؤيا الصالحة؛ ليعرف صاحبها ماله عند الله، وتمني العلم والخير والحرص عليه؛ فإن ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث قال: تمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي . فحصل له ما تمنى، فلا بأس أن يتمنى الإنسان رؤيا، وأن الله تعالى يجعل عاقبة هذه الرؤيا خيرًا، وأن تكون رؤيا خير هذا لا بأس به.
  • أيضًا من الفوائد: رؤية الملائكة في المنام، وتحذيرهم للرائي؛ لقوله: فرأيت ملكين أخذاني..، فيمكن أن تُرى الملائكة في المنام كما حصل لهذا الصحابي الجليل.
  • أيضًا من الفوائد: أن بعض الرؤى لا تحتاج إلى تعبير، وأن ما يراه في المنام هو تفسيره في اليقظة، يعني: كفلق الصبح؛ لأن النبي لم يزد على تفسير ما فسَّر الملكان به هذه الرؤيا، يعني أنها على ظاهرها، فبعض الرؤى تكون على ظاهرها، لا تحتاج إلى تعبير، ولا تحتاج إلى تفسير.
    ولهذا؛ فالمُعبِّر عندما يُعبِّر الرؤيا، أحيانًا تكون هذه الرؤيا رموزًا تحتاج إلى فك هذه الرموز والتعابير، وأحيانًا تكون الرؤيا على ظاهره، كما في رؤيا ابن عمر هذه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قُبَيْلَ أن يأتيه الوحي لمدة ستة أشهر كان لا يرى في المنام رؤيا إلا رآها كفلق الصبح، أيضًا كما في هذه القصة في رؤيا ابن عمر رضي الله عنهما كانت على ظاهرها، وعبرت على ظاهرها، عبرها النبي عليه الصلاة والسلام على ظاهرها.
    كذلك أيضًا: هناك رؤى لبعض الناس يرونها في المنام، ثم تتحقق بعد ذلك كما رأوها في المنام تمامًا، وهذا كثير، وأذكر من هذا على سبيل المثال قبل أن تأتي جائحة (كورونا) تقريبًا بعشرة أيام، وقبل تعليق العمرة لأجل جائحة (كورونا)، حدثني رجل أحسبه من الصالحين، قال: إني رأيت الكعبة وليس يطوف بها أحد، وأناس ليسوا كثيرين يصلون في المصابيح، فقلت له: هذه رؤيا عظيمة، متعلقة بالشأن العام، بشأن عام يعم المسلمين. سبحان الله! ما هي إلا عشرة أيام وتتحقق هذه الرؤيا كما رآها تمامًا، حيث حصلت هذه الجائحة (كورونا)، وعُلقت العمرة، وحصَل ما حصَل، وكان هذا المنظر الذي رآه في المنام رآه ورآه الناس أيضًا كلهم في اليقظة؛ فبعض الرؤى لا تحتاج إلى تعبير، وما يراه الإنسان في منامه يقع كما رآه تمامًا.
  • أيضًا من الفوائد: جواز النوم في المسجد؛ فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينام في المسجد، وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.
  • أيضًا من الفوائد: فضل قيام الليل، وأنه مما يُتقى به نار جهنم؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى ابن عمر رضي الله عنهما هذه الرؤيا، قال: نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل. فدل ذلك على أن صلاة الليل وقيام الليل مما يتقى به عذاب جهنم، وسرعة امتثال ابن عمر رضي الله عنهما لذلك، فكان ابن عمر رضي الله عنهما لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلًا.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن نجيب عن ما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة والأجوبة

حكم قول المأموم سمع الله لمن حمده

السؤال: هل من السُّنة للمأموم عند الرفع من الركوع أن يقول: سمع الله لمن حمده. ثم يقول بعد ذلك: ربنا ولك الحمد؟

الجواب: ليس هذا من السُّنة، السُّنة للمأموم أن يقول: ربنا ولك الحمد، وأما الذي يقول: سمع الله لمن حمده، فهو الإمام والمنفرد، أما المأموم فلا يقول: سمع الله لمن حمده؛ وإنما يقول: ربنا ولك الحمد.

حكم ترك صلاة الجمعة لمن خرج للبَرِّ للنزهة

السؤال: في أحد الأيام خرجنا في نزهة في البر في صبيحة يوم الجمعة، وكان أقرب جامع لنا يبعد عنا 20 كيلو مترًا؛ فلم نصل الجمعة، فهل هذا جائز؟ وما ضابط المسافة؟

الجواب: نعم، لا حرج عليكم، ضابط المسافة هي فرسخ، وهو تقريبًا 5 كيلو مترات، فإذا كنتم في البر، والبر يبعد عن أقرب بلد تقام فيه الجمعة أكثر من 5 كيلو، فتسقط عنكم الجمعة، وتصلونها ظهرًا، لكن ينبغي ألا يُتخذ هذا عادة، لا تذهبوا كل جمعة للبَرِّ وتتركون صلاة الجمعة، لكن لو حصل هذا أحيانًا، وبصفة عارضة ذهبتم صبح الجمعة للبر، وكان البر يبعد عن أقرب بلد تقام فيه الجمعة أكثر من 5 كيلو مترات، فلا حرج عليكم، وتسقط عنكم الجمعة، وتصلونها ظهرًا أربع ركعات.

صلى الظهر في الطائرة ويعلم أنه سيصل قبل العصر

السؤال: شخص مسافر، وأقلعت الطائرة قبل الظهر، وستصل لبلده وقت العصر، واجتهادًا منه صلى الظهر بالطائرة على الكرسي لعدم وجود مكان للصلاة، ولم يتثبت من القبلة، هل فعله هذا صحيح؟

الجواب: كان الذي ينبغي له أن يجمع بين الظهر والعصر، ويصلي الظهر مع العصر إذا هبطت الطائرة؛ لأنه مسافر، والمسافر له الجمع بين الظهر والعصر، لكن فعله هذا صحيح، صلاته هذه صحيحة؛ فإنه لم يختر رخصة الجمع وصلى وهو في الطائرة، ولم يتيسر له أن يأتي بالصلاة بجميع أركانها وشروطها وواجباتها، وصلى على الكرسي فصلاته صحيحة، لكن مستقبَلًا الأحسن أن يجمع الظهر مع العصر في هذه الصورة جمع تأخير، حتى يأتي بالصلاة بجميع أركانها وشروطها وواجباتها.

حكم الزواج للمصاب بضمور العضلات

السؤال: أنا شاب عندي صعوبة في المشي والنهوض، مصاب بمرض مزمن، ضمور في العضلات، وهو من الأمراض النادرة التي تصيب عضلات الجسم، ويتطور كل سنة شيئًا فشيئًا حتى تفقد العضلة جميع وظائفها، حتى لا يستطيع المريض الحركة، وأنا لم أتزوج إلى الآن، فما هو توجيهكم لي في مثل هذه الحالة بالزواج؟

الجواب: أولًا: نسأل الله تعالى أن يعظم لك الأجر والمثوبة، وينبغي أن تصبر، وأن تتأقلم مع ظروفك، وألا تكون متسخِّطًا ولا متشكيًا؛ لأن التسخط والتشكي لا يفيد، بل يزيد الإنسان حسرة وألمًا، ولا يستفيد شيئًا، لكن تتأقلم مع ظروفك وتحمد الله ​​​​، وتسأل الله تعالى أن يعوضك خيرًا، وتسأل الله تعالى أيضًا أن يشفيك؛ فإن الله يقول: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ[الأنعام: 17]. وما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء؛ علمه من علمه، وجهله من جهله [14]. فتتضرع إلى الله تعالى، الذي أنصحك به أنك تتضرع إلى الله، خاصة في الثلث الأخير من الليل، في السجود كل ليلة تلح على الله ​​​​​​​ في الدعاء بأن يكشف الله تعالى عنك الضر، وأن يشفيك الله تعالى، وأما بالنسبة للزواج؛ فإذا كنت قادرًا على الزواج وعندك الباءة والقدرة، فلا بأس أن تتزوج، وتخبر المرأة بذلك، تكون المرأة على وضوح، فإذا رَضِيَت بذلك فلا بأس.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1358، ومسلم: 2658.
^2 رواه مسلم: 1826.
^3 رواه مسلم: 2473.
^4 رواه البخاري: 1006، ومسلم: 2516.
^5 ينظر: تخريج الحديث السابق.
^6 رواه الترمذي: 1956، وقال: حسنٌ.
^7 رواه مسلم: 2626.
^8, ^10 سبق تخريجه.
^9 رواه أبو داود: 4842.
^11 رواه البخاري: 143.
^12 رواه أحمد: 2397.
^13 رواه مسلم: 2732.
^14 رواه أحمد: 3578.
zh