الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعًا في هذا الدرس، وهو الدرس السابع والعشرون في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء، الثامن عشر من شهر رجب، من عام 1442 للهجرة.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
من فضائل أنس بن مالك
كنا قد وصلنا إلى: باب من فضائل أنس بن مالك .
لا زلنا في فضائل الصحابة ، ووصلنا إلى فضائل هذا الصحابي الجليل.
قال الإمام مسلم رحمه الله:
141 – (2480) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ، ادْعُ اللهَ لَهُ. فَقَالَ: اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى، ثم ساقه من روايةٍ أخرى:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي. فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللهِ، خُوَيْدِمُكَ، ادْعُ اللهَ لَهُ. قَالَ فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ أَنْ قَالَ: اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث أيضًا من طريقٍ أخرى:
فَقَالَ: اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ. قَالَ أَنَسٌ : وَاللهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ.
ثم أيضًا ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى عن أنس :
قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ ، فَسَمِعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ صَوْتَهُ فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ! أُنَيْسٌ. فَدَعَا لِي رَسُولُ اللهِ ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ، قَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ فِي الْآخِرَةِ.
قصة دعاء النبي لأنس بن مالك
أنس بن مالك، الصحابي الجليل: هو أنس بن مالك بن النضر، توفي أبوه وهو صغير، وأمه أم سُليم، وتزوجت أمه بعد وفاة أبيه بأبي طلحة، وسبق أن تكلمنا عن فضائل أمه، وقصة أمه مع أبي طلحة لما مات ذلك الغلام، وقال لهما النبي عليه الصلاة والسلام: بارك الله لكما في ليلتكما [1].
هنا ذكر المصنف فضائل هذا الصحابي الجليل، معنى ذلك: أنه كان من صغار الصحابة لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، كان عمره عشر سنوات، فأتت به أمه أم سُليم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وفي بعض الروايات: أنها سمعت صوت النبي عليه الصلاة والسلام، وفي رواية أخرى: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها وأختها أم حرام، وكانتا خالتي النبي عليه الصلاة والسلام من الرضاع، يعني من محارمه، فأم سُليم كانت كما مر معنا في ترجمتها من العاقلات الراشدات الصالحات القانتات، فقالت: يا رسول الله خُوَيْدِمُك أنسٌ، ادع الله له. وساق المصنف أيضًا هذه القصة بعدة روايات، وساقها البخاري عن أنس أن النبي لما قدم إلى المدينة جاءت به أمه أم سُليم، فقالت: يا رسول الله، خويدمك أنس فادع الله له، قال أنس: فدعا لي بثلاث دعوات رأيت منهن اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة، قال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه، وأطل عمره، واغفر ذنبه [2]. فأكثر الله ماله حتى إنه من أكثر الأنصار مالًا، وحتى إن بستانه يثمر في السنة مرتين، والعادة: أن البساتين تثمر في السنة مرة واحدة، إلا بستان أنس كان يثمر في السنة مرتين ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأكثر الله تعالى ولده، جاء في رواية البخاري وقال: وحدثتني ابنتي أميمة أنه دُفن لصلبي سنة الحَجَّاج بضع وعشرون ومائة من الولد، وهذا يدل على أنه قد تزوج أربع زوجات، وأن عنده إماء أيضًا؛ لأن هذا العدد الكثير لا يكون إلا كذلك، فأكثر الله تعالى أولاده، وفي إحدى الروايات هنا قال: وإنهم ليتعادُّون نحو المائة؛ ولدُه وولدُ ولدِه، يعني: أولاده وأحفاده.
لكن في رواية البخاري: قال: حدثتني ابنتي أمية أنه دفن لصلبي سنة الحَجَّاج بضع وعشرون ومائة من الولد.
وأطال الله عمره حتى جاوز مائة سنة، حتى قال: إني قد استحييت من أهلي واشتقت للقاء ربي، تجاوز المائة عام.
قال: وأنا أرجو الثالثة في الآخرة، وهي مغفرة الذنوب، كل هذا ببركة دعاء النبي .
فوائد من حديث اللهم أكثر ماله وولده ..
- وفي هذا من الفوائد: جواز الدعاء بكثرة المال والولد، ولكن ينبغي أن يقيد ذلك بطاعة الله بأن تكون عونًا للإنسان على طاعة الله سبحانه؛ لأن الأموال والأولاد فتنة؛ كما قال سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ[الأنفال: 28]. وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[التغابن: 14]. ولذلك ينبغي أن يقيد ذلك بطاعة الله سبحانه.
فإن قال قائل: في هذه القصة لم يقيد النبي عليه الصلاة والسلام دعاء لأنس بذلك؟
الجواب: بلى، قال: وبارك له فيه. والبركة تقتضي أن يكون ذلك عونًا له على طاعة الله عز وجل.
والمال إذا أخذه الإنسان بحق، وصرفه في مصارفه الشرعية كان خيرًا، ولذلك؛ سماه الله تعالى خيرًا: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ يعني المال لَشَدِيدٌ[العاديات: 8]، وقال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ[البقرة: 180]. فسمَّى الله المال خيرًا، فهو خير للإنسان إن أحسن الإفادة منه؛ اكتسبه من طريق حلال، وصرفه في مصارفه الشرعية، كان بركة على الإنسان وخيرًا له.
وقد يكون نقمة على الإنسان وشرًّا؛ كما قال الله تعالى عن المنافقين: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ[التوبة: 55]. فقد يكون المال والولد نقمة يعذب الله تعالى بها الإنسان في الدنيا.
فإذَنْ، لا بأس أن يسأل الإنسانُ ربَّهَ كثرة المال والولد، لكن ينبغي أن يقيد ذلك بأن يكون هذا عونًا على طاعة الله عز وجل، أو يقول: بارك لي فيه، مثلًا: ارزقني مالًا وبارك لي فيه، أو ارزقني ولدًا وبارك لي فيه، ونحو ذلك.
- أيضًا من الفوائد: أنه لا بأس بالدعاء بطول العمر، ولكن ينبغي أن يقيد ذلك بأن يكون على طاعة الله، فلا بأس أن تقول لغيرك: أطال الله عمرك على طاعته، وإنما قلنا لا بد من تقييد ذلك بطاعة الله تعالى؛ لأنَّ طول العمر مع حسن العمل نعمة، وطول العمر مع سوء العمل نقمة، فطول العمر مع حسن العمل نعمة؛ لأن الإنسان تكثر حسناته، تكثر صلواته، يكثر صيامه، تكثر صدقاته، يكثر الذكر منه، تكثر منه الأعمال الصالحة؛ فيكون نعمة، وطول العمر مع سوء العمل نقمة؛ لأنه تكثر ذنوبه ومعاصيه؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي قال: خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله [3].
هل للإنسان أن يسأل الله تعالى لنفسه طول العمر؟
لا بأس، لكن ينبغي أن يقيد ذلك بطاعة الله، فلا بأس أن تقول في دعائك: اللهم أطل عمري على طاعتك، اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله، فهذا من الدعاء الحسن، ومن الدعوات الطيبات التي يغفل عنها كثير من الناس، كون الإنسان يُعَمَّر على طاعة الله عز وجل هذا فيه خير كثير؛ لأنه يكسب بذلك حسنات عظيمة؛ تكثر صلواته ويكثر صيامه وتكثر أعماله الصالحة، فيكسب بذلك أجرًا عظيمًا، ولذلك؛ جاء في بعض الأحاديث، في قصة الرجلين اللذين مات أحدهما قبل الآخر، قُتلا في معركة في سبيل الله، ثم مات صاحبه بعد ذلك على فراشه، ورؤي صاحبه في منزلة أعلى من منزلة الذي مات شهيدًا، فسئل النبي فقال: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟. قالوا: بلى. قال: وأدرك رمضان فصام، وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ [4]. أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فطول العمر مع حسن العمل تكثر معه الأعمال الصالحة؛ فيكون نعمة على الإنسان، ولكن طول العمر مع سوء العمل نقمة على الإنسان، ولهذا؛ لا بأس أن يدعو المسلم ربه فيقول: يا ربِّ أطل عمري على طاعتك، اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله.
حفظ أنس لسر النبي
نعود بعد ذلك لسياق المصنف رحمه الله:
145 – (2482) قال حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ، وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ لِحَاجَةٍ، قَالَتْ: ومَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللهِ أَحَدًا. قَالَ أَنَسٌ: وَاللهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ. يعني: الراوي عن أنس.
146 – (2482) حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَسَرَّ إِلَيَّ نَبِيُّ اللهِ سِرًّا، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي عَنْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ.
هذا يعد من مناقب أنس أنه حفظ سر رسول الله ، أسر له النبي عليه الصلاة والسلام وهو صبي بسر، فما حدث به أحدا، حتى إنه ما حدث به أمه، ولا حدث به أصحابه حتى مات؛ وهذا يدل على أنه ينبغي لمن أُسِرَّ له بسرٍّ أن يحفظ السر، وألا يشيعه، فإن هذا من مقتضَى الأمانة.
مقتضى الأمانة: أن الإنسان إذا حدثك بحديث سر أن تحفظ له سره، ولا تذيعه ولا تنشره، وكون الإنسان يفشي أسرار غيره هذه من الخصال الذميمة، وهي من خصال المنافقين، ومهما كان من خصومة مع ذلك الإنسان ينبغي أن تحفظ له سره، بعض الناس إذا خاصم فجر؛ إذا وقع بينه وبين أحد خصومة فإنه يَفْجُر ويفشي الأسرار، ويكذب ويشوه سمعة من خاصمه، ويفجر معه في الخصومة فجورا عظيما، هذه من أخلاق المنافقين، الفجور في الخصومة من أخلاق المنافقين، المؤمن إذا خاصم فإنه يحفظ لأخيه المسلم حقه، ويحفظ عليه سره، ولا يفجر في الخصومة؛ وإنما الخصومة لا تتعدى الشيء الذي تخاصم به مع صاحبه، أما أن الإنسان يفجر في خصومته مع غيره، ويفشي أسراره، ويشوه سمعته، ويكذب عليه، هذا لا يجوز، هذه ليست من أخلاق المؤمنين، هذه من أخلاق المنافقين.
فانظر إلى أنس هذا الصبي حفظ سر النبي عليه الصلاة والسلام، ولما أخبر أمه شجعته على ذلك، وقالت: لا تحدثن بسر رسول الله أحدا. وكثير من النساء إذا أخبرها ابنها بأن عنده سرًّا تحاول أن تستنطقه هذا السر، وأن تلح عليه، وأن تحاول معه، ويكون عندها فضول، لكن انظر إلى أم سُليم، لما أخبرها ابنها أنس بأنه سر، قالت: لا تُحَدثن بسر رسول الله أحدًا.
فضائل عبدالله بن سلام
ننتقل بعد ذلك إلى: باب فضائل عبدالله بن سلام .
قصة إسلامه
عبدالله بن سَلَام: هو عبدالله بن سلام بن الحارث، كان من يهود بني قَيْنُقَاع، وهو من ذرية يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام، وكان اسمه في الجاهلية الحُصَين، فسماه النبي عبدالله.
قال: لما قدم النبي المدينة، كنت ممن انجَفَل إليه [5]، يعني: انجفل إليه ناس كثير كان عبدالله بن سلام منهم.
قال: فلما تبينتُ وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصَلُّوا بالليل والناس نِيَامٌ، تدخلوا الجنة بسلامٍ [6].
فانظر كيف أن عبدالله بن سلام تفرس في وجه النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى وجهه قال: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، الإنسان إذا كان عنده فراسة يستطيع أن يعرف الكاذب من الصادق؛ يعرفه من تعابير وجهه، يعرفه من كلامه، يعرفه من ثقته في نفسه وثقته في حديثه، يعرفه من منطقه، فالإنسان إذا كان فطنا وعنده فراسة يستطيع أن يميز الصادق من الكاذب، ولذلك؛ قال: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. عندما تنظر لأحد الناس مثلا يتحدث، تعرف أن وجهه ليس بوجه كذاب، إنسان صادق، وعندما تنظر لآخر تعرف أنه إنسان كذاب؛ عنده ما يخفيه، يظهر الكذب على تعابير وجهه، وعلى لحن القول، وعلى منطقه.
عبدالله بن سلام لما أسلم -وكان سيد قومه- قال النبي عليه الصلاة والسلام: اجلس خلف هذا الجدار، ونسأل اليهود عنك. فأتاه اليهود، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لهم: ما تقولون في ابن سلام؟ قالوا: هو خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأفضلنا، وأثنوا عليه ثناء كبيرًا، فخرج ونادى النبي عليه الصلاة والسلام عبدالله بن سلام قال: اخرج عليهم. فخرج فقال: إني أسلمت، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قالوا: هو شرُّنا وابن شرِّنا، وهو من أسوأنا، وهو كذا..، وذموه، قال: يا رسول الله، إنهم قوم بَهْتٍ، إنهم قوم بهت؛ قبل قليل تقولون: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وسيدنا. ثم لما أسلم تقولون: هو شرنا وابن شرنا، وهو أسوأنا! فقال: يا رسول الله، إنهم قوم بهت. فهداه الله عز وجل للإسلام مع أنه كان يهوديًّا، ونزل فيه قول الله عز وجل: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ[الأحقاف: 10]. وعند جمهور المفسرين أن هذا الشاهد من بني إسرائيل أنه عبدالله بن سلام ، ومات في أول خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين (43) للهجرة.
شهادة النبي له بالجنة
147 – (2483) قال حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي -يعني: سمعتُ سعد بن أبي وقاص- يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ لِحَيٍّ يَمْشِي: إِنَّهُ فِي الْجَنَّةِ. إِلَّا لِعَبْدِاللهِ بْنِ سَلَامٍ.
يعني: أنه ممن شهد له النبي بالجنة، لكن قول سعد: ما سمعتُ رسول الله يقول لحيٍّ يمشي: إنه في الجنة. إلا لعبدالله بن سلام. يشكل عليه أن النبي عليه الصلاة والسلام شهد لأناس كثير من الصحابة بأنهم في الجنة؛ ومنهم: العشرة المبشرون بالجنة، وأيضا أخبر بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وعُكَاشة بن مِحْصَنٍ أيضًا شهد له بالجنة، وثابت بن قيس شهد له بالجنة، وغيرهم، قال أهل العلم: إن سعدًا لم ينف أصل الإخبار وشهادة النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة لبعض أصحابه؛ وإنما نفى فقط ما سمعه، فقال: ما سمعتُ..، فهو فقط نفى السماع عن نفسه؛ ولم ينف أصل الإخبار، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن عدد من أصحابه بأنهم من أهل الجنة.
فعبدالله بن سلام ممن شهد له النبي بالجنة.
147 – (2484) قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ فِي نَاسٍ فِيهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وَجْهِهِ أَثَرٌ مِنْ خُشُوعٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَاتَّبَعْتُهُ، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَدَخَلْتُ فَتَحَدَّثْنَا، فَلَمَّا اسْتَأْنَسَ قُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ لَمَّا دَخَلْتَ قَبْلُ، قَالَ رَجُلٌ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ عبدالله بن سلام: سُبْحَانَ اللهِ! مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ.
كان الناس إذا رأوا عبدالله بن سلام قالوا: هذا من أهل الجنة. فتبعه قيس بن عباد ، وقال: أخبره بذلك. فتعجب عبدالله بن سلام، قال: سبحان الله! ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم.
فيحتمِل: أن سعد بن أبي وقاص سمع بأن ابن سلام من أهل الجنة، وأن عبدالله بن سلام لم يعلم بذلك.
ويحتمِل: أنه كان يعلم بذلك، لكنه كره الثناء عليه بذلك تواضعا، وإيثارا للخمول، وكراهة للشهرة، فيحتمل هذا ويحتمل هذا، كأنه يقول: حتى وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام شهد بأني من أهل الجنة، ينبغي ألا تفعلوا ذلك، وألا تقولوا هذا رجل من أهل الجنة. فمن باب التواضع هذا هو الأقرب؛ لأن الاحتمال الأول يعني: أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام شهد له بالجنة وعلم سعد ولم يعلم ابن سلام بعيد؛ لأن مثل هذا الخبر مما تتوافر الدواعي لنقله إلى عبدالله بن سلام ؛ كون النبي عليه الصلاة والسلام يشهد لرجل بأنه من أهل الجنة ولا يبلغ ذلك الرجلَ الخبرُ، هذا بعيد، فبعض الأخبار تتوافر الدواعي لنقلها ولمعرفة صاحبها بها، وأضرب مثالا: خبر يهمك كثيرا، والناس تعلم به وأنت لا تعلم؛ فلا بد أن يأتي أحد ويخبرك بهذا الخبر، ربما لا تعلم لفترة قصيرة، لكن أن يمتد الزمن ولا تعلم بذلك الخبر، وهذا الخبر خبر يهمك كثيرا، هذا بعيد، كذلك أيضا هنا، هذا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فالاحتمال الأول: أن سعدًا كان يعلم وعبدالله بن سلام لا يعلم بعيد، والاحتمال الثاني هو الأقرب، وهو: أن عبدالله بن سلام -من باب التواضع- كره أن يقال له ذلك، ولهذا؛ قال: سبحان الله! ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم. يعني: من باب التواضع، واتركوا هذا الكلام، ونحو ذلك.
ثم قال:
وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ؟
يعني: لِمَ شهد النبي عليه الصلاة والسلام بأني من أهل الجنة، وهذا يؤكد الاحتمال الثاني، وهو أنه كان يعلم؛ وإنما قال ذلك من باب التواضع، قال:
رؤيا عبد الله بن سلام التي قصها على النبي
رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، رَأَيْتُنِي -يعني في المنام- فِي رَوْضَةٍ -ذَكَرَ سَعَتَهَا وَعُشْبَهَا وَخُضْرَتَهَا- وَوَسْطَ الرَّوْضَةِ عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ، وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ، فَقِيلَ لِي: ارْقَهْ. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَسْتَطِيعُ. فَجَاءَنِي مِنْصَفٌ -قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَالْمِنْصَفُ الْخَادِمُ- فَقَالَ بِثِيَابِي مِنْ خَلْفِي -وَصَفَ أَنَّهُ رَفَعَهُ مِنْ خَلْفِهِ بِيَدِهِ- فَرَقِيتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى الْعَمُودِ، فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقِيلَ لِيَ: اسْتَمْسِكْ. فَلَقَدِ اسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي، فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ. قَالَ: وَالرَّجُلُ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلَامٍ.
هذه رؤيا رآها عبدالله بن سلام ، قصها على النبي عليه الصلاة والسلام، وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى صلاة الصبح يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فإذا ذكر أحد رؤيا قصها على النبي عليه الصلاة والسلام وعبرها له النبي [7].
عبدالله بن سلام رأى هذه الرؤيا، وقصها على النبي عليه الصلاة والسلام؛ رأى أنه في روضة، فسَّر النبي عليه الصلاة والسلام الروضة بأنها روضة الإسلام، قال: ووسط الروضة عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، عبَّر النبي عليه الصلاة والسلام ذلك بأنه عمود الإسلام، في أعلاه عُرْوَة، عبَّر ذلك بأنها العروة الوثقى، قال: فأتاني منصف، يعني: خادم، بثيابي فرقيت حتى كنت في أعلى العمود، فأخذت بالعروة فقيل لي: استمسك، فقال: أنت على الإسلام وعلى العروة الوثقى حتى تموت، فهذا هو تعبير هذه الرؤيا، فالروضة تعبر بالإسلام.
ففكرة تعبير الرؤى؛ جزء منها موهبة، وجزء آخر مكتسب، وهي تعتمد على فك الرموز، تكون هذه الرؤيا فيها رموز، ويكون عند المعبر فِرَاسة، ويكون أيضا عنده علم، فيفُكُّ هذه الرموز، وقد تكون رؤيا على ظاهرها، وهو قليل، كان هذا يحصل للنبي عليه الصلاة والسلام في أول الإسلام؛ كان لا يرى في المنام رؤيا إلا كانت في النهار مثل فلق الصبح، لكن أكثر الرؤى تحتاج إلى تعبير، والتعبير يكون بطريقة فك الرموز، فهنا في هذه الرؤيا: الروضة: الإسلام، والعمود الذي أسفله في الأرض وأعلاه في السماء: عمود الإسلام، والعروة الموجودة على هذا العمود: هي العروة الوثقى، استمسك بهذه العروة، يعني: أنه سيتمسك وسيبقى على الإسلام حتى يموت.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث برواية أخرى أيضا في الرؤيا، وبمعنى هذا الحديث، ثم ساقه أيضا من حديث قتيبة أيضا برواية أخرى فيها بعض الزيادات، قال:
سَأُحَدِّثُكَ مِمَّ ذَاكَ، إِنِّي بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي: قُمْ. فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، قَالَ: فَإِذَا أَنَا بِجَوَادَّ عَنْ شِمَالِي، قَالَ: فَأَخَذْتُ لِآخُذَ فِيهَا، فَقَالَ لِي: لَا تَأْخُذْ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ، قَالَ فَإِذَا فيها جَوَادُّ مَنْهَجٌ عَلَى يَمِينِي.
جوادُّ يعني: طرقٌ.
فَقَالَ لِي: خُذْ هَاهُنَا، فَأَتَى بِي جَبَلًا، فَقَالَ لِيَ: اصْعَدْ. قَالَ: فَجَعَلْتُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَصْعَدَ خَرَرْتُ عَلَى اسْتِي. قَالَ: حَتَّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِرَارًا. قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَى بِي عَمُودًا رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَأَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ، وفِي أَعْلَاهُ حَلْقَةٌ، فَقَالَ لِيَ: اصْعَدْ فَوْقَ هَذَا. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْعَدُ هَذَا وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ؟! قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَلَ بِي. قَالَ: فَإِذَا أَنَا مُتَعَلِّقٌ بِالْحَلْقَةِ. قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ الْعَمُودَ فَخَرَّ. قَالَ: وَبَقِيتُ مُتَعَلِّقًا بِالْحَلْقَةِ حَتَّى أَصْبَحْتُ..
هذه الرؤيا فيها زيادات.
قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ: فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ. قَالَ: وَأَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ: فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْجَبَلُ: فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ، وَلَنْ تَنَالَهُ.
يعني: لن تموت شهيدًا؛ لأن عبدالله بن سلام أراد أن يصعد الجبل فما استطاع، ولذلك؛ قال: إنك لن تنال الشهادة.
وَأَمَّا الْعَمُودُ: فَهُوَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ: فَهِيَ عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَنْ تَزَالَ مُتَمَسِّكًا بِهَا حَتَّى تَمُوتَ.
هكذا عبَّر النبي هذه الرؤيا.
فوائد من حديث عبد الله بن سلام
من فوائد هذا الحديث:
- أولًا: فضل عبدالله بن سلام ، وأن النبي شهد له بالجنة، وكما قال سعد بن أبي وقاص : ما سمعتُ النبي يقول لحي يمشي: إنه في الجنة. إلا عبدالله بن سلام .
- وأيضًا: كونه كان من علماء ومن أحبار ومن سادة اليهود، ثم أسلم فأصبح من سادات المسلمين، فهذا يدل على فضل هذا الرجل، ولذلك؛ ذكره الله سبحانه في قوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ[الأحقاف: 10]. وهو عبدالله بن سلام، في قول جماهير المفسرين.
- من الفوائد: أن المبشَّرين بالجنة أكثر من عشرة، والعشرة المبشرون بالجنة لا يمنع أن غيرهم قد بشر أيضًا بالجنة، فالعشرة المبشرون بالجنة معروفون؛ أبو بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص [8]، وأبو عبيدة [9].
أيضًا بشَّر النبي كثيرًا من الصحابة؛ كما في هذا الحديث، بشَّر عبدالله بن سلام، وأيضًا بشَّر كذلك عُكَاشة بن مِحْصَن [10]، وأيضًا بشَّر بلالًا [11]، وبشَّر خديجة [12]، وبشَّر عائشة [13]، رضي الله عنهم.
كذلك أيضًا: أهل بدر، بشرهم بالجنة وقال: إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم [14].
وأهل بيعة الرضوان أيضًا: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18]، فهؤلاء كلهم من أهل الجنة؛ فهذا يدل على أن المبشرين بالجنة أكثر من عشرة.
- أيضًا من الفوائد في هذه القصة: فيها علم من أعلام النبوة؛ إذ إن النبي أخبر عبدالله بن سلام أنه لن يموت شهيدًا، فوقع الأمر كما قال، مات على فراشه في أول خلافة معاوية، فهذا علم من أعلام النبوة.
- أيضًا من الفوائد: أن الإنسان إذا كان حريصًا على طلب الحق هداه الله تعالى للحق؛ فعبدالله بن سلام كان من أحبار اليهود ومن سادات اليهود، لكنه كان يَنشُد الحق ويطلب الحق، ولم يكن صاحب هوًى، فهداه الله للحق، وتبين له أن الحق هو دين الإسلام؛ فأسلم وأصبح من سادات المسلمين.
فضائل حَسَّان بن ثابت
ننتقل بعد ذلك إلى: باب فضائل حَسَّان بن ثابت .
وحسان: هو حسان بن ثابت بن المنذر، من بني النجار، الأنصاري الخزرجي، شاعر رسول الله ، كان شاعر الأنصار وشاعر رسول الله وشاعر أهل اليمن كلهم، قيل له: هَرِمَ شِعرك في الإسلام. يعني: أنه لَانَ وقَلَّت جودته، فماذا قال حسان؟ قال: إن الإسلام يحجز عن الكذب. أي: أن الشعر لا يُجَوِّدُه إلا الإفراط والتَّزَيُّن في الكذب، والغزل والمبالغات، كما قيل: أعذبه أكذبه. والإسلام يمنع من ذلك، وحسان من أفاضل الصحابة يمتثل تعاليم الإسلام، فهذا هو السبب الذي لأجله قَلَّت جودة شِعره، وهذا معنى جوابه لما قيل له: هَرِمَ شِعرك في الإسلام يا أبا الحسام. قال: إن الإسلام يحجُز عن الكذب.
بطلان دعوى أن حسان كان جبانًا
أُنبِّه هنا إلى أنه في بعض الكتب، وأيضا ربما في بعض المقاطع، الذين يتحدثون عن سيرة حسان بن ثابت، أنهم يصفونه بأنه كان جبانا، وهذا الوصف لا أصل له، وهو غير صحيح، وفيه إساءة لهذا الصحابي الجليل ، قد أنكر كثير من علماء الإسلام ذلك؛ لو كان حسان جبانا لما استطاع أن يهجو كفار قريش؛ لأنهم سيصفونه بذلك؛ لأن الجبن هو من أسوأ الخصال التي يتصف بها الإنسان، ولو كان حسان جبانًا لكان لمَّا هجا كفار قريش هجوه بأنه كان جبانًا، بينما لا يحفظ عن أحد منهم أنه هجاه بذلك، أو أنه وصفه بذلك، ثم لو كان جبانا لما جرؤ على أن يهجو كفار قريش بهذا الشعر الجزل العظيم؛ فهذه المقولة مقولة لا أصل لها، قالها بعض الناس للنيل من هذا الصحابي الجليل، وربما أنها أُخذَت من بعض الكفار، ونُقلت لبعض المسلمين، فهذه المقولة فيها إساءة لهذا الصحابي الجليل، هذا الصحابي لم يكن جبانا قط؛ بل كان شجاعا كريما، شاعر النبي ، كان من فحول الشعراء، ذب عن الإسلام بشعره، وذب عن النبي وعن القرآن بشعره، وسخَّر شعره دفاعا عن رسول الله وعن دين الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
قال المصنف رحمه الله:
151 – (2485) حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ عَمْرٌو، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَسَّانٍ وَهُوَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: أَجِبْ عنِّي، اللهم أَيِّدْهُ بروح القدس؟ قَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ.
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طريق أخرى.
وأيضا ساقه من طريق أخرى كذلك:
وقال إنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة أَنشُدك الله، هل سمعت النبي يقول: يا حسان، أَجِبْ عن رسول الله ، اللهم أَيِّدْهُ بروح القدس. قال أبو هريرة: نعم.
حسان بن ثابت كان يُنشِد الشعر في المسجد، فدخل عمر ولحظ إليه، يعني: أنكر عليه ببصره، نظر إليه نظرة إنكار، فقال حسان لعمر رضي الله عنهما: قد كنت أُنشِد وفيه من هو خير منك. يعني: رسول الله ، وأقرني على ذلك.
عمر وقَّاف عند كتاب الله، وعند سنة رسول الله ، فأراد حسان أن يقوي مقولته هذه؛ فالتفت إلى أبي هريرة وقال: أَنشُدك الله، أسمعت رسول الله يقول: أَجِبْ عنِّي، اللهم أيده بروح القدس. قال: اللهم نعم.
فوائد من حديث اللهم أيده بروح القدس
- دل هذا الحديث على فضل حسان ؛ لأن النبي أمره بأن يجيب وأن يرد على كفار قريش، ودعا له بهذه الدعوة العظيمة، قال: اللهم أيده بروح القدس. وهو جبريل ؛ وهذا يدل على فضله.
- أيضا من الفوائد: جواز إنشاد الشعر في المسجد إذا كان مباحًا، واستحبابه إذا كان فيه مدائح للإسلام وأهله، أو فيه هجاء للكفار ونحو ذلك، مثل: شعر قصائد الوعظ، أو قصائد الحَثِّ على الفضائل، أو قصائد التحذير من الرذائل، لو قيلت في المسجد لا بأس بها، أو حتى شعر مباح يقال في المسجد لا بأس به؛ وإنما الممنوع: ألا يكون الشعر مباحا؛ كأن يكون غزلا مثلا، أو أن يكون فيه كذب أو مبالغات، أو نحو ذلك، فهذا لا يقال لا في المسجد ولا في غير المسجد.
- أيضًا من الفوائد: استحباب الدعاء لمن قال شِعرًا في الدفاع عن الإسلام وأهل الإسلام؛ فإن النبي دعا لحسان وقال: اللهم أيِّده بروح القدس. فلو سمعت شاعرًا ينافح عن الإسلام، أو ينافح عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو يدعو للفضائل، أو ينهى عن الرذائل، أو نحو ذلك، ينبغي أن تشجعه، وأن تدعو له بالتأييد والتوفيق ونحو ذلك.
- أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للإنسان أن يُثَبِّت دعواه بالاستشهاد بغيره تأكيدا عليه وإن كان لا يُتَّهم؛ فإن عمر لما لَحَظَ حسانًا استشهد بأبي هريرة ؛ لأجل أن يقوي موقفه، وإن كان الإنسان بعيدًا عن التهمة، لكن لا بأس بأن يستشهد بأحد الحاضرين لكي يشهد معه ويؤيد مقولته ويقوِّي موقفه.
الشِّعر هل هو مذموم؟
الشعر لم يرد في القرآن الكريم إلا على سبيل الذم؛ فالله تعالى قال عن نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ[يس: 69]. فهو لا يليق بمقام الأنبياء، ولا يليق أيضًا بمقام الأولياء ولا العلماء، ولهذا؛ قال الإمام الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يُزْرِي | لكنت اليوم أشعَرَ من لَبِيدِ |
لكن من أراد أن يوظف شعره في الدفاع عن الإسلام، وعن النبي ، وعن القرآن، وعن أهل الإسلام ونحو ذلك؛ كان شعره محمودًا؛ كما كان يصنع حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، وكعب بن مالك، وغيرهم من شعراء الصحابة ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يشجعهم، وكان يدعو لهم، ويقول لحسان : اللهم أيده بروح القدس.
على هذا نقول: الشعر يختلف باختلاف طبيعة هذا الشعر، الأصل في الشعر الذم؛ لأن الله تعالى قال: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، يعني إذا كان أتْبَاع الشعراء وَصَفَهم الله تعالى بالغَوَايَة، فالشعراء أنفسُهم أولى بوصف الغَوَايَة، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَأَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَوَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ[الشعراء: 224-226]. ينتقلون من الغَزَل إلى المدح، إلى الذم، إلى المبالغات، إلى الإطراء؛ ينتقل من واد إلى واد، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ كله كلامٌ ليس فيه فعلٌ، لكن الله عز وجل استثنى منهم، قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا[الشعراء: 227]. يعني: فهؤلاء لا يلحقهم الذنب، فمن وَظَّفَ شعره في الدفاع عن الإسلام وأهله، وعن القرآن، وفي الدعوة لترسيخ الفضائل والتحذير من الرذائل، كان شعره حسنًا، وكان صنيعه محمودًا، ولكن مع ذلك، ينبغي ألا يكثر من الشعر، لقول النبي : لَأَنْ يمتلئ جوف أحدكم قَيْحًا يَرِيهِ، خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا [15] رواه البخاري ومسلم. أي: لَأَنْ يمتلئ أحدكم قيحًا يريه، يعني: قيحًا تمتلئ به الرئة. خير له من أن يمتلئ شعرًا؛ لأن الإنسان إذا امتلأ بالشعر، حتى وإن كان من الشعر المباح، فلا بد أن يكون ذلك على حساب ارتباطه بالقرآن، وارتباطه بالسنة، وارتباطه بالذكر ونحو ذلك: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ[الأحزاب: 4]، لا تجد إنسانًا مكثرًا من الشعر، وفي الوقت نفسه متعلقٌ قلبه بالقرآن، ومتعلقٌ قلبه بالمسجد، متعلقٌ قلبه بالذكر وبحلق العلم، أبدًا، لا يمكن أن يجتمعا، فهذا هو السبب.
فعلى هذا نقول: إن من كان عنده موهبة شعرية، فينبغي أن يغتنم هذه الموهبة، وأن يجعل شعره في الدفاع عن الإسلام وأهله، وعن القرآن، وعن الفضائل، وفي الرد على من هَجَا المسلمين من الكفار، ونحو ذلك، وأيضا لا يكثر من الشعر؛ لأنه إذا أكثر سيكون على حساب ارتباطه بالقرآن والذكر والعلم ونحو ذلك؛ إنما يكون معتدلا ولا يكثر من الشعر.
- أيضا من الفوائد: فضل المنافحة عن النبي وعن الإسلام وأهل الإسلام والقرآن؛ فإن النبي أمر حسانًا بذلك، أمره بالدفاع وقال: أجِبْ عن رسول الله . ثم دعا له وقال: اللهم أيده بروح القدس.
فبعض الناس ممن يرزق موهبة شعرية يجعل شعره في سبيل الدعوة إلى الله ، وفي سبيل الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعن الإسلام وأهل الإسلام والقرآن، فهذا شعره حسن، وصنيعه محمود، وقد يؤجر على ذلك.
ثم قال المصنف رحمه الله:
154 – (2487) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، كَانَ مِمَّنْ كَثَّرَ عَلَى عَائِشَةَ، فَسَبَبْتُهُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، دَعْهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللهِ .
موقف حسان من حادثة الإفك
هشام بن عروة، خالته عائشة رضي الله عنها، كان حسان ممن كثَّر على عائشة رضي الله عنها، حسان بن ثابت أحد الصحابة الذين وقعوا في الإفك؛ الإفك الذي تُكُلِّم فيه على أم المؤمنين الصديقة الطاهرة التي برأها الله من فوق سبع سماواته أم المؤمنين عائشة، وقع في نقل الإفك فقط بعض أفاضل الصحابة؛ ومنهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ، فجلدهم النبي ، وهذا يدل على خطورة نقل الكلام، إذا كان متعلقا بعِرض مسلم؛ فإن هؤلاء الصحابة من أفاضل الصحابة، ومسطح من البدريين، لكن نَقَلَ كلامًا سَمِعه، ومع ذلك لم يُعذَر، جلده النبي ، فإذا سمعتَ مقالا، أو أتاك مقطع فيه القدح في عرض مسلم من المسلمين، فإياك ثم إياك أن تنقل هذا الكلام، أو أن تنشر هذا المقطع؛ لأنك إن فعلت ذلك وكان الكلام غير صحيح فإنك تبوء بإثمه، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
حسان بن ثابت كان ممن وقع في عرض عائشة رضي الله عنها، ثم إنه تاب، جلده النبي عليه الصلاة والسلام وتاب، وقال قصيدة عظيمة في الثناء على عائشة رضي الله عنها، سيأتي كلامٌ -إن شاء الله تعالى- عنها بعد قليل.
قال: «فسببته -يقول هشام- فسببته؛ لأنه ممن وقع في الكلام على عائشة رضي الله عنها، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا ابن أختي دعه؛ فإنه كان ينافح عن رسول الله .
وهذا يدل على فضل عائشة رضي الله عنها، حيث إنها لم تحمل عليه، رغم أنه وقع في عرضها، لكن لم تحمل عليه، ورأت أن عنده حسنةً تُغفَر بها هذه الزَّلَّة، وهي أنه كان ينافح بشعره عن النبي .
155 – (2488) قال: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُنْشِدُهَا شِعْرًا، يُشَبِّبُ بِأَبْيَاتٍ لَهُ فَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ | وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ |
لما وقع حسان فيمن وقع في عرض عائشة رضي الله عنها، جلده النبي عليه الصلاة والسلام، تاب إلى الله تعالى توبة عظيمة، ثم وضع قصيدة عصماء يمدح فيها عائشة رضي الله عنها، ومن أبيات هذه القصيدة هذا البيت: “حصان رزان” وصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنها حصان، يعني: محصنة عفيفة، رزان يعني: أنها عاقلة، من الرزانة، “ما تزن بريبة” يعني: ما تتهم بريبة، “وتصبح غرثى” يعني: جائعة، “من لحوم الغوافل” يعني: أنها لا تغتاب الناس؛ لأنها لو اغتابت شبعت من لحومهم؛ فهذا ثناء عظيم من حسان رضي الله عنها على عائشة رضي الله عنها بهذا البيت.
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ | وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ |
ثم أيضا تبعتها أبيات كثيرة في قصيدة عصماء مدح بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فقالت له عائشة رضي الله عنها: لكنَّك لستَ كذلك. يعني: لست تصبح غرثان من لحوم الغوافل؛ لأنك وقعت في أعراض الناس.
قَالَ مَسْرُوقٌ: فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَأْذَنِينَ لَهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ قَالَ اللهُ: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ؟[النور: 11].
طبعا هذا اجتهاد من مسروق، وإلا، فالذي تولى كبره ليس حسانًا؛ وإنما هو عبدالله بن أُبَيٍّ، حسان وقع فيمن وقع.
فَقَالَتْ عائشة: فَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى؟
يعني: أن حسانًا في آخر حياته عَمِي، وكُفَّ بصره، فكأن ذلك قد يكون عقوبة له على وقوعه في عرض عائشة رضي الله عنها.
إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ أَوْ يُهَاجِي عَنْ رَسُولِ اللهِ .
ولذلك؛ سامحته عائشة رضي الله عنها لأجل ذلك.
155 – حَدَّثَنَاهُ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: قَالَتْ: كَانَ يَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ: حَصَانٌ رَزَانٌ.
156 – (2489) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ حَسَّانٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي فِي أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: كَيْفَ بِقَرَابَتِي مِنْهُ؟. قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْخَمِيرِ، فَقَالَ حَسَّانٌ:
وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ | بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ، وَوَالِدُكَ الْعَبْدُ |
قَصِيدَتَهُ هَذِهِ
أبو سفيان بن الحارث، قبل إسلامه يهجو النبي بالشعر، ثم بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه ، فكان يرد عليه حسان بن ثابت ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: أخشى أن تهجوه وتهجو قبيلته وهو قريب مني، يعني: كيف بقرابتي منه؟! قال: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من الخمير. فقال قصيدة فيها هذا البيت:
وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ | بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ، وَوَالِدُكَ الْعَبْدُ |
فأثنى على آل هاشم، وذم أبا سفيان بن الحارث.
ثم ساق المصنف هذا الحديث، قال:
قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ النَّبِيَّ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ..، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا سُفْيَانَ، وَقَالَ بَدَلَ الْخَمِيرِ: الْعَجِينِ.
157 – (2490) حَدَّثَنَا عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ.
طيب، هذا الكلام عنه يطول، هذا الحديث طويل، في هجاء حسان بن ثابت لكفار قريش، فلعلنا نقف عنده حتى نتكلم عنه بالتفصيل في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، ونبين معانيه وفوائده.
ونكتفي بهذا القدر.
طيب، هنا فائدة: كان بعض المشركين يهجون رسول الله ، ولذلك؛ أمر حسان بن ثابت بأن يرد عليهم، وقال: اهْجُهُم، اللهم أيده بروح القدس. وقال: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس.
لكن قصائد المشركين التي كانوا يهجون فيها رسول الله أين هي؟ لم تحفظ، ولم تنقل لنا وماتت؛ وهذا يدل على أنه ينبغي أن نميت الباطل بالسكوت عنه، الباطل إذا سكتنا عنه فإنه يموت؛ لكن عندما يُتَنَاقَل يكون هذا فيه إحياء لهم، ما لم يكن له أثر على بعض الناس، هنا لا بد من الرد عليه؛ تفنيده ومناقشته، لكن إذا كان هذا الباطل لو ترك لمات؛ فينبغي أن نتركه؛ فنميت الباطل بالسكوت والإعراض عنه، أميتوا الباطل بالسكوت عنه.
فقصائد المشركين في هجاء النبي لم ينقلها الصحابة؛ فماتت، ولم تحفظ، ولم تعرف، وهكذا ينبغي أن نميت الباطل بالسكوت عنه.
حتى الأذان نجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة والأجوبة
حكم الزواج بنية الطلاق
السؤال: هذا يسأل عن حكم الزواج بنية الطلاق؟
الجواب: الزواج بنية الطلاق محرم ولا يجوز؛ لما فيه من الخداع؛ لأن المرأة أما أن تعلم بأنه سيطلق، أو لا تعلم؛ فإن كانت تعلم بأنه سيطلق فيكون هذا نكاح متعة، وهو محرم ولا يجوز، معنى ذلك: أن هذا الزواج مؤقت، ويكون نكاح متعة، وهو محرم بالإجماع، وإن كانت المرأة لا تعلم بأنه سيطلق فيكون هذا قد خدعها، هل ترضى أن أحدا يتزوج ابنتك أو أختك، وقد عزم على تطليقها بعد مدة؟ لا ترضى بذلك، ولو علمتَ بأن هذا الإنسان الذي تزوج ابنتك أو أختك كان في الأصل عازمًا على تطليقها بعد مدة، لرأيت أنه قد غشك وخدعك، ولا ترضى بذلك، فإذا كنت لا ترضى بذلك لنفسك؛ فكذلك ينبغي ألا ترضى به لبنات المسلمين، فالنكاح بنية الطلاق لا يجوز؛ لما فيه من الغش والخداع.
حكم ذهاب النساء للصلاة على الجنازة
السؤال: إذا مات عندنا قريب تذهب النساء للصلاة عليه مع الناس، هل هذا جائز؟
الجواب: لا بأس بأن تصلي المرأة على الميت؛ سواء صلت عليه منفردة، أو صلت عليه خلف الرجال، المرأة ليست ممنوعة من الصلاة على جنازة؛ وإنما هي ممنوعة من اتباع الجنائز، بأن تتبع الجنازة إلى المقبرة وتزور المقبرة، ممنوعة من ذلك، أما مجرد الصلاة على الميت فهذا لا بأس به، وقد صلى أزواج النبي على سعد بن أبي وقاص، فالصلاة على الميت عمل صالح، كما هو مندوب إليه بالنسبة للرجل؛ فكذلك المرأة.
حكم السجود بعد كل صلاة لشكر الله على الهداية والتوفيق
السؤال: بعد كل صلاة أسجد سجدة واحدة، وأحمد ربي واشكره على هدايته لي وتوفيقه، هل هذا يجوز؟
الجواب: هذا بدعة، ليس لك أن تسجد سجدة بدون سبب، السجود إما يكون سجودا في الصلاة، أو يكون سجود شكر، أو يكون سجود تلاوة، أما السجود بدون سبب هذا من البدع، ليس لك أن تعبد الله كما تريد أنت؛ وإنما تعبد الله كما يريد الله، الأصل في العبادات التوقيف والمنع والحظر، إلا ما ورد الدليل بمشروعيته، إذا أردت أن تحمد الله وأن تشكره، احمد الله واشكره من غير أن تسجد، إلا إذا تجددت نعمة، أو اندفعت نقمة، فتسجد سجود الشكر، فسجود الشكر يشرع عند تجدد النعم، أو اندفاع النقم، أما أنك بعد كل صلاة تسجد فهذا العمل لا أصل له.
حكم الاستثمار في صناديق الرِّيت
السؤال: ما حكم الاستثمار في صناديق الرِّيت؟
الجواب: صناديق الريت العقارية لا بأس بالاستثمار فيها وتداول أسهمها، إذا كانت منضبطة بالضوابط الشرعية، ومعظم صناديق الريت منضبطة بالضوابط الشرعية؛ لأنها تتعامل في العقار؛ بيعا وشراء واستئجارا وإجارة ونحو ذلك، فإذا كانت منضبطة بالضوابط الشرعية فلا بأس بالاستثمار فيها.
حكم الإيجار المنتهي بالتمليك
السؤال: ما حكم الإيجار المنتهي بالتمليك؟
الجواب: الإيجار المنتهي بالتمليك له صور ممنوعة، وصور جائزة؛ فالصور الممنوعة ترجع إلى ضابط: وهو أن يجتمع البيع والتأجير على محل واحد في زمن واحد، وأما الصور الجائزة: فترجع إلى أن التأجير يكون تأجيرا حقيقيا تترتب عليه آثار عقد الإجارة، ثم بعد ذلك ينتهي بالتمليك؛ إما بطريق الهبة، أو بطريق البيع، وبعضهم يسميه البيع بدَفْعَة أخيرة أو بنحو ذلك، الصورة الآن الموجودة في السوق هي الصورة الجائزة، بل إن الصورة الممنوعة تكاد تكون الآن مندثرة، وأصلا الشركات والمؤسسات لا تحبذها؛ لأنهم يحبذون الصورة الجائزة؛ لأن المِلْكية تبقى لهم؛ فيكون تأجيرا حقيقيا، وتبقى الملكية للمؤجِّر، فالصورة الشائعة هي الصورة الجائزة، لكن أحيانا هذه الصورة الجائزة قد يقترن بها بعض الشروط المحرمة؛ مثل: شرط غرامة التأخير، إذا تأخر المستأجر عن سداد دفعة إيجارية يحسب عليه غرامة تأخير قدرها كذا، هذا الشرط لا يجوز، لكن إذا خلا من هذا الشرط، وكان تأجيرا حقيقيا تترتب عليه آثار عقد الإجارة، مع وَعْدٍ بالتمليك؛ إما بالبيع، وإما بالهبة، فلا بأس بذلك.
نصيحة بالصبر على الجار
السؤال: عندي جار أُحسِن له ويسيء لي بالكلام البذيء، حتى بالسيارة يحاول أن يضايقني، كل هذا؛ لأني قد نصحته بالصلاة! فما تنصحني؟
الجواب: أنصحك بأن تصبر، الله تعالى يقول: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ[لقمان: 17].
وكما قال بعض السلف: إذا أردت أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فوطن نفسك على الصبر قبل أن تأمر بالمعروف وقبل أن تنهى عن المنكر، فهذا الجار الذي لك قابَلَ السيئة بالحسنة، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[فصلت: 34].
ويمكن أن تسلك معه أساليب أخرى؛ تهدي له هدايا، تثني عليه، توسط من ينقل له كلاما حسنا عنك، ونحو ذلك، فإن أبى تصبر عليه، اصبر؛ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لاقوا من أقوامهم ما لاقوا من أذًى وصبروا، وكانت العاقبة لهم.
حكم صلاة الجماعة عن من يبعد فرسخًا عن المسجد
السؤال: ما الدليل على أن من بَعُدَ فرسخا على المسجد فأكثر لا تجب عليه الجمعة؟
الجواب: أولا: القول بأن من بَعُد فرسخًا عن المسجد لا تجب عليه الجمعة بهذا الإطلاق غير صحيح، من كان داخل البلد تجب عليه الجمعة؛ سواء كان يبعد فرسخًا أو أكثر من فرسخ، ونُقل الإجماع على ذلك، من كان داخل بلده تجب عليه الجمعة، لكن من كان خارج البلد، وكان يبعد عن البلد أكثر من فرسخ، هذا هو الذي لا تجب عليه الجمعة، ولأنه لا يسمع النداء، ولا يشمله النداء بحضور صلاة الجمعة، من ذلك مثلا: إذا خرج الإنسان للبَرِّ، وكان هذا البر يبعد عن البلد أكثر من 5 كيلو مترات، فلا تجب عليه الجمعة، ويصليها ظهرًا بشرط ألا يتخذ ذلك عادة، ليس كل يوم جمعة يذهب للبر وتفوته الجمعة ويستمر على ذلك؛ فيكون هذا حيلة على ترك الجمعة، فإذا لم يتخذ ذلك عادة، وحصل منه أحيانا أنه ذهب مثلًا صباح الجمعة للبر، وهذه المسافة تبعد عن البلد أكثر من 5 كيلو مترات فتسقط عنه الجمعة ويصليها ظهرًا.
حكم وضع اليد على الفم عند التثاؤب لمن يلبس كمَّامة
السؤال: إذا تثاءب الواحد وهو لابسٌ كَمَّامةً، هل يضع يده على فيه أو لبس الكمامة يكفي؟
الجواب: الذي يظهر أن لبس الكمامة يكفي؛ لأن الغرض من وضع اليد هو تغطية الفم، والكمامة قد غطت الفم، فلا حاجة لأنْ يضع يده على فمه؛ لأنَّ وضع اليد على الفم ليس تعبديًّا؛ وإنما الغرض منه هو تغطية الفم، فالكمامة تكفي.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 1301، ومسلم: 2144. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 6334. |
^3 | رواه الترمذي: 2329، وقال: حسنٌ، وأحمد: 17680. |
^4 | رواه ابن ماجه: 3925. |
^5 | انجفل إلى الشيء: ذهب مسرعًا نحوه، وانجفل عنه: سقط عنه وانقلب، وجَفَلَه عنه: طَرَحَه وألقاه. ينظر: “النهاية” لابن الأثير: 1/ 279 (جفل). |
^6 | رواه الترمذي: 2485، وقال: صحيحٌ، وابن ماجه: 1334. |
^7 | رواه البخاري: 1386، ومسلم: 2275. |
^8 | وفي بعض الروايات: سعد بن مالك. |
^9 | وعاشرهم: عبدالرحمن بن عوف، وقد جاء ذكرهم في حديثٍ رواه أبو داود: 4649، والترمذي: 3747، وابن ماجه: 133. |
^10 | رواه البخاري: 5705، ومسلم: 220. |
^11 | رواه البخاري: 1149، ومسلم: 2458. |
^12 | رواه البخاري: 3820، ومسلم: 2432. |
^13 | رواه البخاري: 3772. |
^14 | رواه البخاري: 3007، ومسلم: 2494. |
^15 | رواه البخاري: 6155، ومسلم: 2257. |