logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(100) باب كفارة القتل- من قوله: “لا ‌كفارة في العمد..”

(100) باب كفارة القتل- من قوله: “لا ‌كفارة في العمد..”

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى “دليل الطالب”، وكنا قد وصلنا إلى باب كفارة القتل.

باب كفارة القتل

قال المؤلف رحمه الله:

باب كفارة القتل

“كفارة القتل”: الأصل فيها قول الله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.. إلى قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92].

قال:

لا كفارة في العمد.

يعني: أن كفارة القتل إنما تكون في القتل الخطأ وشبه العمد، ولا تكون في العمد، وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين:

  • القول الأول، وهو القول الذي قرره المؤلف: أن القتل العمد لا كفارة فيه، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.

واستدلوا بظاهر الآية الكريمة، أن الله  قال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، قالوا: فشرط الله تعالى لوجوب الكفارة أن يكون القتل خطأً؛ بدليل أن الله تعالى ذكر في الآية التي بعدها القتل العمد ولم يذكر فيه الكفارة، فقال تعالى في الآية التي بعدها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ولم يذكر الكفارة، فلو كانت الكفارة في القتل العمد واجبةً؛ لذكرها كما ذكرها في القتل الخطأ، ولأنه وُجِد القتل العمد في عهد النبي ، ولم يُنقل أنه عليه الصلاة والسلام أمر القاتِلِين بالكفارة؛ فمثلًا: عمرو بن أمية الضَّمْري قتل رجلين عمدًا فوَدَاهما النبي  [1]، ولم يُوجب عليه الكفارة، وأيضًا رُوي أن سويد بن الصامت قَتل رجلًا، وأوجب النبي عليه القود، ولم يُوجب عليه الكفارة [2]، قالوا: فكان هناك وقائع فيها القتل العمد، ولم يُنقل عن النبي ولو مرةً واحدةً أنه أوجب فيها الكفارة، هذه هي وجهة الجمهور في المسألة.

  • القول الثاني: أن القتل العمد فيه كفارةٌ، وهذا هو مذهب الشافعية، واستدلوا بحديث واثلة بن الأسقع  قال: أتينا رسول الله بصاحبٍ لنا قد أوجب بالقتل، فقال عليه الصلاة والسلام: أَعتِقوا عنه رقبةً؛ يُعتِقِ الله بكل عضوٍ منها عضوًا منه من النار [3]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي، وهو حديثٌ لا بأس بإسناده؛ قالوا: لأنها إذا وجبت في القتل الخطأ؛ ففي العمد أوجب؛ لأنه أعظم إثمًا وأكبر جرمًا، وحاجته إلى تكفير ذنبه أعظم.

طيب، أي القولين أقرب للأدلة والأصول والقواعد الشرعية؟ هل نقول: إنه قول الجمهور، أو قول الشافعية؟

الله تعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، لو رددنا هذه المسألة لظاهر الآيات الواردة: الآية الأولى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، ثم ذكر القتل العمد؛ فظاهر الآيات: أنه لا تجب الكفارة في القتل العمد، والشافعية لم يستدلوا بدليلٍ واضحٍ إلا حديث واثلة ، وسنجيب عنه.

فالأقرب والله أعلم: هو قول الجمهور، الأقرب هو قول الجمهور: وهو أنه لا تجب الكفارة في القتل العمد؛ وذلك لأن هذا هو ظاهر القرآن، ولأنه لم يُنقل أيضًا ولو مرةً واحدةً مع وجود القتل العمد في عهد النبي .

وأما حديث واثلة : فمن العلماء من ضعفه من جهة الإسناد، وعلى تقدير ثبوته فدلالته مجملةٌ غير صريحةٍ؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة: حديث واثلة يحتمل أن القتل كان خطأً، وسمَّاه موجبًا، أي: مفوِّتًا للنفس بالقتل، ويحتمل أنه كان شبه عمدٍ، ويحتمل أنه أمرهم بالعتق تبرُّعًا؛ ولهذا أمر به غير القاتل، كل هذه الاحتمالات واردةٌ؛ لأن قوله: “أتينا رسول الله بصاحبٍ قد أوجب بالقتل”، يعني: “أوجب” لفظٌ مجملٌ، كيف أوجب بالقتل؟ هل معنى ذلك أنه قتل عمدًا؟ هذا محتملٌ، يحتمل أنه قَتل خطأً، يحتمل أنه قَتل شبه عمدٍ، يحتمل أنه قَتل عمدًا، وأمرهم بالعتق تبرعًا؛ ولهذا لم يأمره هو، إنما أمرهم هم، قال: أعتقوا عنه رقبةً، فهذه واقعة عينٍ ودلالتها غير ظاهرةٍ على إيجاب الكفارة، خاصةً أن الكفارة كفارةٌ مغلَّظةٌ، في وقتنا الحاضر لا يوجد رقابٌ، فيها صيام شهرين متتابعين، ثم أيضًا القتل العمد أعظم من أن يُكفَّر بكفارةٍ، ذنبه عظيمٌ، نظير هذه المسألة: مسألة يذكرها العلماء في الأيمان، فمن يذكِّرنا بالمسألة؟

نعم، اليمين الغموس، اليمين الغموس الخلاف فيها كالخلاف في كفارة القتل العمد؛ فالجمهور يقولون: لا كفارة في اليمين الغموس؛ لأن ذنبها أعظم من أن يُكفَّر، وإنما فيها التوبة.

والشافعية يقولون: فيها كفارةٌ، نفس الخلاف الذي ذُكر في كفارة القتل العمد.

والصواب في المسألتين: أنه لا كفارة، لا في قتل العمد، ولا في اليمين الغموس، كما هو قول أكثر أهل العلم.

نعود لعبارة المؤلف.

قال:

وتجب فيما دونه.

يعني: تجب في القتل الخطأ وشبه العمد.

في مال القاتل.

تجب الكفارة في مال القاتل، يعني: قَتْل خطأٍ أو شبه عمدٍ، وسيأتي الكلام عن الكفارة ما هي.

قال:

لنفسٍ محرمةٍ.

يعني: معصومةٍ، تجب الكفارة بقتل المعصوم، أما غير المعصوم؛ كالحربي، فهذا لا تجب الكفارة بقتله، وسيأتي الكلام عن هذه المسألة.

قال:

ولو جنينًا.

فأفادنا المؤلف أنه تجب الكفارة بقتل الجنين، فلو أن رجلًا ضرب زوجته وهي حاملٌ فأسقطت جنينها، فهل يجب عليه الكفارة؟

نقول: إن كان هذا الجنين قد نُفخت فيه الروح؛ فتجب الكفارة بقتله، أو بالتسبب في قتله، أما إن كان لم تُنفخ فيه الروح؛ فلا تجب، ومتى يكون نفخ الروح؟ أربعة أشهرٍ، إذا بلغ أربعة أشهرٍ، فإذا نُفخت فيه الروح؛ أصبح إنسانًا فيه جسدٌ وروحٌ، فيكون هذا قد تسبب في قتله، فيدخل في عموم الآية: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، فعليه الكفارة.

أما إذا كان أقل من أربعة أشهرٍ؛ فلا كفارة فيه؛ لأنه ليس بإنسانٍ، إنما هو نطفةٌ، أو علقةٌ، أو مضغةٌ، ليس بإنسانٍ، الإنسان مكونٌ من جسدٍ وروحٍ، فقبل أربعة أشهرٍ ليس فيه روحٌ، وإنما جسدٌ، أو حتى لا نقول: جسدٌ، وإنما نطفةٌ أو علقةٌ أو مضغةٌ، فليس بإنسانٍ؛ ولهذا لا يجب عليه شيءٌ قبل أربعة أشهرٍ، لكن بعد أربعة أشهر أصبح إنسانًا، نُفخت فيه الروح، فمن تسبب في إسقاط هذا الجنين وموته؛ فإن عليه الكفارة في قول عامة أهل العلم.

أما دية الجنين فتكلمنا عنها في الدرس السابق بالتفصيل، دية الجنين تكلمنا عنها، لكن كفارة الجنين نقول: فيه كفارةٌ؛ إذا بلغ أربعة أشهرٍ فأكثر.

ويُكفِّر الرقيق بالصوم.

الرقيق يُكفِّر بالصوم، ولا يُكفِّر بعتق الرقبة؛ وذلك لأن الرقيق لا مال له، فإن الرقيق نفسه يُعتبر مالًا، فهو وما ملَك لسيده؛ ولذلك ينتقل للصيام مباشرةً.

والكافر بالعتق.

يعني: الكافر إذا أراد أن يُكفِّر؛ فإنه يكفر بالعتق، ولا يكفر بالصوم؛ وذلك لأن الصوم يحتاج إلى نيةٍ، والنية لا تصح من كافرٍ.

قال:

وغيرهما يُكفِّر.

يعني: غير الرقيق والكافر، وهو المسلم، بيَّن المؤلف الكفارة ما هي؟ هي المذكورة في الآية.

بعتق رقبةٍ مؤمنةٍ، فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين.

ذكر الله تعالى هذه الكفارة في قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.. إلى قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [النساء:92].

فإذنْ الواجب عتق رقبةٍ مؤمنةٍ، وهذا بالنص والإجماع، ولكن في الوقت الحاضر لا يوجد رقابٌ، انقطع الرق، وهو ممنوعٌ رسميًّا في جميع دول العالم، ويقال: إنه يوجد في بعض دول إفريقيا، لكن هناك من يُشكِّك في شرعيته؛ لأن تلك الدول لا يُعلم أن الجهاد في سبيل الله قد قام فيها قريبًا، ولكنهم يقولون: إنه مستمرٌّ بالتوالد والله أعلم، هناك من يُشكك في شرعيته.

فإذنْ ينتقل مباشرةً مَن عليه كفارة القتل لصيام شهرين متتابعين، وسبق أن تكلمنا عن صيام شهرين متتابعين، والمقصود بالتتابع، وما الذي ينقطع به التتابع، وما الذي لا ينقطع به، تكلَّمنا عن هذه المسائل بالتفصيل في أي بابٍ؟

مداخلة: …..

الشيخ: في الظهار، أحسنت، كفارة الظهار، فقهاء الحنابلة يتكلمون عن أحكام الكفارة المغلظة في كتاب الظهار، أحكام كفارة الظهار، تكلمنا عن هذه المسائل بالتفصيل، فلا نُعيد ما قلناه من قبل.

مداخلة: …..

الشيخ: الواجب عليه العتق، لا يصوم، فإن عجز؛ فسيأتي الكلام إن عجز عن صيام شهرين متتابعين.

يقول المؤلف:

ولا إطعام هنا.

يعني: إنسانٌ قتل خطأً، فقلنا: عليك عتق رقبةٍ مؤمنةٍ، قال: ما أجد، قلنا: صُمْ شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، فهل نقول: إن الكفارة تسقط عنه؟ أو نقول: إنه ينتقل إلى الإطعام؟

هذه المسألة محل خلافٍ بين العلماء.

فمن العلماء من قال: إنه لا إطعام في هذه الحال، وإنما الواجب الصيام، ويثبت في ذمته، فإن عجز عنه؛ سقطت الكفارة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وقولٌ عند الشافعية، واستدلوا بظاهر الآية الكريمة، قالوا: فإن الله تعالى قال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وقال في آخر الآية: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92]، ولم يذكر الله تعالى الإطعام، ولو كان من لم يستطع الصيام ينتقل إلى الإطعام؛ لذكره الله تعالى كما ذكره في كفارة الظهار؛ لأن الله تعالى قال في كفارة الظهار: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4]، فإذنْ أصحاب هذا القول استدلوا بظاهر الآية الكريمة، قالوا: ولا يصح قياس كفارة القتل على كفارة الظهار؛ للفارق بينهما.

والقول الثاني في المسألة: أنه إذا عجز عن الصيام؛ فإنه ينتقل للإطعام، لإطعام ستين مسكينًا؛ قياسًا على كفارة الظهار، قالوا: والإطعام وإن لم يُذكر في آية كفارة القتل؛ فقد ذُكِر نظيره؛ فيُقاس عليه.

ولاحظ هنا: أن أيضًا الخلاف خلافٌ في مسألةٍ أصوليةٍ؛ هل يصح قياس كفارة القتل على كفارة الظهار؟ أو أن هذا القياس قياسٌ مع الفارق؟ وأن القياس هنا لا يستقيم ولا يصح؟

فأصحاب القول الأول قالوا: إن القياس قياسٌ مع الفارق للاختلاف في السبب وفي الحكم.

أما أصحاب القول الثاني فقالوا: يصح القياس ولا مانع للتشابه بينهما، فإن كفارة القتل وكفارة الظهار يجمعهما أنهما كفارتان مغلَّظتان، ويجب فيهما العتق، فإن عجز؛ فصيام شهرين متتابعين.

فالعلماء مختلفون إذنْ على قولين، أي القولين أقرب؟ القول الأول: وهو أنه إذا عجز عن الصيام؛ لا ينتقل إلى الإطعام؟ أو القول الثاني: أنه إذا عجز عن الصيام انتقل للإطعام؟ أيهما أقرب لظاهر القرآن والأصول والقواعد الشرعية؟

الظاهر -والله أعلم- هو الأول، وهو القول الذي قرره المؤلف: وهو أنه إذا عجز عن الصيام؛ فيقال: يثبت الصيام في ذمتك إلى أن تستطيع، فإن لم تستطع؛ سقطت عنك الكفارة، ولا ينتقل للإطعام؛ لأنه لو كان الإطعام يُنتقل إليه؛ لذكره الله ، ولأن القياس هنا أيضًا قياسٌ لا يصح ولا يستقيم، القياس هنا قياسٌ مع الفارق، للفرق الكبير بين كفارة القتل وكفارة الظهار؛ الفرق في السبب والحكم، فلا يستقيم القياس.

ولهذا فالأقرب -والله أعلم- هو القول الأول، وهو القول الذي قرره المؤلف: وهو أنه إذا عجز عن الصيام؛ فنقول: يثبت الصيام في ذمته إلى أن يستطيع، فإن لم يستطع؛ فتسقط عنه الكفارة، ولا ينتقل للإطعام.

وتتعدد الكفارة بتعدد المقتول.

يعني: إذا كان المقتول أكثر من شخصٍ؛ فتتعدد الكفارة، فلو أنه تسبَّب في قتل أكثر من نفسٍ؛ فتتعدَّد الكفارة، لو كان قائد سيارةٍ، وحصل منه تعدٍّ أو تفريطٌ مثلًا، وتسبب في انقلاب السيارة، أو في حادث سيارةٍ، مات مثلًا خمسة أشخاصٍ، فيكون عليه خمس كفاراتٍ، يعني: صيام كم شهر؟ عشرة أشهرٍ، كل شهرين متتابعين، وهذه من المصائب التي قد يُبتلى بها بعض الناس، وربما يكون العدد أكبر من هذا، هناك من استَفتى وسأل بأنه تسبب في قتل عشرة أشخاصٍ، وأُفتي بأن عليه صيام عشرين شهرًا مع عدم وجود الرقاب في الوقت الحاضر، فتكون هذه من المصائب التي يُقدِّرها الله على بعض الناس، وهنا يقال له: يُفرِّقها، ولو أنه يصوم في كل سنة شهرين متتابعين، لكن هذا الحكم مقررٌ عند عامة أهل العلم: أن الكفارة تتعدد بتعدد المقتول.

ولا كفارة على من قَتل من يباح قتله؛ كزانٍ محصنٍ ومرتدٍّ وحربيٍّ وباغٍ وقصاصٍ، ودفعًا عن نفسه.

يعني: من قَتل من يباح قتله؛ فإنه لا كفارة عليه، لكن لكونه قد افتات على الإمام يعزر، لكن الكلام في الكفارة، فهذا الزاني المحصن الذي قد ثبت زناه، ثبت عند القاضي زناه، أما إذا لم يثبت زناه فالأصل البراءة حتى تثبت التهمة، لكن لو ثبت زناه عند القاضي، وحكم القاضي عليه بالرجم، فقتله شخصٌ، فيُعزَّر لافتياته على الإمام، لكن لا كفارة عليه.

وهكذا لو كان مرتدًّا قد حُكم عليه بالقتل لِرِدَّته، أو كان كافرًا حربيًّا، أو كان باغيًا ولم يندفع إلا بالقتل مثلًا، يعني: كان من الفئة الباغية فيقاتَل: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9]، فهذا لا كفارة في قتله، وكذلك أيضًا القصاص، إذا كان هو ولي الدم وقتل القاتل؛ فلا كفارة.

وكذلك أيضًا دفعًا عن نفسه، وهذا ما يسمى بـ”دفع الصائل”، و مسألة “دفع الصائل” مرت معنا فيما سبق وتكلمنا عنها، وقلنا: إن دفع الصائل لا يخلو؛ إما أن يكون هذا الصائل صائلًا على نفسه أو على عرضه أو على ماله، وقلنا: الدفاع عن المال حكمه جائزٌ، والدفاع عن النفس والعرض واجبٌ، فلو أراد شخصٌ أن يعتدي على عرض إنسانٍ؛ يجب أن يُدافع عن عرضه ولا يستسلم، ويقاتله، وهكذا عن نفسه، أما المال فله أن يُعطيه ماله، ولا يجب الدفاع عن المال، لكنه يجوز؛ لحديث أبي سعيدٍ أن النبي قال له رجلٌ: أرأيت إن جاء رجلٌ ‌يريد ‌أخذ ‌مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيدٌ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار [4]، هذا الحديث رواه مسلمٌ؛ فهذا يدل على أنه يجوز الدفاع عن المال، وكذلك يجب عن النفس والعرض.

من جهة الكفارة: لا كفارة في قتل الصائل، يعني: فيما بينه وبين الله ذمته بريئةٌ، أما فيما بينه وبين الحاكم: فلا بد من أن يُثبت أن هذا المقتول كان صائلًا، وإلا فإنه يُقاد به، لا بد من الإثبات، وإلا لو لم نقل بهذا لادَّعى كل قاتلٍ بأن المقتول قد صال عليه، وتعطَّل القصاص، فأمام القاضي لا بد من الإثبات، أما فيما بينه وبين الله تعالى: إذا كان بالفعل قد صال عليه؛ فذمته بريئةٌ ولا كفارة عليه، أمام القضاء لا بد من البيِّنات والإثبات.

مداخلة: ….

الشيخ: إي نعم، تسقط عنه.

ننتقل بعد ذلك إلى كتاب الحدود، وقد قدَّم له المؤلف بمقدمةٍ فيها بعض الأحكام التي تجتمع فيها الحدود، فنبدأ بها:

كتاب الحدود

كتاب الحدود

تعريف الحدود والحكمة منها

“الحدود” جمع حَدٍّ، وهو لغةً: المنع.

وفي اصطلاح الفقهاء قيل في تعريفه: عقوبةٌ مقدرةٌ شرعًا في معصيةٍ؛ لتمنع الوقوع في مثلها.

واعتُرض على هذا التعريف بأنه غير مانعٍ؛ لأنه ينطبق على ماذا؟ على القصاص، فإن القصاص: عقوبةٌ مقدرةٌ شرعًا في معصيةٍ لتمنع من الوقوع في غيرها، فهو غير مانعٍ؛ ولهذا أحسن ما قيل في تعريف الحد: أنه عقوبةٌ مقدرةٌ؛ شُرعت لصيانة الأنساب والأعراض والعقول والأموال وتأمين السُّبل.

فقولنا في التعريف: عقوبة مقدرة، خرج به التعزير، شرعت لصيانة الأنساب: المقصود بذلك حد ماذا؟ الزنا، والأعراض: حد القذف، والعقول: حد شرب المسكر، والأموال: حد القطع في السرقة، وتأمين السُّبل: حد الحرابة، فجَمَع الحدودَ كلها هذا التعريف الذي ذكرت، تعريفٌ جامعٌ مانعٌ.

مصطلح “الحدود” بين الشرع والفقهاء

لكن ننبِّه هنا إلى: أن إطلاق “الحدود” في الشرع يختلف عن إطلاقه في اصطلاح الفقهاء؛ فإطلاقه في الشرع أعم، فلفظ “الحدود” يَرِد في الشرع على عدة معانٍ:

  • يَرِد أولًا: على ما اصطلح عليه الفقهاء.
  • وثانيًا: أيضًا لفظ “الحدود” يطلق على الجناية نفسها، ومنه قول النبي : لا يُجلد فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله تعالى [5]، يعني: إلا في معصيةٍ متعلقةٍ بحق الله .
  • وقد تُطلق الحدود على: الفصل بين الحلال والحرام، فتطلق على أول الحرام فلا يُقرب، ومنه قول الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].
  • ويُطلق على آخر الحلال، ومنه قول الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229].

فإذنْ إطلاقه في الشرع يختلف عن إطلاقه في اصطلاح الفقهاء.

والحد يختلف عن القصاص؛ القصاص تكلمنا عنه في دروس سابقة.

والفرق بين الحد والقصاص: هناك فروقٌ كثيرةٌ؛ فمن الفروق مثلًا:

  • أن القصاص حقٌّ لآدميٍّ ينتقل إلى ورثة المستحق، بخلاف الحدود، لا مدخل للإرث فيها.
  • القصاص يجوز الاعتياض عنه بالمال، بخلاف الحدود، لا تَقبل المعاوضة.
  • مشروعية العفو في القصاص والشفاعة فيه، بخلاف الحدود، فلا يُقبل العفو فيها والشفاعة بعد بلوغها السلطان.

وذكر فروقًا كثيرةً بين الحد وبين القصاص، نكتفي بهذه الفروق التي ذُكرت.

شروط وجوب إقامة الحدود

قال المؤلف:

لا حد إلا على مكلفٍ.

ذكر المؤلف شروط وجوب إقامة الحدود:

الشرط الأول: أن يكون من يُقام عليه الحد مكلفًا، يعني: عاقلًا بالغًا، وهذا باتفاق العلماء؛ وذلك لأنه إذا كانت العبادة تسقط عن غير المكلف، فالحد أولى بالسقوط.

قال:

ملتزمٍ

وهذا هو الشرط الثاني، يعني: ملتزم بأحكام المسلمين، وهذا يشمل المسلم والذمي بخلاف الحربي، فإذنْ لا بد أن يكون إما مسلمًا أو ذميًّا، لكن لا يقام الحد على الذمي أو المعاهد إلا فيما يعتقد تحريمه؛ كالزنا، أما ما لا يعتقد تحريمه؛ فلا يُحدُّ، لو أن مثلًا رجلًا زنى وهو غير مسلمٍ من المعاهدين عندنا هنا، هل يقام عليه حد الزنا أو لا يقام؟ نعم، يُقام عليه حد الزنا؛ لأنه محرمٌ في جميع الأديان والشرائع، فيقام عليه الحد.

فهذا هو مقصود “ملتزمٍ”، يعني: يشمل المسلم، ويشمل كذلك الذمي والمعاهد، ويخرج به الحربي.

لو كان نصرانيًّا وشرب الخمر، هل يقام عليه حد شرب المسكر؟

سيأتينا هل هو حدٌّ أو تعزيرٌ، لكن على قول الجمهور: إنه حدٌّ، هل يقام عليه أو لا يقام؟ لا يقام؛ لأنهم لا يعتقدون تحريمه، لكن يُعزَّر؛ لكونه قد جاهر مثلًا، إذا كان قد جاهر؛ فيُعزر بذلك، فلا بد أن يكون يعتقد تحريمه.

مداخلة: ….

الشيخ: نعم، السحر فيه معنًى آخر: وهو أنه متعدٍّ، ضرره متعدٍّ للآخرين؛ فلذلك يعزر.

عالمٍ بالتحريم.

هذا هو الشرط الثالث: أن يكون الذي يقام عليه الحد عالمًا بالتحريم، فإن كان جاهلًا بتحريمه؛ فلا يقام عليه الحد في قول عامة أهل العلم.

من الذي يقيم الحدود؟

وهناك شرطٌ رابعٌ أشار إليه المؤلف بعد سطرين، قال:

ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه.

أن يكون من يقيمه: الإمام أو نائبه؛ وذلك لأن الحدود تفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمَن من الحَيف عند استيفائها، فوجَب تفويضها إلى الإمام أو نائبه؛ ولذلك لو كان مثلًا الإنسان في بلدٍ لا تقام فيه الحدود؛ هل يُشرع لأفراد الناس أن يقيموا الحدود بأنفسهم؟ لا يُشرع لهم ذلك في قول عامة أهل العلم، فهذه من مسؤولية الإمام، إقامة الحدود من مسؤولية الإمام؛ ولذلك ما يفعله بعض الإخوة الآن في بعض الدول التي قامت فيها الثورات، وتعدَّلت أوضاعها، بعض الإخوة أصبحوا يُقيمون الحدود بأنفسهم، هذا خطأٌ، يُفترض أن يتصلوا بالحكام ويحثُّوهم على تطبيق الشريعة وإقامة الحدود، أما أن يذهبوا ويقيموا الحدود بأنفسهم هذا خطأٌ، هذا يُسبِّب الفوضى، ثم أيضًا لا بد فيه من إثباتٍ، ولا بد فيه من شروطٍ، فلا يأتي الإنسان بمجرد أنه ظن أو غلب على ظنه أن هذا مستحقٌّ لإقامة الحد عليه؛ يقوم بنفسه ويقيم الحد، هذا يترتب عليه مفاسد عظيمةٌ؛ ولهذا فمسؤولية إقامة الحدود إلى الإمام أو من يُنيبه.

ويُستثنى من هذا مسألةٌ واحدةٌ: هي ما أشار إليه المؤلف بقوله:

والسيدُ على رقيقه.

فالسيد يُقيم الحد على رقيقه؛ لأن هذا وردت به السنة في قول النبي : إذا زنت أَمَة أحدكم فتبيَّن زناها؛ فليجلدها ولا يُثرِّب عليها، فإن عادت؛ فليجلدها ولا يُثرِّب عليها، فإن عادت؛ فليجلدها ولا يُثرِّب عليها، فإن عادت؛ فليبعها ولو بحبلٍ من شعرٍ [6]، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلمٌ، وهذا دليلٌ على أن السيد يُقيم الحد على مملوكه، حد الجلد فقط، إذا كان جلدًا، أما القطع والقتل فلا.

إذنْ أصبحت الشروط أربعةً:

  • الشرط الأول: أن يكون من يُقام عليه الحد مكلَّفًا.
  • الثاني: أن يكون ملتزمًا، وهذا يشمل المسلم والذمي، وكذلك المعاهد.
  • والشرط الثالث: أن يكون عالمًا بالتحريم.
  • الشرط الرابع: أن يُقيمه الإمام أو نائبه.

الشفاعة في الحدود

نعود لعبارة المؤلف، قال:

وتحرم الشفاعة وقبولها في حدٍّ لله تعالى بعد أن يبلغ الإمامَ.

بعد أن تبلغ الحدود الإمام؛ تحرم الشفاعة ويحرم قبولها، وقد ورد في هذا عدة أحاديث عن النبي ، ومن أشهرها ما جاء في “الصحيحين” في قصة المرأة المخزومية التي سرقت، أمر النبي بقطع يدها، فأهمَّ قريشًا شأنها؛ لكونها من أشراف قريشٍ، فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله ؟ فقالوا: يشفع لها حِبُّه وابن حبه، أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، فكلَّمه أسامة ، فغضب النبي  وقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! إنما أهلك من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف؛ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف؛ أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت؛ لقطعت يدها [7]، هذا متفقٌ عليه، فهذا صريح الدلالة، والحديث في “الصحيحين” في تحريم الشفاعة في الحدود بعد بلوغها السلطان.

وأيضًا ورد في ذلك حديث: من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله؛ فقد ضادَّ الله في أمره [8]، رواه أحمد وأبو داود بسندٍ حسنٍ.

وأيضًا عن عروة بن الزبير  قال: لقي الزبير سارقًا، فشفع فيه، فقيل: حتى يبلغ الإمام، فقال: “إذا بلغ الإمامَ؛ فلعن الله الشافع والمُشَفَّع” [9]، رواه مالكٌ في “الموطأ” بسندٍ لا بأس به.

وفي قصة صفوان أيضًا، لما أمر النبي بقطع السارق لرداء صفوان ، شفع فيه صفوان وقال: أتقطعون يده من أجل رداءٍ؟! هو له يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: هلَّا كان قبل أن تأتيني به؟! [10].

فهذه النصوص والآثار تدل على تحريم الشفاعة بعد بلوغها السلطان، وظاهرها: أن ذلك من كبائر الذنوب؛ لغضب النبي عليه الصلاة والسلام في قصة أسامة ، وأيضًا الأثر المروي عن الزبير : “لعن الله الشافع والمشفع”، وهذا لا يقال من جهة الرأي؛ فهذا يدل على تحريمها وأنها من كبائر الذنوب؛ ولهذا قال ابن عبدالبر: “لا أعلم خلافًا في أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنةٌ جميلةٌ ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته”، قال: “ما لم تبلغ السلطان”، أما قبل بلوغها السلطان: فلا بأس بالشفاعة فيها لمن يستحق الشفاعة؛ وذلك بأن يكون ليس ممن يتكرر منه الفسق وارتكاب هذه المعاصي، فلا بأس بالشفاعة فيه في هذه الحال؛ وذلك لظاهر الأحاديث السابقة، ففي حديث صفوان  قال : هلَّا كان قبل أن تأتيني به؟!، مع أنه حد قطعٍ في السرقة؛ دلَّ ذلك على أنه لو شفع فيه قبل بلوغه للنبي عليه الصلاة والسلام، أو عفا عنه؛ لكان ذلك صحيحًا.

وكذلك أيضًا في قصة الزبير  لما شفع في السارق، فقيل: حتى يبلغ الإمام، قال: “لعن الله الشافع والمشفع”، فقَبْل بلوغ الإمام لا بأس بالشفاعة في الحدود إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ بأن يكون هذا الإنسان لا يُعرف بالمجاهرة بالفسق وبتكرُّر هذا الفسق، لكن لحظة ضعف الإيمان وقع في ذلك، ارتكب معصيةً، فرغب أحد الناس أن يستر عليه، وشفع فيه قبل بلوغها السلطان، لا بأس بذلك.

ولكن السؤال المهم، إذا أردنا أن نُطبِّق هذا المصطلح “السلطان” الآن، وبلوغ الحدود السلطان، فمَن الذي يُمثل السلطان في وقتنا الحاضر؟ هل الذي يُمثل السلطان مثلًا مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أو مركز الشرطة؟ أو القاضي؟ أو السلطان الأعظم الذي هو عندنا هنا في المملكة الملك مثلًا؟ فمن هو الذي يُمثل الإمام الوارد في هذا الحديث، بحيث إنه إذا بلغت الحدود السلطان؛ فإنه لا تجوز الشفاعة؟ هل نقول: إذا بلغت الهيئة؟ أو إذا بلغت الشرطة؟ أو إذا بلغت القاضي؟ أو إذا بلغت الإمام الأعظم؟

مداخلة: …..

الشيخ: إذا بلغت القاضي، يعني: المحكمة.

مداخلة: …..

الشيخ: أدنى جهةٍ، يعني نقول: الهيئة مثلًا، مركز الهيئة.

مداخلة: …..

الشيخ: السلطان الأعظم، يعني: حتى القاضي أيضًا لو حكم فيها؛ تجوز الشفاعة فيها.

مداخلة: …..

الشيخ: الشرطة.

الآن عندنا أقوالٌ متعدِّدةٌ، إذا نظرنا للحديث ما المقصود به؟ كما ذكرت في دروسٍ سابقةٍ: لا بد أن نفهم مقصود الشارع، المقصود: إذا بلغت السلطان، لماذا حُدِّد ببلوغ السلطان؟ حُدِّد ببلوغ السلطان، قبل بلوغها السلطان هل ثبت الحد أصلًا؟ ما ثبت، يعني: لا زال تهمةً، ما زال تهمةً لم تثبت، والأصل براءة الذمة، هذا هو الأصل، فإذا نظرنا لهؤلاء الآن: الهيئة، والشرطة، والقاضي، والسلطان (الإمام الأعظم)، مَن الذي تثبت عنده هذه التهمة؟ القاضي، القاضي هو الذي يُثبتها، قبل وصولها للقاضي ما زالت تهمةً، قد ما تثبت عند القاضي.

فالأقرب والله أعلم: أن الذي ينوب عن السلطان هو القاضي، فإذا وصلت القضية عند القاضي؛ لا تجوز الشفاعة فيها، فمَن بعده طبعًا من باب أولى، يعني: الجهات القضائية العليا، أو السلطان الأعظم، هذا من باب أولى أنه لا تجوز الشفاعة إذا وصلتهم، أما قبل ذلك، لو وصلت إلى مركز الهيئة؛ فالذي يظهر: أنه إذا اقتضت المصلحة الشفاعة؛ فلا بأس، وهكذا لو كان عند الشرطة إذا اقتضت المصلحة، ليس دائمًا، لو كان دائمًا؛ لأدَّى هذا إلى تعطيل الحدود، لكن إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ بأن يكون هذا لأول مرةٍ مثلًا، وحصل منه زلةٌ لضعف إيمانٍ، أو نحو ذلك، وهو ممن يستحق الشفاعة، فلا بأس، أما إذا كان إنسانًا يُقبض عليه مرارًا، ومعروفًا بالفسق والفجور، فهذا لا ينبغي الشفاعة فيه.

فإذنْ الأقرب والله أعلم: هو بلوغها القاضي.

والمسألة محل خلافٍ أيضًا بين العلماء المعاصرين:

فبعض العلماء قال: إذا بلغت الهيئة، لكن الأقرب والله أعلم: هو بلوغها القاضي؛ لأن قبل بلوغها القاضيَ لا تثبت، لا يثبت كونه حدًّا، لا ندري قد لا يُثبت القاضي هذا، قد تكون تهمةً، فيصرف القاضي النظر عن القضية، ويُبرَّأ هذا المقبوض عليه، قد لا تكون هناك بيِّناتٌ كافيةٌ لإثبات الحد؛ فالأقرب إذنْ: أن القاضي هو الذي ينوب مناب السلطان في هذا.

مداخلة: …..

الشيخ: قد يكون هناك موانع، قد يكون مثلًا سرق من غير حِرْزٍ؛ فلم يثبت الآن أنها سرقةٌ موجبةٌ للقطع، حتى لو رأوه، إلا -كما ذكرت- إذا كان إنسانًا معروفًا بالفجور والفسق، فهذا لا تنبغي الشفاعة فيه، لكن الذي وردت النصوص بالوعيد في شأنه إذا بلغت السلطان، إذا بلغت السلطان؛ فلا تجوز الشفاعة ولا العفو حتى، لا يجوز العفو فيها، يجب إقامة الحد كما نقل ابن عبدالبر الإجماع على هذا، لا يملك أحدٌ العفو في الحدود كلها بعد بلوغها القاضي.

أما التعزير -سيأتينا إن شاء الله في درسٍ قادمٍ- فللإمام إذا رأى المصلحة في العفو؛ له أن يعفو، هذا من صلاحياته، الإمام إذا رأى المصلحة في ذلك، هذا هو الذي عليه العمل، أنه أحيانًا يكون هناك عفوٌ، لكن لاحِظ أن كل قضايا العفو التي أُعلن فيها العفو كلها تعزيرٌ، ولا أعرف أن حدًّا ثبت وعُفي عن صاحبه، إذا ثبت الحد؛ يجب إقامته ولا يجوز تعطيل الحد بعد ثبوته.

مداخلة: …..

الشيخ: إي نعم، حتى إذا كان، إذا بلغت القاضي؛ هنا لا تجوز الشفاعة ولا العفو، أما قبل فيُنظر للمصلحة؛ إذا رُئي المصلحة في الستر عليه؛ فيستر عليه، وهذا هو الذي عليه العمل الآن في الهيئات، حسبما نُقل: أن أكثر من 90% من الحالات التي يُقبض عليها يُستَر على أصحابها، فإذا كانت المصلحة تقتضي، ليس الستر دائمًا حسنًا، أحيانًا يكون غير حسنٍ، إذا كان من أهل الفجور وممن يُقبض عليه مرارًا؛ فلا يحسن الستر عليه.

مراتب الحدود وكيفية إقامتها

نعود لعبارة المؤلف:

وتحرم إقامته في المسجد.

الحدود لا يجوز إقامتها في المساجد، وقد رُوي في ذلك حديث حكيم بن حزامٍ أن رسول الله نهى أن يُستَقاد بالمسجد، وأن تُنشد الأشعار، وأن تُقام فيه الحدود [11]، وهذا الحديث من أحاديث “بلوغ المرام”، قال الحافظ في “البلوغ”: “رواه أحمد وأبو داود بسندٍ ضعيفٍ”، لكن الحافظ نفسه في “تلخيص الحبير” قال: “لا بأس بإسناده”، والأقرب فيه الضعف، لكن معناه عليه عمل كثيرٍ من أهل العلم: أن الحدود لا تقام في المساجد؛ ولأن الحدود ربما إقامتها -خاصةً إذا كانت قطعًا أو قتلًا- تلوِّث المسجد بما يخرج من المقطوع أو المقتول من الدم ونحوه.

قال:

وأشدُّه:

يعني: أشد الحدود.

جلد الزنا، فالقذف، فالشرب، فالتعزير.

ومعنى كلام المؤلف: أن الجلد الذي يكون في الزنا يكون أشد من الجلد الذي يكون في القذف، ويكون أشد من الجلد الذي يكون في الشرب، ويكون أشد من الجلد الذي يكون في التعزير، يعني: في صفة الجلد، ففي الزنا الذي يضرب يزيد في الجلد، وفي القذف يكون أقل، وفي الشرب أقل، وفي التعزير أقل، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بقول الله تعالى: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فقالوا: إن الله تعالى خصَّ الزنا بمزيد تأكيدٍ، وما دونه أخف منه في العدد، فلا يُزاد عليه في الصفة.

وقال أبو حنيفة: إن التعزير أشدها، ثم الزنا، ثم الشرب، ثم القذف.

وقال مالك: إن صفة الجلد في جميع الحدود واحدةٌ؛ لأن الله تعالى أمر بجلد الزاني والقاذف أمرًا واحدًا، ومقصود جميعها واحدٌ: وهو الزجر؛ فيجب تساويها في الصفة.

أيُّ الأقوال أقرب؟ القول الأخير، قول الإمام مالك أقرب: أن الجلد في جميع الحدود صفته واحدةٌ، وهذا هو الذي عليه العمل، هذا هو الأقرب والله أعلم؛ لأنه لا دليل يدل على التفريق في صفة الجلد بين الحدود.

وأما الآية الكريمة: وهي قول الله تعالى: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فليس المقصود بذلك الزيادة في صفة الجلد، وإنما المقصود أنه لا يجوز تعطيل الحدود لأجل الرأفة بالزُّناة، وهذا وإن كان ورد في الزنا، إلا أنه يشمل جميع الحدود، فإذا ثبتت الحدود؛ لا يجوز تعطيلها، ولا يجوز أن تأخذنا رأفةٌ تُؤدِّي إلى تعطيل إقامة الحد، وإنما خص الله تعالى الزنا بالذكر؛ لأن هذا هو الغالب على النفوس، أنها تتعاطف مع هذا الذي حُكم عليه بحد الزنا، سواءٌ كان الرجم أو الجلد أكثر من غيره ممن يرتكبون المعاصي التي في الحدود الأخرى، فنبَّه الله أنه لا يجوز أن تأخذنا رأفةٌ في إقامة حد الله ، وليست الآية تدل على أنه يُزاد في صفة الجلد في حد الزنا، هذا لا تدل له الآية؛ ولهذا فالصواب في هذه المسألة هو قول الإمام مالك: وهو أن صفة الجلد في جميع الحدود واحدةٌ.

قال:

ويُضرب الرجل قائمًا بالسوط.

أفادنا المؤلف بصفة الجلد: وهي أن المجلود يكون قائمًا، وذلك حفظًا لكرامته، فلا يُمَدُّ، وإنما يكون قائمًا، ولا حتى يُربط ولا يُقيَّد ولا يُجرَّد؛ لأنه ليس المقصود منه الانتقام، ليس المقصود من إقامة الحد الانتقام منه؛ ولهذا قال ابن مسعودٍ : “ليس في ديننا مَدٌّ ولا قيدٌ ولا تجريدٌ”، هذا أثرٌ رُوي عن ابن مسعودٍ ، وقيل: في سنده مقالٌ، لكن العمل عليه عند أهل العلم، فتُحفظ كرامته؛ ولذلك من الأخطاء التي تكون عند تنفيذ بعض الحدود: أنه أولًا يُؤتى بمن يُراد تنفيذ الحد عليه مقيدًا بالحديد في يديه وفي رجليه، هذا خطأٌ، هذا انتهاكٌ لكرامته، هذا يبقى مسلمًا وإن كان قد وقع في معصيةٍ، فيقام عليه الحد، لكن من غير زيادةٍ، فكونه يؤتى بالأغلال، بل حتى الأعجب من هذا أنه عندما يُؤتى به للقاضي للحكم عليه؛ يُؤتى به مقيدًا في يديه ورجليه، ويراه الناس بهذه الصفة، هذا انتهاكٌ لكرامته، وهذا ليس من دين الإسلام، هذه تجاوزات من الشرطة ومن المنفِّذين للحدود، فلا يجوز أن يُقيَّد، وإنما تُحفظ كرامته، سواءٌ في إحضاره للمحكمة، أو حتى عند إقامة الحد عليه، لا يُقيَّد لا في يديه ولا في رجليه، وإنما تُحفظ كرامته.

وأيضًا من الأخطاء من بعض الشرطة: عندما يُنفِّذون الجلد يمدونه، يبطحونه ويجلدونه، وهذا خطأٌ، يُفترض في جلده أن يكون قائمًا؛ حفظًا لكرامته، وكانوا قديمًا يفعلون هذا، لكن في السنوات الأخيرة يبدو أنهم نُبِّهوا على هذا، فأصبح في كثيرٍ من الأحيان يُضرب قائمًا، وإن كان لازال المد موجودًا في بعض الأماكن، وهنا تأتي مسؤولية القاضي بالدرجة الأولى، ينبغي أن يُنبِّه على هذه المسائل.

مداخلة: ….

الشيخ: كيف يهرب؟! معه عددٌ من الشرطة، كيف يهرب؟! هذا تخوفٌ في غير محله، مسألة التخوف الزائد، تُحفظ كرامته، ويكون الشرطة محيطين به، أين يهرب؟! لكن هذا حقيقةً سلبٌ لكرامة هذا المسلم، خاصةً أمام الناس، عندما يؤتى به أمام الناس بهذه القيود وهذه الأغلال، ربما تكون أشد إيلامًا من الجلد نفسه، كونه يؤتى به بهذا المنظر، هذا من الناحية النفسية أشد ألمًا من الجلد نفسه.

مداخلة: …..

الشيخ: المقصود أولًا: العقوبة؛ ولذلك سيأتينا أنها كفارةٌ، أن الحدود كفارةٌ، وأيضًا: الردع والزجر لغيره، هذا أيضًا مقصودٌ شرعًا؛ ولهذا قال : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

قال:

ويجب اتقاء الوجه والرأس والفرج والمقتل.

نعم، قائمًا بالسوط، يكون بالسوط يعني: إما بسوطٍ -قال الفقهاء: إنه لا يكون جديدًا ولا خَلِقًا؛ فقالوا: إن الجديد قد يجرحه، والخَلِق لا يؤلمه- أو ما يقوم مقام السوط من العصا مثلًا أو الخيزران أو نحوها، كل هذه تقوم مقام السوط.

قال:

ويجب اتقاء الوجه والرأس والفرج والمقتل.

يجب اتقاء الوجه والرأس، فلا يجوز الضرب في الرأس ولا في الوجه، أما الوجه فوَرَد فيه نصوصٌ خاصةٌ، الرأس: لا يضرب في الحدود في الرأس، لكن في غير الحد لا بأس، كما كان عمر يفعل أحيانًا، كما ضرب صُبَيغًا على رأسه، ولكن في الحدود لا يضرب في الرأس، ولا في الفرج أيضًا؛ وذلك لأنه ربما أدى إلى ضررٍ يلحقه، ولا في المقتل، فكل إنسانٍ فيه مقاتل، فالضرب في المقاتل قد يُؤدِّي إلى وفاته؛ فيجتنب إذنْ الضرب في هذه الأمور.

وينبغي أن يكون الضرب أيضًا موزعًا على أعضاء البدن؛ ولهذا قال الفقهاء: إنه يُكثر منه في مواضع اللحم؛ كالأليتين والفخذين، يعني: يكون موزعًا، ما يكون في منطقةٍ واحدةٍ، لكن تُتَّقى هذه الأمور التي أشار إليها المؤلف.

أما المرأة قال:

وتُضرب المرأة جالسةً، وتُشد عليها ثيابها، وتُمسَك يداها.

المرأة كالرجل، لكن قال الفقهاء: إنها تُضرب جالسةً والرجل قائمًا، هذا إذا كانت بحضرة رجالٍ أجانب، أو كان قد يراها رجالٌ أجانب، لكن لو كانت في سجن النساء، والذي يضربها امرأةٌ، وأمام نساءٍ، فهل نقول: إنها تُضرب وهي جالسةٌ؟ الأقرب في هذا: أنها كالرجل تُضرب قائمةً؛ لأن قول من قال من الفقهاء: إنها تُضرب وهي جالسةٌ؛ خشيةً انكشافها، لكن إذا كان الذي يضرب في وقتنا الحاضر نساءٌ، ولا يراها رجالٌ وقت الضرب، فتُضرب قائمةً، أما لو كان يراها رجالٌ، أو مظنَّةً لأن يراها رجالٌ، فتُضرب جالسةً، وتُشَدُّ عليها ثيابها كما ذكر المؤلف.

قال:

ويحرم بعد الحد حبسٌ.

يعني: إذا أقيم الحد؛ لا تكون هناك عقوبةٌ أخرى، فلا يُحبس، ولهذا أيضًا هذا من الأخطاء في وقتنا الحاضر: أنه يُحكم عليه بالجلد والحبس، فإذا حكمنا عليه بالحد؛ يكفي هذا، حكمنا عليه مثلًا بحد شرب المسكر -على قول الجمهور: ثمانون جلدةً- يخرج مباشرةً، لكن ما يُفعل من أنه يُحكم عليه بالجلد وبالسجن، هذا يظهر أنه عقوبةٌ زائدةٌ عما شرعه الله ؛ ولهذا نص الإمام أحمد أنه لا يُحبس إلا إذا كان هناك جريمةٌ أخرى غير الحد الذي ارتكبه، هنا يمكن، أما إذا لم يكن عنده إلا الحد هذا؛ فلا يجوز أن يزاد على هذه العقوبة.

الفصل من الوظيفة، الآن مَن يُقام عليه الحد يُفصل من وظيفته، هل هذا سائغٌ لو أردنا أن نناقشه من الناحية الفقهية؟

مداخلة: ….

الشيخ: تعزيره إذا كان هناك جريمةٌ أخرى، لكن لو لم يكن عنده إلا هذه الجريمة التي أقمنا عليه الحد بسببها فقط، فإذا كان الفقهاء قالوا: إنه لا يحبس، فمن باب أولى أنه لا يفصل من وظيفته؛ ولذلك الفصل من وظيفته هذا خطأٌ، الذي يظهر -والله أعلم- من الناحية الشرعية: أنه زيادةٌ في العقوبة عما أوجبه الله ، اللهم إلا أن يكون هناك جريمةٌ أخرى غير الحد، يعني مثلًا: سرق وفعل جريمةً أخرى، فربما يُزاد في العقوبة لأجل الجريمة الأخرى، لكن لو كان ارتكب جريمة الحد فقط، زنى مثلًا وهو غير محصنٍ، وجُلِد مئة جلدةٍ، وغُرِّب، أو شرب المسكر وجُلِد ثمانين جلدةً، فيُكتفى بالعقوبة التي شرعها الله ، ولا يُزاد عليها الفصل من الوظيفة عقوبةً زائدةً؛ لهذا ينبغي تعديل مثل هذه الأنظمة؛ لأن من وضعها عنده غيرةٌ، لكن أحيانًا الغيرة تكون في غير محلها، ثم أيضًا الفصل من الوظيفة يجعله عالةً على المجتمع، إذا فصل من وظيفته وانتشر عند الناس أنه قد جُلِد وأقيم عليه الحد؛ يتحطم نفسيًّا، ويبقى عالةً على المجتمع، وفيها أيضًا عقوبةٌ لأسرته معه.

فمثل هذه ينبغي أن نلتزم فيها بالنصوص الشرعية، لا نزيد عليها ولا ننقص منها، النص ورد، والله تعالى أعلم وأحكم، الله تعالى حدَّد العقوبة، فنلتزم بهذه العقوبة التي حددها الله ، لا نزيد عليها إلا إذا كان هناك زيادةٌ في الجريمة، يعني: فوق الحد؛ ولهذا الفقهاء قالوا: نصَّ الإمام أحمد على أن المحدود لا يُحبس، إذا كان لا يُحبس؛ من باب أولى أنه لا يُفصل من وظيفته.

فالذي يظهر: أن الفصل من الوظيفة خطأٌ، وأنه مخالفٌ للشريعة فيما يظهر والله أعلم، هذا إذا كانت العقوبة بقدر الحد فقط، يعني: أُقَيِّدُ كلامي: إذا كانت العقوبة بقدر الحد فقط.

مداخلة: …..

الشيخ: إذا كانت تتنافى مع العمل وتُخلِّ بالأمانة مثلًا وهو مؤتمنٌ؛ فهذه يمكن، يمكن أن يُنظر لها، يعني: حالاتٌ خاصةٌ، إذا كان مثلًا يُؤتمن على تربيةٍ، المعلم مثلًا، وحصل منه جريمةٌ متعلِّقةٌ بطالبٍ، فعل الفاحشة بطالبٍ من الطلاب، هذا لا يُؤتمن على هؤلاء، فيمكن أن يُفصل لأجل هذا، يعني: يُنظر لها بخصوصها، لكن كلامي: أن تُجعل قاعدةً عامةً، هذا هو الملحظ.

مداخلة: …..

الشيخ: النظام يفصل دائمًا إن ثبت عليه، يفصل مباشرةً.

قال:

ويحرم بعد الحد حبسٌ، وإيذاءٌ بكلامٍ.

يعني: حتى إذا أقيم عليه الحد لا يُعيَّر ولا يؤذى بكلامٍ، انظر إلى العناية بحفظ كرامة المسلم! حتى لو أُقيم عليه الحد؛ يبقى مسلمًا، لا يجوز أولًا: الزيادة في العقوبة عليه، ثانيًا: لا يجوز تعييره؛ ولهذا جاء في “صحيح البخاري” عن عمر أن رجلًا على عهد النبي كان اسمه عبدالله، وكان يُلَّقب حمارًا، وكان يُضحِك النبي ، يعني: صاحب طرفةٍ، كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بعض الناس من هذا النوع: صاحب طرفةٍ، وكان يأتي بالطرفة عند النبي عليه الصلاة والسلام، ويضحك منه عليه الصلاة والسلام، فيعني هذا اللفظ عند البخاري، يقول: وكان يُضحك النبي ، وكان رسول الله قد جَلَدَه في الشراب، يعني: في شرب المسكر، فأُتِي به، فأمر به فجُلِد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم الْعنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله : لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله [12].

فانظر أولًا إلى حسن خُلُقه عليه الصلاة والسلام، وحُسن تعامله، وأيضًا كيف أن النبي أراد أن يُبرز فيه صفةً إيجابيةً، يعني: هذا الإنسان يُؤتى به ويُجلد مرارًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: لا، فيه صفاتٌ إيجابيةٌ، من أبرزها: أنه محبٌّ لله ورسوله؛ ولهذا ينبغي عندما يُنظر لإنسانٍ قد ارتكب معصيةً، أن يُنظر أيضًا للجوانب الإيجابية فتُبرَز فيه؛ حتى لا يتحطم نفسيًّا؛ لأننا إذا حطَّمنا هذا الإنسان نفسيًّا؛ أصبح يعيش طيلة عمره محطمًا، ويُصبح عالةً على نفسه وعلى المجتمع؛ لهذا ينبغي أن نفتح له باب التوبة، وأن نُبرِز فيه بعض الصفات الإيجابية، انظر كيف يتعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه هذا التعامل الراقي جدًّا! فذكر فيه صفة أنه يحب الله ورسوله، مع أنه جُلِد مرارًا في شرب المسكر، لكن ذكر هذه الصفة الإيجابية فيه، ونهى عن أن يُعيَّر؛ ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا أُقيم عليه الحد؛ فلا يجوز أن يُؤذى بكلامٍ، ولا أن يُحبس، ولا أن يُعيَّر، وتحفظ كرامته.

قال:

والحد كفارةٌ لذلك الذنب.

الحدود إذا أُقيمت؛ فهي كفاراتٌ لأصحابها، ويدل لهذا ما جاء في “الصحيحين” عن عبادة أن النبي قال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروفٍ، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا… -وهذا محل الشاهد- ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله، فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه [13]، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلمٌ بهذا اللفظ.

قال الحافظ ابن رجبٍ في “فتح الباري”، “فتح الباري” لابن رجبٍ، غير “فتح الباري” لابن حجرٍ، قال: “ظاهر هذا الحديث: أن إقامة الحدود كفاراتٌ لأهلها”، وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث بقوله: “باب الحدود كفارةٌ”، فإذنْ من أقيم عليه الحد؛ لا يعاقب عليه في الآخرة، يعني: إنسانٌ أقيم عليه حد الزنا، لا يعاقب عليه في الآخرة، أقيم عليه حد القطع، حد القذف، حد شرب المسكر، لا يعاقب عليه في الآخرة، لكن إذا لم يُقَم عليه في الدنيا؛ فهو إلى مشيئة الله ؛ إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء عفا عنه.

فالحدود إذنْ كفاراتٌ لأصحابها.

ومن أتى حدًّا؛ ستر نفسه، ولم يُسن أن يُقِر به عند الحاكم.

من أتى حدًّا ولم يُقبض عليه، فيقول المؤلف: إن السنة أن يستر نفسه، ولا يذهب ويُبلِّغ عن نفسه ويقر به عند الحاكم؛ وذلك لحديث يعلى بن أمية أن النبي قال: إن الله حييٌّ ستِّيرٌ يحب الستر [14]، رواه أبو داود والنسائي بسندٍ جيدٍ، فمن وقع في شيءٍ من هذه الأمور فالأفضل أن يستر على نفسه، ويتوب فيما بينه وبين الله ؛ ولهذا لما وقع ماعزٌ فيما وقع فيه؛ أتى إلى أبي بكرٍ يستشيره، فأشار عليه أبو بكرٍ  بأن يستر على نفسه ولا يذهب للنبي ، ثم ذهب إلى عمر  واستشاره، فأشار عليه عمر بنفس مشورة أبي بكرٍ ، لكن عنده من قوة الإيمان ما جعله يذهب للنبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: يا رسول الله، إني زنيت، قال أربع مراتٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام يُعرض عنه، لعله أن يذهب ويستر على نفسه فيستر الله عليه، لكنه أصر على إقامة الحد عليه، فهنا قال العلماء: إن الأفضل أن يستر على نفسه، إلا من كان عنده قوة إيمانٍ فطالب بإقامة الحد عليه، لا شك أن هذا هو أكمل الحالات؛ لهذا ماعزٌ والغامدية رضي الله عنهما كان عندهما من قوة الإيمان ما جعلهما يطالبان بإقامة الحد عليهما؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام عن الغامدية رضي الله عنها: إنها تابت توبةً لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وفي روايةٍ: لو تابها صاحب مَكْسٍ؛ لغُفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ​​​​​​​؟! [15]، لكن هذا إنما يكون لمن قوي إيمانه، أما عامة الناس فيقال: الأفضل هو أن يستتر الإنسان بستر الله ، ولا يُقِر به عند الحاكم.

تداخل الحدود

قال:

وإن اجتمعت حدودٌ لله تعالى من جنسٍ؛ تداخلت، ومن أجناسٍ فلا.

إذا اجتمعت الحدود من جنسٍ واحدٍ؛ فإنها تتداخل فيما بينها، يعني: زنى، ثم زنى، ثم زنى، فيقام عليه حدٌّ واحدٌ، وهكذا لو سرق، ثم سرق، ثم سرق، يُقام عليه حدٌّ واحدٌ.

أما إذا كانت من أجناسٍ مختلفةٍ؛ فلا تتداخل؛ كأن يكون زنى وسرق، فيقام عليه حد الزنا وحد السرقة، فهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم: أن الحدود إذا كانت من جنسٍ واحدٍ؛ فإنها تتداخل ويقام عليه حدٌّ واحدٌ، أما إذا كانت من أجناسٍ؛ فلا تتداخل.

ثم بعد ذلك بدأ المؤلف بالكلام عن أحكام الحدود، بدأ بحد الزنا، ثم حد القذف، ثم حد المسكر، ثم تكلم عن أحكام التعزير، ثم القطع في السرقة، هذه -إن شاء الله- سنبتدئ بها الدرس القادم.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

نبدأ بالأسئلة المكتوبة كما تعودنا، وبعد ذلك نتيح فرصةً للأسئلة الشفهية:

الأسئلة

السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم، هذا السائل يقول: ما هي البينات التي تُعتمد عند القضاة والفقهاء في إثبات الصائل؟

الجواب: أعظم البينات: هي الشهود، شهادة الشهود، فإذا شهد شاهدان بأن هذا المقتول قد صال على القاتل؛ فيُدرأ عنه القصاص، وكذلك أيضًا: القرائن، كما يقول ابن القيم: إذا اجتمعت القرائن؛ فهي من أقوى البينات، فلو كان هناك مثلًا بصماتٌ، وكان هناك تصويرٌ، وكان هناك عدة قرائن اجتمعت؛ فيُمكن أن يُدرأ بها القصاص إذا كانت ظاهرةً، وابن تيمية رحمة الله عليه له رأيٌ في المسألة، يقول: إذا عجز المصول عليه عن إقامة البينة، وكانت القرائن تدل على أنه إنما قتل هذا المقتول دفاعًا عن نفسه، وهذه القرائن قويةٌ، فيُدرأ عنه القصاص؛ كأن يكون هذا المقتول معروفًا بالفجور مثلًا، ومن أرباب المخدرات، والقاتل الذي قتله إنسانٌ من الصالحين، وليس معروفًا أصلًا بالإجرام، ودلَّت القرائن الأخرى من مثلًا أحداث القتل على أنه دافع عن نفسه، فيمكن أن يُدرأ عنه القصاص، هذا رأي الإمام ابن تيمية رحمه الله، لكن الذي عليه العمل عندنا في القضاء: هو أنه لا بد من شهادة شاهدين فأكثر على أن هذا المقتول قد صال على القاتل، وإلا فإنه يُقاد به.

مداخلة: …..

الشيخ: التصوير يدخله التزوير، التصوير الآن أصبحوا يتفننون في التزوير فيه، وتُركب صورةٌ على صورةٍ؛ ولذلك لا يُوثَق فيه، ومثل ذلك حتى تسجيل الأصوات الآن يدخله التزوير على نطاقٍ واسعٍ.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: هل تُبذل الدية من بيت مال المسلمين لمن قُتل في حربٍ مع الكفار؟

الجواب: من قتل في حربٍ مع الكفار فهو شهيدٌ، ولا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه؛ إكرامًا له، لكن لا تُبذل الدية؛ لأن هذا حصل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يُنقل أنه وَدَى أولئك الذين قُتلوا في غزوة بدرٍ وأحدٍ وغزوات النبي عليه الصلاة والسلام، إنما يكون ذلك في قتلٍ في غير هذا ولم يُعلم قاتله؛ لأن الأصل أن الدية على القاتل إذا كان عمدًا، وعلى عاقلته إذا كان خطأً أو شبه عمدٍ، لكن لو لم يُعلم قاتله؛ فيُودَى من بيت المال كما مر معنا في الدرس السابق.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: هل تُقبل الشفاعة في حد القذف؟

الجواب: حد القذف سيأتينا -إن شاء الله- في الدرس القادم، هل هو حقٌّ لله، أو حقٌّ لآدميٍّ؟

فالجمهور على أنه حقٌّ لآدميٍّ، والحنفية على أنه حقٌّ لله ​​​​​​​، والصحيح: هو قول الجمهور، كما سيأتي -إن شاء الله- التفصيل في المسألة؛ وبناءً على ذلك: تُقبل الشفاعة فيه؛ لأن كلامنا في الشفاعة فيما كان من حدود الله ، حقوقٌ لله ، أما ما كان حقًّا لآدميٍّ؛ فالمرجع فيه للآدمي، وهذا السؤال جيدٌ، كان يُفترض أننا ننبِّه عليه في حينه، أن ما ذكرناه من الشفاعة إنما هو في غير حد القذف؛ لأن حد القذف هو حقٌّ لآدميٍّ.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: يعمد بعض من يُقام عليه حد الجلد للبس الملابس الثقيلة؛ لمنع وصول ألم الجلد، فهل هذا الفعل صحيحٌ؟

الجواب: هذا غير صحيحٍ، هذا يُؤدِّي إلى تعطيل الحد، ولا يكون هناك فائدةٌ من إقامة الحد؛ ولهذا يُفترض أن هذه مسؤولية اللجنة المشكَّلة لإقامة الحد، خاصةً مندوب المحكمة، أين هو عن هذا الأمر ومندوب الهيئة؟! يكون هناك مندوبٌ من المحكمة، ومندوبٌ من الهيئة، ومندوبٌ من الإمارة، هؤلاء عليهم مسؤوليةٌ في التحقُّق من هذه الأمور، ولا يجوز أن يمكَّن من مثل هذا.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: هل تجوز الشفاعة عند القاضي فيما لو كانت القضية يراجَع فيها مَن هو أعلى منه؟

الجواب: إذا بلغت القاضي؛ لا تجوز الشفاعة، ما دام أنها حدٌّ؛ فلا تجوز الشفاعة فيها إذا وصلت القاضي، لا تجوز مطلقًا.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: نسمع بعض الأئمة في دعاء النازلة يقولون: “اللهم من آذاهم فآذِهم، ومن عاداهم فعادهم، ومن مكر بهم فامكر به، يا من أمره بين الكاف والنون”، هل في هذا الدعاء بأسٌ؟

الجواب: هذا اشتمل على عدة محاذير؛ أولًا “بين الكاف والنون” هذا خطأٌ، ولا يقال: أمره بين الكاف والنون، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وليس: بين الكاف والنون، وأيضًا مسألة: من عاداه فعادِه، هذا وإن كان قد ورد: من عادى لي وليًّا؛ فقد آذنته بالحرب [16]، لكن بهذا الأسلوب: من عاداهم فعاده، يعني: ينبغي الابتعاد عن مثل هذه الألفاظ، والذي ورد في قنوت النازلة: اللهم اشدد عليهم وطأتك [17]، هذا ورد، فهذا ينبغي أن يقال في دعاء النازلة، وأيضًا يكون دعاء النازلة بقدر النازلة، النبي عليه الصلاة والسلام دعا لقومٍ، ودعا على قومٍ، فقط لا يخرج عنها، توسُّع بعض الإخوة فيه إشكالٌ؛ لأن صلاة الفريضة يحافظ عليها النبي ، ما كان إذا مر بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح في الفريضة، ولا بآيةٍ فيها تعوُّذٌ تعوَّذ، إنما كان يفعل ذلك في النافلة [18]؛ لأن الفريضة يُحافَظ عليها محافظةً شديدةً، والفقهاء شدَّدوا في هذا، وقالوا: إذا قَهْقَهَ فبان حرفان؛ بطلت صلاته، ففيها خطورةٌ على صحة الصلاة؛ لهذا ينبغي التنبه لهذا، وأيضًا لا يؤتى بألفاظٍ غريبةٍ قد يكون فيها نوع اعتداءٍ في الدعاء، وإنما يؤتى بالألفاظ المعروفة الظاهرة التي لا يَرِد عليها أي إشكالٍ.

ثم أيضًا لا يُطال في الدعاء، بعض الأئمة يطيل في الدعاء، ومدة الدعاء أطول من الصلاة كلها، الصلاة لا تكمل خمس دقائق، والدعاء كله يأخذ أحيانًا عشر دقائق، وهذا خطأٌ، فلا يطال في الدعاء، ليس المقام مقام استعراضٍ الآن للألفاظ، وليس المقام أيضًا مقام ترقيقٍ للقلوب، المقام مقام دعاءٍ وسؤالٍ لله أن ينصر هؤلاء المظلومين، ودعاءٍ على أولئك الظالمين.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: ما الحكم في المجوسي إذا زنى في بلاد المسلمين؟

الجواب: على التفصيل الذي ذكرنا، هذا المجوسي ما تصنيفه؟ هل هو معاهدٌ؟ وغالب الآن من يدخل بلاد المسلمين إما أن يكون مستأمنًا أو معاهدًا، من يدخل بلاد المسلمين لا يخلو من أحد هذين القسمين: إما مستأمنٌ أو معاهدٌ؛ فيكون حكمه حكم ما ذكرناه من حكم المستأمن والمعاهد.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: ذكرتم كفارة الرقيق وكفارة الكافر، السؤال: ما هي كفارة الرقيق الكافر؟

الجواب: هنا إذا اجتمع كونه رقيقًا وكونه كافرًا، كونه رقيقًا قلنا: إنه ليس عليه عتقٌ؛ لأنه لا مال له، وإذا كان كافرًا لا يصوم؛ لأنه لا يصح الصيام من كافرٍ، فإذا كان رقيقًا وكافرًا ماذا نقول؟

هذه مما يُلغَز بها، إذا كان رقيقًا كافرًا هنا لا يصح منه الصيام ولا العتق، الأمرين جميعًا، فالذي يظهر نقول: إنه ليس عليه شيءٌ؛ لأنه لو صام؛ ما صح صومه، ولو أعتق؛ ما صح عتقه.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: لو سقطت ميتةٌ نجسةٌ أو ما أُبين منها في ماءٍ فأُخرجت منه ولم يتغيَّر، فهل ينجس بمجرد هذا السقوط؟

الجواب: لا ينجس، لا ينجس الماء إلا إذا تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسةٍ، لكن أحيانًا يتغيَّر، أنا أذكر سائلًا سأل يقول: سقطت حمامةٌ في خزان الماء العلوي، يقول: كنا نشم رائحة الماء أن فيه رائحةً منتنةً، وكنا نتوضأ، فأُفتوا بأن عليهم أن يعيدوا تلك الصلوات؛ لأن هذا الماء نجسٌ تغيَّر طعمه بنجاسةٍ؛ لأن هذه الحمامة ميتةٌ، وهي نجسةٌ، وتغيَّر هذا الماء بهذه النجاسة، فأُفتوا بأن يعيدوا تلك الصلوات.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: ما حكم لبن الميتة؟

الجواب: طيب السؤال الذي بعده.

السؤال: السؤال يقول: إنْفَحَة العِجل التي تُوضع في الأجبان، هل يقال فيها: ما أُبين من حيٍّ كميتته؟

الجواب: هذه لا يقال فيها بهذا؛ لأن أصلًا الألبان هي تُشرب: ألبان الإبل والبقر والغنم، ما تأخذ هذا الحكم، إنما المقصود في غير الألبان، يعني: ما أُبين من أعضاء ذلك الحيوان، أما الألبان فالأمر فيها ظاهرٌ.

انتهت الأسئلة، نأخذ الأسئلة الشفهية:

السؤال: …..؟

الجواب: هذا سؤالٌ جيدٌ، يقول: إذا قلنا: إن القياس يصح، فنَحمل الإيمان الوارد في كفارة القتل على كفارة الظهار، وإذا قلنا: القياس لا يصح، فلماذا حملناه؟ وهذا مذهب الحنابلة، اشترطوا الإيمان في الكفارات مطلقًا، ومنها: كفارة الظهار، مع أنه إنما ورد في كفارة القتل، فإذا دخلنا في المباحث الأصولية فهذا صحيحٌ، هذا فيه تناقضٌ، أما إذا خرَّجناها مخرجًا آخر، قلنا: ما ننظر لمسألة القواعد الأصولية، وإنما ننظر للدليل: أن الله تعالى ذكر هذه، ولم يذكر هذه، هذا استدلالٌ صحيحٌ؛ ولذلك كثيرٌ من القواعد الأصولية مشكلةٌ، أحيانًا القاعدة نفسها تحتاج إلى دليلٍ؛ ولهذا قلت أنا في دروسٍ سابقةٍ: لا ينبغي لطالب العلم أن يُبالغ في التقعيدات، سواءٌ التقعيدات الأصولية أو التقعيدات الفقهية، لا يبالغ فيها؛ لأن هذه القواعد تحتاج أصلًا إلى أدلةٍ، ولأنها من السهل أحيانًا نقضها بمثل هذه الصورة، يعني نقول مثلًا للحنابلة ومن وافقهم: إن كنتم تعتمدون على القاعدة الأصولية، فلماذا اشترطتم الإيمان في الرقبة، وهنا في الإطعام تقولون: لا ينتقل للإطعام في كفارة القتل؟! فإما أن تجعلوها قاعدةً مطردةً، أو تقولوا: لا نأخذ أصلًا بهذه القاعدة، يعني هذا السؤال في محله، هذا يُبيِّن لنا أن طالب العلم لا يُبالغ في التقعيد؛ ولهذا إذا أردنا أن ننظر لها من جهة الدليل، نقول: إن الله تعالى ذكرها هنا، ولم يذكرها هنا.

مداخلة: …..

الشيخ: إذا كان العدد كبيرًا فأيضًا الأمر المترتب عليه كبيرٌ، إذا ترتب في إزهاق مثلًا عشرين نفسًا، لكن نقول: اتقوا الله ما استطعتم، على حسب استطاعته.

مداخلة: …..

الشيخ: بالنسبة لتحطم الطائرات: الغالب أنه لا يكون فيها تعدٍّ أو تفريطٌ، الطائرة تبرمَج أصلًا وهي في المطار، يعني: مثل هذا بعيدٌ أن يحمل شيئًا، الغالب التعدي والتفريط يكون في السيارات، أما الطائرات فبعيدٌ، قائد الحافلة إذا كان متعديًا أو مفرِّطًا، فأيضًا يُفترض أنه يحتاط ولا يستهتر بأرواح هؤلاء الذين معه، فالأمر المترتب عليه كبيرٌ، تسبَّب في إزهاق أنفسٍ معصومةٍ؛ فنقول: يترتب عليه كفاراتٌ، وعلى حسب استطاعته، ولو كلَّ سنةٍ يصوم شهرين متتابعين.

مداخلة: …..

الشيخ: يقول: هناك مظاهر تُمارس في السجون؛ تُنتهك حقوقهم، ويزاد عليهم… هذه المظاهر؟

هذا صحيحٌ، هذا يحتاج إلى توعية القائمين على السجون، وأن العقوبة ينبغي أن تكون بقدر المعصية، وأنه لا يجوز الزيادة عليها، وإنما تكون بقدر المعصية، وسنتكلم -إن شاء الله- في الدروس القادمة عن ثبوت الحدود، وسنُبيِّن الإشكالية، لماذا لا يُحكم بالقطع في السرقة؟ ما هو السبب؟ السبب: مشكلةٌ قضائيةٌ بحتةٌ، سنتكلم عنها -إن شاء الله تعالى- في الدروس القادمة، فهذه الأمور لا شك أنها خطأٌ، لكن ينبغي أن تتضافر الجهود لتوعية القائمين على تلك الأجهزة؛ لكي يلتزموا بالحكم الشرعي، وألا يزيدوا في مقدار العقوبة على المحدد شرعًا.

مداخلة: …..

الشيخ: إي نعم، هنا هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن أيضًا لا يُبالغ فيه..

مداخلة: …..

الشيخ: إذا كان هناك حقٌّ عامٌّ، فيه انتهاكٌ لشيءٍ متعلِّقٍ بالإخلال بالأمن أو كذا، أما إذا كان لا يوجد شيءٌ متعلِّقٌ بهذا، فالأصل أن الحد عقوبته مقدرةٌ شرعًا، ولماذا لم يَرِد في النصوص: أن هناك عقوبةً خاصةً بالحد وحقًّا عامًّا؟ الحق العام يكون عند الإخلال بالأمن مثلًا، أو عند التعدِّي على الآخرين، ليس الحق العام في كل معصيةٍ، وإنما قد يكون في جرائم معينةٍ.

السؤال: …..؟

الجواب: أسبوع الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أقامته “جامعة الإمام” مرةً واحدةً فقط ولم يتكرر، فالعيد لا يقال: إنه عيدٌ، إلا إذا تكرر، هو أقيم مرةً واحدةً، ثم أيضًا الغرض منه: جمع كتب الشيخ ومؤلفاته، فالاستدلال بهذا غير صحيحٍ أصلًا، هو جعل هذا الوقت لأجل العناية بكتب الشيخ من غير أن يتكرر، فالعيد لا يقال له: عيدٌ، إلا إذا تكرر، وإذا كان تعظيم الزمان مقصودًا، هنا تعظيم الزمان غير مقصودٍ أصلًا، لو مثلًا الآن نُقيم دورةً في دراسة مثلًا كتاب الزكاة، أو ما الفرق بينها، ونعتني مثلًا بجمع كتب الشيخ لمدة أسبوعٍ، كل هذه من الأمور الجائزة، لا إشكال فيها، الإشكال إذا كان هناك تعظيمٌ للزمن، فأعياد الميلاد مثلًا فيها تعظيمٌ مقصودٌ للزمن، وتتكرر؛ فتكون محرمةً لأجل هذا.

مداخلة: …..

الشيخ: بالنسبة لقطع السارق، سنأتي لها -إن شاء الله- عند الكلام عن..، لكن باختصارٍ: يجوز وضع البنج عند قطع السارق؛ وذلك لأن المقصود هو قطع اليد، وليس المقصود هو الإيلام؛ لأن الله تعالى قال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، فإذا تحقق القطع؛ حصل المقصود، أما الألم فليس مقصودًا.

مداخلة: …..

الشيخ: لا، هذه دلالتها عامةٌ: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:40]، عامةٌ، ليست الدلالة صريحةً في هذا.

مداخلة: …..

الشيخ: هذا لأجل أن تكون ردعًا وزجرًا لغيرهم؛ ولذلك نحن نقول: قطع السرقة ينبغي أن يشهده أيضًا طائفةٌ من المؤمنين، فهذا لأجل الردع والزجر.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البيهقي في دلائل النبوة: 3/ 354.
^2 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 16154، وفيها أن الذي أوجب النبي عليه القود: هو الحارث بن سويد.
^3 رواه أبو داود: 3964، والنسائي: 4890.
^4 رواه مسلم: 140.
^5 رواه مسلم: 1708، بنحوه.
^6 رواه البخاري: 2234، ومسلم: 1703.
^7 رواه البخاري: 3475، ومسلم: 1688.
^8 رواه أبو داود: 3597، وأحمد: 5385.
^9 رواه مالك في الموطأ: 3087.
^10 رواه أبو داود: 4394، والنسائي: 4883، وابن ماجه: 2595، بنحوه.
^11 رواه أبو داود: 4490، وأحمد: 15580.
^12 رواه البخاري: 6780، بنحوه.
^13 رواه البخاري: 18، ومسلم: 1709.
^14 رواه أبو داود: 4012، والنسائي: 404.
^15 رواه مسلم: 1695-1696.
^16 رواه البخاري: 6502.
^17 رواه البخاري: 6200، ومسلم: 675.
^18 رواه مسلم: 772.
zh