هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.
ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وهذا الدرس التاسع والسبعون في هذا اليوم الاثنين 21 من شهر شعبان لعام 1444 للهجرة.
وكنا قد وصلنا إلى الإحداد.
فصلٌ في الإحداد
فصلٌ في الإحداد.
قال المصنف رحمه الله:
ويجب الإحداد.
الإحداد معناه في اللغة: هذه المادة تدلُّ على المنع والحاجز بين الشيئين، وهو مصدر، إحداد مصدر أَحَدَّ يُحِدُّ إحدادًا، والمرأة مُحِدَّةٌ، وأيضًا: حادَّة، يُقال: حادَّة، ويُقال: مُحِدَّة، ويُقال: حادَّ، فهي ثلاثة إطلاقاتٍ: حادَّة، ومُحِدَّة، وحادّ.
والبخاري في “صحيحه” بوَّب قال: “باب الكحل للحادَّة”.
قال الحافظ ابن حجر: “كذا وقع من الثلاثي”، يعني: حادَّ، حادَّة، “ولو كان من الرباعي لقال: المُحِدَّة”.
قال ابن التين: “الحادُّ بلا هاء” يعني: هو الصواب، يُقال: المرأة الحادُّ بدون تاء، أو بدون هاء؛ “لأنه نعتٌ للمُؤنث، كطالق وحائض”.
قلتُ -يعني: القائل ابن حجر-: “لكنه جائزٌ” يعني: الحادّ جائزٌ، “فليس بخطأ، وإن كان الآخر أرجح”.
فنخلُصُ من هذا إلى أن المرأة يُقال لها: الحادّ.
وهذا الذي قاله ابن التين وأيضًا ابن حجر أفصح من حيث اللغة، يُقال: المرأة الحادّ، أو المرأة الحادَّة، أيضًا هذا يجوز، أو المرأة المُحِدَّة، فهي ثلاثة إطلاقاتٍ، ولا مُشاحة في الاصطلاح.
واصطلاحًا: اجتناب ما يدعو إلى نكاح المرأة ويُرغِّب في النَّظر إليها.
يعني: تجتنب المرأة الحادَّة كل ما يدعو إلى نكاحها ويُرغِّب في النَّظر إليها ما دامتْ في العِدَّة.
حكم الإحداد
قال:
ويجب الإحداد على المُتوفَّى عنها زوجها بنكاحٍ صحيحٍ ما دامتْ في العِدَّة.
يجب على المُتزوجة بنكاحٍ صحيحٍ وتُوفِّي عنها زوجها أن تُحِدَّ عليه، وهذا بالإجماع، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234].
طيب، هل قول الله تعالى في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، هل هي تدل على عدة المُتوفَّى عنها زوجها؟
قيل: إنها منسوخةٌ. لكن الصواب الذي عليه المُحققون أنها ليست منسوخةً، وأن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ ليس له علاقةٌ بِعِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها، إنما هذه وصيةٌ بعدم إخراج المُتوفَّى عنها زوجها من بيت الأزواج مدة سنةٍ.
لاحظ: الآية ليس فيها أصلًا ذِكْرُ العِدَّة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، يعني: لا يَخْرُجْنَ من البيت: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240]، وهذا هو الصواب.
وليس هناك دليلٌ على أن عدة المُتوفَّى عنها زوجها كانت سنةً، ثم نُسختْ إلى أربعة أشهرٍ وعشرًا، لا يوجد دليلٌ.
الصواب: أنها شُرعتْ هكذا: أربعة أشهرٍ وعشرًا، وهذا ذكره ابن كثيرٍ وغيره.
الصواب إذن أنها لم تُنْسَخ العِدَّة، وأن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها هي أربعة أشهرٍ وعشرًا، وأن الآية الثانية أصلًا تتحدث عن موضوعٍ آخر: وهو ألا تُخْرَج الزوجة بعد وفاة زوجها من بيت زوجها مدة سنةٍ: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، وأيضًا السُّنة دلَّتْ لهذا كما في حديث أم حبيبة وغيره.
والإحداد حقٌّ على المرأة كَعِدَّة المُطلقة، وليس حقًّا لها.
الحكمة من مشروعية الإحداد
أما الحكمة من مشروعية الإحداد فبعض الفقهاء قال: إن الحكمة هي ظهور براءة الرحم. ولكن هذا محلُّ نظرٍ.
أولًا: لو كانت الحكمة هي ظهور براءة الرحم لاكتُفِيَ فيها بحيضةٍ واحدةٍ.
ثانيًا: لو كانت الحكمة هي ظهور براءة الرحم، فالمُتوفَّى عنها زوجها قبل الدخول والخلوة تجب عليها العِدَّة أصلًا، ولو كانت الحكمة براءة الرحم لما وجبتْ عليها العِدَّة.
هذا رجلٌ عقد على امرأةٍ فقط، ثم مات، من غير دخولٍ ولا خلوةٍ، هل تجب عليها عِدَّة الوفاة أو لا تجب؟
تجب بالإجماع، بمجرد العقد تجب عليها عِدَّة الوفاة، وتَرِث زوجها، ولها المهر كاملًا، كل هذه الغنائم تأخذها بسبب هذا العقد، فلو كانت الحكمة هي براءة الرحم لما وجبتْ عليها العِدَّة؛ لأن هذه -يعني- لم يحصل وَطْءٌ ولا خلوةٌ أصلًا، فبراءة رحمها ظاهرةٌ قطعًا.
حسنًا، ما الحكمة من الإحداد؟
قال ابن تيمية رحمه الله: إن الحكمة هي “أن عدة الوفاة هي حَرَمٌ لانقضاء النكاح”، حَرَمٌ بين النكاح الأول والنكاح الثاني، يعني: فاصلًا، وأيضًا “رعايةٌ لحقِّ الزوج”، وقد كانوا في الجاهلية إذا طلَّق الزوج زوجته أول النهار تزوجتْ آخر النهار.
وذُكِرَ أن رجلًا في الجاهلية طلَّق امرأته أول النهار، ثم تزوجتْ آخر النهار برجلٍ اسمه: مَطَر، فأتى زوجها الأول وطرق عليه الباب ورفع السيف، وقال:
سلامُ الله يا مَطَرٌ عليها | وليس عليك يا مَطَرُ السلام |
فَطَلِّقْها فلستَ لها بِكُفْءٍ | وإلا يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسام |
فكان عندهم هكذا: يُطلقها أول النهار، وتتزوج آخر النهار، فجُعلتْ عِدَّة الوفاة حَرَمًا بين النكاح الأول والنكاح الثاني، وأيضًا رعاية لحقِّ الزوج.
لكن يَرِدُ على هذا إشكالٌ، يعني: يَرِدُ على تقرير ابن تيمية رحمه الله إشكالٌ، وهو: أنه إذا تُوفي عنها زوجها وهي حامل، ثم وضعتْ بعد وفاته مباشرةً، فإنها تخرج من العِدَّة.
قالوا: حتى لو وضعتْ وهو يُغَسَّل، تُوفي، وهو في المُغْتَسَل يُغَسِّلونه، وولدتْ زوجته؛ خرجتْ من العِدَّة وحَلَّتْ للأزواج.
فهذا يُشْكِل على كلامنا: أنها حَرَمٌ بين العقد الأول والثاني ورعاية حقِّ الزوج.
يعني: حقيقةً لم نجد جوابًا عن هذا إلا أن نقول: إن هذه المسألة مُستثناةٌ، والغالب هو ما ذكر ابن تيمية، لكن هذه مسألة مُستثناةٌ، ويحتمل أن هناك حِكَمًا أخرى لا نعلم بها -الله أعلم- وشرع الله هو حكمة الحِكَم، وهو غاية الحِكَم، لكن هذا الذي ذكره ابن تيمية رحمه الله يَرِد عليه هذا الإشكال، ولا نستطيع أن نُجيب إلا أن نقول: إنها مُستثناةٌ هذه المسألة.
الشيخ عبدالله يقول: إنها ستبقى أربعين يومًا في النِّفاس، فلن يَقْرَبها زوجٌ، لكن تستطيع أن تتزوج مباشرةً في نفس اليوم الذي مات فيه زوجها.
كيف نقول: رعاية حقِّ الزوج، وحَرَمٌ بين الزواج الأول والثاني؟
هذا فقط يُؤخِّر الوطء، هذا الذي تَذْكُر إنما يُؤخِّر الوطء إلى ما بعد انقضاء النِّفاس، لكن نقول: إن الأحكام الشرعية هي بناءٌ على الأغلب، والفقهاء يقولون: النَّادر لا حكم له.
فيظهر أن هذا هو أقرب ما يمكن أن يُقال في الحكمة، والله تعالى أعلم وأحكم، وشرعه هو حكمة الحِكَم وغاية الحِكَم.
هل هناك حكمةٌ أخرى غير ما ذكرنا؟
هذه الحِكَم التي ذكرها الفقهاء، لكن يحتمل أن هناك حِكَمًا لا نعلم بها -الله أعلم- ومَن وقف على حكمةٍ أخرى غير ما ذُكِرَ لعله يُفيدنا، فربما يكون بعض العلماء ظهرتْ له حِكَمٌ أخرى غير ما ذُكِرَ.
طالب: …….
الشيخ: نعم، يمكن أن نقول بالثنتين جميعًا، لا يمنع، لكن هل هناك حِكَمٌ أخرى غير هذه؟ هذا هو السؤال.
الإحداد على غير الزوج
قبل أن ننتقل لعبارة المؤلف نقول: الإحداد على غير الزوج يجوز في حدود ثلاثة أيامٍ؛ لقول النبي : لا يحل لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ إلا على زوجٍ، فإنها تُحِدُّ عليه أربعة أشهرٍ وعشرًا [2].
قال: “ويجوز للبائن” يعني: يُباح الإحداد للمُطلقة طلاقًا بائنًا، لكنه لا يُستحب، ولا يُسَنّ، إنما يجوز فقط، يعني: لو أن البائن اجتنبت الزينة وفعلتْ كما تفعل المُتوفَّى عنها زوجها لا حرج عليها، لكن هذا لا يُقال: إنه مُستحبٌّ، ولا واجبٌ.
الأمور التي يجب على المُحِدَّة اجتنابها
قال:
والإحداد: ترك الزينة والطِّيب كالزعفران، ولبس الحُلِي ولو خاتمًا، ولبس المُلَوَّن من الثياب: كالأحمر والأصفر والأخضر، والتَّحسين بالحِنَّاء .. إلى آخره.
ذكر المؤلف الأمور التي يجب على المرأة المُحِدَّة أن تجتنبها، وهي خمسة أمورٍ، وذكرها المؤلف إما نصًّا أو تمثيلًا.
يجب على المرأة المُحِدَّة أن تجتنب خمسة أمورٍ:
- الأمر الأول: الزينة في البدن.
- والأمر الثاني: الزينة في الثياب.
- والأمر الثالث: لبس الحُلِي.
- والأمر الرابع: الطِّيب.
- والأمر الخامس: الخروج من المنزل إلا لحاجةٍ.
نعدُّها مرةً أخرى: الزينة في البدن، والزينة في الثياب، والحُلِي، والطِّيب، والخروج من المنزل إلا لحاجةٍ.
احفظوها يا إخوة.
مَن يَعُدُّها لنا مرةً أخرى؟
هذه هي التي يجب على المرأة المُحِدَّة أن تجتنبها، وما عداها هي كغيرها.
نُعيدها مرةً ثانيةً.
نعم، تفضل، ارفع صوتك.
طالب: …….
الشيخ: الزينة في البدن، ثانيًا: الزينة في الثياب -لبس الحرير- الحُلِي، الطِّيب، الخروج من المنزل إلا لحاجةٍ.
هذه الأمور الخمسة المؤلف ذكرها، يعني: هنا ذكر أربعةً في هذه العبارة، والخامسة في العبارة التي بعدها، قال: “والإحداد: ترك الزينة، والطِّيب كالزعفران، ولبس الحُلِي ولو خاتمًا”.
أولًا: الزينة في البدن بأن تجتنب المرأة المُحِدَّة جميع أنواع الزينة في البدن، سواء ما ذكره المؤلف من قوله:
التَّحسين بالحِنَّاء والإسفيداج والاكتحال بالأسود.
وفي وقتنا الحاضر الزينة في البدن لها أنواع، مثل: المكياج وحُمْرَة الشِّفَاه والكُحل، وجميع أنواع الزينة في البدن.
ثانيًا: الزينة في اللباس بأن تجتنب ما كان فيه زينةٌ.
والمؤلف قال: “ولبس المُلوَّن من الثياب: كالأحمر والأصفر والأخضر”، ولا تختص بهذه الألوان، بل كلُّ لباسٍ فيه زينةٌ تجتنبه المرأة المُحِدَّة؛ لأن قول المؤلف -مثلًا-: “الأخضر”، الأخضر قد لا يكون لباس زينةٍ في وقتنا الحاضر، و”الأحمر” يعني: الأحمر قد يكون لباس زينةٍ، والأصفر كذلك من قديمٍ.
وهذه يمكن أن نضبطها بالعُرف من غير حاجةٍ لأن نضبطها بألوانٍ معينةٍ أو لباسٍ معينٍ، إنما كل ما عُدَّ في عُرف الناس أنه من لباس الزينة فتجتنبه المرأة المُحِدَّة.
وأما الطِّيب فأيضًا المرأة المُحِدَّة ممنوعةٌ من الطِّيب، وعِلة منعها من الطِّيب: أن الطِّيب يُحَرِّك الشهوة ويدعو للمُباشرة؛ ولهذا لا يجوز للمرأة أن تتطيَّب ثم تخرج أمام الرجال الأجانب، حتى لو كان للمسجد، كما قال عليه الصلاة والسلام: أيُّما امرأةٍ أصابتْ بَخُورًا فلا تشهد معنا العِشَاء الآخرة رواه مسلم [3]، سواء كان الطِّيب عن طريق اللمس، أو عن طريق البخاخ، أو عن طريق البخور، أو حتى عن طريق العطر الذي يكون في (الشامبو) أو في الصابون، أو في أي شيءٍ، فتجتنب الطِّيب بجميع صوره، كما تجتنب الطِّيب المُحْرِمة تمامًا.
ويُسْتَثْنَى من ذلك عند طُهْرِها من الحيض يجوز لها البَخُور، يجوز البَخُور للمرأة المُحِدَّة بعد الطُّهْر من الحيض لقطع الرائحة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: ولا تَمَسّ طِيبًا إلا إذا طَهُرَتْ نُبْذَةً من قُسْطٍ أو أظفارٍ [4].
قُسْطٌ، ويُقال: كُسْتٌ، وهو نوعٌ من البخور، ولا يزال عند العطَّارين يُسمى بهذا الاسم.
والأظفار أيضًا نوعٌ آخر من البخور.
والمعنى: أن المرأة المُحِدَّة يجوز أن تتبخَّر عند الانتهاء من الحيض، ولا يُشترط أن يكون قُسْطًا أو أظفارًا، بل حتى البخور المعروف الآن للمرأة المُحِدَّة أن تتبخَّر به عند انقضاء الحيض.
وقول المؤلف: “كالزعفران”، الزعفران: نوعٌ من أنواع الطِّيب تُمنع منه المرأة المُحِدَّة، لكن هل تُمنع المُحِدَّة والمُحْرِمة من شرب ما فيه زعفران، مثل: القهوة والشاي ونحو ذلك التي فيها زعفران؟
هذا محلُّ خلافٍ بين العلماء المعاصرين، والأقرب أنها تُمنع من ذلك؛ لأنها ممنوعةٌ من الطِّيب بجميع أنواعه، والزعفران جاء النص عليه بأنه طِيبٌ: ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مَسَّه زعفران ولا الوَرْس [5]، وأيضًا حتى في هذا، كذلك جاء النص عليه في بعض الروايات في المُحِدَّة، فهي ممنوعةٌ من الزعفران، فعلى هذا المُحِدَّة تجتنب شرب ما فيه زعفران.
وكذلك أيضًا الحُلِي ولو خاتمًا.
قال المؤلف: “ولبس الحُلِي ولو خاتمًا”، فالمرأة المُحِدَّة أيضًا لا تلبس الحُلِي، وإذا كان عليها حُلِيٌّ وتُوفي زوجها فيجب عليها أن تخلعه، سواء كان خاتمًا، أو أساور، أو غير ذلك.
أما سِنُّ الذهب فإن أمكن أن تخلعه من غير أن يلحقها ضررٌ فإنها تفعل؛ لأنه يُعتبر نوعًا من الزينة، أما إذا كان يلحقها ضررٌ بخلعه أو يشقّ عليها فلا يجب ذلك.
وأما لبس المُحِدَّة للساعة: فإن كانت تلبس الساعة للزينة فليس لها أن تلبس الساعة وقت الإحداد، وإن كانت تلبس الساعة ليس للزينة، وإنما لأجل معرفة الوقت؛ فلا بأس بذلك، لكن الغالب على كثيرٍ من النساء أنهنَّ يلبسن الساعة للزينة، لكن لو أن امرأةً قالت: أنا ما أقصد لبس الساعة للزينة، أنا أقصد لبسها لمعرفة الوقت. فلا بأس أن تلبس الساعة فترة الإحداد.
ولبس المُلوَّن تكلمنا عنه، قلنا: إن المرجع في ذلك للعُرف، ولا يختص ذلك بألوانٍ معينةٍ.
وأما ما شاع عند بعض العامة: أن المرأة المُحِدَّة تلبس اللباس المُلوَّن باللون الأسود، فهذا لا أصل له، لا يلزم المُحِدَّة أن تلبس اللباس الأسود، إنما تلبس ما شاءتْ من اللباس، وتجتنب لباس الزينة.
وقول المؤلف: “التَّحسين بالحِنَّاء” أيضًا المرأة المُحِدَّة ليس لها أن تتزيَّن بالحِنَّاء وقت الإحداد.
“والإسفيداج” الإسفيداج: هو شيءٌ يُعْمَل من الرصاص يُدْهَن به، كان معروفًا قديمًا، أما في الوقت الحاضر فلا يكاد يُعْرَف، لكن كان قديمًا عندهم هو من الزينة التي تُمنع منها المرأة المُحِدَّة.
وأيضًا تجتنب المُحِدَّة الكُحل بجميع أنواعه، والدُّهن المُطيَّب، وأيضًا -كما ذكرنا- أنواع الصَّوابين المُعطَّرة و(الشامبو) المُعطَّر ونحو ذلك، أما ما لم يكن مُعطَّرًا فلا بأس كالمُحْرِمة، فلا تُمنع من الصابون غير المُعطَّر، ولا (الشامبو) غير المُعطَّر، ولا أدوات النظافة، لكن تمتنع من الأشياء المُعطَّرة.
من أنواع الزينة التي يجب على المُحِدَّة أن تجتنبها في الوقت الحاضر: المكياج، حُمْرَة الشِّفَاه، العدسات المُلونة، طِلاء الأظافر، وكل ما كانت فيه زينةٌ.
قال:
ولها لبس الأبيض ولو حريرًا.
ولو كان حريرًا.
مقصود المؤلف بالحرير: الحرير الطبيعي الذي هو من دُودِ القَزِّ، وهذا مُباحٌ للنساء، ويُعلِّلون لذلك يقولون: لأن حُسْنَه من أصل خِلْقَته، فلا يلزم تغييره قياسًا على المرأة إذا كانت حسنة الخِلْقَة لا يلزمها أن تُغيِّر لونها وتُشوِّه نفسها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
والقول الثاني في المسألة: أن الأبيض إذا كان من لباس الزينة عُرفًا لا يجوز للمُحِدَّة أن تلبسه، أما إذا لم يكن من لباس الزينة عُرفًا فلا بأس، وهذا هو القول الراجح.
وأما ما ذكره أصحاب القول الأول من قياسه على المرأة إذا كانت حَسَنَة الخِلْقَة فهذا قياسٌ مع الفارق؛ لأن الأبيض كغيره من اللباس، ولا ميزة له عن غيره من الألوان.
إذن هذه الأمور الأربعة تجتنبها المرأة المُحِدَّة: الزينة في البدن، الزينة في اللباس، الحُلِي، الطِّيب.
الأمر الخامس أشار إليه المؤلف بقوله: “وتجب عدة الوفاة في المنزل” يعني: تُمنع المُحِدَّة من الخروج من المنزل إلا لحاجةٍ.
قال:
وتجب عدة الوفاة في المنزل الذي مات زوجها فيه ما لم يتعذَّر.
ويدل لذلك ما أخرجه أصحاب السنن وأحمد بسندٍ صحيحٍ عن فُرَيْعَة بنت مالك بن سنان -وهي أخت أبي سعيدٍ الخدري-: أنها جاءتْ إلى رسول الله تسأله أن ترجع إلى أهلها، فإن زوجها خرج في طلب أَعْبُدٍ له أَبَقوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألتْ رسول الله أن ترجع لأهلها، فإن زوجها لم يتركها في مسكنٍ يملكه ولا نفقة، فَأَذِنَ لها أولًا، ثم دعاها فقال: كيف قلتِ؟ فأخبرته، فقال عليه الصلاة والسلام: امْكُثِي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله يعني: حتى تنقضي عِدَّتك، فبقيتْ في بيت زوجها أربعة أشهرٍ وعشرًا [6].
وعلى هذا فالمرأة يجب عليها أن تبقى في بيت الزوج أربعة أشهرٍ وعشرًا، لكن إذا تيسر لها ذلك؛ أن يكون بيت الزوج مملوكًا، ورضي الورثة بأن تبقى فيه، أما إذا لم يتيسر لها ذلك فلها أن تنتقل؛ ولهذا قال المؤلف: “ما لم يتعذَّر” يعني: ما لم يتعذَّر بقاؤها فيه: إما لكونها لا تجد مسكنًا، أو أن الورثة رفضوا.
أحيانًا الورثة إذا كانت بينهم مشاكل يرفضون أن تبقى الزوجة في بيت الزوج طوال العِدَّة، فهنا لها أن تنتقل، أو أن المرأة تخشى على نفسها، تكون -مثلًا- امرأةً شابةً وتخشى على نفسها لو بقيتْ في بيت زوجها، تخشى من الفتنة؛ فلها أن تنتقل، أو لغير ذلك من الأسباب، فالأصل أنها تبقى في بيت زوجها فترة العِدَّة إلا لعذرٍ.
نعم، لو كان يمتلك أكثر من مسكنٍ في نفس البلد لا تنتقل.
والمهم هو أن تبقى في الليل، وإذا أرادتْ أن تخرج لحاجةٍ تخرج في النهار؛ لأن المهم هو البيتوتة: أن تبيت في بيت زوجها، وإذا كانت لها حاجات تخرج لحوائجها في النهار وترجع في الليل.
المُوظفة لها أن تخرج لوظيفتها في فترة الإحداد؛ لأن هذا يُعتبر من الحاجات، وكذلك الطالبة التي تدرس لها أن تخرج للدراسة؛ لأن هذا يُعتبر من الحاجات، بل أيضًا للمُحِدَّة أن تخرج للسوق لشراء حوائجها إذا لم يوجد مَن يشتري لها حوائجها؛ لأن هذا يُعتبر من الخروج لحاجةٍ، إنما هي ممنوعةٌ من الخروج لغير حاجةٍ: كأن تُسافر -مثلًا- للنزهة، أو تذهب للتَّفسُّح أو للنزهة، أو لحضور حفلات الأفراح، أو نحو ذلك، فهذه تُمنع منها المُحِدَّة فترة الإحداد.
أما إذا كان خروجها لحاجةٍ فلا بأس: خروجها لعملٍ، خروجها لدراسةٍ، خروجها للمحكمة، خروجها للمستشفى، كل ذلك لا بأس به.
خروجها لوالديها فيه تفصيلٌ: إذا كان والداها لا يستطيعان المجيء -أن يأتيا لها- لكونهما -مثلًا- مريضين أو كبيرين في السنِّ، فخروجها إليهما خروجٌ لحاجةٍ، أما إذا كان الوالدان يستطيعان المجيء إليها فتبقى في بيت زوجها، ووالداها هما اللذان يأتيانها.
متى تنقضي عِدَّة المُتوفى عنها زوجها؟
وتنقضي العِدَّة بِمُضِي الزمان حيث كانت.
يعني: عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها تنتهي بمُضي الوقت حيث كانت المُعتدَّة، فالمكان ليس له علاقةٌ بالعِدَّة.
وعلى هذا -مثلًا- لو لم يبلغها أن زوجها تُوفِّي إلا بعد انقضاء العِدَّة، إلا بعد مُضي -مثلًا- خمسة أشهرٍ أو ستة أشهرٍ؛ تكون انتهت العِدَّة، وليس عليها إحدادٌ.
إذن العبرة بِمُضِي الزمان، وليست العبرة بالعلم ولا بالمكان.
صلاة المرأة على زوجها المُتوفَّى، هل يُعتبر هذا من الخروج لحاجةٍ؟
الظاهر أنه يُعتبر من الخروج لحاجةٍ، ولا بأس به؛ لأن كونها تُصلِّي على زوجها يُعتبر هذا حاجةً من الحاجات، فلا بأس بذلك.
المهم في بقاء المرأة هو الليل، هذا هو المُتأكِّد: أن تبيت الليل في بيت الزوج، وخروجها في النهار لحوائجها لا يضرّ، لا بأس، أدنى حاجةٍ يجوز أن تخرج لها، لكن المُتأكِّد هو الليل، يعني: البيتوتة، فالبيتوتة هي المُتأكِّدة في حقِّ المُتوفَّى عنها زوجها، لكن أيضًا في النهار لا تخرج إلا لحاجةٍ، لكن لا يُشَدَّد في الحاجات في النهار، إنما يُشَدَّد في بقائها في الليل، وفي خروجها في النهار لغير حاجةٍ.
طالب: …….
الشيخ: رعايةً لحقِّ الزوج، فكون الزوج -مثلًا- تُوفِّي، ثم تقوم وتتزيَّن! يعني: كأنها لا تَأْبَهُ بحقِّه، ولا ترى حقَّه.
ولذلك تجد أن العامة يستنكرون بفطرتهم لو -مثلًا- امرأة تُوفِّي زوجها اليوم ووجدوها في اليوم الثاني مُتزيِّنةً، يقولون: هذه ما راعتْ حقَّ زوجها.
فلعل الحكمة -والله أعلم- رعاية حقِّ الزوج.
باب استبراء الإماء
ثم قال المؤلف رحمه الله:
باب استبراء الإماء.
هذا من أبواب الرِّق، والرِّق الآن انقرض في العالم، وأصبح ممنوعًا رسميًّا في جميع دول العالم، بل مُجرَّمًا ومُلاحقًا أصحابه؛ ولذلك انقرض الرِّق الآن في العالم، فلا يكاد يوجد.
وما قد يُقال عن بعض الدول التي يوجد فيها، يعني: هو رِقٌّ غير شرعيٍّ؛ لأن الرِّقَّ لا بد أن يكون مُرتبطًا بالجهاد، ولا يُعْرَف أن تلك البلاد كان فيها جهادٌ، وما يُذْكَر من التَّوالد مشكوكٌ في صحته، فالله تعالى أعلم.
المقصود أن الرِّقَّ أصبح ممنوعًا رسميًّا في جميع دول العالم، ومُجرَّمًا من المنظمات الدولية؛ ولذلك لا يكاد يكون له وجودٌ، لكن نقرأ هذه الأبواب نظريًّا؛ ولذلك لا نتوسع فيها، وقد يُستفاد منها في بعض الأحكام الفقهية، مثلًا: إذن السيد لعبده بالتجارة استفدنا منه في مسألة التَّكييف الفقهي للشركة ذات المسؤولية المحدودة، فقد يُستفاد من بعض المسائل، وتُخَرَّج عليها بعض النوازل المعاصرة.
قال المصنف رحمه الله: “باب استبراء الإماء”.
استبراء: من البراءة، والإماء يعني: المرأة الأَمَة، الإماء جمع أَمَةٍ.
وهذا الباب لا يختص بالإماء، بل يشمل كذلك: المَوطُوءة بشُبهةٍ، والمَزْنِي بها، والمعقود عليها بعقدٍ فاسدٍ.
ومعنى الاستبراء: “تربُّصٌ يُقصد به العلم ببراءة الرحم”؛ ولذلك عندما يُقال: استبراء يعني: تربُّص مدة حيضةٍ إذا كانت ممن تحيض، أو شهر إن كانت ممن لا تحيض.
حكم استبراء الإماء
قال:
وهو واجبٌ في ثلاثة مواضع.
يعني: يجب استبراء الإماء ونحوهنَّ في ثلاثة مواضع.
أحدها قال:
إذا ملك الرجل -ولو طفلًا- أَمَةً يُوطأ مثلها.
يعني: الرجل إذا ملك أَمَةً، حتى لو كان المالك طفلًا.
إذا ملك أَمَةً يُوطأ مثلها، حتى لو ملكها من طفلٍ، أو أنثى.
لا يضرّ بأيِّ نوعٍ من أنواع التَّمليكات.
أو كان بائعها قد استبرأها، أو باع أو وهب أَمَتَه ثم عادتْ إليه بفسخٍ أو غيره.
حتى لو عادتْ إليه أَمَتُه السابقة يجب عليه أن يستبرأها.
حيث انتقل المِلْك لم يحلّ استمتاعه بها ولو بقُبلةٍ حتى يستبرأها.
إذن مِلْك الإماء يجب معه الاستبراء بأيَّة صورةٍ من صور التَّمليكات، حتى لو كان المالك طفلًا، وحتى لو كان المالك السابق.
وقول المؤلف: “ولو بقُبلةٍ حتى يستبرأها” هذه مسألةٌ خلافيةٌ بين الفقهاء: هل يجوز له أن يستمتع منها بغير الوطء قبل الاستبراء؟
قولان للفقهاء:
- القول الأول: أنه لا يجوز، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
- والقول الثاني: أنه يجوز، واختاره ابن القيم، وهو الأقرب -والله أعلم-؛ لأن الغرض من الاستبراء هو التَّأكد من براءة الرحم، ولا يُؤثِّر على ذلك الاستمتاع بغير الوطء إلا إذا كان لا يملك نفسه، ويخشى أنه لو فعل ذلك لربما وطأها؛ فيُمنع من ذلك، مثل: القُبلة للصائم، بل حتى المُباشرة للصائم، فإذا كان يخشى على نفسه يُمنع منها، وإذا كان لا يخشى فلا بأس.
ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: “كان النبي يُقَبِّل وهو صائمٌ، ويُباشر وهو صائمٌ، وكان أَمْلَكَكم لِإِرْبِهِ” [7]، كما في الصحيحين.
الثاني: إذا ملك أَمَةً ووطأها، ثم أراد أن يُزوِّجها أو يبيعها.
هذه الحالة الثانية التي يجب فيها الاستبراء: أن يملك أَمَةً ووطأها، ثم أراد بعد ذلك أن يُزوِّجها أو أن يبيعها قبل أن يستبرأها، فلا يجوز ذلك، لا بد من الاستبراء، فإن أصرَّ وباعها أو زوَّجها قبل الاستبراء صحَّ العقد دون النكاح، ويجب على المُشتري في هذه الحال أن يقوم بالاستبراء.
الثالث: إذا أعتق أَمَتَه أو أمَّ ولده أو مات عنها، فيلزمها أن تَستبرأ نفسها، وإن لم تُسْتَبْرأ من قبل.
إذن الاستبراء لا بد منه في هذه الأحوال.
ما يحصل به الاستبراء
ثم قال المصنف:
حسنًا، إذا قلنا: إنه يجب الاستبراء، فكيف يكون الاستبراء؟
أجاب المؤلف عن هذا السؤال قال:
واستبراء الحامل بوضع الحمل.
وهذا بالإجماع: استبراء الحامل بوضع الحمل، والوضع هو أقوى ما يكون من الاستبراء، وأيضًا الخروج من العِدَّة؛ ولذلك تُسمى عدة الحامل بأُمِّ العِدَّات: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
ومَن تحيض بحيضةٍ.
استبراء مَن تحيض يكون بحيضةٍ؛ لقول النبي : لا تُوطَأ حاملٌ حتى تضع، ولا غير ذات حملٍ حتى تحيض حيضةً [8].
والآيسة والصغيرة والبالغة التي لم تَرَ حيضًا بشهرٍ.
يكون استبراؤهنَّ بشهرٍ؛ لأن الشهر يقوم مقام الحيضة؛ ولذلك قال : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].
عدة الآيسة والصغيرة: ثلاثة أشهرٍ، بينما التي تحيض: ثلاثة قُرُوءٍ، كأن الشهر عن قُرْءٍ.
قال:
والمُرتفع حيضُها ولم تعلم ما رفعه بعشرة أشهرٍ.
يعني: تسعة أشهرٍ للحمل، وشهر للاستبراء.
والعالمة ما رفعه بخمسين سنة وشهر.
وهذه المسألة سبق الكلام عنها، وقلنا: إن هذا القول قولٌ ضعيفٌ، وأنه ليس هناك حَدٌّ لِسِنِّ الإياس، ورجَّحنا أنه لا فرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة.
قال:
ولا يكون استبراءٌ إلا بعد تمام مِلْك الأَمَة كلها ولو لم يقبضها.
يعني: لا بد لتمام الاستبراء أن يكون بعد المِلْك التَّام للأَمَة، وإن لم يحصل القبض.
وإن مَلَكَها حائضًا لم يكتفِ بتلك الحيضة كما في الطلاق، وإن مَلَكَ مَن تلزمها عِدَّةٌ اكتُفِيَ بها.
“مَلَكَ مَن تلزمها عِدَّةٌ” كأن تكون مات عنها زوجها ولا تزال في العِدَّة، فيكتفي بعِدَّتها؛ لأن الاستبراء لمعرفة الرحم، والبراءة قد حصلتْ بالعِدَّة.
وإن ادَّعت الأَمَةُ الموروثةُ تحريمَها على الوارث بوطء مُورِّثه.
صُدِّقَتْ؛ لأن هذه الأمور لا تُعْلَم إلا من قِبَلها.
أو ادَّعت المُشتراة أن لها زوجًا صُدِّقَتْ.
كذلك؛ لأن هذه الأمور إنما تُعْرَف من قِبَلها ما لم توجد قرائن أو أدلة على خلاف ذلك.
كتاب الرضاع
ثم قال المصنف رحمه الله:
كتاب الرضاع.
الرضاع معناه في اللغة: مَصُّ اللبن من الثَّدي.
واصطلاحًا: مَصُّ مَن دون الحولين لبن الآدمية أو شربه ونحوه.
فلا بد أن يكون دون الحولين، ولا بد أن يكون لبن آدمية.
وعلى ذلك فلبن الحيوان لا يحصل به التَّحريم، والآن كثيرٌ من الأطفال يُعطون بُودرة حليب أبقار، وهذا غير مُؤثرٍ.
وبعض العلماء قيَّده بأن يكون اللبن ثاب عن حملٍ، وهذه مسألةٌ خلافيةٌ سيأتي الكلام عنها.
والتَّحريم بالرضاعة ذكره الله تعالى في سورة النساء في قوله: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وأيضًا ورد في السُّنة في عدة أحاديث، منها قول النبي عليه الصلاة والسلام: الرضاعة تُحَرِّم ما تُحَرِّم الولادة [9]، يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النَّسب [10]، وما جاء في معناه.
حكم استرضاع الفاجرة والكافرة وسيئة الخُلُق
قال:
يُكره استرضاع الفاجرة والكافرة وسيئة الخُلُق والجَذْمَاء والبَرْصَاء.
يقولون: لأن استرضاع هؤلاء النِّسوة يُؤثِّر على الرضيع، يُؤثر على طباعه، فَاسْتِرضاع الفاجرة، أي: الفاسقة، والفاسق: هو الذي ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب، فالذي ارتكب كبيرةً من الكبائر يُقال له: فاسق، والكبيرة: هي كل معصيةٍ ورد فيها حَدٌّ في الدنيا أو وعيدٌ في الآخرة من لعنةٍ أو غضبٍ أو سخطٍ أو نارٍ أو نفي إيمانٍ أو نفي دخول الجنة ونحو ذلك.
يقول: استرضاع الفاجرة والكافرة مكروهٌ؛ لأن الرضاع له تأثيرٌ في الطباع.
حسنًا هذا سنُناقشه بعد قليلٍ.
و”سيئة الخُلُق” يعني: يُكره استرضاع امرأة سيئة الخُلُق؛ لأن سيئة الخُلُق تُشبه الحَمْقَاء، وقد رُوي في الحديث: أن النبي عليه الصلاة السلام نهى أن تُسْتَرضع الحمقاء [11]، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.
وقالوا: إن الرضاع له تأثيره في الطباع، فاسترضاع الحمقاء ربما يُؤثر على الطفل، فيكون الطفل أحمقًا، أو يكون سيِّئ الخُلُق.
حكم استرضاع الجَذْمَاء والبَرْصَاء
كذلك الجَذْمَاء، والجَذْمَاء من الجُذَام، والبَرْصَاء، وهو البَرَص، فيقولون: إن استرضاع الجَذْمَاء والبَرْصَاء قد يُؤثِّر على الرضيع.
هذه المسائل كلها ليس عليها دليلٌ: استرضاع الفاجرة والكافرة وسيئة الخُلُق والجَذْمَاء والبَرْصَاء، كل هذا لا دليل عليه، والقول بأن الرضاع له تأثيرٌ في الطباع أيضًا لا يُسَلَّم بذلك، ما الدليل على أن الرضاع له تأثيرٌ في الطباع؟ ولا يُقِرُّ بذلك الأطباء أصلًا، ولا يُسَلِّمون بهذا، إنما هذا قولٌ قاله بعض الفقهاء وقَلَّدهم غيرهم.
والصواب في هذه المسائل: أن ذلك لا يُكره، إذ إن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ يدلُّ على عدم استرضاع هؤلاء النسوة، ولم يَثْبُت حتى طِبيًّا أن استرضاع البَرْصَاء يُصِيب الرضيع بالبَرَص، أو استرضاع الحمقاء يجعل الطفل أَحْمَقًا، ما الدليل على هذا؟ ولم يثبت هذا طِبيًّا.
فهذا كلامٌ قاله أحد الفقهاء استحسانًا وقلَّده غيره، والكراهة حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ، ولا دليل يدلُّ لذلك.
الذي يهمنا هو الأحكام الشرعية، أما هذا -يعني- التَّفقُّه أو الاستحسان الذي يقوله بعضهم لا نُسلِّم به.
قال:
وإذا أرضعت المرأة طفلًا بلبن حملٍ لَاحِقٍ بالواطئ صار ذلك الطفل ولدهما.
يعني: إذا أرضعت المرأة طفلًا بلبنٍ ثاب عن حملٍ لاحقٍ بالواطئ، يعني: يلحق الواطئ نَسَبُ ذلك الحمل؛ صار ذلك الطفل ولدًا للمُرضعة، وولدًا لصاحب ذلك اللبن، فالمُرضعة تكون أُمَّه من الرّضاع، وصاحب اللبن يكون أباه من الرضاع.
هل يُشترط في اللبن المُحرِّم أن يثوب عن حملٍ؟
هل يُشترط في اللبن الذي يُحرِّم الرضاع أن يكون ثَابَ عن حملٍ أو أيُّ لبنٍ يُحرِّم؟
هذه مسألةٌ مهمةٌ؛ لأنه في الوقت الحاضر أصبحت بعض النساء تأخذ عقاقير (هرمونات) مُدِرَّة للحليب؛ فَيُدِرُّ ثَدْيُها حليبًا، ولم يَثُبْ ذلك عن حملٍ، ليس نتيجة حملٍ، وربما تكون كبيرةً في السنِّ، ربما يكون عمرها ستين أو سبعين سنةً، وإذا أخذتْ هذه (الهرمونات) دَرَّ ثَدْيُها لبنًا، أو حتى تكون غير مُتزوجةٍ أصلًا، فَتَرِدُ علينا المسألة التي ذكرها الفقهاء: هل يُشترط للبن المُحَرِّم أن يكون ثاب عن حملٍ أو لا يُشترط؟
إذا قلنا: يُشترط؛ فمعنى ذلك: أن هذه المرأة التي استخدمت هذه (الهرمونات) لبنها لا أثر له، ولا يكون مُحَرِّمًا.
أما إذا قلنا: إن أيَّ لبنٍ يُحرِّم؛ فمعنى ذلك: أن هذا اللبن الذي لم يَثُبْ عن حملٍ، وإنما كان بسبب استخدام هذه (الهرمونات) أنه يُحرِّم إذا كان خمس رضعاتٍ فأكثر.
هذه المسألة فيها قولان للفقهاء:
- القول الأول: أنه يُشترط في اللبن المُحرِّم أن يثوب عن حملٍ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
وبناءً عليه إذا ثاب اللبن عن غير حملٍ فلا يَنْشُر الحُرمة، وعلَّلوا لذلك فقالوا: إن اللبن إذا ثاب عن غير حملٍ فهو ليس بلبنٍ حقيقةً، وإنما هو رطوبةٌ مُتولِّدةٌ؛ لأن اللبن ما أَنْشَزَ العظم وأَنْبَت اللحم؛ ولأن اللبن الذي يثوب عن غير حملٍ نادرٌ، والنادر لا حكم له. - القول الثاني: أنه لا يُشترط في اللبن المُحرِّم أن يكون ثاب عن حملٍ، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة.
واستدلوا بعموم قول الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، قالوا: والآية عامةٌ، ولم تُقيَّد باللبن الذي ثاب عن حملٍ؛ ولأن ألبان النساء إنما خُلِقَتْ لتغذية الأطفال، ولا فرق بين اللبن الذي ثاب عن حملٍ أو اللبن الذي ثاب عن غير حملٍ.
وأما قولهم: إنه نادرٌ، فهو إن سلَّمنا بأنه نادرٌ، فجنسه مُعتادٌ.
والأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو أنه لا يُشترط في اللبن المُحرِّم أن يكون ثاب عن حملٍ؛ لأن هذا اللبن يُسمى “لبنًا” لغةً وحقيقةً وشرعًا وعُرفًا، فهو لبنٌ، ما الذي يُخرجه عن كونه لبن امرأةٍ؟ لبن آدميةٍ، هو لبنٌ.
وأما قولهم بأنه رطوبةٌ مُتولِّدةٌ، فهذا غير صحيحٍ، فهو ليس رطوبةً، وإنما هو لبنٌ حقيقيٌّ.
وعلى ذلك فلو أن امرأةً استخدمتْ هذه (الهرمونات) ودَرَّ ثَدْيُها لبنًا، وأرضعتْ طفلًا خمس رضعاتٍ فأكثر؛ فإن هذا الطفل يكون ابنًا لها، حتى إن كانت هذه المرأة كبيرةً أو صغيرةً، فلا يُشترط في اللبن أن يكون تابعًا لحملٍ.
هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، لكن يُشترط لاستخدامها هذه العقاقير وهذه (الهرمونات) أن تستشير الطبيب المُختص، حيث يُقرِّر الطبيب بأن استخدامها ليس فيه ضررٌ عليها، أما إذا كان فيه ضررٌ فلا يجوز، لكن إذا كان ليس فيه ضررٌ عليها، واقتضت المصلحة ذلك، وهذا أكثر ما يكون في الأيتام أو في اللُّقَطَة، يعني: تُريد المرأة -مثلًا- أن تُرضع هذا الطفل الصغير؛ لكي يكون ابنًا لها من الرضاع.
إذا اقتضت المصلحة ذلك، ولم يكن هناك ضررٌ في استخدام هذه (الهرمونات) فلا بأس بذلك، وتُرضعه خمس رضعاتٍ فأكثر، فيكون ابنًا لها من الرضاعة، ويكون أخًا لأولادها من بنين وبناتٍ.
الحُرمة التي تُنْشَر بالرضاع
قال:
وأولاده وإن سَفُلُوا أولاد ولدهما، وأولاد كلٍّ منهما من الآخر أو غيره إخوته وأخواته، وقِسْ على ذلك.
يُريد المؤلف أن يضع ضابطًا فقهيًّا لهذه المسألة، أن يقول: صار أولاد الطفل وإن سَفُلُوا أولاد ولدهما، وصار أولاد كلٍّ منهما -أي: من المرأة ومن الواطئ الذي ثاب لبنها عن حمله- كذلك، فالذكور يصيرون إخوته، والبنات أخواته، وقِسْ على ذلك.
يُريد المؤلف بهذا الضابط الذي ذكره وصاغه بهذه الصياغة؛ يُريد بذلك أن يقول: إن الرضاع يَنْشُر الحُرمة في الفروع، ولا يَنْشُر الحُرمة في الأصول، ولا في الحواشي.
فلو أن المؤلف عبَّر بهذا الضابط لكان أجود في العبارة وأوضح من هذا الذي ذكر، فيُريد المؤلف بهذا الضابط الذي أشار إليه أن يُقرِّر هذا الضابط، وهو: أن الرضاعة تَنْشُر الحُرمة في الفروع دون الأصول والحواشي.
هذه قاعدةٌ في باب الرضاعة، والذي معه “السلسبيل” يُضيفها؛ لأنها ليست موجودةً في “السلسبيل”: الرضاعة إنما تَنْشُر الحُرمة في الفروع دون الأصول والحواشي.
فعلى ذلك هذا المُرْتَضع وأولاده وإن نزلوا فإنهم يكونون أولادًا للمُرضعة ولزوجها الذي ثاب الحمل من وطئه، ولكن إخوة هذا الرضيع ليست لهم علاقةٌ، وأبو هذا الرضيع من النَّسَب ليست له علاقةٌ؛ ولهذا هل تُباح المُرضعة لأبي المُرتضع؟
لو أراد أبو المُرتضع أن يتزوج بهذه المُرضعة لولده يجوز أم لا يجوز؟
يجوز؛ لأن الرضاع لا يَنْشُر الحُرمة في الأصول.
طيب، لو أراد أخو المُرتضع أن يتزوج مُرضعة أخيه، يجوز أو ما يجوز؟
يجوز؛ لأنه لا علاقة للرضاع بالحواشي، إنما تأثير الرضاع على الفروع فقط، وليس له تأثيرٌ على الأصول أو على الحواشي.
طيب، هل تُباح أُمُّه من النَّسب لأخيه من الرضاع؟
تُباح -نعم- أُمُّه من النَّسب أو أخته من النَّسب لأخيه من الرضاع.
إذن لا أثر للرضاع على الأصول، ولا على الحواشي، إنما أثره على الفروع فقط.
انتبه لهذه القاعدة: أثر الرضاع على الفروع فقط.
وبعض العامة يفهم المسألة خطأً، يظنُّ أن إخوان هذا المُرتضع كلهم أصبحوا إخوةً لأولاد المُرضعة، وهذا غير صحيحٍ، إخوة المُرتضع ليست لهم علاقةٌ، بل أبو المُرتضع ليست له علاقةٌ، ويجوز لأبي المُرتضع وإخوته أن يتزوجوا بالمُرضعة أو ببنت هذه المُرضعة، فليست لهم علاقةٌ، إنما الأثر بالمُرتضع وبالفروع فقط، فالمُرتضع يكون ابنًا لها، وأولادها يكونون إخوةً له، وبناتها أخوات له.
الحكم كله مُتعلِّقٌ بالمُرتضع فقط وبفروعه، ولا يتعلق الحكم بأصوله أو بالحواشي، فهذا ضابطٌ مهمٌّ جدًّا ومفيدٌ لطالب العلم: أن تأثير الرضاع إنما يكون مُنحصرًا على المُرتضع وعلى الفروع فقط، دون أصوله، ودون الحواشي.
ولعل هذا -إن شاء الله- في المتن الفقهي الذي نستهدفه فيما بعد، يعني: نستبدل -مثلًا- عبارة المؤلف بهذه العبارة: أن أثر الرضاع إنما يكون في الفروع دون الأصول والحواشي، بدلًا من هذا الذي ذكره المؤلف بهذه الصياغة.
آثار الرضاع
قال:
وتحريم الرضاع في النكاح وثبوت المَحْرَميَّة كالنَّسب.
انتقل المؤلف للكلام عن آثار الرضاع.
هذا طفلٌ رضع من امرأةٍ خمس رضعاتٍ فأكثر، ما تأثير الرضاع؟
ذكر المؤلف أثرين، وسنُضيف لهما أثرين، فتأثيره في أربعة أشياء، تأثير الرضاع في أربعة أمورٍ فقط، ما هي؟
ذكر المؤلف الأمر الأول قال: “في النكاح” يعني: في تحريم عقد النكاح على كل مَن تحرم عليه بالرضاع: كأُمِّه من الرضاع، وأخواته من الرضاع، وعمَّاته، وخالاته، وبنات أخيه من الرضاع، وبنات أخته من الرضاع، ونحو ذلك.
إذن الأثر الأول: تحريم عقد النكاح على مَن تَحْرُم عليه بالرضاع.
الأثر الثاني أيضًا أشار إليه المؤلف: “وثبوت المَحْرَميَّة كالنَّسب”.
ثبوت المَحْرَميَّة: فيكون المُرتضع هذا مَحْرَمًا لأُمِّه من الرضاع، ومَحْرَمًا لأُخته من الرضاع، ومَحْرَمًا لعمَّته من الرضاع، ومَحْرَمًا لخالته من الرضاع، ومَحْرَمًا لبنت أخته من الرضاع، وهكذا: يَحْرُم من الرضاع ما يَحْرُم من النَّسب [12].
إذن الأثر الثاني بعد تحريم عقد النكاح: ثبوت المَحْرَميَّة.
نُضِيف أيضًا أثرين ذكرهما الفقهاء:
الثالث: إباحة النظر لكل مَن تحرم عليه بالرضاع، يعني: تكشف له.
إباحة النظر لكل مَن تحرم عليه بالرضاع، يعني: ينظر لأُمِّه من الرضاع، ولأخته من الرضاع، ولعمته من الرضاع، ولخالته من الرضاع، وهكذا.
الأثر الرابع: جواز الخلوة بكل مَن تحرم عليه بالرضاع كالنَّسب تمامًا، فيجوز أن يخلو بأمِّه من الرضاع، وبأُخته من الرضاع، وبعمته من الرضاع، وبخالته من الرضاع، وببنت أخته من الرضاع، وهكذا.
إذن آثار الرضاعة في هذه الأمور الأربعة: تحريم النكاح، وثبوت المَحْرَميَّة، وإباحة النظر، وجواز الخلوة فقط، أما ما عدا ذلك فلا يترتب على الرضاع: كصِلَة الرحم.
هل يجب على المُرتضع أن يصل أُمَّه من الرضاع؟
لا يجب، لكن المروءة تقتضي ذلك، لكنه لا يجب، ولا أخته من الرضاع، ولا عمّته من الرضاع، ولا أباه من الرضاع؛ لا يجب، ليست كصِلَة الرحم، ليست لها علاقةٌ بِصِلَة الرحم، لكن المروءة تقتضي ذلك، من باب المروءة فقط.
وأيضًا لا علاقة لها بالنفقة أو الميراث، إنما تنحصر الآثار في هذه الأمور الأربعة فقط، احفظوها:
- تحريم النكاح.
- ثبوت المَحْرَميَّة.
- إباحة النَّظر.
- إباحة الخلوة.
فآثار الرضاع مُنحصرةٌ في هذه الأمور الأربعة فقط.
الجمع بين أختين من الرضاع لا يجوز أيضًا عند الجمهور؛ لعموم الدليل: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء:23]، يشمل الأُختين من النَّسب ومن الرضاع.
وإن كانت المسألة فيها خلافٌ؛ لأن بعضهم أيضًا يقول: إن الحكمة من النهي عن الجمع بين الأختين لأجل قطيعة الرحم، وهنا صِلَة الرحم غير واجبةٍ، ففيها خلافٌ.
عدد الرضعات المُحَرِّمات
قال:
بشرط أن يَرْتَضِع خمس رضعاتٍ.
على قول الجمهور، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة؛ لقول عائشة رضي الله عنها: “كان فيما أُنْزِل من القرآن: عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يُحَرِّمْنَ. ثم نُسِخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ، فتُوفي رسول الله وهُنَّ فيما يُقْرَأُ من القرآن” [13].
هل توجد آيةٌ في القرآن فيها عشر رضعاتٍ أو خمس رضعاتٍ؟ هل هناك شيءٌ في القرآن؟
لا يوجد شيءٌ.
إذن هذا مثالٌ لنسخ التلاوة بالنسبة للعشر رضعات، نُسِخَ الحكم والتلاوة، وبالنسبة لخمس رضعاتٍ نُسِخَت التلاوة فقط دون الحكم.
وأما قول عائشة رضي الله عنها: “فتُوفي رسول الله وهُنَّ فيما يُقْرَأُ من القرآن” يعني: لقُرب العهد بالنَّسخ؛ لأنها في أواخر حياة النبي عليه الصلاة والسلام، فلعل بعض الصحابة لم يبلغه النَّسخ، ثم بلغه بعد ذلك.
وقت الرضاع المُعتبر
قال:
في العامين.
يعني: في الحولين، فلا بد أن يكون الرضاع المُحَرِّم في الحولين للطفل؛ لقول الله : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]؛ ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يُحَرِّم من الرضاعة إلا ما فَتَقَ الأمعاء في الثَّدي، وكان قبل الفطام [14].
قال:
فلو ارتضع بقية الخمس بعد العامين بلحظةٍ لم تثبت المَحْرَميَّة.
حتى لو كان بلحظةٍ على قول الجمهور.
رضاع الكبير
هنا تَرِدُ مسألة: رضاع الكبير، يعني: لو أُرْضِعَ الكبير، طبعًا عن طريق إناءٍ أو عن طريق -مثلًا- ما يُسمى بالرَّضَّاعَة أو الزجاجة، وهذا الكبير أُعطي -مثلًا- خمس رضعاتٍ أو أكثر، فهل يكون هذا الرضاع مُحَرِّمًا؟
هذه المسألة فيها ثلاثة أقوالٍ للعلماء:
- القول الأول: أن رضاع الكبير لا أثر له، فلا يُحَرِّم مطلقًا.
وعلى هذا المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، قالوا: الرضاع المُحَرِّم إنما يكون في الحولين؛ للنصوص السابقة.
- والقول الثاني: أن رضاع الكبير يَنْشُر الحُرمة مطلقًا، وقد رُوِيَ هذا عن عائشة وعليٍّ والليث وعطاء وابن حزم، يعني: قِلَّة من العلماء قالوا بذلك، واستدلوا بقصة امرأة أبي حذيفة لما أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال -سالم مولى أبي حذيفة- وإنه يدخل علينا. فقال عليه الصلاة والسلام: أرضعيه تَحْرُمي عليه [15]، مع أنه كان كبيرًا، والحديث في الصحيحين، لكن الجمهور يقولون: إن هذا خاصٌّ بسالم مولى أبي حذيفة؛ لأن سالمًا كان قد تَبَنَّاه أبو حذيفة، ثم أُبْطِل التَّبني، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن تُرضعه، والتَّبَنِّي لا يمكن أن يرجع، منسوخٌ، فقالوا: هذا خاصٌّ بسالم مولى أبي حذيفة.
- القول الثالث قول ابن تيمية رحمه الله، وعزاه لطائفةٍ من السلف والخلف: أن رضاع الكبير يَنْشُر الحُرمة عند الحاجة، أما إذا لم يُحْتَج إليه فلا يَنْشُر.
قالوا: بدليل قصة سالم مولى أبي حذيفة، وأخذتْ به عائشة رضي الله عنها، ورأت الفرق بين أن يقصد: رضاعةً أو تغذيةً، ومتى كان المقصود الثاني لم يُحَرِّم إلا ما كان قبل الفطام، أما الأول فيجوز إذا احْتِيجَ إليه.
قول ابن تيمية قولٌ قويٌّ، وإن كان قول الجمهور أحوط، وعلى هذا -مثلًا- أحيانًا عندما يُؤخذ لَقِيطٌ من دار الرعاية الاجتماعية، ويكون أكبر من سنتين، وتُريد بعض نساء البيت أن تُرضعه، فهل يكون هذا الرضاع مُحَرِّمًا؟
يجري فيه الخلاف السابق، لكن ينبغي ألا يُفْتَى في ذلك فُتيا عامة؛ لأن الفُتيا العامة تترتب عليها مفاسد، فلو رجَّح بعض أهل العلم القول الثالث ينبغي أن يُفْتَى في ذلك فُتيا خاصة، ولا يُفْتَى فيه فُتيا عامة.
مَن كان أكبر من حولين -طبعًا- يكون الرضاع عن طريق زجاجةٍ، تحلبه ويشربه، هذا المقصود، لكن المقصود أكبر من سنتين.
وهذه مسألةٌ تُثار كثيرًا في الصُّحف، يعني: أثارها بعض طلبة العلم، وينبغي ألا تُثار عند العامة، وأيضًا ألا يُفْتَى فيها فُتيا عامة.
بعض المسائل عند الحاجة إليها يُفْتَى فيها فُتيا خاصة لصاحب الشأن.
صفة الرضعة المُعتبرة
قال:
ومتى امتصَّ الثَّدي ثم قطعه -ولو قَهْرًا- ثم امتصَّ ثانيةً فرضعةٌ ثانيةٌ.
أراد المؤلف أن يُبين صفة الرضعة، يقول: إذا امتصَّ الثَّدي ثم قطعه -ولو قَهْرًا- ثم امتصَّ ثانيةً فرضعةٌ ثانيةٌ.
والقول الثاني: أن المرجع في ذلك للعُرف، وهذا هو الراجح.
وفي عُرف الناس: أن الطفل إذا مَصَّ الثَّدي ثم قطعه باختياره، وليس قَهْرًا، وإنما باختياره، فتُحسب رضعة، أما إذا قطعه قَهْرًا فلا تُحْسَب رضعة، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي استقرَّ عليه عُرف الناس.
فعلى هذا إذا أَلْقَمَت المرأة هذا الطفل ثَدْيَها، فإذا ترك الثَّدي باختياره تُعتبر رضعةً، أما إذا استمر يرضع -ولو بقي ساعةً- لا تُعتبر إلا رضعةً واحدةً.
قال:
والسَّعُوط في الأنف، والوَجُور في الفم، وأكل ما جُبِّن أو خُلِطَ بالماء وصفاته باقيةٌ كالرضاع في الحُرمة.
ذكر المؤلف مُصطلحاتٍ، وهذه مرَّتْ معنا في كتاب “الصيام”.
السَّعُوط معناه: أن يُصَبَّ اللبن في أنفه من إناءٍ وغيره، فيكون إدخال اللبن للجوف عن طريق الأنف.
والوَجُور: أن يُقَطَّر اللبن في فم الرضيع من غير الثَّدي، مثلما ذكرنا: يُوضع في زجاجة اللبن ويُسْقَى مُباشرةً، هذا يُسمى: وَجُورًا.
وكذلك أيضًا لو جُبِّنَ لبن المرأة -صُنِعَ منه جبنٌ- ثم أُطْعِمَ الطفل، أو خُلِطَ بالماء، لكن اللبن هو الأغلب؛ كل ذلك تثبت به الحُرمة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا رضاع إلا ما أَنْشَزَ العظم وأَنْبَتَ اللحم [16].
وبناءً على ذلك: لو أن امرأةً أرادتْ أن تُرضع يتيمًا أو لَقِيطًا في الحولين، لكن حَلَبَت اللبن ووضعتْه في زجاجةٍ -التي تُسمى الرَّضَّاعة- ثم سَقَتْه هذا الطفل خمس رضعاتٍ، هل يكون هذا اللبن مُحَرِّمًا؟
نعم، يكون مُحَرِّمًا، ولا يلزم أن يرضع من ثَدْيها، يُمكن أن يُوضع في هذه الزجاجة، ويُسْقَى هذا الطفل اللبن، وهذا هو الوَجُور الذي قصده الفقهاء.
الشَّك في الرضاع
قال:
وإن شكَّ في الرضاع أو عدد الرضعات بنى على اليقين.
والقاعدة: أن اليقين لا يزول بالشك، فإذا شكَّ في الرضاع هل وُجِدَ أصلًا أم لا؟ فالأصل عدم الرضاع، وإذا شكَّ هل هي خمسٌ أو أربعٌ؟ فاليقين ما هو؟ أربعٌ.
إذن القاعدة هي: أن اليقين لا يزول بالشك.
شهادة المرأة في الرضاع
وإن شهدتْ به مَرْضِيَّةٌ ثبت التَّحريم.
إن شهدتْ به امرأةٌ ثقةٌ مَرْضِيَّةٌ ثبت به التَّحريم، حتى إن كانت واحدةً؛ لأن هذا من شأن النساء، والغالب أن الذي يَطَّلع عليه النساء أكثر من الرجال.
وهذا فيه رَدٌّ على مَن يقول: إن القول بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجلٍ أنه انتقاصٌ للمرأة.
نقول: هذا غير صحيحٍ، ليس انتقاصًا للمرأة؛ ولذلك هناك مواضع تكتفي فيها الشريعة بشهادة امرأةٍ واحدةٍ فقط.
فليس المقصود انتقاص المرأة، لكن اشتراط أن تكون شهادة امرأتين مقابل شهادة رجلٍ في المُعاملات المالية؛ لأن المعاملات المالية لا تعني النساء كثيرًا، فليست محلَّ اهتمامٍ للمرأة، فالصَّفْق في الأسواق والتجارة ليس اهتمام النساء، والشيء الذي لا يهتم به الإنسان لا يضبطه في الغالب؛ ولذلك مسألة الرضاع، المرأة تهتم بالرضاع، فهو من شأن النساء؛ ولذلك اكتُفِيَ بشهادة امرأةٍ واحدةٍ.
ويدلُّ لذلك حديث عقبة بن الحارث: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءتْ أَمَةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتُكما. قال: فذكرتُ ذلك للنبي ، فأعرض عني، فَتَنَحَّيتُ فذكرتُ ذلك له، فقال: كيف وقد زعمتْ أن قد أرضعتكما؟ [17]، وفي لفظةٍ: كيف وقد قيل [18]، فهذا يدل على الاكتفاء بامرأةٍ واحدةٍ في الرضاعة، لكن بشرط أن تكون امرأةً ثقةً.
قال:
أيضًا هذا ضابطٌ فقهيٌّ.
مَن حَرُمَتْ عليه بنت امرأةٍ من النَّسب كبنت أُمِّه -بنت الأم هي الأخت- وبنت جدَّته -يعني: أمه أو خالته- فإذا أرضعتْ واحدةٌ منهن طفلةً حرَّمتها عليه؛ لأنها تصير ابنتها من الرضاعة، فإذا كانت المُرضعة هي أُمّه فالمُرتضعة تكون أخته، وإذا كانت المُرضعة جدَّته فتكون المُرتضعة عمَّته أو خالته، وإن كانت المُرضعة أخته فتكون المُرتضعة ابنة أخته، وهكذا.
وهذه كلها ترجع لقاعدةٍ، ويُغنينا عن كلام المؤلف هذه القاعدة السابقة، وهي: أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النَّسب، ولسنا بحاجةٍ لهذا الضابط الذي ذكره المؤلف، يُغْنِي عنه: يَحْرُم من الرضاع ما يَحْرُم من النَّسب [19].
ومثل ذلك أيضًا الضابط الثاني الذي ذكره:
ومَن حَرُمَتْ عليه بنت رجلٍ -كأبيه وجَدِّه وأخيه وابنه- إذا أرضعتْ زوجتُه بلبنه طفلةً حرَّمتها عليه أبدًا.
يعني: مَن حَرُمَتْ عليه بنت رجلٍ من النَّسب كبنت أبيه -بنت أبيه يعني: أخته- وبنت جدِّه -يعني: عمَّته أو خالته- وبنت أخيه؛ لأنه يكون عمّها، وبنت ابنه؛ لأنه جدُّها، إذا أرضعتْ واحدةٌ من أزواج هؤلاء بلبنها طفلةً حرَّمتها عليه؛ لأنها صارت ابنة مَن تحرم ابنته عليه، وإذا كانت زوجةً انفسخ النِّكاح.
ويُغني عن هذا الذي ذكره المؤلف: يَحْرُم من الرضاع ما يَحْرُم من النَّسب، ولا نحتاج للضابط الأول أو الضابط الثاني، يُغني عن ذلك كله: يَحْرُم من الرضاع ما يَحْرُم من النَّسب.
بنوك الحليب
بقيتْ مسألةٌ معاصرةٌ ذُكِرَتْ في “السلسبيل” وهي: بنوك الحليب، وهي مُنتشرةٌ في بلاد الغرب، فبنوك الحليب لا يجوز إنشاؤها ما دام أن الحليب حليب آدميات؛ لأنه يُفْضِي إلى اختلاط الأمهات من الرضاع، فلا يُدْرَى مَن الأم مِن الرضاع من الأم من النَّسب.
وحتى لو وُضِعَ ذلك الحليب على شكل بودرة فهذا لا يجوز، فلا يجوز أن يُنْشَأ في البلد بنك حليبٍ، وهذا الطفل الذي شرب من هذا الحليب ستكون له أمهات من الرضاع، وربما يتزوج بواحدةٍ منهن إذا كبر، أو يتزوج بابنتها، يعني: تترتب على هذا إشكالاتٌ شرعيةٌ؛ ولهذا المجامع الفقهية والهيئات العلمية منعتْ منه، والمجمع الفقهي منع من إنشاء بنوك الحليب، وأنه يحرم الرضاع منها، وأيضًا اللجنة الدائمة للإفتاء منعتْ من ذلك؛ لما يترتب على هذا من المفاسد.
ونقف عند كتاب “النفقات”.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: …….
الجواب: العبرة بارتضاع الطفل، بِغَضِّ النظر عن كونه كُوبًا أو زجاجةً، المهم أن الطفل يشرب اللبن، ثم يتركه باختياره، فهذه تُعتبر رضعةً، بِغَضِّ النَّظر عن الآلة، سواء كان من الثَّدي، أو كان من الرَّضَّاعة، أو كان من الكوب، أو من أي شيءٍ.
السؤال: …….
الجواب: إذا لم تكن مُتزوجةً يَرِدُ علينا الخلاف الذي ذكرنا في اللبن الذي ثاب عن غير حملٍ، والراجح أنه مُحَرِّمٌ، أنه لبنٌ مُحَرِّمٌ.
السؤال: هل صَحَّتْ نسبة القول بجواز رضاع الكبير مطلقًا من الشيخ الألباني؟
الجواب: لا أدري حقيقةً، ما أدري عن نسبة القول للشيخ، لكن -كما ذكرنا- رأي ابن تيمية أنه لا يجوز مطلقًا، ابن تيمية: عند الحاجة فقط.
السؤال: هل ثبت التَّداوي للأمراض الجلدية بكتابة بعض الآيات، مثل: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266]؟
الجواب: هذا ذكره بعض العلماء، وقال: إنه معلومٌ بالتجارب، ذكره ابن تيمية وابن القيم، ولا بأس باستخدامه: أن تُكتب مثل هذه الآيات وتُوضع على المريض، والقرآن مُباركٌ، وبركته لا حَدَّ لها، بركته تكون بالرُّقية، وتكون بالكتابة، وتكون بأيِّ شيءٍ، فمثل ذلك لا بأس به.
السؤال: ما معنى: اللبن الذي ثاب عن حملٍ؟
الجواب: يعني: أن هذه المرأة تزوجها رجلٌ ووطأها وولدتْ، والمرأة إذا ولدتْ يَثُوب اللبن من ثَدْيها، هذا هو المقصود.
السؤال: ما حكم بطاقة (فيزا) بنك دبي؟
الجواب: إذا كان بنك دبي الإسلامي فالأصل أن البنوك الإسلامية عندها هيئات شرعية، وتكون مُنضبطةً بالضوابط الشرعية، هذا من حيث الأصل، لكن هذه البطاقة بخصوصها لم أطلع عليها.
السؤال: واحدٌ أعطاني فلوسًا وقال لي: للبنزين، فهل يجوز أن أستعملها لحاجةٍ أخرى؟
الجواب: نعم، لا بأس، لا بأس أن تستعملها في أيِّ شيءٍ تُريد؛ لأن هذا الذي قال: للبنزين، قاله من باب التَّلطُّف في العبارة، يعني: يُريد ألا يُحرجك، ألا يُشْعِرك -مثلًا- بأنك فقيرٌ أو مسكينٌ، فيُريد أن يختار عبارةً مُناسبةً، يقول: للبنزين، أو يقول -مثلًا-: لسداد الإيجار، أو لسداد ما عليكم من التزاماتٍ، أو نحو ذلك، ولك أن تستخدم هذا المبلغ في أيِّ شيءٍ تُريد.
السؤال: ما الفرق بين مَن يُصلِّي في وقت الضَّرورة لغير عذرٍ، ومَن يُصلِّيها خارج الوقت؟
الجواب: مَن يُصلِّيها خارج الوقت فإنه يأثم، ويكون من السَّاهين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4- 5].
أما مَن يُصلِّيها في وقت الضرورة: فإن كان لعذرٍ فلا بأس، أما إن كان لغير عذرٍ فإنه يأثم أيضًا، لكن إثمه أقلّ من إثم مَن يُصلِّيها خارج الوقت.
السؤال: هل إذا صلَّيتُ جالسًا صلاة النافلة لغير عذرٍ يكون السجود والركوع إيماءً؟
الجواب: نعم، يكون الركوع والسجود إيماءً، وصلاة النافلة لا يجب معها القيام، وإنما يُستحب، فلك أن تُصلِّيها وأنت جالسٌ، لكن يكون لك نصف أجر القائم إلا إذا كان مَن يُصلِّي جالسًا لعذرٍ، فيكون أجره مثل أجر القائم، أما إذا صلَّاها لغير عذرٍ فله نصف أجر القائم كما دَلَّتْ لذلك السُّنة.
السؤال: أشكلتْ عليَّ مسألة التَّمَذْهُب للعامِّي والتَّقليد، هل يجوز ألا يلتزم المسلم بمذهبٍ معينٍ أو ماذا؟
الجواب: الواجب هو اتِّباع الدليل، والله يقول: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، ولا يقول: ماذا أجبتَ فلانًا من العلماء؟ وإنما ماذا أجبتَ المُرسلين؟
وهذه المذاهب وهذه الكتب كلها وسائل لمعرفة حكم الله ورسوله ، لكن من حيث التَّأصيل وطلب العلم لا بد أن ينطلق طالب العلم من مدرسةٍ فقهيةٍ: كمدرسة الحنابلة، أو الحنفية، أو المالكية، أو الشافعية -مثلًا-، ثم بعد ذلك لا يتعصب لها، لكن لا بد أن ينطلق منها ومن أصولها حتى يكون مُؤصَّلًا، فلا بُدَّ من انطلاقه من مدرسةٍ فقهيةٍ من غير تعصبٍ لتلك المدرسة، وإنما ينطلق فقط من أصولها، ويتعصب للدليل من الكتاب والسنة، ويستأنس باختيارات المُحققين من أهل العلم.
السؤال: تُوفي خالي، ووالدتي وخالتي تُريدان أن تتكفَّلا بمصاريف الحج؛ صدقةً عن أخيهما، فهل يجوز ذلك؟ مع العلم بأن هذه هي حجة الإسلام.
الجواب: إذا كانت هذه هي حجة الإسلام بالنسبة لك فليس لك أن تحجَّ عن غيرك، حُجَّ أولًا عن نفسك، كما في الحديث: حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبْرُمَة [20]، وليس لك أن تحجَّ عن خالك وأنت لم تحجَّ حجة الإسلام.
السؤال: هل يُقاس على تحريم شرب الزعفران للمرأة المُحِدَّة: المُحْرِم؟
الجواب: نعم، المُحْرِم كذلك ممنوعٌ من الزعفران، فلا فرق بين المُحْرِم والمُحْرِمة والمرأة المُحِدَّة في ذلك.
السؤال: هل الوصية التي أوصى الله بها الورثة في عدم إخراج الزوجة حولًا كاملًا تُحْمَل على الوجوب أو النَّدب؟
الجواب: هذه المسألة محل خلافٍ:
أولًا: هل هذا البيت مِلْكٌ للزوج أو ليس مِلْكًا له؟
لكن الجمهور على أن الأمر محمولٌ على النَّدب، وأن هذه المرأة ينبغي أن تبقى في بيت الزوج حولًا كاملًا لا تُخْرَج منه إلا إذا خرجتْ من تلقاء نفسها: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240]، يعني: أن هذه المرأة التي انكسرتْ بفقد زوجها ينبغي أن تُمْهَل سنةً كاملةً في بيت الزوج لا تُخْرَج منه.
وقال بعض العلماء: إن المقصود بالآية أن الأزواج يُوصون بذلك؛ لأن الله قال: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، وأن هذا محمولٌ فيما لو أوصى الزوج بأن تبقى الزوجة بعد وفاته في بيته سنةً كاملةً، أما إذا لم يُوصِ فلا تبقى.
يعني: كلام المُفسرين في هذا كثيرٌ حول معنى الآية.
السؤال: مَن تكاسل عن عبادةٍ اعتادها -كقيام الليل- هل ذنوبه هي التي منعته؟
الجواب: يحتمل ذلك، فإن الذنوب لها أثرٌ في تَثْبِيط الإنسان عن الطاعة.
ويحتمل أيضًا ضعف العزيمة عنده؛ لأن ضعف العزيمة مُؤثِّرٌ على الإنسان، وله أثرٌ كبيرٌ في الكسل؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم إني أسألك العزيمة على الرشد [21]، وكلما كان الإنسان أقوى عزيمةً كان أكثر طاعةً؛ ولذلك أعظم الناس عزيمةً مَن هم؟
الأنبياء والرسل، وأعظم الأنبياء عزيمةً أولو العزم الخمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، هؤلاء هم أعظم الأنبياء عزيمةً.
فكلما كانت العزيمة أقوى كان الإنسان أكثر طاعةً، فالتَّكاسل عن الطاعة بسبب ضعف العزيمة؛ لذلك ينبغي للمسلم أن يحرص على تقوية العزيمة عنده، وأن يسأل الله تعالى ذلك، وأن يُكثر من الدعاء: اللهم إني أسألك العزيمة على الرشد.
السؤال: ما حكم ركوب المرأة مع الرجل الأجنبي داخل البلد؟
الجواب: داخل البلد لا يجب المَحْرَم، لكن يجب انتفاء الخلوة، فالمرأة لا يجوز أن تخلو مع الرجل الأجنبي، لكن هل وجود المرأة في السيارة مع رجلٍ يُعتبر خلوةً؟
الظاهر أنه لا يُعتبر خلوةً؛ لأن الزجاج موجودٌ، والناس يرونهما، لكن بعض العلماء قال: إنه في حكم الخلوة؛ ولهذا ينبغي ألا تلجأ إليه المرأة إلا عند الحاجة فقط.
حتى لو قلنا: إنه مُحَرَّمٌ، فالقاعدة: أن ما حُرِّم سَدًّا للذريعة يجوز ما تدعو إليه الحاجة.
السؤال: ما وجه التوفيق بين طلب العلم في المساجد، وطلب العلم في الجامعة؛ لأنه قيل لي: إن دراستك ليست طلبًا للعلم؟
الجواب: طلب العلم إذا كان في كليةٍ شرعيةٍ في الجامعة فهو من أعظم ما يكون من طلب العلم، وكذلك أيضًا في المساجد، بل إن طلب العلم إذا كان في كليةٍ شرعيةٍ قد يكون أقوى من طلب العلم في المساجد؛ لأنه في الكلية الشرعية يأتيك أساتذةٌ متخصصون يحملون أعلى المُؤهلات ويُدرِّسونك في جميع العلوم، بينما في المسجد يُدرِّسونك في علمٍ واحدٍ فقط أو علمين، والدراسة في الكلية الشرعية دراسةٌ مُكثفةٌ ومُستمرةٌ أيضًا، وفيها اختباراتٌ، وفيها بحوثٌ، وفيها أمورٌ كثيرةٌ؛ ولذلك فيها خيرٌ كثيرٌ، فالذين يُزهِّدون في طلب العلم في الكليات الشرعية هؤلاء أناسٌ كُسَالَى، لم يستطيعوا تحصيل العلم عن طريق هذه الكليات الشرعية فأصبحوا يُزهِّدون الناس فيها، وإلا ففيها علمٌ كثيرٌ.
وينبغي لطالب العلم أن يجمع بينهما: طلب العلم عن طريق الكلية الشرعية وعن طريق المساجد، فلا يكتفي بطلب العلم في الكلية الشرعية، وإنما يجمع أيضًا معها دروس المساجد، وهي إنما تُعطي طالب العلم أيضًا مفاتيح، والدراسة الجامعية تُعطي طالب العلم مفاتيح، وعليه أن يبذل جهدًا كذلك في طلب العلم وفي تحصيله، فإن العلم مواهب، ولا يُستطاع العلم براحة الجسد.
السؤال: ما توجيهكم لطالب العلم في استقبال رمضان؟ ما الأولى: قراءة القرآن أم قراءة كتب العلم؟ وحفظ القرآن أم تلاوته؟
الجواب: مع دخول شهر رمضان ينبغي أن يُركِّز المسلم على تلاوة القرآن، ولا يمنع ذلك من طلب العلم، لكن ينبغي أن يكون التركيز على تلاوة القرآن، كما أُثِرَ ذلك عن بعض السلف: كالإمام مالك والزُّهري، وأيضًا الشافعي كانت له ختمتان كل يومٍ، وأيضًا رُوِيَ ذلك عن بعض السلف، فينبغي أن يُركِّز على تلاوة القرآن، وأن يختمه عدَّة خَتَماتٍ، ولا يمنع ذلك من طلب العلم أيضًا، فيجمع بين الأمرين.
المهم أنه ينبغي للمسلم مع دخول شهر رمضان أن تكون حاله في رمضان أفضل من حاله قبل رمضان، وأنه كلما تقدَّم به العمر يكون إلى الله أقرب، وأن يسعى لترتيب وتنظيم وقته في رمضان، والإنسان إذا لم يُرتِّب وقته في رمضان يضيع عليه الوقت، فينبغي أن يسعى لترتيب وقته واغتنام هذا الموسم، فهذا موسمٌ عظيمٌ من مواسم الطاعة، من مواسم التجارة مع الله بالأعمال الصالحة؛ فينبغي أن يحرص المسلم على اغتنام أيام وليالي هذا الشهر المبارك، وقد وصفها الله تعالى بأنها أيامٌ معدوداتٌ، يعني: سرعان ما تنتهي، وسرعان ما تنقضي وتُطوى صحائفها؛ فينبغي أن يجتهد فيها المسلم، وأن يُري الله تعالى من نفسه خيرًا، وأن يختار ما هو الأصلح لقلبه، وأن يجمع بين طلب العلم وتلاوة القرآن وبقية القُرَب والطاعات.
السؤال: إحداد البائن ثلاثة أيامٍ أو أربعة أشهرٍ وعشرًا؟
الجواب: إحداد البائن ثلاثة أيامٍ فقط، وهو جائزٌ، وليس مُستحبًّا.
السؤال: هل ثبت عند شراء الدابة أو السيارة دعاء: اللهم نسألك خيرها وخير ما جُبِلَتْ عليه؟
الجواب: عند الشراء لا بأس أن يدعو، ولا أعلم في هذا صيغةً مُعينةً، وهذا: أسألك خيرها وخير ما جُبِلَتْ عليه [22]، هذا إنما هو في الدابة، أما السيارة فلا يُقال: ما جُبِلَتْ عليه، لكن يمكن أن يأتي بدعاءٍ مناسبٍ: اللهم إني أسألك من خير هذه السيارة، وأسألك أن تُبارك فيها، وأن تُعطيني من خيرها، وتكفيني شرَّها. ونحو ذلك من العبارات، فإن الله إذا بارك في الشيء انتفع به صاحبه كثيرًا، وإذا نُزِعَت البركة من الشيء لم ينتفع به.
وكما جاء في الحديث: إن كان الشُّؤم في شيءٍ ففي الدار والمرأة والفرس [23]، فالدابة يقوم مقامها في الوقت الحاضر السيارة، فقد تكون هذه السيارة مُباركةً؛ يكثر الانتفاع بها، ويقلّ خرابها ومشاكلها، وقد يكون الأمر على العكس من ذلك؛ ولذلك ينبغي لمَن اشترى سيارةً أن يسأل الله تعالى أن يُبارك له فيها، وأن يُطعمه من خيرها، وأن يكفيه شرَّها.
السؤال: هل يجوز للمُعتكف أن يُصلِّي الجمعة في مسجدٍ بعيدٍ، أو يُصلي في أقرب مسجدٍ؟
الجواب: الأمر في هذا واسعٌ، فالمُعتكف إذا خرج لصلاة الجمعة خرج لأمر طاعةٍ، فلا بأس أن يختار جامعًا بعيدًا، ليس هناك مانعٌ يمنع من ذلك، وخروج المُعتكف لصلاة الجمعة نَصَّ الفقهاء على أنه لا بأس به، عامة الفقهاء على جواز ذلك، بل إنه يجب عليه أن يخرج لصلاة الجمعة إذا كان مُعتكفًا في مسجدٍ لا تُقام فيه صلاة الجمعة.
السؤال: في الحديث الأمر بتغيير الشَّيب، وهناك أناسٌ لا يُغيِّرون الشَّيب، هل فيه تشبهٌ باليهود والنصارى؟
الجواب: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم رواه البخاري ومسلم [24]، وهذا يدل على استحباب الخِضَاب، لكن الخِضَاب بالسَّواد يجري فيه الخلاف، والراجح أنه غير مُحَرَّمٍ.
وقد نقل ابن القيم في “زاد المعاد” عن تسعةٍ من الصحابة أنهم كانوا يخضبون بالسواد، والنَّهي الوارد عن الخِضَاب بالسواد غير محفوظٍ؛ رواية: وجَنِّبُوه السَّواد [25] غير محفوظةٍ، وكذلك أيضًا ما ورد في النَّهي عن الخِضَاب بالسواد غير ثابتٍ.
فالذي يظهر أن الخِضَاب بالسواد غير مُحرَّمٍ، والخِضَاب بغير السواد مُستحبٌّ؛ لهذا الحديث: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم.
السؤال: نختم بهذا السؤال: ما حكم الأكل من الطعام المُعَدِّ للصائمين وهو ممن يقوم على تفطيرهم؟
الجواب: لا بأس بذلك؛ لأن المُتبرِّع بهذا الطعام يفرح بأن تُفْطِر أنت عليه أو غيرك؛ لأنه يُريد أن يكسب الأجر: مَن فَطَّرَ صائمًا كان له مثل أجره [26]، ولا يُريد بذلك أن يختص هذا بالفقراء والمساكين، إنما يُريد مجرد تفطير الصائمين.
وعلى ذلك فكون -مثلًا- المُشرف أو إمام المسجد أو المُؤذن أو غيره يُفطرون مع هؤلاء المُفطرين لا بأس بذلك؛ لأن المقصود هو التَّفطير، وليس هذا خاصًّا بفقراء أو مساكين، إنما مقصود مَن يتبرع بقيمة التَّفطير -المقصود بذلك-: أن يحصل على الأجر الوارد في الحديث: مَن فَطَّرَ صائمًا كان له مثل أجره.
لكن ترد مسألةٌ أخرى: هل يجوز أن تُدفع الزكاة لتفطير الصائمين؟
الجواب: نقول: لا تُدفع الزكاة لتفطير الصائمين؛ وذلك لأنه لا يُقطع بأن هؤلاء الصائمين المُفطرين من أهل الزكاة، فقد يكون معهم مَن ليس من أهل الزكاة، وقد يكون معهم أحيانًا غير مسلمين، وقد يكون معهم من الأغنياء مَن يأتي معهم ويُفْطِر معهم، لكن لو قُدِّر أنه قُطِعَ بأن هؤلاء المُفْطِرين من الفقراء أو المساكين فلا بأس أن يكون ذلك من الزكاة.
ونكتفي بهذا القدر، وبقية الأسئلة -إن شاء الله- نُجيب عنها في درس غَدٍ، بإذن الله.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2699. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1280، ومسلم: 1486. |
^3 | رواه مسلم: 444. |
^4 | رواه مسلم: 938. |
^5 | رواه البخاري: 5803، ومسلم: 1177. |
^6 | رواه أبو داود: 2300، والترمذي: 1204 وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 3530، وابن ماجه: 2031، وأحمد: 27087. |
^7 | رواه البخاري: 1927، ومسلم: 1106. |
^8 | رواه أبو داود: 2157، وأحمد: 11228. |
^9 | رواه البخاري: 3105، ومسلم: 1444. |
^10, ^12, ^19 | رواه البخاري: 2645، ومسلم: 1447. |
^11 | رواه أبو داود في “المراسيل”: 207، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 15682. |
^13 | رواه مسلم: 1452. |
^14 | رواه الترمذي: 1152 وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي في “السنن الكبرى”: 5441. |
^15 | رواه البخاري: 5088، ومسلم: 1453. |
^16 | رواه أبو داود: 2060. |
^17 | رواه البخاري: 2659. |
^18 | رواه البخاري: 88. |
^20 | رواه أبو داود: 1811، وابن ماجه: 2903. |
^21 | رواه الترمذي: 3407، والنسائي: 1304. |
^22 | رواه أبو داود: 2160، وابن ماجه: 1918. |
^23 | رواه البخاري: 5094، ومسلم: 2225. |
^24 | رواه البخاري: 3462، ومسلم: 2103. |
^25 | رواه ابن ماجه: 3624، وأحمد: 14402. |
^26 | رواه الترمذي: 807 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 1746. |