logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(101) باب حد الزنا- من قوله: “الزنا: هو فعل الفاحشة في..”

(101) باب حد الزنا- من قوله: “الزنا: هو فعل الفاحشة في..”

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى باب حد الزنا.

باب حد الزنا

قال المؤلف رحمه الله:

باب حد الزنا

تعريف الزنا

قال:

الزنا: هو فعل الفاحشة في قُبُلٍ أو دُبُرٍ.

“الزنا” ورد ذكره في القرآن الكريم، وهل كلمة “الزنا” تُكتب من جهة الرسم ممدودةً، أو مقصورةً: “الزنى”، بالألف أو بالقصر؟

الذي في المصحف ما هو؟ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى، في المصحف ما هو؟ في سورة الإسراء: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]؟

مداخلة: …..

الشيخ: إي نعم، مقصورة، هما لغتان: فلغة الحجاز بالقصر، وعلى ذلك رسم المصحف، ولغة نجدٍ بالمد، وقيل: إنها لغة تميمٍ، فهما لغتان صحيحتان، يعني: من كتبها ممدودةً أو مقصورةً؛ فهي صحيحةٌ، لكن بعض العلماء يجعلها مقصورةً؛ باعتبار أنها هي التي وردت في رسم المصحف.

تعريف الزنا، هنا المؤلف عرَّفه تعريفًا أدخل معه اللواط، قال: “هو فعل الفاحشة في قُبُلٍ أو دُبُرٍ”؛ ولذلك اختلف العلماء في تعريف الزنا بناءً على اختلافهم أيضًا في مسألة: هل اللواط يدخل في الزنا، أو أن اللواط له حكمٌ مستقلٌّ، وحَدٌّ مستقلٌّ؟

فالجمهور جعلوا الزنا شاملًا للوطء في القُبُل والدُّبُر، الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، جعلوا الزنا شاملًا للوطء في القُبُل والدُّبُر؛ ولهذا نجد تعريف المؤلف، قال: “هو فعل الفاحشة في قُبُلٍ أو دُبُرٍ”.

والحنفية خصوا الزنا بالوطء في القُّبل؛ ولذلك عرَّفوا الزنا بتعريفاتٍ؛ من أشهرها: “أنه وطءٌ في قُبُلٍ خالٍ عن ملكٍ أو شُبهةٍ”.

والأقرب: هو تعريف الحنفية، وأن اللواط خارجٌ عن الزنا، وأنه مستقلٌّ بحكمٍ آخر، سواءٌ في العقوبة أو في الأحكام الشرعية؛ وذلك لأن الوطء في الدبر لا يسمى زنًا، لا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، وحكمه مغاير للزنا، فحكم اللواط هو القتل بكل حالٍ، كما أجمع على ذلك الصحابة ، وإن اختلفوا في صفة القتل، بينما نجد عقوبة الزنا لا تخرج عن الجلد أو التغريب لغير المحصن، والرجم للمحصن؛ ولهذا فالتعريف المختار أو التعريف الصحيح هو تعريف الحنفية، وهو: “وطءٌ في قُبُلٍ خالٍ عن ملكٍ أو شُبهةٍ”.

فعندما نقول: “وطءٌ”، خرج به ما دون الوطء؛ كالمباشرة والقُبلة ونحو ذلك، هذه لا تسمى زنًا بالمعنى الاصطلاحي.

“في قُبُل”: خرج به الوطء في الدُّبر، الذي هو اللواط، وقلنا: الصحيح: أنه لا يُعتبر زنًا.

“خالٍ عن ملكٍ” يعني: عن نكاحٍ، يقصدون بالملك: النكاح؛ لأن الزوج يملك به حق الاستمتاع بالمرأة، وكذلك أيضًا يشمل ملك اليمين، فهم عبَّروا بالملك؛ حتى يشمل النكاح وملك اليمين.

“أو شُبهةٍ” يعني: أو شبهة النكاح، لو وطأ امرأةً على أنها زوجته، ثم تبيَّن أنها أخته من الرضاع مثلًا، لا يُعتبر هذا زنًا، وإنما وطءٌ بشبهةٍ، فالوطء بشبهةٍ لا يُعتبر زنًا.

فإذنْ هذا هو التعريف الصحيح: “وطءٌ في قُبُلٍ خالٍ عن ملكٍ أو شبهةٍ”، وبذلك نُخرج اللواط من الزنا.

حكم الزنا

والزنا من كبائر الذنوب، وقد قال النبي : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ [1].

فالزنا يسلب المؤمن اسم مطلق الإيمان، وإن كان عند أهل السنة والجماعة لا يكفُر، هو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته.

سد الذرائع الموصلة إلى الزنا

وقد سدت الشريعة الذرائع الموصلة للزنا، فحرمت نظر الرجل للمرأة الأجنبية، وكذلك أيضًا نظر المرأة للرجل بشهوةٍ، وحرمت خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وسدت جميع الذرائع الموصلة للزنا، منعت من الاختلاط بين الرجال والنساء على وجهٍ تحصل معه الفتنة؛ وذلك لأن هذه الذرائع تُؤدِّي للوقوع في الزنا؛ ولهذا فإن المرأة مأمورةٌ بأن تَقَرَّ في بيتها ولا تخرج إلا لحاجةٍ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33]، الأصل في المرأة أنها تَقَرُّ في بيتها، فإنها إذا خرجت من البيت؛ تحصل الفتنة منها وبها، لكن إذا خرجت لحاجةٍ؛ تخرج متحجبةً عفيفةً، فإن المرأة إذا خرجت بلباسٍ محتشمٍ؛ لا أحد يتعرض لها، ولا أحد يؤذيها؛ كما قال الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، يعني: يُعرفن بالعفة؛ فلا يؤذين.

يقول لي أحد الإخوة الذي كان مبتلًى بمعاكسة النساء، ثم منَّ الله تعالى عليه وتاب: والله إنا لنعرف المرأة من لباسها، يقول: المرأة العفيفة يكون لبسها محتشمًا ساترًا، ولا نتعرض لها، يقول: بل والله إنا لننظر للأرض احترامًا لها، لا أحد يتعرض لها، بل تُحترم، يقول: ونعرف المرأة غير العفيفة بلباسها، تلبس اللباس المتبرج، وتُبدي زينتها، تُبدي مفاتنها، تدعو الرجال إلى معاكستها عن طريق لبسها.

فإذنْ المرأة الأصل أنها تَقرُّ في البيت، إذا خرجت؛ فإنها تخرج باللباس المحتشم، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ؛ ولذلك إذا نظرتَ إلى معظم وقائع الزنا؛ تجد أن السبب الأول في الأساس: هو المرأة، تخرج بلباسٍ غير محتشمٍ فيُطمع فيها، إذا خرجت بلباسٍ غير محتشمٍ، متبرجةً سافرةً، هي تدعو الرجال إلى معاكستها، إلى التحرُّش بها، فهي الحقيقةَ السبب الرئيس في وقوع التحرُّش، وكذلك في المعاكسات، وكذلك ما يُؤدِّي إليه في النهاية من الزنا، وإلا المرأة العفيفة لا أحد يتعرض لها، ولا أحد يُؤذيها، هذا هو الأصل، قد تكون هناك حالاتٌ شاذةٌ، لكن هذا هو الأصل؛ ولذلك قال : ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ.

مفاسد الزنا

مفاسد الزنا عظيمةٌ وكبيرةٌ، تكلم عنها العلماء، ربما لا يتسع المقام للكلام عنها، لكن مِن أحسن مَن تكلم عنها: ابن القيم، وتكلم غيره.

ومن مفاسد الزنا: اختلاط الأنساب، هذه من أعظم المفاسد، وذلك أن المرأة إذا زُنِيَ بها؛ فإنها قد تحمل من هذا الزاني، فيُنسب الولد إلى غير أبيه، هذه من أعظم المفاسد.

وكذلك أيضًا من مفاسد الزنا: إفساد المرأة على زوجها إذا كانت متزوجةً.

وكذلك أيضًا من مفاسد الزنا: إدخال العار على الزوج والزوجة والواقع في الزنا؛ ولذلك فإن الزنا مستقبحٌ حتى عند بعض الحيوانات، جاء في “صحيح البخاري”، أنا أذكر إسناد القصة في “صحيح البخاري”؛ حتى أُبيِّن لكم أن القصة صحيحةٌ؛ لأنها غريبةٌ، في “صحيح البخاري” عن عمرو بن ميمونٍ يقول: رأيت في الجاهلية قردًا وقردةً زَنَيَا، فاجتمع القرود عليهما فرجموهما، فكنت ممن رجمهما [2].

نعم، فبعض الحيوانات مثل القردة تَعرف الزنا، وتستقبح الزنا، إذا كان هذا في الحيوانات؛ فما بالك ببني آدم؟!

ومما يدل على قُبح هذه المعصية: العقوبة الشرعية المترتبة عليها: إذا كان محصنًا ما هي العقوبة؟ أن يُرجم بالحجارة إلى أن يموت، القتل، لكن بصفةٍ فظيعةٍ غليظةٍ، هذا يدل على قُبح هذه المعصية.

إذا كان غير محصنٍ؟ العقوبة شديدةٌ أيضًا، جلد مئةٍ وتغريب عامٍ عن بلده، هذا يدل على قُبح هذه المعصية.

وهناك مفاسد كثيرةٌ تكلمت عنها أيضًا في البحث في استلحاق ولد الزنا، منشورٌ في “مجلة البحوث الفقهية المعاصرة”، ولعله -إن شاء الله تعالى- يكون موجودًا على الموقع، عقدت مبحثًا في الكلام عن مفاسد الزنا، ونقلت كلام ابن القيم وكلام بعض أهل العلم في هذا، لكن نكتفي بهذا القدر في بيان مفاسد الزنا.

مداخلة: ……

الشيخ: نعود لعبارة المؤلف.

حد الزاني المحصن

قال:

فإذا زنا المحصن؛ وجب رجمه حتى يموت.

ضابط الإحصان

المحصن عرفه المؤلف قال:

والمحصن: هو من وَطِئ زوجته في قُبُلها بنكاحٍ صحيحٍ.

هذا هو تعريف المحصن: مَن وَطِئ في نكاحٍ صحيحٍ، حتى لو تُوفيت أو طلقها هل يُعتبر محصنًا؟ إنسانٌ وَطِئ امرأته ثم طلقها، ثم زنى، هل نعتبره محصنًا ونقول: حده الرجم؟ نعم، فما دام أنه وَطِئ امرأةً ولو مرةً واحدةً في نكاحٍ صحيحٍ فهو محصنٌ؛ فإذنْ هذا هو تعريف الإحصان.

مداخلة: ……

الشيخ: “بنكاحٍ صحيحٍ”؛ احترازًا من النكاح الفاسد، فلا يحصل به الإحصان، لا يتحقق به الإحصان.

ثم قال:

وهما حُرَّان مكلفان.

يعني: والزوجان حُرَّان مكلفان، فإذا زنى الرقيق، سيأتي الكلام عنه، وكذلك أيضًا إذا زنى غير المكلف؛ فإنه لا يُحد، لكن يُعزَّر تعزيرًا يُناسبه.

وإن زنى الحُرُّ غير المحصن.

نحن عرَّفنا الإحصان بأنه: “من وَطِئ زوجته في قُبُلها بنكاحٍ صحيحٍ”؛ معنى ذلك: أن غير المحصن هو من لم يطأ زوجةً، إنسانٌ لم يتزوج، ما وَطِئ زوجةً، فهذا يُعتبر غير محصنٍ.

حد الزاني غير المحصن

إذا حصل الزنا من غير المحصن فما عقوبته؟

قال:

وإن زنا الحر غير المحصن؛ جُلد مئة جلدةٍ، وغُرِّب عامًا إلى مسافة قصرٍ.

فإذنْ حد الزاني المحصن: الرجم، وحد الزاني غير المحصن: جلد مئةٍ وتغريب عامٍ، وهذا مجمعٌ عليه.

حد الرجم

أما بالنسبة للرجم: فقد جاء في “الصحيحين” أن النبي قال في قصة العَسِيف: واغْدُ -يا أُنَيْس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها [3]، ورجم النبي ماعزًا والغامدية [4]، واليهوديين لما زنيا [5]، وقالوا: إن الأخبار في ذلك تشبه التواتر.

وأيضًا جاء في “الصحيحين” أن عمر خطب الناس وقال: إن الله أنزل على نبيه  القرآن، وكان فيما أُنزل آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم النبي ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان؛ أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيَضلوا بترك فريضةٍ، وإن الرجم حقٌّ ثابتٌ في كتاب الله على من زنى إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف [6].

عمر الآن في خطبته هذه يُشير إلى وجود آيةٍ في الرجم، لكنها منسوخةٌ، وهذه مما نُسخ لفظه وبقي حكمه، والنسخ على أنواعٍ، فمثالٌ لنسخ اللفظ وبقاء الحكم: هو هذا المثال.

طيب، ما هي هذه الآية التي نُسخت؟ قيل إن هذه الآية هي: {والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيزٌ حكيمٌ}، لكن هل هذا صحيحٌ؟ يعني عند التحقيق هل هذا صحيحٌ؟

أولًا: نبحث في إسناد هذا، هذا قد رُوي عن النبي ، وقد أخرج الرواية الإمام أحمد في “مسنده”، ولكنها من جهة الإسناد لا تصح، وكذلك أيضًا فيها نكارةٌ في المتن، فهي منكرةٌ سندًا ومتنًا، من جهة الإسناد غير صحيحةٍ، ومن جهة المتن فيها نكارةٌ، ما هي النَّكارة في المتن؟ تقييد الزنا بالشيخ والشيخة، والغالب أن الزنا يقع من الشيخ والشيخة، أم من الشاب والشابة؟ من الشاب والشابة، ففيها نكارةٌ، يعني: يبعد أن هذا يكون من القرآن بهذا اللفظ، فإذنْ هي منكرةٌ سندًا ومتنًا.

فالذي يظهر -والله أعلم- أنها آيةٌ -كما قال عمر – نُسخت، لكن الله أعلم ما هي هذه الآية، لكنها ليست هي هذه الآية، ليست: {والشيخ والشيخة..}، هذا -والله أعلم- هو الذي عليه كثيرٌ من المحققين من أهل العلم؛ لأنها منكرةٌ سندًا ومتنًا.

مداخلة: ……

الشيخ: لا، غير صحيحٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: والشيخ والشيخة؟ لا، ليس متفقًا عليه، هو يقصد حديث عمر ، ربما حديث عمر ، هذا من الأخطاء.

مداخلة: ……

الشيخ: فهي إذنْ لا تصح لا سندًا ولا متنًا، يعني: منكرةٌ سندًا ومتنًا، لكنها آيةٌ من كتاب الله نُسخت، والله أعلم ما هي.

ما هي الحكمة من نسخ لفظ الآية؟

قيل: إنه لبيان فضل هذه الأُمَّة، وأن هذه الأُمَّة تعمل بحكمٍ قد نُسخ لفظه، بينما اليهود لا يعملون بما هو موجودٌ عندهم في التوراة، هذه من الحكم والله أعلم.

إذنْ هذا الحُكم -كما ذكرت- مجمعٌ عليه.

تغريب غير المحصن

كذلك أيضًا بالنسبة لغير المحصن: جلد مئةٍ وتغريب عامٍ، أن يُجلد مئة جلدةٍ عقوبةً له، وهذا يدل على أن الجلد من العقوبات الشرعية، وبهذا يتبين خطأ النظرة الغربية؛ فإن الغرب يعتبرون الجلد جريمةً، وبعض الناس يتلقَّف ما يأتي من الغرب من غير تمحيصٍ، ولا شك أن هذه النظرة خطأٌ قطعًا؛ لأن الله -خالق البشر- رتَّب هذه العقوبة، وهو أعلم بما تَصلح به أحوال البشر.

فإذنْ الجلد من العقوبات الشرعية، لكن لا يُسرف في الجلد أيضًا، يعني: التعزيرات، لعله يأتينا إن شاء الله في باب التعزير، الجلد الآن الذي نسمع به بالآلاف، خمسة آلاف جلدةٍ، ستة آلاف جلدةٍ، أحيانًا يصل لعشرة آلاف جلدةٍ، هذا الذي يظهر أن هذا ليس مشروعًا، وسنتكلم عنه بالتفصيل -على كل حالٍ- في باب التعزير.

لكن لا تجد هذا، لم يؤْثَر هذا عن السلف، ولا تجد له سندًا لا في القرآن ولا في السنة، يعني: أكثر ما ورد في القرآن والسنة في الجلد كم؟ مئةٌ فقط، مئة جلدةٍ، أما الجلد بالآلاف بهذه الطريقة حقيقةً فيه إشكالٌ، وربما تُشوِّه صورة الإسلام؛ أنا وجدت في بعض الدول يقولون: هذا هو الإسلام؟! يجلد الإنسان بستة آلاف جلدةٍ، عشرة آلاف جلدةٍ، بهذه الطريقة؟! مع أن بالإمكان في العقوبات التعزيرية ألا تقتصر على الجلد، لماذا نحصر العقوبة التعزيرية في الجلد؟ هناك بدائل، يمكن أن تكون مئة جلدةٍ وعقوباتٍ أخرى، الهدف إصلاح هذا المعزَّر، هذه المسألة لا أريد أن أسترسل فيها، سنتكلم عنها -إن شاء الله- بالتفصيل في باب التعزير.

هنا قلنا: الجلد والتغريب، وهذا -كما قلنا- مجمعٌ عليه.

أما الجلد: فقول الله : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].

وأما التغريب: فقد ثبت في السنة، فغرَّب النبي ، وغرب أبو بكرٍ وعمر والخلفاء الراشدون ، وجاء في مسلمٍ: البكر بالبكر، جلد مئةٍ وتغريب عامٍ [7]، وأيضًا التغريب عقوبةٌ تكون مع الجلد في قول جمهور العلماء، أما الجلد فمجمعٌ عليه؛ لأنه منصوصٌ عليه، أما التغريب فهو في قول الجمهور أيضًا عقوبةٌ شرعيةٌ ودليلها ظاهرٌ.

لكن يَرِد الإشكال بالنسبة للمرأة؛ المرأة إذا زنت وكانت غير محصنةٍ؛ تُجلد مئة جلدةٍ، هذا لا إشكال فيه، لكن إذا قلنا: تُغرَّب، المؤلف يقول: التغريب إلى مسافة قصرٍ، طيب إذا غُرِّبت؛ هل تُغرَّب وحدها، أو تُغرَّب مع محرمها؟ ما الجواب؟

طيب، مع محرمها أوقعنا العقوبة بمن لا يستحق، ما ذنب محرمها أن نُغرِّبه سنةً كاملةً؟! ربما يكون موظفًا، ربما يكون طالبًا، يعني: نقطعه عن عمله سنةً كاملةً، فما ذنب محرمها، قد يكون محرمها إنسانًا صالحًا ابتُلي بهذه المرأة التي وقعت في هذه المعصية، فما ذنب محرمها، الله تعالى يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18].

مداخلة: ……

الشيخ: إذا غرَّبناها أيضًا وحدها؛ هناك إشكالٌ، ما هو؟ إذا كانت زنت وهي بين أهلها، فكيف وهي غريبةٌ عن البلد؟! هذا أدعى للفجور، أدعى لأن تفجر، ولأن يحصل منها الزنا، فإذا كانت زنت وهي عند أهلها؛ فكيف إذا كانت بعيدةً عن أهلها وعن بلدها وغريبةً؟! هذه المسألة فيها إشكالٌ، يعني تغريب المرأة.

مداخلة: ……

الشيخ: دون مسافة القصر، لكن هل يسمى هذا تغريبًا؟

مداخلة: ……

الشيخ: نريد الدليل، نحن الآن أمام حَدٍّ شرعيٍّ، هذه المسألة..، نريد الدليل، كل من استحسن رأيًا، تكون هذه الآراء عقلًا مستحسنةً، لكن تعرفون هذا حكمٌ شرعيٌّ، هذا حدٌّ، فإذنْ نعرض الخلاف، المسألة خلافيةٌ، الحقيقةَ هذا الإشكال قائمٌ من قديمٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: هذه الآية منسوخةٌ، لكن على كل حالٍ المسألة محل خلافٍ بين العلماء:

فالجمهور على أنها تُغرَّب، قول الشافعية والحنابلة على أنها تُغرَّب مع محرمها، ويقولون: إن المحرم قد فرَّط في حفظها وفي صيانتها فيُغرَّب معها، ولكن عندما نُناقش هذا؛ قد لا يكون هذا مقبولًا، قد لا يكون مفرِّطًا، وإنما ابتُلي بهذه المرأة.

ولهذا القول الثاني في المسألة، وهو مذهب المالكية: أن التغريب إنما يكون للرجل فقط دون المرأة، وقد اختار هذا القول الموفق بن قدامة رحمه الله في “المغني”، وقال: إنه أصح الأقوال وأعدلها؛ قالوا: لأن المرأة تحتاج إلى حفظٍ وصيانةٍ، ولا تخلو من التغريب إما بمحرَمٍ أو بلا محرَمٍ، ولا يجوز تغريبها بدون محرمٍ؛ لقول النبي : لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلا مع ذي محرمٍ [8]، ولأن تغريبها بغير محرمٍ إغراءٌ لها بالفجور وتضييعٌ لها، أما إن غُرِّبت بمحرمٍ فيُفضي ذلك إلى تغريب مَن ليس بزانٍ، ونفي مَن لا ذنب له، ثم أيضًا إذا غُرِّبت بمحرمٍ؛ تحتاج إلى أجرةٍ لها ولمحرمها، فمَن الذي يُكلَّف بالأجرة؟ إن كلَّفنا المحرم؛ فأيضًا يُكلَّف الرجل بأمرٍ غير واجبٍ عليه شرعًا، وإن كُلِّفت هي بالأجرة ففي ذلك زيادةٌ على عقوبتها بما لم يرد به الشرع؛ ولهذا هذا القول هو القول الراجح والله أعلم: أن التغريب خاصٌّ بالرجل، وتكون الأحاديث الواردة في التغريب مخصوصةً بقول النبي : لا تُسافر امرأةٌ إلا ومعها ذو محرمٍ، تكون عامةً ومخصوصةً بهذا الحديث، ونحن قبل قليلٍ شرحنا تخصيص العام.

ومما يدل لهذا: أن الصحابة  لم يُؤثَر عنهم تغريب النساء، التغريب، والنبي عليه الصلاة والسلام عمومًا لم يحصل في وقته مثل هذا التغريب، لكن المأثور عن الصحابة التغريب للرجال فقط، فالراجح والله أعلم: أن المرأة لا تُغرَّب، وإنما يُكتفى بجلدها فقط، هذا هو القول الصحيح؛ ولهذا قال الموفق: إن عموم الخبر في التغريب مخصوصٌ بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرمٍ، فيكون هذا من أمثلة تخصيص العام الذي شرحناه قبل قليلٍ، هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو الذي تجتمع به الأدلة.

أما على قول الحنابلة ومن وافقهم: تَرِد الإشكالات التي أثرناها، يَرِد: تغريب من ليس بمَحرمٍ، هذا مخالفٌ للقواعد الشرعية، تغريب من ليس بزانٍ مخالفٌ للقواعد الشرعية، تغريب المرأة بلا محرمٍ أيضًا مخالفٌ للقواعد الشرعية؛ فالأقرب والله أعلم: هو أن التغريب خاصٌّ بالرجل، ويدل عليه عمل الصحابة .

مداخلة: ……

الشيخ: في الوقت الحاضر الذي عليه العمل: هو مذهب الحنابلة، يُغرِّبونها مع محرمها.

مداخلة: ……

الشيخ: يكون في بلدٍ آخر، يعني مثلًا في الرياض تُغرَّب مثلًا في الدمام، أو في بلدٍ آخر مسافة قصرٍ، فالذي عليه العمل: هو المذهب عند الحنابلة، لكن الذي يظهر -والله أعلم- من حيث الأصول والقواعد الشرعية في هذه المسألة: هو مذهب المالكية.

مداخلة: ……

الشيخ: ما يوجد دليلٌ يدل على هذا، يعني قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تسافر امرأةٌ إلا ومعها ذو محرمٍ [9]، هذا يُفضي إلى أن نُغرِّب المحرم معها، التغريب أيضًا ليس يومًا أو يومين، أو شهرًا أو شهرين، سنة كاملة، وفي وقتنا الحاضر أصبح له كلفةٌ، الآن يستأجر سنةً كاملةً، الإيجار ربما يكون مكلفًا لها ولمحرمها، ومن غير النفقة، ففيها إشكالاتٌ الحقيقة.

مداخلة: ……

الشيخ: سيأتي الكلام عن الأَمَة والرقيق، سيأتي الكلام بعد قليلٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: مثل هذه الأمور لا يدخلها القياس، هذه حدودٌ شرعيةٌ، إما أن نقول بالتغريب، أو نقول بعدم التغريب، لا اجتهاد في مثل هذه المسائل، لا نقول السجن؛ لأنه لم يرد هذا، والأصل في مثل هذه الأمور هو التوقيف.

مداخلة: ……

الشيخ: على طريقة ابن قدامة ومن وافقه تخصيصٌ، يقولون: هو تخصيصٌ، فيقولون مثلًا حديث: البكر بالبكر، جلد مئةٍ وتغريب عامٍ [10]، مخصوصٌ بـ: لا تسافر امرأةٌ إلا ومعها ذو محرمٍ [11]، وحتى لو لم نعتبره تخصيصًا؛ نقول: هو جمعٌ بين الأدلة، يمكن أن نُعبِّر بالجمع بين الأدلة، سبق أن ذكرت في دروسٍ سابقةٍ أن أحيانًا بعض القواعد الأصولية هي جيدةٌ من حيث التنظير، عند التطبيق تَرِد إشكالاتٌ عليها، حتى بعض العلماء الذين يُنظِّرونها، تَرِد إشكالاتٌ في التطبيق، مثلما ذكرنا: مسألة تخصيص العام في أوقات النهي وذوات الأسباب.

لعل الأسئلة نرجئها، فقط نتيح فرصةً لسؤال، سؤالين، لكن لا نريد أن نتيح المجال حتى لا تأخذ منا وقتًا كبيرًا.

حكم الرقيق إذا زنا

قال:

وإن زنى الرقيق.

انتقل المؤلف للكلام عن زنا الرقيق.

وإن زنى الرقيق؛ جُلِد خمسين ولا يُغرَّب.

وهذا بنص الآية، وهي قول الله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، فالمقصود بالمحصنات هنا: الحرائر، يعني: على الإماء عند الزنا نصف ما على المحصنات الحرائر من العذاب، يعني: من عقوبة الزنا، فهذا منصوصٌ عليه، ومحل إجماعٍ أن الرقيق على النصف من الحُرِّ، فيُجلد خمسين جلدةً.

لكن الرقيق هل يُغرَّب؟ يقول المؤلف: إنه لا يُغرَّب؛ وذلك لأن في التغريب إضرارًا بسيده، وربما أنه إذا غُرِّب؛ يفرح بهذا التغريب، يكون بعيدًا عن سيده، ولا يُكلفه سيِّده بأعمالٍ، ففيه إضرارٌ كبيرٌ بسيده؛ ولهذا يقول النبي في الأَمَة التي لم تُحصَن: إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يُثرِّب عليها، ثم إن زنت فلْيبعها ولو بحبلٍ من شعرٍ [12]، الحديث في “الصحيحين”، ولم يذكر عليه الصلاة والسلام تغريبًا، لكن بعض العلماء ومنهم ابن تيمية يقول: إنها إذا زنت في المرة الرابعة؛ يجب على السيد أن يبيعها، فحملوا الأمر في الحديث على الوجوب.

حكم الذمي إذا زنى بمسلمةٍ وكذلك الحربي

قال:

وإن زنى الذمي بمسلمةٍ؛ قُتِل.

“الذِّمِّيُّ”، إذا قال الفقهاء: “الذِّمِّيُّ”، يقصدون الذمي ومن في حكمه: وهو المعاهد، فيقول: “قُتِل”؛ لانتقاض عهده بذلك، وقد رُوي هذا عن عمر ؛ لأن أهل الذمة يقيمون في بلاد الإسلام، ويُقَرُّون على دينهم نظير بدل الجزية، ولا ينقضون العهد الذي بينهم وبين المسلمين، فالعلماء يقولون: إن زنا الذمي بالمسلمة نقضٌ للعهد الذي بينه وبين المسلمين؛ فيُقتل كما رُوي ذلك عن عمر .

قال:

وإن زنى الحربي؛ فلا شيء عليه.

يعني: من جهة الزنا؛ وذلك لأنه مهدر الدم وغير ملتزمٍ بأحكامنا، ولأنه مطلوبٌ قتله.

حكم المحصن إذا زنا بغير المحصن

قال:

وإن زنى المحصن بغير المحصن؛ فلكلٍّ حده.

“إن زنى المحصن بغير المحصن”: نحن عرَّفنا “المحصن”: من وطئ في نكاحٍ صحيحٍ”، إن زنى المحصن بغير المحصن أو العكس؛ “فلكلٍّ حَدُّه”، والدليل لهذا: ما جاء في “الصحيحين” في قصة العَسِيف -يعني الأجير- الذي زنى بامرأة رجلٍ، فقال النبي : على ابنك جلد مئةٍ وتغريب عامٍ، واغْدُ -يا أُنيس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها [13].

فإذنْ حَكَم النبي عليه الصلاة والسلام بجلد غير المحصن مئةً وتغريب عامٍ، وعلى المرأة المحصنة بالرجم.

حكم من زنا ببهيمةٍ

قال:

ومن زنا ببهيمة؛ عُزِّر.

يعني: ولا حد عليه، وقيل: عليه الحد، وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء؛ فقيل: عليه الحد، وهو القتل، واستدلوا بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي قال: من وقع على بهيمةٍ؛ فاقتلوه [14]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، ولكنه من جهة الإسناد ضعيفٌ، ضعَّفه الترمذي رحمه الله، وما دام أن الحديث ضعيفٌ؛ فلا يثبُت به حكم؛ ولهذا فالصحيح هو القول الذي قرَّره المؤلف: وهو أن “مَن زنى ببهيمةٍ؛ عُزِّر”، ولا يُحدُّ؛ لأن الحديث ضعيفٌ، بل إن ابن عباسٍ رضي الله عنهما -راوي الحديث- قد ذكر الترمذي أنه رُوي عنه أنه قال: “من أتى بهيمةً؛ فلا حد عليه” [15]، روى عنه ذلك الترمذي أيضًا، وقال الترمذي: إن هذا المروي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أصح من الحديث، وهو: من أتى بهيمةً؛ فاقتلوه [16]، فلو كان الحديث محفوظًا عن النبي ؛ لما خالفه ابن عباسٍ رضي الله عنهما، ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “من أتى بهيمةً؛ فلا حد عليه”.

فإذنْ الصواب: أنه لا حد عليه، كما قرَّره المؤلف، لكن يُعزَّر؛ ولهذا قال الترمذي: “والعمل عليه عند أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق”.

فإذنْ القول الصحيح: أن مَن أتى بهيمةً؛ فإنه يُعزَّر تعزيرًا يُناسب تلك المعصية، لكنه لا يُقتل؛ لأن الحديث المروي في ذلك -كما قلنا- حديثٌ ضعيفٌ.

مداخلة: …..

الشيخ: يُقتل أصلًا، ليس معنى ذلك: أن نقيم عليه الحد، وإنما يقتل، هو أصلًا مطلوبٌ قتله، الحربي مهدر الدم.

من شروط وجوب حد الزنا: تغييب الحشفة

قال:

وشرط وجوب الحَدِّ.

يعني: شروط وجوب حد الزنا.

ثلاثةٌ:
أحدها: تغييب الحشفة أو قدرها في فرجٍ أو دُبُرٍ لآدميٍّ حيٍّ.

“تغييب الحشفة”: “الحشفة”: هي ما تحت الجلد المقطوع من الذكر.

مداخلة: …..

الشيخ: ربما في بعض النسخ.

مداخلة: …..

الشيخ: إي نعم، غير موجودةٍ في بعض النسخ، سنشير لها -على كل حالٍ- بعدما ننتهي من الشروط.

شروط وجوب إقامة حد الزنا: قلنا الأول: تغييب الحشفة.

و”الحشفة”: هي رأس الذكر، وهي ما تحت الجلد المقطوع من الذكر في الختان، هذه هي التي تترتب عليها الأحكام الشرعية، تغييب هذه الحشفة عند رأس الذكر، هذا هو الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية، يترتب عليه وجوب إقامة حد الزنا، يترتب عليه الغسل عند الجماع، فعند تغييب الحشفة؛ يترتب عليه الغسل ولو لم يحصل إنزالٌ، يترتب عليه أيضًا الكفارة المغلظة في نهار رمضان إذا حصل تغييب الحشفة، فالأحكام الشرعية المتعلقة بالجماع مرتبطةٌ بهذا الحكم، وهو تغييب الحشفة، وكذلك أيضًا الإحصان.

قال: “أو قدْرها”: وهذا من المقطوع مثلًا -مقطوع الذكر- بقدر الحشفة.

“في فرجٍ، أو دُبُرٍ لآدميٍّ حيٍّ”: وسبق أن ناقشنا هذه المسألة وقلنا: الصواب أنه إذا كان زنًا؛ يكون في القُبُل فقط، ولا يشمل ذلك اللواط، وسنتكلم عن اللواط بعدما ننتهي من الكلام عن الزنا.

من شروط وجوب حد الزنا: انتفاء الشبهة

الثاني:

من شروط وجوب الحد.

انتفاء الشبهة.

وقد رُوي في ذلك حديث عن النبي : ادرءوا الحدود بالشبهات [17]، وهو إن كان ضعيفًا من جهة الإسناد؛ إلا أن العمل على معناه عند أهل العلم؛ ولهذا قال ابن المنذر: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تُدرأ بالشبهات”.

ولكن ينبغي أيضًا عندما نأخذ بهذا أن نُقيِّد ذلك بالشبهة المعتبرة شرعًا، ليست أي شبهةٍ؛ لأن التوسع في درء الحدود بالشبهة ربما أدى إلى تعطيل الحدود، وهذا مما يُلحظ على بعض القضاة توسعهم في درء الحدود بالشبهة، إذا كان هذا يُفضي إلى تعطيل الحدود، أو تعطيل أكثر الحدود، هذا تطبيقٌ غير صحيحٍ، درء الحدود بالشبهة؛ مثلما ذكر الفقهاء: إذا سرق أحد الزوجين من الآخر مثلًا، بالنسبة للزنا مثلًا: إذا كان الوطء بشبهةٍ أو نحو ذلك، لكن لا نتوسع في مسألة الشبهة؛ ولهذا نجد أن النبي قطع رجلًا لمَّا سرق رداء صفوان ، ولم يقل: إن هذا شبهةٌ، وأتى صفوان وقال: تقطعون يده لأجل رداءٍ؟! هو له يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: هلَّا كان قبل أن تأتيني به؟ [18]، ما اعتبر النبي عليه الصلاة والسلام هذا شبهةً، فلا نتوسع في درء الحدود بالشبهات، لا بد أن تكون الشبهة مؤثرةً ومعتبرةً شرعًا، وهذا من أسباب قلة تطبيق الحدود عندنا: قبول رجوع المُقِر، والتوسُّع في درء الحدود بالشبهة، فإذا كان التوسع يؤدي إلى تعطيل أكثر الحدود؛ فمعنى ذلك: أن هذا التطبيق تطبيقٌ غير صحيحٍ.

من شروط وجوب حد الزنا: ثبوته إما بإقرار أو بشهادة

الثالث:
قال:
ثبوته.

يعني: ثبوت حد الزنا، وكيف يثبت حد الزنا؟ ذكر له طريقتين:

إما بإقرارٍ، أو بشهادةٍ.

والغالب في ثبوت حد الزنا هل هو بالإقرار، أو بالشهادة؟ بالإقرار، فجميع الحدود في عهد النبي إنما ثبتت بالإقرار، بل قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “الشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حدٌّ، وما أعرف أحدًا أقيم بها، وإنما تقام الحدود إما باعترافٍ، أو بحَبَلٍ”، وفي موضعٍ آخر يقول: “لا أعرف مِن صدر الإسلام إلى يومي هذا أن حد زنًا أقيم بشهادةٍ“، كل الحدود التي يذكرها ابن تيمية يقول: لا أعرف أن حدًّا أُقيم بشهادةٍ، كلها تكون باعترافٍ، لكن قد تكون بشهادةٍ، لكن حالات قليلة، معظمها تكون بإقرارٍ، وهكذا أيضًا في وقت الحاضر، وهذا يستدعي أن نأخذ بالقول الآخر: وهو عدم قبول رجوع المقر، إلا إذا كان ثمَّ شبهةٌ؛ لأن القول بقبول رجوع المقر يؤدي إلى تعطيل الحدود؛ لأن ثبوت الحدود بالشهادة- كما قال ابن تيمية- قليلٌ جدًّا، سواءٌ في السرقة، سواءٌ في الزنا، في أي حدٍّ من الحدود، ثبوته بالشهادة قليلٌ، فأكثر ما تثبت الحدود بالإقرار؛ ولهذا قول المالكية قولٌ جيدٌ؛ لأن الأخذ بقول الجمهور -خاصةً في وقتنا الحاضر مع تأخُّر وصول بعض المجرمين إلى القضاء- يُؤدِّي إلى رجوعهم عن إقرارهم؛ وبالتالي لا تقام الحدود، وهذه الإشكالية الحقيقةَ هي من أسباب قلة القطع بالسرقة، هذه سنناقشها إن شاء الله تعالى، ولكن هناك محاولاتٌ من بعض العلماء لتصحيح الوضع، وكان من آخر هذه الجهود: جهود شيخنا عبدالله الركبان، ألَّف كتابًا صدر قبل أيام “الرجوع عن الإقرار”، كتابٌ متوسط الحجم، ورجح هذا القول: أنه لا يُقبل رجوع المُقِر، إلا إذا كان ثمَّ شبهةٌ، وذكر أيضًا المفاسد التي أشرت إليها: أن قبول رجوع المقر أدى إلى تعطيل كثيرٍ من الحدود، فهذه -إن شاء الله- سنناقشها -إن شاء الله تعالى- في حينها.

فإذنْ ثبوت حد الزنا إما بإقرارٍ، لكن هنا قال المؤلف: إن الإقرار لا بد أن يكون:

أربع مراتٍ.

يعني: لا بد أن يعترف مرةً، ثم نقول له: كرِّر ثانيةً، ثم ثالثةً، ثم رابعةً، وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أنه يُشترط للإقرار: أن يُقر به أربع مرات، واستدلوا بأن ماعز بن مالكٍ  اعترف عند النبي أربع مراتٍ، فإنه جاء وقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، ثم أتى وقال: إني زنيت، ثم قال: إني زنيت، ثم الرابعة، قال: أبك جنونٌ؟، قال: لا، قال: فهل أَحصَنت؟، قال: نعم، فأمر فرُجم [19]، قالوا: فكون النبي عليه الصلاة والسلام جعل ماعزًا يعترف ويُقِر أربع مراتٍ؛ دليل على أنه لا بد أن يكون الإقرار أربع مراتٍ.

القول الثاني في المسألة: أنه لا يُشترط في الإقرار بالزنا أن يكون أربع مراتٍ، بل يكفي أن يكون مرةً واحدةً، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية، واستدلوا بقول النبي في قصة العسيف: واغْدُ -يا أنيس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها [20]، ولم يقل: فإن اعترفت أربع مراتٍ، وأيضًا أمر النبي برجم الجُهَنية والغامدية مع اعترافها مرةً واحدةً [21]، وأيضًا كذلك في قصة اليهوديين [22]، وقول عمر : “إن الرجم حقٌّ ثابتٌ في كتاب الله على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف” [23]، ولم يقل: أربع مراتٍ.

ولأن الإقرار إظهارٌ للحق المُقَرِّ به، وتكراره لا يزيد شيئًا، فيثبُت بالاعتراف مرةً واحدةً، ولأن الإقرار بالقتل -وهو أعظم- يكفي فيه مرةٌ واحدةٌ، وكذلك أيضًا في الحدود، وهذا هو القول الراجح: أنه يكفي في الإقرار أن يكون مرةً واحدةً، وأنه لا يُشترط تكراره، هذا هو القول الصحيح في المسألة.

وأما قصة ماعزٍ : فالروايات فيها مختلفةٌ؛ ففي بعضها: “فاعترف مرارًا” [24]، كما عند مسلمٍ، وفي روايةٍ أخرى: “فرده مرتين”، وهي أيضًا عند مسلمٍ، وفي روايةٍ: “مرتين أو ثلاثًا”، وعلى تقدير أن الإقرار كان أربعًا: فهذه واقعة عينٍ تحتمل عدة احتمالاتٍ؛ تحتمل أن النبي أراد أن يتثبت من حاله؛ ولهذا سأله: أبك جنونٌ؟ وأرسل إلى قومه: هل ماعزٌ به جنونٌ؟ قالوا: لا، وفي بعض الروايات أنه قال: هل شربت الخمر؟، حتى إنه أمر رجلًا أن يستنكهه فيشم رائحته [25]، هذه واقعة عينٍ يَرِد عليها عدة احتمالاتٍ، تحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يتثبت منه، فلا نأخذ بواقعة العين هذه ونترك الروايات الأخرى التي تدل على أن الإقرار يكفي فيه مرةٌ واحدةٌ؛ ولهذا فالصواب في هذه المسألة: أن الإقرار يكفي فيه أن يكون مرةً واحدةً.

قال:

ويستمر على إقراره.

يعني: لا يرجع عن إقراره، فإن رجع؛ فعلى كلام المؤلف أنه يُقبل رجوعه، أشرنا لهذه المسألة قبل قليلٍ، هي مسألة قبول رجوع المُقِر.

الجمهور يرون أنه يُقبل رجوع المُقِر؛ قالوا: لأن الحدود مبناها على درء الشبهة، على أنها تُدرأ بالشبهة، فإذا رجع المُقِر؛ فهذه شبهةٌ فيُدرأ الحد بها.

والقول الثاني، وهو قول المالكية: أن المُقِر إذا أقرَّ فلا يُقبل رجوعه إلا إذا كان ثمَّ شبهةٌ، هذا مذهب المالكية، وهو اختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله، واختيار أيضًا الشيخ محمد بن عثيمين، وهذا هو القول الصحيح، وأرى أن في وقتنا الحاضر ينبغي الأخذ به؛ لأن الأخذ بقول الجمهور في هذه المسألة أدَّى إلى تعطيل كثيرٍ من الحدود، وكما سمعنا إذا كان الإمام ابن تيمية في زمنه يقول: إن ثبوت الحدود بطريق الشهادة قليلٌ، وقال: الشهادة على الزنا لا يكاد يُقام بها حدٌّ، فما بالك في وقتنا الحاضر؟! فثبوت الحدود بطريق الشهادة قليلٌ جدًّا؛ لهذا الأقرب: هو قول المالكية، وأن مَن أقرَّ؛ يؤاخذ بإقراره، الإقرار هو سيد الأدلة، إنسانٌ مثلًا قامت عليه القرائن أنه سرق، أو قامت عليه القرائن أنه زنى واعترف، وصدق اعترافه، ثم يرجع عن اعترافه، هل نقبل -رجوعه على وجه الخصوص- إذا كان الرجوع عن الإقرار يُؤدِّي إلى تعطيل الحدود؟ فلهذا ينبغي الأخذ بقول المالكية في هذه المسألة؛ حتى لا تتعطل الحدود.

قال:

أو بشهادة أربعة رجالٍ عدولٍ.

هذا هو الطريق الثاني من طرق ثبوت حد الزنا: بأربعة شهودٍ، وهذا أيضًا بالإجماع؛ لقول الله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، ولا بد أن يكون هؤلاء الشهود رجالًا، وأن يكونوا عدولًا.

وهل يُشترط أن يشهدوا في مجلسٍ واحدٍ؟

المذهب عند الحنابلة: أنه لا بد أن يكونوا في مجلسٍ واحدٍ، ولكن هذا لا دليل عليه.

والصواب: أنه لا يُشترط أن يكونوا في مجلسٍ واحدٍ، هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو مذهب الشافعية؛ وذلك لعموم الأدلة، واشتراطُ المجلس الواحد ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ.

قال:

وإن كان أحدهم غير عدلٍ؛ حُدُّوا للقذف.

كما حصل في قصة عمر لمَّا شهد أربعةٌ على أحد الصحابة ، ثم إن الرابع تلَكَّأ في شهادته فجلد الثلاثة وحدَّهم، فإذا كان أحدهم غير عدلٍ أو تراجع أو نحو ذلك؛ فيُحَدُّون حد القذف.

إذا شهد أربعةٌ بزناه بفلانة، وشهد أربعةٌ آخرون بزنا الشهود السابقين

قال:

وإن شهد أربعةٌ بزناه بفلانة، فشهد أربعةٌ آخرون: أن الشهود هم الزناة بها؛ صُدِّقوا.

يعني: صُدِّق الأربعة الآخرون.

وحُدَّ الأولون فقط.

أولًا: المشهود عليه لا يُحدُّ، المشهود عليه الأول -الذي شَهد عليه أربعةٌ بأنه زانٍ- لا يُحَدُّ؛ لقدح الآخرين بشهادتهم عليه.

ثانيًا: هؤلاء الشهود الأربعة -الذين شَهد عليهم أربعةٌ آخرون بالزنا- يُحَدُّون حد القذف وحد الزنا؛ أما حد الزنا؛ فلأنه شَهد عليهم أربعةٌ، وأما حد القذف؛ فلأنهم شهدوا بزنًا لم يثبُت، هذا معنى كلام المؤلف رحمه الله.

حكم من حملت وليس لها زوجٌ ولا سيدٌ

ثم قال:

وإن حملت من لا زوج لها ولا سيدٌ؛ لم يلزمها شيءٌ.

هذه مسألة: هل يثبت الزنا -حد الزنا- بالحمل؟

نحن قلنا: إنه يثبت بالإقرار، ويثبت بأربعة شهودٍ، طيب هل يثبت بالحمل؟ امرأةٌ حملت ولا زوج لها، فهل يثبُت بذلك حد الزنا؟

هذه مسألةٌ محل خلافٍ بين العلماء، فالمؤلف يقول: إنه لا يثبت به؛ ولهذا قال: “لم يلزمها شيءٌ”، وهذا قول الجمهور: أن الزنا لا يثبت بمجرد الحمل؛ وعللوا ذلك قالوا: لأنه يحتمل أنها حملت من وطء إكراهٍ أو شبهةٍ، أو نحو ذلك.

والقول الثاني في المسألة: أنها تُحد إن لم يكن ثمَّ شبهةٌ، وهذا هو مذهب المالكية، وهو اختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهو القول الصحيح في المسألة، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين.

ويدل لهذا ما جاء في “الصحيحين” عن عمر لمَّا خطب الناس الخطبة التي أشرنا لها قبل قليلٍ، وجاء فيها: “ألا وإن الرجم حقٌّ ثابتٌ في كتاب الله على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف”.

وسبق أن تكلمنا عن قول الصحابي هل هو حجةٌ أم لا، لمَّا شرحنا “منظومة الأصول”، فما الذي رجحناه في قول الصحابي؟ الآن قول عمر قول صحابيٍّ.

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، أنه إذا اشتهر؛ يكون حجةً؛ لأنه يكون إجماعًا سكوتيًّا، فقول عمر هنا اشتهر، وأيضًا هو من الخلفاء الراشدين؛ لأنه قال على المنبر، وكان في محضرٍ من الصحابة ؛ فكان كالإجماع؛ فيكون حجةً إذنْ قول عمر هذا، وأيضًا أُثِر عن الخلفاء الراشدين، والاحتمالات الباردة لا يُلتفت إليها.

وعمر حَكم برجم الحامل التي حملت من غير زوجٍ ولا سيدٍ، فإذا كانت القرينة واضحةً، ودلَّت على أن هذه المرأة حملت من غير زوجٍ ولا سيدٍ، ولم يكن ثمَّ شبهةٌ، فما معنى هذا؟ معنى ذلك: أنها زانيةٌ، فترجم إذا كانت محصنةً، ترجم بهذا، ويقام عليها الحد كما قال عمر ، هذا هو القول الصحيح في المسألة، اللهم إلا إذا كان ثمَّ شبهةٌ؛ كأن ادَّعت إكراهًا مثلًا أو نحو ذلك، فهنا يُدرأ الحد بالشبهة في هذه الحال.

حكم اللواط

بقي معنا مسألة اللواط، أو عمل قوم لوطٍ، أشار لها المؤلف في بعض النسخ، وعند الحنابلة: أن اللواط حكمه حكم الزنا؛ ولذلك عندهم: أنه إذا كان غير محصنٍ؛ يُجلد مئةً ويُغرَّب سنةً، وإذا كان محصنًا؛ فيرجم.

قبل أن نُشير لخلاف العلماء، أيهما أشد في الإثم والقبح: اللواط أم الزنا؟ اللواط؛ وذلك أولًا لأن الله قال في الزنا: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32]، وقال عن لوطٍ أنه قال لقومه: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [الأعراف:80]، و(أل) تدل على أن هذا الفعل جَمَع الفُحش كله، وبعض العلماء قد يعترض على هذا بأن الفاحشة قد وردت في الزنا أيضًا معرَّفة بـ(أل)، مَن يذكر لنا الآية؟ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15]، هذا الاستدلال ذكره الشيخ محمد بن عثيمين، لكن يَرِد عليه ما ذُكر.

لكن قد نقول في الاستدلال: إن الله تعالى عذَّب أُمَّةً من الأمم بهذه المعصية؛ وهذا يدل على عظيم قبحها، وعاقب الله هذه الأُمة -وهم قوم لوطٍ- بأي شيءٍ؟ بأي عقوبةٍ؟ ما هي عقوبتهم؟ ما هي؟ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82]، ما معنى: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا؟

مداخلة: …..

الشيخ: أما القول بأن الله رفع الأرض حتى بلغت السماء، وسُمع صوت نباح كلابهم، هذا لم يثبت، هذا من أخبار بني إسرائيل، ولم يثبت مثل هذا، وإنما جعل الله عاليها سافلها، يظهر -والله أعلم- أنه كان شيئًا مثل الزلزال فتهدَّمت البيوت والمباني عليهم؛ ولذلك أمطر الله عليهم حجارةً من سجيلٍ بعد ذلك، ولو كانت رُفعت ثم قلبت؛ لم يكن هناك حاجةٌ لأن يُمطَر عليهم حجارةٌ من سجيلٍ، فالقول هذا مشتهرٌ عند الناس: أن الأرض رُفعت حتى سُمع صوت نباح كلابهم، هذا من أخبار بني إسرائيل، لم يثبت في هذا شيءٌ عن النبي ؛ ولهذا الصحيح أن نقول كما ورد في الآية: إن الله جعل عاليها سافلها، يعني: تهدَّمت عليهم الأبنية، ويظهر -والله أعلم- أنه شيءٌ مثل الزلزال، زلزلت الأرض بهم، حتى جعل الله عاليها سافلها، ثم أمطر عليهم حجارةً من سجيلٍ منضودٍ، هذا هو الأقرب في معنى الآية.

فإذنْ قلنا: إن اللواط أقبح من الزنا.

عقوبة اللواط اختلف فيها العلماء على قولين:

  • القول الأول، قول الحنابلة، بل قول الجمهور: أن عقوبة اللوطي هي عقوبة الزاني، على التفصيل الذي ذكرنا؛ إن كان غير محصنٍ؛ فجلد مئةٍ وتغريب عامٍ، وإن كان محصنًا؛ فالرجم، واعتبروا أن اللواط زنًا.
  • القول الثاني في المسألة: أن عقوبة اللواط: القتل، سواءٌ كان اللوطي محصنًا أو غير محصنٍ، فاعلًا أو مفعولًا به، عقوبته القتل، وقد حُكِي إجماع الصحابة عليه.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الصحابة  قد أجمعوا على قتل اللوطي وإن اختلفوا في صفة القتل؛ فقال بعضهم: إنه يُرفع على أعلى جدارٍ في القرية، ثم يتبع بالحجارة، وقال: بعضهم إنه يُرجم، وقال بعضهم إنه..، وذكروا عقوباتٍ: أنه يهدم عليه جدارٌ، أو نحو ذلك، وذكروا عدة عقوباتٍ، فالصحابة لم يختلفوا في القتل، وإنما اختلفوا في صفة القتل، وهذا هو القول الصحيح: أن عقوبة اللواط القتل مطلقًا، سواءٌ كان محصنًا أو غير محصنٍ، وسواءٌ كان فاعلًا أو مفعولًا به ما دام مختارًا؛ لقول النبي : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوطٍ فاقتلوا الفاعل والمفعول به [26]، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وهو حديثٌ صحيحٌ، وعليه عمل الصحابة .

بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن باب حد الزنا، ونقف عند باب حد القذف.

مداخلة: ……

الشيخ: قال بعضهم: إنه لا يقال: لوطيٌّ، ويقال: عَمِل عَمَل قومِ لوطٍ، لكن العلماء يقولون: اللواط، نسبةً إلى قوم لوطٍ، وليس في هذا تقليلًا من شأن نبيٍّ، فعندما يقال: لواطٌ نسبةً إلى عمل قوم لوطٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: وهذا صحيحٌ، هذا قولٌ آخر، قيل: إنه من الفعل لاط، وليس أيضًا إلى عمل قوم لوطٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: الواجب عليه القتل، أن يُقتل، لكن قصدك: إذا تاب ولم يُقَم عليه الحد، إي نعم، عليه الكفارة المغلظة، لا إشكال في هذا.

طيب، لعلنا نبدأ بالأسئلة المكتوبة، ثم نتيح فرصةً للأسئلة الشفهية:

الأسئلة

السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم فضيلة الشيخ، هذا سائلٌ يقول: ذكر أهل اللغة في حديث: {والشيخ والشيخة}، أن العرب لا تقول: شيخةٌ، وإنما تقول: العجوز، فهل هذا صحيحٌ؟

الجواب: هذا أيضًا من وجوه النكارة في هذا، يعني: ما ذكره بعض أهل اللغة يحتاج إلى تحقُّق أيضًا من كونه محل اتفاقٍ عند أهل اللغة، لكن هذه اللفظة: “والشيخ والشيخة”، كما ذكرنا فيها محل نكارةٍ، ويَبعد جدًّا أن تكون آيةً من القرآن قد نُسخت.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: إذا أتى رجلٌ امرأةً في دُبُرها؛ فهل يُقام عليه الحد؟

الجواب: إذا أتى امرأةً أجنبيةً في دُبُرها؛ فهل يُعتبر هذا حكمه حكم الزنا؟ أما عند الحنابلة فنعم، عند الحنابلة يُعتبر حكمه حكم الزنا، وعند الحنفية يُعتبر حكمه حكم اللواط، هذا إذا كانت امرأةً أجنبيةً، أما إذا كانت زوجته؛ فهذه تسمى “اللوطية الصغرى”، وهي محرمةٌ، يُعزَّر، يعني: لو اشتكت زوجته؛ فإنه يُعزَّر، لكن لا يقام عليه الحد، أما إذا كانت أجنبيةً؛ فعلى الخلاف بين الجمهور والحنفية.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: هل السنة في قنوت النازلة: القنوت شهرًا؟ وما حكم من زاد على ذلك؟

الجواب: السنة: القنوت في النازلة إلى أن ترتفع النازلة، لكن الفقهاء يقولون: النازلة إذا استمرت؛ لا يُشرع القنوت لها، ما لم يتجدد فيها شيءٌ، أما إذا استمرت على وتيرةٍ واحدةٍ؛ مثل مثلًا: نازلة احتلال اليهود لفلسطين، هذه نازلةٌ مستمرةٌ، فلو قلنا بأنه يُشرع القنوت، لقلنا إذنْ: يُشرع القنوت على الدوام، والقنوت على الدوام غير مشروعٍ، كما قال سعد بن طارقٍ لأبيه: يا أبت، صليتَ خلف رسول الله وأبي بكرٍ وعمر وعثمان وسنتين من خلافة عليٍّ؛ أكانوا يقنتون في صلاة الفجر؟ قال: “أي بني مُحدَثٌ” [27]؛ فدل ذلك على أن القنوت الذي يكون بصفةٍ دائمةٍ من البدع، لكن قنوت النوازل مشروعٌ، دلَّت له السنة، النازلة إذا استمرت؛ لا يُشرع القنوت لها، لكن بالنسبة للنازلة لإخواننا في سوريا، فهي وإن كانت لها مدةٌ طويلةٌ، الآن تقريبًا عشرة أشهرٍ؛ إلا أنها تتجدد، فيحصل مثلًا مقتلةٌ في حمص، يحصل مقتلةٌ في حلب، فهي الحقيقةَ نوازل تتجدد؛ ولذلك يُشرع القنوت لها، ولا يتقيد بشهرٍ، خاصةً في صلاة الفجر، خاصةً أن أكثر الأحاديث تدل على أنها في صلاة الفجر على وجه الخصوص، يليها المغرب.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: ما الذي منع العمل بقاعدة: “العبرة بعموم اللفظ”، في حديث النهي عن التكنِّي بكنيته ؟

الجواب: الذي منع ذلك: هو وُرُود قرائن تدل على أن المقصود في حياته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال: تَسَمَّوا باسمي، ولا تكَنَّوا بكُنيتي [28]، وقال رجلٌ مرةً وهو في السوق عليه الصلاة والسلام: يا أبا القاسم، فالتفت عليه الصلاة والسلام، فقال: أنا أريد فلانًا، فقال: تَسَمَّوا باسمي، ولا تكنَّوا بكنيتي [29]، يعني: فيه نوعٌ من الأذية للنبي عليه الصلاة والسلام، فالروايات والقرائن الواردة هي التي خصَّت هذا بحياته عليه الصلاة والسلام، وكذلك -يا إخوان- كثيرٌ من القواعد ترجع للدليل، يعني: تُكيَّف هذه القواعد مرةً أخرى إلى أن يُطلب لها الدليل.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: هل يُشرع قول: حقًّا، لا إله إلا الله، بعد قول المؤذن: لا إله إلا الله؟

الجواب: إذا فعل ذلك على أن هذا سُنةٌ؛ فهذا لم يرد، لكن إذا فعل ذلك من باب أنه سمع الله تعالى يُذكر اسمه، فذكر الله تعالى؛ لا بأس؛ كما قال الله تعالى: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، فإذا وجِل قلبه وذكر الله تعالى؛ هذا لا بأس به، لكن لا يفعل ذلك على أنه سنةٌ، وإنما من باب أنه سمع ذكر الله .

السؤال الأخير: أحسن الله إليك، يقول: هناك من يقول: إنه متزوجٌ من الجن، فهل هذا معقولٌ أولًا، وهل يجوز ثانيًا؟

الجواب: هذا قيل: إنه غير ممكنٍ؛ لأن الإنس خُلقوا من ترابٍ، والجن من نارٍ، ولا يمكن التزاوج بينهما؛ لأن طبيعة هذا غير هذا، وقيل بأن ذلك ممكنٌ وأنه وُجد، وأن هناك ابن جنيٍّ، معروفٌ من أهل اللغة، الله أعلم، وبَحْثُ مثل هذه المسائل قد لا يكون له كبير فائدةٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: يعني: هو وَطِئ أَمَةً، ما وَطِئ حرةً.

مداخلة: ……

الشيخ: حتى لو كان عنده زوجةٌ ما وطئها، لا يُعتبر محصنًا، لا بد من وطءٍ، لا بد أن يطأ في نكاحٍ صحيحٍ.

مداخلة: ……

الشيخ: البهيمة أيضًا الحديث المروي فيها ضعيفٌ، يعني: ما ذنب البهيمة؟ إلا إذا كانت تُذكر بفعلته أو كذا، قد يقال: إنها تذبح ومثل هذا..

مداخلة: ……

الشيخ: ما ثبت هذا.

مداخلة: ……

الشيخ: إي نعم، محتملٌ هذا.

مداخلة: ……

الشيخ: إي نعم، لا بد أن تكون بحجارةٍ، لا تُجهِز عليه، يعني لا يموت بها من أول مرةٍ، ولا تكون بحجارةٍ صغيرةٍ أيضًا يكون فيها التعذيب له، تكون بحجارةٍ متوسطةٍ، يقولون: في حجم الكف، هذا هو الذي ذكره الفقهاء، تكون بحجارةٍ متوسطةٍ في حدود حجم الكف.

مداخلة: ……

الشيخ: ما ثبت هذا، رُوي في بعض الأحاديث لكن لم يثبت.

مداخلة: ……

الشيخ: هذا يُفرَّق فيه بين من أتى تائبًا، وبين من قُبض عليه؛ من أتى تائبًا -حتى بعض أهل العلم يقول: إنه يُلَقَّن الرجوع، إنسانٌ تاب إلى الله – الأحسن أنه يستتر بستر الله، بل من تاب قبل القدرة عليه؛ الصحيح: أن جميع الحدود تسقط، وأن هذا ليس خاصًّا بحد الحرابة، وسيأتينا -إن شاء الله- ليس خاصًّا بحد الحرابة، في قول الله : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34]، هذا شاملٌ جميع الحدود، وإن كان ورد في حد الحرابة، إلا أن القول الصحيح: إنه يشمل جميع الحدود.

فيُفرَّق بين من أتى تائبًا، وبين من لم يأت تائبًا؛ من أتى تائبًا؛ له أحكامٌ تخصه؛ أولًا: لا يُغلَّظ عليه ولا يُزجر، ويُرفق به، وأيضًا حتى يُلَقَّن الرجوع؛ لأنه تاب إلى الله ، تاب إلى الله تعالى، بخلاف من يُقبض عليه، إنسانٌ مثلًا قُبض عليه في مكان دعارةٍ، في مكان كذا، ثم اعترف، فهذا هو الذي لا يُقبل رجوعه على القول الراجح.

أما التائب: فالتائب يعُامل معاملةً خاصةً، دلَّت الأدلة على أن التائب يُعامل معاملةً خاصةً، سواءٌ من جهة الرفق، من جهة اللين؛ ولذلك حتى الذي جامع امرأته في نهار رمضان، أتى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: “هلكتُ”، ما عنَّفه النبي عليه الصلاة والسلام، ولا قال له كلمةً واحدةً، إنما قال: أعتق رقبةً، ففي الأخير أعطاه تمرًا رجع به إلى أهله، أتى النبي عليه الصلاة والسلام وهو خائفٌ، وهو يقول: “هلكت”، ورجع بالتمر يُطعمه أهله [30].

فإذنْ التائب يُعامل معاملةً خاصةً من جهة الرفق، من جهة أيضًا أنه لا يُحرَص على إقامة الحد عليه، بخلاف غير التائب.

مداخلة: ……

الشيخ: لكن إذا كان هذا التوسُّع يُؤدِّي إلى تعطيل الحدود الواقع الآن، هذا هو الواقع؛ لأن حد الحرابة هو الذي يُقام، لكن غيره؟ يعني مع كثرة السرقات هذه سنأتي لها إن شاء الله، كثرة السرقات الآن عندنا، لو قُطعت يد سارقٍ واحدٍ؛ رأيت الأثر الكبير، إذا قطعت يد سارقٍ، ثم سارقٍ، ثم سارقٍ، سيكون عندنا أمنٌ لا يوجد له نظيرٌ في العالم؛ لأننا إذا كنا نجد بعض الدول الآن التي عندها صرامةٌ في تطبيق بعض العقوبات غير القطع عندهم أمنٌ، ما بالك لو كانت العقوبة هي قطع اليد؟ ستكون المملكة هي أنموذجًا في العالم؛ ولذلك بعض الدول عندما يدَّعون تطبيق الشريعة، يقولون: هذه المملكة الآن تُطبِّق الشريعة، وانظروا كثرة السرقات فيها! يحتجون بهذا الإشكال.

نقول: ليس الشريعة، بالعكس هي تحفظ الأمن، وتطبيق الشريعة يضمن قلة أو ندرة السرقة، لكن الخلل عندنا هو في التطبيق، التطبيق، لو طبقت هذا..، وسبب عدم التطبيق مشكلةٌ قضائيةٌ، ليست تنفيذيةً، قضائيةٌ ترجع -كما ذكرت- إلى مسألتين: هما قبول رجوع المقر، وإلى التوسع في درء الحدود بالشبهة، لكن هناك جهودٌ الآن من بعض العلماء -كما ذكرت- يعني في معالجة هذه الإشكاليات.

مداخلة: ……

الشيخ: تلقين الرجوع أولًا: لا يُلقَّن الرجوع إذا قُبض عليه، إلا من أتى تائبًا.

مداخلة: ……

الشيخ: لا، يُعرَّض له تعريضًا أيضًا، لا يصرح له، أما حديث: “أسرقت؟ قل: لا”، هذا لا يثبت، وفيه نَكارةٌ أيضًا، كيف يقال له: هل سرقت؟! إلا من أتى تائبًا، يا إخواني، التائب يعامل معاملةً خاصةً في جميع الأمور.

مداخلة: ……

الشيخ: التائب يُعرَّض له، يعني يقال: لو استترت بستر الله! أو كذا، أما غير التائب: فهذا إذا أقَرَّ يؤخذ بإقراره، ما لم يكن ثمَّ شبهةٌ.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 6782.
^2 رواه البخاري: 3849.
^3 رواه البخاري: 2724-2725، ومسلم: 1697-1698.
^4 رواه مسلم: 1695.
^5 رواه البخاري: 3635، ومسلم: 1699.
^6 رواه البخاري: 6830، ومسلم: 1691، بنحوه.
^7 رواه مسلم: 1690، بنحوه.
^8 رواه البخاري: 1088، ومسلم: 1339.
^9, ^10, ^11, ^21, ^22, ^23 سبق تخريجه.
^12 رواه البخاري: 2234، ومسلم: 1703، بنحوه.
^13 رواه البخاري: 6827.
^14 رواه أبو داود: 4464، الترمذي: 1455، والنسائي: 7340، وابن ماجه: 2564، وأحمد: 2420.
^15 رواه أبو داود: 4465، والترمذي: 1455.
^16 رواه الترمذي: 4/ 57، بنحوه.
^17 رواه الترمذي: 1424.
^18 رواه أبو داود: 4394، والنسائي: 4883، وابن ماجه: 2595.
^19 رواه البخاري: 5271، ومسلم: 1691.
^20 رواه البخاري: 2724.
^24 رواه مسلم: 1692.
^25 رواه مسلم: 1695.
^26 رواه أبو داود: 4462، والترمذي: 1456، وابن ماجه: 2561، وأحمد: 2732.
^27 رواه الترمذي: 402، والنسائي 1080، وابن ماجه: 1241، وأحمد: 27210.
^28 رواه البخاري: 110، ومسلم: 2134.
^29 رواه البخاري: 2120، ومسلم: 2131.
^30 رواه البخاري: 6709، ومسلم: 1111.
zh