logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(78) كتاب اللعان- من قوله: “فصل فيما يلحق ‌من ‌النسب..”

(78) كتاب اللعان- من قوله: “فصل فيما يلحق ‌من ‌النسب..”

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وهذا هو الدرس الثامن والسبعون، في هذا اليوم الاثنين، الخامس عشر من شهر رجبٍ من عام (1444 هـ).

ما يلحق من النسب

وكنا قد وصلنا إلى: “فصل فيما يُلحَق من النسب”.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

فصلٌ فيما يُلحَق من النسب

وقد عقد المصنف رحمه الله هذا الفصل لبيان ما يُلحَقُ من النَّسب، وما يُلْحَقُ فيما ذكره من مسائل.

بدأ المؤلف أولًا بالمسائل التي يُلحَق فيها النسب، قال:

إذا أتت زوجة الرجل بوَلَدٍ بعد نصف سنةٍ منذ أمكن اجتماعه بها، ولو مع غيبته فوق أربع سنين، حتى ولو كان ابن عشرٍ؛ لَحِقه نسبه.

يعني: أنه يُلحَق النسب بالإنسان؛ إذا أتت به زوجته بعد ستة أشهرٍ من إمكان اجتماعه بها، أما قبل ستة أشهرٍ؛ فلا يمكن؛ لأن أقل الحمل: ستة أشهرٍ، لكن إذا كان بعد ستة أشهرٍ منذ اجتماعه بها، وأتت بولدٍ؛ فإنه يُلحَق نسبه بهذا الزوج، حتى ولو كان غائبًا، ما دام أنه قد اجتمع بها، أو أمكن اجتماعه بها، ولو كانت غيبته فوق أربع سنين، ولو كان عمره عشر سنين؛ فيقول المؤلف: إنه يَلحقه نسبه في هذه الأحوال، وفي هذا إشارةٌ إلى أقل مدة الحمل وأكثرها، فأقل مدة الحمل: هي ستة أشهرٍ عند عامة أهل العلم؛ لقول الله : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، فذكر الله أن المدة الكاملة للرضاعة: حولان كاملان، ثم قال في آيةٍ أخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15].

فإذنْ: إذا قلنا: إن الفصال -الذي هو الرضاعة- حولان كاملان؛ يعني: أربعة وعشرون شهرًا، عندما نخصمها من ثلاثين شهرًا؛ يبقى ستة أشهرٍ، فاستنبط العلماء من هاتين الآيتين: أن أقل مدة الحمل: ستة أشهرٍ.

في وقتنا الحاضر قد تُنجب المرأة في أقل من ستة أشهرٍ، في خمسة أشهرٍ ونصفٍ، ويسمى: طفلًا خَدِيجًا، فكيف نوفق بين هذا وبين ما ذكرناه؟

الجواب: أن هذا نادرٌ، والنادر لا حكم له، ولم يكن أصلًا هذا موجودًا فيما سبق، لكن في الوقت الحاضر مع تقدم الطب وتوفير الحضانة المناسبة لهؤلاء الخُدَّج؛ جعلهم يعيشون، لكن إلى خمسة أشهرٍ ونصفٍ، أما أقل من ذلك فلا يوجد، لكن إلى خمسة أشهرٍ ونصفٍ هذا موجودٌ، فهذا يقال: إنه نادرٌ، والنادر لا حكم له.

أما أكثر مدة الحمل: المؤلف أشار إلى أنها أربع سنين، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهذه مسألةٌ مهمةٌ يترتب عليها أحكامٌ كثيرةٌ، وبَحَثَها “المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي”، وكنت مشاركًا ببحثٍ مع “المجمع”، وفي مناقشات أيضًا هذا الموضوع، وصدر فيه قرارٌ سنشير له -إن شاء الله- عند نهاية عرض المسألة.

فمن الفقهاء من قال: إن أكثر مدة الحمل تسعة أشهرٍ، ومنهم من قال: سنةٌ، ومنهم من قال: سنتان، ومنهم من قال: ثلاثٌ، ومنهم من قال: أربعٌ، ومنهم من قال: خمسٌ، ومنهم من قال: سبعٌ، ومنهم من قال: لا حد لأكثره.

والجمهور من الشافعية والحنابلة، وقولٌ عند المالكية: أنها أربع سنين، أن أكثر مدة الحمل أربع سنين، واستدلوا بالاستقراء، بالاستقراء قالوا: إن هذا أكثر ما وُجِد.

وقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظلِّ المِغزل”، فقال الإمام مالكٌ: سبحان الله! من يقول هذا؟! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، امرأة صدقٍ، وزوجها رجل صدقٍ، حملت ثلاثة أبطنٍ في ثنتي عشرة سنةً، تحمل في كل بطنٍ أربع سنين، وقال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين، وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاثة بطونٍ، كل دفعةٍ أربع سنين.

فاستدلوا بذلك، بهذه الوقائع.. أيضًا هَرِم بن حَيَّان حملته أمه أربع سنين، ومنصور بن ريان ومحمد بن عبدالله بن جُبَيرٍ، يعني: خلائق حملتهم أمهاتهم أربع سنين، لكن هذه الوقائع اعتُرض عليها:

أولًا: بأن ما رُوي عن عائشة لم يثبت بسندٍ صحيحٍ.

ثانيًا: أن هذه الوقائع ذُكرت مرسلةً، ثم أيضًا حتى لو كانت صحيحةً؛ فهل فعلًا هؤلاء النسوة حملن أربع سنين حقيقةً؟ أو أنه حصل عندهن انتفاخ في البطن ثم في آخر تسعة أشهرٍ حصل الحمل؟ هذا محتملٌ.

وإذنْ هذه التحديدات كلها التي قيلت، سواءٌ تسعة أشهرٍ، أو سنةٌ، أو سنتان، أو ثلاثٌ، أو خمسٌ، أو سبعٌ؛ كلها اعتمدت على الاستقراء، وهذا الاستقراء ليس دقيقًا، وليس دليلًا، ولا يُعتمد عليه؛ لأنه وُجِد أيضًا ما هو أكثر من ذلك، ولأنه لا يُقطع بأن هذا كان حملًا أصلًا.

أما القول بأنه لا حد لأكثر مدة الحمل، فهذا قول أبي عُبيدٍ، وهو روايةٌ عن مالكٍ، واختاره الشوكاني، وأيضًا الشنقيطي، محمد الأمين الشنقيطي، وأيضًا ابن بازٍ وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع، قالوا: لأنه ليس هناك دليلٌ يدل على تحديد أكثر مدة الحمل، والتحديد بابه التوقيف؛ فنقول إذنْ: لا حد لأكثر مدة الحمل.

وهنا قضيةٌ لطيفةٌ ذكرها عبدالرشيد بن محمد بن أمين بن قاسمٍ في بحوث “المجمع”، يقول عبدالرشيد قاسم: حدثني الشيخ بكر أبو زيد أنه ثبت لديه -حين كان قاضيًا بالمدينة- حملٌ دام أربع سنين، وأن الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ ثبت لديه حملٌ دام سبع سنين حين كان يشغل منصب القضاء، وحين أورد ذلك على الأطباء في مناقشات “مجمع الفقه الإسلامي بالرابطة” حارُوا في الجواب.

لكن يَرِد أيضًا الاعتراض على هذا: أننا إذا لم نحدِّد أكثر مدة الحمل، فلو ادَّعت امرأةٌ أنها حملت لعشرين سنةً أو أكثر؛ فيَلزم أصحاب هذا القول أن يقبلوا قولها، ويرتِّبوا على ذلك الأحكام الشرعية من النَّسب والميراث وغير ذلك؛ ولذلك هذا محل نظرٍ.

وأما الطب الحديث: فعندهم أن غالب مدة الحمل: 280 يومًا، يعني: 9 أشهر، أو 40 أسبوعًا، وقد تنقُص أو تزيد أسبوعًا أو أسبوعين، وأقصى مدة الحمل التي تستوعب الحالات النادرة عند الأطباء: 11 شهرًا، يعني: إذا استوعبت الحالات النادرة جدًّا؛ أكثر ما قيل: إنها 11 شهرًا، لكن كيف يجيب الأطباء عن الوقائع التي ذكرها الفقهاء الذين ذكروا عن محمد بن عجلان ونساء بني عجلان، وأيضًا ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد والشيخ ابن بازٍ؟ كيف يجيبون عن هذا؟

بعض الأطباء قالوا: أولًا: إن هذا ليس حملًا، إنما هو حملٌ كاذبٌ، أو حملٌ وهميٌّ، يقولون: إن المرأة إذا تشوَّفت للحمل؛ حصل عندها انتفاخٌ، فتظنه حملًا وليس كذلك، ثم ربما تحمل حملًا حقيقيًّا فتتوهَّم أن مدة الحمل كانت طويلةً وهي ليست كذلك، لكن هذا محل نظرٍ؛ لأن بعض الوقائع المرأة لا تتشوَّف فيها للحمل، ومع ذلك طالت مدة حملها، وأذكر أن أحد المشايخ ذكر لي أن أمه حملته لسنتين، وأنها لم تكن أصلًا عندها تشوُّف الحمل، وعندها أولادٌ كثيرون، فكيف نجيب عن هذا؟

الحقيقة أن هذه المسألة من المسائل المشكلة؛ لأن المرأة أصلًا لا يمكن أن تحمل إلا إذا انتظمت عندها العادة الشهرية، أما إذا لم تنتظم؛ فلا تحمل، كيف يقال: عندها حملٌ كاذبٌ وعندها انتفاخٌ؟! معنى ذلك عندها اضطرابٌ في الدورة الشهرية.

هناك نظريةٌ ما أدري عن صحتها، يقولون: هناك شيءٌ اسمه: السُّبات، وهذا يكون في النبات أحيانًا، بحيث تبدأ النبتة ثم تقف، يقف نموها وتصفر، ثم بعد مدةٍ طويلةٍ تعود وتنمو، فهناك من يقول: إن الحمل يبدأ لكنه يتوقف في مرحلةٍ من مراحله عن النمو، ثم بعد مدةٍ طويلةٍ يعود للنمو، فهل هذا صحيحٌ؟ الله أعلم، وأنا صَدَر لي كتابٌ بعنوان: “أكثر مدة الحمل”، قُدِّم لـ”المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي”، وفيه استيعابٌ لمعظم الأقوال -أقوال الفقهاء، وأقوال الأطباء- وموجودٌ ومطبوعٌ أيضًا، فمن أحب الرجوع إليه؛ فهو موجودٌ، “المجمع الفقهي” أنا شاركت معهم بهذا البحث، وأيضًا شاركت معهم في مناقشات هذا الموضوع، وأُصدر قرارٌ، وجاء فيه: أنه لم يرد نصٌّ صريحٌ من الكتاب والسنة يُحدِّد أكثر مدة الحمل، ثم إن “المجمع” يُقرِّر ما يلي:

أكثر مدة الحمل: سنةٌ من تاريخ الفُرقة بين الزوجين؛ لاستيعاب احتمال ما يقع من الخطأ في حساب الحمل، وأن أي ادعاءٍ بحملٍ يزيد على السنة؛ يحال للقاضي للبَتِّ فيه مستعينًا بلجنةٍ شرعيةٍ طبيةٍ.

ففي الأحوال المعتادة أكثر مدة الحمل: سنةٌ، لا يمكن أن يزيد على سنةٍ، وما زاد على سنةٍ يحال إلى اللجنة الشرعية الطبية لتنظر في الأمر.

لكن مع ذلك أقول: إن هذه المسألة بحاجةٍ لمزيدٍ من البحث والإثراء، سواءٌ من الناحية الطبية أو من الناحية الشرعية؛ لأن هذه الوقائع التي ذكرها الفقهاء السابقون والفقهاء المعاصرون لسنواتٍ طويلةٍ من الحمل؛ لم نجد لها جوابًا مقنعًا من الأطباء، فالمسألة تحتاج إلى مزيدٍ من التحرير ومزيدٍ من البحث، وربما يقول قائلٌ: إنه في الوقت الحاضر أصبحت لا تَرِد هذه المسألة؛ بسبب أن المرأة لو زاد الحمل عن أربعين أسبوعًا؛ فالأطباء يتدخلون ويُجرون لها عمليةً قيصريةً؛ فلذلك لا نجد هذه الوقائع التي ذكرها الفقهاء السابقون، لكن تبقى هذه المسألة في حاجةٍ لمزيدٍ من البحوث؛ ولذلك تلاحظون أن قرار “المجمع” فيه شيءٌ من التردد، قال: أكثر مدة الحمل: سنةٌ، ثم قال: وأي ادعاءٍ يحال للجنة الطبية الشرعية.

طيب، اللجنة الطبية الشرعية ماذا تفعل إذا كان “المجمع” الآن ما بَتَّ فيها بشكلٍ قاطعٍ، ماذا تفعل هذه اللجنة؟

وبكل حالٍ -كما ذكرت- المسألة تحتاج إلى مزيدٍ من البحث خاصةً عند الأطباء.

قال: “منذ أمكن اجتماعه بها، ولو مع غيبته أربع سنين”، يعني: لو افترضنا أنه تزوج بها وبنى بها وسافر هذه المدة فما فوقها؛ لَحِقه النسب، حتى لو كان فوق أربع سنين.

لكن قال:

ومع هذا لا يُحكَم ببلوغه.

يعني: لا تترتب عليه الأحكام الأخرى، ولا يُحكَم ببلوغه؛ لوجود الشك، وإنما يُلحَق به الولد احتياطًا للنسب.

ولا يَلزمه كل المهر.

لا يَلزم بإثبات النسب له كل المهر إن لم يثبت له الدخول والخلوة؛ لوجود الشك، والأصل براءة ذمته.

ولا تثبت به عِدَّةٌ ولا رَجعةٌ.

وذلك لوجود الشك، هذا مثالٌ لتبعيض الأحكام، يعني: لحوق النسب، قلنا: يَلحق، لكن هذه لبقية الأمور لا تثبت، فتبعيض الأحكام موجودٌ في الشريعة الإسلامية، وسيأتينا في قصة ابن زَمْعة، سيأتينا بعد قليلٍ إن شاء الله تعالى: الولد للفراش، وللعَاهِر الحَجَر، ثم أمر النبي عليه الصلاة والسلام سودة بأن تحتجب عنه، قال: هو لكَ يا عبد بن زَمَعْةَ، واحتجبي منه يا سَودة [1]؛ هذا فيه إشارةٌ لتبعيض الأحكام، سنعود لهذه المسألة عندما تأتينا مسألة: الاستلحاق.

قال:

وإن أتت به لِدُون نصف سنةٍ منذ تزوجها.

يعني: لم يلحقه النسب، هذا رجلٌ تزوج امرأةً، وبعد ثلاثة أشهرٍ أنجبت؛ هذا الولد ليس منه قطعًا، فلا يلحقه النسب.

أو علم أنه لم يجتمع بها؛ كما لو تزوجها بحضرة جماعةٍ، ثم أبانها في المجلس أو مات؛ لم يَلحقه.

تزوج امرأةً ولم يجتمع بها قطعًا؛ كأن يكون لما تزوجها طلقها في الحال مثلًا ثم أنجبت، أو لما تزوجها -يعني عقد عليها- توفي، ثم أنجبت بعد ذلك؛ فهنا لا يلحقه النسب.

طيب، هنا مسألة: استلحاق ولد الزنا، يعني هذه مسألة متعلقةٌ بالزنا، نسأل الله السلامة والعافية، الزنا من كبائر الذنوب: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، لكن إذا حصل الزنا، وحصل حملٌ من هذا الزنا، وأراد الزاني أن يستلحق هذا الولد الذي خلق من مائه، فهل يلحقه؟ هذا الزاني قال: إن هذا الولد ولدي، أنا أريد أن أُلحِقه بي، فهل له ذلك؟

أولًا: إذا كانت المزني بها فراشًا لزوجٍ أو سيدٍ؛ فإن الولد لا يُلحَق بالزاني بالإجماع؛ لأن الولد للفراش، وصاحب الفراش هو الذي يلحق به الولد، شاء أم أبى، وإذا أراد أن ينفيه؛ فلا بد من اللِّعان، وليس هناك طريقٌ آخر لنفي الولد غير اللعان، أما إذا كان المزني بها ليست فراشًا؛ فقد اختلف الفقهاء في إلحاق ولد الزنا به على قولين:

  • القول الأول: إن ولد الزنا لا يلحق بالزاني إذا استلحقه ولم تكن أمه فراشًا، وإنما يُنسب الولد لأمه، وإلى هذا ذهب الجماهير المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بقول النبي : الولد للفراش [2]، فقالوا: إن الولد يلحق بصاحب الفراش، طيب المسألة هذه ليس فيها فراشٌ أصلًا؛ لأن المزني بها ليست فراشًا.
  • القول الثاني: إن ولد الزنا يلحق بالزاني إذا استلحقه ولم تكن أمه فراشًا، وقد رُوي هذا القول عن عروة بن الزبير وعن سليمان بن يسارٍ والحسن البصري وابن سيرين والنخعي وإسحاق، واختاره الإمامان ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، ومن المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين، رحمة الله على الجميع، واستدلوا بما جاء في “الصحيحين” في قصة جُريجٍ العابد -القصة المشهورة- الذي كان يتعبد في صومعةٍ له، فتحدث بنو إسرائيل عن عبادته، فقالت امرأةٌ من بغايا بني إسرائيل يُتَّمثل بحسنها: لأفتننه، قالوا: لا تستطيعين، قالت: أستطيع أن أفتنه، فتحدَّوها، يعني حصل بينهم شيءٌ من التحدي، فتزينت، وهي كانت أيضًا جميلةً يُتَمَثَّل بحسنها، وذهبت إليه وتعرضت له، فلم يلتفت لها، ثم عملت له مكيدةً؛ ذهبت إلى راعٍ وأمكنته من نفسها، فوقع بها فحملت، وقالت للناس لما أنجبت: هذا الولد من جُريجٍ، فأتوا إلى جريجٍ وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه وهو يقول: ما الأمر؟! ما يدري، قالوا: أنت زنيت بهذه المرأة، وهذا الولد منك، فقال: ائتوني به، فجاءوا به، فقام وتوضأ وصلَّى ركعتين، ثم أتى لهذا الولد وضرب بأصبعه في بطنه، وقال: يا غلام، مَن أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، فأنطقه الله ، آيةً من آيات الله سبحانه، أن أنطق ولدًا في المهد، وهذا أحد الثلاثة الذين أنطقهم الله في المهد [3].

ووجه الدلالة يقول ابن القيم: هذا إنطاقٌ من الله لا يُمكن فيه الكذب، يعني لما قال: من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي؛ فدل هذا على أنه يصح أن يُطلق على الزاني أنه أبٌ، وأنه والدٌ، وأبو هذا الولد الذي أتى من الزنا؛ وبناءً على ذلك: فإذا استَلحق الزاني ولده من الزنا ولم تكن أمه فراشًا؛ فإنه يلحق به.

واستدلوا كذلك ببعض الآثار؛ ومنها: ما رُوي عن عمر أنه كان يُلحِق أولاد الجاهليين مَن ادعاهم في الإسلام، وهو أحد الخلفاء الراشدين، وأيضًا ابن القيم رحمه الله يقول: أليس الولد من الزنا يُنسَب لأمه بالإجماع وهي زانيةٌ؟ فلماذا يُنسب لأمه ولا يُنسب لأبيه؟! كيف يُنسب لأمه ولا ينسب لأبيه وهو وقد خُلِق من مائهما جميعًا؟! هذا استدلالٌ -كما ترون- قويٌّ، ما دام أنه يُنسب لأمه -وهي زانيةٌ- فلماذا لا يُنسب لأبيه الزاني وقد خلق من مائهما جميعًا؟! وهذا هو القول الراجح، وهو أنه يلحق ولد الزنا بالزاني إذا استلحقه ولم تكن أمه فراشًا.

وأما بالنسبة لدليل الجمهور: فالجمهور استدلوا بقول النبي : الولد للفراش [4]، قال ابن القيم: ونحن أول القائلين به، لكن في مسألتنا هنا: المزني بها ليست فراشًا، هو استدلالٌ في غير محلِّ النزاع، فليس عند الجمهور دليلٌ قويٌّ يدل على منع استلحاق ولد الزنى بالزاني إذا لم تكن أمه فراشًا، لا يوجد دليلٌ، وأدلة القول الثاني أدلة قويةٌ كما رأيتم؛ وعلى هذا فالأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن الزاني إذا استَلحق ولده من الزنا ولم تكن أمه المزني بها فراشًا؛ فإنه يلحق به، وليس في هذا القول تهوينٌ من الزنا، مسألة الزنا هذه -كما ذكرنا- من كبائر الذنوب: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، لكن البحث في حال هذا الولد الذي خُلق من ماء الزاني، والزاني يريد أن يستلحقه، والمزني بها ليست فراشًا، بحثنا في هذه المسألة، وليس لهذه المسألة علاقةٌ بمسألة التهوين من الزنا.

ثم أيضًا القول بإلحاقه به فيه مصالح عظيمةٌ؛ لأن هذا الولد إذا لم يُلحق بأبيه؛ فسيؤثِّر هذا على شخصيته، ويجعله يجنح للإجرام، وربما يكون عبئًا على نفسه وعلى المجتمع، فإلحاقه بأبيه فيه مصلحةٌ عظيمةٌ ومصلحةٌ كبيرةٌ.

ما يلحق به نسب ولد الأَمَة

ثم قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ

ومن ثبت أو أقر أنه وطأ أمَتَه في الفرج أو دونه، ثم ولدت لنصف سنةٍ؛ لَحِقه.

هذا في الكلام عن وطء الأَمَة، والرِّقُّ الآن قد انقرض، وأصبح ممنوعًا رسميًّا في جميع دول العالم، لكن نحن نقرأ هذا من الناحية النظرية.

“ثبت أو أقرَّ أنه وطأ أَمَتَه في الفرج أو دونه، ثم ولدت لنصف سنةٍ”، فيلحق به، يلحقه نسبه باتفاق العلماء؛ لأنها صارت فراشًا بوطئه، ويدل لذلك ما جاء في “الصحيحين” أن سعد بن أبي وقاصٍ وعبد بن زَمْعة اختصما في ابن أَمَة زَمعة، فقال سعدٌ: إنه ابن أخي قد عهد إليَّ فيه، يقصد بأخيه: عُتبة بن أبي وقاصٍ، أَمَة زمعة وطئها عُتبة بن أبي وقاصٍ فجورًا، فَجَر بها؛ لأنه كان في الجاهلية، وطئها وأنجبت منه، مع أنها هي أَمَة زَمعة، فسعد بن أبي وقاصٍ يقول: إن هذا الابن ابن أخي عتبة، وقد عهد إليَّ فيه، قال عبدالله بن زمعة: هذا أخي، ابن أَمَة أبي؛ لأن هذه الأَمَة التي أنجبت هذا الابن: هي أَمَة زَمعة، قال: وُلِدَ على فراشه، فاختصما إلى النبي  -سعد بن أبي وقاصٍ وعبد بن زَمعة- فرأى النبي في هذا المولود شبهًا كبيرًا بعتبة بن أبي وقاصٍ، لكنه قال : هو لكَ يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعَاهِر الحَجَر، واحتجبي عنه يا سودة [5]، يعني: النبي عليه الصلاة والسلام أبطل الشَّبه، مع أنه يُشبه عتبة، لكن الفراش أقوى، فهذه الأَمَة كانت فراشًا لزمعة، فألحقه النبي بزمعة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعَاهِر الحَجَر، لكن لما رأى النبي فيه شَبَهًا بعتبة قال: احتجبي عنه يا سودة، سودة بنت زمعة، احتجبي عنه يا سودة، مع أنه أخوها، لكن لما كان يُشبه عتبة؛ أورثَ هذا الشبهة، وهذا مثالٌ لتبعيض الأحكام: الولد للفراش.

طيب، مقتضى: الولد للفراش: أن يكون ولدًا لزَمعة، وأن يكون أخًا لسودة، لكن مع ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لسودة: احتجبي عنه، فهذا دليلٌ على أن الأحكام قد تتبعَّض أحيانًا، وهذا أيضًا مثالٌ آخر لتبعيض الأحكام.

قال: ومن أعتق أو باع من أقرَّ بوطئها فولدت لدون نصف سنةٍ؛ لحقه، والبيع باطلٌ.

من أعتق أَمَةً أقرَّ بوطئها وباعها مُقِرًّا بالوطء، ثم ولدت لأقل من ستة أشهرٍ من حين العتق والبيع؛ فيلحقه النسب؛ للقطع بأنها كانت حاملًا قبل أن تُعتَق وقبل البيع، لكن يبطل البيع، لماذا؟ لأنها صارت أم ولدٍ.

ولنصف سنةٍ فأكثر؛ لَحِق المشتري.

يعني: إن ولدت الأمة بعد ستة أشهرٍ فأكثر من العتق أو البيع؛ فإن الولد يلحق بالمشتري وليس بالبائع؛ لأنها أصبحت أَمَةً له، وأصبح حملها ممكنًا منه.

ما يتبع الولد فيه أمه، وما يتبع فيه أباه

ويتبع الولد أباه في النسب.

وهذا بالإجماع؛ لقول الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]، وكذلك يوم القيامة يُنسب لأبيه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: يُرفع لكل غادرٍ لواءٌ، يقال: هذه غَدْرَةُ فلان ابن فلانٍ [6]، وما يذكره بعض الناس من أن الناس يُنسبون يوم القيامة لأمهاتهم؛ للقطع بأن هذه أمهاتهم، أما الأب فلا يُقطع بأن هذا أبوه، ويذكرون في هذا حديثًا؛ فهذا غير صحيحٍ، والحديث المروي في ذلك حديث ضعيفٌ، بل ربما يكون موضوعًا، بعض أهل العلم حكم عليه بالوضع.

فالصواب في هذه المسألة: أن الناس يوم القيامة يُدعون بآبائهم وليس بأمهاتهم، فالصواب في هذه المسألة: أن الناس يدعون يوم القيامة بآبائهم، فيقال: فلان ابن فلانٍ، وليس بأمهاتهم.

قال:

وأُمَّه في الحرية، وكذا في الرِّقِّ، إلا مع شرطٍ.

يعني: يتبع الولد أمه في الحرية وفي الرِّق، إلا إذا تزوج أَمَةً واشترط حرية أولاده منها، فيكونون أحرارًا؛ لحديث: المسلمون على شروطهم [7].

أو غرورًا.

يعني: لو أنه غُرَّ؛ فلا يتبع الولد أمه في الرِّق إذا غُرِّر به فتبين أنها أَمَةٌ وقد تزوجها على أنها حرةٌ.

ويتبع في الدِّين خيرَهما.

خير أبويه دينًا، فلو تزوج مسلمٌ كتابيةً؛ فالمولود يكون مسلمًا، ولو تزوج كتابيٌّ بمجوسيةٍ؛ فالمولود يكون كتابيًّا؛ لأن أهل كتاب خيرٌ من المجوس.

وفي النجاسة وتحريم النكاح والذكاة والأكل؛ أخبثَهما.

هذه استطرادٌ من المؤلف رحمه الله، ختم به هذا الفصل أو هذا الباب، يعني: أن الولد يتبع في النجاسة أخبث الأبوين، فالبغل يكون عندما ينزو ذكر الحمار على أنثى الفرس، فيكون البغل، طيب، الفرس طاهرٌ والحمار نجسٌ؟ البغل متولِّدٌ منهما، هل البغل يُحكَم بنجاسته أو بطهارته؟ يُحكم بنجاسته؛ لأنه يتبع أخبث أبويه: وهو الحمار، وهو نجسٌ محرم الأكل.

بهذا نكون قد انتهينا من هذا الباب.

كتاب العِدَّة

وننتقل بعد ذلك إلى كتاب العِدَّة والعِدَد، وهذا من أهم الأبواب، وينبغي لطالب العلم أن يحرص على ضبطه؛ لأن العدة لها أحكامٌ كثيرةٌ، وورد فيها عدة آياتٍ في كتاب الله ، وفي السنة، والمُعتدَّات السِّتُّ إذا ضَبطت هذه المعتدات وعِدَّة كل واحدةٍ؛ تكون قد ضَبطت أبواب العدة.

تعريف العدة ومشروعيتها

“العدة” في اللغة: مأخوذةٌ من العَدِّ الذي هو الإحصاء، تقول: عددت الشيء، يعني: أحصيته.

شرعًا عرَّفها المؤلف، قال:

وهي تربُّص من فارقت زوجها بوفاةٍ أو حياةٍ.

“من فارقت زوجها بوفاةٍ” يعني: متوفًّى عنها زوجها تعتد، “أو حياةٍ” يعني: مطلقةً أو مفسوخةً أو مخلوعةً.

فما هي مدة التربص بعد هذا الفراق؟

طبعًا هنا التي فارقها زوجها يُشترط أن يكون قد دخل بها، أما غير المدخول بها فلا عدة عليها بالإجماع؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، رجلٌ عقد على امرأةٍ ثم طلقها، ليس عليها عدةٌ إذا لم يكن دخل بها، ليس عليها عدةٌ بالإجماع.

الأصل في وجوب العدة: الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: ورد في العدة عدة آياتٍ؛ منها: قول الله : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وما جاء في معناها.

وكذلك السنة: ورد فيها عدة أحاديث.

والعلماء أجمعوا على مشروعية العدة في حق المطلقة والمتوفى عنها زوجها.

المعتدات ستٌّ، المؤلف ذكر منهن خمسًا، وأضفنا في “السلسبيل” سادسةً، إذا ضبطت هذه المعتدات الست؛ ضبطت أحكام العدة ومسائل العدة.

الأولى: الحامل، وهذه عدتها تكون بوضع الحمل، سواءٌ كانت متوفًّى عنها زوجها أو مطلقةً.

عدة المتوفى عنها زوجها

قال:

فالمفارَقة بالوفاة تعتد مطلقًا، فإن كانت حاملًا من الميت؛ فعدتها حتى تضع كل الحمل.

فمن توفي عنها زوجها وهي حاملٌ، فعدتها تكون بوضع الحمل.

وقول المؤلف: “كل الحمل”، إشارةٌ إلى أنه لو حملت بأكثر من ولدٍ -أكثر من طفلٍ- فلا تنقضي العدة إلا بوضع آخر هؤلاء الأطفال، يعني: حملت باثنين، بآخرهما -بآخر الاثنين- ثلاثةٍ، بآخر الثلاثة، وهذا بالإجماع؛ لقول الله : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

لكن ما هو الحمل الذي تنقضي به العدة؟

الحمل الذي تنقضي به العدة: هو ما يتبيَّن فيه خَلق إنسانٍ، والذي يتبيَّن فيه خلق إنسانٍ: هو المضغة؛ فإن الله قال: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج:5]، فذكر الله التخليق في طَور المُضغة.

طيب، المضغة في أي.. يعني متى الإنسان يُخلق؟ يُجمع خلقه أربعون يومًا نطفةً، ثم عَلَقةً مثل ذلك، يعني: أربعون أخرى، هذه أصبحت ثمانين، ثم مُضغةً؛ معنى ذلك: أن طَور المضغة يبتدئ من بعد الثمانين إلى المئة والعشرين، هذا طَور المضغة، هذا جاء في حديث ابن مسعودٍ : إن أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفةً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك [8].

إذنْ طَور المضغة متى يبتدئ؟

يبتدئ طَور المضغة من بعد الثمانين، قبل الثمانين لا يكون فيه تخليقٌ، فإذا أسقطت المرأة قبل الثمانين؛ لا تنقضي العدة بهذا الإسقاط، وإنما تكون عدتها بالقروء إن كانت ممن تحيض، أو بالأشهر إن كانت ممن لا تحيض، كما سيأتي.

أيضًا إذا أسقطت قبل الثمانين؛ لا يعتبر هذا دم نفاسٍ، بل دم فسادٍ تتوضأ معه وتصلي، ما بعد التسعين هذا يكون في الغالب قد بدأ فيه التخليق؛ بأن يظهر فيه عينٌ أو مثلًا أنفٌ أو أذنٌ أو يدٌ أو رجلٌ، المهم أنه ظهر فيه التخليق، فإذا ظهر فيه التخليق؛ هذا السِّقط تنقضي به العدة، وهذا الدم الذي يخرج من المرأة هو دم نفاسٍ، وليس دم فسادٍ، دم نفاسٍ لا تصلي معه ولا تصوم، الإشكال إنما يأتي ما بين الثمانين إلى التسعين، هذا يحتمل أن يكون في هذا السقط تخليقٌ، ويحتمل ألا يكون فيه تخليقٌ، فيُنظَر في هذا السقط؛ فإن كان فيه تخليقٌ، إن كان مثلًا فيه عينٌ، أو مثلًا فيه يدٌ أو رجلٌ أو نحو ذلك، أي شكلٍ من أشكال التخليق، فتنقضي العدة، ويكون هذا الدم دم نفاسٍ، إن لم يكن فيه تخليقٌ فلا تنقضي العدة بهذا السقط، ويكون الدم دم فسادٍ.

إن لم تعلم المرأة، ما تدري هل فيه تخليقٌ أو ليس فيه تخليقٌ؛ فنبني على الأصل، وهو أن الأصل أنه ليس فيه تخليقٌ، فلا تنقضي به العدة، ولا يكون هذا الدم دم نفاسٍ، بل هو دم فسادٍ، هذا هو الضابط في هذه المسألة، هذا الضابط مهمٌّ في هذه المسألة.

حساب عُمْر الحمل، هذه مسألةٌ مهمةٌ: وهي حساب عُمْر الحمل، هذه مسألةٌ مهمةٌ: وهي حساب عُمْر الحمل، ويترتب عليها أحكامٌ شرعيةٌ، عمر الحمل يبتدئ شرعًا من الْتقاء الحيوان المنوي ببويضة المرأة، فإذا مضى على ذلك مئةٌ وعشرون يومًا؛ فيكون الحمل قد نُفِخت فيه الروح، ويكون إنسانًا لا يجوز إسقاطه، وإذا سقط؛ فإنه يغسَّل ويكفن ويصلَّى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وينبغي أيضًا لوالده أن يسميه؛ حتى يدعى باسمه يوم القيامة، وإذا كان أقل من مئةٍ وعشرين يومًا؛ فليس بإنسانٍ؛ لأن الإنسان مكونٌ من جسدٍ وروحٍ، والروح إنما تُنفخ في الإنسان إذا مضى على الحمل مئةٌ وعشرون يومًا، يعني: بعد الشهر الرابع، كما جاء ذلك في حديث ابن مسعودٍ [9]، لكن الأطباء يحسبون عمر الحمل بأول يومٍ من آخر دورةٍ شهريةٍ قبل الحمل، هذا هو حساب الأطباء، والحساب بهذه الطريقة غير مقبولٍ من الناحية الشرعية، كيف يُحسب الحمل من أول يومٍ من آخر دورةٍ شهريةٍ؟! فهذا غير مقبولٍ من الناحية الشرعية، هذا حساب غير دقيقٍ، إلا أن يكون حساب عمر الحمل عن طريق الأشعة فوق الصوتية، هذا أقرب للحساب الشرعي.

المهم: نحن نُذكِّر الأطباء: أن عمر الحمل من الناحية الشرعية إنما يبتدئ من الْتقاء الحيوان المنوي بالبويضة، ويُفترض أن الأطباء يكون لهم من الوسائل ما يحددون به عمر الحمل بهذه الطريقة؛ ولذلك ينبغي على الأطباء المسلمين أن يُعنَوا بهذه المسألة؛ لأن كثيرًا من مسائل الطب عندنا الآن متلقَّاةٌ من الطب عند الغرب، وأطباء الغرب لا يهتمون بهذه المسألة؛ لأنها لا تعنيهم كثيرًا، لكن نحن المسلمين نهتم بها؛ لأنه يترتب عليها أحكامٌ شرعيةٌ كثيرةٌ، فلذلك ينبغي أن يهتم الأطباء المسلمون بهذه المسألة، وأن يكون الحساب للحمل من الْتقاء الحيوان المنوي بالبويضة.

طيب، كيف يعرف ذلك؟

يُجتهد في هذا، ربما الأشعة فوق الصوتية، أو وسائل أخرى تحدد ذلك، ربما يكون هناك وسائل أيضًا طبيةٌ يمكنها تحديد ذلك، لكن الحساب بأول يومٍ من آخر دورةٍ شهريةٍ؛ هذا الحساب غير دقيقٍ.

الحائل المتوفى عنها زوجها

الثاني من المعتدات: الحائل المتوفى عنها زوجها، أشار إليه المؤلف بقوله:

وإن لم تكن حائلًا.

يعني “حائلًا”: غير الحامل تسمى: حائلًا.

قال:

فإن كانت حرةً؛ فعدتها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ بأيامها.

يعني: عدة المتوفى عنها زوجها: أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وهذا بالإجماع؛ لقول الله : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]؛ إذنْ عدة المتوفى عنها زوجها -إذا لم تكن حاملًا- أربعة أشهرٍ وعشرة أيامٍ، عند الجمهور أن هذه الآية نسخت آيةً أخرى في عدة المتوفَّى عنها زوجها: وهي قول الله في سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:240]، قالوا: فكانت عدة المتوفَّى عنها زوجها سنةً، ثم نُسِخ ذلك فأصبحت أربعة أشهر وعشرًا.

والقول الثاني في المسألة، انتبهوا لهذا، القول الثاني لم يُذكَر في “السلسبيل”، فالإخوة الذين يتابعوننا الآن لعلكم تضيفون هذا القول.

القول الثاني في المسألة: أن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:240]، ليست منسوخةً، وأن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، لم تدل على وجوب العدة سنةً، وليس لها علاقةٌ أصلًا بعدة المتوفَّى عنها زوجها، وإنما هذه الآية من باب الوصية بالزوجات بأن يُمَكَّنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولًا كاملًا إن اخترن ذلك وقَبِلن ذلك؛ ولهذا قال: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، أي: يوصيكم الله تعالى بهنَّ وصيةً؛ كما قال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء:11].

فهذه وصيةٌ من الله فيمن توفي وترك زوجةً بأن هذه الزوجة تبقى في بيت زوجها سنةً كاملةً، لا تُخرَج من بيت الزوج، إلا إذا خرجت باختيارها: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، يعني: لا تُخرجوها، تبقى هذه المرأة في بيت الزوج لمدة سنةٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:240]، إن خرجت من نفسها وذهبت عند أهلها؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، فهذه في قضية سُكنى المتوفى عنها زوجها في بيت الزوج، وليس لها علاقةٌ بعدة المتوفى عنها زوجها، هذا القول قال به عطاءٌ ومجاهدٌ، وذكره الحافظ ابن كثيرٍ في “تفسيره”، ثم قال: “وقد اختاره الإمام أبو العباس ابن تيمية”، وكأن الحافظ ابن كثيرٍ يميل إليه، وهنا ابن كثيرٍ سمى ابن تيمية بـ”الإمام أبي العباس”، وهذا اللقب أفضل من أن يقال: شيخ الإسلام؛ لأن شيخ الإسلام، وحجة الإسلام، وتقي الدين، وبرهان الدين، هذه الألقاب أتت من الأعاجم؛ فليست محبَّذةً عند كثيرٍ من أهل العلم، فالأحسن: اللقب الشرعي: هو الإمام، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء:73]، فالأحسن أن يقال: الإمام، وأيضًا يُؤتى بكُنيته: أبي العباس، فلاحِظ هنا أن الحافظ ابن كثيرٍ..، يعني لاحِظ دقته، قال: الإمام أبو العباس، ليس معنى هذا أن نقول: إنه لا يجوز إطلاق لقب: شيخ الإسلام، لا، جائزٌ، ويستخدمه العلماء كثيرًا، لكن الأحسن بالنسبة لطالب العلم أن يعبر بالمصطلح الشرعي، فيعبر بالإمام، هذا أحسن، أو بالكنية: أبي العباس، وكان الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله يقول: أبو العباس ابن تيمية.

فهذا هو التعبير الذي عبَّر به ابن كثيرٍ، قال: “وقد اختاره الإمام أبو العباس ابن تيمية”، هذا هو الأظهر في معنى الآية؛ على هذا: تكون عدة المتوفى عنها زوجها: أربعة أشهرٍ وعشرًا أصلًا، ليس هناك نَسْخٌ أصلًا، وما اشتهر من أن العدة كانت حولًا ثم نُسِخت لأربعة أشهرٍ وعشرٍ؛ ليس عليه دليلٌ، وليس في هذه الآية ذِكْرٌ للعِدَّة، تأملوا -أيها الإخوة- هذه الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، أين ذكر العدة؟ ليس فيها ذكر العدة، فهذه إنما هي خاصةٌ فقط بالوصية، بأن تبقى الزوجات ويُمَكَّنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد الوفاة لمدة سنةٍ، إلا إذا خرجن من تلقاء أنفسهن، هذا معنى الآية عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم.

فقط هذه المسألة أحببت الإشارة إليها؛ لأن القول الشائع: هو أن عدَّة الوفاة: سنةٌ، ثم نُسِخت إلى أربعة أشهرٍ وعشرٍ، وإن كان قال به طائفةٌ من أهل العلم، بل هو قول الجمهور، لكن عند التحقيق: عدة المتوفى عنها زوجها أصلًا هي أربعة أشهرٍ وعشرٌ، ولم تكن نُسخت أصلًا، وأما الآية هذه الثانية، فهي فقط في الوصية بالزوجات بأن يُمَكَّنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن لمدة سنةٍ، وليس لها علاقةٌ بعدة المتوفى عنها زوجها.

عدة الأمة الحائل

قال:

وعدة الأَمَة نصفها.

يعني تعتد الأمة الحائل المتوفى عنها زوجها بنصف عدة الحرة، فإذا كانت عدة الحرة أربعة أشهرٍ وعشرًا؛ معنى ذلك: عدة الأَمَة شهران وخمسة أيامٍ.

الثانية من المعتدات..، انتهينا الآن من المتوفى عنها زوجها.

المعتدة الأولى: الحامل، فإن كانت متوفًّى عنها زوجها؛ انقضت عدتها -عدة الوفاة- وإن كانت مطلقةً؛ أيضًا انقضت عدتها، لكن المؤلف سيعيد مرةً أخرى عدة المطلقة الحامل.

عدة المفارَقة التي تحيض

إذنْ الثانية من المعتدات:

والمفارَقة في الحياة لا تعتد، إلا إن خلا بها أو وطئها.

هذه الثانية: المفارَقة في الحياة، يعني: إذا طُلِّقت، فهذه إذا كان قبل الدخول والخلوة؛ فلا عدة عليها بالإجماع، لكن إذا دخل بها أو خلا؛ فعليها العدة، والخلوة سبق أن ذكرنا الخلاف وقلنا: إن الراجح: أن الخلوة لا تأخذ حكم الوطء.

وكان ممن يطأ مثلُه، ويوطأ مثلها، وهو ابن عشرٍ، وابنة تسعٍ.

يعني: يُشترط في اعتبار الوطء في العدة؛ أن يكون كل من الزوجين قادرًا على الوطء؛ بأن يكون الزوج عمره عشر سنين على الأقل، وأن تكون الزوجة عمرها تسع سنين على الأقل.

وعِدَّتها:

يعني: عدة المفارَقة في الحياة.

إن كانت حاملًا؛ بوضع الحمل.

إن كانت حاملًا؛ بوضع الحمل، فكأن المصنف يقول: إن المعتدة الأولى: الحامل المتوفى عنها زوجها، والثانية: الحامل المطلقة، وهاتان كلتاهما تنقضي عدتهما بوضع الحمل.

والحمل آكد العِدد؛ ولذلك تسمى الحامل أم المعتدات، سواءٌ كانت متوفًّى عنها زوجها أو مطلقةً.

الثالثة من المعتدات: الحائل ذات الأقراء، يعني: ليست حاملًا، وممن تحيض، وأشار إليها المؤلف بقوله:

وإن لم تكن حاملًا، فإن كانت تحيض؛ فعدتها ثلاث حِيَضٍ إن كانت حرةً، وحيضتان إن كانت أَمَةً.

لقول الله : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، هل المعنى ثلاث حِيَضٍ، أو ثلاثة أطهارٍ؟

محل خلافٍ؛ لأن القُرء من الأضداد؛ يطلق على الحيض ويطلق على الطهر، وهذا من عظمة اللغة العربية، أن فيها كلماتٍ من الأضداد؛ تطلق على الشيء وعلى ضده، لكن دلت السنة على أن المراد بالقُرء في الآية: الحيض؛ لقول النبي : دَعِي الصلاة أيام أقرائك [10]، يعني: أيام حيضتك.

وفائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة؛ تنقضي عدتها على قول من يجعل الأقراء الأطهار، ومن ذهب إلى أن الأقراء هي الحيضات يقول: لا يُحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قُرْءًا، ولا تنقضي عدتها ما لم تطهُر من الحيضة الثالثة.

إذنْ من يقول: إن معنى القُرء: الطهر، يقول: إذا شرعت المعتدة في الحيضة الثالثة؛ انقضت عدتها، ومن يقول بأن القُرء: هو الحيض، يقول: إنها لا تنقضي عدتها إلا إذا طهرت من الحيضة الثالثة، وهذا هو القول الراجح.

أما إذا كانت أَمَةً؛ فعدتها حيضتان، الأصل أنها حيضةٌ ونصفٌ، لكن الحيضة لا تتبعَّض؛ فتكون حيضةً، وهذا هو المروي عن الصحابة .

المفارَقة بخلعٍ أو فسخٍ للفقهاء في عدتها قولان:

  • القول الأول: قول الجمهور: وهو أن عدتها كعدة المطلقة تمامًا، يعني: ثلاثة قُرُوءٍ إن كانت ممن تحيض، وثلاثة أشهرٍ إن كانت ممن لا تحيض؛ وقالوا: لأنها فُرقةٌ بعد الدخول في الحياة؛ فكانت ثلاثة قُرُوءٍ كعدة المطلقة.
  • القول الثاني: إن عدة المفارقة بخلعٍ أو فسخٍ: حيضةٌ واحدةٌ، وهذا القول روايةٌ عند الحنابلة، وهو القول الراجح، اختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من أهل العلم؛ وذلك لأنه قد دلت السنة لذلك، كما في قصة امرأة ثابت بن قيسٍ، فقد أمرها النبي أن تعتد بحيضةٍ واحدةٍ [11]، وكذلك رُبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء أيضًا، أمرها النبي أن تعتد بحيضةٍ [12]، وهذا قد جاء أيضًا عند الترمذي وسند القصة الثانية أصح من الأولى.

فالراجح -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن عدة المختلعة والمفسوخة: حيضةٌ واحدةٌ، وهذا هو مذهب عثمان بن عفان وابن عباسٍ ، ولا يُعلَم لهما مخالفٌ، وقد حُكي إجماع الصحابة عليه.

عدة المفارَقة التي لا تحيض

الرابعة من المعتدات: من فارقها زوجها ولم تَحِض لصغرٍ أو إياسٍ، أشار إلى هذا المؤلف، قال:

وإن لم تكن تحيض بأن كانت صغيرةً، أو بالغةً ولم ترَ حيضًا أو نفاسًا، أو كانت آيسةً، وهي من بلغت خمسين سنةً؛ فعدتها ثلاثة أشهرٍ إن كانت حرةً.

وهذا بالإجماع لقول الله : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، فالتي لم تحض لصغرها أو لكِبَرها عدتها ثلاثة أشهرٍ، لكن قول المصنف عن الآيسة: هي من بلغت خمسين سنةً؛ هذا هو المذهب عند الحنابلة: أن سن اليأس هو بلوغ خمسين.

وسبق ذكر الخلاف في هذه المسألة، وأن الراجح: أنه لا حد لسن الإياس، وأن هذا مما تختلف فيه النساء اختلافًا كثيرًا.

قال:

وشهران إن كانت أمةً.

يعني: تعتد المطلقة التي لا تحيض لكِبَرٍ أو لصغرٍ بشهرين إن كانت أمةً، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني: أنها تعتد بشهرٍ ونصفٍ، وهو مذهب الحنفية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، وهذا هو القول الراجح، لماذا؟ لأن الأصل في عدة الأمة أنها نصف عدة الحرة، فإذا كانت عدة الحرة التي لا تحيض ثلاثة أشهرٍ؛ فعدة الأمة نصفها، شهرٌ ونصفٌ، والأشهر بالإمكان تبعيضها، بخلاف الحيضات؛ فإنها لا تتبعض.

فالراجح هو القول الثاني: هو أن عدة الأمة شهرٌ ونصفٌ في هذه المسألة.

عدة التي ارتفع حيضها قبل الإياس ولم تعلم ما رفعه

الخامسة من المعتدات أشار إليها المؤلف فقال:

ومن كانت تحيض، ثم ارتفع حيضها قبل أن تبلغ سن الإياس، ولم تعلم ما رفعه؛ فتتربص تسعة أشهرٍ، ثم تعتد عدة آيسةٍ.

يعني: تنتظر سنةً، تعتد سنةً إذا كانت ممن تحيض ثم ارتفع حيضها وهي لم تبلغ سن الإياس ولا تعلم ما رفعه، فهذه تعتد سنةً، تسعة أشهرٍ عن الحمل، وثلاثة أشهرٍ عدة الإياس، واعتمدوا في هذا على أثرٍ رُوي عن عمر أنه حكم في امرأةٍ ارتفع حيضها ولم تَدرِ ما رفعه بأن تعتد سنةً، قال الشافعي: “هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم منكِرٌ علمناه”، وهذا قول صحابيٍّ اشتهر ولم يُعلَم له مخالفٌ؛ فيكون حجةً.

ويرى بعض العلماء المعاصرين أنها تعتد بثلاثة أشهرٍ فقط عدة الآيسة، إذا أمكن القطع بعدم حملها بالوسائل الحديثة؛ لأن قول العلماء السابقين أنها تنتظر تسعة أشهرٍ؛ للتأكد من براءة رحمها إنما هو في زمنهم، أما في وقتنا الحاضر فيمكن القطع بعدم وجود الحمل.

إذا كان الآن بعض أنواع الأشعة تصوِّر الخلايا الدقيقة التي لا تُرى بالعين المجرَّدة؛ فكيف بالحمل الذي يمكن للأطباء أن يعرفوا هل هذه المرأة حاملٌ أم لا عن طريق الأشعة، ويقطعوا بأنها ليست حاملًا ويعرفوا ذلك، أو حتى بتحليل الدم أو نحو ذلك من الوسائل؟!

فالقول: إن المرأة تتربص أربعة أشهرٍ لكي نقطع بخلوِّ الرحم من الحمل، فيه ضررٌ كبيرٌ على هذه المرأة، والمسألة لو كان فيها نصٌّ؛ وقفنا عند النص، وإنما فيها آثارٌ عن بعض الصحابة؛ باعتبار أنهم لا يستطيعون القطع بعدم الحمل إلا إذا مضى تسعة أشهرٍ، أما في وقتنا الحاضر مع وسائل الطب الحديثة نستطيع أن نقطع بعدم حمل هذه المرأة وببراءة رحمها؛ فحينئذ لا يبقى إلا أن تعتد عدة الآيسة، ثلاثة أشهرٍ، فهذا هو القول الراجح في وقتنا الحاضر: أنه إذا أمكن القطع بأن هذه المرأة التي ارتفع حيضها ولم تَدْرِ ما رفعه غير حاملٍ؛ أنها تعتد عدة آيسةٍ، ثلاثة أشهرٍ فقط، وليس سنةً، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

عدة التي ارتفع حيضها قبل الإياس وهي تعلم ما رفعه

قال:

وإن علمت ما رَفَعه من مرضٍ أو رضاعٍ أو نحوه، فلا تزال متربِّصةً حتى يعود الحيض فتعتد به، أو تصير آيسةً، فتعتد عدة آيسةٍ.

إذا علمت المطلقة سبب رفع الحيض من رضاعٍ أو مرضٍ أو نحوه؛ فلا تزال في عدتها حتى يعود الحيض، وإن طال الزمن؛ لأنها لم تيأس من الدم؛ فيجب عليها العدة بالأقراء إلا أن تصير آيسةً، يعني: إلى أن يصبح عمرها خمسين سنةً عند الحنابلة.

والقول الثاني: أنها تعتد سنةً كاملةً؛ كالتي ارتفع حيضها ولم تَدْرِ ما رفعه، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، وصوَّبه في “الإنصاف”.

والقول الأول قولٌ ضعيفٌ: أنها تُنتظر وإن طالت مدتها، هذا قولٌ ضعيفٌ، يعني: إذا ارتفع حيضها لسببٍ؛ مثلًا لمرضٍ، وما زال عمرها مثلًا عشرين سنةً؛ تنتظر حتى يكون عمرها خمسين سنةً؟! هذا بعيدٌ ولا تأتي بهذا الشريعة.

فذهب ابن تيمية وبعض أهل العلم -وهو روايةٌ عند الحنابلة- إلى أنها تعتد سنةً كاملةً، وعلى القول الذي رجحناه في التي ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، وأنها تعتد ثلاثة أشهرٍ إذا أمكن القطع ببراءة رحمها أيضًا، نقول هنا: إن هذه المرأة إنما تعتد ثلاثة أشهرٍ فقط إذا أمكن القطع ببراءة رحمها من الحمل.

عدة امرأة المفقود

السادسة من المعتدات: هذه لم يذكرها المؤلف، وذُكرت هنا في “السلسبيل”: هي عدة امرأة المفقود.

والمفقود: هو الذي غاب وانقطع خبره فلم يُعلم له حياةٌ ولا موتٌ، وكم يُنتظر؟ في هذا خلافٌ كبيرٌ بين أهل العلم، والمذهب عند الحنابلة: أنها تتربص أربع سنين منذ فَقْده، إن كان الغالب عليه الهلاك، وتسعين سنةً منذ وُلد إن كان الغالب عليه السلامة، واحتجوا لذلك بقصةٍ غريبةٍ أخرجها البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ، وذكرها الألباني في “إرواء الغليل” وصحَّح إسنادها: أن رجلًا من الأنصار خرج مع قومه يصلي صلاة العشاء ففُقد، فانطلقت امرأته إلى عمر، فسأل عمر عنه قومه، قالوا: إنه خرج لصلاة العشاء ففقد، إنه رجلٌ من عاقلي قومنا، يعني: رجل عاقلٌ، ولا يؤخذ عليه شيءٌ في عقله، فأمر عمر زوجته أن تتربص أربع سنين، فمضت الأربع سنين، فجاءت عمر فأمرها أن تتزوج، لما تزوجت جاء زوجها، سبحان الله! لما تزوجت جاء زوجها وجعل يُخاصمها، وذهب إلى عمر، يشتكيها إلى عمر، فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته! قال: مهلًا يا أمير المؤمنين، إن لي عذرًا، قال: ما هو؟ قال: خرجت أصلي العشاء فسَبَتْني الجن، فلبثت فيهم زمانًا طويلًا، حتى غزاهم جنٌّ مؤمنون، فقاتلوهم فظهروا عليهم وسَبَوا منهم سَبَايا، فسَبَوني فيما سَبَوا منهم، وقالوا -يعني قال الجن المؤمنون- نراك رجلًا مسلمًا، ولا يحل لنا أن نسبيك، فخيَّروني بين المقام وبين القُفول -يعني الرجوع لأهلي- فاخترت القُفول لأهلي، أما بالليل فليسوا يُحدِّثونني، وأما بالنهار فإعصار ريحٍ أتبعها، فخيَّره عمر بين أن ترجع له امرأته بعدما تعتد، أو أنها تبقى مع زوجها الثاني ويُعطيه صداقه، فاختار الصداق، يعني: رأى أن امرأته تزوجت؛ فطابت نفسه منها، واختار الصداق، فأعطاه عمر الصداق من بيت المال؛ لأنه هذه المرأة لا ذنب لها، هي تزوجت بأمر أمير المؤمنين، وهي أيضًا انتظرت أربع سنين ولم يأت، ولا تدري عن حاله، لكن طابت نفسه منها، وطلب صداقه فأعطاه عمر الصداق.

لكن الاستدلال بهذه القصة محل نظرٍ؛ لأن الذي خرج إلى صلاة العشاء الغالب على حاله السلامة، وهم يستدلون به على ما إذا كان الغالب عليه الهلاك، وأيضًا قولهم بأنها تتربَّص أربع سنين منذ وُلد، إن كان الغالب عليه السلامة، يعني ذلك: لو فُقِد عمره عشرون والغالب عليه السلامة؛ تنتظر إلى أن يصبح عمره تسعين سنة! هذا قولٌ بعيدٌ، يعني يَضيع عمر هذه المرأة وهي تنتظر بهذه الطريقة؟! هذا قولٌ ضعيفٌ وفيه ضررٌ عظيمٌ على المرأة، والشريعة جاءت برفع الضرر عن الناس، لا ضرر ولا ضرار [13]؛ ولهذا فالقول الراجح في هذه المسألة: هو عدم التحديد، وأن المرجع في ذلك إلى اجتهاد القاضي، فهو الذي يقرر المدة التي تتربص بها امرأة المفقود، وهذا يختلف باختلاف أحوال الناس، فيُنظَر لهذا المفقود؛ لحالته العقلية، وحالته النفسية، فحالة العاقل والمستقر نفسيًّا، غير حالة غير العاقل أو الذي عنده لوثةٌ [14]، أو عنده عدم استقرارٍ نفسيٍّ.

كذلك اختلاف الزمان، يعني هل مثلًا من فُقد الآن مثل من فُقد قبل مئة سنةٍ؟ يختلف المكان، إذا كان المكان مستقرًّا، أو مكانٌ فيه اضطراباتٌ، هذا يختلف، ملابسات فَقْده كذلك، فالقاضي يدرس حالة المفقود من جميع النواحي ويضرب له مدةً، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي أيضًا قرره “المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي”، وهو الذي عليه العمل في المحاكم؛ أن المرجع في ذلك لاجتهاد القاضي، هذا هو القول الراجح في العدة التي تتربص بها امرأة المفقود، لكن بعد انتهاء المدة، القاضي يحكم بأنها تتربص مدةً معينةً، ثم يحكم بوفاة هذا المفقود، لحظة النطق بوفاته تُعتَبر هي تعادل ساعة الوفاة، فبعدها تعتد عدة الوفاة، وهي أربعة أشهرٍ وعشرٌ.

حكم من وطئت بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسدٍ وهي في العدة

ثم قال المصنف رحمه الله -وهذا آخر فصلٍ ثم نقف عند الإحداد- قال المصنف رحمه الله:

وإن وَطئ الأجنبي -بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسدٍ أو زِنًا- مَن هي في عدتها؛ أتمت عدة الأول ثم تعتد للثاني.

وطئ الأجنبي بشبهةٍ، وطئ امرأةً بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسدٍ أو زنًا وهي في العدة، فهنا تُتِم عدة الأول، ثم تعتد للثاني، وذلك لأنهما حقان اجتمعا لرجلين؛ فلم يتداخلا، وقُدم الأسبق منهما، ولكن هذا بشرط ألا تحمل من الثاني، فإذا حملت من الثاني؛ فإنها تقضي عدتها منه بوضع الحمل، ثم تُتِم عدة الأول.

عدة المرأة إذا وطئها من أبانها في العدة

وإن وطئها عمدًا مَن أبانها؛ فكالأجنبي.

يعني: هذه امرأةٌ طلقها رجلٌ، طلقها زوجها وبانت منه، ثم وطئها، فيكون وطؤه كالرجل الأجنبي إذا وطئ امرأةً؛ لأنها بالإبانة حَرُمت عليه وأصبحت أجنبيةً عنه، وعليه تُتِم العدة الأولى، ثم تبتدئ العدة الثانية، وتعتبرها عدة زنًا، وعدة الزنا فيها خلافٌ، هل هي ثلاث حِيَضٍ أو حيضةٌ واحدةٌ، سبق الكلام عن ذلك.

قال:

وبشبهةٍ؛ استأنفت العدة من أولها.

يعني: وطئها بشبهةٍ من أبانها وهي في عدتها منه؛ استأنفت عدتها من أولها؛ لأنهما عدتان من واطئٍ واحدٍ؛ فتداخلتا.

تتعدد العدة بتعدد الواطئ بشبهةٍ لا بالزنا

وتتعدد العدة بتعدد الواطئ بالشبهة.

يعني: إذا وُطِئت بشبهةٍ من أكثر من شخصٍ؛ فإن العدة تتعدد؛ لأنهما حقان لآدميَّين فلم يتداخلا؛ كالدَّيْنَين.

لا بالزنا.

يعني: لا تتعدد العدة بتعدد الواطئ بالزنا؛ لأن القصد من عدتها العلم ببراءة الرحم، ويتحقق هذا باعتدادها من آخر من وطئها زِنًا.

ويحرم على زوج الموطوءة بشبهةٍ أو زنًا أن يطأها في الفرج ما دامت في العدة.

يعني: هذا رجلٌ ابتُليت امرأته بأن وُطِئت مثلًا مكرَهةً، اغتُصبت، هنا يجب على زوجها ألا يعاشرها، وألا يطأها حتى تعتد بحيضةٍ؛ لأنها ربما تكون حملت من هذا الزنا، أو من هذا الوطء بشبهةٍ، فهذا الذي قد وُطئت زوجته إما بشبهةٍ أو بزنًا يحرٌم عليه أن يطأها حتى تنقضي عدتها من هذا الوطء بشبهةٍ أو من وطء الزنا، على الخلاف هل هو ثلاث حيضاتٍ أو حيضةٌ واحدةٌ.

وقوله: “أن يطأها في الفرج”، فُهِم منه: أن له أن يستمتع بها بما دون الفرج إذا أمن من نفسه ذلك، أما إذا لم يأمن؛ فليس له أن يستمتع بها، لكن لو أمِن؛ فله ذلك؛ كالصائم له أن يباشر زوجته إذا كان يملك إربه، أما إذا كان لا يملك إربه، ولا يأمن من وقوعه في الجماع؛ لم يجز له ذلك؛ لهذا كان النبي ﷺ يباشر وهو صائمٌ، لكن كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان أمْلَكَكم لإربه [15].

فإذنْ هذا الذي قد ابتُلي بأن وُطئت زوجته بشبهةٍ أو بزنًا؛ يحرم عليه أن يطأها حتى تعتد.

ونقف عند: “فصل في الإحداد”، نكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: ما حكم تخليل اللحية في الوضوء؟

الجواب: الفقهاء يقولون: إن كانت اللحية خفيفةً؛ فيجب غسلها، وإن كانت كثيفةً؛ فيجب غسل ظاهرها، ويستحب تخليل باطنها، فالذي لحيته خفيفةٌ يجب عليه أن يغسلها؛ لأنها جزءٌ من الوجه، أما إذا كانت كثيفةً؛ فيغسل ظاهرها فقط وجوبًا، ويستحب له أن يخلل باطن اللحية بأصابعه.

السؤال: هناك من يتهاون في إخراج الزكاة، فنرجو منكم توجيه النصيحة له؟

الجواب: الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة، ما إن تُذكر الصلاة؛ إلا وتذكر بعدها الزكاة، وهي حق الله في هذا المال، وقد توعد الله من يتهاون في إخراج الزكاة بقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]، وقد جاء في السنة تفسير ذلك بأن من يمنع إخراج الزكاة يعذب في الموقف يوم القيامة قبل محاسبة الناس، يعذب في الموقف، ويؤتى بماله الذي بخل به وقد أحمي عليه في نار جهنم، ويكوى به جنبه وجبينه وظهره في يوم مقداره خمسون ألف سنةٍ، كلما بردت؛ أعيدت مرةً أخرى وأحمي عليها في نار جهنم، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، هذا وعيدٌ شديدٌ في حق من بخل بالزكاة.

ثم إن الذي يخرج الزكاة هو المستفيد، يستفيد أولًا: الأجر والثواب من الله ، ثانيًا: يستفيد حماية ماله؛ فإن الزكاة تحمي المال بإذن الله من الآفات؛ تحميه من السرقة، من الضياع، من النهب، من الاختلاس، من الآفات.

ثم ما يُنفقه الإنسان مخلوفٌ عليه، فالله يقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، عندما يقول رب العالمين في كتابه العظيم الذي يقرؤه الناس جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ؛ لا بد أن يتحقق الخلف، لا بد قطعًا، لكن الخلف قد يكون خلفًا حسيًّا ظاهرًا، وقد يكون الخلف في صورٍ أخرى؛ قد يكون الخلف مثلًا: في وقاية هذا المال من الآفات، قد يكون الخلف بالبركة، قد يكون الخلف بأمورٍ أخرى تأتي للإنسان من حيث لا يحتسب.

السؤال: عند جمع الصلاتين هل يكون هناك أذانان وإقامتان؟

الجواب: يكون أذانٌ واحدٌ وإقامتان، هذا هو هدي النبي ، ولذلك في عرفة أُذِّن أذانٌ واحدٌ وأقيم لصلاة الظهر ولصلاة العصر، وفي مزدلفة كذلك، أُذِّن أذانٌ واحدٌ وأقيم لصلاة المغرب وصلاة العشاء، فعند الجمع يكون هناك أذانٌ واحدٌ وإقامتان.

السؤال: ما حكم الخروج من المسجد بعد الأذان؟

الجواب: إذا كان الخروج من المسجد بعد الأذان يتسبب في تفويته الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ فهذا لا يجوز، ولمَّا رأى أبو هريرة رجلًا خرج من المسجد بعد الأذان، قال: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم [16]، لكن إذا كان خروجه من المسجد بعد الأذان ليصلي في مسجدٍ آخر؛ فلا بأس بذلك؛ لأن هذا الخروج لا يتسبب في تفويته صلاة الجماعة في المسجد؛ كأن يكون مثلًا إمامًا أو مؤذنًا، أو أن عنده مثلًا شغلًا، أو عنده أمرًا ويريد أن يصلي في مسجدٍ آخر، يريد أن يكسب الوقت وأن يصلي في مسجدٍ آخر، لا بأس بذلك، فالضابط في هذا أنه إذا كان خروجه بعد الأذان يتسبب في تفويت الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ هذا لا يجوز، أما إذا كان لا يتسبب في تفويت الصلاة مع الجماعة في المسجد، وإنما سيصلي في مسجدٍ آخر فلا بأس.

السؤال: ما حكم تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب؟

الجواب: من دخل والإمام يخطب يُشرع له أن يأتي بتحية المسجد، والسُّنة تخفيفها، ولمَّا رأى النبي رجلًا دخل المسجد الجامع وهو يخطب وجلس، قال : يا فلان، أصليت ركعتين؟، قال: لا، قال : قم فصلِّ ركعتين، وقال : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليُصلِّ ركعتين وليتجوَّز فيهما [17]، يعني: يخففهما.

فالسنة لمن دخل يوم الجمعة والخطيب يخطب: أن يصلي ركعتين تحية المسجد ويخففهما.

السؤال: ما حكم التسمية عند الوضوء، وهل تشرع التسمية داخل دورات المياه؟

الجواب: التسمية عند الوضوء سنةٌ، وقال بعض الفقهاء بأنها واجبةٌ مع الذكر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ولكن القول الراجح هو قول الجمهور: وهو أنها سنةٌ مؤكدةٌ، يستحب لمن يتوضأ أن يقول قبل وضوئه: بسم الله، وإنما قلنا: سنةٌ وليست واجبةً؛ لأن الواصفين لوضوء النبي لم يذكروا ولم ينقلوا أنه كان يسمي في أول وضوئه، والحديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» [18]، حديثٌ ضعيفٌ، أخرجه أحمد لكنه ضعيفٌ، والإمام أحمد نفسه يقول: لا يثبت في هذا الباب شيءٌ.

ولو ثبت هذا الحديث؛ فيُحمل على أن المراد: لا وضوء كاملٌ، جمعًا بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها صفة وضوء النبي ، والتي لم يُذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام سمَّى في أول الوضوء، وعلى ذلك نقول: إن التسمية في أول الوضوء مستحبةٌ وليست واجبةً، ومن كان يتوضأ داخل دورة المياه يُسمِّي قبل أن يدخل دورة المياه، أو أنه يُسمِّي في نفسه لكن لا يرفع صوته بالتسمية داخل دورة المياه؛ تعظيمًا لاسم الله .

السؤال: هل يجوز للمرأة أن تصلي الظهر إذا أذَّن المؤذن الأذان الثاني يوم الجمعة قبل الزوال بخمس دقائق؟

الجواب: لا يجوز لها ذلك؛ لأن صلاة الظهر إنما تبتدئ بزوال الشمس، فليس لها أن تصلي الظهر قبل زوال الشمس، والمرأة لا تجب عليها صلاة الجمعة، وإنما الواجب عليها أن تصلي الظهر، والظهر إنما يبتدئ وقته بزوال الشمس، وهذا من آثار تعجُّل بعض الخطباء في الدخول يوم الجمعة قبل الزوال؛ يترتب على ذلك أن بعض النساء -كحال المرأة التي سُئِل عنها في هذا السؤال- تصلي قبل الوقت؛ ولذلك ينبغي للخطباء أن يلتزموا بألا يدخلوا إلا بعد الزوال؛ لأن هذا هو هدي النبي ؛ كما جاء في حديث أنسٍ  أن النبي كان يخطب حين تميل الشمس [19]، وبوَّب على هذا البخاري في “صحيحه”، قال: “باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس”، وعلَّق على هذا الحافظ ابن حجرٍ قال: “إن البخاري ليس من عادته الجزم في المسائل الخلافية، لكنه إنما جزم في هذه المسألة لضعف الخلاف فيها”.

و”وزارة الشؤون الإسلامية” عندنا في المملكة -وهي تمثل ولي الأمر- قد عمَّمت أكثر من مرةٍ على الخطباء بأن يكون دخولهم الجمعة بعد الزوال، فينبغي أن يلتزم الخطباء بذلك، والخطيب الذي له اجتهادٌ خاصٌّ يجعل اجتهاداته الخاصة لنفسه، لكن ما كان متعلِّقًا بالشأن العام، ومتعلِّقًا بعموم الناس فينبغي أن يعتمد على آراء العلماء الكبار للبلد، وعلى أيضًا ما يعتمده ولي الأمر، وولي الأمر -الذي تمثِّله “وزارة الشؤون الإسلامية”- اعتمد قول الجمهور: وهو أن وقت الجمعة يبدأ بعد زوال الشمس، وعمَّمت الوزارة على الخطباء؛ فينبغي الإلتزام بذلك، وألا يوقع الخطيب الناس في الحرج؛ لأن دخوله قبل الزوال يوقع الناس في الحرج، وصلاته الجمعة قبل الزوال عند أكثر العلماء لا تصح؛ لكونها قبل دخول الوقت، فإذا دخل الخطيب بعد الزوال؛ فقد دخل بعد دخول وقت صلاة الجمعة عند جميع العلماء، لكن إذا دخل قبل الزوال؛ فقد دخل قبل وقت صلاة الجمعة عنده أكثر العلماء.

السؤال: هل يجوز طلب المناصب الإدارية والترشح لها؛ استدلالًا بطلب يوسف مِن المَلِك أن يجعله على خزائن مصر؟

الجواب: إذا كان هناك عملٌ لا يستطيع أن يتقنه إلا هذا الشخص، ويغلب على ظنه أنه سيحصل من ذلك منفعةٌ كبيرةٌ، وكان بقصد منفعة المسلمين؛ فلا بأس بذلك، فإن يوسف عليه الصلاة والسلام طلب من الملك الولاية: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]؛ لأنه لم يكن هناك في ذاك الوقت أحدٌ في كفاءة يوسف ، وهم مقبلون على سبع سنواتٍ عجافٍ تحتاج إلى حكمةٍ، تحتاج إلى حسن تدبيرٍ، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أنه لا أحد يستطيع أن يحسن القيام بهذه المهمة إلا هو، فهذه أحوالٌ خاصةٌ، فلو كان هناك مثلًا أعمالٌ لا يستطيع أحدٌ القيام بها، ولا يُتقنها إلا هذا الإنسان؛ فله أن يُطلبها، أما إذا كان هناك أشخاصٌ آخرون يمكن أن يقوموا بهذه الأعمال في هذا المنصب؛ فهذا يدخل فيما ورد من النهي عن طلب الولاية، وأن من طلب ولايةً وُكِل إليها، وأيضًا من طلب ولايةً؛ ينبغي ألا يولَّى، ألا يُولَّى من طلب الولاية؛ لأنه يوكَل إليها ولا يعان عليها، بخلاف من اختِير ولم يطلب الولاية؛ فإنه يعان عليها.

السؤال: يقول: التمويل عن طريق (البلاديوم) في بعض المصارف مثل الراجحي وغيره، هل هو جائزٌ؟

الجواب: إذا كان منضبطًا بالضوابط الشرعية؛ فلا بأس، والموجود عند الراجحي منضبطٌ بالضوابط الشرعية، والتي من أهمها: التملك والتعيين، يعني: أنه مثلًا تطلب سيولةً نقديةً من البنك، البنك يقول: عندنا فيها بـ(البلاديوم) نشتريه، نشتري (البلاديوم) لك من البورصة -بورصة المعادن- نشتريه ونتملكه ونبيعه لك، ويكون هناك شهادة تعيينٍ، ثم بعد ذلك توكِّل البنك في بيعه في السوق، وإن أردت أيضًا أن يؤتى بهذا المعدن لك؛ فلك ذلك، بهذه الطريقة لا بأس، هذا بيعٌ وشراءٌ، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

لكن التورُّق المنظَّم، الذي منعته المجامع الفقهية: هو الذي لا يتحقق فيه التملك أو القبض أو التعيُّن بحيث يكون صوريًّا، ولو أراد كل عميلٍ سلعته؛ فإن السلع الموجودة لا تكفي لجميع العملاء، فيُفضي إلى أن البنك يبيع ما لا يملك، هذا لا يجوز؛ وعلى هذا نقول: إن التورُّق المنظَّم له: صورةٌ ممنوعةٌ، وصورةٌ جائزةٌ:

  • الصورة الممنوعة: التي لا تتحقق فيها الضوابط الشرعية من التملك والتعيين.
  • والصورة الجائزة: هي التي يتحقق فيها الضوابط الشرعية من التملك والقبض والتعيين.

والموجود عند الراجحي تتحقق فيه الضوابط الشرعية، وهو مجازٌ من الهيئة الشرعية.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 6765، ومسلم: 1458.
^2, ^4, ^5, ^9 سبق تخريجه.
^3 رواه البخاري: 3436، ومسلم: 2550.
^6 رواه البخاري: 6177، ومسلم: 1735.
^7 رواه البخاري معلقا: 2274، وأبو داود: 3594، واللفظ له.
^8 رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2634.
^10 رواه أحمد: 25681.
^11 رواه أبو داود: 2229، والترمذي: 1185.
^12 رواه الترمذي: 1185، وابن ماجه: 2058، والنسائي في السنن الكبرى: 5662.
^13 رواه ابن ماجه: 2341، وأحمد: 22778.
^14 اللُّوثة، بضم اللام وفتحها: الحمق، ومس الجنون. ينظر تاج العروس للزبيدي: 5/ 345 (ل و ث).
^15 رواه البخاري: 1927، ومسلم: 1106.
^16 رواه مسلم: 655.
^17 رواه مسلم: 875.
^18 رواه أبو داود: 101، وابن ماجه: 399، وأحمد: 9418.
^19 رواه البخاري: 904.
zh