logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة لابن عقيل/(102) باب حد القذف- من قوله: “ومن قذف غيره بالزنا حد للقذف..”

(102) باب حد القذف- من قوله: “ومن قذف غيره بالزنا حد للقذف..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

في هذا الدرس سيكون الشرح لمتن “دليل الطالب” فقط، بعدما انتهينا من “منظومة أصول الفقه”، وسبق أن نبهنا على هذا، وقلنا: كون وقت العشاء بدأ يضيق، نقتصر على “دليل الطالب” إلى أن يتوقف الدرس، وننتهي -إن شاء الله تعالى- معه من هذا المتن.

باب حد القذف

كنا قد وصلنا إلى:

باب حد القذف 

تعريف القذف لغةً واصطلاحًا

“القذف” معناه في اللغة: رمي الشيء بقوةٍ.

ومعناه في اصطلاح الفقهاء: هو الرمي بزنًا أو لواطٍ، هذا هو القذف بالمعنى الاصطلاحي، وبالمعنى الشرعي أيضًا.

وقد أوجبت الشريعة في هذا القذف الحد، وسنتكلم عنه، لكن قبل ذلك نُبيِّن آراء العلماء في اعتبار حد القذف حقًّا لله تعالى، أو أنه حقٌّ للآدمي؛ فمثلًا: حد الزنا حقٌّ لله تعالى، حد الحِرَابة حقٌّ لله تعالى، جميع الحدود حقٌّ لله تعالى، حد القطع في السرقة هو حقٌّ لله تعالى، لكن أيضًا فيه جانبٌ من حق الآدمي، لكن الأغلب، القطع نفسه لحق الله .

هل حد القذف حقٌّ لله تعالى أم للآدميين؟

أما حد القذف فمحل خلافٍ بين العلماء؛ هل هو حقٌّ لله ​​​​​​​ أو حقٌّ للآدمي؟ وهذا الخلاف يترتب عليه ثمرةٌ أو ثمراتٌ.

فالخلاف هو بين الجمهور والحنفية:

  • فجمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة ذهبوا إلى أن حد القذف حقٌّ للآدمي؛ وعللوا لذلك بأن سبب وجوب الحد: هو القذف، والقذف جنايةٌ على عِرض المقذوف، وحماية الإنسان لعِرضه حقٌّ له، أشبه ما لو كانت الجناية على البدن، فيقولون: لا فرق بين الجناية على العرض والجناية على البدن، الجناية على البدن حمايتها حقٌّ لهذا المجني عليه، لو لم يُطالب؛ سقط حقه؛ كذلك أيضًا الجناية على العِرض، لا فرق بين الجناية على العِرض والجناية على البدن.
  • القول الثاني: أن حد القذف حقٌّ لله تعالى، وهذا هو مذهب الحنفية؛ وعللوا لذلك بأن استيفاء حد القذف موكولٌ إلى الإمام أو من يُنِيبه، وليس للمقذوف أن يستوفي بنفسه، ولو كان حقًّا لآدمي؛ لجاز له أن يستوفيه بنفسه، وقالوا: لأن الله تعالى هو الذي أمر بجلد المقذوف ورد شهادته، هذا يدل على أنه حقٌّ لله ، وهذا القول الثاني اختاره الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله.

ولكن الذي يظهر: أن القول الراجح -والله أعلم- هو قول الجمهور، وأن حد القذف حقٌّ لآدميٍّ؛ لقوة ما عللوا به؛ فإنه جناية على العِرض، ولا فرق بين الجناية على العِرض والجناية على البدن.

أما ما علل به الحنفية من أن الله تعالى أمر بجلد المقذوف حمايةً لحقوق الآدميين، فهناك بعض العقوبات تكون حمايةً لحقوق الناس؛ كما نهى الله تعالى عن الظلم، وعن أكل أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك، وأما ما عللوا به من كون الاستيفاء موكولًا إلى الإمام؛ فلا يلزم أن يكون حقًّا لله تعالى؛ فإن المقذوف متَّهَمٌ في حق القاذف، فلو أُوكل الاستيفاء إلى المقذوف؛ لربما زاد في الحَدِّ رغبةً في التشفي، فجعل إقامة حد القذف إلى الإمام.

فالصواب إذنْ: هو ما عليه جمهور الفقهاء من أنه حقٌّ لآدميٍّ، وليس حقًّا لله تعالى.

ثمرة الخلاف

يترتب على قول الجمهور بأنه حقٌّ لآدمي: أن يسقط حد القذف بعفو المقذوف، أما على قول الحنفية هل يسقط؟ لا يسقط؛ لأنه حقٌّ لله تعالى.

أيضًا على قول الجمهور لا يُقام حد القذف إلا بطلبه، بينما على قول الحنفية يُقام ولو بغير طلبه.

حد القذف للحر والرقيق

نعود لعبارة المؤلف، قال:

مَن قذف غيره بالزنا؛ حُدَّ للقذف.

نحن قلنا: بالزنا أو باللواط أيضًا، لكن المؤلف إنما اقتصر على قوله: “الزنا”؛ لأن الحنابلة عندهم أن اللواط يدخل في معنى الزنا، وسبق أن ذكرنا تعريف الزنا، وذكرنا أن فيه تعريفين، ورجحنا مذهب الحنفية في تعريفه، وأنه لا يشمل اللواط، لكن الحنابلة إذا قالوا: “الزنا”؛ شمل الزنا واللواط؛ فبناءً على القول الراجح نحتاج أن نقول: من قذف غيره بالزنا أو اللواط؛ حُدَّ للقذف.

وما هو حد القذف؟

أفادنا المؤلف قال:

حُدَّ للقذف ثمانين.

يعني: جلدةً.

إن كان حُرًّا، وأربعين إن كان رقيقًا.

وذلك لقول الله : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، والإحصان ورد في القرآن الكريم على عدة معانٍ، فنريد أن نستذكر هذه المعاني:

وردت ألفاظ: “الإحصان، والمحصن، والمحصنات” في القرآن على عدة معانٍ:

أولها في باب القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4]، المقصود بـالْمُحْصَنَاتِ يعني: العفيفات، ففي باب القذف يُقصد به: العفة، وسنُبيِّن المصطلح الدقيق، يعني: المعنى الدقيق له.

أيضًا يطلق الإحصان على ماذا؟

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، على الحرية، فالمحصن يعني: الحر، من يذكر لنا آيةً في هذا؟

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ [النساء:25]، يعني: الحرائر، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ [النساء:25] يعني: الحرائر، فإذنْ يُطلق على الحرية.

أيضًا يطلق على معنًى آخر: على المتزوجات: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24].

وأيضًا في باب الزنا يقول الفقهاء: إن المحصن يُرجم، وغير المحصن جَلدُ مئةٍ وتغريب عامٍ، فما المقصود بالمحصن؟ مرَّ معنا: من وَطِئ في نكاحٍ صحيحٍ، من وَطِئ في قُبُلٍ في نكاحٍ صحيحٍ.

فإذنْ يُطلق على هذه المعاني كلها، ما الذي يُحدِّد المعنى؟ هل هو العفَّة؟ هل هو الحرية؟ هل هو من وَطِئ في نكاحٍ صحيحٍ؟ هل المقصود به المتزوجات؟ الذي يحدد هذا هو السياق.

إذنْ حد القذف ثمانون جلدةً، حُدَّ ثمانين جلدةً إن كان المقذوف حُرًّا، وإن كان رقيقًا أربعٍن، وسيأتينا تفصيل الشروط في هذا.

هذا إذا كان المقذوف حرًّا، فيُحد القاذف ثمانين جلدةً، أما إذا كان عبدًا فيكون الحد أربعين جلدةً، يكون الحد أربعين جلدةً إذا كان القاذف عبدًا، أيضًا إذا كان القاذف حرًّا ثمانين جلدةً، وإذا كان عبدًا أربعين جلدةً.

أما إذا كان المقذوف حُرًّا أو إذا كان عبدًا: سيأتي الكلام عنه في الشروط، شروطه في القاذف، وشروطه في المقذوف.

إذنْ مقصود المؤلف بقوله: “حُدَّ”، يعني: حد القاذف للقذف ثمانين جلدةً إذا كان القاذف حُرًّا، وأربعين جلدةً إذا كان القاذف عبدًا.

أما إذا كان حرًّا؛ فللآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، وإذا كان عبدًا؛ فلقول الله : فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، فالعبد على النصف من الحر.

هناك عقوبةٌ أخرى غير الجلد، ما هي؟ رَدُّ الشهادة: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ۝إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور: 4-5]، فتُرَدُّ شهادته، وهذه عقوبةٌ أدبيةٌ، الأولى عقوبةٌ حسيةٌ، الجلد ثمانين جلدةً عقوبةٌ حسيةٌ، رَدُّ شهادته عقوبةٌ أدبيةٌ.

والحكمة منها: أنه آذى الناس بلسانه، فناسب أن تُعطَّل منافع هذه الآلة التي استُخدمت في ذلك الأذى، فهذه من حكمة الشارع أن رتب هذه العقوبة المادية والعقوبة الأدبية.

فإذنْ حدُّ القذف: ثمانون جلدةً إذا كان حُرًّا، وأربعون إذا كان رقيقًا، مع ردِّ شهادته إلا أن يتوب.

ثم فصَّل المؤلف الشروط الواجبة، وجعل بعضها في القاذف وبعضها في المقذوف، يعني: يجب إقامة حد القذف إذا وُجدت أو تحققت هذه الشروط التسعة.

شروط القاذف

أربعةٌ منها في القاذف: وهو أن يكون بالغًا، عاقلًا، مختارًا، ليس بوالدٍ للمقذوف وإن علا.

“أن يكون بالغًا عاقلًا” يعني: فغير البالغ لا يُحد حد القذف؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلم، والمجنون كذلك لا يُحد حد القذف إذا قَذَف مختارًا، والمكره أيضًا لا يُحد حد القذف إذا كان مكرهًا على القذف.

حكم من قذف ولده

قال: “ليس بوالدٍ للمقذوف وإن علا”، فالوالد لو قذف ولده؛ فإنه لا يُحد حد القذف، وهكذا الجد وإن علا، وهكذا الأم أيضًا؛ وذلك لأنها عقوبةٌ تجب حقًّا لآدميٍّ، فلم تجب لولد على والده؛ كالقصاص، ولأن العلاقة بين الوالد وولده علاقةٌ خاصةٌ كما مر معنا.

فالوالد له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، بشرط ألا يضره، وألا يُعطيه ولدًا آخر، إذا قَتل لا يُقتص منه، فالعلاقة بينهما علاقةٌ خاصةٌ، هكذا لو قذفه؛ فإنه لا يُحد حد القذف بهذا.

حكم القذف عند الغضب

القذف حال الغضب، هل يُشترط مثلًا عدم الغضب، قذف الغضبان، أو في حال الخصومة، هل يُحد أو لا يُحد؟

هذه المسألة محل خلافٍ بين العلماء: قذف الغضبان حال الخصومة؛ لأن حال الخصومة قد يكون غضبانًا وقد لا يكون غضبانًا؛ إذا لم يكن غضبانًا؛ فإنه يُحد، لكن كلامنا عن الغضبان غضبًا شديدًا، سواءٌ في خصومةٍ أو في غيرها، لكن الغالب أن الغضب الشديد يكون في حال الخصومة.

فالغضبان غضبًا شديدًا إذا قذف هل يُحد حد القذف أم لا؟

الجمهور على أنه يُحد حد القذف؛ وذلك لأنه نطق بقذفِ هذا الإنسان، فيُحد حد القذف؛ لعموم الأدلة.

وقال بعض العلماء: إن الغضبان غضبًا شديدًا لا يُحد حد القذف؛ وذلك لكونه مغلقًا عليه، قال عليه الصلاة والسلام: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق [1]، وفكره مشوشٌ؛ ولذلك لا يقع طلاقه، ولا يلحق المقذوف العار بالقذف حال الغضب الشديد، كما يلحقه في غيره، وقد قوَّى ابن القيم هذا القول، وقال: القول بأنه لا يُحد قولٌ قويٌّ جدًّا، لكن يمكن أن يُعزر تعزيرًا يناسب الجرم، يُعزر بما يناسب.

حكم القذف بسبب الغيرة

القذف على وجه الغيرة، هل يُحد؟ لو أن امرأةً قذفت ضَرَّتها على وجه الغيرة؟ يعني غارت منها غيرةً شديدةً فقذفتها، فيجري في ذلك الخلاف السابق:

  • الجمهور على أنه يُحد من قذف غيره على وجه الغيرة.
  • والقول الثاني: أنه لا يُحد وهو قول الإمام مالكٍ، وذكره ابن مفلحٍ في “الفروع”، ذكره احتمالًا، وقوَّاه ابن عَقيلٍ، واختاره ابن تيمية، رحمهم الله تعالى جميعًا.

فقالوا: إن الغيرة مثل الغضب الشديد، يكون الإنسان مشوشًا عليه فكره، والناس لا يأبهون بها، يعرفون مثلًا أن  هذه المرأة عندما قذفت ضَرَّتها لا يلحق الضَرَّة العار الذي يلحقها من غيرها، فالناس يفرقون بين من يُقذف على وجه الغيرة والغضب الشديد، أو من لم يكن كذلك.

فاختار ابن تيمية رحمة الله عليه أن القذف على وجه الغيرة لا يُحد المقذوف، لكن في هذه المسائل سواءٌ في الغضب الشديد، أو في القذف على وجه الغيرة، ليس معنى ذلك: أن القاذف يُترك، بل يُعزَّر، والتعزير لا بد أن تكون عقوبته أقل من الحد.

شروط المقذوف

وخمسةٌ في المقذوف: وهو كونه حرًّا.

هل يُشترط أولًا في القاذف أن يكون حرًّا؟  القاذف هل يُشترط أن يكون حرًّا؟

لم يذكره هنا من الشروط، فإذا كان الحر يُحد؛ فالعبد من باب أولى أنه يُحد، لكن الخلاف فقط في الاختلاف بينهما في أي شيءٍ؟ في قدر العقوبة: الحر كم؟ ثمانون جلدةً، والعبد: أربعون.

فليست الحرية إذنْ شرطًا في القاذف، لكنها شرطٌ في المقذوف، قال: “وهو كونه حرًّا”، يعني: كون المقذوف حرًّا.

مسلمًا، عاقلًا، عفيفًا عن الزنا، يوطأ ويطأ مثله.

يُعبر عن هذا بعضهم بأن يكون محصنًا، وتعريف الإحصان عرفه الموفق بن قدامة في “المقنع”، قال: “المحصن: هو الحر المسلم العاقل العفيف، الذي يجامع مثله”. يعني: نفس عبارة صاحب “الدليل” لكن نظمها بهذا: “هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله”.

فلا بد من كون المقذوف حرًّا، فقذف غير الحر لا يوجب الحد، وإنما يوجب التعزير.

كذلك أن يكون مسلمًا، فقَذْف الكافر لا يوجب الحد، لكن سيأتي أنه يوجب التعزير.

كذلك أيضًا قذف غير العفيف لا يوجب الحد، وإنما يوجب التعزير، كيف نعرف أنه عفيفٌ أو غير عفيفٍ؟ إذا كان مثلًا يُقبض عليه في جرائم، ومعروفًا بالفسق، مشتهرًا عند الناس بالفسق، هذا يكون قَذْفه يوجب التعزير لا يوجب الحد.

“يُوطأ ويطأ مثله”، وهو عند الحنابلة: مَن بلغ عشر سنين بالنسبة للذكر، ومن بلغت تسع سنين بالنسبة للأنثى.

حكم من قذف غير البالغ

استدرك المؤلف قال:

لكن لا يُحد قاذفُ غيرِ البالغ حتى يبلغ؛ لأن الحق في حد القذف للآدمي فلا يقام بلا طَلَبِه.

يعني: نحن لما اشترطنا أن يكون عاقلًا، لم نقل: بالغًا، قلنا: أن يكون حُرًّا مسلمًا عاقلًا عفيفًا، يطأ أو يوطأ مثله.

أراد المؤلف أن ينبِّه على شرط البلوغ، هل يشترط البلوغ في المقذوف؟ فالمؤلف يقول: إنه لا يشترط، لكن لا يُحد قاذفُ غير البالغ حتى يبلغ، وعلَّل هذا مع أنه ليس من عادته أن يأتي بالتعليل إلا في أحوالٍ قليلةٍ قال: “لأن الحق في حد القذف للآدمي، فلا يقام بلا طلبه”، ولا أثر لطلبه قبل البلوغ، فمن قذف غير البالغ؛ ينتظر حتى يبلغ ثم ننظر؛ هل يُطالِب بإقامة الحد على القاذف أم لا؟ وهذا هو القول الأول.

والقول الثاني في المسألة: أن بلوغ المقذوف شرطٌ لوجوب الحد على القاذف، وهذا هو قول أبي حنيفة والشافعي.

وحتى على قول الحنابلة لا بد أن يكون المقذوف يجامع مثله، وقلنا: عندهم أن الذي يجامع مثله: إذا كان ذكرًا كم عمره؟ عشر سنين، وأنثى: تسعًا؛ فمعنى ذلك: أن الصبي الذي أقل من عشر سنين إذا قُذِف؛ لا يُحد قاذفه بالإجماع، وهكذا الأنثى إذا قُذِفت وهي دون تسعٍ لا يُحد قاذفها بالإجماع، إنما الذي فيه الخلاف: هو ما بين العشر إلى البلوغ بالنسبة للذكر، وما بين التسع إلى البلوغ بالنسبة للأنثى، فعند الحنابلة: أن قاذف هؤلاء يُحد، لكن يُؤخَّر حتى البلوغ، فننظر؛ هل يُطالِب أو لا يُطالِب المقذوف؟ وعند الجمهور أنه لا يُحد، وإنما يُعزر تعزيرًا يناسب هذا القذف.

مداخلة: …..

الشيخ: إي نعم، من بلغ عشر سنين، الفقهاء يقولون: إن هذا يحصل.

الأقرب والله أعلم هو قول الجمهور، الأقرب: هو أن البلوغ شرطٌ في المقذوف؛ وذلك لأن المقذوف إذا كان غير بالغٍ لا يلحقه التعيير الذي يلحق البالغ، لا زال صغيرًا عمره عشر سنواتٍ، أو طفلةً عمرها تسع سنواتٍ، فلا يلحقه من العار ما يلحق البالغ.

مداخلة: …..

الشيخ: يعني مثلًا مَن عمره أربع عشرة سنةً، ولم تُوجد فيه بعض العلامات الأخرى؟ هذا ممكنٌ، يعني: المسألة محل اجتهادٍ، ربما أيضًا يقال: إنها ترجع لاجتهاد القاضي، فإذا رأى أن العار يلحقه، فيُحكم بإقامة حد القذف، وإذا رأى أنه لا يلحقه؛ فلا يُحكم، قد يقال: إن هذا يختلف باختلاف البيئات، في بعض البيئات يلحقه العار إذا كان قريبًا من البلوغ، وفي بعضها لا يلحقه العار، فهذه المسألة ليس فيها نصٌّ، هي محل اجتهادٍ.

مداخلة: …..

الشيخ: هذه هي الحكمة من إقامة حد القذف، مقصد الشارع: أن هذا المقذوف قد لحقه العار، فحتى يزول عنه هذا العار؛ يُجلد القاذف فيتبيَّن للناس أن هذا المقذوف بريءٌ.

حكم من قذف غير المحصن

قال:

ومن قذف غير محصنٍ؛ عُزِّر.

أشرنا لهذا قبل قليلٍ، وصرح المؤلف بهذا: غير المحصن، كما قلنا: غير العفيف، وغير الحُرِّ، فهذا قَذْفُه لا يُوجب الحد، لكنه يُوجب التعزير؛ ردعًا عن أعراض المعصومين، وكفًّا للأذى عنهم.

ولاحِظ هنا أنه حتى قذف غير المحصن يُوجب التعزير، وقذف المحصن يوجب الحد؛ وهذا يدل على أن الكلمة في الشريعة الإسلامية لها قيمتها وأثرها، ليست مجرد كلامٍ يقال من غير محاسبةٍ، فالإنسان محاسبٌ على الكلام الذي يتكلم به في الدنيا والآخرة.

أما ما يوجد عند بعض البيئات مثل الغرب، يقولون: من أراد أن يتكلم؛ يتكلم، فيتكلم بما شاء ولو في سبِّ الخالق جل وعلا، هذه فِطَرٌ منتكسةٌ، عندهم في الغرب أماكن يجعلون فيها من أراد أن يتكلم؛ يتكلم بما شاء، يسبُّ من يشاء، ويقدح فيمن شاء، ويتكلم بما شاء، ويقولون: هذه حرية التعبير، هذا غير صحيحٍ، الكلمة في الإسلام لها شأنها، ولها قيمتها، ولها وزنها.

الإنسان يدخل الإسلام بكلمةٍ، كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، ويخرج من الإسلام بكلمة الكفر، يدخل عقد الزوجية، تحل له هذه المرأة الأجنبية بكلمة الإيجاب والقبول، يقول: زوَّجتك، يقول: قبلت، أصبحت زوجةً له، يَحِل له وطؤها، ترثه ويرثها، يترتب على ذلك ما يترتب على عقد الزوجية من أحكامٍ بمجرد كلمةٍ.

في حَدِّ القذف: مجرد أنه يقول لفلانٍ: يا زاني، أو نحو ذلك، يُجلد ثمانين جلدةً وترد شهادته.

في الظهار: إذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي؛ تجب عليه الكفارة المغلظة: وهي عتق رقبةٍ، فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكينًا؛ من أجل كلمةٍ.

الطلاق: إذا قال لزوجته: أنتِ طالقٌ؛ انحلَّ عقد الزوجية، إذا قال: طالقٌ ثم طالقٌ ثم طالقٌ؛ حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره.

لاحِظ كل هذا بكلماتٍ، هذا يدل على أن الكلمة في الإسلام لها شأنها، والإنسان مسؤولٌ عن الكلام الذي يتكلم به، ولهذا يُكتب على الإنسان ما يتلفظ به: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وإذا كان يُكتب الكلام الذي يتكلم به الإنسان؛ فتُكتب أفعاله من باب أولى، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ يعني: أو فعلٍ أو عملٍ من باب أولى، كل شيءٍ يُكتب على الإنسان، وتُوضع في ميزانٍ دقيقٍ، حتى الذَّر يُحاسب عليه: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [الأنبياء:47] يعني: أصغر شيءٍ ممكن تتخيله يُؤتى به، أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].

فلاحِظ ترتيب هذه العقوبة على مجرد كلمةٍ، فليس للإنسان أن يُؤذي الناس بلسانه، ثم يقول: هذا مجرد كلامٍ في الهواء، هذا غير صحيحٍ، الكلام في الهواء، لكن له أثرٌ، وأنت محاسبٌ عليه في الدنيا والآخرة.

فإذنْ القذف للمحصن وغير المحصن يعاقب عليه، لكن قذف المحصن يُوجب الحد، وقذف غير المحصن يُوجب التعزير.

والتعزير سنتكلم عنه -إن شاء الله تعالى- في بابٍ مستقلٍّ.

كيفية ثبوت حد القذف

قال:

ويثبت الحد هنا وفي الشرب والتعزير بأحد أمرين:

والصحيح: أنه في جميع الحدود ما عدا حد الزنا -كما مرَّ معنا- أربعة شهودٍ، لكن في جميع الحدود ما عدا حد الزنا يثبت بأحد أمرين:

 إما بإقراره مرةً، أو شهادة عدلين فأكثر.

فإذا أقر؛ فكما يقال: الإقرار هو سيد الأدلة، الإنسان العاقل لا يمكن أن يُقِر على نفسه إلا بما صدر منه.

“أو شهادة عدلين فأكثر”: أيضًا من البينات القوية: شهادة الشهود.

الأمور التي يسقط بها حد القذف

قال:

فصلٌ
ويسقط حد القذف بأربعةٍ:

انتقل المؤلف للكلام عن مسقطات حد القذف، يعني: إنسانٌ قذف آخر وترتب الحد، فما الذي يُسقط هذا الحد؟ قال الأول:

بعفو المقذوف.

وهذا بناءً على قول الجمهور: وهو أن حد القذف حقٌّ لآدميٍّ، فإذا عفا المقذوف؛ سقط حد القذف، يعني: بعض الناس ربما يرفع شكايةً في القاذف، فإذا حكم القاضي بجلده؛ عفا وقال: فقط أردت أن أؤدِّبه بذلك، أو أنه إذا حكم القاضي بإقامة حد القذف؛ يأتي القاذف أو بعض قرابته ويستسمحون المقذوف، فيسمح ويُسقط حقه، المهم أنه متى ما عفا المقذوف؛ يسقط حد القذف.

أو بتصديقه.

يعني: بإقراره، لما قال: يا زاني؛ أقرَّ بالزنا، فيسقط الحد عن القاذف.

أو بإقامته البينة.

يعني: لما قال: يا زاني، أتى معه بثلاثة شهودٍ فشهدوا، فاكتمل نصاب الشهادة أربعة شهودٍ، فيسقط حد القذف.

أو باللعان.

هذا بين الرجل وزوجته، وسبق أن تكلمنا عن أحكام اللعان بالتفصيل، وقلنا: إن الزوج إذا قذف زوجته بالزنا؛ إما أن يلاعن، وإما أن يُحد حد القذف.

حكم القذف

ثم انتقل المؤلف للكلام عن حكم القذف.

القذف المحرم

قال:

والقذف حرامٌ، وواجبٌ، ومباحٌ؛ فيحرُم فيما تقدم.

يعني: الأصل أنه حرامٌ، قذفُ الإنسان لغيره الأصل فيه التحريم، وحقوق العباد مبناها على المشاحة، النبي عظَّم شأنها في أعظم مجمعٍ في عهده عليه الصلاة والسلام، قال: أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا [2].

انظر كيف عظَّم النبي شأن حقوق العباد، حرمتها عظيمة جدًّا عند الله ، حقوق الله تعالى مبناها على المشاحة، قد يعفو الله عن حقه، لكن حقوق العباد تبقى لأصحابها، فأمرها عظيمٌ جدًّا؛ ولهذا ينبغي غرس هذا المعنى في نفوس المسلمين، وأن يُعظِّموا شأن حقوق العباد.

فالأصل في القذف هو التحريم، لكن القذف بالزنا أو اللواط هو الذي يوجب حد القذف، القذف بغيره أيضًا محرمٌ، كون الإنسان يتهم غيره بتهمةٍ هو منها بريءٌ، هذا أيضًا محرمٌ، ومن ذلك: اتهام بعض الناس وتصنيفهم، هذا مثلًا مبتدعٌ، هذا كذا، هذا كذا، وربما يكون هذا الشخص الذي صُنِّف بريءٌ وغافلٌ، فهذا يصدُق عليه هذا المعنى.

ولهذا لما قيل للإمام أحمد: أتسبُّ يزيد؟ قال له ابنه: يا أبتِ هل تسبُّ يزيد؟ قال: ومتى رأيت أباك يسبُّ أحدًا؟!

هذه أخلاق الأئمة، المسلم يكون لسانه عفيفًا، فلا يقذف غيره، ولا يتهم غيره بالتُّهم الباطلة، ويُغلِّب حسن الظن في إخوانه المسلمين، ويلتمس لهم الأعذار، أما ما نجده من بعض الناس أنه يُلقي التهم جزافًا، وربما أنه يُصبح ويُمسي وهو يوزع حسناته على الناس بالغِيبة، وباتهام الناس بما هم منه برآءٌ، لَأَنْ تُخطِئ في العفو؛ خيرٌ من أن تُخطئ في العقوبة، لأنْ تخطئ في حسن الظن بأخيك المسلم؛ خيرٌ من أن تُسيئ الظن به وتتهمه بما هو منه بريءٌ، هذه ينبغي أن يُتَرَفَّع عنها، خاصةً طلاب العلم يترفعون عن مثل إلقاء التهم على الآخرين، ونبذهم وقذفهم، وربما يكون هذا المقذوف بريئًا، وربما يكون غافلًا أصلًا عن هذه المعاني التي يوصف بها، والقذف بالبدعة مثلًا أو بالكفر لا يقل شناعةً عن القذف بالزنا، بل ربما يكون أشد، كون الإنسان مثلًا يوصف بالكفر أو بالبدعة وهو بريءٌ، الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ۝ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، هذا يقتضي اللعن في الدنيا والآخرة، هذا يقتضي شدة الأمر.

فهذه تجدها عند بعض الناس سهلةً، ويُزيِّن لهم الشيطان ذلك بالتأويل، والتأويل لا ينفع صاحبه، كل عاصٍ عنده تأويلٌ، حتى إبليس، إبليس لما أمره الله تعالى بالسجود لآدم؛ تأوَّل، قال: كيف أسجد؟! أنا خيرٌ منه، كيف أسجد وأنا خلقت من نارٍ؟! يعني: عنده تأويلٌ، هل نفعه تأويله هذا؟ ما نفعه، آدم كان متأوِّلًا لما أكل من الشجرة: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، فالتأويل لا ينفع صاحبه، خاصةً في حقوق العباد، قد نقول: إنه فيما بين الإنسان وبين ربه حقوق الله مبناها على المسامحة، لكن في حقوق العباد ما ينفع معها التأويل، والدليل على أن حقوق العباد لا ينفع معها التأويل: قصة أسامة بن زيدٍ  لما بعثه النبي في سَرِيةٍ، فكان هناك رجلٌ من المشركين أوجع في المسلمين، وقتل فلانًا وفلانًا وفلانًا، فلحقه أسامة بن زيدٍ فلما رفع السيف على رأسه يريد أن يقتله؛ قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فبلغ ذلك النبي ، فدعا أسامة  وقال: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!، قال: يا رسول الله، إنه أوجع في المسلمين وقتل فلانًا وفلانًا، وإنه قالها متعوِّذًا، قال: هلَّا شققت عن قلبه فتعلم أقالها أم لا؟!، فجعل أسامة  يعتذر، والنبي عليه الصلاة والسلام ما يقبل عذره، قال: يا أسامة، كيف بلا إله إلا الله إذا أتت تُحاجُّك عند الله؟!، فتأثر أسامة بن زيدٍ تأثرًا عظيمًا، وقال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله [3].

ولما وقعت الفتن بعد مقتل عثمان  اعتزل الفتن كلها، وبقي في منزله، تأثر بهذا الموقف مع أنه في جهادٍ في سبيل الله، والذي أرسله مَن؟ النبي عليه الصلاة والسلام، وظاهر الحال أيضًا أنه قالها متعوِّذًا، أوجع في المسلمين، فلما رُفع عليه السيف؛ قال: لا إله إلا الله، ومع ذلك ما قبل النبي عليه الصلاة والسلام تأويل أسامة وتبريره؛ لأنه متعلِّقٌ بحقوق العباد.

حقوق العباد -يا إخوان- ما ينفع معها التأويل، ولا ينفع معها التبريرات، وهي باقيةٌ لأصحابها يوم القيامة، فهذا يدل على خطورة المسألة، وأن الذين يتهمون الناس، ويقذفون الناس بما هم منه برآءٌ، ربما هذا الذي تتهمه قد يكون وليًّا من أولياء الله ، قد يكون إنسانًا تقيًّا صالحًا، قد يكون اجتهد وأخطأ، فينبغي أن نلتمس له العذر، وأن نُقدِّم له النصح على الوجه المشروع، أما الاتهام بهذه الطريقة التي نسمعها من بعض طلاب العلم، لا شك أنه منهجٌ مخالفٌ للنصوص، ومخالف لمنهج السلف الصالح أيضًا رحمهم الله تعالى.

مداخلة: …..

الشيخ: ما نُقِل، لكن أنكر عليه إنكارًا شديدًا، وما قبل منه اعتذاره، ما قبله منه، حتى إن أسامة تأثر من شدة الموقف، لكن ما نُقل أنه ترتب عليه شيءٌ.

إذنْ الأصل في القذف أنه حرامٌ، هذا هو الأصل.

القذف الواجب

قال:

ويجب على مَن يرى زوجته تزني، ثم تلد ولدًا يَقوَى في ظنِّه أنه من الزاني؛ لشَبَهِه به.

إذا وجد امرأته تزني وحملت من الزنا، فيجب عليه أن يقذفها وأن يلاعنها، يجب عليه اللعان في هذه الحال، واللعان لا بد أن يسبقه قذفٌ، سبق قذفها بالزنا.

وأما قول المؤلف هنا: “ويقوى في ظنه أنه من الزاني؛ لشبهه به”، يعني: لا يجب عليه إلا إذا حملت من الزاني، كيف يعرف أنها حملت من الزاني؟

بالقرائن كما ذكر المؤلف، وهذا عند الفقهاء السابقين، أما في وقتنا الحاضر فيمكن أن يتيقَّن أنها حملت من الزاني أو لا بأي شيءٍ؟ بالحمض النووي، أو ما يسمى “البصمة الوراثية”، هذه تفيد القطع في وقتنا الحاضر، فيمكن أن يتأكد عن طريق الحمض النووي، فإذا تأكَّد أن هذا الولد ليس منه؛ يجب عليه اللعان.

أما إذا كان الولد منه، لكنها زنت، فلا يجب عليه اللعان، ولكن لا بد أن تتوب، فإن تابت؛ فهو بالخيار؛ إن شاء أمسكها، وإن شاء تركها، لكن إن لم تَتُب لا يجوز أن يُبقيها في ذمته: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، فقد يكون مثلًا عنده منها أولادٌ، ولا يستطيع مثلًا أن يفارقها لأجل قيامها بشؤون أولادها، فإذا تابت ولم تحمل من الزاني؛ فيجوز له أن يبقيها، أما إذا حملت؛ فيجب عليه لعانها، وإذا قلنا: إنه يجب لعانها؛ فلا بد من سَبْقِ قذفها بالزنا قبل ذلك، هذا معنى قول المؤلف: إنه يجب في هذه الحال.

القذف المباح

ولهذا قال بعد ذلك:

ويباح -إذا رآها تزني ولم تلد- ما يلزمُه نفيُه، وفراقها أولى.

يعني: إذا زنت، لكن لم تحمل من الزاني، فيباح له أن يقذفها وأن يلاعنها، ويباح له ألا يفعل ذلك، وهل يطلقها أم لا؟

يقول المؤلف: إن طلاقها أولى؛ وذلك لأنه أستر، ولأن قذفها يفضي إلى حلف أحدهما كاذبًا إذا تلاعنا أو إقرارها فتفتضح، فإذا لم تَحمل؛ فالأولى ألا يلاعنها، يعني: له خيارٌ آخر في التخلُّص منها، ما هو؟ الطلاق، يطلقها، ما يوجد داعٍ لأن يلاعنها ويفضح أسرته، وأكثر من يتأثر أولاده أيضًا، سيتأثرون تأثرًا عظيمًا بهذه الملاعنة إذا لم تَحمل، نقول: يطلقها، لكن هل يجب عليه طلاقها؟ على التفصيل الذي ذكرنا؛ إذا تابت؛ لا يجب، أما إذا لم تتب؛ فيجب.

مداخلة: …..

الشيخ: الملاعنة تقتضي الفُرقة الأبدية، انتهى، الفرقة الأبدية، لا تحل له مطلقًا، حتى ولو نكحت زوجًا غيره.

جاء في “سنن أبي داود” وعند أحمد: أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترُدُّ يد لامسٍ، فقال: طلِّقها، قال: إني أحبها، قال: أمسكها [4]، وهذا الحديث مختلَفٌ أولًا في درجته، من العلماء من ضعَّفه، ومنهم من صححه، وعلى تقدير صحته فسَّر ذلك جمعٌ من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية والحافظ ابن حجرٍ، قالوا: إن المقصود لا ترد يد لامسٍ، يعني: أنها تتساهل مع الرجال الأجانب لكنها لا تزني؛ لأنها لو كانت تزني؛ ما قال: أمسكها، ولكن المعنى: أنها تتساهل، وشرح ذلك أبو العباس ابن تيمية قال: بعض النساء تتساهل مع الرجال الأجانب، لو مسها رجلٌ أجنبيٌّ؛ لم تمانع، وتتوسع في الحديث معه، وإذا تحرش بها؛ لا تمانع، لكن لو أراد أن يزني بها لامتنعت، فهذا هو معنى الحديث، وليس المعنى أنها تزني، فهنا رخص له النبي عليه الصلاة والسلام، فيُطلقها ما دام عنده هذا القلق وهذه الوسوسة، وهذا من تساهلها، له أن يطلقها، لكن لما ذكر مانعًا آخر: وهو أن قلبه متعلقٌ بها لمحبته لها؛ قال: إذنْ أمسكها، فهذا حاصل كلام أهل العلم حول هذا الحديث على تقدير ثبوته، وإلا فمن العلماء من ضعفه.

ألفاظ القذف الصريحة

قال:

فصلٌ
وصريح القذف.

انتقل المؤلف للكلام عن صريح القذف وكنايته.

وصريح القذف وكنايته تختلف من زمانٍ إلى زمانٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ، فتختلف باختلاف الأزمنة والأماكن والأعراف.

فالمؤلف يحكي أشياء، أو يحكي ألفاظًا في زمنه وبيئته التي عاش فيها؛ ولذلك سيأتي أن ألفاظًا حكاها المؤلف وهي في عرفنا صريحةٌ.

طيب، نأخذ ألفاظ المؤلف، قال:

وصريح القذف: يا منيوكة، يا منيوك، يا زاني، يا عاهرٌ، يا لوطي، ولست ولد فلانٍ فقذفٌ لأُمِّه.

لكن هذه الألفاظ: “المنيوك والمنيوكة” المؤلف اعتبرها الآن من الصريح، وهذه أيضًا لا تزال في وقتنا الحاضر كذلك، يا زاني، أيضًا صريحٌ، لكن “يا عاهر”، هل هو صريحٌ الآن؟ أو ليس بصريحٍ في عرف الناس؟ “العاهر”، ما هو المعنى الآخر؟ يعني: المعنى الأول: أنه يا زاني، لكن ما هو المعنى الآخر الذي يريده بعض الناس؟ أو طويل اللسان، بعض الناس يقصد بالعاهر: طويل اللسان، أليس كذلك؟

إذنْ يختلف من بيئةٍ إلى أخرى، لكن يظهر أن عندنا هنا في المملكة أنه قد يُراد به هذا وقد يراد به هذا، قد يراد به: الزاني، وقد يراد به: طويل اللسان، فأنا أذكر أن قضيةً حدثت: أن إنسانًا قال لآخر: يا عاهر، فلما رُفعت القضية للقاضي؛ فتح “الرَّوْض” وقال: هذا من الألفاظ الصريحة، حكم بإقامة حد القذف على القاذف، فأنا قلت: إن العاهر عندنا قد يراد به: طويل اللسان، والقاذف ما قصد: يا زاني، يقصد أن هذا طويل اللسان؛ لأنه في معرض خصومةٍ، فكان يقصد أنك طويل اللسان وشديد الخصومة، فالمقذوف طلب إقامة الحد على القاذف، فلما ذهبتَ للقاضي؛ وجد القاضي هذه الألفاظ، حكم واعتبرها من الصريح، أنا في نظري: أن هذا ليس من الصريح، هذا من الكناية، والكناية سيأتي الكلام عنها.

مداخلة: …..

الشيخ: لا، ما يقام، لا بد أن يكون على آدميٍّ.

مداخلة: …..

الشيخ: هذا تصرفٌ من الحيوانات فيما بينها، لكن بالنسبة لإنسانٍ مع حيوانٍ لا يقام، ما يقام، حتى ذكرنا في الدرس حتى مَن أتى بهيمةً لا يقام عليه الحد، وقلنا: الحديث المروي في ذلك حديثٌ ضعيفٌ.

مداخلة: …..

الشيخ: لا، لا، ما يقام، هذا أصلًا الأمور هذه غير مراعاةٍ في البهائم.

مداخلة: …..

قال: “ولست ولد فلان؛ فقذفٌ لأُمِّه”.

يعني: للمفعول له.

ألفاظ الكناية

وكنايته:

يعني: في بيئة المؤلف.

زنت يداك.

طبعًا “يا لوطي” تدخل في هذا، “يا لوطي” أيضًا من الألفاظ الصريحة كما ذكرنا.

وكنايته: زنت يداك أو رجلاك أو يدك أو رجلك أو بدنك.

لأنه قد يُقصد بذلك الزنا الصريح، وقد يقصد بذلك ما ورد في الحديث، وهو قول النبي : العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يكذبه [5]، فإذا فسَّره بغير الزنا الصريح قُبل.

إذنْ هذه ألفاظ الكناية، إذا فسرها بغير الزنا الصريح يُقبل، أما الصريح لو فسرها بأمر آخر؛ لا يُقبل، هذا هو الفرق بين الصريح والكناية.

ويا مخنث.

هل هذا من الصريح أو من الكناية؟

الذي يظهر في بيئتنا أنه من الصريح، مع أنه قد يكون في بعض البيئات كنايةً، ولذلك نحن وضعنا فيها قاعدةً عامةً، لكن عندنا هنا في المملكة هذه من الصريح.

ويا قَحبة.

وكذلك هنا أيضًا صريحٌ، يظهر في معظم البيئات أنه صريحٌ، فإذنْ يبدو أنه في زمن المؤلف ليس بصريحٍ، فلذلك هذه يُرجع فيها للعرف.

ويا فاجرة، ويا خبيثة.

هذه كنايةٌ، قد ما يقصد بها الزنا، فإذا فسرها بغير الزنا؛ فيُقبل.

أو يقول لزوجة شخصٍ: قد فضحتِ زوجك، وغطيتِ رأسه.

فهذه من ألفاظ الكناية؛ لأنه يحتمل أن المقصود فضحتِ زوجك بشكواك وطول لسانك مثلًا، ونكَّستِ رأسه؛ يعني: حياءً من الناس بسبب أنكِ سيئة الخلق، أو سيئة العشرة، ويحتمل أن يقصد الزنا، فإذا فسَّره بما يحتمله قُبِل.

وجعلتِ له قرونًا.

يحتمل أنه يريد الزنا، ويحتمل أنه مسخَّرٌ منقادٌ لكِ؛ كالثور الذي له قرونٌ، يعني هكذا قالوا، فإذنْ يقبل تفسيره.

وعلَّقْتِ عليه أولادًا من غيره.

هل هذا صريحٌ أو كنايةً؟ يحتمل أنه يقصد: من زوجٍ سابقٍ، يعني يقول الفقهاء: يحتمل أنه من زوجٍ سابقٍ، فلو فسَّرها، قال: أنا أقصد من زوجكِ الأول؛ فيُقبل.

مداخلة: …..

الشيخ: يعني: لو كانت متزوجةً زوجًا سابقًا، ولها أولادٌ مثلًا من هذا الزوج السابق.

مداخلة: …..

الشيخ: على كل حالٍ: إذا كانت قد تزوجت أزواجًا قبله؛ يمكن، لكن لو كان هو زوجها الوحيد، ما تزوجت زوجًا آخر؛ فيظهر أن هذا من الصريح، فيُنظر للقرائن والسياق والعرف.

وأفسدتِ فراشه.

“أفسدتِ فراشه”، يقولون: إن هذا من الكناية؛ لأنه يحتمل أفسدتِ فراشه بالنشوز، أو بالشقاق، أو بكثرة المشاكل، أو نحو ذلك.

حكم من أراد بألفاظ الكناية حقيقة الزنا

فإن أراد بهذه الألفاظ حقيقة الزنا؛ حُدَّ وإلا عُزر.

وقلنا: إن الصواب في هذه الألفاظ وغيرها أن المرجع في تحديد كونها من الصريح أو الكناية إلى العرف، وأننا لا نتقيد بالألفاظ التي ذكرها المؤلف، فالمؤلف يحكي ألفاظًا عما هو موجودٌ في زمنه وفي بيئته، أما في وقتنا الحاضر تغيرت الأعراف في بعض الكلمات مثلما ذكرنا، بعض الكلمات التي ذكرها المؤلف كنايةٌ، وهي في وقتنا الحاضر تُعتبر من الصريح.

مداخلة: …..

الشيخ: “ابن الحرام” تحتمل أيضًا، من الكناية، في بعض البيئات يعتبرون أن ابن الحرام إنسانٌ شاطرٌ، أو متقنٌ لعمله، أو كذا يعتبرون، هذا في بعض البيئات، فالمرجع فيها للعرف، ويُنظر للسياق.

مداخلة: …..

الشيخ: أحسنت، هذا سؤالٌ جيدٌ، مثلًا عندما تكون اللفظة محتملةً، وادَّعى المقذوف أن هذه من الألفاظ الصريحة، والقاذف يقول: إنها ليست صريحةً، فإن كان العرف فيها بينًا واضحًا؛ فيُعمل بالعرف، أما إن كان العرف فيها مضطربًا، أو ليس بينًا ولا واضحًا؛ فهنا للقاضي أن يلجأ لليمين، فيحلف القاذف أنه ما أراد كذا، وإنما أراد كذا.

مداخلة: …..

الشيخ: قذفه بكلمةٍ صريحةٍ أو محتملةٍ؟

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، إذا كانت قامت القرائن على هذا فعلًا؛ فيمكن هنا في هذه الحالة أن يلجأ لليمين، يعني: أيضًا لو كان إنسانٌ غريبٌ، وقال كلمةً ما يُعرف معناها، أيضًا لا يقام عليه حد القذف، وإنما يحلف: إنما أراد كذا، أو إنما أراد كذا.

مداخلة: …..

الشيخ: إي نعم، ننظر يا إخوان، لا نأخذ بظاهر اللفظ، ننظر للمقصود، مقصود الشارع من إقامة حد القذف: هو دفع العار عن المقذوف وحماية حقه، فإذا كان هذا الإنسان قامت القرائن على أنه ما قصد الزنا، إنما إنسانٌ مثلًا ربما أنه أعجميٍّ -يعني غير عربيٍّ- أو أنه إنسانٌ يعيش في بيئةٍ أخرى، أو أنه قليل الاختلاط بالناس، أو نحو ذلك، وقامت القرائن على ذلك، فللقاضي أن يُحلِّفه، وإنما قلنا ذلك؛ لأن حد القذف حقٌّ لآدميٍّ، وحقوق الآدميين يدخل فيها التحليف وطلب اليمين، أما حقوق الله تعالى فلا يُحلَّف فيها.

حكم من قذف أهل بلدةٍ أو جماعةٍ لا يتصور الزنا منهم عادةً

ومن قذف أهل بلدةٍ أو جماعةٍ لا يُتصوَّر الزنا منهم عادةً؛ عُزِّر ولا حد.

إذا قذف جماعةً، قال: أهل البلد الفلاني أو الجنسية الفلانية كلهم زناةٌ، فأقاموا عليه دعوى، طالبوا بإقامة حد القذف عليه، فيقول الفقهاء: إنه لا يقام عليه حد القذف؛ وذلك لأنه عارٌ عليهم؛ للقطع بكذبه، ما يُعقل أن أهل دولةٍ كلهم زناةٌ، هذا معروفٌ مقطوعٌ بكذبه، لكنه يعزر.

حكم من قذف جماعةً يُتصور الزنا منهم عادةً

قال:

وإن كان يُتصوَّر الزنا منهم عادةً

يعني: فيقام حد القذف؛ بأن يكون مثلًا البلد محصورًا، قريةً صغيرةً، عددها مثلًا عشرون شخصًا، وقذفهم جميعًا، فيقام حد القذف؛ لأنه يتصور منهم الزنا عادةً.

لكن قال:

وقذف كُلَّ واحدةٍ بكلمةٍ، فلكل واحدٍ حَدٌّ.

لكل واحدٍ قال: أنت يا زاني، وقال للثاني: يا زاني، فلكل واحدٍ حدٌّ، وهذا ظاهرٌ؛ وذلك لتعدد القذف وتعدد محله.

وإن كان إجمالًا.

قال لهم جميعًا، لأهل هذه القرية الصغيرة: كلكم زناةٌ.

فحدٌّ واحدٌ.

وذلك لعموم الآية، وهي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، ولم يُفرِّق بين قذفِ واحدٍ وقذف جماعةٍ، ما دام أنه بكلمةٍ واحدةٍ؛ فيكون الحد واحدًا.

باب حد المسكر

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب حد المسكر

اعتبر المؤلف أن للمسكر حدًّا.

قبل أن ننتقل لباب حد المسكر، الإخوان يطلبون التذكير بموعد اختبار “منظومة أصول الفقه”، نحن أجلناها إلى ما بعد الإجازة، الأسبوع القادم هو وقت إجازة منتصف الفصل، سيتوقف الدرس كالعادة، ونستأنف الدرس الأسبوع بعد القادم إن شاء الله، الأسبوع بعد القادم سيكون هو موعد اختبار “منظومة الأصول”، وضرورة تسجيل الأسماء قبل الموعد، يكون الاختبار -كما ذكرنا- بعد الدرس مباشرةً، ويكون تحريريًّا، يكون عن طريق أخينا الشيخ ياسر، ويكون معه بعض الإخوة، فمن يرغب أن يسجل اسمه، سيكون اختبارٌ لمن يسجل قبل موعد الاختبار؛ حتى نستطيع أيضًا تحديد مقدار الجوائز وما يتعلق بذلك، وهي فرصةٌ أيضًا لحفظ المنظومة في هذه الإجازة، اجعل لك مشاريع في الإجازة، من ضمنها حفظ هذه المنظومة، تستفيد منها فائدةً عظيمةً، وحفظ مثل هذه القواعد يُفيد جدًّا طالب العلم، فهي فرصةٌ لحفظها وإتقانها، وما هذه المسابقة إلا من باب التحفيز والتشجيع على الحفظ.

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب حد المسكر

عقوبة شارب الخمر حدٌّ أم تعزيرٌ؟

اعتبره المؤلف حدًّا، وهل هو حدٌ أو تعزيرٌ؟ اختلف العلماء في هذه المسألة:

  • فجمهور العلماء، والذي عليه المذاهب الأربعة: أن عقوبة المسكر حدٌّ، أنها من قبيل الحدود، واستدلوا لذلك بأن عمر قدَّرها بثمانين، وقد وافقه على ذلك بقية الصحابة ؛ فتكون من سنة الخلفاء الراشدين، ويكون الصحابة قد اتفقوا على أنها حدٌّ.
  • والقول الثاني في المسألة: أن عقوبة شارب المسكر من باب التعزير، وليست من باب الحد، من باب التعزير الذي ينبغي ألا ينقص عن أربعين جلدةً؛ لأن هذا أقل ما رُوي، ولكنها ليست من باب الحد، واستدلوا بأن النبي كان إذا أُتِي إليه بالشارب؛ يأمر بضربه بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقالوا: لو كان حدًّا؛ لما أمر النبي بضربه بهذه الطريقة؛ لأن الحد لا يتجاوز به ما وجب، وإنما يكون على سبيل الضبط والتحديد والدقة، ومعلومٌ أن اجتماع الناس على شخصٍ وضربه بالجريد والنعال وأطراف الثياب لا يمكن ضبطه؛ هذا يدل على أنه من التعزير وليس من الحد، وأيضًا أن الشارب كان يُجلد في عهد النبي  وفي عهد أبي بكرٍ نحوًا من أربعين، فلما كان في عهد عمر وكثر الشرب في الناس؛ استشار عمر  الصحابة ، فقال له عبدالرحمن بن عوفٍ : “أخف الحدود ثمانون”، يقصد بذلك: ما هو أخف الحدود؟ حد القذف، فوافق عمر والصحابة على ذلك، فلو كان من قَبيل الحد؛ لما ساغ لعمر ولا لغير عمر أن يزيد عليه؛ إذ إن الحدود مقدرةٌ، لا تجوز الزيادة عليها ولا النقص منها، وهذا من أقوى الأدلة في الحقيقة، وبه يزول الإشكال، كيف ساغ لعمر  الزيادة في الحد؟ وهل يجوز للإمام أن يُغيِّر في الحدود أو يزيد فيها؟ قلنا: لا يجوز، أما عمر فإنما فعل ذلك؛ لأن هذا من قَبيل التعزير، هكذا يقول أصحاب هذا القول، قالوا: ومما يدل لهذا: أن جلد الشارب في عهد النبي يقول الراوي: نحوًا من أربعين، ولو كان حدًّا؛ لما قال: نحوًا من أربعين، وأيضًا ما جاء في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص  أن النبي  قال: إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاقتلوه [6]، وهذا دليلٌ على أنها عقوبةٌ، وهذا الحديث مختلفٌ فيه، رواه الإمام أحمد، ومن العلماء من صححه بمجموع الطرق والشواهد، وقالوا: فهذا دليلٌ على أنه عقوبةٌ تتدرج حتى تصل إلى القتل، ولو كان حدًّا محدودًا؛ لكان الحد فيه لا يتغير.

والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا القول الثاني هو القول الراجح: وهو أن عقوبة المسكر من باب التعزير، وليست من باب الحد؛ وذلك لقوة أدلة هذا القول، كما ترون هي أدلة قوية وظاهرة، ويزول بها الإشكال الذي أورده بعض الناس ،كيف زاد عمر  في حد شرب المسكر؟

فنقول: إن عمر لم يَزِد في ذلك، وإنما هذه عقوبةٌ تعزيريةٌ؛ ولأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على أن عقوبة المسكر حدٌّ، ليس هناك دليلٌ، فمن زعم أنه حدٌّ؛ فليأتنا بدليلٍ واحدٍ يدل لهذا، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل لذلك، وهذا هو ظاهر كلام ابن القيم في “إعلام الموقعين”، ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وهو الأقرب والله أعلم، وإن كان خلاف ما عليه المذاهب الأربعة، لكن هو الأقرب من حيث الدليل، ومن حيث الأصول والقواعد الشرعية.

فتكون إذنْ عقوبة المسكر على القول الراجح من قبيل التعزير وليست من قبيل الحد.

مداخلة: …..

الشيخ: سيأتينا في التعزير أنه لا يلزم أن يكون بالجلد، قد يكون بأمورٍ غير الجلد؛ قد يكون بالحبس، قد يكون بالعقوبات البديلة التي سنذكرها، التعزير ما يتعين فيه الجلد، سنتكلم عن هذا -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل، لكن ما أدري هل نتمكن اليوم، أو نُرجئه للدرس القادم؟

حد من شرب مسكرًا

قال المؤلف:

من شرب مسكرًا مائعًا أو استَعَطَ به أو احتقن أو أكل عجينًا ملتوتًا به، أو لم يَسْكَر؛ حُدَّ ثمانين.

فالمؤلف يرى أن من شرب مسكرًا من أي مادةٍ كانت وبأي طريقةٍ؛ فإنه يُحد بهذا، وهذا يقودنا إلى معرفة حقيقة الخمر الشرعية، الخمر إذا أُطلق؛ هل يشمل كل مسكرٍ، أو أنه خاصٌّ بما كان من عصير العنب؟ هذه المسألة فيها خلافٌ بين الحنفية والجمهور أيضًا:

فالحنفية قالوا: إن الخمر لا يكون إلا من العنب، ولا يكون من غيره؛ لأن هذا هو الذي يتناوله لفظ الخمر عند العرب.

وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة: إلى أن الخمر: كل ما أسكر، سواءٌ من العنب أو من غيره؛ قالوا: لأن هذا هو الذي يتناوله لفظ الخمر في لغة العرب؛ بدليل أن الصحابة لما نزل تحريم الخمر؛ فهموا من الأمر اجتناب كل مسكرٍ، ولم يفرقوا بين ما يُتخذ من العنب وما يتخذ من غيره، وقد جاء في “الصحيحين” عن عمر أنه قال: “نزل تحريم الخمر، وهي من خمسةٍ: من العنب والتمر والعسل والبُر والشعير، والخمر كل ما خامر العقل” [7]، ففهم عمر والصحابة وهم من العرب ويتكلمون بلغة العرب وباللسان العربي الفصيح، فهموا أن الخمر ليس خاصًّا بما كان من العنب، وأنه يشمل كل مسكرٍ، فلا يُسلَّم للحنفية قولهم بأنه ما كان من العنب.

وقالوا: ويدل لذلك أيضًا قول النبي : كل مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرامٌ [8]، هذا الحديث في “الصحيحين”، قال: كُلُّ مسكرٍ خمرٌ.

والقول الصحيح في هذه المسألة: لا شك أنه قول الجمهور، وقول الحنفية في غاية الضعف في هذه المسألة، لكن مع ذلك هناك ثمرةٌ لهذا الخلاف، انتبه لهذه الثمرة، الثمرة فيها خطورةٌ، ما هي ثمرة الخلاف في هذه المسألة؟

مداخلة: …..

الشيخ: حتى لو أسكر من غير العنب؟ لا، لم يقل الحنفية بهذا، لا نريد أن نُقوِّلهم ما لم يقولوا، من أسكر فيُجلد، أو تقام عليه عقوبة شرب المسكر عند جميع العلماء، عند الحنفية وغير الحنفية، ما يمكن يكون الإنسان سَكِر وأصبح سكران ولا يُقام عليه الحد، هذا غير صحيحٍ، الحنفية والجمهور وجميع العلماء قديمًا وحديثًا، يعني: انعقد الإجماع على أن من حصل له الإسكار؛ يقام عليه الحد، على الخلاف هل هو حدٌّ أو تعزيرٌ؟ فإذنْ نُخرج هذه المسألة من محل الخلاف.

إنما ثمرة الخلاف تظهر في غير ذلك.

مداخلة: …..

الشيخ: أحسنت، نعم إذنْ لو أردنا أن نُحرِّر محل النزاع في المسألة؛ فنقول: من شرب مسكرًا فسكر؛ فيُحد عند جميع العلماء، ثانيًا: من شرب المسكر من عصير العنب؛ يقام عليه الحد أيضًا عند جميع العلماء، سواءٌ سكر أو لم يسكر، من شرب المسكر من العنب؛ يقام عليه الحد عند جميع العلماء، سواءٌ سكر أو لم يسكر.

وإنما ثمرة الخلاف تظهر فيمن شرب المسكر من غير العنب ولم يصل إلى حد الإسكار، يعني: لم يسكر، شرب قليلًا، شرب القليل من المسكر من غير عصير العنب، ولم يؤد به إلى حال الإسكار، فعند الحنفية: أنه لا يقام عليه الحد إلا إذا سكر، وعند الجمهور يقام عليه الحد، سواءٌ سكر أو لم يسكر، من غير عصير العنب، وعلى ذلك مثلًا: ما يسمى بـ(الويسكي) مثلًا، القليل الذي تكون نسبة الكحول فيه غير مركزةٍ، قليلةٌ، ما يصل حد الإسكار، انتبهوا لهذه المسألة، فعند الحنفية يقام عليه الحد أو لا يقام؟ لا يقام، عند الجمهور يقام، وقول الجمهور: هو القول الصحيح، قول الحنفية في غاية الضعف؛ لأن النبي قال: كل مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرامٌ، ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ [9]، فيُقام عليه الحد.

فإذنْ انتبهوا يا إخوان، ترى بعض الإخوة يقرأ كلام الحنفية فيفهمه خطأً، يظن أن الحنفية يقولون: إنه لا يقام الحد إلا إذا شرب من عصير العنب، هذا غير صحيحٍ، إذا سكر؛ يقام عليه الحد عند الجميع، الكلام إذا لم يسكر، ومن غير عصير العنب، فقط هو الذي فيه الخلاف بين الحنفية والجمهور، فينبغي أن نفهم هذه المسألة على وجهها الصحيح؛ حتى أيضًا لا يُقوَّل الفقهاء ما لم يقولوا.

مداخلة: …..

الشيخ: نعم؛ لأنهم ربما يرون هذا القول، تعرف مذهب الحنفية انتشر في عهد الدولة العباسية، انتشر، وكان القاضي أبو يوسف لا يُولِّي إلا من كان حنفيًّا، وفي الدولة العثمانية انتشر، وإلى الآن أيضًا منتشرٌ في بلاد الهند وباكستان، والمناطق هذه منتشرٌ فيها مذهب الحنفية، وفي مصر أيضًا كان المذهب الحنفي هو السائد، مع أنه انتشر فيها المذهب الشافعي، لكن في القرون الأخيرة انتشر المذهب الحنفي، وفي بلاد الشام أيضًا انتشر المذهب الحنفي، فانتشر في بقاعٍ كثيرةٍ، لكن أردنا تحرير مذهب الحنفية في هذه المسألة، بعض الناس يفهم مذهب الحنفية خطأً؛ فينسب لهم ما لم يقولوا.

مداخلة: …..

الشيخ: لا، لا، أبدًا، هذه الآية أصلًا منسوخةٌ؛ لأن تحريم الخمر نزل متدرِّجًا، كانت المرة الأولى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، فأثنى على الرزق، ولم يُثنِ على السكر.

الثانية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43].

ثم نُسخ ذلك بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90].

قال المؤلف:

من شرب مسكرًا مائعًا أو استَعَطَ به أو احتقن أو أكل عجينًا ملتوتًا به، ولو لم يَسْكَر؛ حُدَّ.

يعني: إذا شرب مسكرًا بأي طريقةٍ، ومن أيِّ شيءٍ كان؛ فيُحد، وهذا هو القول الصحيح، وهو بناء على قول الجمهور، وذكرنا الخلاف بينهم وبين الحنفية.

ما هو الحد؟

شرط إقامة الحد على شارب الخمر

قال:

ثمانين إن كان حرًّا، وأربعين إن كان رقيقًا.

وقلنا: إن القول الراجح: أن عقوبة شرب المسكر عقوبةٌ تعزيريةٌ، لكن ينبغي ألا يقل الجلد عن أربعين جلدةً.

يُشترط كونه.

يعني: اشترطوا فيمن يُقام عليه حد المسكر شروطًا:

الشرط الأول، قال: 

كونه مسلمًا.

فغير المسلم لا يقام عليه الحد، إلا إذا كان يعتقد تحريمه في دينه، مثلًا النصارى لا يعتقدون تحريم شرب المسكر، لكن يُطلب ممن شرب المسكر منهم ألا يُجاهر بذلك.

مكلَّفًا.

فغير المكلف لا يُحدُّ، وهذا شرطٌ في جميع الحدود.

مختارًا.

فإن كان مُكرهًا فإنه لا يُحَدُّ، وهو أيضًا شرطٌ في جميع الحدود.

عالمًا أن كثيره يُسكر.

فلا بد من أن يَعلم، فلو شرب ما يظنُّه عصيرًا فبان خمرًا؛ لم يُحد، فلا بد أن يكون عالمًا بأنه يسكر، أو أن كثيره يسكر.

شرب البيرة ما حكمه؟ البيرة هنا تختلف؛ فإما أن تكون فيها كحول، أو تكون بدون كحول، فالبيرة في كثيرٍ من الدول لا تخلو من كحول، يعني في كثيرٍ من الدول يعتبرونها من أصناف الخمر، أما عندنا هنا في المملكة فهي خاليةٌ من الكحول؛ ولذلك الذي يُفتى به أنه لا بأس بشربها؛ لأنها خاليةٌ من الكحول، ومراقَبةٌ أيضًا من الجهات المختصة في كونها خاليةً من الكحول، ويُكتب عليها ذلك، ولا يُعرف أيضًا أن أحدًا شرب البيرة عندنا هنا في المملكة وسكر حتى لو أكثر منها، فهذا يدل على أنها خاليةٌ من الكحول، ولذلك نقول: الأصل في شربها الحل والإباحة.

أما ما يوجد من نسبٍ يسيرةٍ مستهلكةٍ، هذا ليس خاصًّا بالبيرة، هذا -كما ذكرنا في درسٍ سابقٍ- في جميع المعلبات، والمواد المحفوظة والأدوية لا تخلو من نسبةٍ يسيرةٍ جدًّا؛ لأنه لا يُمكن تعليبها وحفظها إلا بوضعها في مواد كحوليةٍ، فهذه نسبٌ مستهلكةٌ لا تضر، بل حُكِي الإجماع على العفو عنها، فهي كيسير النجاسة في الماء الكثير، لو إنسانٌ بال في البحر هل ينجس البحر؟ لا، نجاسةٌ مستهلكةٌ في ماءٍ كثيرٍ؛ كذلك أيضًا مثل هذه الكحول ذات النسبة المستهلكة، فيُعفى عنه.

فإن قال قائلٌ: أليس النبي يقول: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ [10]؟ فكيف نُجيب عن هذا؟ فهمتم الإشكال؟ نحن قلنا: النسبة المستهلكة هذه معفوٌّ عنها، طيب قد يقول قائلٌ: الحديث واضحٌ: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ .

مداخلة: …..

الشيخ: نقول: إن هذا كثيره لا يُسكر، الحديث يقول: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ، لكن هذه النسبة المستهلكة لا يسكَر منها لو أكثر منها، يعني لو إنسانٌ أخذ عصيرًا من العصائر المعلبة، وأكثر من شرب العصير هل يسكر؟ ما يسكر أبدًا، فهذه نقول: إنها لو أكثر منها؛ لم يسكر، والحديث قال: ما أسكر كثيره..؛ فيدل على أن ما لم يُسكر كثيره؛ فليس بحرامٍ، ومنها هذه النِّسب المستهلكة.

مداخلة: …..

الشيخ: لا، ليست فقط هذه، حتى الزعفران، الزعفران مصنفٌ من هذا النوع، ولكن مثل هذه يظهر أنها معفوٌّ عنها، لا تدخل في هذا، لا يحصل بها الإسكار، ولا تُطلب عادةً من قبل هؤلاء الفُسَّاق، ولا يحصل بها النشوة الموجودة في هذا، والأصل الحِل والإباحة، الأصل في الأطعمة الحل والإباحة.

فقط نود -يا إخوة- أن ننتهي؛ لأن الوقت الآن ضاق معنا، الذي عنده سؤالٌ يُؤخِّر سؤاله.

قال:

ومن تشبَّه بشُرَّاب الخمر في مجلسه وآنيته؛ حرُم، وعُزِّر.

من تشبه عمومًا بالفساق، ومنهم شُرَّاب الخمر، فيحرم ذلك، لا يجوز التشبه بالكفار، ولا التشبه بالفساق، ويدل لذلك الحديث المشهور: من تشبه بقومٍ فهو منهم [11]، ومن العلماء من ضعَّفه، لكن قيل: إن الأمَّة تلقته بالقبول، ويُعزَّر إذا تشبَّه بشُرَّاب الخمر تعزيرًا يُناسب هذا الفعل.

ومن حضر مجلسًا فيه شرب خمرٍ؛ فهو أيضًا يأثم بذلك، ويدل لهذا قول النبي : لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها [12]، أخرجه أبو داود، وهذا يدل على أن كل من أعان عليها فتشمله اللعنة، كذلك من حضر المنكر ولم يُنكره، فإنه شريكٌ لمرتكب المنكر، كما قال سبحانه: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، فلا يجوز للإنسان أن يجلس على مائدةٍ وفيها الخمر، إلا أن يأتي ويُنكر عليهم، فيُزال الخمر من على المائدة، وكذلك التشبه أيضًا بالفساق عمومًا لا يجوز، لا يجوز التشبه بأهل الفسق والمجون.

يحرم شرب العصير إذا أتى عليه ثلاثة أيامٍ ولم يطبخ

ويحرم العصير إذا أتى عليه ثلاثة أيامٍ ولم يُطبخ.

إذا أتى على العصير ثلاثة أيامٍ، فظاهر كلام المؤلف: أنه إذا أتى عليه ثلاثة أيامٍ، حتى لو لم يَغْلِ، أما إذا غلى كغليان القِدر، وأصبح يقذف بالزَّبَد؛ فلا خلاف في تحريمه، عصير العنب، ومثلًا التمر، ونحو ذلك، إذا تُرك؛ فإنه يتخمَّر ويتحول إلى خمرٍ، وإذا تُرك مدةً وأصبح يقذف بالزَّبَد؛ فإنه لا خلاف في تحريمه، ولكن إذا لم يغل، لكن أتت عليه ثلاثة أيامٍ، يعني: لم يحصل منه غليانٌ، ولم يقذف بالزَّبد، وأتت عليه ثلاثة أيامٍ، عصير عنبٍ متروكٌ ثلاثة أيامٍ، يعني في غير الثلاجة طبعًا، اتركنا من مسألة الثلاجة، فهل يحرم؟ يقول المؤلف: إنه يحرم، حتى لو لم يُطبخ، يعني: لو لم يغل، وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أن العصير إذا مضى عليه ثلاثة أيامٍ؛ فإنه يحرم شربه إذا كان من المواد التي تتخمر؛ مثل العنب مثلًا.

والقول الثاني في المسألة: أن هذا العصير مباحٌ ما لم يغل، ما لم يحصل الغليان منه، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم؛ لقول النبي : اشربوا في كل وعاءٍ، ولا تشربوا مسكرًا [13].

الحنابلة استدلوا للتحديد بثلاثة أيامٍ بما جاء في “صحيح مسلمٍ” أن النبي  كان يشرب النبيذ إلى ثلاثة أيامٍ، وبعد الثلاثة يسقيه الخادم، هذا في “صحيح مسلمٍ”[14].

وقالوا: فالدليل على تحديد ثلاثة أيامٍ؛ أنه بعد ثلاثة أيامٍ لا يحل شربه، ولكن هذا الحديث ليس فيه دلالةٌ؛ لأنه لو كان يسكر؛ لما سقاه النبي عليه الصلاة والسلام للخادم؛ فدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام تركه بعد ثلاثة أيامٍ من باب التورُّع فقط، من باب الورع.

فإذنْ العبرة بالإسكار، والإسكار في العصير لا يكون إلا إذا أصبح يقذف، يعني: إذا غلى وأصبح يقذف بالزَّبَد، فهذا هو الذي يحصل به الإسكار.

لو كان عصير العنب في الثلاجة، وبقي مدةً طويلةً، بقي أسبوعًا، أو عشرة أيامٍ، أو شهرًا، فهل نقول: إنه يحرم شربه؟ أصلًا لا يغلي؛ لأن الغليان بسبب وجود البكتيريا، البكتيريا تكون مع الحرارة والرطوبة، يحصل التخمُّر، فإذا كان في الثلاجة؛ فلا يحصل هذا ولا يتخمر؛ ولذلك وضعه في الثلاجة ليس محل بحثٍ، بحثه إذا كان خارج الثلاجة، أما وضعه في الثلاجة حتى عند الحنابلة خارجٌ عن بحث هذه المسألة؛ فمثلًا: عصير العنب الذي يوجد في البقالات، تجده أحيانًا له شهرٌ، شهران، ثلاثةٌ، هل نقول: إن هذا لا يجوز، وأنه عند الحنابلة إذا بقي أكثر من ثلاثة أيامٍ أنه يحرم؟ لا، هذا لا يدخل في هذه المسألة، إنما كلامنا لو لم يوضع في الثلاجة مثلًا، ولم يوضع معه مواد حافظةٌ أيضًا، انتبه لهذا، يعني: عصير عنبٍ أُخذ من العنب، وتُرك وبقي، وأصبح يغلي ويقذف بالزَّبَد، هذا هو الذي لا يجوز شربه، والصحيح أن نضبط ذلك بعلة الإسكار، وذلك قرينته، قرينة علة الإسكار: هي أنه يغلي ويقذف بالزَّبَد.

هذه أهم الأحكام المتعلقة بشرب المسكر، وفي معنى شرب المسكر في وقتنا الحاضر: المخدرات، وعلى القول الذي رجحناه بأن عقوبة شرب المسكر عقوبةٌ تعزيريةٌ، كذلك أيضًا عقوبة تعاطي المخدرات تكون كذلك من العقوبات التعزيرية.

بقيت مسألةٌ لم يذكرها المؤلف: “ثبوت حد المسكر”، كما قلنا فيما سبق: ربما أن المؤلف أشار لها في القذف، قال: “ويثبُت الحد هنا وفي الشرب والتعزير لأحد أمرين: إما بإقراره مرةً، أو شهادة عدلين”، يعني: بالإقرار، بالاعتراف، أو بشهادة عدلين، لكن الذي اختلف فيه العلماء: هو ثبوت حد الخمر بالقرائن؛ مثل: الرائحة والتقيؤ، وفي وقتنا الحاضر تحليل الدم، فهل يَثبت الحد بها؟ هذا محل خلافٍ بين العلماء، فقول الجمهور: أنه لا يثبت بها، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، يقولون: لأنها ليست دليلًا قاطعًا على شرب المسكر، فيحتمل أنه تمضمض وعلقت رائحتها به، وتقيَّأ لأجل ذلك، أو ظن أن الخمر عصيرٌ فتبيَّن أنه خمرٌ، والحدود تُدرأ بالشبهات.

والقول الثاني في المسألة: أنه يُحد بهذه القرائن ما لم توجد شبهةٌ، فيُحد بالرائحة والتقيؤ وتحليل الدم، وهذا هو مذهب المالكية، واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو القول الصحيح، فمن قامت عليه قرائن تدل على شربه المسكر؛ فيُحد، وقد حكم بذلك الصحابة ، حكم به عمر وابن مسعودٍ رضي الله عنهما، جاء في “الصحيحين” عن علقمة، قال: كنا بحِمص فقرأ ابن مسعودٍ سورة يوسف، فأتى رجلٌ سكران وقال لابن مسعودٍ : ما هكذا أنزلت، فقال: هكذا أقرأنيها رسول الله ، فقال: أحسنت! يعني: أول شيءٍ يقول: ما هكذا أُنزلت، ثم يقول: أحسنت! فابن مسعودٍ شك فيه، فشمَّ رائحة الخمر فيه، فجلده ابن مسعودٍ  [15].

مداخلة: …..

الشيخ: لا، يُحد في الحال؛ ولهذا جلده ابن مسعودٍ ، وقال: “أتجمع أن تُكذِّب القرآن وتشرب الخمر؟!”، فضربه الحد.

كانت الحدود في صدر الإسلام تقام في الحال، ما يُنتظر مثل وقتنا الحاضر، حتى القطع والقتل تقام كلها في ساعةٍ واحدةٍ، في نفس اللحظة، هذا أبلغ في الردع وتحقيق الفائدة من إقامة الحدود.

فإذنْ القول الصحيح: أن شرب المسكر يُقام بالقرائن، إنسانٌ قُبض عليه متلبسًا بشرب المسكر، القرائن تدل على هذا، ذهبوا به وحلَّلوه، التحليل أثبت أنه شَرِب المسكر، فما الذي بقي؟ هذه الآن قرينةٌ شبه قاطعةٍ، فمثل هذا يقام عليه الحد، فلماذا تقام بشهادة شاهدين؟! أيهما أقوى: تحليل الدم أو شهادة شاهدين؟ شهادة الشاهدين يحتمل عليها الكذب، يحتمل عليها التوهم، تحليل الدم الآن أقوى من شهادة الشهود، فلماذا لا يقام بتحليل الدم؟! فأقول: إن مثل تحليل الدم هو حقيقةً من القرائن القوية في هذا، وإذا كان الصحابة حكموا بمجرد الرائحة والتقيؤ؛ فما بالك بتحليل الدم؟!

نقف عند كتاب التعزير، وكما قلنا: الأسبوع القادم يتوقف الدرس، ونستأنف الدرس الأسبوع بعد القادم.

ونجيب عما تيسر من الأسئلة، لعلنا نبدأ بالأسئلة المكتوبة أولًا:

الأسئلة

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، هذا سائلٌ يقول: هل تعاطي المخدرات حكمها حكم شرب المسكر؟

الجواب: على القول الذي رجحناه: لا فرق بين تعاطي المسكر وشرب المخدرات، وأن عقوبتها كلها تعزيريةٌ، لكن على قول الجمهور يُفرِّقون؛ يعتبرون المخدرات غير شرب المسكر؛ فشرب المسكر لا بد أن يكون هناك مشروبٌ من الأمور التي يحصل بها الإسكار وتغطية العقل، ويكون فيها نشوةٌ، ونحو ذلك، وهذا قد لا يحصل في المخدرات، هذا قد لا يتأتى في المخدرات، فالذي عليه العمل الآن في المحاكم: أن عقوبة المخدرات تعزيريةٌ، والخمر حَدِّيَّةٌ، على القول الراجح: أن كلها من قبيل العقوبات التعزيرية.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: هل يرى الحنفية جواز اتخاذ الخمر من غير العنب إذا لم يبلغ حد الإسكار؟

الجواب: إذا لم يبلغ حدَّ الإسكار؛ نعم، المشهور عندهم هو ذلك، وقد ذُكر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه ذهب إلى أحد المحدثين -وهو من الحنفية- كان قد مرض، فذهب يعوده، وكان هذا على مذهب الحنفية يشرب النبيذ الذي لا يصل إلى حد الإسكار، أو يشرب شيئًا هو يسكر إذا أكثر الإنسان منه، لكنه إذا شرب منه القليل لا يُسكر من غير عصير العنب، وكان قد وُضع في جرةٍ، فأتى الإمام أحمد وزاره ورأى ذلك وسكت وخرج؛ لأن هذا من الحنفية، فقال من كان مع الإمام أحمد: هل رأيت هذه الجرة؟ قال الإمام أحمد: لم أرَ شيئًا، كان قد جعلها خلف ظهره، جعل الإمام أحمد الجرة خلف ظهره، وجعل يعود هذا الرجل ويُكلمه ويُباسطه في الحديث، فقالت الجارية لهذا الفقيه: لماذا نترك الجرة هنا؟ أما تخشى من الإمام أحمد؟ فقال: إذا كنت لا أخشى من رب الإمام أحمد؛ فكيف من الإمام أحمد؟! وبعد ذلك يقال: إنه ترك شرب هذا الشيء، لكن جرى على مذهب الحنفية، فمذهب الحنفية عندهم أن هذا يجوز، يعني: يجوز شرب ما لم يُسكر من غير عصير العنب، لكننا قلنا: إنه قولٌ ضعيفٌ مخالفٌ للنصوص، ومخالفٌ للمأثور عن العرب، وليس للحنفية حجةٌ إلا قولهم بأن لغة العرب تقتضي هذا، وقلنا: هذا غير صحيحٍ، الصحابة  يتكلمون بلغة العرب، وعمر يقول: “نزل الخمر وهي من خمسةٍ”، فذكر خمسة أشياء لم يخصها بعصير العنب، قال ذلك على المنبر، فالصحابة يتكلمون بلغة العرب، ووجهة الحنفية هنا ضعيفةٌ، فقولهم هنا في غاية الضعف.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: هل من عقوبةٍ مقدرةٍ على مَن يرمي الناس بالنفاق ونحوه؟

الجواب: يكون ذلك بعقوبةٍ تعزيريةٍ، لكن هذه لا تقام إلا بالطلب، فلو رُفعت إلى القاضي؛ فيحكم بتعزيره بما يراه مناسبًا.

وحتى لو لم يرفع المقذوف القضية للقاضي، هذا يحرم عليه أن يقذف الناس بالنفاق أو بالبدعة، أو قذفهم بأي أمرٍ هم منه برآءٌ، هذا لا يجوز، وكما ذكرنا أن حقوق العباد مبناها على المشاحة.

السؤال: أحسن الله إليك، هذا سائلٌ يقول: إذا عفا المقذوف عن حقه مقابل مبلغٍ من المال، فهل يصح ذلك؟

الجواب: هذا محل خلافٍ بين العلماء، هل تجوز المعاوضة على حد القذف أم لا؟ والقول الصحيح: أن ذلك يجوز، ولا بأس به، ولا مانع منه، هو حقٌّ له، فإذا أراد أن يستعيض عن ذلك بالمال؛ فلا حرج إن شاء الله، ومثل ذلك أيضًا: حق الخيار، وحق الشفعة، القول الصحيح: أنه لا بأس من المعاوضة على ذلك، لكن عند الحنابلة يمنعون من هذا.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: لو قذف أحدهم بأكثر من كلمةٍ في مجالس متعددةٍ، فهل يقام عليه حدٌّ واحدٌ؟

الجواب: إذا كان المقذوف واحدًا؛ فلا يُقام عليه إلا حدٌّ واحدٌ، أما إذا كان المقذوف أكثر من شخصٍ؛ فيتعدد حد القذف.

السؤال: أحسن الله إليك، هذا سائلٌ يقول: بناءً على اشتراط مطالبة المقذوف بالحد، هل يسقط الحد عمن قذف ميتًا، أو يقال: إنه مقيدٌ بمطالبة ورثته؟

الجواب: هذا سؤالٌ جيدٌ الحقيقة، كنا نود أن نُشير لقذف الميت، لكن الوقت ضاق ونسينا أيضًا، مَن قذف ميتًا؛ فعند الفقهاء: أنه يُحد بطلب وارثٍ محصنٍ، يعني: الإحصان ليس للميت وإنما للوارث، يُحد بطلب وارثٍ محصنٍ، فإذا كان الوارث عفيفًا وطلب إقامة الحد على هذا؛ فيُحد؛ لأن العار يلحق الحي، لا يلحق الميت، حتى لو كان أبوه مثلًا غير محصنٍ، كان أبوه مثلًا إنسانًا يقع في الفجور وكذا، فمات، فأتى إنسانٌ، وهذا الإنسان الابن رجلٌ صالحٌ، قال: يا ابن الزاني، أو أبوك زانٍ، أو نحو ذلك، فإذا كان الوارث محصنًا؛ فيُحد القاذف.

السؤال: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: هل اللعان لأجل نفي الولد يوجب الفرقة الأبدية؟ فربما يُريد اللعان لنفي الولد فقط.

الجواب: يوجب الفرقة الأبدية بالإجماع؛ لأن الخلافات الزوجية إذا وصلت، أو الشقاق بين الزوجين إذا وصل إلى هذه المرحلة؛ فمعنى ذلك: أن هذا الرجل لا يصلح لهذه المرأة، وهذه المرأة لا تصلح لهذا الرجل، إذا وصل إلى أن يقذف الزوج زوجته ويتلاعنا على الملأ؛ معنى ذلك: وصلا إلى مرحلةٍ لا يمكن أن تصلح معها الحياة الزوجية، فيقتضي التحريم المؤبد، اللعان يقتضي التحريم المؤبد، لكن الذي ذكره الفقهاء وتكلمنا عنه في درس سابق لمَّا شرحنا أحكام اللعان، ليس مسألة الفرقة الأبدية، هي مسألة: هل يجوز أن يقتصر الزوج على نفي الولد مع عدم القذف بالزنا؟ ذكرنا قولين، ورجحنا قول ابن تيمية رحمة الله عليه: وهو أنه لا يشترط أن يسبق ذلك قذفٌ بالزنا، وأنه يجوز أن يُلاعن لأجل نفي الولد فقط، وذكرنا أيضًا عن الشيخ محمد ابن عثيمين أنه رجحه أيضًا، وقلنا: إن قواعد الشريعة تدل لهذا، لا يُلزم الإنسان بأن يتكلم بالكلام الزور لأجل أن يُلاعن، يمكن أن يُلاعن لأجل نفي الولد فقط.

مداخلة: …..

الشيخ: هذا صحيحٌ، قد يكون هذا من المبرِّرات، تكون المرأة اغتُصبت، وحملت من غير هذا الرجل، فهذا الرجل الآن يُريد أن ينفي هذا الولد، كيف ينفيه؟ يُلاعن لأجل نفي الولد فقط، مع عدم القذف بالزنا، هذا هو المخرج.

مداخلة: …..

الشيخ: ما دام أنها حاملٌ؛ فالذي أرى في مثل هذه المسائل، هذه من المسائل التي قد يُبتلى بها بعض الناس، فمثل هذه المسائل التي يحصل فيها اغتصابٌ وإكراهٌ: أن يُسقَط الجنين في الشهور الأولى، يعني: له مهلةٌ إلى أربعة أشهرٍ، وكونه يتركه إلى بعد أربعة أشهرٍ، هذا يدل على الإشكال، فهذه المرأة إذا اغتُصبت؛ سيعلم بها أهلها وذووها، ما دام أنها مغتصبةٌ بالفعل.

وعند الحنابلة -مرت معنا هذه المسألة- يجوز الإسقاط، حتى بدون سببٍ في طور الأربعين، أما بعد الأربعين؛ فلا بد من سببٍ، لكن لا يُشددون فيه إلا إذا بلغ أربعة أشهرٍ، فيُمكن أن يُلجأ للإسقاط في هذه الحال، خاصةً في وقتنا الحاضر أصبح هذا متيسرًا، يكون هذا حلًّا من حلول هذه المعضلة، في الحقيقة هذه من المسائل المعضلة المشكلة.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: كم يُجلد المبعَّض الذي ثلثه أو نصفه حُرٌّ؟

الشيخ: السؤال الذي بعده.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكمة الشارع في جعل إقامة البينة في الزنا أربعة شهودٍ، وفي القتل شاهدين؟ وهل يدل هذا على أن القتل أخف من الزنا؟

الجواب: شهادة شاهدين عدلين تثبُت بها الحدود كلها، ما دام أنهما عدلان؛ فيبعُد تواطؤهما على الكذب، ويبعد الخطأ وإن كان واردًا، لكن القذف بالزنا يترتب عليه أمورٌ عظيمةٌ، يترتب عليه أمورٌ كبيرةٌ، يترتب عليه القتل بالرجم، يُرجم بالحجارة إلى أن يموت، وأيضًا تشويه السمعة، ليس فقط سمعة هذا الزاني، حتى أولاده وبناته وأسرته.

فالآثار المترتبة على القذف بالزنا ليست بالأمر الهين، من الأمور العظيمة؛ فلذلك شُدد في جانب الشهادة؛ بأن يكون بأربعة شهداء؛ حتى لا يتقدم إنسانٌ ويقذف المسلمين في أعراضهم إلا وهو متأكدٌ؛ لأن بعض الناس عنده أيضًا شيءٌ من الوسوسة، وعنده شيءٌ من سوء الظن، وربما أنه يرى رِيبةً فيتعجل، فنقول: ليس له أن يشهد حتى يوجد معه ثلاثة شهودٍ، هذه من حكمة الشريعة في هذا؛ ولهذا نقلت لكم كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله، يقول: “ما أعلم أن حد الزنا أقيم بأربعة شهودٍ من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومي هذا، وإنما كان يقام بالإقرار”.

السؤال: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: هناك عصيرٌ اشتهر بالحجاز يسمى (السوبيا)، فيه نسبةٌ من الخمر، علمًا أن (السوبيا) عصيرٌ من العنب والفراولة؟

الجواب: هذا ليس فيه خمرٌ، إنما هو مثل البيرة، يقال: إن فيه كذا، لكن لم يثبت مثل هذا، لكن لو ثبت في هذا العصير أو في غيره أن فيه نسبة كحول، وأن كثيره يُسكر؛ فلا شك في تحريمه، لكن بعض الناس ربما يكون غير متحقِّقٍ، فنقول: الأصل في الأطعمة والأشربة الحِل والإباحة، فنحن نضع قواعد، نقول: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ، ما لم يُسكر كثيره؛ فإن قليله ليس بحرامٍ.

السؤال: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: أشكل عليَّ أن الشارب للخمر يعزر، ومع هذا لا ينقص عن أربعين جلدةً؟

الجواب: قالوا: لأن هذا أقل ما ورد؛ لأننا لو قلنا بالتعزير وفتحنا المجال؛ قد لا يُجلد أصلًا، يعني: قد يرى القاضي أنه يُحبس فقط، مع أنه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام جُلِد الشارب، وقعت عقوبة شارب المسكر عدة مراتٍ، ولم يُنقل ولا مرةً واحدةً أنه لم يُجلد، فلا بد من الجلد؛ لأن هذا أمرٌ قد ورد النص فيه، فهذا القول تجتمع به الأدلة؛ لأن الجمهور يُوردون، يقولون: كيف تقولون: العقوبة تعزيريةٌ، ولم يَرِد فيها أصلًا إلا الجلد؟ فنقول: صحيحٌ هي عقوبةٌ تعزيريةٌ، لكن نقول: لا تقل عن أربعين جلدةً.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: رجلٌ عنده نِصَاب غنمٍ، لكنها عُروض تجارةٍ، فهل يزكيها زكاة عروض تجارةٍ، أم بهيمة أنعامٍ؟

الجواب: هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:

فمنهم من قال: إنه يزكيها زكاة السائمة من بهيمة الأنعام.

والقول الثاني: أنه يزكيها زكاة عروض تجارةٍ، وقد ذكر القولين الموفق بن قدامة في “المغني”، وأيهما أحظُّ للفقراء والمساكين: أن يزكيها زكاة عروض تجارةٍ، أو يزكيها زكاة السائمة؟ يعني: افترضنا مثلًا أربعون من الغنم، لو زكاها زكاة السائمة كم فيها؟ واحدةٌ، لكن لو زكاها زكاة عروض التجارة؛ سيكون المبلغ كبيرًا، فالأحظ للفقراء والمساكين: هو أن يزكيها زكاة عروض التجارة؛ لذلك فالأقرب والله أعلم: هو أن يزكيها زكاة عروض التجارة.

السؤال الأخير: أحسن الله إليكم، يقول: يتبادر لأذهان بعض طلبة العلم: أن الفقهاء لا يُلقون كثير أهميةٍ في العناية بالأحاديث وتقديم الصحيح في الاستدلال عن المختلف فيه؛ بدليل وقوع ذلك منهم، فما توجيهكم لمثل هؤلاء؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب: التعميم في هذا غير صحيحٍ، الفقهاء المحققون لهم عنايةٌ بالحديث، الإمام أحمد رحمه الله فقيهٌ ومحدثٌ، له اهتمامٌ وعنايةٌ كبيرةٌ في الحديث، ابن تيمية، ابن القيم، الشيخ ابن بازٍ مثلًا، فعلى سبيل التعميم نقول: هذا غير صحيحٍ، لكن قد يوجد من بعض الفقهاء عدم عنايةٍ بالحديث، وقد يوجد من بعض المحدثين عدم عنايةٍ بالفقه، فيتفاوت العلماء فيما بينهم تفاوتًا كبيرًا، لكن أنا في نظري أن من يريد دراسة الفقه دراسةً صحيحةً؛ فلا بد أن يرتبط بالحديث، كيف تستطيع أن تُرجِّح وأنت لم تعرف الحديث؟! ولهذا أرى في الطريقة المثلى للتفقه أن ينطلق طالب العلم من كتب الفقه ويربطها بالحديث، يعني: لا تبدأ من كتب الحديث وتربطها بالفقه، ستفوتك مسائل كثيرةٌ، يعني: لو أخذت مثلًا “بلوغ المرام”؛ ستفوتك مسائل كثيرةٌ في الشركة مثلًا، ما ورد فيها إلا حديثٌ واحدٌ أو حديثان، الحوالة ليس فيها إلا حديثٌ واحدٌ، بينما الفقهاء تكلموا عنها كلامًا طويلًا، الشركة من أطول وأوسع أبواب المعاملات، الحوالة كذلك، بقية أبواب المعاملات الأحاديث فيها قليلةٌ، لو انطلقت من كتب الحديث؛ ستفوتك مسائل كثيرةٌ، لكن لو انطلقت من كتب الفقه وربطتها بالحديث؛ جمعت بين الحديث والفقه، فمثلًا عندما تدرس باب أحكام المسح على الخفين؛ تضبط ما قاله الفقهاء، وتربطه بجميع الأحاديث التي في “بلوغ المرام”، والتي في “الصحيحين”، والتي في السنن، والأحاديث كلها الواردة في المسح على الخفين، بذلك تكون قد جمعت بين الحديث والفقه، هذه هي الطريقة الصحيحة للتفقه: أن تنطلق من كتب الفقه وتربطها بالأحاديث.

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، والنبي عليه الصلاة والسلام جلد حسان بن ثابتٍ، وجلد حمنة بنت جحشٍ، وجلد مِسطح بن أثاثة، هؤلاء الثلاثة ، ولم يجلد عبدالله بن أُبيٍّ رأس النفاق، مع أن الله تعالى قال: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، يعني: والذي تولَّى كِبْر الإفك ومعظمه وهو عبدالله بن أُبيٍّ، اختلف العلماء لماذا لم يجلده النبي ؟ فقيل: إنه من باب المصلحة؛ لأنه كان سيدًا في قومه، والقول الصحيح: أنه كان يشيع الإفك ولا يتحدث به عند من يشهد عليه من المؤمنين، فتجد هذا من الخبث والمكر، يعني: ما ثبت عند النبي عليه الصلاة والسلام بشهادة الشهود أنه تحدَّث بالإفك، فهو يُشيع، لكن إذا وجد أحدًا يمكن أن يشهد عليه؛ ما تكلم، فهذا هو الأقرب والله أعلم.

كيف يترك النبي عليه الصلاة والسلام إقامة الحد على رجلٍ ويُقيمه على آخرين؟ هذا قولٌ ضعيفٌ، الصواب: هو هذا؛ أنه لم يثبت عليه بشهادة الشهود، والمسألة محل خلافٍ، ومن حكمة الله أنه لم يُقم عليه الحد؛ لأن الحد تطهيرٌ، وهذا رأسٌ في النفاق، والحد لا يُطهِّره، فهذا من حكمة الله .

مداخلة: …..

الشيخ: لا شك أن قذف الأنبياء، أو قذف مثلًا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنه من الكفر، لا شك أن هذا كفرٌ صريحٌ يوجب الردة، ويوجب إقامة التعزير عليه، ولو بالقتل، فهذه من الأمور التي يُعزَّر فيها، من قذف نبيًّا أو قذف..، هو يكفر، لكن قد نقول: إنه يُستتاب، والغالب بل ربما نقول: في جميع الأحوال التي يُستتاب فيها أمثال هؤلاء يُعلنون التوبة، لكن هل تُقبل توبتهم قضاءً؟

أما فيما بينهم وبين الله : فالله تعالى يقبل توبة من تاب، لكن قضاءً هل تُقبل أم لا؟ هذه فيها كلامٌ كثيرٌ لأهل العلم، وهي محل اجتهادٍ ونظرٍ، وهي ترجع لاجتهاد القاضي في هذا.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 2193، وابن ماجه: 2046، وأحمد: 26360.
^2 رواه البخاري: 6785، ومسلم: 66.
^3 رواه البخاري: 6872، ومسلم: 96، بنحوه.
^4 رواه داود: 2049، والنسائي: 3464.
^5 رواه البخاري: 6243، ومسلم: 2657، بنحوه.
^6 رواه أبو داود: 4484، والنسائي: 5662، وابن ماجه: 2102، وأحمد: 7762.
^7 رواه البخاري: 5588، ومسلم: 3032، بنحوه.
^8 رواه البخاري: 5575، ومسلم: 2003.
^9 رواه أبو داود: 3681، والترمذي: 1865، وابن ماجه: 3393، وأحمد: 14703.
^10 سبق تخريجه.
^11 رواه أبو داود: 4031، وأحمد: 5114.
^12 رواه أبو داود: 3674، وابن ماجه: 3380، وأحمد: 4787.
^13 رواه مسلم: 977، بنحوه.
^14 رواه مسلم: 2005.
^15 رواه البخاري: 5001.
zh