باب شروط استيفاء القِصاص
ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى باب: “شروط استيفاء القِصاص”.
وقبل أن نبدأ في هذا الدرس، الأسبوع القادم استثناء فقط، عندي مؤتمرٌ في “المجمع الفقهي والإسلامي” في مكة، وسيتوقف الدرس الاسبوع القادم فقط، ونستأنف الدرس الأسبوع بعد القادم إن شاء الله، عندنا مؤتمرٌ عن الأهلة والمشاركة فيه ببحثٍ، لا بد من الحضور، فالأسبوع القادم يتوقف الدرس، والأسبوع بعد القادم -إن شاء الله- يستأنف الدرس.
قال المؤلف رحمه الله:
باب: شروط استيفاء القصاص.
المؤلف بعد أن تكلم عن أنواع أو أقسام القتل، وشروط وجوب القصاص، انتقل بعد ذلك للكلام عن شروط استيفاء القصاص.
معنى “استيفاء القصاص”
أولًا: ما معنى استيفاء القصاص؟
“استيفاء القصاص” معناه: هو فعل مجنيٍّ عليه، أو فعل وليه بجانٍ مثل فعله أو شبهه، هكذا عُرِّف: فعل مجنيٍّ عليه، أو فعل وليه بجانٍ مثل فعله أو شبهه.
“فعل مجنيٍّ عليه”: هذا في القصاص دون النفس، المجني عليه هو الذي يَقتص من الجاني.
“أو فعل وليه”: هذا في القصاص في النفس.
“بجانٍ مثل فعله أو شبهه” يعني: إذا كان القصاص في النفس؛ يقتل، إذا كان فيما دون النفس؛ يفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه.
والأصل: أن الذي يَستوفي القصاص هو المجني عليه، إذا كان القصاص فيما دون النفس، وكذلك أيضًا الولي فيما إذا كان القصاص في النفس.
فالولي يُعطَى السيف، ويقال: اقتله، اقتل الجاني، هذا هو الأصل، وهذا هو الذي عليه العمل من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى وقتٍ ليس بالبعيد، إلى وقت عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، ويوكَّل الولي، يقال: خذ هذا السيف، اقتل الجاني، لماذا؟ لأن هذا أبلغ في التشفي، ومن أبرز حكم مشروعية القصاص حصول التشفي لولي الدم، أيهما أبلغ بالتشفي: أن يقتله شخصٌ آخر، أو أنه الذي يأخذ السيف ويقتله؟ لا شك أنه الثاني.
شروط استيفاء القصاص
لكن ذلك مشروطٌ بشروطٍ؛ منها:
أن يحسن الاستيفاء، إذا كان لا يحسنه -كما هو حال كثير من الناس الآن- فلا يُمَكَّن؛ لأنه سوف يعذبه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة [1]، لكن لو كان يحسنه وأراد أن يتولى القصاص بنفسه؛ يُمَكَّن.
أيضًا هناك شروطٌ ذكرها المؤلف، قال:
وهي ثلاثةٌ: أحدها: تكليف المستحِق.
يعني: المستحق للقصاص، بأن يكون مكلفًا، ومعنى “مكلفًا”، يعني: بالغًا عاقلًا.
إن كان مستحِقُّ القصاص أو بعض مستحقه صبيًّا -يعني غير بالغٍ أو مجنونًا- فيحبس الجاني؛ وذلك لأن القصاص إنما ثبت لما فيه من التشفي، ولا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره.
وهذا هو المأثور عن الصحابة -بالنسبة لحبس الجاني فيما إذا كان المستحق صغيرًا- فقد رُوي أن معاوية بن أبي سفيان حَبس هُدْبة بن خَشْرمٍ في قصاصٍ حتى بلغ ابنُ القتيل، وكان ذلك بمحضرٍ من الصحابة، فكان إجماعًا، وهذه قصته اشتهرت في عهد الصحابة، حتى إن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا سبع دياتٍ لابن القتيل؛ لكي يعفو، فلم يقبلها؛ وهذا يدل على اشتهار القصة.
والغالب أنه إذا حُبس الجاني حتى يبلغ الصبي..، هل الغالب على الصبي -إذا بلغ- العفو، أو المطالبة بالقصاص؟ الغالب: المطالبة بالقصاص، ويندر أنه يعفو، لماذا؟
مداخلة:…
الشيخ: إي نعم؛ لأنه أحس بالحرمان وقت صغره ويُتمه، أحس بشيءٍ من الحرمان والمعاناة، ثم أيضًا يُلَقَّن وهو صغيرٌ بأن هذا هو قاتل أبيك، فيندر أنه يعفو.
فالغالب أنه لا يعفو، قد يعفو في حالاتٍ قليلةٍ، لكن في الغالب أنه لا يعفو، وإنما يطالِب بالقصاص.
هذا هو الذي عليه العمل، وتعليله -كما ذكرنا- ظاهرٌ، وهو أيضًا مأثورٌ عن الصحابة ، هذا بالنسبة للصبي، إذنْ يُحبس الجاني حتى يبلغ الصبي.
أما بالنسبة للمجنون: فالمؤلف يرى أيضًا أنه يحبس الجاني حتى يُفيق المجنون، وهذا فيه إشكالٌ؛ لأن بلوغ الصبي أمره قريبٌ، يُنتظر سنواتٍ ويبلغ الصبي، أما المجنون فقد لا يفيق، قد يبقى طيلة عمره مجنونًا؛ فكيف يحبس هذه السنين الطويلة؟! فيكون في ذلك ضررٌ على أولياء الدم، وحبسه لا يحل الإشكال، فلا أولياء الدم استوفوا وحصل التشفي، ولا كذلك هذا أُطلِق وعُفي عنه.
فقول المؤلف هنا بأن المجنون يحبس إلى أن يفيق، قولٌ مرجوحٌ.
والصواب في هذه المسألة: أن الوارث للدم إذا كان مجنونًا، وهكذا لو كان شيخًا هرمًا ذهب عقله ولا يرجى برؤه؛ فيقوم وليه مقامه، فيختار ما هو الأصلح من القصاص أو الدية؛ وذلك لأن تأخير القصاص لمثل هؤلاء يترتب عليه مفاسد؛ من إضاعة حق بقية الورثة في القصاص، وتضرر الوارث غير المكلف؛ فإنه قد يكون محتاجًا إلى حقه من الدية فيحرم منه.
فإذنْ بالنسبة للمجنون: يقوم وليه مقامه.
أما بالنسبة للصبي فكما ذكرنا: يحبس الجاني إلى أن يبلغ الصبي؛ ولهذا لاحِظ أن المؤلف رجع واستثنى في المجنون مسألةً، وهذا مما يضعف هذا القول، فقال:
فإن احتاج لنفقةٍ؛ فلولي المجنون فقط العفو إلى الدية.
يعني: لما أُورِدَ عليهم هذا الايراد: ما هي المصلحة الآن في حبس هذا الجاني، وترك الآن ولي الدم، وترك هؤلاء..؟! ربما يكون هذا المجنون بحاجةٍ لنفقةٍ؛ فاضطروا إلى استثناء هذه المسألة، قالوا: إن احتاج إلى نفقةٍ؛ فلولي المجنون العفو إلى الدية.
والصواب: أن ولي المجنون له العفو مطلقًا، يعني: يفعل ما هو الأصلح؛ من القصاص أو العفو، سواءٌ احتاج لنفقةٍ أو لم يحتج إلى نفقةٍ مطلقًا.
هل لولي المجنون العفو مجَّانًا؟
قلنا: القول الراجح الذي رجحناه: أنه يختار الأصلح من القصاص أو الدية.
لو قال قائلٌ: هل لولي المجنون أن يعفو مجانًا، يعني: بدون ديةٍ؟
الجواب: نعم.
مداخلة:…
الشيخ: لماذا؟
مداخلة:…
الشيخ: أحسنت، ليس له العفو مجانًا؛ لأنه يجب عليه أن يفعل الأحظَّ والأصلح لهذا المجنون، وليس من مصلحة المجنون العفو مجانًا.
وهكذا أيضًا في القتل الخطأ، ولي الدم لا يملك العفو مجانًا، هذا يخطئ فيه بعض الناس، يحصل مثلًا أن شخصًا يداس مثلًا بالسيارة، أو مثلًا يكون له حادث سيارةٍ، فيأتي ولي هؤلاء القُصَّر ويعفو مجانًا، لا يملك أصلًا العفو مجانًا؛ لأنه يجب عليه أن يفعل ما هو الأصلح، والأصلح لهم: الدية، حتى لو عفا مجانًا فالعفو غير صحيحٍ، هذه مما يخطئ فيها بعض الناس، تجد أن ولي هؤلاء القصر قد يكون إنسانًا صالحًا، ويرغب في الأجر والثواب، فيذهب مباشرةً ويتنازل مجانًا، نقول: لا يملك أصلًا، هؤلاء قُصَّرٌ، والأصلح لهم هو أخذ الدية؛ تفيدهم وتنفعهم، ويستفيدون منها.
مداخلة:…
الشيخ: لا، في القتل الخطأ: الأصل: السجن لم يكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أتى في عهد عمر ، وفي نطاقٍ ضيقٍ، لكن توسَّع الناس فيه في الوقت الحاضر؛ تأثرًا بالقوانين الوضعية، وإلا فنطاقه محدودٌ وضيقٌ، فالقتل الخطأ الأصل أنه لا يحبس.
قال:
الثاني:
يعني: الشرط الثاني من شروط استيفاء القصاص.
اتفاق المستحقين على استيفائه، فلا ينفرد به بعضهم.
لا بد من اتفاق أولياء الدم المشترِكين فيه على استيفائه، فليس لبعضهم أن ينفرد باستيفائه دون الآخرين، وإن كان هناك غائبٌ من أولياء الدم؛ فينتظر؛ ولهذا قالوا: ينتظر قدوم الغائب، وتكليف غير المكلف.
فإذنْ لا بد من اتفاق أولياء الدم جميعًا على الاستيفاء.
قال:
ومن مات من المستحقين؛ فوارثه كـهُوَ.
أفادنا المؤلف بأن من مات؛ قام وارثه مقامه، من مات من المستحقين للدم؛ قام وارثه مقامه.
وإن عفا بعضهم، ولو زوجًا أو زوجةً، أو أقر بعفو شريكه؛ سقط القصاص.
القصاص لا يَقبل التبعيض، إذا عفا أي واحدٍ من المستحقين للدم؛ سقط القصاص، حتى لو عفت المرأة -وليس لها إلا الثُّمن- يسقط القصاص؛ لأنه لا يَقبل التبعيض.
الثالث:
من شروط استيفاء القصاص.
أن يؤمَن في استيفائه تَعَدِّيه إلى الغير.
أن يؤمَن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني إلى غيره، ومثَّل المؤلف لهذا بمثالٍ فقال:
فلو لزم القصاص حاملًا؛ لم تقتل حتى تضع.
مقصود الفقهاء بهذا الشرط: أنه لو كان مثلًا التي سيُقتص منها امرأةً حاملًا؛ فإنه لا يقتص منها حتى تضع، ثم بعد وضعها أيضًا إن وُجد من يرضعه قُتلَت، وإلا فلا، حتى ترضعه حولين، وهذا ربما يكون في الزمن السابق، وفي الوقت الحاضر ربما أن الحليب الصناعي يقوم مقام الحليب الطبيعي في هذا، لكن في السابق لم يكن موجودًا، مثل هذا الحليب المجفف؛ ولذلك كانوا يقولون: إنها إذا لم يوجد من ترضعه يُنتظر لمدة حولين؛ وذلك لأنه لو قُتلت هذه المرأة الحامل قصاصًا؛ لتعدت الجناية إلى غيرها، ما ذنب هذا الطفل الذي في بطنها، فكأنه قد قُتلَت نفسان: هذه المرأة، وهذا الطفل؛ فإذنْ تنتظر حتى تضع.
وفي وقتنا الحاضر لا حاجة لأن يقال: حتى توجد مرضعةٌ؛ فيمكن الاستغناء بالحليب المجفف عن المرضعة.
مداخلة:…
الشيخ: نعم، لكن قد لا يوجد من يرضعه، قد يكون مثلًا في قريةٍ ما يوجد من يرضعه، قد لا يُقبل، فلا يلزم، فإذا لم يوجد من يرضعه فيُنتظر حتى ترضعه حولين كاملين.
مداخلة:…
الشيخ: وجود ماذا؟ لو وجد مرضعة؛ تقتل.
مداخلة:…
الشيخ: طيب، نعم، يقوم مقامه، وقتنا الحاضر يقوم مقامه، كثيرٌ من الاطفال يعتمدون عليه.
حكم استيفاء القِصاص بغير حضرة السلطان أو نائبه
قال:
فصلٌ: ويحرم استيفاء القصاص بلا حضرة السلطان أو نائبه، ويقع الموقعَ.
لا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان، والمقصود: السلطان الإمام الأعظم، أو نائبه، نائبه هو في وقتنا الحاضر مثلًا: الشرطة، أو اللجنة المشكَّلة من الشرطة ومندوب المحكمة ومندوب الإمارة، هناك لجنةٌ تشكَّل وتحضر القصاص، هؤلاء ينوبون مناب السلطان؛ وذلك لافتقاره إلى الاجتهاد، وخوف الحيف، وكما ذكرنا الأصل أن ولي الدم هو الذي يستوفي، فعندما يستوفي ولي الدم؛ لا بد أن يكون ذلك بحضرة السلطان أو نائبه؛ حتى يؤمَن من الحيف.
قال:
ويقع الموقعَ.
يعني: لو أنه استوفى بغير حضرة السلطان؛ وقع موقعَه، لكن يعزَّر هذا الذي استوفى بغير حضرة السلطان؛ لافتياته على السلطان.
هل يتعين السيف في استيفاء القِصاص؟
قال:
ويحرم قتل الجاني بغير السيف، وقطع طرفه بغير السكين؛ لئلا يحيف.
هذه مسألةٌ محل خلافٍ بين أهل العلم، هل يتعين السيف في استيفاء القصاص، أو أنه يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه؟ إن كان رضَّه بحصًى؛ نرضه بحصًى، إن كان غرَّقه؛ نغرقه، نفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه؟
المؤلف يقول: إنه لا يُستوفى إلا بالسيف، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بما يُروى عن النبي أنه قال: لا قَوَد إلا بالسيف [2]، رواه ابن ماجه، ولكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح عن النبي .
والقول الثاني في المسألة، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد: أنه يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا مذهب الجمهور، وقول الحنفية والمالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، واختار هذا القول جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم رحمها الله تعالى، وهذا هو القول الراجح، ويدل له عدة أدلةٍ؛ منها:
- قول الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126] فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194].
- ومنها، وهو أصلح الأدلة: ما جاء في “الصحيحين” أن النبي أمر بِرَضِّ رأس يهوديٍّ رض رأس جاريةٍ، فإن جاريةً أُتِي إليها وهي تتشحَّط في دمها، وقد رُض رأسُها بين حجرين، فقيل من فعل بك هذا؟ فلانٌ، فلانٌ، فلانٌ؟ حتى قيل: فلانٌ من اليهود؟ فهزت رأسها: نعم، فأُتِي به فاعترف، فأمر النبي بأن يُفعل به كما فَعل بها، بأن يُرض رأسه بين حجرين [3].
وهذا النص كما ترون صحيحٌ وصريحٌ، صحيحٌ في “الصحيحين”، رواه البخاري ومسلمٌ، وصريحٌ؛ فإنه يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: الكتاب والميزان على أنه يُفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه، وقد اتفق على ذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة، اللهم إلا إذا كان قد فَعل به أمرًا محرمًا؛ كما لو سقاه الخمر حتى مات، فلا نسقيه الخمر حتى يموت، أو مثلًا فعل فيه الفاحشة حتى مات، هذه تُستثنى: إذا فعل به أمرًا محرمًا، وأما إذا فَعل به غير هذه الأمور المحرمة؛ فالأصل أنه يُفعل به كما فَعل؛ إذا غرَّقه نغرقه، رض رأسه بحجرٍ؛ نفعل به كما فعل تمامًا، قتله بمسدسٍ نقتله بمسدسٍ، نفعل به كما فعل به، قطع يديه ثم قتله؛ نقطع يديه ثم نقتله.
مداخلة:…
الشيخ: التحريق بالنار محل خلافٍ بين العلماء، بعض أهل العلم يقول: إنه يُحرَّق، إذا كان قد حرَّقه يُحرَّق.
وقال آخرون: إنه لا يحرَّق؛ لأن النبي قال: إنه لا يعذِّب بالنار إلا رب النار [4]، فهي محل خلافٍ بين أهل العلم، مسألة التحريق.
فإذنْ القول الصحيح: هو قول الجمهور في هذه المسألة، لكن الذي عليه العمل ما هو؟ القول الأول: أنه يقتل بالسيف، ولكن الصواب: هو قول الجمهور.
مداخلة:…
الشيخ: نعم، مُثِّل به قبل، أو بعد؟ إذا كان مُثل به بعد؛ لا يمثل؛ لأنه أصبح ميتًا، لكن لو أنه قد قطع قبل، قطع يديه مثلًا، أو قطع أذنه أو قطع أنفه؛ فالأصل أن يُفعل به مثل ما فَعل، هذا هو الأصل.
فيكون إذنْ الصواب هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
قال:
وإن بطش ولي المقتول بالجاني فظن أنه قتله فلم يكن، وداواه أهله حتى برئ؛ فإن شاء الولي دَفَع دية فعله وقَتَله، وإلا تركه.
يعني: إذا مُكن ولي المجني عليه أن يقتل الجاني، فقام وبطش به وظن أنه قتله، لكن بقي فيه رمق حياةٍ، ودواه أهله، فتبين أنه لم يمت وعاش، فماذا يفعل الآن ولي الجاني؟
نقول: يُخيَّر؛ إن شئت ادفع دية فعلك هذا واقتله، دية فعل الذي فعلته قبل، واقتله، وإن شئت اتركه، فأنت بالخيار، وهذا قد رُوي عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهما.
ولهذا نحن قلنا: إنه لا بد أن يكون الولي يحسن الاستيفاء، لكن لو افتُرض أنه ادعى أنه يحسن الاستيفاء ولم يستوف منه، ظن أنه قتله وما قتله، داواه أهله وعاش، فأراد أن يقتل مرةً ثانيةً؛ نقول: ادفع الدية عن فعلك الأول واقتله، أو اتركه ولا تُطالَب بدفع الدية، هذا معنى كلام المؤلف رحمه الله.
باب شروط القِصاص فيما دون النفس
قال:
باب شروط القصاص فيما دون النفس.
القصاص فيما دون النفس يشمل القصاص في الأطراف، والقصاص في الجراح، يدل لذلك قول الله : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45].
ذكر الله تعالى أولًا القصاص في النفس، ثم القصاص في الأطراف، ثم القصاص في الجراح، القصاص في النفس تكلمنا عنه، والقصاص في الأطراف، والقصاص في الجراح هذا هو المقصود بالقصاص فيما دون النفس.
قال:
من أُخِذ بغيره في النفس؛ أُخذ به فيما دونها، ومن لا فلا.
هذا يصلح أن يكون ضابطًا: من أُخذ بغيره في النفس، يعني: في القصاص في النفس، فيؤخذ به في القصاص فيما دون النفس، ومن لا فلا؛ فمثلًا: المسلم بالكافر، هل يقتل المسلم بالكافر؟ لا يقتل المسلم بالكافر.
هكذا أيضًا لا يقتص فيما دون النفس من المسلم للكافر، وكذلك الحر بالعبد، وكذلك أيضًا الأب بولده.
قال:
وشروطه أربعةٌ:
يعني: شروط القصاص فيما دون النفس أربعةٌ.
أحدها: العمد العدوان
أحدها: العمد العدوان، فلا قصاص بغيره.
لا بد أن تكون الجناية عمدًا وعدوانًا، فإن كانت خطأً، أو شبه عمدٍ؛ فلا قصاص؛ وذلك لأن الخطأ وشبه العمد لا يوجبان القصاص في النفس، وهي الأصل؛ ففيما دون النفس من باب أولى.
الشرط الثاني: إمكان الاستيفاء بلا حَيفٍ
الشرط الثاني: إمكان الاستيفاء بلا حيفٍ؛ بأن يكون القطع من مفصلٍ، أو ينتهي إلى حدٍّ.
يشترط الفقهاء للقصاص فيما دون النفس: أمن الحيف، فإن كان لا يؤمن الحيف؛ لم يجز الاستيفاء.
ووضع المؤلف ضابطًا لهذا، قال: بأن يكون القطع من مفصلٍ، أو له حدٍّ ينتهي إليه، ومثَّل له، قال:
كمارِن الأنف.
ما معنى “مارن الأنف”؟ قال:
وهو ما لان منه.
ما لان منه، يعني: دون القصبة، هذا ما لان منه، دون القصبة.
فلا قصاص في جائفةٍ.
المقصود بالجائفة سيأتينا -إن شاء الله- في الدرس القادم أنواع الجراح، سيأتينا أن لها عدة أنواعٍ: الهاشمة، والبازلة، والباضعة، والمتلاحمة، والسِّمْحاق، وسنتكلم عنها.
يقول:
فلا قصاص في جائفةٍ.
نشير لها الآن إشارةً، الجائفة معناها: هي الجرح الذي يصل إلى الجوف؛ وذلك لأنه ليس لها حدٌّ يَنتهي إليه.
لأنه ليس له حدٌّ ينتهي إليه.
أو قطْع بعض ساعدٍ أو ساقٍ أو عضدٍ أو وَرِكٍ، فإن خالف فاقتص بقدر حقه ولم يَسْرِ؛ وقع الموقعَ ولم يلزمه شيءٌ.
لو افتُرض أن المجني عليه خالف؛ قلنا: ليس لك القصاص؛ لأنه لا يؤمن الحيف، لكن ذهب وخالف ولم يَسرِ القصاص إلى ما هو فوق ذلك؛ فلا شيء عليه.
هذا الكلام الذي ذكره المؤلف بناءً على زمنه، في الزمن السابق: أنه لا يؤمن من الحيف، وأما في وقتنا الحاضر، ومع تقدم الطب ووجود الأجهزة التي يمكن من خلالها الاستيفاء من غير حيفٍ، فنقول: إنه متى ما أمكن الاستيفاء من غير حيفٍ؛ وجب أن يمكَّن المجني عليه من الاستيفاء؛ وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، في وقتنا الحاضر يُمكِن، يحسب بدقةٍ، ويُمكِن الاستيفاء من غير حيفٍ.
إذنْ الأمثلة التي ذكرها المؤلف بناءً على ما هو موجودٌ في زمنه؛ ولذلك طالب العلم ينبغي أن ينتبه، بعض الأخوة ينقل أمثلةً ذكرها المؤلف بناءً على ما هو موجودٌ في زمنه، فما هو موجودٌ في زمنه لا يُمكِن الاستيفاء من غير حيفٍ في الأمثلة التي ذكرها المؤلف، وأما في وقتنا الحاضر فقد أصبح يمكن الاستيفاء بغير حيفٍ في معظم الجنايات، معظم الجنايات يمكن الاستيفاء من غير حيفٍ.
إذنْ المرجع في ذلك إلى الطب، إذا قال الأطباء: إنه يمكن الاستيفاء بغير حيفٍ؛ فيمَكَّن المجني عليه، ولو أن يكون ذلك عن طريق الأطباء، فنفترض: أن هذا كَسَر مثلًا ذراعه، كسر الذراع كان السابقون يقولون: إنه لا يمكن الاستيفاء بغير حيف، فهنا الأطباء بإمكانهم الآن أن يكسروا ذراعه، ولو بإجراء عمليةٍ، ولو عن طريق المنظار، المهم أن يستخدم أي وسيلةٍ، فما دام أنه يمكن الاستيفاء من غير حيفٍ؛ فيمَكَّن المجني عليه من فعله.
الثالث: المساواة في الاسم
قال:
الثالث: المساواة في الاسم.
المساواة في الاسم والموضع، ومثَّل المؤلف لهذا، قال:
فلا تقطع اليد بالرجل وعكسه، وفي الموضع، فلا تقطع اليمين بالشمال وعكسه.
لا تقطع اليد بالرجل، وهذا بالإجماع، وكذلك أيضًا المساواة في الموضع، لا تقطع اليد اليمنى باليد الشمال والعكس، ولا أيضًا تؤخذ العين اليمنى بالعين اليسرى، أو الأذن اليمنى بالأذن اليسرى، أو الخنصر بالبنصر.
الرابع: مراعاة الصحة والكمال
قال:
الرابع: مراعاة الصحة والكمال.
يعني: استواؤهما في الصحة والكمال، ومثَّل لذلك، قال:
فلا تؤخذ كاملة الأصابع أو الأظفار بناقصتها، ولا عينٌ صحيحةٌ بقائمةٍ.
كاملة الأصابع لا تؤخذ بناقصة الأصابع، وكذلك أيضًا يقول: العين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة، ما معنى القائمة؟
“القائمة” يقولون: التي بياضها وسوادها صافيان غير أن صاحبها لا يبصر، يعني: إذا رأيته ترى أن عينه صحيحةٌ لكنه لا يبصر، فقد البصر، يقول: لا تؤخذ عينٌ صحيحةٌ بقائمةٍ.
ولا لسانٌ ناطقٌ بأخرس، ولا صحيحٌ بأشل؛ من يدٍ ورجلٍ وأصبعٍ.
وذلك لعدم الاستواء في الصحة والكمال.
قال:
ولا ذَكَرُ فحلٍ بذكر خصيٍّ.
لعدم الاستواء، ولو تراضَيَا.
ويُؤخَذ مارنٌ صحيحٌ بمارنٍ أشل.
أشل معناه: أخشم، والأخشم الذي لا يَشُم، فلو أن شخصًا قطع أنف آخر، وكان المجني عليه أخشم، يعني: لا يشم، فهل يقطع مارن الصحيح؟
يقول المؤلف: نعم، لماذا؟ لأن أنف الأخشم صحيحٌ، وعدم الرائحة إنما هي لعلةٍ في الدماغ، كونه لا يشم لعلةٍ في الدماغ، لكن أنفه صحيحٌ، فيؤخذ مارنٌ صحيحٌ بمارنٍ أشل أو أخشم.
وأذنٌ صحيحةٌ بإذنٍ شلاء.
يعني: تؤخذ الأذن الصحيحة بالأذن الشلاء؛ للعلة السابقة؛ لأن الأذن الشلاء صحيحةٌ، ونقص السمع إنما هو لعلةٍ في الرأس.
هذا معنى كلام المؤلف رحمه الله.
شروط القِصاص في الجروح
قال:
فصلٌ: ويشترط لجواز القصاص في الجروح.
انتقل المؤلف بعد ذلك للقصاص في الجروح.
طيب لو كان العكس، قبل هذا، لوكان العكس، يعني: هل تؤخذ الشلاء بالصحيحة؟
نعم، إذا رضي المجني عليه تؤخذ، كلامنا في العكس.
ثم قال المؤلف رحمه الله:
فصلٌ
يعني: في القصاص في الجروح.
قال:
ويشترط لجواز القصاص في الجروح.
هل يُقتص في اللطمة وضرب اليد والعصا؟
يعني: شروط، القصاص في الجروح، أو الجراح، والله تعالى قال: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45]، كذلك أيضًا هو كالقصاص في الأطراف، لكن قبل أن نشير لها، هل يقتص في الضرب باليد والعصا والسوط واللطمة ونحو ذلك، أو لا يقتص؟ بناءً على تقعيد الفقهاء الذي ذكرناه قبل قليلٍ، هل يمكن فيها المماثلة من غير حيفٍ؟
إنسانٌ ضرب آخر، لطمه، أو ضربه بعصا، حصل مضاربةٌ، ثم ذهبت للقاضي، أو أن إنسانًا اعتدى على آخر فضربه على رأسه، ثم ذهب المجني عليه وطالب بالقصاص، بناءً على تقعيد المؤلف الذي ذكره من الشروط: “إن كان الاستيفاء من غير حيفٍ”، هل يمكن الاستيفاء من غير حيفٍ؟
لا يمكن، نترك هذا الظالم إذنْ؟ ماذا نعمل به؟ هذا الذي ضربه، أخذ العصا أو لطمه، والمجني عليه قال: أنا أريد القصاص، ما أريد مالًا.
مداخلة:…
الشيخ: نعم؟ لا، كلامنا في القصاص، اتركنا من مسألة التعزير.
المسألة محل خلافٍ؛ الجمهور يقولون: لا قصاص في الضربة، في اللطمة، وفي الضرب، في العصا والسوط ونحوه؛ وعللوا لذلك قالوا: لعدم إمكان الاستيفاء من غير حيفٍ.
والقول الثاني في المسألة: أن القصاص فيها مشروعٌ، وهذا قال ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه المأثور عن الصحابة والتابعين، قال: بل هو نص الإمام أحمد، وجاءت بذلك سنة رسول الله ، وهو الصواب.
وقد قال عمر : إني ما أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم، فو الذي نفسي بيده من فعل لأُقِصَّنَّه، وقد رأيت رسول الله يُقِصُّ من نفسه [5]، رواه أحمد وغيره.
النبي عليه الصلاة والسلام ذَكَر الصحابة، أو تحلل منهم وقال: من أخطأت عليه فليُحَلِّلْني، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فقال رجلٌ: إنك قد ضربتني في بطني، أو غمزت بأصبعك في بطني، فرفع النبي عن إزاره؛ لأجل أن يستوفي، فجعل يقبِّل بطنه عليه الصلاة والسلام، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! [6]؛ فدل ذلك على أنه يُستوفى القصاص في الضرب، وهذا هو المأثور عن الصحابة ، كان عن الخلفاء الراشدين وغيرهم.
وأما القول بأنه لا يمكن الاستيفاء من غير حيفٍ، فغير مُسلَّم، فيمكن المقاربة، مثلًا مقدار الضربة يصفها الشهود، ويقولون مثلًا: إنها ضربةٌ شديدةٌ، أو ضربةٌ متوسطةٌ، أو ضربةٌ خفيفةٌ، فيمكن المقاربة فيها، أما أن يترك هذا الجاني ويقال للمجني عليه: ما لك شيءٌ؛ فهذا يتصادم مع قواعد الشريعة وأصول الشريعة، كيف يضرب الناس هذا ولا يُستوفى منه؟!
فالمأثور عن الصحابة والتابعين هو الاستيفاء في الضرب، ويكون ذلك -كما ذكرنا- بالمقاربة، ويكون ذلك بحضرة السلطان أو نائبه، يقال للمجني عليه: انتبه! لا تزد على هذا، اضربه بهذا الوصف الذي ضربك به، إن زدت نحن نستوفي منك القدر الزائد، يكون هذا بحضرة السلطان؛ وبالتالي يؤمَن من الحيف.
أما مسألة المطابقة (100%) لا يشترط، تكون المسألة مسألة مقاربةٍ، وليس مسألة مطابقةٍ تمامًا؛ لأنه أيضًا القول بألا يمكَّن المضروب من الاستيفاء من الضارب، -كما ذكرنا- تصادمٌ مع أصول الشريعة وقواعد الشريعة، كيف هذا يضرب الناس ثم لا يُمكَّن المضروب من استيفائه؟
فالقول الصحيح: هو قول الإمام ابن تيمية رحمه الله وجمعٍ المحققين من أهل العلم، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين، وهو مشروعية استيفاء القصاص في الضرب واللطم ونحو ذلك.
هل يجوز استيفاء القصاص بالسب؟
طيب، استيفاء القصاص بالسب هل يجوز؟ إنسانٌ سب آخر، هل يجوز له أن يسبه مثلما سبه؟
مداخلة:…
الشيخ: يجوز، نص الحديث، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: المستبَّانِ ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتدِ المظلوم [7]، رواه مسلمٌ.
ما معنى هذا الحديث؟
يعني: لو استبَّ اثنان؛ الإثم كله على البادئ، بشرط: ما لم يعتد المظلوم، فلو أنه سبه، فسبه بمثل ما سبه؛ يجوز: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، وإن كان الأفضل أنه لا يسبه، الأفضل أنه إما أن يُعرِض عنه، هذه الدرجة الأولى، الدرجة الثانية: يحسن إليه، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، لكن هذه خصلةٌ تحتاج إلى صبرٍ؛ ولهذا قال: وَمَا يُلَقَّاهَا، يعني: هذه الخصلة، وهي دفع السيئة بالحسنة، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، يعني: بنصيبٍ وافرٍ من الأخلاق الحسنة.
إذنْ يجوز أن تسب من سبك بمثل ما سبك، لكن لو أنه لما سبك؛ سببته وسببت والديه، هل يجوز؟ لا يجوز، هذا معنى قوله: ما لم يعتدِ المظلوم.
لو كان السباب بصيغة اللعن، هل يجوز؟ إنسانٌ قال: يا أخي، لعنك الله! هل يجوز أن يقول: بل لعنك الله أنت، أو لا يجوز؟
نعم، يجوز، حتى بصيغة اللعن؟
مداخلة:…
الشيخ: نعم؟ لا يجوز؟ لماذا؟
مداخلة:…
الشيخ: طيب هذا هو الذي بدأ، طيب هناك رأيٌ آخر؟
مداخلة:…
الشيخ: يجوز؟ لماذا؟
مداخلة:…
الشيخ: القول الصحيح أنه يجوز، والإثم كله على البادئ، المعتدى عليه هذا ما عليه إثمٌ، شرط أنه لا يزيد، وهذا أيضًا قد نص عليه شيخ الإسلام تيمية رحمه الله في “السياسة الشرعية”، حيث قال: إنه إذا لعنه له أن يلعنه مثلما لعنه، كذلك سمعت من شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، قال: إذا قال شخصٌ لآخر: لعنك الله، فله أن يقول: بل لعنك الله أنت، وسمعت كذلك أيضًا الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله نص أيضًا على هذا.
فالإثم كله على البادئ؛ لأن هذا هو معنى السِّبَاب، السباب معناه: اللعن، فالحديث: المستبَّان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتدِ المظلوم، فهذا الشخص الذي قد سب إنما قابل السباب بمثله، والإثم كله يتحمله البادي، بشرط أن من سُب لا يزيد، يعني لما قال: لعنك الله، له أن يقول: لعنك الله أنت، لكن لا يزيد على ذلك، وإن كان الأفضل والأولى والأحسن: أنه لا يقابل السباب بمثله، بل يُعرض عن الجاهلين، والأحسن من هذا كله: أن يدفع بالتي هي أحسن، لكن كلامنا نحن الآن نقرر أحكامًا شرعيةً، قال شخصٌ: أنا أريد أن آخذ بالجائز، ما دام أنه يجوز لي؛ فأريد أن أسبه بمثل ما سبني، نقول: يجوز لك، لكن انتبه! لا تزد، إذا رماه في عرضه فالشارع جعل له مخرجًا: وهو أن يطالب بحد القذف إذا كان زنًا، أو التعزير إذا كان بغير الزنا.
نعم، يعني قذفه مثلًا بالزنا، هل يقذفه بالزنا مثلما قذفه؟ الذي يظهر أن له مخرجًا شرعيًّا، حتى لو لم يوجد شهودٌ؛ يطالب بإقامة حد القذف عليه، فإن لم يجد بينةً يطالب بتحليفه، وإذا حلف وهو كاذبٌ فالغالب أن العقوبة تكون معجلةً.
طيب القصاص في الجروح، قال المؤلف:
يشترط لجواز القصاص في الجروح: انتهاؤها إلى عظمٍ.
لا بد أن تنتهي إلى عظمٍ، ومثَّل المؤلف لذلك بأمثلةٍ فقال:
كجرح العضد والساعد والفخذ والساق والقدم.
العضد، ما هو العضد؟ العضد: هو ما بين الكتف والمرفق، هذا العضد.
قال: “والساعد”، الساعد، هذا هو الساعد، الذي هو أحد العظمين في الذراع.
“والفخذ” معروفةٌ، “والساق والقدم”، فهذه كلها تنتهي إلى عظمٍ.
وكالمُوضِحة.
الموضحة من أنواع الجراح، وسنتكلم -إن شاء الله- عنها في الدرس القادم بالتفصيل.
“الموضحة”: هي التي توضح العظم وتبرزه، فهذه يُستوفى فيها القصاص.
والهاشمة.
يعني: التي تهشم العظم.
والمُنَقِّلة.
التي تنقل العظم.
والمأمومة.
التي تصل إلى جلدة الدماغ، هذه من أنواع الشِّجَاج، وسأتكلم عنها -إن شاء الله- في الدرس القادم.
هذه كلها يمكن الاستيفاء في الجروح من غير حيفٍ.
أما إذا لم يمكن استيفاء الجراح من غير حيفٍ؛ فإنه لا يُستوفى جرحٌ حينئذٍ، وهذا بناءً -كما ذكرنا- على كلام المؤلف، أنه في زمن المؤلف، لا يمكن الاستيفاء من غير حيفٍ، وأما في وقتنا الحاضر، فمعظم الجروح يمكن الاستيفاء فيها من غير حيفٍ، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
أنا أسألكم الآن سؤالًا: القصاص فيما دون النفس، هل هو الآن كثيرٌ أو قليلٌ في المجتمع؟ قليلٌ، لماذا قليلٌ؟ مع كثرة الجنايات، لكن قلَّ أن نسمع أن إنسانًا استوفى من آخر، فما هو السبب؟
مداخلة:…
الشيخ: لا، القضاء..، لو طالب الإنسان بحقه؛ يمكَّن، القضاء عندنا -الحمد لله- قضاءٌ بالشريعة، القاضي ليس عليه سلطةٌ، إذا أتى إنسانٌ مجنيٌّ عليه وطالب بحقه؛ فالأصل أنه يُمكَّن.
مداخلة:…
الشيخ: نعم، أحسنت، جهل الناس بحقوقهم، كثيرٌ من المجني عليهم يظن أن الحق فقط مالٌ، تعويضٌ ماليٌّ، ولا يَعرف أن له المطالبة بالقصاص، فضعف ثقافة الحقوق لدى كثيرٍ من الناس هي السبب الرئيس في ذلك؛ ولذلك القاضي ينبغي أن يفهم، القاضي مباشرةً يقول: نعوضك بمبلغٍ ماليٍّ قدره كذا، ينبغي أن يُبيِّن الحق الذي له، حقك: إما كذا، وإما كذا، وإن عفوت فهو أفضل.
مداخلة:…
الشيخ: نعم، لكن أيضًا لا بد أن يَعرف الحق الذي له، كثيرٌ من الناس يجهلون الحقوق التي لهم.
فالسبب فيما يظهر -والله أعلم- أن السبب الرئيس: هو الجهل بالحقوق، يظن هذا المجني عليه أنه ليس له إلا تعويضٌ ماليٌّ فقط، له الحق في أن يستوفي، فينبغي على الأقل أن يبيَّن الحق الذي له: حقك كذا وكذا، وإن عفوت فهو أفضل، ويُحث على العفو، أما أنه يأتي ويظن أنه ليس له إلا تعويضٌ ماليٌّ، هذا غير صحيحٍ؛ ولهذا قلَّ أن نسمع أن أحدًا طالب بقصاصٍ فيما دون النفس، كان قديمًا مطبقًا بكثرةٍ، لكن وقتنا الحاضر ربما بسبب أن كثيرًا من الناس يجهلون مثل هذه المسائل، مع أن تطبيقها في الوقت الحاضر أيسر بكثيرٍ من الوقت السابق، الآن عن طريق المستشفيات، يطالب بحقه ويحول للمستشفى، كما ذكرنا، الأمثلة التي كانت من الفقهاء يذكرون أنها لا يمكن فيها الاستيفاء بغير حيفٍ، في وقتنا الحاضر أمكن الاستيفاء فيها من غير حيفٍ، لكن مع ذلك ربما أن كثيرًا من الناس يجهلون الحق الذي لهم؛ ولذلك ينبغي أن يُعْلَموا بأن هذا حقٌّ لهم، وأن الأفضل هو العفو.
حكم سِراية القصاص والجناية
قال المؤلف:
وسراية القصاص هدرٌ، وسراية الجناية مضمونةٌ.
الفقهاء يُفرِّقون بين سراية القصاص وسراية الجناية، فما معنى سراية القصاص، وما معنى سراية الجناية؟
السراية أولًا معناها: هي أن ينتقل الشيء من مكانٍ إلى آخر، فيسري الجرح من مكانٍ إلى مكانٍ آخر ويتسع، فيقول المؤلف: إن سراية القصاص هدرٌ، فلو أن شخصًا اُعتدي عليه، ومُكن من القصاص فيما دون النفس، اعتدي عليه مثلًا بجرحٍ، كان الجرح موضحةً، مُكِّن بأن يَستوفي، لمَّا استوفى من الجاني؛ كان الجاني مثلًا عنده مرض السكر، انتقل هذا الجرح من مكان الاستيفاء إلى غيره؛ فتسبب هذا في قطع يده أو رجله، فهل هذه السراية مضمونةٌ؟
سراية القصاص غير مضمونةٍ؛ وذلك لأن ما ترتب على المأذون فليس بمضمونٍ، هذه قاعدةٌ عند أهل العلم: “أن ما ترتب على المأذون فإنه غير مضمونٍ”.
أما سراية الجناية: فإنها مضمونةٌ، فلو أن شخصًا قطع أصبعًا من آخر، ثم سرت الجناية من المجني عليه -هذا الأصبع- إلى اليد، كان المجني عليه مثلًا به سكَّرٌ، فأصابته غرغرينةٌ، فتسبب ذلك في قطع رجله، فعندما يستوفى من الجاني بقطع أصبعه؟ أو بقطع رجله؟ بقطع رجله؛ لأن سراية القصاص مضمونةٌ؛ وذلك لأنه ما ترتب على غير المأذون فهو مضمونٌ.
إذنْ عندنا قاعدةٌ: “ما ترتب على المأذون فليس بمضمونٍ، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمونٌ”، فالقصاص مأذونٌ فيه؛ فما ترتب عليه غير مضمونٍ، وأما الجناية فإنه غير مأذونٍ فيها؛ فما ترتب عليها فإنه مضمونٌ.
هذا معنى قول المؤلف: “سراية القصاص هدرٌ، وسراية الجناية مضمونةٌ”.
قال:
ما لم يقتص ربها قبل برئه، فهدرٌ.
يعني: لو أن المجني عليه طالب بالقصاص، قلنا له: انتظر حتى تبرأ، قال: لا، أنا ما أنتظر، فقام واقتص من الجاني قبل أن يبرأ جرحه، ثم لما اقتص سرت الجناية؛ نفترض مثلًا: أن الجناية كانت قطع أصبعٍ، قلنا: انتظر حتى يبرأ الأصبع، قال: لا، ما انتظر، قام وقطع أصبع الجاني، ثم بعد أيامٍ سرت جناية هذا المجني عليه، فقطعت رجله، فيقول المؤلف: إن هذه السراية هدرٌ، إنها غير مضمونةٍ؛ وذلك لأنه باقتصاصه قبل البرء قد استعجل ما ليس له استعجاله، فبطل حقه، كقاتل مورثه، والقاعدة الفقهية: “أن من استعجل شيئًا قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه”.
ويذكر بعض الفقهاء حديثًا في هذا عن النبي مذكورًا في كثيرٍ من كتب الفقه، وهو حديثٌ ضعيفٌ من جهة الإسناد، لكن ننبه عليه لضعفه، وهو حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده: أن رجلًا طُعن بقرنٍ في ركبته، فجاء إلى النبي فقال: أَقِدْني، قال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه، وقال: يا رسول الله، قد عَرِجتُ، يعني أصابه عرجٌ، فقال : قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وأبطل عرجك! [8]، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، وأخرجه الدارقطني لكنه ضعيفٌ؛ ولهذا ضعفه الدارقطني وجماعةٌ، وصححه بعض المتأخرين؛ كالشيخ الألباني، لكن الصواب أنه ضعيفٌ، والذي عليه الأئمة أن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ.
لكن المعنى الذي قرره المؤلف معنًى صحيحٌ؛ فإن من استعجل شيئًا قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه، يعني: حتى مع ضعف الحديث، فالمعنى الذي قرره المؤلف معنًى صحيحٌ.
بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن مسائل وأحكام القصاص.
ونقف عند “كتاب الديات”، نشرحه -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم، الاثنين بعد القادم إن شاء الله تعالى.
وما تبقى من وقتٍ نجيب عن الأسئلة.
ونبدأ أولًا بالأسئلة المكتوبة، ثم الأسئلة الشفهية.
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم يا شيخ، يسأل عن حكم استعمال البَنْج في القصاص اليوم؟
الجواب: هذا سؤالٌ جيدٌ، حكم استعمال البنج في القصاص، وحكم استعمال البنج في الحدود.
أما استعمال البنج في القصاص: إذا كان في القصاص فيما دون النفس؛ فالأمر راجعٌ إلى المجني عليه؛ إن أذن فلا بأس، إن لم يأذن فلا؛ لأن الحق للمجني عليه، فلو أن شخصًا قطع أصبع آخر، فأراد المجني عليه أن يقطع أصبعه، فقيل له: لو استُخدم البنج، رضي وقال: المهم أن أصبعه تقطع، ما عندي مانعٌ أن يستخدم البنج، نقول: لا بأس، وإن قال: لا، أنا لا أرضى، أريد أن يذوق الألم الذي ذقته؛ فإذنْ لا يجوز استعمال البنج في هذه الحالة.
ففي القصاص إذنْ: الأمر راجعٌ إلى إذنِ المجني عليه، القصاص فيما دون النفس، وفي القصاص في النفس أيضًا راجعٌ إلى الأولياء.
أما في الحدود؛ مثل حد السرقة: هل يجوز استعمال البنج عندما يراد قطع يد السارق؛ حتى لا يتألم، أو لا يجوز؟
القصاص الأمر فيه واضحٌ، قلنا: الأمر يرجع للمجني عليه، لكن في الحدود؛ كحد السرقة مثلًا، لو قال قائلٌ: لماذا لا يستخدم البنج عند قطع يد السارق؟ نقول: هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ وإنما المقصود ما هو؟
طيب دعونا -يا إخواني- نفهم مقصد الشريعة في قطع يد السارق، يا إخواني، فهم مقاصد الشريعة مهمٌّ جدًّا لطالب العلم، مهمٌّ جدًّا في الترجيح، مهمٌّ جدًّا في معرفة مثل هذه المسائل.
ما هو مقصود الشارع بقطع يد السارق؟ هل مقصود الشارع هو الألم، أو مقصود الشارع أن تبقى يد السارق مقطوعةً فيراها الناس فيرتدعوا؟
الثاني، إذنْ ليس الألم مقصودًا، إنما المقصود هو القطع، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، وقد دُرس هذا الموضوع في مجلس “هيئة كبار العلماء”، وصدر قرارٌ بأنه يجوز استعمال البنج عند قطع السرقة، وبالنسبة للقصاص يرجع إلى إذنِ المجني عليه.
فإذنْ بالنسبة للسرقة: لا بأس باستخدام البنج، لا مانع، لكن هل يجوز إعادة اليد المقطوعة إلى صاحبها؟
الآن بالإمكان إعادة الأعضاء بعمليةٍ جراحيةٍ، لو قال من يراد قطع يده في السرقة: أنا أريد أن أعيدها بعمليةٍ جراحيةٍ، هل يمكن؟
نقول: لا؛ لأن هذا ينافي مقصود الشارع، مقصود الشارع: أن تبقى يده مقطوعةً، فإذا رأى الناس هذا الإنسان قطعت يده في سرقة؛ كان هذا أبلغ ما يكون في الردع والزجر، وقطع يد السارق تحقق مصالح عظيمةً؛ من أمن المجتمع، وقلة السرقات، لكن الآن مع كثرة السرقات لماذا لا تقطع أيدي السراق؟
مداخلة:…
الشيخ: طيب، نعم؟ لماذا لا تستوعب الشروط؟ يعني: الجهات التنفيذية في “وزارة الداخلية” تنفي أنها لا تنفذ أي حكمٍ في الحدود، تقول: أبدًا، أي حكمٍ يَحكم به القضاة في الحدود والقصاص ننفذه، فلمَّا رجعنا للمسألة؛ وجدنا بالفعل أن هذا الكلام صحيحٌ، وأن المشكلة قضائيةٌ، وليست تنفيذيةً، السبب في الحقيقة يرجع إلى أمرين:
- الأمر الأول: قبول رجوع المقر في السرقة، قال ابن تيمية رحمة الله عليه: إذا قُبل رجوع المقر في الحدود؛ فلا يقام حد، خاصةً في زمننا هذا، إنسانٌ تجرأ على السرقة سينكر اعترافه وإقراره؛ ولذلك ذهب الإمام مالكٌ، واختاره الإمام ابن تيمية، واختاره الشيخ ابن عثيمين: أنه لا يقبل رجوع المقر في الحدود، إلا إذا كان ثَم شبهةٌ، إنسانٌ يقبض عليه متلبسًا بالسرقة، ويعترف، ثم إذا أتى عند القاضي رجع، معنى ذلك: أنه لن يُقام حد السرقة بهذه الطريقة؛ فلذلك الصحيح: أنه لا يقبل رجوع المقر.
- الأمر الثاني: التوسع في درء الحدود بالشبهة، ادرءوا الحدود بالشبهات [9]، الحديث ضعيفٌ، لكن معناه صحيحٌ، لكن الشبهة المؤثرة ليست أي شبهةٍ، التوسع في درء الحدود بالشبهة أدى إلى تعطيل الحدود، والنبي أمر بقطع يد الذي أخذ رداء صفوان، لما كان صفوان نائمًا على رداءٍ فأتى أحد الناس وأخذ الرداء فقبض عليه؛ أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن تقطع يده في الحال، قال صفوان: تقطعون يده من أجل رداءٍ؟! هو له صدقةٌ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: هلا كان قبل أن تأتيني به [10]، ثم أمر بقطع يده، ما قال عليه الصلاة والسلام: شبهةٌ.
لو عرضت مثل هذه المسألة في وقتنا الحاضر: أتقطع يد الإنسان لأجل سرقة شماغٍ أو غترةٍ، الآن ربما السيارة تسرق وهي أمام البيت، ومع ذلك يقول: ليس بحرزٍ، هذا غير صحيحٍ، إذا كان مجرد أن الرداء الذي ينام عليه الإنسان هو حرزٌ له؛ فكيف بالسيارة المقفلة عند الباب؟ لا شك أن هذا حرزٌ؛ ولهذا التوسع في درء الحدود بالشبهة أيضًا تسبب في تعطيل الحدود، ربما الآن الذي يقام: حد الحرابة فقط، بينما حد الزنا، حد السرقة، هذه الآن لا تقام، صارت مشكلةً عند القضاة، مشكلةً قضائيةً بحتةً، وليست تنفيذيةً.
فمثل هذه الأمور ينبغي التنبه والتنبيه عليها، إذا كان بعض الإخوة من الإخوة القضاة أو الملازمين ينتبهون لهذه المسائل، وينبهون أيضًا زملائهم القضاة لمثل هذه المسائل؛ لأنه في الحقيقة لو قطعت يد السارق لكانت المملكة هي أفضل بلدٍ في العالم في الأمن، نموذج، إذا كان الآن في بعض الدول القريبة -مع الصرامة في السجن وفي الجلد، وفي بعض الإجراءات- نجد عندهم أمنًا، فما بالك لو كانت هذه الإجراءات قطع يدٍ؟! سترى أمنًا عجيبًا، هذه هي الحكمة من قطع يد السارق، هو الردع والزجر، عندما يرى الناس أن هذا الإنسان قطعت يده في سرقة؛ فسيكون هذا أكبر رادعٍ للسُّرَّاق.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول:…؟
الجواب: أما بالنسبة للقصاص في النفس: فالأصل أنهم مخيرون بين ثلاثة أمورٍ فقط، وليس لهم أن يعدلوا إلى غيرها: إما القتل، وإما العفو إلى الدية، وإما العفو مجانًا، ولهم أيضًا أن يطلبوا صلحًا أكثر من الدية، أما أن يطلبوا شيئًا آخر؛ كقطع يده أو رجله، فالذي يظهر أنهم لا يمكَّنون من ذلك، إما أن يَقتلوا، وإما أن يطلبوا الدية، أو الصلح، أو العفو مجانًا.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: ما المقصود بـ: “من وقع موقعه”؟
“وقع موقعه” يعني: أنه حصل استيفاء القصاص، لكنه يعزر بافتياته على السلطان، يعني إنسانٌ مثلًا قتل قريب آخر، قام ابن المقتول فذهب وقتل القاتل، هل يقتل؟ لا يقتل، وقع موقعه، لكن هذا نقول لابن المقتول: يعزر؛ لأنه افتات على السلطان، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، ينبغي أن يذهب ويرفع فيه شكايةً ويستوفى منه عن طريق السلطان، لكن مع ذلك لا يُقتل؛ لأنه وقع موقعه.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا سائل يقول: ما الفرق بين القتل عمدًا، والقتل خطأً، وشبه العمد؟
الجواب: تكلمنا عن هذا في الدرس السابق، والأخ السائل لم يحضر، وقلنا: إن القتل العمد: يختلف عن القتل خطأً وشبه العمد في القصد الجنائي وفي الآلة، فيشترك القتل العمد وشبه العمد في القصد، لكن العمد عن عدوانٍ، وشبه العمد ليس عن عدوانٍ، ونعرف كونه عن عدوانٍ أو ليس عن عدوانٍ بالآلة؛ إذا كانت الآلة تقتل غالبًا؛ فهو عدوانٌ، وإذا كانت الآلة لا تقتل غالبًا؛ فهو قتلٌ شبه عمدٍ، إذا كان الفعل ليس مقصودًا فيه القتل؛ كأن يقصد صيدًا، أو مثل حوادث السيارات، أو نحوها؛ فهذا يعتبر من قبيل قتل الخطأ، فتكلمنا في الدرس السابق بالتفصيل عن التفريق بين أقسام القتل، والأثر المترتب على كلٍّ منها.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا سائلٌ يقول:…؟
الجواب: هذا ذكرناه في الشرح، وقلنا: نعم أنه إذا أراد أن يقتله؛ فليدفع دية ما فعل للجاني.
السؤال: أحسن الله إليكم يا شيخ،….؟
الجواب: التحقيق على كل حالٍ: الأخطاء التي فيه يسيرةٌ، ليس بأخطاءٍ كثيرةٍ، هناك تحقيقٌ نظر الفريابي، يعني تحقيقٌ جيدٌ، “دليل الطالب” هو نظر الفريابي، ومن أفضل شروح “منار السبيل”: “عمدة الطالب” للبَهُوتي، ما يحضرني الآن أفضل طبعة، لكنه موجودٌ، وهو على المذهب، هو يقرر المذهب عند الحنابلة.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: ما معنى أن الإمام أحمد له روايةٌ في المذهب، وكيف يكون ذلك؟
الجواب: الإمام أحمد له في معظم المسائل الخلافية أكثر من روايةٍ، أحيانًا تصل لسبع رواياتٍ، أحيانًا ثمان رواياتٍ، والسبب في كثرة الروايات عند الإمام أحمد: لذلك عدة أسبابٍ:
- أولًا: قيل: إنه يَحكي أقوال الصحابة فتُنقل على أنها رواياتٌ عنه.
- ثانيًا: أن عنده ورعًا عظيمًا؛ فأحيانًا لا يجزم، يحكي أقوالًا فتُنقل على أنها رواياتٌ عنه.
- كذلك أيضًا كثرة تلامذته؛ فبعضهم ينقل قولًا، ثم بعد مدةٍ يَنقل عنه آخرون قولًا؛ فلذلك الإمام أحمد يكون عنه أكثر من روايةٍ في معظم المسائل الخلافية.
الأئمة الآخرون أيضًا قد يوجد عنهم أكثر من روايةٍ: أبو حنيفة ومالك والشافعي، لكن الذي اشتهر بكثرة الروايات عنه: هو الإمام أحمد.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم، سائلٌ يقول: إذا كان الصغير يُحبس؛ فلا معنى للحديث: رفع القلم عن ثلاثةٍ..؟ [11].
ليس معنى الصغير يحبس، المعنى: الجاني يحبس حتى يبلغ الصغير، هذا هو المقصود، ليس المقصود: أن الصغير يحبس، يعني إذا كان السائل يقصد مسألةً شرحناها: أن الجاني -يعني القاتل- يحبس حتى يبلغ الصغير، يعني إنسانٌ قتل آخر، وهذا المقتول له أولادٌ صغارٌ، فنقول: يحبس القاتل حتى يكبر الأولاد الصغار ويبلغوا، هذا هو المقصود، وليس المعنى: أن الصغير نفسه يحبس.
مداخلة:…
الشيخ: ليس للحاكم أن يفرض القصاص وقد عفوا، هذا لا يجوز، هذا من تغيير حكم الله تعالى، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي أن القضاة يرون أنه حدٌّ وليس قصاصًا، هذا يحصل أحيانًا، يرى القضاة أنه مثلًا قتل غيلةٍ، يعتبرونه حدًّا، لا يُرجع فيه لأولياء الدم، قتل غيلةٍ، أن يتغافل فيقتله، يأتي مثلًا وهو نائمٌ ويقتله، أو يذهب به يخدعه، يذهب به إلى مكانٍ بعيدٍ ثم يقتله، فهذا يقتل حدًّا لا قصاصًا، أو أن القضاة يرون أنه حد حرابةٍ؛ لبشاعة الجريمة، فهذا لا يُرجع فيه للأولياء الدم، أو يرون أنه قُتل تعزيرًا، كذلك لا يُرجع في لأولياء الدم.
أما إذا كان قصاصًا؛ فالمرجع فيه له لأولياء الدم؛ ولذلك في الأحكام القضائية، في أحكام القتل التي تعلن، لاحِظ نوع القتل؛ أحيانًا يقولون: قصاصًا، وأحيانًا يقولون: تعزيرًا، وأحيانًا حدًّا، فبينها كلها فرقٌ، كل مصطلحٍ له مدلولٌ، القصاص المرجع فيه لأولياء الدم، لو عفى ولو واحدٌ منهم؛ سقط، حدًّا، قد يكون حد غيلةٍ، قد يكون حد حرابةٍ، هذا لا يُرجع فيه لإذن أولياء الدم، تعزيرًا، الذي عليه الجمهور: أنه لا يزاد في التعزير على عشر جلداتٍ، القول الثاني: قول الإمام ابن تيمية أنه قد يصل التعزير إلى القتل، هذا مؤخرًا أصبح الذي عليه العمل، وإلا كان قديمًا لا يُعمل به، لكن مؤخرًا أصبح عليه العمل؛ بناءً على قرار “هيئة كبار العلماء” في الأخذ به، فأصبح القتل تعزيرًا.
وإن شاء الله نبحث هذه في باب التعزير، فإذنْ يكون بحسب طبيعة الحكم القضائي، بعض العامة يعتقده تعزيرًا، أنه يعذب ويعزر، غير صحيحٍ، هذا المقصود به نوع القتل هذا، هل هو قصاصٌ؟ هل هو حدٌّ؟ هل هو تعزيرٌ؟ هذا هو المقصود؟
السؤال:…؟
الجواب: هدرٌ، نعم، استعجل، لأن الأصل: أن المجني عليه لا يستوفي إلا بعد برء الجرح احتياطًا؛ لأنه قد تسري الجناية، فنحن نقول: انتظر حتى تبرأ، فإذا قال: أنا ما أريد أن انتظر؛ نقول: إذنْ لو صارت الجناية فهدرٌ، لك الحق أنك الآن تفعل بالجاني مثل ما فعل بك، لكن ليس لك الحق في المطالبة بالسراية.
السؤال: هل عليه دليلٌ؟
الجواب: عليه، الحديث الذي ذكرنا وهو حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده، حديثٌ ضعيفٌ، لكن قالوا: من جهة المعنى أنه إذا طالب بالقصاص؛ فمعنى ذلك أنه استوفى حقه، فمعنى ذلك السراية هدرٌ، السراية المترتبة على ذلك هدرٌ.
نحن قلنا في الدرس السابق: إن عمد الصبي والمجنون خطأٌ، والخطأ يترتب عليه الدية والكفارة، وتكون الدية على العاقلة أيضًا.
السؤال:…؟
الجواب: نعم، هذا السؤال جيدٌ، لو مثلًا أراد ولي الدم أن يزيد، قال: أنا لا أريد..، الآن الدية رُفعت لثلاثمئة ألفٍ للخطأ، وأربعمئة ألفٍ لشبه العمد، لو قال ولي الدم: أنا أريد عشرة ملايين، وإلا أُطالِب بالقصاص، نقول: له ذلك، لو قال: خمسين مليونًا، له ذلك، ما نستطيع أنا نمنعه؛ لأنه يقول: إما خمسين مليونًا، وإلا أريد القصاص؛ ولذلك قبل سنواتٍ حصل توجيهٌ -فقط إرشادٌ- أنها لا تزيد عن خمسمئة ألفٍ -الصلح- لكن أيضًا ما نملك أن نمنع الناس من هذا، نقول للإنسان: أنت في سعةٍ من أمرك، لماذا يَقتل القاتل؟ إذا قَتل يتحمل، هو الذي أوقع نفسه في الحرج، أما القول: لماذا يزايدون في الصلح، ويبالغون في الصلح؟ نقول أيضًا: لماذا تقتل أنت أصلًا؟! فتكون هذه المزايدة أكبر رادعٍ لهؤلاء الذين يتعجلون في القتل، أحيانًا يكون سبب القتل أمرًا تافهًا، لحظة غضبٍ.
فلا حد للصلح؛ لأن ولي الدم يقول: أنا أريد قصاصًا، أو أريد خمسين مليونًا، لا نستطيع أن نمنعه، فنقول لهذا القاتل -العاقلة لا تتحمل العمد- نقول لهذا القاتل: إما أن تدفع له ما أراد، وإلا يقتص منك.
السؤال:…؟
الجواب: نعم، إذا لم يكن من أولياء دم المقتول؛ فيُقتص منه، أما بالنسبة له القتل محرمٌ عليه، هذا هو الأصل في هذا، اللهم إلا الذي لا يقتص منه، إذا كان الزاني المحصن أو المرتد، هذا الذي ذكر العلماء أنه يعزَّر لافتياته على السلطان، أما بالنسبة للقصاص فالحق لأولياء الدم خاصةً وليس لغيرهم، بالنسبة لغيرهم يقال: محرمٌ.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 1955. |
---|---|
^2 | رواه ابن ماجه: 2667، والبيهقي في السنن الكبرى: 16089. |
^3 | رواه البخاري: 5295، ومسلم: 1672. |
^4 | رواه أبو داود: 2673، وأحمد: 16034. |
^5 | رواه أبو داود: 4537، وأحمد: 286، والحاكم في المستدرك: 8356، والبيهقي في السنن الكبرى: 16017. |
^6 | رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة: 3133، بنحوه. |
^7 | رواه مسلم: 2587. |
^8 | رواه أحمد: 7034، والدارقطني: 3114، والبيهقي في السنن الكبرى: 16115. |
^9 | رواه الترمذي: 1424، بنحوه. |
^10 | رواه أبو داود: 4394، والنسائي: 4883، وأحمد: 15303. |
^11 | رواه أبو داود: 4398، وابن ماجه: 2041. |