logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(103) كتاب التعزير- من قوله: “يجب في كل معصية لا حد فيها ولا..”

(103) كتاب التعزير- من قوله: “يجب في كل معصية لا حد فيها ولا..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

كتاب التعزير

قال رحمه الله:

كتاب التعزير

تعريف التعزير

“التعزير” معناه في اللغة: المنع، ومنه التعزير بمعنى: النصرة: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]، يعني: وتنصروه؛ وذلك لأنه يمنع المُعادي من الإيذاء.

وأما تعريفه اصطلاحًا، فأحسن ما قيل في تعريفه يمكن أن يُستفاد من كلام المؤلف.

المؤلف قال:

يجب في كل معصيةٍ لا حَدَّ فيها ولا كفارة.

وأحسن ما قيل في تعريفه: أنه التأديب في كل معصيةٍ لا حد فيها ولا كفارة، وهذا هو تعريف المجد ابن تيمية في “المحرر”، واختاره الشيخ بكر أبو زيدٍ، رحمة الله على الجميع، في كتابه “الحدود والتعزيرات”، عند ابن القيم اختار هذا التعريف.

إذنْ التأديب في كل معصيةٍ لا حد فيها ولا كفارة، وبهذا عندما نقول: “التأديب”؛ فمعنى ذلك: أنه لا ينحصر في عقوبةٍ معينةٍ، بل يشمل كل ما من شأنه التأديب؛ كأن يُلزمه مثلًا بتنظيف المسجد، أو يُلزمه بالعمل مثلًا في مكتب الدعوة والإرشاد، أو يُلزمه بحفر قبورٍ، أو يُلزمه بأي عملٍ يكون فيه فائدةٌ للمجتمع، وفيه توجيه رسالةٍ لهذا المعزَّر بأنه قد أخطأ وقصَّر، فالغرض من التعزير ليس هو الانتقام؛ إنما إصلاح هذا المعزَّر، فهو تأديبٌ.

بل إن السجن لم يكن أصلًا موجودًا في عهد النبي ، ولا في عهد أبي بكرٍ ، وإنما استحدثه عمر لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، واحتاج إلى حبس بعض من يرتكبون الجرائم، وهذا يدل على أنه يمكن أن يُستبدل السجن بعقوباتٍ أخرى يحصل بها المقصود؛ لأنه أحيانًا حبس هذا الذي ارتكب معصيةً قد لا يكون مؤديًا للمقصود.

ومن أحسن أنواع التعزيرات كما بلغني عن بعض القضاة، وهذا ربما يكون في الجرائم غير الكبيرة؛ كأن يُقبض عليه يُعاكس النساء أو نحو ذلك، أو مثلًا يُبلَّغ عنه أنه لا يُحافظ على الصلاة: الإلزام بالمحافظة على صلاة الفجر في المسجد مدةً معينةً، أحد القضاة حكم بالسجن أو الجلد، أو أن يأتي بورقةٍ من إمام المسجد بأنه قد حافظ على صلاة الفجر لمدة ثلاثة أشهرٍ مثلًا، ولا شك أنه سيختار الثاني، وإذا اعتاد على المحافظة على صلاة الفجر هذه المدة؛ فإنه سوف يألفها، سوف يكون ذلك سببًا لصلاحه واستقامته.

فإذنْ التعزير لا ينحصر في عقوبةٍ معينةٍ، ولا نقول حتى: إن الجلد أصلٌ فيه، ليس الجلد ولا السجن أصلًا فيه، بل هو يشمل التأديب بجميع صوره.

قال: “يجب في كل معصيةٍ لا حَدَّ فيها ولا كفارة”.

أما ما كان فيه حَدٌّ فيجب إقامة الحد كما ورد، وكذلك ما كان فيه كفارةٌ، فتكون فيه الكفارة الواردة.

التعزير حقٌّ من حقوق الله تعالى؛ فلا يشترط فيه مطالبة المجني عليه

قال:

وهو من حقوق الله تعالى.

التعزير من حقوق الله ، وليس من حقوق الآدميين.

لا يحتاج في إقامته إلى مطالبةٍ.

لأنه ليس من حقوق الآدميين.

إلا إذا شتم الولد والده، فلا يُعزَّر إلا بمطالبة والده.

يعني استثنوا هذه المسألة، قالوا: إن شتم الولد لوالده، هو حقٌّ لله ، لكن مع ذلك لا بد من أن يُطالب الوالد بتعزير ولده.

ففيها حقَّان: حقٌّ لهذا الوالد، وحقٌّ لله .

لا يعزَّر الوالد بحقوق ولده

ولا يُعزَّر الوالد بحقوق ولده.

لو أن الولد اشتكى أباه أو أمه؛ فإنه لا تُسمع الدعوى أصلًا؛ لقول النبي : أنت ومالك لأبيك [1]، ولقوله : إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [2]، وهذا من حيث الأصل، ولكن قد يكون في بعض الحالات التي يكون فيها ظلمٌ كبيرٌ وتَعَدٍّ وإجرامٌ، تُسمَع، ويُعزَّر، كما وُجد في الوقت الحاضر من يعذب أطفاله، ومن يَقتل حتى أطفاله من الآباء والأمهات، فمثل هؤلاء لا يُتركون بحجة أنه لا يُعزَّر الوالد بحقوق ولده، إذا وصلت إلى الظلم الكبير ومستوى الجريمة؛ فالقول الصحيح: أنه يُعزَّر، أما في الأشياء التي تدخل في التأديب والأشياء اليسيرة، فلا يُعزَّر الوالد بحقوق ولده.

لا يزاد في جلد التعزير على عشرة أسواطٍ

ولا يُزاد في جلد التعزير على عشرة أسواطٍ.

يعني: من صور عقوبة التعزير قلنا: الجلد، ولكن المؤلف يقول: إنه لا يُزاد فيه على عشرة أسواطٍ، وهذا هو قول الجمهور؛ وذلك لحديث أبي بردة أن النبي  قال: لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله [3]، متفقٌ عليه؛ وبناءً على ذلك: فإن أقصى ما يكون في العقوبة التعزيرية بالنسبة للجلد: هو عشر جلداتٍ، هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول جماهير أهل العلم؛ لهذا الحديث.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز أن يُزاد في التعزير على عشر جلداتٍ في كل معصيةٍ من معاصي الله ​​​​​​​، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم، بل إن ابن تيمية رحمه الله قال: إنه يجوز أن يصل التعزير إلى حد القتل، وهذا هو الذي عليه العمل عندنا هنا في المملكة؛ أنه يجوز أن يُزاد في التعزير على عشر جلداتٍ، وأنه يصل إلى حد القتل؛ ولذلك تسمعون أحيانًا يقال: حُكم بقتله تعزيرًا، أخذًا بالرأي الثاني، وإلا فالرأي الأول، المذهب عند الحنابلة: أنه لا يُزاد على عشر جلداتٍ، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن المقصود بالتعزير: هو التأديب، والتأديب لا حد له، فتجوز الزيادة على عشر جلداتٍ، ويدل لذلك عدة أدلةٍ؛ منها: قول النبي : من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه [4]، كذلك أَمَر بقتل الجاسوس [5]، وكذلك أيضًا وردت آثارٌ عن الصحابة في هذا، وقال ابن تيمية رحمه الله: “إن هذا هو أعدل الأقوال، وقد دلَّت عليه سنة رسول الله ، وسنة الخلفاء الراشدين”، وذكر آثارًا عن السلف؛ ومنها: ما ورد عن عمر أنه كان يزيد في التعزير على عشر جلداتٍ، ومن ذلك: ضربه لصَبيغ بن عِسْلٍ لمَّا كان يأتي ويُشكِّك الناس، يقول: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]، ويضرب آيات القرآن بعضها ببعضٍ، فبلغ ذلك عمر  فقال: اللهم أمكني منه، ثم إن عمر وجده، وقيل: إن هذا هو صَبيغٌ، فضربه عمر على رأسه ضربًا شديدًا، حتى قال: والله -يا أمير المؤمنين- لا أجد شيئًا كنت أجده من قبل، يعني: ذهب هذا كله، ثم حلق رأسه، ونفاه إلى العراق، وقال: “اذهب فقل للناس: إن صَبيغًا التمس العلم فأخطأ”، فلم يظهر في عهد عمر أهل بدعٍ ولا خرافاتٍ، ولا يجرؤ أحدٌ على ذلك؛ لهيبة عمر وقوته في الحق؛ فدل ذلك على أنه لا بأس بالزيادة في التعزير بما يُناسب المعصية.

وأما قول النبي : لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله [6]، فالمقصود بالحد هنا: المعصية، كما فسَّر ذلك أبو العباس ابن تيمية وابن القيم، قالا: إن المقصود بالحد من حدود الله ليس معناه الاصطلاحي عند الفقهاء، وإنما المقصود به: إلا في معصيةٍ من معاصي الله؛ فإن الحدود تُطلق على المعاصي.

ومعنى الحديث: أنه لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ في غير معصية الله، يعني: في التأديب لغير معصية الله، مثال ماذا؟ التأديب لغير معصية الله؛ ضرب المعلم مثلًا للطالب، أو إدارة المدرسة للطالب، لا يجوز أن يُزاد فيها على عشرة أسواطٍ، ضرب الأب أو الأم لولدهما، لا يجوز أن يُزاد فيه على عشرة أسواطٍ، ضرب الزوج لزوجته الناشز لا يجوز أن يُزاد فيه على عشرة أسواطٍ، كل هذه لا تجوز الزيادة فيها على عشرة أسواطٍ؛ لأن المقصود منها التأديب، ليس المقصود منها الانتقام، فإذا زادت على عشرة أسواطٍ؛ فهذا يدل على أنه ليس المقصود التأديب، يعني أصبح الأب لا يريد تأديب ولده، والزوج بالنسبة لزوجته، والمعلم بالنسبة للطالب، أو إدارة المدرسة بالنسبة للطالب.

فإذنْ هذه الأمور كلها لا تجوز الزيادة فيها على عشر جلداتٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: نشوز الزوجة هو معصيةٌ، لكن متعلقةٌ بحق الزوج، والحديث: إلا في حدٍّ من حدود الله تعالى، فالمقصود: إلا في معصيةٍ متعلقةٍ بحق الله ​​​​​​​، أما نشوز الزوجة فمتعلِّقٌ بحق الزوج، هذا هو الأقرب في هذا.

ثم أيضًا جلد الزوج زوجته أكثر من عشرة أسواطٍ هذا مبرِّحٌ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: فإن عصينكم؛ فاضربوهن ضربًا غير مبرِّحٍ [7]، لا شك أن أكثر من عشر جلداتٍ يُعتبر مبرحًا.

مداخلة: ……

الشيخ: يظهر أنها من قَبيل التعزير، الأقرب أنها من قبيل التعزير، ليست خاصةً بتلك العقوبات، وإنما هي من قبيل التعزيرات، هذا هو الأقرب في هذا، لكن أيضًا مع ترجيحنا للقول الثاني، إلا أن القول الأول له قوته، ليس قولًا ضعيفًا؛ ولهذا لا ينبغي أيضًا أن يبالغ في الجلد، وما نسمعه الآن من الجلد بالألوف: أربعة آلافٍ، خمسة آلافٍ، ستة آلافٍ، الذي يظهر أن هذا مخالفٌ للسنة، هذا ليس له أصلًا، ولا أعلم أن له أصلًا، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الآثار عن الصحابة  أو التابعين، يظهر أن هذا وُجد في العصور المتأخِّرة، وفيه أيضًا تشويهٌ للإسلام.

أذكر أني كنت في دورةٍ شرعيةٍ في إحدى البلدان في الغرب، وكان قد أُثير في الصحافة لديهم، قالوا: هذا هو الإسلام؟! وأتوا بحكمٍ قضائيٍّ نُشر في الصحف عندنا: ستة آلاف جلدةٍ، ثم أيضًا تكرار الجلد، هل فيه فائدةٌ بهذه الطريقة؟ يعني لو مثلًا جُلِدَ مئة جلدةٍ، ثم جُعلت عقوباتٌ أخرى غير الجلد من شأنها إصلاح هذا الشخص المعزَّر، أكثرُ ما ورد في الجلد مئة جلدةٍ، هذا أكثر ما ورد في حد ماذا؟ الزاني غير المحصن، مئة جلدةٍ، لكن يمكن أن نقول: مئتي جلدةٍ في هذه الحدود، لكن تصل إلى الألوف؟! يظهر أن هذا ليس له أصلٌ.

مداخلة: ……

الشيخ: هم يقولون: ستة آلافٍ طبعًا، ليس في وقتٍ واحدٍ، في أوقاتٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: تُوزَّع، لكن مثل هذا لا ننسبه للإسلام، نقول: ليس هناك دليلٌ يدل على مثل هذا، كما ذكرنا الجلد ليس أصلًا في التعزير، الجلد ليس أصلًا في التعزير، وإنما هو عقوبةٌ من عقوبات التعزير.

حكم الرجل إذا وطئ أمةً له فيها شِركٌ

قال:

إلا إذا وَطِئ أَمَةً له.

هذا استثناءٌ من هذا الحكم الذي قرره المؤلف، استثنى مسألتين وردت فيهما آثارٌ عن بعض الصحابة .

إلا إذا وَطِئ أَمَةً له فيها شِركٌ، فيُعزَّر بمئة سوطٍ إلا سوطًا.

يعني: تسعة وتسعين سوطًا، وهذا قد رُوي عن عمر فيمن وَطِئ جاريةً له فيها شِركٌ، يعني: مشتركةٌ بينه وبين غيره، لا يجوز أن يطأها، لكن لا نعتبره مثل الزاني، وإنما يُعزَّر بتسعةٍ وتسعين جلدةً.

حكم من شرب مسكرًا في نهار رمضان

وإذا شرب مسكرًا نهار رمضان؛ فيُعزَّر بعشرين مع الحد.

وذلك لفعل عليٍّ لما ضرب النجاشي، كما في “مسند الإمام أحمد” وغيره، وهذه الآثار تدل على ترجيح القول الثاني، وعلى أن التعزير يجوز أن يزاد فيه على عشر جلداتٍ، فهذا المروي عن عمر وعن عليٍّ رضي الله عنهما يدل على جواز الزيادة على عشر جلداتٍ.

الحنابلة لما أُورِد عليهم هذه الآثار؛ استثنوها، وهذا مما يُضعف هذا القول، وسبق أن ذكرت في دروسٍ سابقةٍ: أن من علامة القول الراجح قِلَّة وُرُود المستثنيات عليه، وسهولة فهمه، وسهولة تطبيقه، ومن علامة القول المرجوح: كثرة الاستثناءات الواردة عليه، وصعوبة فهمه، وصعوبة تطبيقه، هذه فائدةٌ ذكرها الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله.

فإذا وجدت قولًا فيه صعوبةٌ في فهمه وتطبيقه، أو أن الاستثناءات عليه كثيرةٌ؛ فهذا قرينةٌ على أنه مرجوحٌ، أما الراجح فسهلٌ في الفهم والتطبيق، وتقل الاستثناءات عليه.

ولا بأس بتسويد وجه من يستحق التعزير، والمناداة عليه بذنبه.

قلنا: هذا يرجع للمسألة التي ذكرناها: أن التعزير لا ينحصر في عقوبةٍ معينةٍ، فيمكن أن يُعزَّر بما ذكره المؤلف، أو بأخذ التعهد عليه، أو نحو ذلك، وللقاضي أن يختار، يختار القاضي العقوبة المناسبة.

مداخلة: ……

الشيخ: لا؛ لأنها ربما تكون كلها من قَبيل التعزير، إذنْ على القول الراجح تكون كلها تعزيرًا.

مداخلة: ……

الشيخ: لأنه أراد أن يجلد عن الفطر في نهار رمضان، غير شرب المسكر، فشرب المسكر معصيةٌ، والفطر في رمضان معصيةٌ أخرى.

مداخلة: ……

الشيخ: هم اعتبروه حدًّا، وأصحاب القول الثاني يعتبرونه تعزيرًا.

حكم التعزير بحلق اللحية

قال:

ويحرم حلق لحيته.

يعني: يحرم التعزير بمعصيةٍ، ومن ذلك التعزير بلحق لحيته؛ لأن حلق اللحية محرمٌ بالإجماع، فيحرم التعزير به.

حكم التعزير بأخذ المال

قال:

وأخذ ماله.

يعني: يحرم التعزير بأخذ المال، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

المذهب عند الحنابلة: أنه يحرم التعزير بأخذ المال، وعلى مذهب الحنابلة الغرامات في (ساهر)، والغرامات المرورية، كلها لا تجوز؛ لأنه لا يجوز التعزير بأخذ المال، وهذه المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم:

فالقول الأول: أنه لا يجوز التعزير بأخذ المال، وهو قول الجمهور؛ قالوا: لأن الشرع لم يَرِد بشيءٍ من ذلك، والأصل حرمة مال المسلم، وقد قال النبي : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ [8]، وقال: لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبةٍ من نفسه [9]، فقالوا: هذه نصوصٌ محكمةٌ تدل على حرمة مال المسلم، فلا يجوز التعزير بأخذ ماله.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز التعزير بأخذ المال، وهذا القول هو روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم، وعليه الفتوى، وعليه العمل أيضًا، يعني: جميع الغرامات من باب التعزير بأخذ المال، جميع الغرامات الآن في الأنظمة كلها، أنظمة المرور وغيرها، والإقامة، كلها من قَبيل التعزير بأخذ المال.

واستدلوا لذلك بآثارٍ عن الصحابة :

أولًا: بحديث أنسٍ عن أبي طلحة قال: يا رسول الله، إني اشتريت خمرًا لأيتامٍ، فقال: أَهْرِق الخمر، واكسر الدِّنَان، قال النبي : أَهْرِق الخمر، واكسر الدِّنان [10]، رواه الترمذي والدارقطني، وإسناده صحيحٌ، وأصله في “صحيح مسلمٍ”.

فهذا من باب التعزير بأخذ المال، وقد كان بإمكانه أن يقول: أهرق الخمر، واستفد من الدِّنان ببيعها، ونحو ذلك، لكن كسر أوعية الخمر فيه نوعٌ من التعزير بإتلاف المال، وإذا جاز إتلاف المال؛ جاز التعزير بأخذ المال، ومن ذلك: هدم مسجد الضرار، وتضعيف الغُرم على من سرق من غير حِرزٍ، وكذلك أيضًا قول النبي فيمن أخَّر دفع زكاة ماله: إنا آخذوها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا [11]، إلى غير ذلك من الآثار المروية في السنة وعن الصحابة .

وقال ابن تيمية رحمه الله: إن هذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة ، وانتصر لهذا القول.

وهذا القول -كما ذكرت- هو الذي عليه العمل، وهو الذي عليه الفتوى، وهو الأصل للغرامات كلها، الغرامات التي تُؤخذ على المخالفات المرورية وعلى غيرها هي من قَبيل التعزير بأخذ المال.

الألفاظ الموجبة للتعزير

فصلٌ
ومن الألفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره:

سبق أن تكلمنا عن القذف وألفاظ القذف، والصريح والكناية والتعريض، تكلمنا عن ذلك في باب القذف مفصَّلًا، لكن إذا كان بألفاظ غير ألفاظ القذف ففيها التعزير.

مداخلة: ……

الشيخ: عندي النسخة المحققة، نسخة أبي قتيبة الفريابي.

مداخلة: ……

الشيخ: في بعض النسخ يمكن.

ومن الألفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره: يا كافر، يا فاسق، يا فاجر، يا شقي، يا كلب، يا حمار، يا تَيْس، يا رافضي، يا خبيث، يا كذاب.

هذه كلها ألفاظٌ موجبةٌ للتعزير، فإذا تكلم شخصٌ على آخر بهذه الألفاظ أو بنحوها؛ فإنه يُعزَّر بما يناسب تلك العقوبة، وقد تكون مثلًا تستوجب الجلد، وقد تكون مجرد أخذ تعهدٍ، وقد تكون بحبسه مثلًا يومًا، أو ساعاتٍ، أو نحو ذلك، يُعزَّر بما يناسب المقام.

وهكذا لو قال:

يا خائن.

مثلًا أو:

يا قَرْنان. 

“يا قَرْنان” قال ثعلبٌ من أهل اللغة: “لم أرَه في كلام العرب -يعني هذا اللفظ- ومعناه عند العامة مثل الديوث”، فالقَرْنان إذنْ بمعنى الديوث، ويبدو أيضًا أنه ليس في وقتنا الحاضر شائعًا، يبدو في زمن المؤلف أنه بمعنى الديوث، والديوث: هو الذي يقر الخبث في أهله، يعني ليس عنده غَيرةٌ على محارمه، يقر الخبث في أهله.

يا قواد.

القواد: هو السمسار في الزنا، ولا يزال هذا المصطلح يستخدم بهذا المعنى إلى وقتنا الحاضر، القواد والقوادة: هو السمسار في الزنا، يعني: الوسيط بين الزاني والمزني بها.

يا ديوث.

قلنا: الذي ليس عنده غيرةٌ على محارمه.

يا علق.

والعلق بمعنى الديوث.

ولو أتى بلفظٍ من الألفاظ الموجودة عند العامة؛ فكذلك أيضًا يُعزَّر على مثل هذه الألفاظ، والإنسان مسؤولٌ عن كلامه، وسبق أن تكلمنا عن هذا في باب القذف، وقلنا: الكلمة التي يتكلم بها الإنسان مسؤولٌ عنها في الدنيا والآخرة، فليس للإنسان أن يُطْلِق لسانه ويجرح الناس بكلامه ويبقى بدون محاسبه، فإذا طلب المقذوف -حتى بغير ألفاظ الزنا- معاقبته؛ فإنه يُعاقب بالعقوبة المناسبة، إن كانت ألفاظ قذفٍ؛ فيقام عليه حد القذف، إن كان غير القذف؛ فيكون بالتعزير، لو قذفه بالبدعة، قال: إن فلانًا مبتدعٌ، ثم أقام عليه دعوى هذا المقذوف، ولم يستطع القاذف أن يقيم البينة على أن فلانًا مبتدعٌ، فما الحكم؟ كذلك يُعزَّر بما يراه القاضي؛ إما بجلدٍ أو بسجنٍ أو بما يراه القاضي من العقوبة المناسبة.

إذنْ فكل لفظٍ قبيحٍ يَقذف به الإنسان آخر، فإنه يُعزَّر، لكن لا بد من مطالبة المقذوف بالعقوبة.

حكم أن يُقال للذمي يا حاج

قال:

ويُعزَّر مَن قال لذميٍّ: يا حاج.

إذا قال للكافر عمومًا، سواءٌ كان ذميًّا أو غيره: يا حاج، فإنه يُعزَّر؛ وذلك لما فيه من تشبيههم في قصدهم كنائسهم ونحوها بمن يُقصد بيت الله تعالى، فإذا وُجد مثلًا نصرانيٌّ يذهب إلى كنيسته، وقال له: يا حاج، يُعزَّر؛ لأنه شبَّه الكنيسة ببيت الله .

حكم لعن الذمي بلا موجبٍ

أو لعنه بغير موجبٍ.

إذا سبَّه بغير سببٍ؛ فيُعزَّر.

ويُفهم من كلام المؤلف: أنه إذا لعنه بموجبٍ؛ فلا يُعزَّر، فما الذي يوجب اللعن؟

أولًا: إذا كان على سبيل المقابلة؛ فله ذلك؛ لقول النبي : المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم [12]، أخرجه مسلمٌ في “صحيحه”.

حتى لو كان بصيغة اللعن، لو أن رجلًا قال لآخر: لعنك الله، قال: بل لعنك الله أنت، طبعًا المبتدئ، لا إشكال فيه أنه آثمٌ، ومرتكبٌ لكبيرةٍ، لكن الشخص الذي ردَّ عليه هل يأثم؟ لا يأثم؛ لقول النبي : المستبان ما قالا، فعلى البادئ يعني: الإثم كله على البادئ، لكن لو أنه لما سبَّه؛ سبه وسب والديه، هنا يأثم؛ ولهذا قال: مالم يعتد المظلوم، والأحسن ألا يقابل السِّباب بمثله، فإذا سبه؛ فالأحسن أن يعرض عنه، وهناك درجةٌ أعلى من الإعراض عنه، وهي ماذا؟ مقابلة السيئة بالحسنة، لكن مقابلة السيئة بالحسنة هذه خصلةٌ رفيعةٌ؛ ولهذا قال الله : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، يعني: تنقلب عداوته إلى صداقةٍ، لكن ليست صداقةً تامةً؛ ولهذا: كَأَنَّهُ، لكن هذه الخصلة صعبةٌ على النفوس جدًّا؛ ولهذا قال: وَمَا يُلَقَّاهَا يعني: هذه الخصلة، وهي دفع السيئة بالحسنة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، تحتاج إلى صبرٍ؛ لأن الشيطان يُري الإنسان أنها ذلةٌ وضعفٌ، ليس كلٌّ يصل لهذه المرتبة، تحتاج إلى صبرٍ عظيمٍ، وَمَا يُلَقَّاهَا يعني: ما يُلقَّى هذه الخصلة إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، يعني: ذو نصيبٍ وافرٍ من الأخلاق الحسنة، يعني: إنسانٌ ارتقى إلى منزلةٍ عليَّةٍ من الخلق الحسن، فهي من المراتب العالية جدًّا، دفع السيئة بالحسنة، وتليها مرتبة الإعراض عن الجاهلين، تليها مرتبة مقابلة السيئة بمثلها، فهي ثلاث مراتب:

  1. مقابلة السيئة بمثلها: جائزةٌ.
  2. الإعراض: مستحبةٌ.
  3. دفع السيئة بالحسنة: هي أعلى المراتب، وهي التي قال الله : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

هذه هي أبرز الأحكام المتعلقة بباب التعزير.

قبل أن ننتقل إلى باب القطع في السرقة هناك تنبيه من الإخوان، نحن أعلنا عن مسابقةٍ في حفظ “منظومة الشيخ ابن عثيمين في أصول الفقه”، وحددنا هذا اليوم موعدًا للاختبار، وشكلنا لجنةً للتسميع بعد الدرس، يعني: أثناء إلقاء الإجابة عن الأسئلة، بعدما ننتهي من شرح “الدليل”، أثناء الإجابة على الأسئلة سيكون التسميع في مصلى النساء، هنا في الجهة الشرقية، فالإخوة الذين سجلوا أسماءهم عندنا لجنةٌ مكونةٌ من الأخ ياسر والأخ فهد، ومعكم أخٌ ثالثٌ فقط؟

طيب، لو واحد يتبرع مع الأخوين ممن لم يسجل، إن كان الأخ يوسف، فيكون -إن شاء الله- بعد الدرس أثناء الإجابة عن الأسئلة في مصلى النساء، وسيكون اليوم هو موعد التسميع والاختبار، والأسبوع القادم هو الإعلان عن النتيجة وتوزيع الجوائز.

مداخلة: ……

الشيخ: على سبيل المقابلة.

الأمر الثاني: إذا ارتكب ما يوجب اللعنة، فلعنه لأجل ذلك محل خلافٍ بين العلماء، لكن بعض أهل العلم يُجيز هذا.

وبعضهم يقول: إنه لا يُلعن المعين، وهذه مسألةٌ لها موضعٌ آخر، لكن بكل حالٍ لا يُعزَّر إذا كان من سبَّه قد ارتكب ما يوجب اللعنة، لكن هل يأثم أو لا يأثم؟ هذه محل خلافٍ بين العلماء.

مداخلة: ……

الشيخ: ما نصَّ عليه الشارع عليه، ما ورد منصوصًا عليه أنه موجبٌ للعنة.

باب القطع في السرقة

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب القطع في السرقة

السرقة: هي أخذ المال، عرفها المؤلف في الشرط الأول قال:

ويجب.

يعني: القطع

بثمانية شروطٍ:
أحدها: السرقة، وهي:

يعني: لو أن المؤلف أتى بالتعريف في البداية لكان أحسن، لكن هكذا كان التعريف ضمن الشرط الأول، قال:

تعريف السرقة

وهي: أخذ مالٍ الغير من مالكه أو نائبه، على وجه الاختفاء.

فهي إذنْ: أخذ المال من مالكه أو من نائب مالكه؛ كالوكيل، لكن على وجه الاختفاء، فلا بد أن يكون الأخذ على وجه الاختفاء، أما لو كان علانيةً؛ فليس هذا سرقةً، ولو كان على وجه الاختلاس كما سيأتي؛ ليس سرقةً، ولو كان على سبيل الخيانة؛ ليس سرقةً، فلا بد أن يكون على وجه الاختفاء من حِرْزٍ، كما سيأتي.

فإذا توفرت شروط القطع؛ وجب قطع اليد، وإنما شددت الشريعة في ذلك؛ صيانة لأموال المعصومين؛ لأن ما يؤخذ من الإنسان علانيةً يمكن التحرُّز منه، ويمكن أن يستعين بغيره من الناس، ويصيح بهذا الذي يريد أخذ ماله، ونحو ذلك، والخائن يمكن أن يُحترز منه، يمكن إذا سدَّ جميع الثغرات، لا يستطيع مثلًا هذا العامل عنده أن يخونه.

لكن السرقة هي التي لا يمكن الاحتراز منها، هذا السارق يعتدي على حرز هذا الإنسان، ويسرق ماله على سبيل الخفية، وهذا شرٌ عظيمٌ وفسادٌ كبيرٌ؛ ولهذا شددت الشريعة في العقوبة بأن جعلتها القطع، والعقوبة إذا كانت صارمةً فهي أبلغ في الردع؛ ولهذا لو كان يقام حد القطع عندنا هنا في المملكة لكل سارقٍ يُقبض عليه؛ لكانت المملكة هي أنموذجًا في العالم كله في الأمن وفي قلة أو ندرة السرقات.

ولكن هناك إشكالاتٌ، وهذه الإشكالات قضائيةٌ سنُشير إليها، تمنع من الحكم بقطع يد السارق، وإلا فوزارة الداخلية تُنفِّذ ما يَحكم به القضاة، لكن الإشكالية قضائيةٌ صِرفةٌ، وسنُشير لها عندما نتكلم عن المسائل التي ذكرها المؤلف.

اعترض بعض الزنادقة وقالوا: كيف تُقطع اليد في ربع دينارٍ، ودية اليد خمسمئة دينارٍ؟ يعني: نصف الدية؛ لأن الدية كاملةً ألف دينارٍ، فاليد ديتها خمسمئة دينارٍ، يعني: خمسين من الإبل، فقالوا: كيف تُقطع في ربع دينارٍ وديتها خمسمئة دينار؟! ونظم ناظمهم بيتًا، قال:

يدٌ بخمس مئينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ما بالها قُطعت في ربع دينارِ
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من النارِ

فأجابه بعض العلماء، قال: إنها قطعت في ربع دينارٍ؛ حمايةً للأموال، وديتها خمسمئة دينارٍ؛ حمايةً للنفوس والدماء؛ ولهذا نظم بيتًا ردًّا على بيت هذا الزنديق، قال:

حماية النفس أغلاها، وأرخصها حماية المال، فافهم حكمة الباري

وقال آخر مجيبًا له: لما خانت هانت، ولما كانت أمينةً كانت ثمينةً.

هذه من اللطائف التي ذكرها بعض العلماء.

ولا شك أن كون العقوبة صارمةً أمرٌ مهمٌّ جدًّا لردع السُّرَّاق عن السرقة؛ ولهذا نجد في بعض الدول التي العقوبات فيها صارمةٌ بالنسبة للسرقة، نجد أن عندهم أمنًا، فما بالك لو كانت العقوبة هي قطع اليد؟ سيكون أمنٌ عجيبٌ، ويندُر أن تجد سارقًا مع وجود هذا الحكم وتنفيذه: وهو القطع في السرقة.

الشرط الأول: السرقة

قال:

تجب بثمانية شروطٍ:
أحدها: السرقة.

يعني: أن تُوجد السرقة.

وهي أخذ مال الغير من مالكه أو نائبه على وجه الاختفاء.

من محترزات هذا الشرط:

قال:

فلا قطع على مُنتَهبٍ.

المُنتَهب: هو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة والغلبة والقهر، فيأخذه على مرأى من الناس، على سبيل النهبة والغلبة من يد صاحبه، وهذا ليس عليه قطعٌ باتفاق العلماء، قد جاء في “سنن أبي داود” أن النبي : ليس على المُنتَهِب قطعٌ [13]، وإن كان في سنده مقالٌ.

ومختطِفٍ.

ويُعبِّر بعض الفقهاء عن ذلك بالمُختلِس، وهو الذي يخطف الشيء ويمُرُّ به.

والفرق بين المنتهب والمختلس:

أن المنتهب يأخذ المال جهرةً مع سكون منه وطمأنينةٍ.

أما المختلس فإنه يأخذ الشيء جهرةً وعلانيةً لكن مع سرعةٍ وخوفٍ، يعني: يخطفه خطفًا، كلاهما يجتمعان في أخذ المال علانيةً، لكن المُنتَهب يأخذه بكل ثقةٍ وطمأنينةٍ، والمختلس على سبيل الخطف، هذا هو الفرق بينهما، فكلاهما لا قطع عليه، وإنما فيه التعزير، لماذا؟ لأن بإمكان صاحب المال أن يستنجد بغيره من الناس، ثم أيضًا هو يعرف هذا الشخص الذي اختلس أو انتهب ماله، يمكن أن يرفع أمره إلى الحاكم، فهناك طرقٌ أخرى بإمكانه أن يصل إلى ماله، وأن يعاقب هذا المنتهب والمختلس، فلا يحتاج إلى عقوبةٍ صارمةٍ مثل السرقة.

قال:

وخائنٍ في وديعةٍ.

كذلك الخائن في الوديعة، ومثله كذلك الغاصب أيضًا، لا قطع عليهم، وإنما عليهم التعزير، وهذا أيضًا باتفاق العلماء.

هل يقطع جاحد العارية؟

قال:

لكن يُقطع جاحد العاريَّة.

وهذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء، هل يُقطع جاحد العارية أم لا؟

وقد ورد في السُّنة قصة امرأةٍ جحدت عاريةً، فقد جاء في “الصحيحين” عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كانت امرأةٌ تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي بقطع يدها” [14]، وهذا الحديث في “الصحيحين”، فأخذ الحنابلة بظاهر هذا الحديث، وقالوا: يجب قطع يد جاحد العاريَّة، وهذا على الأصح عند الحنابلة، وعندهم خلافٌ في المسألة، فصاحب “الزاد” قال: “إن الأصح في المذهب: أنه لا تُقطع يده، لكن الأصحاب قالوا: إن الصحيح عند الحنابلة هو قطع يد الجاحد”؛ ولهذا نجد أن البهوتي تعقَّب صاحب “الزاد”، وقال: “الأصح أن جاحد العارية تُقطع يده”.

فالمسألة إذنْ فيها قولان:

  • القول الأول: أنه تُقطع يده، وقلنا: هو المذهب عند الحنابلة، ولحديث عائشة رضي الله عنها.
  • القول الثاني: أن جاحد العاريَّة لا تُقطع يده، وهذا هو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنفية، وهو روايةٌ عند الحنابلة؛ قالوا: لأن جَحْدَ العارية ليس بسرقةٍ، والقطع إنما يجب في السرقة، والله تعالى يقول: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وجَحْدُ العارية ليس سرقةً؛ لأن السرقة هي أخذ المال من مالكه على وجه الاختفاء، فهو أشبه بجاحد الوديعة، وقالوا: إن قطع المرأة المخزومية؛ لأنها سرقت وكانت تجحد العارية، لكن قطعها ليس لأجل جحد العارية، وإنما لأجل سرقتها.

والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الأول: وهو أن جاحد العارية تُقطع يده؛ وذلك لأن حديث عائشة رضي الله عنها نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في المسألة، فإن هذه المرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، والقول بأنها إنما قُطعت لأجل السرقة وليس لأجل الجحد، هذا بعيدٌ وفيه تكلفٌ، وليس في ذلك دليلٌ يدل على هذا.

وأما قولهم: إن جحد العارية ليس بسرقةٍ فغير مسلَّمٍ، وأجاب ابن القيم رحمه الله عن هذا، وقال: “إن الجحد داخلٌ في اسم السرقة”، وقال: “وهذا هو الموافق للقياس؛ فإنه لا يمكن المُعِير الإشهاد ولا الإحراز بمنع العارية شرعًا وعادةً وعرفًا، فالحكمة تقتضي قطع يد جاحد العارية”.

فإذنْ القول الصحيح: هو ما دلَّ له ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها من أن جاحد العارية تقطع يده، ولهذا المؤلف أيضًا نصر هذا القول، قال: “لكن يقطع جاحد العارية”.

وفقهاء الحنابلة كثيرٌ منهم على هذا القول، ومنهم من يرى أن المذهب هو القول الآخر، وأنه لا تُقطع يده، كما ذكرنا أن ذلك هو نص صاحب “الزاد”.

الشرط الثاني: كون السارق مكلَّفًا مختارًا

الثاني: كون السارق مكلَّفًا مختارًا.

وهذا باتفاق العلماء، ونحن قلنا: هذا الشرط في جميع الحدود، فلا بد أن يكون السارق عاقلًا بالغًا مختارًا، فلا قطع على الصغير، ولا على المجنون، ولا على المكره.

عالمًا بأن ما سرقه يُساوي نصابًا.

فلو كان لا يعلم؛ فلا تقطع يده، فمن سرق ثوبًا وبطرفه نقدٌ مشدودٌ يبلغ نصابًا، ولم يعلم بذلك، فلا تُقطع يده؛ لقول عمر : “لا حد إلا على من علمه”، ولأن ذلك شبهةٌ؛ والحدود تُدرأ بالشبهات.

الشرط الثالث: كون المسروق مالًا

الثالث: كون المسروق مالًا.

فإذا كان المسروق ليس بمالٍ؛ فلا تقطع يد السارق.

سرقة الماء والخمر

قال:

لكن لا قطع بسرقة الماء.

وهذا باتفاق العلماء، قال الموفق بن قدامة في “المغني”: “لا نعلم فيه خلافًا”؛ وذلك لأن الماء أصله الإباحة، والناس شركاء في ثلاثٍ، والأصل أن الماء غير متموِّلٍ عادةً، فلا تقطع إذنْ اليد بسرقة الماء باتفاق العلماء.

ولا بإناءٍ فيه خمرٌ.

وذلك لأن هذا الخمر ليس بمالٍ أصلًا، فهو غير محترمٍ، والإناء الذي فيه الخمر أيضًا غير محترمٍ، فليس مالًا.

أو ماءٌ.

يعني: إناءٍ فيه ماءٌ، فلا تُقطع يده في الإناء الذي فيه ماءٌ.

وقال بعض العلماء: إن الإناء الذي فيه الماء إذا كان يبلغ نصابًا؛ فتُقطع يده؛ وذلك لأنه مالٌ يبلغ نصابًا، فيكون قد سرق نصابًا من حرزٍ، أشبه ما لو سرق الإناء فارغًا، فما الفرق بين كونه لو سرق الإناء فارغًا وكان يبلغ نصابًا وقُطعت يده؟! فإذا سرق الإناء وفيه ماءٌ وكان يبلغ نصابًا؛ فتُقطع يده كذلك، وهذا هو القول الراجح والله أعلم: أن الإناء الذي فيه ماءٌ، إذا كان ثمن الإناء يبلغ نصابًا فتُقطع يده، خلافًا لكلام المؤلف رحمه الله.

سرقة المصحف

قال:

ولا بسرقة المصحف.

أي: لا تُقطع يده بسرقة المصحف، قالوا: إنه أصلًا عند الحنابلة لا يجوز بيع المصحف، ولأنه المقصود منه كلام الله تعالى.

والقول الثاني في المسألة: تُقطع اليد بسرقة المصحف إذا كان يبلغ نصابًا، وهذا هو القول الراجح والله أعلم؛ لعموم الآية، ولأن القول الصحيح: أنه يجوز بيع المصحف، فما دام أن القول الراجح جواز بيع المصحف؛ فيُعتبر مالًا، وتُقطع اليد بسرقته، سرقة المصحف المكتوب فيه كلام الله ، كما تُقطع اليد بسرقة كتب العلم، وكذلك أيضًا بسرقة المصحف.

فالقول الراجح إذنْ: تقطع اليد بسرقة المصحف إذا كان يبلغ نصابًا.

قال:

ولا بما عليه من الحلي.

هذا فرعٌ لقوله: “ولا بسرقة المصحف”، نحن رجحنا أنه تُقطع اليد بسرقة المصحف إذا كان يبلغ نصابًا؛ ومن باب أولى إذا كان عليه حليٌّ.

سرقة كتب البدع

ولا بكتب بدعٍ.

وذلك لوجوب إتلافها، فليست بمالٍ، فلا تُقطع اليد بسرقتها.

سرقة التصاوير

وتصاوير.

وذلك أيضًا للأمر بطمسها، ولأن السارق لها يحتمل أنه إنما أراد إنكار المنكر، فتكون هذه شُبهةً له؛ فلا تقطع يده.

سرقة آلات اللهو والصليب

ولا بآلة لهوٍ، ولا بصليبٍ أو صنمٍ.

كذلك لو سرق آلة لهوٍ، فليست آلة اللهو بمالٍ محترمٍ؛ فلا تُقطع يده بسرقتها، وكذلك أيضًا لو سرق الصليب أو الصنم، هذه ليست من الأموال المحترمة، فلا تُقطع يده، وأيضًا لِما ذكرنا من المعنى قبل قليلٍ؛ لأن السارق يحتمل أنه إنما أراد إنكار المنكر بسرقتها، فله شبهةٌ في هذا.

الشرط الرابع: كون المسروق نصابًا وهو ثلاثة دراهم

الرابع: كون المسروق نصابًا، وهو: ثلاثة دراهم.

كون المسروق نصابًا، وهذا باتفاق العلماء؛ لقول النبي : لا تُقطع اليد إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا [15]، متفقٌ عليه، وهذا الحكم متفقٌ عليه بين العلماء، وربع الدينار يعادل ثلاثة دراهم؛ ولهذا قال المؤلف:

وهو: ثلاثة دراهم، أو ربع دينارٍ، أو ما يُساوي أحدهما.

إذا أردنا أن نُقدِّرها في الوقت الحاضر؛ ربع الدينار في الوقت الحاضر، الدينار يعادل أربعة جراماتٍ وربعٍ من الذهب؛ فمعنى ذلك: ربع دينارٍ جرامٌ وكم؟ وربع الربع، أليس كذلك؟ يعني: (1÷16)، الجرام الآن كم يُعادل الجرام من الذهب؟ وصل لمئتين، مئتين وعشرةٍ، هو -سبحان الله!- في زيادةٍ، الذهب في زيادةٍ، ويحتمل -والله أعلم- أنه يزيد أكثر؛ ولذلك جاء في “الصحيحين” أن النبي قال: لا تقوم الساعة حتى يحسر نهر الفرات عن جبلٍ من ذهبٍ، يقتتل عليه الناس، فيموت تسعمئةٍ وتسعةٌ وتسعون وينجو واحدٌ، فيقول: لعلي أن أكون أنا الذي أنجو، فمن حضره؛ فلا يأخذ منه شيئًا [16].

يظهر -والله أعلم- أن الذهب سيكون نفيسًا جدًّا لهذه الدرجة؛ لأنه لو كان هناك اقتتالٌ؛ يريد الإنسان أن يدخل ويأخذ له شيئًا بسيطًا من هذا الذهب، مع أنه يعرف أنه يموت من كل ألفٍ تسعمئةٍ وتسعةٌ وتسعون.

فالذهب في تصاعدٍ فيما يظهر والله أعلم، ويحتمل أن يكون هناك سببٌ آخر غير هذا، لكن هذا تفسيرٌ لبعض أهل العلم.

إذنْ ربع دينارٍ يعادل بحدود مئتين وعشرةٍ إلى مئتين وعشرين، في هذه الحدود: من مئتين إلى مئتين وخمسين ريالًا تقريبًا، فمن سرق أقل من مئتي ريالٍ في الوقت الحاضر؛ لا تُقطع يده، ومن سرق أكثر من مئتين وخمسين؛ تُقطع يده، ما بين مئتين إلى مئتين وخمسين، يُنظر في تقدير ربع الدينار، وتعرفون الذهب يختلف سعره من وقتٍ لآخر، ليس في اليوم بل حتى في الساعة.

فإذنْ نقول: تقديرها أقل من مئتين في هذا الوقت، لا تُقطع يده، أكثر من مئتين وخمسين نقول: بلغ النصاب، تُقطع يده، ما بين مئتين ومئتين وخمسين يُنظر لسعر ربع الدينار.

وبما أن هذا الدرس مسجلٌ لا بد أن نُؤرِّخ هذا الدرس، فهذا الدرس يوم الاثنين، العاشر من جُمادى الأولى (1433 هـ)، الذي يُوافق الثاني من إبريل (2012 م).

أقول هذا لأني وجدت شروحاتٍ لي قديمةً، ذكرتُ فيها بعض التقديرات، لكن خاليةً من التاريخ، فهذا التقدير في هذا الوقت، ويحتمل مستقبلًا أنه يرتفع أو ينخفض.

مداخلة: ……

الشيخ: الذهب الخالص نعم.

مداخلة: ……

الشيخ: ربع دينارٍ، والدينار أربعة جراماتٍ وربعٌ.

مداخلة: ……

الشيخ: هذا هو الأصل؛ لأن الدينار الأصل أنه من الذهب الخالص.

أربعة جراماتٍ وربعٌ، هذا متفقٌ عليه، وإلا وُجِد دينارٌ صُكَّ في عهد عبدالملك بن مروان موجودٌ الآن في المتاحف، وقالوا: لم يختلف في جاهليةٍ ولا في إسلامٍ، وتكاد تكون كلمة المعاصرين متفقةً على تقدير الدينار بأربعة جراماتٍ وربعٍ.

قال:

وتُعتبر القيمة حال الإخراج.

يعني: قيمة المسروق، قلنا: إذا بلغ نصابًا -أربعة جراماتٍ وربعًا- متى؟ وقت إخراجها من الحرز؛ لأن بعد ذلك قد تتغير، فالضابط هو وقت إخراجها من الحرز.

الشرط الخامس: إخراجه من حرز

الخامس: إخراجه من حِرزٍ.

يعني: إخراج المسروق من حرزٍ.

فلو سرق من غير حِرزٍ؛ فلا قطع.

وهذا باتفاق العلماء أيضًا، ثم فسر المؤلف الحِرز، المقصود بالحرز.

قال: 

وحِرز كلِّ مالٍ: ما حُفِظ فيه عادةً.

هذا هو تعريف الحِرز: ما يُحفَظ فيه المال عادةً.

فنَعْلٌ برِجلٍ.

اختلاف الحرز باختلاف الأموال والبلدان والسلاطين

وهذا يختلف باختلاف الأموال؛ ولهذا ذكر المؤلف أمثلةً ثم قال:

ويختلف الحِرْز باختلاف البلدان وبالسلاطين.

إذنْ يختلف باختلاف الأموال وباختلاف البلدان وباختلاف الأزمان وباختلاف قوة السلطان وعدله أو جوره، قوة السلطان أو ضعفه وعدله أو جوره.

فإذنْ يختلف بهذه الأمور الأربعة:

  1. يختلف باختلاف الأموال.
  2. وباختلاف البلدان.
  3. وباختلاف الأزمان.
  4. وباختلاف قوة السلطان وضعفه، وعدله أو جوره.

ولهذا فالمرجع فيه للعرف.

فبالنسبة للأموال: لا شك أن حِرز الذهب غير حرز الأغنام، غير حرز الدراهم، غير حرز الثياب، غير حرز الأواني، حرز كل شيءٍ بحسبه، المرجع في ذلك إلى العرف.

وأما الاختلاف باختلاف البلدان: فالبلد الكبير ليس كالبلد الصغير؛ فالبلد الكبير يختفي فيه السارق أكثر من البلد الصغير، فيحتاج إلى مزيدٍ من التحرز.

وكذلك أيضًا باختلاف الأزمان: الحرز مثلًا في وقتنا الحاضر غير الحرز قبل مئة سنةٍ.

وكذلك أيضًا باختلاف السلطان قوة وضعفًا: إذا كان السلطان قويًّا فيهابه السُّرَّاق، وتقل السرقات، فلا يُحتاج إلى التشدد في الحِرز وحفظ المال، أما إذا كان ضعيفًا؛ يكثر السراق، ويُحتاج إلى التشدد في حفظ المال.

وعدل السلطان وجوره، يقولون: إن السلطان إذا كان عادلًا؛ فإن الله تعالى يُهيِّئ القلوب له، وتقل السرقات والجرائم؛ ولهذا في عهد عمر بن عبدالعزيز ذُكِر في بعض كتب السير: أن الجرائم قلَّت إلى درجة أن الذئب والشاة كانا يرعيان في المكان الواحد، الله أعلم بصحة هذا، لكن مبالغة في قلة الجرائم، وأن الله تعالى هيَّأ النفوس لطاعة هذا الإمام وأمير المؤمنين إلى هذه الدرجة؛ لهذا ذكروا في بعض التراجم أنه لما اعتدى الذئب على الشاة؛ قالت الأعراب: ما نرى إلا أن هذا الرجل الصالح قد مات، هذه القصة ذُكرت في بعض كتب السير والله أعلم بصحتها، وبعض أهل العلم يُنكرها، الله أعلم، لكن الشاهد من هذا: أن عدل السلطان ذكر أهل العلم أنه مؤثِّرٌ في الحرز.

إذنْ المرجع في الحرز: هو العرف، لو أخذنا مثالًا: حِرز الأغنام في وقتنا الحاضر يكون في أي شيءٍ؟ نعم، في الحظائر والأحواش.

حِرز السيارة هل لا بد من إدخالها داخل “الكراج”؟ أو إقفالها يُعتبر حرزًا؟ في عرف الناس: الذي يظهر أن إقفالها كافٍ في حرزها، لكن الذي عليه العمل في المحاكم أنه لا بد من إدخالها “الكراج”، والواقع أن عرف الناس: أن مجرد إقفالها يُعتبر حرزًا، فالذي يأتي ويكسر زجاج السيارة ويسرقها يُفترض أن تقطع يده، لكن في المحاكم عندهم -وهذه من الإشكاليات التي ذكرت- من أسباب قلة تطبيق حد السرقة: التوسُّع في درء الحدود بالشبهة، والأمر الثاني: قبول رجوع المُقِر، هذان السببان هما أبرز أسباب قلة القطع في السرقة: التوسع في درء الحدود بالشبهة، وقبول رجوع المقر.

أما التوسع: فعندهم أدنى شبهةٍ، يعني: بعض القضاة أدنى شبهةٍ يدرءون بها الحد؛ ولذلك يأتي السارق ويكسر السيارة ويسرقها، ومع ذلك لا تُقطع يده، يُفترض أن تقطع يده، هذه السيارة تُعتبر في حِرزٍ، النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى صفوان بن أمية وأمسك برجلٍ، كان صفوان نائمًا في المسجد على رداءٍ له، فأتى رجلٌ وسرق هذا الرداء، أخذه، أمسك به صفوان وذهب به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أمر بقطع يده، قال: أتقطعون يده من أجل رداءٍ؟! هو له يا رسول الله، قال: هلَّا كان قبل أن تأتيني به؟ [17]، فأمر بقطع يده، ما قال عليه الصلاة والسلام: إن هذا ليس بحِرْزٍ؛ لأنه في عرفهم أن الإنسان إذا توسَّد رداءه يُعتبر حرزًا، ما بالك بالسيارة المقفلة، فيأتي السارق ويكسر الزجاج ولا نعتبره حِرْزًا؟! لا شك أن هذا حِرْزٌ، يُفترض أن هذا تُقطع يده، فمن الأسباب: التوسُّع في درء الحدود بالشُّبَه.

والثاني: قبول رجوع المُقِر، ذكرنا هذه المسألة عندما تكلمنا عن حد الزنا، وقلنا: إن الصواب هو مذهب المالكية: أنه لا يُقبل رجوع المُقِر إذا أقر بالحد، إلا إذا كان ثَمَّ شبهةٌ، إذا بدت عليه مثلًا آثار تعذيبٍ، أو أنه أُكرِه، ونحو ذلك، أما إذا لم يكن ثَمَّ شبهةٌ، والقرائن كلها تدل على أنه سارقٌ؛ البصمات، وربما تكون هناك صورٌ أيضًا، وربما يكون اعترفٌ في البداية، كل القرائن تدل على أنه سارقٌ، واعترف ثم رجع عن اعترافه، لا يُقبل رجوعه، تُقطع يده، وابن تيمية وابن القيم ذهبا إلى أبعد من هذا، قالا: إنه بمجرد وجود المال المسروق عند السارق تُقطع يده، حتى لو لم يعترف، ولو لم يكن هناك شهودٌ، لاحِظ، إلى هذه الدرجة! وجود المال المسروق، إذا أقر بأن هذا المال لفلانٍ، هذا بحد ذاته يُعتبر اعترافًا، تُقطع يده من أجل هذا، فهذان السببان هما أبرز أسباب قلة القطع في السرقة.

فالإشكالية قضائيةٌ صِرفةٌ وليست تنفيذيةً؛ ولهذا لو عُولجت هذه الإشكالات، وقُطعت أيدي السُّرَّاق؛ لوجدت المملكة هي رقم (1) في دول العالم، وكانت أُنموذجًا في الأمن وفي نُدرة السرقات، لكن الواقع الآن هو أننا من أكثر الدول سرقةً، يمكن معظم الحاضرين تعرضوا للسرقات، والسبب -كما ذكرت- هو: لا بد من تطبيق الحد، ووجود صرامةٍ في تطبيق الحدود، والإشكالية هي قضائيةٌ صِرفةٌ في الدرجة الأولى وليست تنفيذيةً؛ ولهذا يقول بعض الناس مثلًا: في الدول غير المسلمة عندهم أمنٌ، والسرقات عندهم قليلةٌ، أقول: لو قطعنا يد السارق؛ لكان الأمن عندنا أعظم، ولكانت السرقات عندنا أقل، بل كانت نادرةً.

فنعلٌ برِجلٍ.

يعني: حرز النعل أن تكون ملبوسةً بالرِّجل.

وعمامةٌ على رأسٍ.

يُعتبر هذا حرزًا لها عادةً.

فإذنْ الخلاصة في الحرز: أنه المرجع فيه للعرف.

حكم ما لو اشترك جماعةٌ في هتك الحرز وإخراج النصاب

ولو اشترك جماعةٌ في هتك الحرز وإخراج النصاب؛ قُطعوا جميعًا.

وذلك لوجوب سبب القطع منهم؛ قياسًا على القتل، كما لو كان ثقيلًا فحملوه، لو أتوا لهذا الذي يُحفظ فيه المال عادةً، ويُسميه بعض العامة بــ(التجوري) مثلًا، أو أتوا للصراف وحملوه، حملته مجموعةٌ وسرقوه، فتُقطع أيديهم جميعًا؛ لأنهم اشتركوا جميعًا في هتك الحرز. 

حكم ما لو هتك الحرز أحدهما ودخل الآخر فأخرج المال

وإن هَتَك الحرز أحدهما، ودخل الآخر فأخرج المال؛ فلا قطع عليهما ولو توَاطآ.

يعني: أحدهما هتك الحرز، والثاني أخرج المال، فلا قطع حتى لو حصل بينهما اتفاقٌ على ذلك؛ قالوا: لأن الأول لم يسرق، والثاني لم يهتك الحرز.

والقول الثاني في المسألة: أنهما إذا تواطآ على ذلك؛ تُقطع أيديهما، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأنهما إذا تواطآ عليه؛ فهما كالمتواطئين على القتل، فتُقطع أيديهما، ولأن هذا قد يُتَّخذ ذريعةً لدرء حد القطع في السرقة إذا علم السارق بذلك، اتفقوا على هذا: أحدهما يهتك الحرز، والثاني: هو الذي يُخرج المال، ويقول: ما تُقطع أيديهما.

فإذنْ الصواب: إذا دلَّت القرائن على اتفاقهما وتواطئهما؛ فتُقطع أيديهما، أما إذا لم يتواطآ؛ فلا تُقطع أيديهما.

الشرط السادس: انتفاء الشبهة

السادس: انتفاء الشبهة.

انتفاء الشبهة؛ لحديث: ادرءوا الحدود بالشبهات [18]، وهذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، لكن عليه العمل عند أهل العلم، فالحدود تُدرأ بالشبهات، لكن المقصود بالشبهة: الشبهة القوية المؤثرة، وليس أي شبهةٍ؛ ولهذا انظر إلى تمثيل الفقهاء للشبهة:

قال:

فلا قطع بسرقته من مال فروعه وأصوله.

إذا سرق الابن من مال أبيه أو من مال أمه، أو الوالد من مال ولده؛ فلا قطع؛ وذلك لوجود الشبهة، الشبهة هنا قويةٌ؛ لقول النبي : أنت ومالك لأبيك [19]، ولقوله: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم [20]، ولأن الإنسان يتبسَّط في مال ولده ووالده، فلا قطع؛ لوجود الشبهة، ولأن نفقة كلٍّ منهما تجب في مال الآخر، وكذلك أيضًا سرقة أحد الزوجين من الآخر تُعتبر من قبيل الشبهة؛ لأن كلًّا منهما يتبسَّط في مال الآخر.

ولا بسرقته من مالٍ له فيه شركٌ.

وذلك لوجود الشبهة إذا كان هذا المال مشتركًا بينه وبين غيره، وسرق منه، فلا تُقطع يده، وإنما يُعزَّر؛ لوجود الشبهة.

لاحظ أن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء أمثلةٌ للشُّبَه شُبَهٌ قويةٌ.

قال:

أو لأحدٍ ممن ذُكِر.

يعني: لو سَرق من أحد فروع الإنسان، أو من أصوله، يعني: ممن له شراكةٌ مع أبيه، أو شراكةٌ مع ابنه، أو شراكة مع زوجه؛ فلا قطع؛ وذلك لوجود وقيام الشبهة.

السرقة من بيت المال هل تُوجب القطع؟ وما أكثرها في هذا الزمان، السرقة من بيت المال كثرت، والدولة عندنا أنشأت هيئة مكافحة الفساد، والمقصود بذلك: السرقة من بيت المال بجميع صورها، المقصود بالفساد: السرقة من بيت المال، فمن ضُبط، ضبطته هيئة مكافحة الفساد، سارقًا من بيت المال وحوكم، ذهب به إلى المحكمة، هل تقطع يده؟ لا تُقطع يد من سرق من بيت المال، وهذا على قول الجمهور؛ وذلك لأن لكل مسلمٍ حقًّا في بيت المال، فتكون هذه الشبهة تمنع وجوب القطع، يعني: بيت مال المسلمين، من الذي يملكه؟ المسلمون، وولي الأمر مؤتمنٌ عليه، فكل واحدٍ من المسلمين له حقٌّ في بيت المال، فهذه شبهةٌ يُدرَأ بها الحد، لكنه يُعزَّر.

الشرط السابع: ثبوت السرقة

السابع: ثبوتها.

يعني: ثبوت السرقة، وذكر المؤلف كيفية ثبوتها:

قال:

إما بشهادة عدلين.

وهذا بالاتفاق.

ويصفانها، ولا تُسمع قبل الدعوى.

هذا بناءً على الشرط الثامن الذي سنُناقش المؤلف فيه، مطالبة المسروق منه بماله، فنُرجئ الكلام عنه إلى أن نأتي للشرط الثامن.

إذنْ تثبت السرقة: إما بشهادة عدلين فأكثر، أو قال:

أو بإقرار.

أو بإقرار السارق، لكن قال:

مرتين.

وهذه المسألة محل خلافٍ بين العلماء:

هل يُشترط أن يُقِر السارق مرتين أم لا، أم تكفي مرةً واحدةً؟

فالمذهب عند الحنابلة: أنه يُشترط أن يُقِر السارق مرتين، وهذا من المفردات، واستدلوا بحديثٍ رواه أبو داود عن أبي أمية المخزومي  أن النبي أُتِيَ بلِصٍّ قد اعترف، فقال: ما إخالك سرقت، قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر به فقُطع [21]، لكن هذا الحديث ضعيفٌ لا يصح، وفي متنه نكارةٌ، فإن قوله : ما إخالك سرقت، فيه نكارةٌ، كيف يؤتى به سارقًا ويقول: ما إخالك سرقت؟!

فالقول الأول: أنه لا بد أن يعترف به مرتين، أو يُقِر مرتين.

والقول الثاني في المسألة: أنه يكفي الإقرار مرةً واحدةً، وهذا قول الجمهور، وهو القول الصحيح في المسألة.

وسبق أن ذكرنا هذه المسألة في باب حد الزنا، ورجحنا في الإقرار بالزنا: أنه يكفي أن يكون مرةً واحدةً، فإذا كان الإقرار في الزنا والإقرار بالقتل يكفي فيه مرةٌ واحدةٌ؛ ففي السرقة من باب أولى؛ ولأن السرقة وقعت في عهد النبي عدة مراتٍ، وقُطعت يد أكثر من سارق، ولم يُنقل أن النبي أمرَ بأن يُقِر السارق مرتين.

فالقول بأنه يُشترط أن يُقِر مرتين قولٌ ضعيفٌ.

ومن جهة النظر: تكرار الإقرار مرةً ثانيةً لا معنى له، فإذا اعترف في المرة الأولى هذا بحد ذاته كافٍ، فالقول الصحيح: أنه في الإقرار في جميع الحدود يكفي الإقرار مرةً واحدةً، وكذلك أيضًا في القتل يكفي الإقرار مرةً واحدةً.

قال:

ولا يرجع حتى يُقطع.

هذه المسألة التي أشرت لها: وهي رجوع المُقِر، المذهب عند الحنابلة: أن المُقِر إذا رجع عن إقراره: لا تقطع يده، ويستدلون بالحديث السابق: ما إخالك سرقت، وقالوا: كان النبي يُعرِّض له؛ لكي يرجع؛ ولذلك رتَّبوا حكمًا آخر: أنه لا بأس بتلقينه الإنكار؛ ليرجع عن إقراره، ولكن هذا غير صحيحٍ، هذا قولٌ ضعيفٌ.

وكما ذكرنا حديث: ما إخالك سرقت [22]، منكرٌ سندًا ومتنًا؛ أما سندًا: فهو ضعيفٌ وفيه مجاهيل، وأما متنًا: فبعيد جدًّا أن النبي يُؤتى بالسارق إليه ويُقِر ويعترف، ثم يقول: ما إخالك -يعني ما أظنك- سرقت.

ولأن هذا يؤدي إلى تعطيل حد السرقة، يعني: تلقين المُقِر بالسرقة يؤدي إلى تعطيل الحدود؛ لأنه يبعُد جدًّا أن تثبت السرقة بطريق الشهادة، السرقة مثل الزنا، يعني: الحدود عمومًا يبعُد ثبوتها بطريق الشهادة، أكثر ما تثبت الحدود بطريق ماذا؟ الإقرار، فإذا كنا سنقبل رجوع المُقِر، وفوق هذا سنُلَقِّنه الرجوع؛ إذنْ لن تثبت الحدود بهذه الطريقة، هذا قولٌ ليس عليه دليلٌ بل قولٌ مرجوحٌ.

الشرط الثامن: مطالبة المسروق منه بماله

الثامن: مطالبة المسروق منه بماله.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أنه يُشترط أن يُطالِب المسروق منه السارق بماله، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي؛ وذلك لقصة صفوان بن أمية  لما سُرق رداؤه، فأتى إلى النبي يشتكي له، ثم لما أَمَر النبي بقطع يده، قال: الرداء له يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: فهلَّا كان قبل أن تأتيني به؟!، قالوا: فدل ذلك على أنه تُشترط مطالبة المسروق منه بماله، فإذا لم يُطالب؛ فلا تُقطع يد السارق.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يُشترط، وهذا روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره أبو العباس ابن تيمية، وهو مذهب المالكية؛ وذلك لظاهر الآية الكريمة، وهي قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وهذا سارقٌ؛ فتُقطع يده ولو لم يُطالب المسروق منه بماله، ولأن القطع في السرقة؛ لحفظ الأموال وليس حقًّا للمسروق منه، ولأن مُوجِب القطع قد ثبت؛ فوَجَب من غير مطالبةٍ؛ كحد الزنا، ولأن اللص السارق غرضه سرقة أموال الناس، ولا غرض له في شخصٍ معينٍ، وحينئذٍ فلا وجه لاشتراط مطالبة السارق بقطع يده.

أما قصة صفوان ، فهي في غير محل النزاع، محل النزاع: إنما هو في اشتراط مطالبة المسروق منه بماله بعد ثبوت السرقة ببيِّنةٍ أو إقرارٍ، أما قصة صفوان  فلم تثبت السرقة إلا بعد أن رفع صفوان الأمر للنبي ، يعني: بعد أن رفع صفوان الأمر للنبي ثبتت السرقة، لكن هنا يشترطون لثبوت السرقة مطالبة المسروق منه بماله.

فإذنْ نقول: هذا لا دليل عليه، والصواب عدم اشتراط هذا الشرط؛ وبالتالي أيضًا يكون الصواب: أنها تُسمع قبل دعوى مطالبة المسروق منه بماله.

حكم القطع في زمن المجاعة

ولا قطع عام مجاعةِ غلاءٍ.

إن لم يجد ما يشتريه، أو ما يشتري به؛ لقول عمر : “لا قطع في عام سنةٍ”، يعني: في عام مجاعةٍ، هذا رواه أحمد وفي سنده مقالٌ، لكن احتج به أحمد، قيل لأحمد: تقول به؟ قال: إي لعمري، لا أقطعه إذا حملته الحاجة، والناس في شدة ومجاعةٍ، وهذا قد اشتهر عن عمر أنه عام الرمادة في السنة الثامنة عشرة من الهجرة، درأ حد القطع في السرقة في ذلك العام، لكن إذا كانت مجاعةٌ شديدةٌ كما حصل للناس في عام الرمادة.

موضع القطع

قال:

فمتى توفرت الشروط.

يعني: وجب القطع.

كيف القطع؟

قُطِعت يده اليمنى من مَفصِل كَفِّه.

وهذا باتفاق العلماء: أنه تُقطع اليد اليمنى من مفصل الكف؛ لقول الله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وجاء في قراءة ابن مسعودٍ : (فاقطعوا أيمانهما)، ولا تخلو قراءة ابن مسعودٍ  أن يكون على الأقل سمعها من النبي ، ولأن هذا هو قول أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، ولا يُعرف لهما مخالفٌ من الصحابة .

حكم غمس مكان القطع بالزيت

قال:

وغُمِست وجوبًا في زيتٍ مغليٍّ.

وهذا ما يُسمى بـ”الحسم”، فيقولون: إنه بعد القطع لا بد من أن تُحسَم، يعني: تُغمَس في زيتٍ مغليٍّ؛ لأجل أن تستد أفواه العروق فينقطع الدم؛ لأنه لو لم تُغمَس في زيتٍ مغليٍّ؛ لربما نزف فمات، وهذا الغمس أو الحسم ألمه شديدٌ جدًّا، بل قالوا: إنه ربما يكون ألم هذا الحسم أشد من ألم القطع.

في الوقت الحاضر مع وجود الأدوات الطبية الحديثة، والأدوية التي تُوقف النزيف من غير غمسٍ في الزيت، هل يُستغنى بها؟ نعم، يستغنى بها، نقول: إذنْ يُستغنى في الوقت الحاضر بالأدوية والأدوات الطبية الحديثة التي تُوقف نزيف الدم، ولا حاجة للغمس حينئذٍ.

هل يجوز استخدام البنج في قطع يد السارق؟

هل يجوز أم لا؟ يجوز، يجوز استخدام البنج في قطع يد السارق؛ وذلك لأن المقصود هو القطع، وليس المقصود هو الإيلام، وقد صدر بهذا قرار مجلس “هيئة كبار العلماء”.

هل يجوز إعادة اليد المقطوعة في السرقة؟ هل يجوز إعادتها إلى صاحبها بعمليةٍ جراحيةٍ؟ لا يجوز؛ وذلك لأن القطع مقصودٌ، المقصود: أن يبقى هذا السارق بلا يدٍ، فيراه الناس فيرتدعوا.

إذنْ استخدام “البنج” جائزٌ، وأما إعادة اليد بعمليةٍ جراحيةٍ فلا يجوز.

حكم تعليق يده المقطوعة في عنقه

وسُنَّ تعليقها في عنقه ثلاثة أيامٍ إن رآه الإمام.

وهذا محل خلافٍ، فاستحبه الحنابلة والشافعية، لكن الشافعية عندهم تُعلَّق ساعةً، وعند الحنفية أن ذلك ليس بسُنةٍ، ولم يثبُت في ذلك شيءٌ؛ ولذلك لا يقال: إنه سنةٌ، لكن للإمام أن يفعل ذلك، إن رأى أن ذلك أبلغ في الردع والزجر؛ فله أن يأمر بذلك.

حكم السارق إذا عاد إلى السرقة مرةً أخرى

قال:

فإن عاد قُطعت رجله اليسرى من مَفصِل كعبه بترك عَقِبه.

يعني: وحُسِمت، وهذا الذي ورد في حديث أبي هريرة  أن النبي قال: إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله [23]، رواه الدارقطني وفيه ضعفٌ، لكن رُوي عن أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، ولا مخالف لهما من الصحابة ؛ فكان كالإجماع.

حكم السارق إذا عاد إلى السرقة مرةً ثالثةً

فإن عاد.

يعني: هذا إنسانٌ قُطِعت يده اليمنى، ثم قُطِعت رجله اليسرى، ثم سرق المرة الثالثة، متأصِّلٌ فيه السرقة، هل تُقطع يده اليسرى؟ يقول المؤلف:

فإن عاد؛ لم تُقطع، وحُبس حتى يموت أو يتوب.

وقد رُوي عن عليٍّ أنه أُتِيَ برجلٍ مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: “ما ترون في هذا؟”، قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: “أقتله إذنْ”، يعني: أحسن من قطعه، وما عليه القتل، بأي شيءٍ يأكل ويتوضأ ويغتسل؟ وبأي شيءٍ يقوم لحاجته؟! فرَدَّه إلى السجن أيامًا، ثم أخرجه وجلده جلدًا شديدًا، ثم أرسله [24]، رواه الدارقطني، وحسن إسناد هذه القصة بعض أهل العلم.

وأخرج مالكٌ في “الموطأ” عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه: أن رجلًا من أهل اليمن أقطعَ اليدِ والرجل قَدِم فنزل على أبي بكرٍ الصديق ، وشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه، فاستضافه أبو بكرٍ الصديق، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكرٍ: ما ليلك بليل سارقٍ، يعني: رجلٌ يُظهر الزهد والتنسُّك مقطوع اليد والرجل في سرقةٍ؟! ثم افتقدوا حُلِيًّا لزوج أبي بكرٍ -أسماء بنت عميس- فجعلوا يبحثون عن هذا الحلي، وجعل هذا الرجل يطوف معهم ويبحث عن هذا الحلي، وجعل يقول: اللهم عليك بمن بيَّت أهل هذا البيت الصالح! فوجدوا هذا الحلي عند صائغٍ، ثم أخبر هذا الصائغ بأن هذا الأقطع هو الذي باعه إياه، فأخذه أبو بكرٍ فاعترف، فأمر به أبو بكرٍ فقطعت يده اليسرى؛ لأن هذه سرقةٌ للمرة الثالثة، قال أبو بكرٍ: لَدُعاؤه على نفسه أشد عندي من سرقته [25].

يعني: كان يدعو: اللهم من سرق فعليك بكذا، اللهم من سرق من أهل هذا البيت الصالح، اللهم فافعل به كذا وكذا، يقول أبو بكرٍ : لَدعاؤه على نفسه أشد عليَّ من سرقته.

فبعض النفوس مريضةٌ بهذا البلاء، يعني: هذا قُطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى، ثم الآن سرق للمرة الثالثة، فأبو بكرٍ قطع يده اليسرى، وهذا أحد قولي العلماء في المسألة: تقطع يده اليسرى في المرة الثالثة، ويظهر أن هذا الأمر المرجع فيه إلى القضاء، والمسألة خلافيةٌ:

فالمذهب عند الحنابلة: لا تُقطع يده، وهو مرويٌّ عن عليٍّ ، ويُحبس.

والقول الثاني: تُقطع يده اليسرى في المرة الثالثة.

اجتماع القطع والضمان على السارق

قال:

ويجتمع القَطع والضمان.

يعني: قطع اليد والضمان؛ ضمان المسروق.

فيردُّ ما أخذه لمالكه، ويُعيد ما خَرِب من الحرز.

وذلك لأنهما حقَّان، فجاز اجتماعهما؛ كالدية والكفارة في قتل الخطأ وشبه العمد.

أجرة القاطع وثمن الزيت

وعليه أجرة القاطع، وثمن الزيت.

يعني: أحيانًا يكون هناك وقتٌ أحوال الناس ليست ميسورةً، وبيت المال ليست الأموال فيه كثيرةً، فيقولون: أجرة القاطع وثمن الزيت على السارق، تُقطع يده، ونُعطي أيضًا القاطع الأجرة من مال هذا السارق المقطوع.

والقول الثاني في المسألة: أجرة القاطع وثمن الزيت من بيت المال؛ وذلك لأن هذا داخلٌ في المصالح العامة، وبيت المال يُصرف في المصالح العامة للمسلمين، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه العمل.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

ندعو الإخوة المشاركين في المسابقة الآن أن ينتقلوا لمصلى النساء، الجهة الشرقية.

ونجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: قول المؤلف رحمه الله: “فنعلٌ برِجلٍ، وعمامةٌ على رأسٍ”، أليس هذا مخالفًا لما ذكره المؤلف في أول الفصل؛ حيث جعل السرقة بالخفاء، أفلا يُعَدُّ هذا الفعل اغتصابًا أو انتهابًا؟

الجواب: لا، المقصود سرقة النعل والعمامة على وجه أيضًا الخفاء؛ كما لو كان نائمًا، مثلما حصل لصفوان ، صفوان كان نائمًا، وأَتَى هذا وأَخَذ رداءه، والنبي عليه الصلاة والسلام قطع يده، فهو على وجه الاختفاء، لو كان نائمًا مثلًا وسرق نعليه، أو مثلًا سرق عمامته وهو نائمٌ، هذا هو المقصود، أما أن يكون مستيقظًا فيُعتبر هذا انتهابًا أو اختلاسًا.

السؤال: أحسن الله إليكم، من يسرق بطريق السحر -وهو منتشرٌ هذه الأيام- ما حكمه؟ هل يُقطع أم يقتل؟ وهل يجوز الاستعانة بالمشعوذين والكهنة وغيرهم في التعرف على المجرمين والسُّرَّاق؟

الجواب: من يسرق بطريق السحر؛ نُطبِّق عليه الأحكام الشرعية، يعني: يصدُق عليه أنه سارقٌ، إذا تحققت هذه الشروط؛ فتُقطع يده على أن نفوذ الساحر ليس ذلك النفوذ الكبير، يعني: بعض الناس يُعطي هالةً كبيرةً، الساحر ليس نفوذه كبيرًا، الله تعالى يقول: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، يعني إذا تحصَّن الإنسان بالأذكار ما يستطيع الساحر أن يسحره مهما كان، ولو كان من أكبر السحرة، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كيد الساحر ضعيفٌ، وأكثر ما يكون السحر لمن يخاف من السحر، إذا خفت من السحر، وكان الإنسان ضعيف التوكل على الله ؛ يصاب بالسحر، ويصاب بالمس، ويصاب بالعين؛ أما من عنده قوة توكلٍ على الله ؛ يكون بمعزلٍ عن هذه الأمور.

أما سحر النبي فهذا لحكمةٍ؛ لأجل أن يُبيِّن الله للناس أنه بشرٌ، وأنه يعتريه ما يعتري البشر؛ ولهذا لما نزلت سورتا المعوذتين؛ رقاه جبريل  بهما فشفاه الله تعالى.

وأما الاستعانة بالمشعوذين في معرفة الأموال المسروقة فلا يجوز، لا يجوز مثل هذا؛ لأن المشعوذين يستعينون بالشياطين، والشياطين لا يمكن أن تخدمهم إلا إذا وقعوا في الشرك الأكبر؛ إذا أشركوا بالله ، ذبحوا لغير الله، أو وقعوا في الشرك الأكبر، فلا يُضيِّع الإنسان دينه؛ لأجل البحث عن مالٍ.

السؤال: أحسن الله إليكم، كثرت الأسئلة حول التعزير بالأعمال الخيرية، فيقول: هل تكون العبادة عقوبةً؟

الجواب: ليست العبادة عقوبةً، لكن هذا له أصلٌ، مثلًا: في كفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة الظهار، ما هي؟ عتق رقبةٍ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، الآن الكفارة هي نوعٌ من العقوبة، ومع ذلك بصيام شهرين متتابعين، بعبادةٍ: وهي صيام شهرين متتابعين.

هذا الذي مثلًا جامع في نهار رمضان، نقول:

أولًا: عليك التوبة إلى الله .

ثانيًا: لا بد من الكفارة، والكفارة إن لم يجد رقبةً؛ يصوم شهرين متتابعين، هل معنى ذلك: عاقبناه بإلزامه بعبادةٍ؟ نقول: لا، ولذلك هذا هو الأصل في مسألة التعزير بالعقوبات البديلة، الأصل هو هذا، هو ما ورد في كفارة القتل وكفارة الجماع في نهار رمضان وكفارة الظهار، هذا من أوضح وأبرز الأدلة لهذه المسألة.

السؤال: أحسن الله إليكم هل سارق المواقع الإلكترونية عن طريق الهكر تقص يده؟

الجواب: هذه لا تنطبق عليها السرقة بالمعنى المعروف؛ ولذلك يعزر، أما قطع اليد فلا؛ لأنها -كما ذكرنا- السرقة التي وردت فيها النصوص هي السرقة الحسية للمال من حرزه، أما هذه وإن كانت تسمى سرقةً تَجَوُّزًا؛ لكنها ليست سرقةً بالمعنى الشرعي الوارد في النصوص.

مداخلة: ……

الشيخ: السرقة من الحساب، نعم، إذا كان مثلًا يدخل على حسابه ويسرق منه مالًا، فيُعتبر هذا سَرَق مالًا من حِرزٍ؛ تُقطع يده.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يَسأل عن حكم الاكتتاب في شركة “أسمنت نجران”؟

الجواب: طُرِح هذا الاكتتاب؟ على كل حالٍ في حينه إن شاء الله، العادة أنه إذا طرح الاكتتاب وتنزل نشرة الإصدار؛ نُخرج فتوى في الموقع في حينه إن شاء الله.

السؤال: أحسن الله إليك، يقول: كيف يكون الحديث ضعيفًا وعليه العمل عند العلماء، لعله حديث: ادرءوا الحدود بالشبهات [26]؟

الجواب: نعم، بعض الأحاديث تتلقاها الأمة بالقبول، ربما يكون المعتمد ليس الحديث نفسه، لكن الآثار عن الصحابة في هذا والقياس، ويُعضِّد ذلك هذا الحديث الضعيف، فمن ذلك: درء الحدود بالشبهة، الآثار عن الصحابة في هذا كثيرةٌ، وكذلك أيضًا القياس يقتضي هذا؛ لأن الحدود عقوبتها شديدةٌ، فلا تكون إلا بعد الثبوت بشكلٍ واضحٍ لا شبهة فيه، وأيضًا هذا الحديث، فليس المعوَّل عليه هو الحديث الضعيف، لكن الحديث من ضمن ما يُستدل به.

السؤال: أحسن الله إليكم، امرأةٌ مطلقةٌ، وما زالت في عدتها، وتحيض كل خمسة أشهرٍ أو ستةٍ، فهل تأخذ حكم اليائسة؟

الجواب: ما دامت تحيض؛ فهي من ذوات الأقراء، والله تعالى يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ يعني: ثلاث حيضٍ، فما دامت تحيض؛ فتعتد بالحيض.

السؤال: أحسن الله إليكم، ما علاج من يُعاني من الوساوس؟

الجواب: هذا على قسمين:

  • القسم الأول: أن تكون الوساوس في بدايتها، فهذا علاجه: أن يُكثر من الأذكار والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والله تعالى يقول: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، وتقوية الإرادة، والتفقُّه في الدين.
  • القسم الثاني: إذا كان الوسواس مستحكِمًا، فإن هذا أحيانًا يكون سببه المرض، يكون مريضًا؛ لأن أحيانًا بعض الناس يكون عنده قابليةٌ للوسواس، وتكون عنده مشكلةٌ في الدماغ، يعني: عنده خللٌ في كيمياء الدماغ، وتُسبِّب له الوساوس والشكوك، وهذه تُعالَج عند الأطباء النفسانيين، وقد أرشدت بعض الإخوة لمثل هذا، فذهبوا وتعالجوا وشفاهم الله ، فهذا مهما عالجته بسبيل الإقناع أو تقوية الإرادة؛ قد لا يشفى، وقد يطول العلاج، فالأحسن في مثل هذا: أن يذهب مباشرةً للطبيب النفسي.

السؤال: أحسن الله إليكم، هل تجوز الصلاة عن يسار الإمام إذا دعت الحاجة؟

الجواب: لا بأس، نعم كونه عن يمين الإمام ليس واجبًا، وتجوز الصلاة عن يساره، خاصةً عند الحاجة.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم عقد النكاح عبر وسائل الاتصال الحديثة؛ كعقده عن طريق خدمة “سكايبي”، بحديث يجتمع الصوت والصورة، ويمكن الإشهاد على ذلك؟

الجواب: عقد النكاح سماه الله ميثاقًا غليظًا، وهو من الأمور العظيمة التي يترتب عليها استحلال فروجٍ، ويترتب عليها ذريةٌ، ويترتب عليها أمورٌ عظيمةٌ؛ ولهذا ينبغي ألا يُستهان به، ولا شك أن العقد عبر مثل هذه الوسائل عرضةٌ للتزوير، وعرضةٌ للنصب، وعرضةٌ للكذب، فالأقرب في هذا هو المنع؛ سدًّا لهذه الأمور، ولأن بالإمكان التوكيل، هذا الشخص مثلًا وليُّ هذه المرأة يُوكِّل أحد الناس، ويعقد هذا الوكيل وكالةً عنه، بدل أن يلجأ إلى وسيلةٍ مختلفٍ فيها، ويكون في هذا إشكالٌ، فيُوكِّل ولو شفهيًّا من الناحية الشرعية، وأما الأمور النظامية والإجرائية هذه لها شأنٌ آخر، لكن من الناحية الشرعية: إذا وكَّل شخصًا يعقد عنه، فيعقد عنه هذا الوكيل مباشرةً، هذا أحسن من العقد بوسائل الاتصال الحديثة.

السؤال: أحسن الله إليكم، إنسانٌ أخذ دواءً لقصد منع الشهوة، وهذا الدواء يمكث ثلاث سنواتٍ، وإذا رجع إلى زوجته أخذ شعيرًا، فيبطل أثر الدواء خلال ساعتين أو ثلاثةٍ، فهل هذا يجوز؟

الجواب: هذا العمل فيه شَبَهٌ بالاختصاء، وقد منعه النبي ، استأذن عددٌ من الصحابة  النبي في الاختصاء، فمنع منه، وهذا العمل لا شك أن فيه خطورةً وعبثًا بأعضاء الإنسان التناسلية، ولا يضمن إذا عبث في هذا الأمر أن تعود إليه شهوته، فمثل هذا نقول: إن أعضاءه أصلًا ملكٌ لله ، أعضاء بدن الإنسان ملكٌ لله سبحانه وتعالى، ليست ملكًا لك؛ حتى تعبث بها بهذه الطريقة، فمثل هذا نقول: إن هذا العمل الأقرب فيه -والله أعلم- أنه لا يجوز، وبإمكانه أن يعزل أو يستعمل بعض موانع الحمل الموجودة، أما بهذه الطريقة ففيه عبثٌ بأعضاء الإنسان التي هي ليست ملكًا له.

السؤال: أحسن الله إليكم، ما رأيكم فيمن يتتبع أخطاء المشايخ والدعاة، ويجمعها ويضعها في شريطٍ أو نحوه، ويقول: إن هذا تبيين للحق، نرجو التوضيح؟

الجواب: لا شك أن هذا يكسب به الإنسان الذي يفعل ذلك ذنوبًا وأوزارًا، ربما يكون هذا الذي يقع فيه من أولياء الله ، وحقوق العباد مبناها على المشاحة، فمثل هذا العمل -مجرد تتبع أخطاء الآخرين وجمعها، لأمورٍ قد لا تكون صحيحةً، قد يكونون متأولين فيها، وقد يكونون مجتهدين- ليس هذا المنهج الصحيح، المنهج الصحيح: هو المناصحة، الدين النصيحة [27]، إذا لاحظت من أخيك شيئًا، لاحظت عليه شيئًا؛ تذهب وتُناصحه بأي وسيلةٍ؛ إما مشافهةً، أو بورقةٍ، أو عن طريق مثلًا رسائل الجوال، أو نحو ذلك، وتبرأ ذمتك، أما التشهير به بهذه الطريقة، فلا شك أنه لا يجوز مثل هذا العمل، خاصةً إذا كان يَعُدُّ معايبه ومثالبه ويجمعها في شريطٍ ثم ينشرها للآخرين، هذا أولًا وقوعٌ في عِرضه، وغِيبةٌ له: ذكرك أخاك بما يكره [28]، ثم أيضًا كثيرٌ ممن يفعل ذلك تجد أنه يعتقد أن فلانًا أخطأ، وفلانًا مجتهدٌ قد يكون الصواب معه، ثم إن هذا المنهج وهذه الطريقة تنزع بركة العلم، يُصبح صاحبها لا بركة في علمه، يُصبح قاسي القلب، وربما يعاقب، والجزاء من جنس العمل، وهذا الذي يتتبع عورات الناس يُعاقبه الله ؛ ولهذا لا نجد أحدًا من كبار أهل العلم المعروفين بالورع والصدق والرسوخ في العلم يفعل مثل هذه الطريقة، لا أعرف أن أحدًا من كبار أهل العلم المعروفين الذين هم أئمةٌ وقدواتٌ للناس، ومحل قبولٍ للناس يفعلون مثل هذه الطريقة، إنما نجد هذا من بعض صغار طلاب العلم، الذين هم مجتهدون في هذا، لكن هذا اجتهادٌ في غير محله، وبعض الناس -سبحان الله!- يجمع الحسنات، ثم يبدأ يُوزِّعها على خلق الله، يُوزعها على الناس، حقوق العباد أمرها عظيمٌ، وخاصةً إذا كانت في شريطٍ، فيكسب بها آثامًا، وكلما استُمع هذا الشريط؛ يكسب به أوزارًا وآثامًا، النبي ذكر في قصة من زنا بامرأة المجاهد في سبيل الله -هذا في “صحيح مسلمٍ”- أنه يوقف يوم القيامة ويقال له: خذ من حسناته ما شئت، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: فما ظنكم؟، هل سيبقي من حسناته شيء؟ لأنه خانه في أهله [29].

وكذلك من جاهد في الدعوة إلى الله ، ويأتي إنسانٌ ويتتبع عثراته وينشرها بين الناس، هذا على خطرٍ عظيمٍ، والإنسان لا يُزكِّي نفسه: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32]، الإنسان دائمًا يُصلح أخطاءه وعيوبه، وإذا وجد خطأً من أخيه يُناصحه، الدين النصيحة، وكم من إنسانٍ رُمِي بشيءٍ هو منه بريءٌ.

فمثل هذه الأمور هي محل مزلة أقدامٍ، فيها خطورةٌ عظيمةٌ، وينبغي للمسلم أن يسلُك مسلَك الورع، والتأويل في حقوق العباد لا ينفع، تجد من يفعل ذلك عنده تأوُّلٌ، يتأول يقول: هذا من باب التحذير، هذا من باب إنكار المنكر، هذا من باب كذا، كل هذه لا تنفع أمام الله .

إذا كان أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام في جهادٍ في سبيل الله، وكان رجلٌ من المشركين أوجع في المسلمين، وقتل فلانًا وفلانًا، ورفع عليه أسامة  السيف، فقال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، استدعى النبي عليه الصلاة والسلام أسامة ، وسأله قال: يا رسول الله، إنه أوجع في المسلمين، وإنه إنما قالها متعوِّذًا، ما قبل النبي عليه الصلاة والسلام من أسامة أي اعتذارٍ، وجعل يقول: كيف بـ(لا إله إلا الله) إذا أتت تحاجك عند الله؟! [30].

فالتأويل فيما يتعلق بحقوق العباد والتبريرات هذه كلها غير مقبولةٍ؛ ولهذا من يسلك هذا المسلك على خطرٍ عظيمٍ، هو كل يومٍ يوزع حسناته على الناس، وهؤلاء الذين يتتبع عوراتهم في الحقيقة يُهديهم حسناته؛ ولهذا يقول أحد السلف: والله لولا أني أخاف أن يُعصى الله؛ لوددت أن الناس كلهم اغتابوني، وهل هناك أحسن من أن تُهدى إليك حسناتٌ ما عَمِلَتها يداك؟! فهؤلاء يُهدون لهؤلاء حسناتهم.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: أخذُ المال في استخراج رخصة المحل، أو تجديد الإقامة، أو رخصة السيارة، هل هذا من باب التعزير بالمال؟

الجواب: هذا ليس من باب التعزير، هذا من باب السياسة الشرعية، والتنظيمات التي يفعلها وليُّ الأمر لأجل المصلحة، هذه يحكمها باب السياسة الشرعية، وهو بابٌ واسعٌ. التعزير مثل الغرامات المرورية مثلًا هذه من باب التعزير.

السؤال: أحسن الله إليك، إذا قال رجلٌ لزوجته: سأذهب لطلب الرزق، ولا أعلم متى أرجع، فإن شئتِ طلقتكِ، وإلا تبقين على ذمَّتي، فاختارت الطلاق، وقالت: متى رجعت سأتزوجك، ثم تزوجت رجلًا آخر، واشترطت على هذا الزوج الثاني: متى ما رجع الزوج الأول فسأخلع نفسي منك، فما حكم هذا الزواج؟ وما حكم هذا الشرط؟

الجواب: الشرط غير صحيحٍ، شرطها من الزوج الثاني غير صحيحٍ، لكن لها الحق في أن تطلب من زوجها الطلاق، ما دام أنه سيسافر مدةً طويلةً؛ فلها الحق أن تطلب الطلاق وتتزوج من تشاء، لكن شرطها على زوجها الثاني هذا شرطٌ غير صحيحٍ، والنكاح صحيحٌ.

السؤال: أحسن الله إليكم، ما هو الدليل على أن المسافر إذا قصر الصلاة خلف المقيم بطلت صلاته؟

الجواب: هذه مسألةٌ ليست محل إجماعٍ، محل خلافٍ؛ فبعض أهل العلم يقول: إنه إذا قصر المسافر خلف المقيم صلاته صحيحةٌ، وهذا اختيار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله وجماعةٍ، لكن الأقرب -والله أعلم- أنها لا تصح؛ لقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما لما سئل: ما بال المسافر إذا صلى وحده؛ صلى ركعتين، وإذا صلى خلف المقيم؛ صلى أربعًا؟ قال: “تلك السنة”، أخرجه مسلمٌ في “صحيحه” [31]، فقوله: “تلك السنة”، يعني: سُنة النبي .

السؤال: أحسن الله إليكم يقول: ما هو أفضل المتون المنظومة في الفقه؟ وما هي النصيحة لمن أراد حفظ متنٍ في الفقه؟

الجواب: الإجابة عن هذا تطول، لكن “الزاد” نظمه الشيخ ابن عتيكٍ، فمن أراد أن يحفظ النظم جيدٌ، وكذلك ابن عبدالقوي له منظومةٌ شهيرةٌ في الفقه الحنبلي، أربعة عشر ألف بيتٍ، لكن الذي أرى بالنسبة لهذه المتون: من أراد أن يحفظ؛ يحفظ المتن الذي وضعه المؤلف كما هو، دائمًا أنصح بأن تأخذ كلام المؤلف كما هو، حتى لا أحبذ الاعتماد على المختصرات، يعني: لماذا ترجع لــ”مختصر البخاري”، “مختصر مسلمٍ”؟ ارجع لــ”صحيح البخاري” نفسه، “صحيح مسلمٍ” نفسه، فأنا أنصح من أراد أن يحفظ: أن يحفظ المتن كما وضعه المؤلف رحمه الله.

انتهت الأسئلة المكتوبة، نأخذ بعض الأسئلة الشفهية:

السؤال: ……؟

الجواب: هذه “مسألة الظفر”، وتكلمنا عنها مرارًا، وقلنا: إن القول الصحيح: أنه لا بأس بها إذا كان الحق ظاهرًا، يعني: يستطيع أن يُثبته، لكن إذا كان خفيًّا؛ فهذا يفتح باب شرٍّ، كل من سرق يقول: والله “ظَفَر”، كل من أخذ مال غيره يقول: “ظفر”، لكن إذا كان الحق ظاهرًا مثبتًا؛ فلا بأس، لا بأس أن يظفر الإنسان بالمال أو ببعض المال ممن يطلبه هذا الدَّين.

مداخلة: ……؟
الشيخ: للمسلم يا حاج، وهو حاج بالفعل؟

مداخلة: ……

الشيخ: إذا كان حاجًّا بالفعل؛ فهو صادقٌ في وصفه، يعني: وصفه بأنه حاجٌّ وقد حج بيت الله ، لكن إذا كان لم يكن يحج؛ فيكون كذبًا، لكن المعنى الذي لأجله منعوا بالنسبة للذمي، يقولون: كأنه شبَّه الكنيسة ببيت الله ؛ لذلك قالوا: إنه يُعزَّر.

أما بالنسبة للمسلم: فالأصل الإباحة، إلا إذا كان ذلك يدعو للتفاخر والرياء، هذا موجودٌ في بعض الدول، من حج يفتخر عند الناس بهذا، حتى يُنادى بالحاج فلان، أو نحو ذلك، فإذا كان يدعو للتفاخر والرياء؛ فينبغي أن يُترك ذلك.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه ابن ماجه: 2291.
^2 رواه والترمذي: 1358، وابن ماجه: 2290، وأحمد: 25296، والنسائي: 4451، وقال الترمذي: حسن.
^3 رواه البخاري: 6848، ومسلم: 1708.
^4 رواه مسلم: 1852، بنحوه.
^5 رواه النسائي في السنن الكبرى: 8793.
^6, ^20, ^22, ^26 سبق تخريجه.
^7 رواه مسلم: 1218.
^8 رواه البخاري: 6785، ومسلم: 66.
^9 رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: 1671، وأبو يعلى: 1570، والدارقطني: 2886.
^10 رواه الترمذي: 1293، وأحمد: 12198، والدارقطني: 4702، وأصله عند مسلم: 1983.
^11 رواه أبو داود: 1575، والنسائي: 2444، وأحمد: 20016.
^12 رواه مسلم: 2587.
^13 رواه أبو داود: 4391، والترمذي: 1448، وابن ماجه: 2591، والنسائي: 4975، وأحمد: 15070.
^14 رواه البخاري: 2648، ومسلم: 1688.
^15 رواه البخاري: 6789، ومسلم: 1684.
^16 رواه البخاري: 7119، ومسلم: 2894.
^17 رواه النسائي: 4896.
^18 رواه الحصكفي في مسند أبي حنيفة: 4، من حديث ابن عباس -واللفظ له- والترمذي: 1424، من حديث عائشة، وأبو يعلى: 6618، من حديث أبي هريرة  بلفظ: ‌ادرءوا ‌الحدود عن المسلمين ما استطعتم.
^19 سبق تخريجه.
^21 رواه البزار: 8259، والحاكم: 8150، والبيهقي: 17715.
^23 رواه الدارقطني: 3/ 181، والديلمي: 1275.
^24 رواه الدارقطني: 3387، بنحوه.
^25 رواه مالك: 30.
^27 رواه مسلم: 55.
^28 رواه مسلم: 2589.
^29 رواه مسلم: 1897، بنحوه.
^30 رواه مسلم: 97.
^31 رواه مسلم: 688.
zh