logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(104) باب حد قطاع الطريق- من قوله: “وهم: المكلفون الملتزمون..”

(104) باب حد قطاع الطريق- من قوله: “وهم: المكلفون الملتزمون..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

التساؤلات التي وردت من بعض الطلاب عن الدرس، الأصل هو إقامة الدرس، إذا لم يكن هناك درسٌ؛ ترسل رسائل اعتذارٍ بالجوال، إذا لم ترسل رسائل؛ فمعنى ذلك: أن الأصل هو إقامة الدرس، خاصةً ونحن محتاجون لأن نُتم “دليل الطالب”، فسنحرص غاية الحرص على الاستمرار في الدرس وعدم انقطاعه.

باب حد قطاع الطريق

كنا قد وصلنا في “دليل الطالب” إلى:

باب حد قُطَّاع الطريق

تعريف قطاع الطريق

وعرفهم المؤلف قال:

هم المكلفون الملتزِمون، الذين يَخرجون على الناس فيأخذون أموالهم مجاهرةً.

فقوله: “هم المكلفون”، المكلف: البالغ العاقل.

“الملتزمون”: يريد المؤلف أن يشمل أهل الذمة، يعني: المسلمين وأهل الذمة، وهذا المصطلح -مصطلح “الملتزِم”- يذكره الفقهاء في هذه الأبواب، أبواب الحدود، مر معنا هذا المصطلح في أبواب الحدود، لما قلنا: إن الحد يقام على الملتزِم والمسلم والذمي والمعاهد.

قال: “الذين يخرجون على الناس فيأخذون أموالهم مجاهرةً”، يعني: يعتدون على الناس ويأخذون أموالهم جهرةً.

أما لو كان خفيةً؛ فقد سبق أن قلنا: إما أن يكون سرقةً أو يكون اختلاسًا، وبيَّنا أحكام ذلك في درس سابق، لكن قُطَّاع الطريق يأخذون أموال الناس مجاهرةً وليس خفيةً.

ولكن هل يختص هذا بالصحراء، أم يشمل البنيان؟

أما الصحراء: فمحل اتفاقٍ، إذا اعترضوا الناس في الصحراء فأخذوا أموالهم مجاهرةً، فهؤلاء قُطَّاع طريقٍ بالاتفاق.

لكن إذا كان ذلك في البنيان فهل يعتبرون قُطَّاع طريقٍ؟

هذا محل خلافٍ بين أهل العلم:

  • فمنهم من خصَّ قُطَّاع الطريق بمن يعترضون طريق الناس في الصحراء دون البنيان، وقالوا: إن الذي في الصحراء هو الذي لا يُدركه الغوث، ولا يستطيع أن يستنجد بأحدٍ، بخلاف من كان في البنيان.
  • والقول الثاني في المسألة: أن قطاع الطريق هم من يأخذون أموال الناس مجاهرةً في الصحراء وفي البنيان كذلك، وهذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو الذي عليه العمل، وهذا هو القول الذي قرره المؤلف؛ لأن المؤلف لم يخص ذلك بالصحراء؛ وذلك لأن البنيان هو محل الطمأنينة والأمن، فهو أولى بأن تُقام فيه العقوبة على المجاهرين بأخذ الأموال من الصحراء.

فالقول الصحيح إذنْ: هو أن قُطَّاع الطريق لا يختصون بالصحراء، بل يشمل ذلك البنيان.

شروط إقامة حد قطاع الطريق

قال:

ويُعتبر ثبوته.

يعني: يعتبر ثبوت هذا الحد.

ببينةٍ، أو إقرارٍ مرتين.

“والبينة” إذا قال الفقهاء: “البينة”، يقصدون بذلك شهادة شاهدين فأكثر، يعني: الشهود.

“أو إقرارٍ مرتين”، والإقرار: هو سيد الأدلة، ولكن قول المؤلف: “مرتين”، قياسًا على السرقة، وسبق أن ذكرنا الخلاف في المسألة: هل يُشترط في السرقة أن يُقِرَّ السارق مرتين؟ أم تكفي مرةٌ واحدةٌ؟

ذكرنا هذا في الدرس السابق، وذكرنا أن القول الراجح: أنه يكفي مرةً واحدةً، قلنا: في جميع الحدود -حتى في الزنا- يكفي الإقرار مرةً واحدةً، ولا يحتاج إلى أن يكرر الإقرار، لا في الزنا، ولا في السرقة، ولا في غيرها؛ لأن الإقرار تعبيرٌ عما في نفس الإنسان، ولا حاجة لتكراره، التكرار أشبه بالعبث، اللهم إلا أن يكون ثَمَّة شبهةٌ أو نحو ذلك، فهذا يمكن أن يُتثَبَّت منه، لكن الأصل في الإقرار أنه يكون مرةً واحدةً.

فالقول الصحيح إذنْ خلاف ما ذهب إليه المؤلف، الصواب: أن حد الحرابة يثبت بالإقرار مرةً واحدةً.

والحِرْز والنِّصَاب.

يعني: لا بد أيضًا أن يكون أخذ المال من حِرْزٍ، فلو كان المال مثلًا ليس بحِرزٍ، مالٌ سائبٌ فأتى إنسانٌ وأخذه مجاهرةً، فيقولون: إن هذا لا يُعتبر من قُطَّاع الطريق، وإن كان يُعاقب، لكن لا يُعتبر قاطع طريقٍ، إنما يأخذه من حِرْزٍ؛ كأن يأخذه من جيب صاحبه مثلًا، أو من الصندوق، أو نحو ذلك على سبيل الغلَبة.

“والنِّصَاب” وسبق أن تكلمنا عن النصاب، نصاب السرقة كم؟ ربع دينارٍ، وقلنا: تُقدَّر في الوقت الحاضر بكم ريالٍ؟ بمئتين إلى مئتين وعشرين تقريبًا، أو مئتين وثلاثين ريالًا، ولا نستطيع أن نُحدِّدها على سبيل الدقة؛ لأن هذا يختلف باختلاف أسعار الذهب والفضة.

حكم ما لو قَتل قطاع الطريق الناس ولم يأخذوا المال

قال:

ولهم أربعة أحكامٍ:

إذنْ إذا نظرنا للواقع؛ هذا الحد هو أكثر الحدود ثبوتًا عندنا هنا، وأكثر ما يثبت في البنيان وليس في الصحراء.

قال: “ولهم أربعة أحكامٍ”، هذه الأحكام أُخِذت من الآية الكريمة، وهي قول الله : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33]، فأُخذت هذه الأحكام الأربعة من الآية الكريمة.

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وهذا هو الأصل في هذه الأحكام: “إذا قَتلوا وأخذوا المال؛ قُتِلوا وصُلِبوا، وإذا قَتلوا ولم يأخذوا المال؛ قُتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا؛ قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا؛ نُفُوا من الأرض”، هذا أُثِر ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وهو الذي أخذ به الحنابلة وقرَّره المؤلف.

قال:

إن قَتلوا ولم يأخذوا مالًا؛ تحتَّم قتلهم جميعًا.

إذا قَتل المحارب ولم يأخذ المال؛ يتحتَّم قتله ولا يُصلب، ما معنى: يتحتَّم قتله؟ يعني: غير قابلٍ للعفو، لو عفا أولياء المقتول؛ فلا يسقط الحد، يعني: لا ننظر لمسألة عفو أولياء المقتول، إذا كان ذلك حِرابةً وقرَّر القضاة أن هذا حد حِرابةٍ؛ لا ننظر لمسألة عفو أولياء المقتول.

فإذنْ إذا قتلوا ولم يأخذوا مالًا تحتَّم قتلهم جميعًا ولم يصلبوا.

حكم ما لو قَتل قطاع الطريق الناس وأخذوا المال

وإن قَتلوا وأخذوا مالًا؛ تحتَّم قتلهم وصَلبُهم حتى يشتهروا.

إذا قتلوا وأخذوا المال؛ فيُقتلون ثم يُصلبون، وهل الصلب قبل القتل أو بعد القتل؟ محل خلافٍ، والصحيح: أنه بعد القتل.

واختلف العلماء في المدة التي يبقى فيها المصلوب؛ فمنهم من قدَّر ذلك بثلاثة أيامٍ، والصحيح كما قرَّر المؤلف: حتى يشتهر أمره، ولا يُقدَّر بوقتٍ معينٍ؛ لأن التقدير أغلبه التوقيف، ولكن حتى يشتهر أمره، هذا هو الذي عليه العمل، فإذا قُتل يصلب حتى يَعلم به الناس وينظروا إليه ويشتهر أمره، فيكون ذلك أبلغ في الرَّدع وفي الزجر.

الصلب الذي ورد الآن، نحن درسنا الحدود كاملةً الآن، ودرسنا القصاص، ونحن الآن في أواخره، هل ورد الصلب في غير حد الحِرابة؟ لم يرد، الصلب فقط في حد الحرابة وقطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال فقط، ولكن إذا رأى ولي الأمر شناعة جريمةٍ من الجرائم؛ فله أن يأمر بصلب ذلك المجرم بعد قتله، وهذا هو الذي عليه العمل.

أذكر مرةً -قبل سنتين- الرجل الذي قتل أمه وأحرقها، قُتِل ثم صُلِب، وسألتُ أحد القضاة الذين صدَّقوا على الحكم فقال: إن الحكم كان القتل أولًا، لكن رأى ولي الأمر شناعة هذه الجريمة، فأعاد الحكم للقضاة لكي ينظروا في الصلب، فرأى القضاة الأخذ بالقول الآخر: وهو أن الصلب لا يختص بحد الحرابة، بل إذا كانت الجريمة بشعةً، فيُمكن أن يُصلب؛ لأن الغرض من الصلب هو الردع والزجر، فأصبح العمل بعد تلك الحادثة على هذا، إذا كانت الجريمة بشعةً؛ فيُصلب بعد قتله، وهذا أحد أقوال العلماء في المسألة وإن كان خلاف المشهور من مذهب الحنابلة، لكنه قولٌ جيدٌ، وفيه ردعٌ للمجرمين.

حكم ما لو أخذ قطاع الطريق المال ولم يقتلوا

قال:

وإن أخذوا مالًا ولم يقتلوا؛ قُطِعت أيديهم وأرجلهم من خلافٍ حتمًا في آنٍ واحدٍ.

إن أخذوا مالًا ولم يقتلوا؛ فتُقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، يعني: تُقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في مقامٍ واحدٍ، في آنٍ واحدٍ، يعني: حتمًا متحتِّمًا -كما ذكرنا- لا يُرجع لرأي من أُخذ ماله.

“في آنٍ واحدٍ”: في وقتٍ واحدٍ، فلا تُقطع اليد ثم يُنتظر وتقطع الرجل، وإنما في آنٍ واحدٍ، ويقول الفقهاء: إنها تُحسم بالزيت المغلي بعد ذلك، وسبق أن قلنا في القطع في السرقة: إنه في الوقت الحاضر لا حاجة لأن تُحسَم بالزيت، وإنما تُستخدم الأدوات الطبية الحديثة في وقف النزيف.

حكم ما لو أخاف قطاع الطريق الناس ولم يأخذوا مالاً

الحالة الرابعة:

قال:

وإن أخافوا الناس ولم يأخذوا مالًا؛ نُفُوا من الأرض.

إذا أخافوا السبيل، وأخافوا وروَّعوا الناس، لكن ما أخذوا مالًا ولم يقتلوا، مجرد تخويفٍ، فيقول: “نُفُوا من الأرض”، بنصِّ الآية: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33]، ولأثرٍ ابن عباسٍ رضي الله عنهما السابق.

لكن ما معنى النفي من الأرض؟

اختلف العلماء في معنى النفي من الأرض:

المؤلف يقول:

فلا يُتركون يأوُون إلى بلدٍ.

هذا هو القول الأول: أنهم يُشرَّدون فلا يُتركون يأوُون إلى بلدٍ، كُلَّما ذهب إلى بلدٍ نُلاحقه، ملاحقة طيلة الوقت.

حتى تظهر توبتهم.

حتى تحسن سيرتهم، وتظهر توبتهم.

هذا هو القول الأول في المسألة.

والقول الثاني: أن المراد بالنفي: الحبس، فـ: يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، يعني: يُحبسوا، وهو قول الحنفية، ورجحه ابن جريرٍ الطبري في “تفسيره”.

والقول الثالث: أنهم يُحبَسون في البلد الذي يُنفون إليه، وهذا هو مذهب الإمام مالكٍ، وهذا هو الأقرب والله أعلم؛ وذلك لأنه يصدُق عليه النفي، فالنفي لا بد من إخراجه من البلد الذي هو فيه، فلا يصدُق عليه أنه نفيٌ إلا إذا أُخرج من البلد، أما إذا بقي في البلد فكيف؟! لم يُنْفَ.

وإذا حُبِس؛ اتُّقِيَ شرُّه في الوقت نفسه، فإننا إذا نفيناه ولم نحبسه؛ فسيُؤذي المسلمين، خاصةً في الوقت الحاضر، هذا الإنسانٌ تأصَّل عنده الإجرام، فإذا نفيناه ولم نحبسه؛ فسيستمر في أذاه وحِرابته، وخاصةً في وقتنا الحاضر؛ ولهذا فالأقرب -والله أعلم- للنص: هو أن المراد بالنفي: النفي مع الحبس، يعني: النفي إلى بلدٍ آخر مع الحبس؛ فمثلًا إذا كان في الرياض؛ يُنفى إلى بلدٍ آخر، إلى مكة، إلى جدة، إلى مثلًا الدمام، إلى أي بلدٍ آخر، ويُحبس فيها، فيصدُق عليه أنه نُفي، ويصدُق عليه أيضًا أنه كُفَّ أذاه وشره عن المسلمين، هذا هو أقرب ما قيل في معنى النفي في الأرض، لكن القول الذي قرره المؤلف: أننا نتابعه ولا نتركه يأوي إلى البلد، يصعب تطبيقه في الوقت الحاضر، وربما آذى المسلمين، والقول أيضًا بأن المراد بالنفي الحبس، هذا لا يصدُق عليه النفي، لا لغةً ولا عرفًا ولا شرعًا، لكن إذا شرَّدناه عن البلد وحبسناه؛ هذا هو الأقرب لمعنى النفي.

حكم توبة قُطَّاع الطريق قبل القدرة عليهم

قال:

ومن تاب منهم قبل القدرة عليه؛ سقطت عنه حقوق الله، وأُخذ بحقوق الآدميين.

وهذا بنص الآية؛ لقول الله : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34]، فمن تاب قبل القدرة عليه، يعني: قبل أن يُقبض عليه، فيسقط ما كان حقًّا لله ؛ من نفيٍ وقطعٍ وصلبٍ وتحتُّمِ قتلٍ، لكن يبقى ما كان متعلقًا بحق الآدميين من نفسٍ، يعني: تُصبح المسألة قصاصًا، إذا كان قتل؛ تُصبح قصاصًا، ويرجع الأمر لأولياء المقتول، المال أيضًا: يُسترجع منه المال الذي أخذه، ويضمن الإتلافات التي تسبَّب فيها.

فإذنْ إذا تاب قبل القدرة عليه؛ سقطت عنه حقوق الله، وأُخذ بحقوق الآدميين، لكن هل هذا الحكم خاصٌّ بحد الحرابة؟ أم يشمل جميع الحدود؟

الآية الكريمة نصت على حد الحرابة: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 34]، فمن أهل العلم من أخذ بظاهر الآية وقال: إن هذا الحكم خاصٌّ بحد الحرابة، من تاب قبل القدرة عليه؛ سقط حق الله وبقي حق الآدميين.

والقول الثاني في المسألة: إن هذا الحكم عامٌّ في جميع الحدود؛ يشمل حد الزنا وحد السرقة وجميع الحدود، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن الله وإن كان قد ذكر ذلك في حد الحرابة؛ إلا أنه إذا كانت تُقبل توبة المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه مع شدة ضرره وتعدِّيه؛ فغيره من باب أولى.

وقد جاء في “الصحيحين” أن رجلًا أتى النبي وقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فقال: ألست قد صليت معنا؟، قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك [1]، فقالوا: إن هذا قد تاب قبل القدرة عليه، ولم يُؤاخذه النبي ، وبعض أهل العلم يقول: إن المقصود بــ”أصبتُ حدًّا”، يعني: ما دون الحد، ولهم كلامٌ في معنى هذا الحديث، لكن لو أخذنا حتى بظاهره؛ فإنه يصلح أن يكون دليلًا لهذا القول.

فمن تاب إذنْ قبل القدرة عليه؛ فإنه يسقط عنه ما كان حقًّا لله ، وهذا الحكم عامٌّ في جميع الحدود، حد الحرابة وغيره؛ ولهذا نجد أن قاعدة الشريعة تُفرِّق بين التائب وغير التائب، التائب لا يُوبَّخ ولا يُعنَّف ولا يُفضح، وحتى يسقط عنه ما كان حقًّا لله ، يُؤاخذ فقط بحقوق الآدميين؛ حتى يشجع الناس على التوبة.

فإذنْ التائب يُعامل معاملةً تختلف عن غير التائب، هذه قاعدة الشريعة في هذا.

مداخلة: كيف يُعرف بتوبته؟

الشيخ: تاب قبل أن يُقبض عليه، إنسانٌ مثلًا حصل منه حد الحرابة، آذى الناس وكذا، ثم بعد ذلك أعلن توبته، وحسنت حاله، ثم قُبض عليه بعد مثلًا شهرٍ من توبته، وحسنت استقامته وسيرته، وشهد له من حوله، يسقط حق الله ، ويبقى حق الآدميين فقط، وهذا لو كان مثلًا: حد الزنا، أو شرب مسكرٍ -على قول الجمهور بأنه حدٌّ- أو سرقةً؛ يسقط ما كان حقًّا لله، ويبقى حق الآدميين، وتُعرف توبته بالقرائن.

مداخلة: ……

الشيخ: وتاب قبل القدرة عليه؟

مداخلة: لا، وأقيم عليه حد القتل…

الشيخ: إي نعم.

مداخلة: هل هذا يعني: أنه سقط حق الله بالقتل، ليس له إلا الدية فقط؟

الشيخ: هذا إذا تاب قبل القدرة عليه؟ أم بعد القدرة عليه؟

مداخلة: ……

الشيخ: إذا تاب قبل القدرة عليه؛ سقط ما كان حقًّا لله ، يعني: لا يتحتَّم قتله، وتُصبح المسألة قصاصًا، إن شاء ولي الدم؛ قُتل، وإن شاء؛ أَخَذ الدية، وإن شاء؛ عفا مجانًا.

مداخلة: ……

الشيخ: لا، لا يسقط في الأصل، إذا تاب قبل القدرة عليه، تبقى حقوق الآدميين.

دفع الصائل على النفس والمال والعرض

قال:

فصلٌ
ومن أُرِيد بأذًى.

انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن دفع الصائل.

قال:

ومن أريد بأذًى في نفسه أو ماله أو حريمه؛ فله دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل؛ قتله ولا شيء عليه.

هذا يسميه الفقهاء: “دفع الصائل”، إذا أريد بالأذى في نفسه، أراد أحدٌ أن يتعدى على آخر؛ فيدفعه بالأسهل فالأسهل، ويجب عليه الدفاع عن نفسه، لا يستسلم لهذا الصائل، إنما يدافع عن نفسه، لكن بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا قال المؤلف -حتى نربط المسألتين- قال:

ويجب أن يدفع عن حريمه وحريم غيره، وكذا -في غير الفتنة- عن نفسه ونفس غيره وماله، لا مال نفسه.

فإذنْ إذا صال إنسانٌ على آخر، وأراد أن يُؤذيه في نفسه أو ماله أو عرضه أو عرض حريمه؛ فيجب عليه الدفاع عن عرضه وعرض حريمه، يجب وجوبًا، ويجب عليه الدفاع عن نفسه إلا في حالةٍ واحدةٍ استثناها المؤلف: في غير حال الفتنة، في غير حال الفتنة لا يجب؛ لقول النبي : كُنْ عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل، وهذا ذكره النبي عليه الصلاة والسلام لما تكلم عن الفتن، قال : اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف؛ فغطِّ وجهك، وفي لفظٍ: فكُنْ عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل، وفي روايةٍ: كُنْ كخير ابني آدم [2]، ولأن عثمان لم يدافع عن نفسه؛ درأً للفتنة.

فإذنْ يجب الدفاع عن النفس، إلا في حال الفتنة فلا يجب، وإنما يجوز، وأما الدفاع عن العرض قلنا: إنه واجبٌ.

الدفاع عن المال، يقول المؤلف: إنه لا يجب، “لا مال نفسه”، الدفاع عن المال لا يجب، لو قال شخصٌ: أعطني المال الذي معك وإلا قتلتك، تُعطيه المال وتسلم من القتل، فلا يجب الدفاع عن المال، لكن هل يجوز الدفاع عن المال من حيث الجواز؟ من حيث الوجوب لا يجب، لكن هل يجوز؟ يجوز، والدليل لهذا: أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أن يأخذ مالي؟ قال: فلا تُعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيدٌ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار [3]، رواه مسلمٌ.

  • فالدفاع عن المال جائزٌ، وليس بواجبٍ.
  • الدفاع عن النفس واجبٌ، إلا في حال الفتنة.
  • الدفاع عن العرض واجبٌ مطلقًا.

هذا هو حاصل كلام أهل العلم في مسألة دفع الصائل.

الدفاع عن عرض حريمه؛ كأمه وأخته وزوجته، ما حكمه؟ واجبٌ.

هنا يقول: كيف يكون الدفاع؟ قال: “الأسهل فالأسهل”، يعني: لا يبدأ بالقتل، يدفعه بالأسهل فالأسهل، إذا كان مثلًا يستخدم سلاحًا ناريًّا؛ يضعه مثلًا في رجليه؛ حتى لا يقتله، فإن لم يندفع إلا بالقتل؛ فله أن يقتله، إذا قتله؛ ذمَّته بريئةٌ أمام الله ، وليس عليه حرجٌ، لكن أمام القضاء لو استطاع أن يُثبت أن المقتول صائلٌ؛ فكذلك أيضًا لا يؤاخذ، أما إن عجز عن الإثبات -وهو الغالب- أن المقتول صائلٌ؛ فإنه يُقاد به، وهذا هو الذي عليه العمل؛ ولهذا أذكر قصةً لأحد الناس دافع عن حريمه، وقال: إنه لم يندفع الصائل إلا بالقتل، وكان يظن أنه سيُصدَّق، فلما أُتي به للقضاة؛ قالوا: قتلت فلانًا؟ قال: (قتلته ونصف)، من باب التأكيد، فقالوا: النصف لك، يكفينا فقط: قتلته، قال: قتلته دفاعًا عن حريمي، دفاعًا عن عرضي، قالوا: عندك بيِّنةٌ؟ فجعل يحلف أيمانًا، فقالوا: أنت تحلف تدَّعي لنفسك، هل عندك شهودٌ؟ عجز عن إقامة البينة، فحُكم بقتله قصاصًا.

وهذا من البلاء؛ ولهذا الفقهاء يقولون: يدفعه بالأسهل فالأسهل، وكم من إنسانٍ أُقيد وهو إنما دَفَع صائلًا، لكنه عجز عن إقامة البينة، فهذا -كما ذكرت- من البلاء الذي قد يُبتلى به بعض الناس، لكن من صال عليه إنسانٌ فيدفعه بالأسهل فالأسهل؛ لأنه قد يعجز عن إقامة البينة فيُقاد به، يدفعه بالأسهل فالأسهل.

مداخلة: لو جاء بشاهدٍ واحدٍ يكفي؟

الشيخ: لا، لا بد من شاهدين، شاهدٌ واحدٌ ما يكفي، وهذه المسألة الحقيقةَ من المشكلات، من المعضلات، ليس لها حلٌّ إلا على رأي ابن تيمية رحمة الله عليه، لكن لا يُعمل به، لكن له رأيٌ جيدٌ في المسألة، يقول: لو قامت القرائن على أن المقتول كان صائلًا فيُدرأ القتل عن القاتل؛ كأن يكون مثلًا المقتول معروفًا أنه من أرباب المخدرات وله سوابق، وهذا القاتل إنسانٌ من الصالحين، لم يُعرف مثلًا بشَرٍّ أو أذًى، والبصمات والقرائن تدل على هذا، فعلى رأي ابن تيمية يُدرأ عنه حد القتل، لكن الذي عليه العمل أنه يُقاد به.

مداخلة: لو صوره…؟

الشيخ: التصوير الآن يدخله التزوير، التصوير لا يُعتمد عليه، الآن تُركَّب الصور بعضها في بعضٍ، كما يتفننون الآن في التزوير في التصوير، فلا يُعتمد عليه، لا التصوير ولا التسجيل حتى، فأصبح تزويره من أسهل ما يكون، لكن هذا -كما ذكرت- من البلاء الذي قد يُبتلى به بعض الناس؛ ولهذا يدفعه بالأسهل فالأسهل كما ذكر الفقهاء، لا يبدأ بالقتل إلا عند الضرورة.

مداخلة: المؤلف ذكر حريم غيره، ونفس غيره…؟

الشيخ: نعم، هو الأصل، أن يدافع عن عرضه وعن عرض غيره إذا كان قادرًا، أما إذا عجز؛ فلا يلزمه، لكن لو كان قادرًا؛ فالأصل أنه يجب أن يدافع عن نفسه وعن عرضه وعرض حريمه، وفي غيره إذا كان عنده قدرةٌ على هذا.

مداخلة: أحسن الله إليك، حتى في الدفع بالأسهل يحتاج إلى إثبات أنه صائلٌ أيضًا؟

الشيخ: كذلك، إي نعم، لا بد، لا بد إذا وصلت للقضاء، القضاء يقوم على البينات، لا بد من الإثبات؛ لأننا لو فتحنا المجال؛ كل إنسانٍ سيدَّعي أن هذا الشخص المقتول كان صائلًا، أو أن هذا الذي يدَّعي عليه أنه كان صائلًا عليه، فالدعوى سهلةٌ في هذا، كونه يدَّعي مثل هذا أمره سهلٌ، ولكن لا بد من البينة، لكن فيما بينه وبين الله ذمته بريئةٌ، ففرقٌ بين أن نقول: فيما بينه وبين الله، وأمام القضاء، أمام القضاء لا بد من البينات.

مداخلة: أقصد حتى الدفع بالأسهل مشكلٌ يعني؟

الشيخ: حتى الدفع بالأسهل، نفترض أنه دفع بالأسهل، ثم اشتكى هذا الصائل، فلما أُتي بهذا الذي دفعه؛ ادَّعى أن هذا كان صائلًا، يقال له: أثبت أنه كان صائلًا.

مداخلة: أحسن الله إليك، هل للشاهد أن يشهد بحسن سيرته مثلًا، القاتل؟

الشيخ: نعم تزكية، التزكية ممكن، لكن هذه -كما ذكرت- لا يُعمل بها، مسائل الدماء لا يعملون بها، يقتلُون، إذا عجز الصائل عن إقامة البينة؛ يُقتل، الذي عليه العمل هنا في المملكة، وربما لصعوبة المسألة، وفيها دماءٌ، لكن لو أن قاضيًا اجتهد في هذا وأخذ برأي ابن تيمية؛ لا شك أنه قولٌ جيدٌ.

قال:

ولا يلزمه حفظه عن الضياع والهلاك.

يُشير المؤلف في هذا إلى المال، يقول: إن المال لا يلزم حفظه عن الضياع والهلاك؛ وذلك لأنه لا يجب الدفاع عنه أصلًا.

والقول الثاني في المسألة: أنه يلزمه حفظه عن الضياع والهلاك؛ لأن عدم حفظه يدخل في إضاعة المال المنهي عنه، وقد نهى النبي عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال [4]، هذا هو القول الراجح، فيلزمه حفظه؛ حتى لا يكون مضيِّعًا لماله.

باب قتال البغاة

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب قتال البغاة

تعريف البغاة

وعرف المؤلف البغاة، قال:

وهم: الخارجون على الإمام بتأويلٍ سائغٍ، ولهم شوكةٌ.

البغي: هو الجور والظلم، والفقهاء إذا أطلقوا هذا المصطلح: “البغاة”؛ يقصدون به ما ذكره المؤلف: الخارجون على الإمام بتأويلٍ سائغٍ، ولهم شوكةٌ.

لا بد من هذه القيود التي ذكرها المؤلف، فإن اختل واحدٌ منها، يقول:

فإن اختل شرطٌ من ذلك؛ فقُطَّاع طريقٍ.

يعني: إذا خرجوا على الإمام بدون تأويلٍ، فيُعتبرن خوارج، وقُطَّاع طريقٍ.

إذا لم يكن لهم شوكةٌ؛ كذلك لا يُعتبرون بغاةً، وإنما قُطَّاع طريقٍ، وسبق الكلام عن أحكام قُطَّاع الطريق.

وقد ذكر الله شأن البغاة في قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

وقال النبي : من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشق عصاكم، أو يُفرِّق جماعتكم؛ فاقتلوه كائنًا من كان [5].

حكم نصب الإمام والخليفة

قال:

ونَصْبُ الإمام فرض كفايةٍ.

انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن نصب الإمام، وهذا يذكره العلماء في كتب العقائد، ويذكره الفقهاء في هذا الباب.

نصب الإمام فرض كفايةٍ؛ وذلك لحاجة الناس لذلك؛ لحماية البيضة والذَّب عن الحوزة -يعني عن الأُمَّة- وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا بد من نصب إمامٍ للمسلمين، ولا يصح أن يقال: إن الناس يعيشون بدون إمامٍ، هذا لا يمكن، لا قديمًا ولا حديثًا؛ ولذلك حتى الكفار الذين لا يدينون بدين الإسلام تجد أنهم يُنصِّبون لهم حاكمًا يحكمهم، قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: أوجب النبي تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ؛ فليُؤَمِّروا أحدهم [6]، وهذا فيه تنبيهٌ على الاجتماع الكبير، فمنه يُستفاد وجوب نصب الإمام، وأنه فرض كفايةٍ؛ ولهذا قال العلماء: إن من توفرت فيه الشروط وطلبه المسلمون ليكون إمامًا؛ أُجبِر على ذلك.

شروط الإمامة العظمى

قال:

ويُعتبر.

يعني: في الإمام، عدة شروطٍ:

الشرط الأول:

كونه قرشيًّا.

لقول النبي : الخلافة بعدي في قريشٍ [7]، رواه مسلمٌ، وهذا كان عليه العمل في صدر الإسلام؛ ولهذا لما تُوفي النبي واختلف المهاجرون والأنصار فيمن يلي الخلافة بعده؛ أتى أبو بكرٍ وعمر والمهاجرون وأخبروا بأن النبي قال: الأئمة من قريشٍ [8]، فلما علم بذلك الأنصار ؛ سلَّموا واستسلموا وقالوا: ما دام أن النبي حصر الخلافة في قريشٍ، فسلَّموا، وبذلك بايعوا أبا بكرٍ الصديق .

والحكمة في ذلك والله أعلم: ما جاء في بعض الروايات: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي [9]، ولاحِظ هنا أن الخلافة خرجت من آل بيت النبي إلى أبي بكرٍ الصديق ، قال ابن القيم رحمه الله: “لعل السر في ذلك -والله أعلم- أن عليًّا لو تولى بعد النبي لقال المبطلون إنه مَلِكٌ وارثٌ، وأنه عليه الصلاة والسلام ملَّك أهل بيته، فصان الله منصب رسالته عن هذه الشبهة”، ووُلِّي الخلافة أبو بكرٍ الصديق ، ولم يتولَّها عليٌّ بعد وفاة النبي .

لكن قال العلماء: لو تولَّى غير القرشي؛ فتجب طاعته، وولاية قريشٍ انقطعت من قرونٍ.

الشرط الثاني والثالث:

بالغًا عاقلًا.

لأن غير البالغ والعاقل يحتاج إلى من يَلِي أمره، فلا يلي أمر المسلمين.

وأيضًا يشترط أن يكون:

بصيرًا ناطقًا.

وذلك حتى يقوم بهذا المنصب على أكمل وجهٍ، فغير البصير وغير الناطق لا يستطيع أن يقوم بهذا المنصب العظيم.

وأيضًا:

حُرًّا.

فالعبد لا يصح أن يُولَّى على المسلمين؛ لأن هذا الإمام سيكون له الولاية العامة، فلا يكون مُوَلًّى عليه من قِبَل سيده.

ذكرًا.

فلا يصح أن تلي المرأة الولاية العظمى، كما أنها لا يصح أن تلي القضاء في قول أكثر أهل العلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لن يُفلح قومٌ وَلَّوا أمرهم امرأةً [10].

عدلًا.

أي: يُشترط في الإمام أن يكون عدلًا، ويُشترط ذلك في ولاية القضاء؛ ففي الولاية العامة من باب أولى، قال العلماء: إلا أن يقهر الناس غير عدلٍ، فتجب طاعته.

عالمًا ذا بصيرةٍ

أي أن يكون عنده علمٌ بالأحكام الشرعية؛ لاحتياجه إلى ذلك.

و”ذا بصيرةٍ”: أي أن يكون ذا رأيٍ سديدٍ.

كافيًا ابتداءً ودوامًا.

يعني: قائمًا بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود ونحو ذلك.

هذه هي الشروط المطلوبة، لكن إذا لم تتوفر، أو قهر أحدٌ الناس؛ فتجب طاعته؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: اسمعوا وأطيعوا وإن تولى عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبةٌ [11]. يعني: يُنظر للمنصب الذي ولَّاه الله ، ولا يُنظر إلى لونه ولا إلى شكله ولا إلى نَسَبه؛ وذلك حتى يجتمع الناس على هذا، وتندرئ الفتنة، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالسمع والطاعة في هذه الحال.

فإذا لم تتوفر هذه الشروط فغلب الناسَ؛ فتجب طاعته؛ للنصوص الدالة على وجوب طاعة ولي الأمر في هذا.

الإمام لا ينعزل بفسقه

ولا ينعزل بفسقه.

لقول النبي : إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهانٌ [12]، وهذا يكون بخلاف القاضي، القاضي ينعزل بفسقه، أما الإمام فلا ينعزل بفسقه؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة.

والمُلك يؤتيه الله من يشاء: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، لا يُنال الملك بالذكاء والعقل والمال والنَّسَب، إنما هو شيءٌ يؤتيه الله من يشاء بحكمته البالغة، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، قيل: إنه بقي أربعمئة سنةٍ، كانت أعمارهم طويلةً في ذلك الزمن.

فإذنْ الملك يؤتيه الله من يشاء، لكن تأمل الآية: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ أكمل: وَتَنْزِعُ؛ لأن من أعطاه الله الملك يتشبَّث به، فلا يذهب منه إلا بانتزاعٍ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]؛ ولذلك لاحِظ الآن الأحداث في سوريا كيف يتشبَّثون بالملك تشبُّثًا، يعني: لا يُريدون أن يتنازلوا عنه، إلا أن ينزعه الله منهم، فلاحِظ قوله تعالى: وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، فهذا شيءٌ بيد الله ، فهو بحكمته البالغة هو الذي يؤتي الملك من يشاء، وهو الذي ينزع الملك ممن يشاء بحكمته البالغة.

والعجيب أنك إذا قرأت التاريخ؛ تجد أن الله تعالى إذا أراد نزع الملك؛ أحيانًا يكون على أتفه سببٍ، سبحان الله! فمثلما ترون ما حصل في تونس، شيءٌ لا يكاد يُصدِّقه عقلٌ لو رُويت روايةً!

نزع الله الملك من ذلك الحاكم بأدنى سببٍ، الناس هناك لم يكونوا يُصدقون الذي يحصل؛ لأن هذه أمورٌ ليست بيد البشر، إنما هي بيد الله ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26].

فإذنْ إذا تمكَّن الإنسان وآتاه الله تعالى الملك؛ هنا وجبت طاعته؛ نظرًا للمنصب الذي ولاه الله إياه، لكن طاعته بالمعروف، وطاعته ما لم يأمر بمعصيةٍ، فإن أمر بمعصيةٍ؛ فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.

هذا الاستطراد من المؤلف رحمه الله فيما يتعلق بالإمامة العظمى.

ثم رجع المؤلف بعد ذلك للكلام عن قتال البغاة.

تلزم الإمام مراسلة البغاة

قال:

وتلزمه.

يعني: تلزم الإمام.

مراسلة البغاة، وإزالة شبهتهم.

يجب على الإمام أن يُراسل البغاة، وهذا ما يسمونه بلغة العصر: “الحوار”، يعني: يُحاورهم، قد يكون عندهم شبهةٌ، فيقول الفقهاء: يجب على الإمام محاورة هؤلاء البغاة، مراسلتهم، يعني: ما يسمى في الوقت الحاضر بالحوار.

“وإزالة شبهتهم”، يُرسل لهم علماء، يُرسل لهم من يُزيل الشبهة عنهم.

وما يدَّعونه من المظالم.

لأن الغالب أن البغاة يخرجون بدعوى وجود الظلم، أما مع وجود العدل لا يخرج بغاةٌ، الأصل أنهم إنما يخرجون عندما يدَّعون وجود مظالم.

يلزم الإمام قتال البغاة إن لم يرجعوا بعد مراسلتهم

قال:

فإن رجعوا؛ وإلا لزمه قتالهم.

قلنا: إنه يلزمه أن يُزيل شُبهتهم بما عنده من العلماء وطلاب العلم ونحو ذلك، وهذا في قول الله : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، والإصلاح يكون بذلك؛ بإزالة الشبهة ونحو هذا، فإن رجعوا؛ وإلا لزمه قتال هؤلاء البغاة.

ويجب على رعيته معونته على ذلك.

لقول الله : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [الحجرات:9].

حكم قتال البغاة إذا تركوا القتال

قال:

وإذا ترك البغاة القتال؛ حَرُم قتلهم.

يعني: إذا كفُّوا عن القتال فيبقون مسلمين، فيحرم قتلهم.

وقَتلُ مُدْبِرِهم وجريحهم.

لأنهم مسلمون ولهم حرمةٌ، فلا يجوز إذنْ قتلهم، ولا يجوز قتل المدبر منهم، حتى لو قاتلوا، فالمدبر منهم لا يُقتل، ولا يُجهَز على جريحهم.

قال:

ولا يُغنَم مالهم، ولا تُسبى ذَراريهم.

وذلك لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين، وإنما وجب قتالهم؛ لردهم إلى الطاعة.

“ولا تسبى ذراريهم”، قال الموفق بن قدامة يعني عن هذه المسألة: لا نعلم في هذا خلافًا، أنه لا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يقتل مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم.

قال:

ويجب رَدُّ ذلك إليهم.

يعني: بعد انتهاء قتالهم يُرَدُّ ذلك إليهم؛ لأن قتالهم لأجل الضرورة فقط.

لاحِظ العدل والإنصاف حتى مع هؤلاء البغاة! المطلوب العدل مع البغاة، مع حتى الكفار، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8]، انظر إلى عظمة هذا الدين وعظمة هذه الشريعة! فيجب العدل مع جميع الطوائف، مع المسلمين، مع البغاة، البغاة يدخلون في المسلمين، ومع الكفار، العدل مع الجميع، وهذا من عظمة هذا الدين.

قال:

ولا يُضَمَّن البغاة ما أتلفوه حال الحرب.

نعم، لا يُضمَّن البغاة، ولا يضمن أيضًا من قاتلهم، يعني: ما تلف حال الحرب فهو غير مضمونٍ.

قبول شهادة البغاة

وهم: في شهادتهم وإمضاء حكمهم كأهل العدل.

وذلك لأن التأويل السائغ يقول الفقهاء: إنه لا يفسق به صاحبه.

باب حكم المرتد

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب حكم المرتد

تعريف المرتد

وهذا الباب من الأبواب المهمة، خاصةً في وقتنا الحاضر مع وجود الردة في بعض الناس، وخوض الناس في حكم المرتد والأحكام المتعلقة به.

المرتد:

قال:

هو مَن كَفَر بعد إسلامه.

هذا تعريفه الاصطلاحي: “من كفر بعد إسلامه”.

لغةً “المرتد”: هو الراجع، ومنه قول الله تعالى: وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ [المائدة:21]، ارتَدَّ فهو مرتَدٌّ، إذا رجع.

واصطلاحًا عرفه المؤلف: “من كفر بعد إسلامه”.

قال:

ويحصل الكفر بأحد أربعة أمورٍ.

الكفر يحصل بأحد هذه الأمور الأربعة، وفي هذا رَدٌّ على من قال بأن الكفر لا يحصل إلا بالاستحلال القلبي، وهذا قول المرجئة، لكن الْتبس على بعض أهل السنة وقالوا بهذا القول، وزعموا أنه قول أهل السنة، وهذا غير صحيحٍ، لا ينحصر الكفر بالاستحلال القلبي، بل يشمل هذه الأمور الأربعة.

الكفر بالقول

الأمر الأول:

بالقول؛ كَسَبِّ الله تعالى ورسوله أو ملائكته، أو ادعى النبوة أو الشركة له تعالى.

يكون بالقول؛ بأن يأتي بأي لفظٍ للكفر، كما مثَّل المؤلف: كَسَبِّ الله، وسَبِّ النبي ، وسَبِّ الدين، ونحو ذلك؛ هذا كفرٌ مخرجٌ عن الملة، وتحصل به الردة.

الكفر بالفعل

الأمر الثاني:

وبالفعل؛ كالسجود للصنم ونحوه، وكإلقاء المصحف في قاذورةٍ.

الثاني: بالفعل؛ كالسجود للصنم، والسجود لغير الله تعالى عمومًا، وكإلقاء المصحف في قاذورةٍ ونحوها، هذا ما يفعله بعض المشعوذين والسحرة، يُلقون المصحف في الحمام والقذر، هذا لا شك أنه رِدَّةٌ عن الإسلام وكفرٌ، فإهانة المصحف وإلقاؤه في القاذورات ونحو ذلك هذا من الكفر.

ما حكم كون الإنسان يمد رجليه للمصحف؟

هذا لا يصدق عليه الكفر قطعًا، لكن هذا أيضًا لا يجوز؛ لأن هذا فيه نوع إهانةٍ للمصحف؛ ولهذا مَن تُعظِّمه من البشر لا تمد رجليك أمامه.

مداخلة: …..

الشيخ: لا، إذا كان المصحف أمامه، فالمصحف من شأنه التعظيم.

ما حكم كون المصحف خلفه؟

كذلك أيضًا نوع إهانةٍ للمصحف، اللهم إلا أن يكون بينه وبينه حاجزٍ، إذا كان بينه وبينه حاجزٍ؛ فلا حرج، فالمصحف إذنْ يُعظَّم ولا يجوز امتهانه بأي صورةٍ من الصور.

الكفر بالاعتقاد

قال الثالث:

وبالاعتقاد؛ كاعتقاد الشريك له تعالى، أو أن الزنا أو الخمر حلالٌ.

يعني: أن يستحل أمرًا معلومًا تحريمه من الدين بالضرورة.

أو أن الخبز حرامٌ.

أو كذلك تحريم أمرٍ معلومٍ تحليله بالضرورة، لو قال شخصٌ: الخبز حرامٌ، فإنه يكفر؛ لأنه حرَّم أمرًا معلومًا حِلُّه بالضرورة.

وما أُجمِعَ عليه إجماعًا قطعيًّا.

فمنكره يكفر.

الكفر بالشك

الرابع:

وبالشك في شيءٍ من ذلك.

لكن المقصود بالشك هنا: الشك المستقر في القلب الذي يعتقده صاحبه، أما العوارض التي تعرُض للإنسان ويدفعها ولا تستقر، فإن هذه لا تضر، وقد قال النبي : إن الله عفا لأمتي ما حدَّثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم [13]، وجاء بعض الصحابة  إلى النبي قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوَجدتموه؟، قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان [14]، ما معنى هذا الكلام؟ يعني: بعض الصالحين يتسلَّط عليهم الشيطان بالوساوس؛ لأجل أن يُحزنهم وأن يُصيبهم بشيءٍ من الإحباط والفتور عن العبادة، فيُدافعون ذلك، هذا لا يضر، هذا وجده الصحابة ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه علامةٌ على قوة الإيمان، المهم أن الإنسان لا يطمئن لهذه الشكوك، ولا يركن إليها، وإنما يدفعها؛ ولهذا أرشد النبي عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الحال للاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وجاء في بعض الروايات أنه يقول: آمنت بالله ورسله [15]، وفي بعضها أنه يقرأ سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ويُعرض عنها [16]، وبذلك لا تضرُّه.

انتبهوا -يا إخوان- لهذه المسألة التي تُقلق بعض الناس، تُقلقه قلقًا عظيمًا، فنقول إذنْ: الشك الذي يرتد به هو الذي يطمئن إليه ويركن إليه، يعني: غير متيقنٍ، أما هذه العوارض التي تَعرض ويدفعها الإنسان، ويُجاهد نفسه والشيطان على مدافعتها، هذه لا تضره، بل هي علامةٌ على قوة الإيمان؛ ولهذا لما علم اليهود بأن هذه العوارض تعترض بعض الصحابة ، أتوا ابن عباسٍ رضي الله عنهما وقالوا: نحن لا نجد هذا الشيء الذي تجدونه، نحن أفضل منكم، فقال ابن عباسٍ: وماذا يفعل الشيطان بالبيت الخرب؟! البيت الخرب ما يوجد داعٍ أن الشيطان يوسوس له، يوسوس الشيطان للبيت العامر، العامر بالذكر والطاعة، يأتي لأجل أن يحزن صاحبه.

إذنْ الكفر يحصل بأحد هذه الأمور الأربعة.

حكم من ارتد وهو مكره

ما الذي يترتب على ذلك؟

قال:

فمن ارتَدَّ وهو مكلَّفٌ مختارٌ.

“ارتد” يعني: ارتكب واحدًا من هذه الأمور الأربعة وهو مكلفٌ عاقلٌ بالغٌ مختارٌ -يعني غير مكرهٍ- فإنه يستتاب.

حكم استتابة المرتد

استُتيب ثلاثة أيامٍ وجوبًا.

يجب أن يُستتاب ثلاثة أيامٍ، يعني: تُعرض عليه التوبة.

فإن تاب؛ فلا شيء عليه.

وقد رُوي أن رجلًا في عهد عمر ارتد فضُربت عنقه، فقال عمر : “فهلَّا حبستموه، وأطعتموه كل يومٍ رغيفًا، واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله؟! اللهم إني لم أحضر ولم أرضَ إذ بلغني!”، رواه الإمام مالكٌ في “الموطأ” [17]، فإذنْ من ارتد يُستتاب، فإن تاب؛ فلا شيء عليه.

بقاء عمل المرتد قبل الردة إذا تاب

ولا يحبط عمله.

لأن حبوط العمل بالرِّدة يُشترط له الموت، يعني: أن يموت عليه، حبوط العمل بالرِّدة يُشترط له: أن يموت على الردة؛ لقول الله : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217].

قتل المرتد إن لم يتب وذلك للإمام وليس لغيره

وإن أصرَّ.

يعني: أصر على ردته، والغالب أنه يتوب، لا يوجد إنسانٌ سويٌّ يقال: إما أن تتوب وإلا ضربنا عنقك بالسيف، ويصر على ردته، لا يُعلم حتى في التاريخ الإسلامي مثلُ هذا إلا أحوالٌ نادرةٌ.

وإن أصر؛ قُتل بالسيف.

يعني: قُتل ردةً؛ لقول النبي : من بدَّل دينه فاقتلوه [18]، أخرجه البخاري في “صحيحه”، من بدَّل دينه فاقتلوه.

ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه.

وذلك لأن الإمام هو المطالب بإقامة الحدود وحد الردة، ولأنه قتلُ حقٍّ لله ، ولأنه يَحتاج إلى تثبُّتٍ وإلى استتابةٍ، ولا يُترك ذلك للناس؛ حتى لا يتعجَّلوا في قتله.

قال:

فإن قتله غيرهما بلا إذنٍ؛ أساء وعُزِّر، ولا ضمان ولو كان قبل استتابته.

لو أن أحد الناس لما رأى ردته؛ غضب واستعجل وقتله؛ فإنه يُعزر بالسجن أو الجلد، أو بما يراه الإمام، لكن لا ضمان عليه، يعني: لا قصاص ولا دية، ولو كان قبل استتابته؛ لأنه لما أظهر هذه الرِّدَّة؛ كان واجبًا قتله، لكن يُعزَّر هذا الذي قتله؛ لافتياته على الإمام.

صحة إسلام المميز

قال:

ويصح إسلام المميِّز.

وإن كان مرفوعًا عنه القلم، إلا أنه يصح إسلامه؛ ولهذا أسلم عدد من الصحابة وهم صبيانٌ، ومنهم عليٌّ ، أسلم وعمره ثماني سنين.

ورِدَّته.

أيضًا تكون الردة من الصبي المميِّز؛ لأن من صح إسلامه صحت ردته كسائر الناس.

لكن لا يُقتل حتى يُستتاب -بعد بلوغه- ثلاثة أيامٍ.

يعني: لو ارتد الصبي المميِّز؛ فإنه لا يُقتل حتى يبلغ، فإذا بلغ يُستتاب ثلاثة أيامٍ، فإن تاب فلا شيء عليه، وإن أصر على ردته؛ قتل.

كيفية توبة المرتد

قال:

فصلٌ
وتوبة المرتد وكل كافرٍ.

يعني بم تكون توبة المرتد؟ يقول المؤلف:

وتوبة المرتد وكل كافرٍ: إتيانه بالشهادتين مع رجوعه عما كفر به.

لا بد أن يأتي بالشهادتين، فيُلَقَّن الشهادتين إذا كان كافرًا أصليًّا، يُلقَّن الشهادتين يقال: قل: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله”، وهذا يكفي في إسلامه، وبعض الناس يزيد: “وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه”، لا بأس بذلك، لكن يكفي أن يأتي بالشهادتين: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله”.

وإذا كان مرتدًّا؛ فلا بد أن يرجع، يُعلِن رجوعه عما ارتد لأجله، وإذا كان كافرًا أصليًّا أيضًا؛ لا بد من البراءة من الكفر وأهله، فلا يصح إسلامه من غير البراءة من الكفر وأهله، لا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فتجد الآن بعض الكفار يقول: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله”، لكن نقول له: تبرَّأ من دينك، لا يتبرأ، أنا أذكر أني قابلت رجلًا نصرانيًّا فطلبت منه الشهادة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، قلت له: لكن لا بد أن تتبرَّأ من ديانتك، من النصرانية، فقال: لا، ما أتبرَّأ؛ لأني أخشى من عشيرتي وأهلي،  قلت: إذنْ لا يصح إسلامك، فلا بد من البراءة من الكفر، لا يصح إسلام إنسانٍ إلا إذا تبرَّأ من الكفر وأهله، أما أنه يُعلِن إسلامه ولم يتبرَّأ من الكفر، فهذا لا يصح إسلامه؛ ولهذا أبو طالبٍ كان يقول:

ولقد علمت بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية دينًا

كان يعتقد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لكن لم يتبرَّأ من الأصنام وعبادة الأصنام، ما تبرَّأ منها، فما صحَّ إسلامه، ما نفعه شهادةٌ بأن محمدًا رسول الله، ويعتقد أن الله الخالق الرازق، لكن لم يتبرَّأ من الكفر.

فلا بد إذنْ من البراءة من الكفر وأهله، ولا بد للمرتد أن يُعلن رجوعه عما ارتد به.

لا تغني الشهادة بالرسالة عن كلمة التوحيد

ولا يُغني قوله: محمد رسول الله، عن كلمة التوحيد.

يعني: لا بد أن يأتي بالشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

وقوله: أنا مسلمٌ، توبةٌ.

إذا قال: أنا مسلمٌ يكفي؛ لأن قوله: أنا مسلمٌ يتضمن الشهادتين.

هل يسلم الكافر بكتابته الشهادتين

وإذا كتب كافرٌ الشهادتين؛ صار مسلمًا.

لأن الخط كاللفظ.

وإن قال: أسلمت، أو: أنا مسلمٌ، أو: أنا مؤمنٌ؛ صار مسلمًا.

وإن لم يتلفَّظ بالشهادتين.

حكم توبة الزنديق في الدنيا، وكذلك الساحر، والمبتدع الداعي إلى بدعته

ولا يُقبل في الدنيا -بحسب الظاهر- توبة زنديقٍ.

ثم وضح المؤلف المقصود بالزنديق.

قال:

الذي يُظهر الإسلام ويُخفي الكفر.

الذي يظهر الإسلام ويُخفي الكفر هذا يسمى “زنديقًا”، وهو يسمى “منافقًا”، فيقول: إنه لا تُقبل توبته؛ وذلك لأنه يُظهر ما لا يُبطن، فيُظهر التوبة وهو يُبطن الكفر، وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أنه لا تُقبل توبة الزنديق.

والقول الثاني في المسألة: أنها تقبل، وهو مذهب الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة؛ لقول الله عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النساء:146]، وهذا نصٌّ صريحٌ في قبول توبة المنافق، والزنديق منافقٌ، ولأن النبي كفَّ عمن أظهر الإسلام من المنافقين، ولقصة ابن مسعودٍ مع بني حنيفة، فقد جاء رجلٌ إلى ابن مسعودٍ ، وقال: إنني قد مررت ببعض مساجد بني حنيفة، وإنهم يقرءون: (والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا)، فأرسل إليهم، فأُتي بهم وهم سبعون رجلًا فاستتابهم، فتابوا، وكفَّ ابن مسعودٍ عنهم، إلا ابن النوَّاحة، ابن النواحة أُمر به فقُتل؛ وذلك لظهور كذبه، يعني: ظهر منه ما يدل على كذبه، أما البقية فعفا عنهم.

فالقول الراجح إذنْ: أن توبة الزنديق تُقبل.

حكم توبة من تكررت ردته

قال:

ولا مَن تكررت ردته.

والخلاف فيه كالخلاف في توبة الزنديق، والقول الراجح: أنها تُقبل؛ لقول الله ​​​​​​​: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، ولقصة مَخْشِيِّ بن حُمَيِّرٍ ‌الأشجعي، فإنه كان من المنافقين ثم تاب [19].

ومن قال: إنها لا تُقبل، استدلوا بالآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، فالآية ليس فيها أن هؤلاء تابوا، لاحِظ آخرها: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، هم ماتوا على الكفر، فلا يستقيم الاستدلال بالآية الكريمة.

حكم من سب الله تعالى أو رسوله أو مَلَكًا، أو قذف نبيًّا أو أمه

قال:

أو سبَّ الله تعالى أو رسوله.

يعني: لا تُقبل توبة من سَبَّ الله أو رسوله، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

وأذكر قبل تقريبًا خمسة عشر عامًا: قُتِل رجلٌ سب الله تعالى، حُكِم عليه بالقتل، وصُدِّق بالتمييز، ومجلس القضاء الأعلى، ونُفِّذ الحكم، وعَمِل القضاة بالمذهب، المذهب: أنه لا تُقبل توبة من سَبَّ الله تعالى، لكنها من الناحية العملية أقول: اختلف العلماء في هذه المسألة:

  • المذهب عند الحنابلة: أنه لا تُقبل توبة من سبَّ الله ، هذا طبعًا -يقولون- في الظاهر، أما فيما بينه وبين الله فإنها تُقبل، لكن في الظاهر يقولون: لا تُقبل توبة من سب الله ؛ وذلك لأن سب الله تعالى موجبٌ للكفر ولاستخفافه بالله ، وعظم ذنبه، وحتى لا يستهين الناس بذلك.
  • والقول الثاني في المسألة: تقبل توبة من سب الله ؛ لقول الله سبحانه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، ولقول الله سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، ولقوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ۝لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، ثم قال بعد ذلك: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66]، ولا عفو في مثل هؤلاء إلا بالتوبة، فذكر الله تعالى العفو في هذا المقام مع أنهم استهزءوا بالله ؛ فدل ذلك على قبول توبة من سب الله تعالى، وهذا القول هو الراجح والله أعلم: أنها تُقبل؛ لهذه الأدلة، لكن لو رأى القاضي كثرة السب لله في بلدٍ، ورأى أن يأخذ بالقول الأول، فلا شك أنه قولٌ متَّجهٌ.

قال: “أو رسوله”، يعني: سبَّ النبي فلا تُقبل توبته؛ لما ذكرنا من التعليلات فيمن سب الله ، واستخفافه بالنبي ، وعِظَم الأمر، وحتى لا يستهين الناس بذلك، ونحو ذلك من التعليلات.

والقول الثاني في المسألة: تُقبل توبة من سب النبي ؛ لأنه إذا قُبلت توبة من سب الله؛ فتوبة من سب رسوله من باب أولى، هذا هو القول الراجح والله أعلم، ونحن ذكرنا أن القول الراجح: قبول توبة من سب الله ، فمن باب أولى قبول توبة من سَبَّ النبي .

وهناك رأيٌ لأبي العباس ابن تيمية رحمه الله، يقول: تُقبل توبة من سَبَّ الله ، ولا تُقبل توبة من سَبَّ رسول الله ، وذكر ذلك في “الجواب الصحيح”؛ وعلل لذلك قال: لأن الله تعالى أخبرنا بسقوط حقه في حق من تاب، ولا ندري عن النبي هل عفا أم لا؟ ولكن هذا محل نظرٍ؛ إذ إنه إذا قُبلت توبة من سَبَّ الله -وهو أعظم جرمًا وذنبًا- فتُقبل توبة من سب النبي من باب أولى، ولأنه وُجد في عهد النبي من سب النبي ، ولما تابوا؛ قَبل النبي عليه الصلاة والسلام منهم توبتهم، وكانوا عددًا، ليس واحدًا.

فقواعد وأدلة الشريعة تدل على قبول توبة من تاب مهما كان جرمه، أصول وقواعد الشريعة والأدلة تدل على قبول توبة من تاب، لا أحد يحول بين الناس وبين التوبة، فالأدلة تدل على قبول توبة من تاب؛ ولهذا لما ذكر الله تعالى الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]، هل هناك شيءٌ أعظم من هذا؟ والذين زعموا الولد لله ، قال بعد ذلك: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]، فالأدلة متضافرةٌ في قبول توبة من تاب، لكن للقضاة أن يجتهدوا إذا كثر السب في الناس، إذا كثر سب الله ​​​​​​​ وسب رسوله عليه الصلاة والسلام، وأرادوا الردع والزجر؛ فهذا مما يسوغ فيه الاجتهاد.

قال:

أو مَلَكًا له، وكذا من قذف نبيًّا أو أُمَّه، ويُقتل حتى ولو كان كافرًا فأسلم.

وما دمنا قد رجحنا قبول توبة من سب الله ؛ فكذلك في حال هؤلاء الذين ذكرهم المؤلف، من سب مَلَكًا، أو قذف نبيًّا أو أمه، فالقول الراجح: أنه تُقبل توبة هؤلاء جميعًا؛ للأدلة السابقة، ولأنه إذا قبلنا توبة من سب الله ؛ فقبول توبة هؤلاء من باب أولى، هذا هو الأظهر والأقرب والله أعلم في هذه المسألة.

وقوله: “حتى لو كان كافرًا فأسلم”، يعني: على رأي المؤلف يقول: لأن قتله حد قذفٍ فلا يسقط بالتوبة، وعلى القول الراجح تُقبل توبة من تاب مهما كان ذنبه، ومهما كان جرمه؛ لعموم الأدلة الدالة على ذلك، هذا هو الأظهر والله أعلم، ومع ملاحظة ما ذكرناه، فعند كثرة السَّبِّ في الناس؛ فللقضاة أن يأخذوا بالرأي الآخر في هذا.

وبهذا نكون قد انتهينا من أبرز المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب.

ولعلنا نجيب الآن عن الأسئلة، نبدأ بالأسئلة الشفهية حتى يهيِّئ الإخوان المكتوب:

الأسئلة

السؤال: بالنسبة لقوله: “وإن كتب كافر الشهادتين صار مسلمًا”، أليس -يا شيخ- الشهادة لا بد أن تكون بالظهور والإعلام…؟

الجواب: لا، هو أحيانًا يَكتب: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، يكفي هذا.

مداخلة: يكتبها -يا شيخ- أم يتلفظ بها؟

الشيخ: إذا كتبها وظهر ما يدل على إسلامه، يعني الكتابة تقوم مقام الخطاب، ولذلك يقع الطلاق بالكتابة إذا نواه.

مداخلة: مثل النجاشي، كتم إسلامه.

الشيخ: إي نعم مثله، صحيح، كتم إسلامه ومع ذلك صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام لما مات [20].

السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: ما هو ضابط الخروج على الإمام؟

الجواب: أولًا: لا بد أن يكون الإمام مسلمًا، يعني: إن كان غير مسلمٍ؛ فلا يدخل في الضوابط التي ذكرها العلماء، لا بد أن يكون مسلمًا، فإذا كان مسلمًا -حتى وإن كان فاسقًا- لا يجوز الخروج عليه، ما لم تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهانٌ [21]، كفرٌ صريحٌ عندكم فيه من الله برهانٌ، واشترط العلماء شرطًا مجمعًا عليه: وهو القدرة على ذلك، أما مع عدم القدرة؛ فلا يجوز الخروج؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: ما حكم الاكتتاب في أسهم شركة “أسمنت نجران” التي تُطرح في يوم السبت القادم؟

الجواب: هي ستُطرح الأسبوع القادم، لكن نشرة الإصدار تتأخر، فلعله -إن شاء الله تعالى- قُبَيل أن تُطرح للاكتتاب، العادة أننا نُنزل فيها فتوى في الموقع إن شاء الله تعالى، لعل الأخ يتابع معنا بعد الاطلاع على نشرة الإصدار؛ لأن نشرة الإصدار تتأخر، وتكون قُبيل الاكتتاب، فمتى نزلت نشرة الإصدار -إن شاء الله تعالى- سنُخرج فيها فتوى -بإذن الله ​​​​​​​– تُنشر في الموقع، وفي (تويتر) أيضًا.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: هل يسقط حق الله فيمن وجب عليه التعزير، إذا تاب قبل القدرة عليه؟

الجواب: نعم، إذا كان يسقط حق الله في الحدود؛ ففي التعزير من باب أولى، لكن بشرط: أن يوجد ما يدل على التوبة، ليس كل من زعم التوبة يُصدَّق، لا بد من وجود قرائن؛ إذا شهد له جيرانه بأنه مثلًا استقام على طاعة الله، وأصبح مثلًا من المحافظين على الصلوات الخمس مع الجماعة في المسجد، وصلحت حاله، فتُقبل توبته، أما مجرد الدعوى فلا تُقبل، فلا بد إذنْ من القرائن الدالة على توبته، سواءٌ في التعزير أو في الحدود.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: هل يجوز عزل الإمام إذا فسق…؟

الجواب: نعم، لكن هذا يرجع لأهل الحل والعقد، ومن لهم الشأن في هذا، لا يُجعل الأمر للعامة، هذا يتسبب في فتنٍ عظيمةٍ، لكن هذه مسائل تكلم عنها العلماء، وبيَّنوا أحكامها مفصلةً، وهي تدخل في باب السياسة الشرعية ومراعاة المفاسد والمصالح، والأصل عدم جواز الخروج إلا بالشروط المذكورة في الحديث، ومع القدرة على ذلك.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: ذكرتم في درسٍ سابقٍ أن المعلبات يوجد فيها مادةٌ يسيرةٌ من الخمر حتى لا تفسد، لكن النبي قال عن الخمر: إن الذي حرم شربها حرم بيعها [22]، ألا يدل الحديث على عدم جواز بيعها ولو يسيرةً؟

الجواب: المقصود باليسير، ليس اليسير القليل: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ [23]، المقصود باليسير: نسبةٌ مستهلكةٌ، هذه معفوٌّ عنها بالإجماع، نقل الإجماع غير واحدٍ من أهل العلم، ومنهم ابن تيمية؛ ولذلك ليس لأحدٍ أن يُنازع فيها، ولذلك تأتي مسألة: “من حرَّم الخبز -التي مرت معنا قبل قليلٍ- يكون مرتدًا”، وكذلك من حرم أمرًا مجمعًا على حِلِّه يُخشى عليه.

فلذلك مسألة الخمر هذه نسبةٌ مستهلكةٌ جدًّا لا أثر لها، مثل النسبة اليسيرة جدًّا من النجاسة في الماء الكثير، لو بال إنسانٌ في البحر هل ينجس البحر؟ ما ينجس بالإجماع، هذه نسبةٌ يسيرةٌ جدًّا، مستهلكةٌ، لا تكاد تُذكر، لأجل أن تُوضع مع المواد الحافظة، هذه غير مؤثرةٍ، أما لو كانت كثيرةً بحيث لو أكثر من شرب هذا المائع؛ لَسَكِر؛ فـ: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ.

ولهذا هذه التي توجد في المعلبات لا تكاد تُذكر، مستهلكةٌ، لكن قد يوجد في بعض الأدوية أحيانًا نِسَبٌ ليست مستهلكةً، انتبهوا لهذا، لا أريد أن أسمي أدويةً؛ حتى -كما يقال- لا تكون دعايةً لبعض الأمور، لكن يوجد في بعض أنواع الأدوية نِسَبٌ ليست مستهلكةً، وهذه فيها إشكالٌ من جهة حِلِّها بسبب كثرة نسبة الكحول.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: ما الفرق بين المنتهِب وقطاع الطريق؟

الجواب: مر معنا فيما سبق أن المنتهِب: هو من يأخذ المال جهرةً على سبيل النُّهبة والغلبة، أما قطاع الطريق: فهم الذين يتعرضون للناس، يتعرض للإنسان ويغصبه، يعني الفرق بينهما: أن النُّهبة تكون من شخصٍ عاديٍّ ليس له شوكةٌ وقوةٌ ومنعةٌ كبيرةٌ، قطاع الطريق لا، يكون معهم مثلًا سلاحٌ، يكون معهم أدواتٌ مثلًا حادةٌ، ونحو ذلك، هذا هو فالفرق بينهم، فرقٌ دقيقٌ.

فالنُّهبة: هي التي يأخذ فيها مباشرةً، لا يكون معه سلاحٌ يُهدِّده به؛ هذه نُهبةٌ، لكن الحِرابة نحن رجحنا أن تكون في الصحراء وفي البنيان، يكون معه سلاحٌ ناريٌّ، يأتي بمسدسٍ ويقول: سلِّم الذي معك وإلا قتلتك، هذه تُعتبر حرابةً، هذا هو الفرق بينهما.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: هل يُشترط في قطاع الطريق أن يكونوا جماعةً؟

الجواب: لا يُشترط، إنما حتى لو كان واحدًا، هذا هو الذي عليه العمل، كما مثلنا: لو أتى إنسانٌ لآخر في بيته وقال: سلِّم الذي معك وإلا قتلتك، ورفع عليه السلاح، هذا يُعتبر قاطع طريقٍ، وإذا قُبض عليه؛ يُقام عليه حد الحرابة.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: إذا كان محلِّل الزنا أو الخمر مرتدًّا؛ فماذا نقول عن الذي يُحِلُّ الغناء أو الاختلاط بأنواعه وغير ذلك؟

الجواب: من حلَّل أمرًا معلومًا تحريمه من الدين بالضرورة؛ فلا شك أنه يكفر، لكن بهذا القيد “أن يكون معلومًا تحريمه من الدين بالضرورة”؛ كتحريم الخمر وتحريم الزنا، الأمور المعلوم تحريمها من دين الإسلام بالضرورة، فلا شك أن هذا يكفر.

أما إذا كان ليس معلومًا تحريمها بالضرورة، فيكون فيها مثلًا خلافٌ بين العلماء أو نحو ذلك، ولو خلافًا يسيرًا، فإنه لا يكفر؛ لأن القول بالكفر ليس من الأمور الهينة، أمرٌ صعبٌ، والأصل في المسلم الإسلام، وهذا هو اليقين، لا نزول عن هذا اليقين إلا بأمرٍ آخر متيقَّنٍ يزول عنه به وصف الإسلام.

ينبغي للمسلم ألا يتشوَّف لتكفير الناس، يعني: يُنكَر على من فعل ذلك، لكن لا يكون عنده هذا التشوف وهذا النَّفَس في التكفير وفي التشوف للتكفير، والشيطان قد يَؤز الإنسان لهذا، بعض الناس ربما يجد نفسه مندفعًا لمثل هذه الأمور، وأنت لن تُسأل في قبرك: هل كفرت فلانًا أو فلانًا، لن تُسأل عن هذا؛ ولهذا فالسلامة لا يعدلها شيءٌ، فمن لم يكن كفره واضحًا صريحًا كالشمس؛ فالورع ترك الخوض في تكفيره؛ لأن الإنسان قد يُخطئ فيقع في أمرٍ عظيمٍ، ومن قال لأخيه: يا كافر، فإن كذلك؛ وإلا حار عليه [24]، يعني: رجع عليه.

المقصود: أن المسلم، وطالب العلم على وجه الخصوص، ينبغي ألا يكون عنده تشوُّفٌ للتكفير.

وأنا ألاحظ من أسئلة بعض الناس: هل يكفر من قال كذا؟ هل نُكفِّر؟ ما أصل هذا النَّفَس؟ لن تُسأل: هل كفرت فلانًا أم لا؟ نُكفِّر من كان كفره واضحًا صريحًا، أما مَن كان ليس واضحًا ولا صريحًا: فالورع ترك تكفيره مع الإنكار عليه فيما يُجاهر به من بعض الأمور.

السؤال: أحسن الله إليك، هذا سائلٌ يقول: ما حكم من سجد لصنمٍ على وجه التمثيل، هل يرتد بذلك؟

الجواب: نعم، إذا سجد لصنم ولو على وجه التمثيل فإنه يكفر؛ لأن هذا أمرٌ عظيمٌ، كونه يسجد لغير الله ؛ لأن هذا الفعل والسجود خضوعٌ لا يكون إلا لله سبحانه، ولا يجوز التمثيل بمثل هذا السجود لغير الله ، وقول بعض الناس: إنه إذا سجد لا بد أن يكون مستحلًّا ومعتقدًا، ونحو ذلك، هذا كله غير صحيحٍ، الصواب: أنه متى ما سجد لغير الله ؛ فإنه يكون كافرًا مرتدًّا.

السؤال: أحسن الله إليك، هذا سائلٌ يقول: من سب رسول الله أليس الواجب عدم قبول توبته؛ لأننا لا ندري هل يعفو رسول الله أم لا؟ وأما عفوه عمن سَبَّه حال حياته فإنه قد عفا عنه، لكن الآن لا…؟

الجواب: هذا رأي أبي العباس ابن تيمية رحمه الله، وهذه الوجهة التي ذكرها الأخ هي وجهة ابن تيمية رحمة الله عليه، ولكن إن كنا قبلنا توبة من سبَّ الله تعالى؛ فكيف لا نقبل توبة من سب رسول الله ؟! وأما قوله: لا ندري هل عفا أم لا؟ يظهر أنه لا يُسلَّم بهذا؛ وذلك لأن النبي في حياته عفا عن أناسٍ سبوه، فالحق العام هو أنه تُقبل توبة من سبَّ الله تعالى، أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام إذا تاب، يبقى حق النبي عليه الصلاة والسلام له في الآخرة، أما أن نقتله؛ فالمسألة تحتاج إلى دليلٍ واضحٍ، فلا يظهر أن هذا التعليل كافٍ للقول بعدم قبول توبته وقتله.

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، لا شك، لا بد من التعزير حتى يكون على الأقل ردعًا لغيره.

مداخلة: …..

الشيخ: القتل يصعب في مثل هذا، إذا أعلن أنه تاب؛ فهنا لا يُقتل، إذا تاب؛ فإنه لا يُقتل، لكن يُعزَّر بغير هذا.

السؤال الأخير: أحسن الله إليك، يقول: ألا يُعد من قذف نبيًّا مكذِّبًا للقرآن؟

الجواب: من قذف نبيًّا لا شك أنه يكفر، لا خلاف في هذا، من قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كفر بالإجماع؛ لأنه مكذبٌ للقرآن، لكن الكلام إذا تاب وأعلن توبته، البحث في هذا: هل تُقبل أم لا، قضاءً؟ أما فيما بينه وبين الله فإنها تُقبل.

يا إخوان، أيضًا ننبِّه إلى مسألةٍ: وهي أن بعض الناس ممن يقعون في السب والردة، عندهم أمراضٌ نفسيةٌ، وبعض الأطباء النفسانيين أخبرونا قالوا: إن بعض المرضى النفسيين عندهم شيءٌ يسمونه: ضلالات، أعرف من بعض المرضى النفسيين من تأتيه ضلالاتٌ، قد يدَّعي أحيانًا النبوة، قد يسب، يشتم، قد يسب الله، يسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا مريضٌ نفسيٌّ، فهذا لا يؤاخذ، هذا حصل من بعض الذين سمعنا عنهم، ونُقل كلامهم، ورأيت كلام بعضهم في (اليوتيوب)، واضحٌ من مظهره أنه مريضٌ نفسيٌّ، فمثل هذا ينبغي ألا يُتناقل الحديث عنه؛ لأنه أحيانًا بعض الناس ينقل حديث فلانٍ ويتكلم عنه، ويجعل في هذا دعاية له، فمثل هؤلاء المرضى النفسيين يُفترض أن يُذهب بهم إلى المصحات النفسية، ولا يكون عندنا ردة فعلٍ من هؤلاء؛ لأن هذا مريضٌ نفسيٌّ، هذا أشبه بالمجنون، إنما الكلام عن الإنسان السوي الذي يحصل منه هذا السب، فهذا هو الذي فيه كلام أهل العلم، إنسانٌ ما عُرِف باضطراباتٍ ولا بأمراضٍ نفسيةٍ.

فأقول: كثيرٌ ممن يقعون في مثل هذه الأمور عندهم أمراضٌ نفسيةٌ، وأنا قد قابلت رجلًا في مرةٍ من المرات يدَّعي النبوة، وعرفت أنه مريضٌ نفسيٌّ، فلم آبه بكلامه، وإذا تركت هذا المريض النفسي يترك الأمر، وهو أحيانًا يريد لفت النظر والانتباه، عنده ضلالاتٌ، وعنده بعض الأشياء النفسية، هذه ينبغي أن نضعها في الاعتبار، فنتأكد أولًا من أن هذا الشخص سويٌّ، ثانيًا: إذا تأكدنا أنه سوي؛ يأتي كلام العلماء في حكم من سب الله تعالى أو سب رسوله ، أو سب الدين، أو نحو ذلك.

مداخلة: …..

الشيخ: قلنا: إن أعمال من ارتد ثم رجع لا تحبط إلا بالموت، إذا مات على الردة، وما دام أنه رجع فما يلزمه أنه يحج مرةً أخرى؛ لأن الله تعالى شَرَط في حبوط العمل بالردة الموت: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217]، بنصِّ الآية لا بد أن يموت على الردة، وإلا إذا رجع؛ أعماله الأولى مقبولةٌ وصحيحةٌ.

السؤال: أحسن الله إليك، هل الخروج على الحاكم لا يكون إلا بالسيف؟

الجواب: لا، قد يكون بالسيف، وقد يكون بغير السيف.

مداخلة: …..

الشيخ: نوعٌ من الخروج، نعم.

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، ليس بالقتال، وإنما -كما ذكر العلماء- أولًا بالمراسلة، بالحوار، يعرف ما عندهم، ويتكلم معهم، بالأسهل فالأسهل.

مداخلة: …..

الشيخ: كيف يعني؟

مداخلة: …..

الشيخ: لا بد، وهذا هو الذي عليه العمل الآن، القضاة عندما يؤتى لهم بشخصٍ يُدَّعي عليه الردة، يُحِيلونه أولًا لطبيبٍ نفسيٍّ يتأكد من أنه سويٌّ؛ لأن كثيرًا من المرضى النفسيين عندهم هذه النقطة يُسمونها “ضلالات”، أحيانًا يَدَّعي النبوة، أحيانًا يَدَّعي أمورًا عظيمةً، بسبب أن عنده هذه المشكلة: مشكلة الضلالات، أحيانًا يكون فيه مسٌّ، وأحيانًا لا يكون فيه مسٌّ، مريضٌ نفسيًّا، فعنده ضلالاتٌ، فالقضاة الآن في المحاكم يُحيلونه أولًا للطبيب النفسي، فإذا قال: إنه مريضٌ نفسيًّا؛ لا يُؤاخذ، أما إذا قال: إنه سويٌّ، هذا هو الذي يُؤاخذ.

مداخلة: …..

الشيخ: حتى المسلم الجديد يسأل يقول: هل يغتسل؟ حتى المسلم الجديد لا يجب عليه الاغتسال؛ لأن الداخلين في الإسلام كُثُرٌ، ولم يُنقل أن النبي أمر كل من دخل في الإسلام بالاغتسال، إنما أمر عددًا محدودًا من الصحابة ، ثُمَامة بن أُثَالٍ وعددًا محدودًا [25]، فلا يجب الاغتسال، وإنما يُستحب في حق كل من أسلم، سواءٌ كان كافرًا أصليًّا أو مرتدًا، على وجه الاستحباب وليس على سبيل الوجوب.

مداخلة: …..

الشيخ: هذه تأتينا في الشهادات، من تُقبل شهادته ومن لا تقبل شهادته، فشهادة مثلًا الابن لأبيه لا تُقبل، شهادة الزوج لزوجته لا تُقبل، تحكمها القواعد التي ذكرها العلماء في أبواب الشهادات.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 6823، ومسلم: 2764.
^2 رواه أبو داود: 4261، وابن ماجه: 3958، وأحمد: 21325، بنحوه.
^3 رواه مسلم: 140.
^4 رواه البخاري: 7292، ومسلم: 593.
^5 رواه مسلم: 1852.
^6 رواه أبو داود: 2609، والبيهقي: 10649.
^7 رواه البخاري: 3501، ومسلم: 1820، بلفظ: ‌لا ‌يزال ‌هذا ‌الأمر ‌في ‌قريش ‌ما ‌بقي منهم ‌اثنان.
^8 رواه أبو داود الطيالسي: 968، وأحمد: 19777.
^9 رواه البخاري: 6830، بنحوه.
^10 رواه البخاري: 4425.
^11 رواه البخاري: 693، بنحوه.
^12 رواه البخاري: 7055.
^13 رواه البخاري: 2528، بنحوه.
^14 رواه مسلم: 132، بنحوه.
^15 رواه مسلم: 134.
^16 رواه النسائي في السنن الكبرى: 10422.
^17 رواه مالك: 1/ 560.
^18 رواه البخاري: 3017.
^19 ينظر الاستيعاب لابن عبدالبر: 3/ 603.
^20 رواه البخاري: 1245، ومسلم: 951.
^21 رواه البخاري: 7055، بنحوه.
^22 رواه مسلم: 1579.
^23 رواه أبو داود: 3681، والترمذي: 1865، وابن ماجه: 3393، وقال الترمذي: حسن غريب.
^24 رواه مسلم: 61.
^25 أمر النبي ثمامة بالاغتسال: رواه أحمد: 8037، وأمر به قيس بن عاصم : رواه الترمذي: 605، وحسنه، والنسائي: 188، وأحمد: 20611.
zh