عناصر المادة
هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.
ننتقل بعد ذلك إلى “السلسبيل في شرح الدليل”، وننتقل إلى المجلد الثامن والأخير: “كتاب الجنايات”، وهذا هو الدرس الحادي والثمانون في هذا اليوم الحادي عشر من شهر شوال من عام 1444 للهجرة.
كتاب الجنايات
قال المصنف رحمه الله:
كتاب الجنايات.
الجنايات جمع جنايةٍ، وهي في اللغة: التَّعدِّي على بَدَنٍ أو مالٍ أو عِرْضٍ.
ففي معناها اللغوي تشمل التَّعدِّي على هذه الأمور الثلاثة: على البَدَن والمال والعِرْض.
أما اصطلاحًا فهي مخصوصةٌ بالتَّعدِّي على البَدَن فقط.
أما التَّعدِّي على الأموال فهذا لا يُسمى: جنايةً، وإنما يُسمى: سرقةً أو غصبًا أو نَهْبًا أو اختلاسًا أو نحو ذلك.
أما التَّعدي على العِرْض فلا يُسمى اصطلاحًا: جنايةً، وإنما يُسمى: قَذْفًا.
هذه اصطلاحات الفقهاء: أن التَّعدِّي على الأعراض يُسمى: قذفًا، والتَّعدِّي على الأموال: سرقةً أو غَصْبًا أو نَهْبًا أو اختلاسًا أو نحو ذلك، والتَّعدِّي على البَدَن هذا هو الذي يُسمونه: جنايةً، وإن كان بمعناه اللغوي يصحُّ إطلاق الجناية على التَّعدِّي على المال والبَدَن والعِرْض.
الأصل فيما يقع من الجنايات من المُكلف أنه فعل ذلك عمدًا، هذا هو الأصل.
انتبه للتَّأصيل، فهذا مهمٌّ لطالب العلم؛ لأن التَّأصيل يُرجع إليه عند الاختلاف، فالأصل فيما يقع من الجنايات من المُكلف أنه فعل ذلك عمدًا؛ وذلك لأن الأصل في الإنسان العدالة أو عدم العدالة؟ ما الأصل؟
نعم، مرَّتْ معنا هذه المسألة، وهذه محل خلافٍ، وقلنا: إن القول الراجح أن الأصل في الإنسان عدم العدالة، كما هو اختيار ابن تيمية وابن القيم؛ لقول الله عن الإنسان: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فالأصل في الإنسان عدم العدالة، الأصل فيه الظلم والجهل، كما قال أبو الطيب المتنبي:
الظُّلم من شِيَم النفوس فإن تجد | ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِم |
حتى الشعراء في القديم كانوا يتكلمون بهذا:
الظُّلم من شِيَم النفوس فإن تجد | ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِم |
فالأصل في الإنسان عدم العدالة، الأصل فيه الظلم والجهل؛ ولذلك الأصل فيما يقع من المُكلف أنه فعل ذلك عمدًا، فمَن جنى على غيره جنايةً فالأصل أنه مُتعمِّدٌ إلا إذا أثبت أنها وقعتْ عن غير عمدٍ.
انتبه لهذا التَّأصيل، فالتَّأصيل يُفيد طالب العلم.
مثلًا: الصيام، هل الأصل صحة الصيام أو عدم صحة الصيام؟
الأصل صحة الصيام، فلا نقول: إن صوم هذا المسلم فسد إلا بأمرٍ واضحٍ، أما إذا لم يكن واضحًا نقول: نبقى على الأصل؛ صحة الصيام.
في النكاح الأصل استمرار عقد النكاح، فلا نقول: إن هذه المرأة طُلِّقَتْ من هذا الزوج وخرجتْ من عِصْمَته إلا بأمرٍ واضحٍ؛ ولذلك طلاق الغضبان غضبًا شديدًا لا يقع، وطلاق السكران لا يقع؛ لأنه مُشوَّشٌ عليه فكره، فنتمسَّك بالأصل، والأصل استمرار النكاح، فلا يقع الطلاق إلا بأمرٍ واضحٍ.
في السفر، الأصل في الإنسان الإقامة أو السفر؟
الإقامة، فلا نَصِفُ هذا الإنسان بأنه مُسافرٌ يترخَّصُ بِرُخَصِ السفر إلا بأمرٍ واضحٍ، وعند الاشتباه نرجع للأصل، والأصل في الإنسان الإقامة.
هذه الأصول تُفيد طالب العلم، خاصةً عند الاشتباه، وعند عدم الوضوح، تقول: أنا أتمسك بالأصل.
مثلًا: اختلفتَ أنت وأصحابك، هل نترخَّصُ بِرُخَصِ السفر أم لا؟
تقول: نحن نتمسَّك بالأصل، والأصل أننا ما نترخَّص إلا إذا اتَّضح لنا وضوحًا تامًّا أننا مُسافرون فنترخَّص.
هكذا أيضًا هنا في الجنايات، الأصل فيمَن فعل جنايةً بغيره أنه مُتعمِّدٌ، هذا هو الأصل، ويتحمَّل تَبِعَات تلك الجناية، فإذا قال: إنه غير مُتعمدٍ. يُثْبِت خلاف ذلك، لا بد من الإثبات، وإلا فنحن نتمسَّك بالأصل وهو: أن الأصل فيمَن فعل جنايةً بغيره أنه مُتعمدٌ.
قال:
وهي التَّعدِّي على البَدَن بما يُوجب قصاصًا.
وهي جناية العمد، سواء كانت جنايةً في النفس، أو فيما دون النفس.
أو مالًا.
المقصود به: الخطأ وشبه العمد، وسيأتي تفصيل ذلك، إن شاء الله.
القتل ثلاثة أقسامٍ
قال:
والقتل ثلاثة أقسامٍ.
الفقهاء اختلفوا في تقسيم القتل على قولين:
- القول الأول: أن القتل ثلاثة أقسامٍ:
- القتل العمد.
- وشبه العمد.
- والخطأ.
وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
- القول الثاني: أن القتل قسمان:
- عمدٌ.
- وخطأٌ.
وليس هناك قسمٌ ثالثٌ للقتل شبه العمد.
إذن عندنا قولان:
قول الجمهور: أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
المالكية يقولون: ينقسم إلى قسمين: عمد وخطأ فقط.
المؤلف جرى على قول الجمهور، وهو المذهب عند الحنابلة، قال: القتل ثلاثة أقسامٍ: العمد، والخطأ، وشبه العمد.
المالكية الذين قالوا: إن القتل قسمان: عمدٌ وخطأٌ. قالوا: إن القرآن والسنة لم يَرِد فيهما إلا ذكر العمد والخطأ، ولم يَرِد فيهما ذكر شبه العمد، فقالوا: إنه في القرآن ورد القتل العمد: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93]، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، فأين ذكر شبه العمد في القرآن وهكذا السنة؟
وعلَّلوا لذلك قالوا: إن الفعل إذا كان مقصودًا فيه الجناية فهو العمد، وإلا فهو الخطأ، فلا وجود لقسم شبه العمد.
أما الجمهور فاستدلوا لوجود القتل شبه العمد بأدلةٍ من السنة، من أبرزها حديث أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هُذَيلٍ، فَرَمَتْ إحداهما الأخرى بحجرٍ -وفي روايةٍ: بِفُسْطَاط خيمةٍ- فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ، فقضى أن دِيَة جنينها غُرَّةٌ، عبدٌ أو وليدةٌ، وقضى أن دِيَة المرأة على عاقلتها [2].
هذا القتل فيه جنايةٌ، فيه قصدٌ جنائيٌّ، لكن الآلة لا تقتل غالبًا، مجرد حجرٍ، فهنا اعتبره النبي قتل شبه عمد؛ لأنه لو كان عمدًا لما قضى بأن العاقلة تحمل الدِّيَة، فإن العاقلة لا تحمل دِيَة القتل العمد.
وأيضًا لا يُمكن أن يُعتبر خطأً؛ لأن الجناية موجودةٌ، فهذه المرأة ضربت الأخرى بحجرٍ أو فُسطاط خيمةٍ؛ فدلَّ ذلك على أن هذا النوع من القتل يُسمى: شبه عمدٍ، وهذا أقوى أدلة الجمهور.
وأيضًا استدلوا بحديثٍ آخر: حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي قال: ألا إن دِيَة الخطأ شبه العمد -ما كان بالسَّوط والعصا- مئةٌ من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها، أخرجه أصحاب السنن وأحمد بسندٍ جيدٍ [3]، وهو نصٌّ في شبه العمد.
فهذه الأدلة وما جاء في معناها تدلُّ على إثبات قسمٍ ثالثٍ: وهو القتل شبه العمد، وهذا هو القول الراجح.
القول الراجح قول الجمهور: وهو أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
وأما قول المالكية بأنه ليس في القرآن ولا في السنة ذِكْرٌ لِشِبْهِ العمد؛ فهذا غير مُسَلَّمٍ، بل ورد شِبْهُ العمد في السُّنة في قصة اقتتال امرأتي هُذَيل، وأيضًا في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما وردتْ تسميته: شبه عمد: ألا إن دية الخطأ شبه العمد، فالقول بأنه لم يرد هذا غير مُسَلَّمٍ.
وأما قولهم: إن كانت الجناية عن قصدٍ فهي عمدٌ، وإلا فهي خطأٌ. فلا يُسلم؛ لأنه أحيانًا قد يكون القصد موجودًا، لكن الآلة لا تقتل غالبًا، فهنا لا يمكن اعتباره عمدًا باعتبار أن الآلة لا تقتل غالبًا، ولا يمكن اعتباره خطأً باعتبار القصد.
ومما يدل لذلك: أن المالكية أنفسهم استثنوا مسألةً هي: إذا قَتَل الوالد ولده، قالوا: إن هذا شبه عمدٍ إلا إذا أضجعه فذبحه. ذكروا أن هذه الصورة شبه عمدٍ، وهذا يُضعف قولهم.
إذن الصواب قول الجمهور، وهو: أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
نأتي بعد ذلك لكي نعرف ضابط العمد، وضابط شبه العمد، وضابط الخطأ، وصور كل واحدٍ من هذه الأقسام الثلاثة.
أولًا: القتل العمد
بدأ المؤلف أولًا بالقتل العمد، قال:
أحدها: العمد العُدوان، ويختص به القصاص أو الدِّيَة، فالولي مُخيَّرٌ، وعفوه مجانًا أفضل.
العمد العُدوان.
قوله: “العدوان” يُريد المؤلف أن يُخرج بذلك شبه العمد؛ لأن شبه العمد فيه عمدٌ، لكن ليس عدوانًا؛ لأن الآلة لا تقتل غالبًا.
فتعريف القتل العمد، عرَّفه المؤلف قال:
وهو أن يقصد الجاني مَن يعلمه آدميًّا معصومًا فيقتُله بما يغلب على ظنِّه موته به.
هذا هو التعريف.
تعريف المؤلف جيدٌ للقتل العمد: “وهو أن يقصد الجاني مَن يعلمه آدميًّا معصومًا فيقتُله بما يغلب على ظنِّه موته به”.
فأفادنا المؤلف أنه لا بد لاعتبار القتل عمدًا من أمرين:
- الأمر الأول: وجود القصد، ويُسميه بعض المعاصرين: القصد الجنائي.
- والأمر الثاني: أن تكون الآلة تقتل غالبًا.
إذن وجود القصد الجنائي وأن تكون الآلة تقتل غالبًا.
إذا تحقق هذان الأمران فهذا يُعتبر قتل عمدٍ حتى لو لم يقصد القتل.
إنسانٌ أتى بمُسدسٍ وأطلق على آخر، وقال: والله أنا كنتُ أمزح معه. هل يُقبل منه هذا الكلام؟
ما يُقبل؛ لأنه تحقق هذان الركنان: القصد الجنائي موجودٌ، والآلة تقتل غالبًا.
أما كونه يقول: أمزح، أو ما أمزح، هذا كله غير مقبولٍ؛ لأنه لو فُتِحَ هذا الباب لادَّعى كل قاتلٍ أنه يمزح، وأنه لم يقصد، وأنه لم يتعمَّد.
فلا يُنظر لنيته؛ إذن النية لا يُنظر لها، وإنما يُنظر لقصد الجناية في الظاهر، ويُنظر للآلة، لهذين الأمرين: قصد الجناية في الظاهر، أن يكون تعمَّد التَّعدي عليه، وأيضًا أن تكون الآلة تقتل غالبًا، فنعتبره قتل عمدٍ.
يقول:
يعني: أولياء الدم يُخَيَّرون بين هذه الأمور الثلاثة: القصاص، والدِّيَة، والعفو مجانًا، ولا شكَّ أن العفو أفضل: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237].
الحقوق المتعلقة بالقتل
والقتل تتعلق به ثلاثة حقوقٍ:
- حقُّ الله تعالى، وهذا يسقط بالتوبة.
- وحقُّ أولياء الدم، ويُخَيَّرون بين هذه الأمور الثلاثة: القصاص، والدِّيَة، والعفو مجانًا.
- الثالث: حقُّ المقتول.
الأصل أن حقَّ المقتول يبقى لصاحبه يوم القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: أول ما يُقْضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء متَّفقٌ عليه [4]، وقال: لن يزال المؤمن في فُسْحَةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا أخرجه البخاري في “صحيحه” [5].
هل يبقى حقُّ المقتول لصاحبه حتى لو اقتُصَّ من القاتل؟
الجواب: نعم يبقى؛ لأن القصاص حقٌّ لمَن؟
لأولياء الدم، القصاص حقٌّ لأولياء الدم، وحقُّ المقتول يبقى، لكن قال بعض العلماء: إن القاتل إذا صَدَقَ في توبته فَيُرْجَى أن الله يُعوِّض المقتول خيرًا مما يأخذه من القاتل، يُرْجَى ذلك، واستدلوا بقصة الذي قتل مئة نفسٍ.
في الصحيحين: أن رجلًا قتل تسعةً وتسعين نفسًا، ثم ذهب إلى راهبٍ فقال: هل لي من توبةٍ؟ قال: كيف تقتل تسعةً وتسعين نفسًا وتسأل: هل لك من توبةٍ؟! ليست لك توبةٌ.
هذا عابدٌ غير عالمٍ.
فقال: إذا لم تكن لي توبةٌ إذن أقتله. فقتله وكمَّل به المئة، ثم ما زال ضميره يُؤنِّبه، فقال: أريد أن أستفتي أعلم أهل الأرض. قالوا: أعلم أهل الأرض في بلد كذا. فذهب إليه، وقال: إني قتلتُ مئة نفسٍ، هل لي من توبةٍ؟ قال: ومَن يحول بينك وبين التوبة؟! نعم لك توبةٌ، ولكنك بأرض سُوءٍ. هذه البيئة التي شجعتك على أن تقتل مئة نفسٍ، هذه بيئةٌ سيئةٌ، فهاجر منها إلى أرض كذا، فإن فيها قومًا يعبدون الله .
هذا عالمٌ، ومن فقه هذا العالم أنه أراد أن يُغيِّر بيئته، فلو قال: لك توبةٌ، ورجع إلى بيئته؛ ربما يستمر في القتل، فأراد أن يُغيِّر البيئة السيئة التي شجعته على أن يقتل مئة نفسٍ، فقال: هَاجِرْ إلى أرض كذا.
فعزم على أن يذهب إلى تلك الأرض وهاجر إليها، فأدركته المَنِيَّة في الطريق، فاختصمتْ فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، سبحان الله! عَجَبٌ!
ملائكة الرحمة تقول: أَقْبَلَ إلى الله تائبًا. وملائكة العذاب تقول: قتل مئة نفسٍ ولم يعمل خيرًا قَطُّ.
فاختصمتْ فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله تعالى مَلَكًا على صورة رجلٍ: أن قِيسُوا ما بينهما. يعني: الأرض التي هاجر منها، والأرض التي هاجر إليها، فإلى أيَّتِهما كان أدنى، فإن كان أدنى إلى الأرض التي هاجر إليها تقبضه ملائكة الرحمة، وإن كان أدنى إلى الأرض التي هاجر منها تقبضه ملائكة العذاب. فقاسوا ما بينهما فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بِشِبْرٍ؛ فقبضته ملائكة الرحمة ولم يعمل خيرًا قط، وقد قتل مئة نفسٍ [6].
وجاء في بعض الروايات: أن الله أوحى إلى هذه الأرض أن تقربي، وإلى الأرض الأخرى أن تباعدي، وأنه نَأَى بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بِشِبْرٍ فقط [7].
انظر إلى عظيم رحمة الله تعالى بعباده.
الشاهد من هذه القصة: أن الله تاب على هذا الرجل وقد قتل مئة نفسٍ، كيف تكون التوبة؟
قالوا: إن الله يُعوِّض المقتول خيرًا مما يأخذه من القاتل، لكن هذا في حقِّ مَن تاب توبةً نَصُوحًا، توبةً صادقةً، فَيُرْجَى أن الله تعالى يُعوِّض المقتول خيرًا مما يأخذه من القاتل، وإلا فالأصل أن حقَّ المقتول باقٍ لا يضيع، لكن إذا عوَّضه الله تعالى خيرًا مما يأخذه من القاتل فحقُّه أخذه، عوَّضه الله تعالى، لكن إذا لم يَصْدُق القاتل في توبته فإن حقَّ المقتول باقٍ له يوم القيامة.
أبرز الحِكَم من القصاص
القصاص شرعه الله لِحِكَمٍ، من أبرزها: حفظ النفوس: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:179]، وكانت العرب تقول: “القتل أَنْفَى للقتل”، فأتت هذه الآية بلفظٍ أفصح وأبلغ: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ؛ لأن القاتل إذا علم أنه سيُقتل سيرتدع عن القتل.
إذن الحكمة من مشروعية القصاص: حفظ النفوس.
أيضًا من الحِكَم: تعظيم أمر الدماء.
وأيضًا حصول التَّشفِّي من أولياء الدم؛ لأن أولياء الدم يكون عندهم حَنَقٌ على القاتل، فإذا اقتصُّوا من القاتل زال ما في نفوسهم من الحَنَق؛ ولذلك فالأصل أن أولياء الدم هم الذين يُباشرون القتل، هذا الأصل، وإن شاؤوا وكَّلوا، لكن الأصل أن وَلِيَّ الدم هو الذي يقتل القاتل بنفسه، كان هذا عليه العمل إلى وقتٍ ليس بالبعيد، إلى عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، كان يُعطى ولي الدم السيف، ويُقال: اقتل القاتل. فيقتله بنفسه، لكن الآن أصبح كثيرٌ من الناس لا يُحْسِنون ذلك؛ فَيُوَكِّلون الدولة في استيفاء القصاص نيابةً عنهم.
إذن نرجع للقتل العمد، قلنا: ذكر المؤلف هذا الضابط: أن يقصد الجاني مَن يعلمه آدميًّا معصومًا فيقتُله بما يغلب على الظنِّ موته به.
وقلنا: إنه لا بد فيه من ركنين: القصد الجنائي، وأن تكون الآلة تقتل غالبًا.
ومن أمثلة ذلك: القتل بمُحَدَّدٍ؛ كالسكين، والسيف، والآلات الجارحة، والأسلحة النارية عمومًا: كالمسدس والبندقية والرشاش، ونحو ذلك.
أو أن يكون القتل بمُثَقَّلٍ: كحجرٍ كبيرٍ -مثلًا- أو عصا غليظةٍ، أو أن يُلقي عليه حيَّةً أو سَبُعًا أو كلبًا ينهشه، أو يُلقيه في نارٍ، أو يُغْرقه في ماءٍ، أو يخنقه بحبلٍ، أو أن يقتله بسحرٍ ويَثْبُت ذلك بأن يعترف -مثلًا- ساحرٌ بذلك.
هذه كلها من صور القتل العمد، أو أن يقتله بِسُمٍّ -مثلًا- أو أن يتسبَّب في قتله بشهادة الزور؛ أن يشهد الشاهدان على إنسانٍ أنه قَتَلَ عمدًا، فيُقتل قصاصًا، ثم بعد ذلك يعترفان بأنهما قد شهدا زورًا؛ فَيُقَصُّ الشاهدان، يُقَادُ الشاهدان به.
وقد جاء في “صحيح البخاري”: أن رجلين شَهِدَا على رجلٍ بأنه قد سرق عند عليٍّ ، فأمر بقطع يده، فَقُطِعَتْ يده، فلما أتى في اليوم الثاني جاءا برجلٍ آخر، وقالا: هذا هو السارق، وقد أخطأنا في الأول. فقال عليٌّ : لو علمتُ أنكما تعمَّدتُما لقطعتُكما. فَغَرَّمهما دِيَة يَدِ الأول، وردَّ شهادتهما عن الثاني؛ لأن هذا قادحٌ في الشهادة [8].
إذن شهادة الزور: لو شهد اثنان شهادة زورٍ على إنسانٍ، فَقُصَّ بسبب الشهادة، ثم تبيَّن أنها شهادة زورٍ؛ فَيُقَاد من الشاهدين، يُقْتَصُّ من الشاهدين.
القتل بآلةٍ لا تقتل غالبًا الأصل أنه قتلٌ شبه عمدٍ إلا إذا كان في مَقْتَلٍ، فإن الإنسان فيه مَقَاتِل.
يعني: إنسانًا لَكَمَ آخر بيده، ثم مات هذا الذي قد لُكِمَ، فهل هذا قتل عمدٍ أو شبه عمدٍ؟
شبه عمدٍ إلا إذا كان لَكَمَهُ في مَقْتَلٍ، فإن كان في مَقْتَلٍ يُعتبر قتل عمدٍ، والإنسان فيه مَقَاتل، مثل: هذه التي بين الحاجب والأذن، هذا يُعتبر مَقْتَلًا، فلو لَكَمَه فيه يُقْتَصُّ منه، حتى لو كان بضربةٍ ليست قويةً؛ لأن هذا مَقْتَلٌ.
وأَذْكُرُ أنه قبل سنواتٍ اقتُصَّ من رجلٍ حصلتْ مُضاربةٌ بينه وبين رجلٍ آخر، فَلَكَمَه في مَقْتَلٍ فمات صاحبه؛ فَاقتُصَّ منه، حَكَم القُضاة بالقصاص، وصُدِّق ذلك، ونُفِّذ الحكم.
فالإنسان فيه مَقَاتل، فإذا كانت الضربة في مَقْتَلٍ فيُعتبر قتل عمدٍ، أما إذا كانت في غير مَقْتَلٍ، وكانت لا تقتل غالبًا، فيُعتبر شبه عمدٍ؛ ولذلك من أخطر ما يكون المُضاربات، فأحيانًا يَلْكُمُ أحد المُتضاربين الآخر في مَقْتَلٍ فيموت، فهنا يُقْتَصُّ منه إذا ثبت فعلًا أنه ضربه في مَقْتَلٍ؛ لأن الإنسان فيه مقاتل.
مسألة القتل بالعين
بقيتْ مسألة القتل بالعين: العين حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابق القدر سَبَقَتْه العين [9].
ويعقوب لما أرسل بنيه، وكانوا أحد عشر ابنًا، والثاني عشر هو يوسف .
سبحان الله!
عنده اثنا عشر ابنًا، وما ملأ عينه إلا يوسف : وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84].
ففي قصة يوسف أرسل بَنِيه، اثني عشر ابنًا، وكانوا في غاية الجمال، ومن رجلٍ واحدٍ، فخشي عليهم من العين: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67]؛ لأنهم لو دخلوا -أحد عشر ابنًا- من بابٍ واحدٍ وهم في غاية الفتوة والجمال لربما أُصيبوا بالعين.
فهذا يدلُّ على إثبات العين، وتجارب الناس قديمًا وحديثًا تدلُّ لهذا، فلو أن رجلًا قتل آخر بالعين فهل يُقْتَصُّ منه؟
إذا ثبت ذلك فإنه يُقْتَصُّ منه إذا أَعَانَه باختياره.
كيف نعرف ذلك؟
بأن يعترف العَائِنُ بأنه أَعَانَ فلانًا باختياره فمات؛ فَيُقْتَصُّ منه بأن يُؤتى بِعَائِنٍ يَعِينُه أيضًا حتى يموت.
وأما قتله بالسيف فيقول ابن القيم وجماعةٌ من أهل العلم: إنه لا يكون قتله بالسيف، إنما يُقتل بالعين، كما أَعَانَ هذا الإنسان فيُؤتَى بمَن يَعِينه.
أما إذا كانت إصابته بالعين بغير اختياره فلا يُقْتَصُّ منه، وإنما يُحْبَس هذا الذي يضرُّ الناس بعينه حتى يتوب؛ لأن بإمكانه أيضًا -هذا الذي يعرف من نفسه أنه يُصيب الناس بالعين- أن يذكر الله فلا يُصيب الناس بالعين، فلكونه لا يذكر الله وينظر للناس ويُصيبهم بعينه ينبغي أن يُعزَّر، لكن الكلام هنا عن: هل يُقْتَصُّ منه أم لا؟
وعندما تكلم الفقهاء عن القصاص من العَائِن، الحقيقة أن هذه المسألة مسألةٌ نظريةٌ، ولا يوجد في التاريخ أن رجلًا عائنًا اقتُصَّ منه أبدًا، لا يوجد، فما يوجد في كتب الفقه من القصاص من العَائِن إنما هو أمرٌ تنظيريٌّ فقط؛ لأن إثبات ذلك صعبٌ؛ لأن العين مُرتبطةٌ بالروح، والروح من عالمٍ آخر غير عالم المادة، لا يعرف البشر كُنْهَهَا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85].
فإثبات أن هذا الإنسان مات بسبب العين، وأن العَائِن قد أَعَانَه باختياره؛ هذا يكاد يكون مُستحيلًا؛ ولذلك لا يُعرف في التاريخ أن أحدًا اقتُصَّ منه بسبب إعانته لغيره، وإنما هذه تُذكر على سبيل التَّنظير.
لكن مَن عُرِفَ بالعين، وأنه يُؤذي الناس بعينه، وتواتر عند الناس؛ فعلى الحاكم أن يحبسه حتى يتوب إلى الله ، حتى وإن زعم أن ذلك بغير اختياره، فإنه يذكر الله سبحانه عندما يُعْجَب بأحدٍ أو كذا، يذكر الله فلا يُصاب ذلك الإنسان بالعين.
قال ابن القيم: “إذا عُرِفَ الرجل بالأذى بالعين ساغ بل وجب حبسه وإفراده عن الناس، ويُطْعَم ويُسْقَى حتى يموت، ذكر ذلك غير واحدٍ من الفقهاء، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلافٌ”.
مسألة قتل الجماعة بالواحد
قال المصنف رحمه الله:
فلو تعمَّد جماعةٌ قتل واحدٍ قُتلوا جميعًا إن صلح فعل كل واحدٍ منهم للقتل.
إذا قتل جماعةٌ واحدًا فَتُقْتَل الجماعة كلها بشرط أن يكون فعلُ كُلِّ واحدٍ يصلح للقتل لو انفرد، أما إذا كان فعلُ كُلِّ واحدٍ لا يصلح للقتل لو انفرد فلا يُقْتَلون، كما لو جرح الأول جرحًا، ثم الثاني جرحًا، ثم الثالث جرحًا، ثم مات هذا الإنسان بمجموع الجروح، فلا يُقْتَصُّ منهم، وإنما يُعَزَّرُون إلا إذا كانوا قد تواطؤوا على ذلك، فلو تواطؤوا على ذلك، قالوا: نجرحه حتى يموت حتى لا يُقْتَصّ منا؛ فَيُقَاد منهم، أما إذا لم يتواطؤوا على ذلك فلا يُقْتَصُّ منهم.
وقد جاء في “صحيح البخاري” مُعلَّقًا بصيغة الجزم: أن غلامًا في صنعاء قُتِلَ غِيلَةً، فقال عمر : “لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم” [10].
رُوِيَ أن الذين قتلوا الغلام في صنعاء كانوا سبعةً، وقتلهم عمر ، قتل السبعة بهذا الغلام [11].
وعن عليٍّ أنه قتل ثلاثةً برجلٍ واحدٍ [12].
وهذا محل اتفاقٍ بين الصحابة، وقول عامة أهل العلم.
قال:
وإن جرح واحدٌ جُرْحًا، والآخر مئةً فسواء.
لو اشتركوا في القتل، فأحدهم جرحه جرحًا واحدًا، لكنه يصلح للقتل، والآخر جرح تسعةً وتسعين؛ فَيُقْتَصُّ منهم جميعًا، أو الآخر جرح مئة جرحٍ، فَيُقْتَصُّ منهم جميعًا، لكن بشرط أن فِعْلَ كل واحدٍ منهم يصلح للقتل.
ومَن قَطَعَ أو بَطَّ سلعةً خطرةً من مُكلفٍ بلا إذنه.
يعني: فَيُقْتَصُّ منه.
السلعة: هي الغُدَّة التي تظهر بين الجلد واللحم، وهي شبيهةٌ بما يُسمى بالثَّآليل، فالثَّآليل التي تظهر على الجلد شبيهةٌ بها هذه الغُدَّة، وتكون بين الجلد واللحم، وإذا غُمِزَتْ باليد تحركتْ.
فلو أن أحدًا قطع هذه السلعة أو هذا الثُّؤْلُول بغير إذنه، فتسبب في جرحه، فمات؛ فعليه القَود.
وهذا يحصل من بعض الناس، فبعض الناس عنده فضولٌ، وربما لو رأى هذه الغُدَّة أو رأى هذا الثُّؤْلُول يأتي ويحاول أن يقطعه.
لو افترضنا -مثلًا- أنه قطعه، وأن هذا الرجل مُصابٌ بالسكر، فتسبب في غَرْغَرِينا، ثم تسبب في وفاته، يُقْتَصُّ منه؛ لأنه هو الذي تسبب، فَيُقَاد به.
أو من غير مُكلفٍ بلا إذْنِ وليِّه فمات؛ فعليه القود.
يعني: لو حصل ذلك من غير مُكلفٍ -كطفلٍ مثلًا- بلا إذن وليِّه، فتسبب في وفاته؛ فعليه القود.
مسألة إجراء العمليات الجراحية بغير إذن المريض وبغير إذن وليِّه
تَرِد هنا مسألة: إجراء العمليات الجراحية بغير إذن المريض وبغير إذن وليِّه، فلو أن الطبيب رأى أن الوقت ضيقٌ، واجتهد وأجرى العملية بغير إذنٍ من المريض، أو بغير إذنٍ من وليِّه، فمات المريض، فهل يُقْتَصُّ من الطبيب؟
الجواب: لا يُقْتَصُّ منه، لكن عليه الدِّيَة إذا كان قد تسبب في وفاته؛ لأنه إنما فعل ذلك إنقاذًا للمريض من الهَلَكَة، وكونه فعل ذلك بغير إذن المريض أو وليِّه هذا مُوجبٌ للدِّيَة، لكنه ليس مُوجبًا للقصاص.
فإن قال قائلٌ: لماذا فَرَّقنا بين فعل الطبيب وفعل الذي قطع سِلْعَةً أو ثُؤْلُولًا؟
نقول: بينهما فرقٌ؛ لأن هذا الذي قد قطع هذه السلعة أو الثُّؤْلُول ليس بالطبيب أصلًا، وإنما إنسانٌ فُضُوليٌّ أتى وقطعها.
أما الطبيب فهو إنسانٌ مطلوبٌ منه مُعالجة هذا المريض، وقد اجتهد في إنقاذه من الهَلَكَة، فلا يُعتبر هذا قتل عمدٍ، وإنما غاية ما يُعتبر قتل خطأ، وعليه الدِّيَة؛ لكونه لم يستأذن المريض أو وليَّه، كما لو وجده غريقًا، أو وجده -مثلًا- في حريقٍ أو نحو ذلك، فأنقذه، لكنه أثناء الإنقاذ تسبب في وفاته؛ فإنه لا يُقْتَصُّ منه في هذه الحال، فَفَرْقٌ إذن بين المسألتين.
وهكذا في جميع الصور التي يتسبب فيها الطبيب في وفاة المريض لا يُقْتَصُّ من الطبيب إلا إذا ثبت تعمُّد الطبيب، وأنه على سبيل العدوان، أما إذا لم يثبت تعمُّده، إنما كان الطبيب مُجتهدًا، لكن حصل الخطأ في إجراء العملية، أو حصل منه تفريطٌ، أو نحو ذلك، فهذا لا يُوجب القصاص، لكن يُوجب الدِّيَة.
طالب: …….
الشيخ: إذا كان هناك تأمينٌ تتحمله شركة التأمين، لكن كلامنا الآن في القَوَد، هل يُقْتَصُّ من الطبيب أو لا يُقْتَصُّ؟
في جميع الصور لا يُقْتَصُّ من الطبيب إلا إذا ثبت أنه فعل ذلك عمدًا وعُدوانًا.
حوادث السيارات أيضًا الأصل أنها ليست من قَبِيل القتل العمد -هذا هو الأصل- إلا إذا ثبت أن قائد السيارة تعمَّد قتل هذا الشخص بأن يكون -مثلًا- صَدَمَهُ ودَهَسَهُ بالسيارة؛ هنا يُقْتَصُّ منه، لكن لو كان يقود السيارة وحصل حادثٌ، فتسبب في وفاته، لا يُعتبر قتل عمدٍ، إما أن يُعتبر خطأً أو شبه عمدٍ على ما سيأتي.
إذن هذا هو القتل العمد، هذا ضابطه، ذكرنا أن ضابطه أنه لا بد أن يشتمل على أمرين: القصد الجنائي، وأن الآلة تقتل غالبًا، وذكرنا صورًا للقتل العمد.
القسم الثاني: القتل شبه العمد
ننتقل بعد ذلك للقسم الثاني وهو: القتل شبه العمد.
قال المؤلف:
الثاني: شبه العمد، وهو أن يقصده بجنايةٍ لا تقتل غالبًا، ولم يجرحه بها.
الفرق بين العمد وشبه العمد
يشتركان في القصد الجنائي، لكن في العمد الآلة تقتل غالبًا، وفي شبه العمد الآلة لا تقتل غالبًا.
هذا هو الفرق بين القتل العمد وشبه العمد.
فمثلًا: لو أن رجلًا أخذ قلمًا، وضرب بهذا القلم شخصًا آخر فمات، فهل نعتبره عمدًا أو شبه عمدٍ بناءً على هذا التعريف؟
شبه عمدٍ؛ لأن الضرب بالقلم لا يقتل، فما دامت الآلة لا تقتل غالبًا لا نعتبره عمدًا، لكن لو أنه أطلق عليه البندقية أو المسدس، وقال: أنا -والله- كنتُ أُنَظِّف المسدس أو البندقية، ما تعمَّدتُ. فهل نعتبره قتل عمدٍ أو شبه عمدٍ؟
عمدٌ؛ لأن الآلة تقتل غالبًا، أما نيتك فبينك وبين الله، هذا بينك وبين الله، لكن نحن ننظر للآلة، فما دام هناك شيءٌ جنائيٌّ، وآلة تقتل غالبًا؛ عمدٌ، وإذا كانت الآلة لا تقتل غالبًا فهو شبه عمدٍ.
قال:
فإن جَرَحَه ولو جرحًا صغيرًا قُتِلَ به.
مراد المؤلف بالجرح الصغير يعني: الذي له سِرَايةٌ ونفوذٌ في البدن، وقد يُؤدي للموت، فهذا يُعتبر عمدًا، وهذا إنما يكون إذا كان في مَقْتَلٍ.
أراد المؤلف أن يحترز فقال: حتى الجرح الصغير إذا كان في مَقْتَلٍ يُعتبر من قبيل العمد؛ ولهذا نعود للمثال الذي ذكرناه قبل قليلٍ: إنسانٌ ضرب آخر بالقلم، قلنا: الأصل أنه شبه عمدٍ، لكن لو كان القلم وقع في مَقْتَلٍ نعتبره عمدًا، إذا وقع القلم في مَقْتَلٍ نعتبره عمدًا، هذا معنى كلام المؤلف.
إنسانٌ صديقٌ لآخر، بينهما صداقةٌ، وهو أثناء تنظيفه للسلاح -أو أنه كان يُمازح صديقه- انطلقتْ رصاصةٌ؛ فمات صاحبه وصديقه، هل نعتبر هذا قتل عمدٍ أو شبه عمدٍ؟
نعتبره عمدًا، حتى وإن كان صديقه، إلا إذا صَدَّقَه أولياء المقتول، فإذا صدَّق أولياء المقتول بأنه كان يمزح معه، أو أنه يُنَظِّف سلاحه؛ فهنا يُدْرَأ عنه القصاص، أما إذا لم يُصَدِّقوه فنبني على الأصل، والأصل أن الآلة تقتل غالبًا، وكونك تمزح، أو كونك تُنَظِّف السلاح، هذا كله غير مُعتبرٍ، نعتبره قتل عمدٍ، فما دام أنه قُتِلَ بآلةٍ تقتل غالبًا فهو عمدٌ.
حكم القتل في حوادث السيارات
بالنسبة لحوادث السيارات: حوادث السيارات الأصل أن القتل فيها قتل خطأ، لكن أحيانًا قد نعتبرها شبه عمدٍ كما في قطع الإشارة، فلو قطع الإشارة وتسبب في وفاة أحدٍ فهذا يُعتبر شبه عمدٍ؛ وذلك لأن قطع الإشارة مظنَّة الحوادث، ففيها قصدٌ جنائيٌّ وإن كانت الآلة لا تقتل غالبًا، فنعتبر قطع الإشارة شبه عمدٍ.
السرعة الكبيرة، السرعة المُفرطة، يسير -مثلًا- بسرعة مئتي كيلو في الساعة، وتسبب في وفاة غيره، أو مئتين وعشرين -مثلًا- أو مئتين وخمسين، هنا قد نعتبره شبه عمدٍ، ما نعتبره خطأ، هذا هو الأصل.
فالأصل إذن أن حوادث السيارات مُتردِّدةٌ بين الخطأ وشبه العمد، وقد نعتبرها عمدًا لو وُجِدَتْ قرائن تدل على أنه قصد قتله عُدوانًا، يعني: رآه يمشي في الشارع ثم دَهَسَهُ، هذا نعتبره عمدًا.
“التَّفْحِيط” شبه عمدٍ، فلو قتل إنسانٌ آخر وهو “يُفَحِّط” يُعتبر شبه عمدٍ، ولا يعتبر عمدًا.
القسم الثالث: القتل الخطأ
قال:
الثالث: الخطأ، وهو: أن يفعل ما يجوز له فعله من دَقٍّ أو رمي صيدٍ ونحوه، أو يظنه مباح الدم، فَيَبِين آدميًّا معصومًا.
القتل الخطأ: أن يَصْدُرَ منه فعلٌ، فيقع على آدميٍّ معصومٍ لا يقصد إيقاعه عليه؛ فيموت به.
فالقصد الجنائي هنا غير موجودٍ، لا يوجد أصلًا قصدٌ جنائيٌّ؛ فهنا يُعتبر خطأً، حتى لو كانت الآلة تقتل غالبًا، مثل: إنسان يصيد، فأطلق النار على صيدٍ، فأصاب إنسانًا؛ يُعتبر هذا قتل خطأ.
قال: “أو يظنه مُباح الدم” في معركةٍ بين مسلمين وكفار، فقتله يظنُّه مباح الدم، فتبيَّن أنه معصوم الدم؛ يُعتبر قتل خطأ، ومثلما ذكرنا حوادث السيارات، فالأصل في هذه أنه قتل خطأ.
ما الذي يُوجبه قتل شبه العمد والخطأ؟
قال:
ففي القسمين الآخرين الكفارة على القاتل، والدِّيَة على عَاقِلَته.
“في القسمين الآخرين” يُريد المؤلف: شبه العمد والخطأ، فهذه تُوجب الكفارة والدِّيَة، أما الكفارة فعلى القاتل، وأما الدِّيَة فعلى العاقلة.
الكفارة هي عِتْق رقبةٍ، والرِّق الآن انقرض؛ فيصوم شهرين مُتتابعين، وأما الدِّيَة فعلى العاقلة.
والعاقلة سيأتي -إن شاء الله- فيها بابٌ مُستقلٌّ.
العاقلة: هي عَصَبَة القاتل، أقاربه من جهة الأب: كأبيه وإخوانه وأعمامه وأبناء عمومته، هؤلاء هم العاقلة، هم الذين يدفعون دِيَة القتل الخطأ وشبه العمد، أما القتل العمد فلا تدفعه العاقلة، إنما يدفعه مَن؟
القاتل نفسه.
انتبه، هذه المسألة لها ارتباطٌ بمسألة الزكاة، فبعض الناس تكون الدِّيَة دِيَة قتل خطأ أو شبه عمدٍ، ويدفعون من الزكاة، هذا لا يجوز؛ لأن الدِّيَة أصلًا على العاقلة، ما تُعطيه من الزكاة، لكن لو كان القتل عمدًا فالمُطالب بالدية مَن؟
القاتل، فإذا كان القاتل عاجزًا عن الدِّيَة فَيُعْطَى من الزكاة.
وعلى ذلك هل يجوز دفع الزكاة في دِيَة القتل؟
نقول: إذا كانت الدِّيَة في قتل العمد، وتاب القاتل، وحسنتْ توبته، وكان عاجزًا عن دفع الدِّية؛ فيجوز أن يُعطى من الزكاة؛ لأنه يُعتبر من الغارمين.
أما إذا كانت الدِّيَة لقتل خطأ أو شبه عمدٍ فلا يجوز أن يُعطى من الزكاة؛ لأن الدِّيَة إنما تجب على عاقلته، فلا يجوز أن يُعطى من الزكاة.
وبعض أفراد العاقلة تجد أنه يدفع من الزكاة، هذا أيضًا لا يجوز، إنما تجب الدِّيَة على العاقلة، مجموع العاقلة يتعاونون في دفع الدِّيَة، هذا في القتل الخطأ وشبه العمد.
حكم مَن طلب من آخر أن يقتله أو يجرحه ففعل
قال:
ومَن قال لإنسانٍ: اقتلني أو اجرحني، فقتله أو جرحه، لم يلزمه شيءٌ.
يعني: من جهة الضمان؛ لأنه قد أَذِنَ له فيه؛ فسقط حقُّه.
قال بعض العلماء: لا يلزمه شيءٌ من جهة الدِّيَة، لكن الكفارة تلزمه.
وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأنه لا يُباح له أن يقتله، ولا أن يجرحه، وبَدَن الإنسان ليس مِلْكًا له أصلًا، فكونه يقول: اقتلني أو اجرحني، هو لا يملك أصلًا بَدَنَه، فكيف يقول: اقتلني أو اجرحني؟! بَدَنه مِلْكٌ لله ؛ فيأثم بذلك، وعليه الكفارة، وأما الدِّيَة فليس عليه دِيَةٌ، هذا هو القول الراجح في المسألة.
وكذا لو دفع لغير مُكلفٍ آلة قتلٍ، ولم يأمره به.
ليس عليه شيءٌ؛ لأنه لم يأمر بقتله، ولم يُباشره، لكنه يُعزَّر؛ لكونه دفع آلة القتل لغير مُكلفٍ.
باب شروط القصاص في النفس
ثم قال المصنف رحمه الله:
باب: شروط القصاص في النفس.
وعندنا شروط القصاص في النفس.
وفي الباب الذي بعده: شروط استيفاء القصاص، فهذه تختلف عن هذه، هذه شروط وجوب القصاص، إذا تحقَّقتْ وجب القصاص، أما في الباب الذي بعده: شروط استيفاء القصاص، يعني: إذا تحقَّقتْ شروط الوجوب فهناك أيضًا شروطٌ أخرى لاستيفائه، فبدأ المؤلف بشروط وجوب القصاص، قال:
الأول: تكليف القاتل
وهي أربعةٌ:
أحدها: تكليف القاتل، فلا قصاص على صغيرٍ ومجنونٍ، بل الكفارة في مالهما، والدِّيَة على عاقلتهما.
وذلك لأن المجنون والصغير غير مُكلفين، فعمدهما يُعتبر خطأً، فلا قصاص عليهما؛ لأن القلم مرفوعٌ عنهما.
فلو أن صبيًّا أخذ مسدسًا وقتل به آخر لا يُقْتَصُّ منه، وإنما يُعتبر قتل خطأ، فعمد الصبي خطأ، وهكذا أيضًا المجنون.
أما السكران فاختلف الفقهاء: هل يُقْتَصُّ منه أم لا؟
فمن الفقهاء مَن قال: لا يُقْتَصُّ منه. وهو قول قِلَّةٍ من الفقهاء، قالوا: إن الله يقول: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، والسكران لا يعلم ما يقول.
وذهب أكثر أهل العلم -وهو الذي عليه المذاهب الأربعة- إلى أن السكران يُقْتَصُّ منه إذا قتل حال سُكره.
ومثل ذلك: مَن وقع في المُخدرات، إذا قتل حال تعاطيه المُخدرات يُقْتَصُّ منه.
وهذا هو القول الراجح؛ لعموم الأدلة المُوجبة للقتل على القاتل من غير تفريقٍ بين السكران وغيره؛ ولأن القصاص حقٌّ لآدميٍّ، فلم يسقط بِسُكْر القاتل؛ ولأنه لو فُتح هذا الباب لأدَّى إلى انسداد باب القصاص؛ لأن كل إنسانٍ يريد أن يقتل آخر يَسْكَر ثم يقتله، ولا يُقْتَصُّ منه.
وأما ما استدلَّ به أصحاب القول الأول من قول الله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، فهذا ليست له علاقةٌ بالقصاص، إنما فيه نهيٌ عن قُرْبَان الصلاة وقت السُّكْر، وهذه كانت أيضًا في إحدى مراحل تحريم الخمر؛ لأن الخمر حرِّم بالتدريج؛ لأن العرب كانوا مُدمنين على الخمر، فكانت حكمة الشريعة أن يتدرَّج معهم في التحريم، فكان أول ما نزل: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، فأثنى الله على الرزق الحسن، وسكت عن السُّكْر.
ثم بعد ذلك نزل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فنهى عن الشرب والسُّكر وقت الصلاة.
ثم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219].
ثم المرحلة الرابعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90].
وهذا من حكمة الله : أن الشيء الذي أدمن عليه الإنسان يكون نهيه بالتَّدريج؛ ولذلك المُتعاطي للمُخدرات أو المُدمن على الخمر أو حتى على التدخين يُتدرَّج معه في علاجه، يُتدرَّج معه بالتَّدريج شيئًا فشيئًا.
فعلى هذا نقول: إن الصواب في هذه المسألة: أن السكران أو مُتعاطي المُخدرات إذا قتل حال سُكْره أو تعاطيه فإنه يُقْتَصُّ منه.
إذن الصغير والمجنون قلنا: عمدهما يُعتبر خطأً، أما السكران فَيُقْتَصُّ منه، والسكران اختار السُّكْر وهو يعلم أن عقله سيذهب فَقَتَل؛ فَيُقْتَصُّ منه، بخلاف الصغير والمجنون، فعمدهما يُعتبر خطأً.
نعم، سبق معنا أن السكران يُؤاخذ بأفعاله، ولا يُؤاخذ بأقواله، فطلاق السكران لا يقع، ولا يُحَدُّ إذا قذف، لكن يُؤاخذ بأفعاله، فإذا قتل يُقتل، وإذا أتلف يضمن.
الشرط الثاني: عِصْمَة المقتول
الثاني: عِصْمَة المقتول، فلا كفارة ولا دِيَة على قاتل حربيٍّ أو مُرتدٍّ أو زانٍ مُحْصَنٍ، ولو أنه مثله.
يعني: لا بد أن يكون المقتول معصوم الدم، فلا يكون مُهْدَر الدم، فلو أن مسلمًا قتل كافرًا حربيًّا، أو قتل مُرتدًّا، أو قتل زانيًا مُحْصَنًا محكومًا عليه بالرجم -مثلًا- فإنه لا يُقْتَصُّ منه حتى لو كان القاتل مثله، حتى لو كان القاتل -مثلًا- مُرتدًّا أو زانيًا مُحْصَنًا، فلا يُقْتَصُّ منه، لكنه يُعَزَّر على افتياته على الإمام.
الشرط الثالث: المُكافأة
قال:
الشرط الثالث: المُكافأة بألا يَفْضُل القاتلُ المقتولَ حال الجناية بالإسلام أو الحرية أو المِلْك، فلا يُقْتَل مسلمٌ بكافرٍ.
لأن الإسلام أعلى درجةً من الكفر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا يُقْتَل مسلمٌ بكافرٍ [13].
وعلى هذا لو قَتَلَ مسلمٌ كافرًا فإنه لا يُقْتَصُّ منه، لكن إذا كان هذا الكافر مُعاهَدًا أو ذِمِّيًّا أو مُسْتَأْمَنًا فَيُعَزَّر القاتل؛ لأن قتله أصلًا مُحرَّمٌ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن قتل مُعاهَدًا لم يَرِح رائحة الجنة [14]، لكن لا يُقْتَصُّ منه.
الكلام فقط في عدم القصاص، وليس معنى ذلك أنه لا يُعاقَب، بل يُعاقَب بعقوبةٍ تعزيريةٍ؛ لافتياته على الإمام؛ ولأن هذا الكافر معصوم الدم، الأصل أنه ما يُقْتَل ولا يُتَعَرَّض له، لكن الكلام في القصاص: لا يُقْتَصُّ من هذا القاتل.
وقوله: “أو المِلْك” يعني: لا يُقْتَل المُكاتَب بِقِنِّه، المُكَاتَب ما زال رقيقًا، لكن عنده شُبهة مِلْكٍ، فإذا كان يملك عبدًا فلا يُقْتَل بِقِنِّه؛ لأنه مالكٌ لرقبته.
ولا يُقْتَل الحرُّ بالعبد.
هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين:
فالمذاهب الثلاثة “المالكية والشافعية والحنابلة” على أنه لا يُقْتَل الحرُّ بالعبد، ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ ، واستدلوا بمفهوم الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة:178]، قالوا: مفهوم الآية: أن الحرَّ لا يُقْتَل بالعبد؛ ولأن العبد لا يُكافئ الحُرَّ.
القول الثاني: أن الحُرَّ يُقْتَل بالعبد، وهذا مذهب الحنفية، واختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله، واستدلوا بعموم الأدلة، وقالوا: إن الاستدلال بمفهوم المُخالفة في الآية لا يدفع ثبوت القصاص؛ لأن الأصل المُساواة بين بني آدم، فهذا إنسانٌ، وهذا إنسانٌ، فكيف يَقْتُل الحُرُّ العبدَ ولا نقتَصُّ من هذا الحُرِّ؟! والشريعة أتتْ بالعدل بين الناس.
يعني: وجهة هذا القول قويةٌ كما ترون، فالخلاف في هذه المسألة خلافٌ قويٌّ، لكن الرِّقَّ الآن انقرض من العالم، وأصبحنا الآن ندرسه من الناحية النظرية، والآن الرِّق أصبح مُجَرَّمًا دوليًّا، بل يُلاحَق مَن يفعله في جميع دول العالم، فنحن ندرسه الآن من الناحية النظرية فقط، لكن الخلاف في هذه المسألة خلافٌ قويٌّ، وقول الحنفية بأن الحُرَّ يُقْتَل بالعبد قولٌ له وجاهته.
وقوله:
ولو كان ذا رحمٍ مَحْرَمٍ له.
فيه إشارةٌ للخلاف؛ لأن بعض الفقهاء قالوا: إن العبد المُكَاتَب إذا كان ذا رحمٍ له فإنه يُقْتَل به، وكما ذكرنا: المسألة نظريةٌ، فلا نُطِيل فيها.
ويُقْتَل الحُرُّ المسلم ولو ذكرًا بالحُرِّ المسلم ولو أُنثى.
الذكورة والأنوثة غير مُؤثرةٍ، ليس لها أثرٌ في القصاص، فالذَّكر يُقتل بالأنثى، والأنثى تُقتل بالذَّكر بالإجماع، ويدلُّ لذلك أن النبي قتل يهوديًّا كان قد رَضَّ رأس جاريةٍ بين حجرين، فأمر النبي بأن يُرَضَّ رأسه بين حجرين [15].
والرقيق كذلك.
الرقيق يُقْتَل بالرقيق: وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة:178].
يعني: أن الكافر يُقْتَل بالمسلم، والعبد يُقْتَل بالحُرِّ، وهذا بالإجماع.
والذِّمِّي كذلك.
يعني: الذِّمِّي الحُرّ يُقْتَل بمثله، والذِّمِّي الرقيق يُقْتَل بمثله.
الشرط الرابع: ألا يكون المقتول ولدًا للقاتل
الرابع: أن يكون المقتول ليس بولدٍ للقاتل، فلا يُقْتَل الأب وإن عَلا، ولا الأم وإن عَلَتْ بالولد، ولا بولد الولد وإن سَفَلَ.
يعني: عدم وجود الولادة بين القاتل والمقتول؛ لقول النبي : لا يُقْتَل الوالد بالولد [16]، وهذا الحديث أخرجه الترمذي، وفي سنده مقالٌ، لكن تلقَّته الأُمة بالقبول كما قال ابن عبدالبَرِّ، لكن عامة العلماء على أن الوالد لا يُقْتَل بالولد، لا الأب، ولا الأم؛ لأن الأصل أن الأب والأم عندهما من الشَّفقة ما يمنعهما من أن يقتلا ولدهما عمدًا وعُدوانًا؛ لأنه أحيانًا ألم الأب أو الأم على ولده أشدُّ من ألم الولد نفسه.
انظر إلى قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، يعني: الأب ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، ويوسف ما أصابه شيءٌ، هل يوسف ابيضتْ عيناه من الحزن؟
تألُّم أبوه أشدّ من ألم يوسف ؛ ولذلك لما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:91- 92] مباشرةً.
بينما يعقوب -أبو يوسف عليهما السلام- ماذا قال؟
لما قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف:97- 98]؛ لأن ألم يعقوب أشد من ألم يوسف ، فقال: فيما بعد، ليس الآن؛ لأن الجرح ما زال عميقًا، ما زال الجرح لم يَنْدَمِل بعد، فأبو يوسف يعقوب عليهما السلام قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
فالأصل أن الأب والأم لا يقتلان ابنهما أو ابنتهما عمدًا وعُدوانًا، هذا هو الأصل، فكان هذا شُبهةً تدرأ القتل فلا يُقْتَصُّ به، لكن أحيانًا تنتكس الفطرة عند بعض الناس، فيمكن أن يُقْتَل تعزيرًا، وليس قصاصًا، وهذا سمعنا به منذ سنواتٍ مضتْ: أنه اقتُصَّ من أبٍ -أو أمٍّ- قَتَل ولده، لكن لاحظ هنا في تسبيب القتل لا يُقال: قصاصًا، إنما تعزيرًا.
وأحيانًا يكون -مثلًا- الأب أو الأم يتعاطى أحدهما المُخدرات، فيقتل ابنه، ونحو ذلك، فيمكن أن يُقْتَل، لكن ليس على سبيل القصاص، وإنما بمأخذٍ فقهيٍّ آخر: تعزيرًا -مثلًا- ونحو ذلك.
هل يُقاس الجدّ والجدّة على الأب والأم؟
هذا محل خلافٍ، وقول المذاهب الأربعة: إن الجدَّ والجدة يأخذان حكم الأب والأم.
وهناك من العلماء مَن قال: إن الجدَّ والجدة لا يأخذان حكم الأب والأم.
فالمسألة خلافيةٌ بين الفقهاء، فالجمهور والذي عليه المذاهب الأربعة: أن الجدَّ والجدة كالأب والأم؛ لعموم الحديث: لا يُقْتَل الوالد بالولد، والجدّ يُعتبر والدًا، والجدة تُعتبر والدةً.
والقول الثاني: أن هذا الحكم خاصٌّ بالأب والأم، وأن الجدَّ والجدة يُقْتَصُّ منهما، وهذا هو القول الراجح، اختاره ابن تيمية وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم؛ لأن الوالدين لهما من الشَّفقة والحنان ما يمنعهما من قتل أولادهما عمدًا وعُدوانًا، وهذا لا يوجد في الجدِّ والجدة، فهذا بالنسبة للجدِّ والجدة أقلّ، فالأقرب -والله أعلم- اختصاص هذا الحكم بالأب والأم دون الجدِّ والجدة.
القصاص على قدر الميراث
قال:
ويُورَثُ القصاص على قدر الميراث، فمتى ورث القاتل أو ولده شيئًا من القصاص فلا قصاص.
القصاص يُورَث كما يُورث المال، فهذا المقتول أولياء الدم هم ورثته: من زوجةٍ، ومن أبٍ وأمٍّ وأولادٍ وإخوةٍ، فأولياء الدم هم ورثة هذا المقتول، هذا معنى كلام المؤلف.
قال: “فمتى ورث القاتل أو ولده شيئًا من القصاص فلا قصاص” هنا يُريد المؤلف أن يُنَبِّه على بعض الصور التي يسقط فيها القصاص، وذلك إذا ورث الإنسان دَمَه، أو ورث بعض دَمِه.
مثال ذلك: لو أن رجلًا قتل أخ زوجته، وهذا المقتول ليس له أبٌ، وليس له أولادٌ، وإنما يرثه إخوانه وأخواته، فكان من ضمن الورثة أخته، فمعنى ذلك: أن أخته ترث الدم، فلو أن أخته -زوجة القاتل- ماتت فسيرثها القاتل، فيرث هذا القاتل بعض دمه؛ فيسقط القصاص في هذه الحال.
مثالٌ آخر: لو قتل أحد الزوجين الآخر وبينهما ولدٌ؛ فيسقط القصاص، لماذا؟
لأن الوارث للدم سيكون ولده، والولد لا يُطَالِب بدم أبيه؛ فيسقط القصاص، لكن ليس معنى هذا أنه لا يُعاقَب، يُعاقَب، وربما أيضًا يُحْكَم عليه بالقتل، لكن ليس قصاصًا، وإنما بمأخَذٍ فقهيٍّ آخر كالتَّعزير -مثلًا- لكن لو أن زوجين بينهما ولدٌ، وقتل أحدهما الآخر، لا يُقْتَل به قصاصًا، لكن قد يُقْتَل به تعزيرًا.
طالب: …….
الشيخ: إذا لم يكن له ولدٌ فَيُقْتَل به.
أولياء الدم في القتل العمد -هذه مسألةٌ نُبِّهَ عليها في “السلسبيل”- إذا طالبوا بمالٍ أكثر من الدِّيَة فهل يجوز؟
نعم يجوز.
يعني: قال أولياء الدم: نُطالب بالقصاص إلا إذا أعطيتُمونا عشرة ملايين. يجوز.
وبعض الناس يقول: يُفترض تحديد مبلغٍ أعلى للصُّلح، لكن هذا غير مناسبٍ؛ لأن تحديد مبلغٍ أعلى يجعل أولياء الدم يختارون هذا المبلغ، فلو قيل -مثلًا-: الحدُّ الأعلى مليونان. ستجد أن أولياء الدم كلهم يُطالبون بمليونين، ويُصبح هذا كأنه عُرفٌ وشيءٌ مُستقرٌّ.
أيضًا فتح الباب فيه رَدْعٌ للناس عن القتل؛ لأن هذا القاتل إذا علم أنه حتى لو عُفِيَ عنه لن يُعْفَى عنه إلا بمبالغ باهظةٍ ستُتْعِب عاقلته، وستُتْعِب أهله وقرابته، فهذا سيكون فيه رَدْعٌ للناس عن أن يَتَجَرَّؤوا على القتل.
وعُرِضَ هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء، وصدر قرارٌ بنحو هذا، وأن يُترك الناس على ما هم عليه، لكن تكون هناك توعيةٌ بعدم أخذ مبالغ طائلة عند الصُّلح على القصاص، لكن التحديد غير مناسبٍ، يعني: وليّ الدم يقول: أريد القصاص، أو أريد مبلغ كذا. شرعًا ليس هناك مانعٌ يمنع.
هل عاقلته مُلزمون؟
لو أن أولياء الدم قالوا: ما نسمح إلا بعشرة ملايين، أو عشرين مليونًا أو أكثر. هل عاقلته مُلزمون بدفع المبلغ؟
الجواب: غير مُلزمين، فالعاقلة إنما تُلْزَم بدفع دِيَة القتل الخطأ وشبه العمد فقط، أما العمد فالعاقلة غير مُلزَمةٍ أصلًا.
طالب: …….
الشيخ: يملك حقَّ العفو أولياءُ الدم، وسيأتي الكلام عن هذا، فوليّ الدم حتى لو لم يرث إلا شيئًا يسيرًا، حتى لو كانت الزوجة لا ترث إلا الثُّمن، إذا عفا واحدٌ سقط القصاص مباشرةً.
باب شروط استيفاء القصاص
نأخذ هذا الباب:
باب: شروط استيفاء القصاص.
وهو مُكَمِّلٌ للباب الذي قبله.
استيفاء القصاص يعني: فِعْل مجنيٍّ عليه، أو فعل وليِّه بِجَانٍ، مثل فعله أو شبهه.
“فعل مجنيٍّ عليه” هذا في القصاص دون النفس، فمَن جُنِيَ عليه جنايةً دون النفس فالمجني عليه يَقْتَصُّ، يعني مثلًا: فَقَأَ عينه، نقول: افْقَأْ عينه: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ [المائدة:45]، أو وليُّه إذا كان القصاص في النفس، فيفعل مثل فعله.
والأصل أن الذي يستوفي القصاص فيما دون النفس هو المجنيُّ عليه، أما إذا كان في النفس فَوَلِيُّ الدم هو الذي يُباشر القتل، وقد أشرنا لهذا قبل قليلٍ، وقلنا: كان هذا هو الذي عليه العمل؛ ولذلك لو أن وَلِيَّ الدم قال: أنا أُريد أن أقتل القاتل بنفسي. يُمكن أن يُعطى سيفًا، نقول: تفضل، اقتله بنفسك؛ لأن هذا أبلغ في التَّشَفِّي، هذا هو الأصل: أن وَلِيَّ الدم هو الذي يُباشر القتل، لكن أصبح عامة الناس في الوقت الحاضر يُوَكِّلون جهات الدولة في استيفاء القصاص نيابةً عنهم.
قال:
وهي ثلاثةٌ.
يعني: شروط استيفاء القصاص ثلاثةٌ.
الشرط الأول: تكليف المُستحقّ
أحدها: تكليف المُستحقّ، فإن كان صغيرًا أو مجنونًا حُبِسَ الجاني إلى تكليفه.
أن يكون المُستحق للقصاص بالغًا، عاقلًا، فإن كان غير بالغٍ أو غير عاقلٍ يُحْبَسُ الجاني؛ لأن القصاص إنما ثبت لما فيه من التَّشفِّي، ولا يحصل ذلك لمُستحقِّه باستيفاء غيره.
ويدل لذلك القصة المشهورة: أن معاوية حبس هُدْبَة بن خَشْرَم في قصاصٍ حتى بلغ ابنُ القتيل، وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصحابة.
ورُوِيَ أن الحسين بن علي وسعيد بن العاص وغيرهما عرضوا على ابن القتيل سبع دِيَاتٍ، فلم يقبل، حتى بلغ ابن القتيل، ثم اقتُصَّ من القاتل.
والغالب أن الجاني إذا حُبِسَ حتى يبلغ القُصَّر، الغالب على القُصَّر إذا بلغوا العفو أو عدم العفو؟
عدم العفو، الغالب عدم العفو؛ وذلك لأن هذا القاصر أولًا يشعر بمرارة اليُتْم.
ثانيا: يُلَقَّنُ من صِغَره، يُلَقَّنُ أن فلانًا هو الذي قتل، ولا بد لك أن تُطالب، ففي الغالب أنه إذا بلغ لا يعفو، يعني: يندر أن قاصرًا بلغ وعفا، فمعظم القاصرين إذا بلغوا يُطالبون بالقصاص.
بالنسبة لحبس القاتل حتى يبلغ القاصر هذا ظاهرٌ، لكن حبسه حتى يُفِيق المجنون هذا فيه إشكالٌ؛ لأن القاصر بلوغه قريبٌ ومُحدَّدٌ بسنواتٍ معينةٍ، لكن المجنون قد لا يُفِيق، بل الغالب عليه عدم الإفاقة؛ فيحصل ضررٌ على أولياء الدم، فلا هم الذين استوفوا القصاص وحصل التَّشفِّي، ولا هم الذين أخذوا الدِّيَة.
ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن الوارث للدم إذا كان مجنونًا أو كان شيخًا كبيرًا زال عقله ولا يُرْجَى بُرْؤُه فإن وليَّه يقوم مقامه، وهذا هو القول الراجح، لكن يجب على الولي أن يختار ما هو الأصلح من القصاص أو الدِّيَة، ولا يُؤخِّر القصاص حتى يُفِيق المجنون.
فالقول بأنه يُحْبَس الجاني حتى يُفِيق المجنون هذا قولٌ ضعيفٌ، وهذا هو الذي عليه العمل: أنه إذا كان وليُّ الدم مجنونًا فوليُّه يقوم مقامه.
المؤلف لما ذكر هذا القول رجع واستثنى قال:
فإن احتاج لنفقةٍ فَلِوَلِيِّ المجنون فقط العفو إلى الدِّيَة.
وهذا ما يُضعف قوله بأنه يُحْبَس القاتل حتى يُفيق المجنون؛ لأنه رجع واستثنى هذه المسألة.
وليُّ المجنون إذا قلنا: يختار، يجب عليه أن يختار ما هو الأصلح من القصاص أو الدِّيَة، لكن هل له العفو مجانًا؟
ليس له العفو مجانًا، فالعفو مجانًا ليس من مصلحة المجنون، وأيضًا في القتل الخطأ لا يملك الوليُّ العفو مجانًا، بل لا بد من الدِّيَة في القتل الخطأ.
أما بالنسبة لوليِّ المجنون في القتل العمد فيختار الأصلح من القصاص أو الدِّيَة، لكن ليس له العفو مجانًا.
الشرط الثاني: اتِّفاق المُستحقين على استيفائه
الثاني من الشروط.
الثاني: اتِّفاق المُستحقين على استيفائه، فلا ينفرد به بعضهم.
لا بد من اجتماع أولياء الدم على المُطالبة بالقصاص، فلو عفا واحدٌ منهم سقط القصاص.
قال:
ويُنْتَظَرُ قدوم الغائب، وتكليف غير المُكلف.
إذا كان أحد أولياء الدم غائبًا يُنْتَظرُ، وإذا كان غير مُكلفٍ، فإن كان صغيرًا يُنْتَظرُ حتى يبلغ، وإن كان مجنونًا فقد ذكرنا الخلاف، وذكرنا أن القول الراجح: أن وليَّه يقوم مقامه.
ومَن مات من المُستحقين فوارثه كَهُو.
يعني: لو مات أحد أولياء الدم يقوم وارثه مقامه تمامًا.
وإن عفا بعضهم -ولو زوجًا أو زوجةً- أو أقرَّ بعفو شريكه؛ سقط القصاص.
إذا عفا أحد الورثة سقط القصاص، حتى لو كان الذي عفا زوجةً ليس لها إلا الثمن، فيسقط القصاص؛ وذلك لأن القصاص لا يَتَبَعَّض، فإذا سقط بعضه سقط كله.
الشرط الثالث: أن يُؤْمَن في استيفائه تَعَدِّيه إلى الغير
الثالث من شروط استيفاء القصاص.
الثالث: أن يُؤْمَن في استيفائه تَعَدِّيه إلى الغير.
ومُراد الفقهاء بذلك المرأة الحامل؛ ولهذا قال المصنف:
فلو لزم القصاص حاملًا لم تُقْتَل حتى تضع.
فإذا كان القاتل امرأةً، وكانت حاملًا، ننتظر حتى تضع، ولا تُقْتَل؛ لأنها لو قُتلتْ وهي حاملٌ فسيُؤدِّي هذا إلى قتل الجنين، فيتعدَّى القتل إلى غيرها؛ ولهذا في قصة الغامدية التي أقرَّتْ بالزنا قال لها النبي : ارجعي حتى تضعي ما في بطنك، فرجعتْ، ثم أتتْ بطفلها في خِرْقَةٍ، قالت: يا رسول الله، أَقِمْ عليَّ الحَدَّ. قال : حتى تفطميه، وبقي عندها سنتان تُرضعه، ثم أتتْ به بعد سنتين وفي يده كِسْرَة خبزٍ، تُبيِّن للنبي أنها فطمته، فبعد سنتين أتتْ به النبي عليه الصلاة والسلام، فدفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى أحد الصحابة حتى يَكْفُلَه، وأمر بها فَرُجِمَتْ، فأصاب الدمُ أحدَ الصحابة؛ فنال منها، فقال عليه الصلاة والسلام: مَهْلًا، فوالذي نفسي بيده، لقد تابتْ توبةً لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم، وفي لفظٍ: لو تابها صاحب مَكْسٍ لَغُفِرَ له، وهل وجدتَ توبةً أفضل من أن جادتْ بنفسها لله ؟ [17]، تابت توبةً عظيمةً رضي الله عنها.
الشاهد: أن النبي عليه الصلاة والسلام أَخَّرَ رجمها سنتين حتى تضع، وحتى تفطم ولدها، وهكذا أيضًا يُقال في القصاص.
قال:
ثم إن وُجِدَ مَن يُرضعه قُتلتْ وإلا فلا حتى تُرضعه لِحَوْلين.
يعني: يُنْتَظَر أيضًا ولا يُقْتَصُّ منها حتى تُرضعه لحولين إلا إذا وُجِدَ مَن يُرضعه، لكن في الوقت الحاضر قد يُقال بأن الحليب البودرة يقوم مقام الرضاعة الطبيعية، فيُمكن أن يُقْتَصَّ منها، ويُرْضَع هذا الطفل بهذا الحليب، قد يُقال بذلك.
ويحتمل أن يُقال: إن هذه البودرة لا تقوم مقام الرضاعة الطبيعية، فإذا لم يُوجد مَن يُرضع رضاعةً طبيعيةً فيُؤخَّر القصاص من هذه المرأة إلى ما بعد سنتين، هذا أيضًا مُحتملٌ، وهذه المسائل يجتهد فيها القاضي.
ونقف عند قول المصنف رحمه الله:
ويَحْرُمُ استيفاء القصاص بلا حضرة سلطانٍ.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة، ونبدأ أولًا بالأسئلة المكتوبة.
السؤال: ما الفرق بين النَّصيحة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؟
الجواب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جزءٌ من النصيحة، فإن النصيحة عامةٌ، تشمل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وتشمل غيره أيضًا، فالنصيحة قد تكون في المُستحبات أو في فعل المكروه أيضًا، فتكون على سبيل الإرشاد، وتكون أيضًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السؤال: ما صحة حديث: مَن صام رمضان ثم أَتْبَعَهُ سِتًّا من شوال كان كصيام الدَّهر هل فيه ضعفٌ من أحد رُواته؟ وهل فيه أفضليةٌ على صيامها من أول شوال؟
الجواب: الحديث صحيحٌ؛ أخرجه الإمام مسلمٌ في “صحيحه” [18]، وما قيل في سنده؛ تكلم بعض العلماء في سنده، لكن ردَّ أكثر المُحدثين هذا الكلام، وذكروا أنه لا مَطْعَن في إسناده، وأنه حديثٌ صحيحٌ، ويكفي أن الإمام مسلمًا أخرجه في “صحيحه”، والبخاري ومسلمٌ قد تلقتهما الأُمة بالقبول، فالحديث عند أكثر المُحدثين حديثٌ صحيحٌ؛ ولذلك أخذ بظاهره أكثر أهل العلم.
ولا فرق بين أن يصوم في أول شوال، أو في وسطه، أو في آخره؛ لأن النبي أطلق، قال : مَن صامَ رمضان ثم أَتْبَعَه سِتًّا من شوال.
لماذا حُدِّدتْ ستة أيامٍ من شوال؟ يعني: لماذا لم يَقُل: خمسًا، أو لم يَقُل: سبعًا؟
قال أهل العلم: لأن الحسنة بعشر أمثالها، فصيام رمضان يعدل صيام عشرة أشهرٍ، وصيام ستة أيامٍ يُعادل صيام ستين يومًا، يعني: شهرين، فإذا أضفتَ شهرين إلى عشرةٍ فالمجموع اثنا عشر شهرًا، يعني: السنة، وهذا معنى قوله : كان كصيام الدهر يعني: كان كصيام السنة.
وهنا أُنَبِّه إلى أن بعض الناس عندهم نَفَسُ التَّزهيد في فعل الخير، فإذا أتتْ طاعةٌ من الطاعات ذهبوا وبحثوا عن أقوالٍ شاذةٍ أو أقوالٍ ضعيفةٍ وأثاروها في الناس، وهذا مسلكٌ غير سديدٍ، هذا من قِلَّة التَّوفيق؛ لأن الأقوال الشَّاذة ينبغي أن تُطْوَى ولا تُرْوَى، فمثل إثارة هذه الأقوال قد يُزَهِّد بعض العامة في فعل بعض الصالحات.
ولذلك في المقاطع التي تكون في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تُثير بعض الآراء والأقوال التي فيها التَّزهيد في فعل بعض أعمال الخير ينبغي ألا تُنْشَر، وإذا وصلك مقطعٌ فاجعله يقف عندك، وتجد أن هذا ظاهرٌ، فعندما -مثلًا- يأتي رمضان يأتي مَن يُزَهِّد في العمرة في رمضان، ويقول: إن العمرة في أشهر الحج أفضل، ويُزَهِّد الناس فيها، مع أنها عملٌ صالحٌ، وعمرةٌ في رمضان تعدل حجةً [19].
إذا أتى شهر شوال يأتي مَن يُزَهِّد في صيام الستِّ من شوال، وربما أتى بالكلام عن سند الحديث، أو أتى بقول الإمام مالك في صيام الستِّ ونحو ذلك.
إذا أتتْ عشر ذي الحجة يأتي مَن يُزَهِّد في صيام التسعة الأيام الأولى، يقول: النبي لم يكن يصومها.
إذا أتت الأُضحية يأتي مَن يُزَهِّد فيها، يقول: الناس ليسوا بحاجةٍ للحم الآن، وتَصَدَّق بقيمتها.
إذا أتى صيام عاشوراء يأتي مَن يُزَهِّد فيه أيضًا ويُثير بعض الأقوال الشَّاذة أو المرجوحة.
فهذا النَّفَس ينبغي الابتعاد عنه، وإذا لم تفعل الخير فَدَعْ غيرك يفعل الخير، لكن لا تُزَهِّد الناس في عمل الخير، فهذا التَّزهيد يأتي من بعض الناس أحيانًا بحُسْن نيةٍ، فليس كل قولٍ مُعتبرًا؛ لأن بعض الأقوال أقوالٌ شاذةٌ وأقوالٌ مرجوحةٌ، وهذه ينبغي ألا تُذْكَر أصلًا ولا تُثَار، والناس ما داموا قد اعتادوا على أعمالٍ صالحةٍ، وقال بذلك أئمةٌ وعلماء كبار؛ ينبغي ترك الناس على ما هم عليه، وعدم تزهيد الناس في عمل الخير.
السؤال: معلمة القرآن هل لها أن تدخل المسجد وتُعلِّم القرآن أثناء الحيض؟
الجواب: ليس لها ذلك؛ لأن الحائض ممنوعةٌ من اللبث في المسجد، والله يقول: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، والحائض كالجُنُب؛ ولهذا لما طلب النبي من عائشة رضي الله عنها أن تُناوله الخُمْرَة، قالت: إني حائض. قال : إن حيضتك ليست في يدك [20].
فقوله : إن حيضتك ليست في يدك إقرارٌ بأن الحائض لا تمكث في المسجد، فيقول: ناوليني هذا الشيء بيدك، والحيضة ليست في يدك.
فالحائض ممنوعةٌ من اللبث في المسجد؛ ولذلك ينبغي أن تكون حلقات التَّحفيظ النسائية خارج المساجد، فَوَضْعُها داخل المساجد غير مُناسبٍ؛ لأن وضع حلقات التحفيظ النسائية داخل المساجد يترتب عليه أن ما يُقارب ربع الطالبات وربع المُعلمات سينقطعن أسبوعًا من كل شهرٍ؛ لأن الدورة الشهرية تأتي المرأة أسبوعًا في الشهر عادةً؛ ولذلك ينبغي للقائمين على الدُّور النسائية أن يُهَيِّؤوا دُورًا خارج المساجد، ولا تكن داخل المساجد؛ لأنها داخل المساجد يترتب عليها هذا الإشكال الشرعي.
السؤال: ما السَّبيل للخلاص من النظر المُحرم؟
الجواب: يكون ذلك بالمُجاهدة -مُجاهدة النفس- فيُجاهد الإنسان نفسه، وإذا وقع في معصيةٍ يستغفر الله ويتوب إليه، فكل بني آدم خَطَّاء، وخير الخَطَّائين التَّوابون، والله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30- 31].
السؤال: مُؤذن مسجدٍ يُوكِّل عامل المسجد غالبًا في الأذان، فهل تبرأ ذِمَّته بذلك؟
الجواب: لا تبرأ ذِمَّته بذلك، إذا كان هذا هو الغالب فهذا المُؤذن ليس له أن يستمر في هذا المنصب، فالإمام والمؤذن لا بد أن يكون حضورهما أكثر من غيابهما، فإن كان غيابهما أكثر من حضورهما فليس لهما أن يستمرا، ولا يجوز لهما أن يأخذا المُكافأة المرصودة على ذلك.
والمسجد بيت الله ، وليس جمعيةً خيريةً، فهو بيت الله سبحانه وتعالى، فإما أن يقوم به الإمام والمؤذن على الوجه المطلوب، أو أنهما يعتذرا، أما أن يتولى هذا المنصب -الإمامة أو المُؤذن- ويُوكِّل غيره غالبًا؛ فهذا فيه إخلالٌ بالأمانة.
السؤال: ما حكم الشرب وقت أذان الفجر؟ وهل الحديث الوارد في ذلك ضعيفٌ؟
الجواب: الحديث الوارد في ذلك صحيحٌ بمجموع الطرق، وقد يكون في بعض طرقه ضعفٌ كما أشار لذلك ابن أبي حاتم، لكنه بمجموع طرقه ثابتٌ، وذكر له ستة شواهد، فهو بمجموع الطرق ثابتٌ.
فعلى هذا لا حرج في الأكل والشرب وقت أذان الفجر.
وحتى لو لم يثبت الحديث فقواعد الشريعة تدل لذلك؛ لأن الأصل بقاء الليل، ومَن أكل أو شرب شاكًّا في طلوع الفجر فصيامه صحيحٌ عند عامة أهل العلم.
ثم إن الفجر أيضًا ليس كغيره من الأوقات، فهو يطلع شيئًا فشيئًا؛ ولذلك لو راقب اثنان الفجر ربما يختلفان، هذا يقول: طلع، والآخر يقول: لم يطلع.
فعلى هذا الأمر فيه سَعَةٌ، ومما يُؤيِّد هذا أن الآثار المروية عن السلف من الصحابة والتابعين تدل على تسامحهم الشديد في هذه المسألة.
وابن عباسٍ رضي الله عنهما أمر غلامين بأن يرصدا الفجر له، فقال أحدهما: طلع الفجر. وقال الآخر: لم يطلع. فجعل يأكل ويتسحَّر حتى اتَّفقا على أنه طلع، فهذا يدل على أن هذه المسألة لا يُشدَّد فيها.
وأما ما يفعله بعض العامة إذا سمع أذان الفجر، وكانت في فمه لُقْمَةٌ، لَفَظَ ما في فمه، فهذا لا أصل له: إذا سمع أحدكم النِّداء والإناء على يده فلا يَضَعْه حتى يقضي حاجته منه [21].
السؤال: هل يصح القول بأن يوم القيامة لا يمكن فعل أيِّ عبادةٍ فيه إلا قراءة القرآن؟
الجواب: هذا غير صحيحٍ، إذا مات الإنسان فقد أُغْلِقَ في وجهه باب العمل، فلا يُقْبَل منه شيءٌ، وإذا بلغت الروح الحلقوم أُغْلِقَ في وجهه باب التوبة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18]، فيُغلق باب التوبة إذا بلغت الروح الحلقوم، أو طلعت الشمس من مغربها، لماذا؟
لأنه إذا بلغت الروح الحلقوم انتقل الإنسان من الغيب إلى الشهادة، وإذا طلعت الشمس من مغربها أيضًا انتقل الإنسان من الغيب إلى الشهادة، والتَّكليف إنما يكون في الإيمان بالغيب، أما إذا رأى الإنسان الملائكة فليس لإيمانه مَزِيةٌ؛ سيُؤمن، أيُّ إنسانٍ سيُؤمن إذا رأى المَلَك أتى لقبض روحه، فقد انتقل من الغيب إلى الشهادة، فالعمل ينقطع بالموت.
وعلى هذا لا ينفع الإنسان أيُّ عملٍ صالحٍ بعد موته إلا ما ذكره النبي في قوله: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له [22].
السؤال: ما حكم دفع بعض الأموال لعتق رقبة القاتل؟
الجواب: أولًا: تسمية ذلك بعتق رقبةٍ هذه تسميةٌ غير صحيحةٍ، فعتق الرقبة مُتعلِّقٌ بالرِّق، والرِّق قد انقرض الآن، وإنما التَّعبير الصحيح أن يُقال: للصلح عن القصاص، المُصالحة عن القصاص، دفع مال مُصالحة عن القصاص.
ثانيًا: إذا تاب القاتل، وطلب دفع أموال مُصالحة عن القصاص، فمَن يُشارك في ذلك مأجورٌ -إن شاء الله-؛ لأنه يُحْسِن لأخيه المسلم.
هذا مسلمٌ قد ابتُلِيَ وحصلتْ منه هذه المعصية، وتاب إلى الله ، ويُريد من أقاربه أن يستنقذوه من القصاص بدفع هذه المبالغ، فالمُشاركة في ذلك لا بأس بها، وسعيٌ في عملٍ صالحٍ، بشرط أن يكون القاتل قد تاب، فالمُشاركة في ذلك سعيٌ في عملٍ صالحٍ، إن شاء الله.
السؤال: يقول: أريد تعريفًا للربا؟
الجواب: لعلَّ الأخ يرجع للدروس في باب “الربا”، وقد تكلمنا عن الربا كلامًا مُفصَّلًا، وذكرنا تعريفه وأقسامه وضوابطه ومسائله، فالدرس موجودٌ على (اليوتيوب)، وأيضًا موجودٌ في “السلسبيل” الشرح مُفصَّلٌ، فَنُحِيل الأخ السائل لذلك.
السؤال: إذا تعمد الطبيب فعل شيءٍ في العملية ليس من المُفترض أن يفعله، ومات المريض بمرضٍ مُعيَّنٍ لم يعلم الطبيب عنه؛ لأن المريض لم يُخْبِره، فتسبَّب هذا المرض المجهول في وفاته، فماذا على الطبيب؟
الجواب: إذا حصل من الطبيب تفريطٌ أو تَعَدٍّ فعليه الدِّيَة، وعليه الكفَّارة، أما إذا لم يحصل منه تَعَدٍّ ولا تفريطٌ، وإنما بذل غاية جهده، ومات المريض؛ فليس عليه شيءٌ، هذه القاعدة في هذا الباب.
السؤال: يا شيخ، بعض المرضى يُخْفِي بعض الأمراض، مثلًا: يكون عنده سكرٌ، ويسأله الدكتور، فيقول: لا، ليس عندي سكرٌ. وإذا أجرى عمليةً صارتْ مُضاعفاتٌ؟
الجواب: معنى ذلك: أن الطبيب لم يحصل منه تَعَدٍّ ولا تفريطٌ.
السؤال: ما حكم التقسيط بشركات الوساطة، مثل: تمارا وتابي، علمًا بأن هناك غرامة تأخيرٍ؟
الجواب: التقسيط عن طريق هذه الشركات من حيث الأصل والهيكلة جائزٌ، لكن الإشكال الوحيد عندهم هو شرط غرامة التأخير.
وشرط غرامة التأخير هنا محل خلافٍ؛ وذلك لأن هذه الشركات لا تأخذ هذه الغرامة، وإنما تُنْفِقها في وجوه البرِّ، وهذه المسألة محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين:
فمنهم مَن أجازها، ومن أبرز مَن أجازها: هيئة المُراجعة والمُحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية (أيوفي).
ومنهم مَن منعها، وعلى ذلك أكثر العلماء المعاصرين.
والأقرب -والله أعلم- هو المنع، لكن مع ذلك تبقى المسألة اجتهادية، ليست مثل المسائل الأخرى التي هي محل إجماعٍ، وذلك إذا تأخر المدين عن سداد الدَّين قال له الدائن: إما أن تقضي، وإما أن تُربي. ثم يفرض عليه غرامةً، ويأخذ الدائن غرامةً، فهذا حرامٌ بالإجماع.
لكن هذه المسألة في شركات الوساطة هنا: هذه الشركات لا تأخذ غرامةً، وإنما تدفعها لوجوه البرِّ، ووضعتْ هذه الغرامة من باب حَثِّ هذا المدين على سداد الدين.
فعلى هذا المسألة اجتهادية، وإن كان الراجح أن هذا الشرط لا يجوز.
وعلى ذلك فالتعامل مع هذه الشركات: إن كان المُتعامل معها قد يدفع غرامة التأخير، فنقول: لا يجوز أن يتعامل معها.
أما إذا كان قد ضمن أنه لن يدفع غرامة التأخير بأن وضع آليةً بحيث يضمن أنه لن يدفع غرامة التأخير، ويقول: حتى لو حصلتْ لي ظروفٌ فأنا على استعدادٍ بأن أقترض ولا أدفع غرامة التأخير، يعني: يضمن ضمانًا تامًّا أنه لن يدفع غرامة التأخير؛ فلا بأس بذلك، إن شاء الله.
السؤال: ما حكم حساب الادخار في بنك البلاد؟
الجواب: لا بأس به، هو بنكٌ إسلاميٌّ، وعندهم هيئةٌ شرعيةٌ تَبْرَأ بها الذِّمة، إن شاء الله.
السؤال: ما حكم مَن استدان لأجل أن يُخرج زكاة الفطر؟
الجواب: لا بأس بذلك، خاصةً مَن كان له مُرتبٌ أو دخلٌ شهريٌّ ويرجو أن يُسدِّد الدَّين قريبًا، فلا بأس بذلك.
السؤال: ما حكم جمع مبالغ لإقامة وقفٍ للميت؟
الجواب: إذا لم يكن في ذلك إحراجٌ للناس فلا بأس، أما إذا كان فيه إحراجٌ فينبغي تركه.
إذا كان فيه إحراجٌ بأن يُتَّصل على الإنسان ويُقال: نُريد منك أن تدفع لأجل هذا الوقف، فيدفع مبلغًا لم تَطِبْ نفسه به، فهذا ينبغي تركه؛ لأنه لا يحلُّ مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبةٍ من نفسه، لكن إذا لم يكن فيه إحراجٌ بأن قيل -مثلًا-: هذا رقم الحساب لمَن أراد أن يُشارك في الوقف عن هذا الميت، فهذا لا بأس به؛ لأن فيه خيرًا لمَن يدفع، وفيه خيرًا للميت، ففيه خيرٌ للميت؛ فيه صدقةٌ جاريةٌ عن هذا الميت، وفيه خيرٌ لمَن يدفع؛ لأن فيه إحسانًا لأخيه المسلم، فإذا لم يكن فيه إحراجٌ فلا بأس، هذا من التعاون على البرِّ والتقوى.
أما إذا كان فيه إحراجٌ للناس فينبغي تركه؛ لأنه لا يحلُّ مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبةٍ من نفسه.
السؤال: تكثر الأمطار هذه الأيام، فما ضابط الجمع بين الصلاتين؟
الجواب: ضابط الجمع بين الصلاتين: وجود الحرج والمشقة غير المُعتادة بترك الجمع، فإذا وُجِدَ حرجٌ أو مشقةٌ غير مُعتادةٍ جاز الجمع.
أما إذا لم توجد مشقةٌ غير معتادةٍ فالأصل أن الصلاة تُصلَّى في وقتها، ولا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر إلا لسببٍ ولعذرٍ، وأحيانًا -خاصةً في فصل الصيف- عندما ينزل المطر لا توجد أدنى درجات الحرج، بل بالعكس الجو يتلطَّف، والناس يخرجون للاستراحات والمُنتزهات والطرق مُبتهجين بهذا المطر، ولا توجد أدنى درجات الحرج والمشقة، ومع ذلك تجد أن بعض أئمة المساجد يجمع!
هذا الجمع غير مشروعٍ، وهذا فيه تساهلٌ من بعض الأئمة.
وأذكر أن شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله أمر جماعة مسجدٍ لما جمعوا، والمطر كان متوسطًا، فلم تكن هناك مشقةٌ كبيرةٌ؛ أمرهم أن يُعيدوا صلاة العشاء.
فينبغي عدم التَّساهل في هذه المسألة، خاصةً أن شرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، وقد تسقط كثيرٌ من الشروط والأركان مُراعاةً لشرط الوقت.
لو افترضنا -مثلًا- أن رجلًا مريضًا عاجزٌ عن استقبال القبلة، وعاجزٌ عن الطهارة، وعاجزٌ عن القيام، وعاجزٌ عن الركوع، وعاجزٌ عن السجود، وعاجزٌ عن أكثر أركان وشروط الصلاة، نقول: صَلِّ على حسب حالك، لكن لا تترك الصلاة حتى يخرج وقتها، كلُّ ذلك مُراعاةً لشرط الوقت، وهذا يدل على تأكُّد شرط الوقت، والله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فالأصل أنه لا يجوز الجمع إلا عند وجود المشقة غير المعتادة، أو عند وجود الحرج الظاهر.
طالب: …….
الشيخ: نعم، خيرٌ من ذلك إذا كان المطر ينزل بغزارةٍ أن يقول المُؤذن في الأذان: صلُّوا في بيوتكم. بعد الأذان يقول: صلُّوا في بيوتكم؛ لأن هذه السنة، سنةٌ قد جاءتْ في الصحيحين، وهي سنةٌ ثابتةٌ؛ ولأن غاية ما يترتب على ذلك ترك صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة تسقط بالعذر، حتى ذكر الفقهاء أعذارًا أقلَّ من هذا، مثل: لو خشي على طبيخٍ يحترق، يعني: ذكروا أعذارًا أقلَّ من هذا، لكن لا يترتب على ذلك إسقاط شروطٍ ولا أركان.
فخيرٌ من ذلك أن يقول: صلُّوا في بيوتكم، لكن كونه يُقَدِّم صلاةً من وقتٍ إلى وقتٍ هذا لا بد فيه من أمرٍ واضحٍ، لا بد من وجود حرجٍ أو مشقةٍ غير مُعتادةٍ.
طالب: سُحُب الصيف أيضًا تختلف عن سُحُب غير الصيف.
الشيخ: نعم، صحيحٌ.
لعلنا نختم بهذا السؤال.
السؤال: ما السنة في تحريك السبَّابة عند التَّشهد؟
الجواب: القول الراجح في هذه المسألة: أن المُستحبَّ للمُصلِّي أن يرفع السبابة -ويُقال لها: السبَّاحة- أن يرفعها مع إحنائها قليلًا هكذا، يعني: لا يرفعها هكذا، إنما يرفعها ويحنيها قليلًا، ويجعلها مرفوعةً طوال التَّشهد، ويُحَرِّكها عند ذكر اسم الله: “التَّحيات لله” يُحَرِّكها، “اللهم” يُحَرِّكها، “أشهد أن لا إله إلا الله” يُحَرِّكها، فتكون مرفوعةً طوال التَّشهد ويُحَرِّكها عند ذكر اسم الله تعالى.
هذا هو القول الراجح في مسألة رفع السبَّابة في التَّشهد.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقية الأسئلة نُجيب عنها بعد درس غَدٍ، إن شاء الله.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2699. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 6910، ومسلم: 1681. |
^3 | رواه أبو داود: 4547، والنسائي: 4791، وابن ماجه: 2627، وأحمد: 6533. |
^4 | رواه البخاري: 6533، ومسلم: 1678. |
^5 | رواه البخاري: 6862. |
^6, ^7 | رواه البخاري: 3470، ومسلم: 2766. |
^8 | ذكره البخاري قبل حديث: 6897. |
^9 | رواه مسلم: 2188. |
^10 | رواه البخاري قبل حديث: 6897. |
^11 | رواه مالك في “الموطأ” رواية محمد بن الحسن الشيباني: 671، وعبدالرزاق في “مصنفه”: 18075. |
^12 | ذكره البيهقي في “معرفة السنن والآثار”: 15812. |
^13 | رواه الترمذي: 1413، وابن ماجه: 2659. |
^14 | رواه البخاري: 3166. |
^15 | رواه البخاري: 2413، ومسلم: 1672. |
^16 | رواه الترمذي: 1400، وابن ماجه: 2662. |
^17 | رواه مسلم: 1695، 1696. |
^18 | رواه مسلم: 1164. |
^19 | رواه البخاري: 1863، ومسلم: 1256. |
^20 | رواه مسلم: 298. |
^21 | رواه أبو داود: 2350، وأحمد: 10629. |
^22 | رواه مسلم: 1631. |