logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(95) باب الحضانة- من قوله: “وهي حفظ الطفل غالبًا عما يضره..”

(95) باب الحضانة- من قوله: “وهي حفظ الطفل غالبًا عما يضره..”

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى:

باب الحضانة

باب الحضانة.

تعريف الحضانة

الحضانة مأخوذة من الحِضن، والحِضن: هو الجنب؛ وذلك لأن المُربِّي يضمُّ الطفل إلى حضنه. والحضانة: هي مصدر حضنت الصغير حضانة.

ومعناها اصطلاحًا، عرفها المؤلف قال:

وهي: حفظ الطفل غالبًا عما يضره، والقيام بمصالحه.

(حفظ الطفل عما يضره والقيام بمصالحه)، فهي تشمل أمرين:

  • أولًا: حفظه عن الضرر.
  • ثانيًا: القيام بمصالحه.

ومثَّل المؤلف للقيام بمصالحه قال:

كغسل رأسه وثيابه، ودَهنه وتكحيله، وربطه في المهد ونحوه، وتحريكه لينام.

هذه أمثلة، لكن نستطيع أن نقول بعبارة: “القيام بكل ما يُصلحه”، من غير أن نتقيَّد بهذه الأمثلة.

مثلًا: “تكحيله” لا يدخل في وقتنا الحاضر في هذا، تكحيل هذا الطفل لا يدخل في حضانته؛ لأن هذا يرجع للعرف، فيبدو أن في عُرف المؤلف كان يُفعل بالأطفال هكذا.

لكن، نقول بعبارة عامة: القيام بكل ما يُصلحه، بكل ما يُصلح شؤون هذا الطفل. والحضانة معروفة، وهي أشهر من أن تُعرَّف.

تقديم الأم في الحضانة وإنْ طلبت الأجرة

قال:

والأحق بها: الأم.

أحق الناس بحضانة الطفل: أمه؛ لقول النبي : أنتِ أحقُّ به، ما لم تَنكِحي[1]؛ وذلك أن امرأة أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثَدْيِي له سِقَاء، وحِجْري له حِوَاء، وإن أباه طلَّقني، وأراد أن ينتزعه مني! فقال لها النبي : أنتِ أحق به، ما لم تَنكِحي. أخرجه أبو داود –والترمذي والنسائي وابن ماجه- وأحمد، وهو حديث صحيح، قال ابن الملقن في “البدر المنير”: “إنه حديث صحيح”[2].

فدلَّ هذا على أنَّ الأمَّ هي أحق الناس بحضانة الطفل، وهذا قول عامة أهل العلم، والذي عليه المذاهب الأربعة.

قال الموفق ابن قدامة: “ولا نعلم أحدًا خالفهم”، وقال الوزير ابن هُبَيرة: “اتفقوا على أن الحضانة للأم ما لم تتزوج”.

هذه المسألة إذن محل اتفاق: أنَّ أحقَّ الناس بحضانة الطفل هي أمه؛ لأنه لا أحد أكثر شفقة وحنانًا ورحمة وعناية بهذا الطفل من أمه.

ولكن المؤلف هنا قال:

ولو بأجرةِ مِثْلِها مع وجودِ متبرعة.

يعني: لو رفضت الأمُّ حضانتَه إلا بأجر، قالت: أنا ما أقبل حضانة هذا الطفل وأقوم على مصالحه إلا تعطوني راتبًا مثلًا، أو أجرة. فيقول المؤلف: إن لها ذلك. ظاهر كلام المؤلف: أن لها ذلك، حتى مع وجود متبرعة.

وهذه المسألة مرت معنا في (كتاب الرضاع)؛ يعني: مرت مسألة شبيهة بها: وهي أن الأم إذا طلبت أجرة على رضاع ولدها، فهل لها ذلك؟ مَن يذكِّرنا بما قلناه في هذه المسألة؟ تكلمنا عنها في (كتاب الرضاع)، يمكن قبل درسين أو ثلاثة: الأم إذا طلبت أجرةً على رضاع ولدها، قالت: أنا ما أرضع الولد إلا بأجرة.

مداخلة: …..

الشيخ: أولًا: المذهب عند الحنابلة: أن لها ذلك مطلقًا؛ لقول الله : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، وذكرنا القول الثاني، وهو قول الإمام ابن تيمية رحمه الله: وهو التفصيل، من يُذكِّرنا بالتفصيل؟

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، أحسنت.

هذا هو القول الصحيح، القول بالتفصيل، فإذا كانت في حبال الزوج فيلزمها أن تُرضعه مجانًا، ولها فقط النفقة، أما إذا كانت ليست في حبال الزوج، يعني: طلَّقها زوجها، فلها أن تطلب أجرة.

وبذلك يحصل الجمع بين قول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ [البقرة:233]، فتُحمل على ما إذا كانت في عصمة الزوج وفي حباله، وبين قول الله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، فتُحمل على ما إذا كانت ليست في عصمة الزوج ولا في حباله.

وهذه المسألة تكلمنا عنها في الرضاع.

وأيضًا نُفرِّع عليها مسألتنا هذه فنقول: إذا كانت المرأة في حبال الزوج؛ فيلزمها حضانة الولد بدون أجرة كالرضاع، أما إذا كانت ليست في حبال الزوج ولا في عصمته -يعني: مطلقة- فلها أن تطلب أجرة على ذلك؛ لأنه إذا جاز لها أن تطلب أجرة على مجرد الرضاع، فلها أن تطلب أجرة على الحضانة، وهي أشقُّ من الرضاع.

فإذن؛ يكون تفريعًا على المسألة السابقة، نقول: القول الراجح: هو القول بالتفصيل، فنُفرِّق بين ما إذا كانت أم هذا الطفل في حبال الزوج، وبين ما إذا كانت ليست في حباله:

  • إذا كانت في حبال الزوج وفي عصمته، ليس لها أن تطلب أجرة على الرضاع، وليس لها أن تطلب أجرة على الحضانة، ولها فقط النفقة.
  • أما إذا كانت ليست في حبال الزوج ولا في عصمته -تكون مطلقة- فلها أن تطلب الأجرة على الرضاع، ولها أن تطلب الأجرة على الحضانة، ولو مع وجود متبرعة.

مداخلة: …..

الشيخ: على كل حال، من كان لم يُقيِّدها؛ يُقيِّدها عنده في (كتاب الرضاع)، وهنا أيضًا، هما مسألة واحدة.

ثم رتب المؤلف بعد ذلك الأحق بالحضانة، رتبها بالترتيب المعروف عند الحنابلة، وهذا الترتيب قال فيه المؤلف: طبعًا الأحق بها الأم.

ترتيب استحقاق الحضانة بعد الأم

ثم أمهاتها.

يعني: أم الأم، وأم أم الأم.

القربى فالقربى، ثم الأب.

فمعنى ذلك على رأي المؤلف: لو تنازعت الجدة التي هي أم الأم مع الأب، فأيهما يُقدَّم؟ أم الأم التي هي الجدة.

قال:

ثم الأب، ثم أمهاته، ثم الجد، ثم أمهاته، ثم الأخت لأبوين.

يعني: الشقيقة.

ثم لأم، ثم لأب.

يعني: تُقدَّم الأخت الشقيقة، ثم الأخت لأم، ثم الأخت لأب، وإنما قدموا الأخت لأم على الأخت لأب؛ قالوا: لأن الأخت لأم مُدْلية بالأمومة، والأم مقدمة على الأب، فكما أن الأم مقدمة على الأب، فالأخت لأم مقدمة على الأخت لأب.

ثم الخالة لأبوين.

يعني: الشقيقة.

ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، ثم العمات كذلك.

يعني: العمة لأبوين؛ العمة لأم، فالعمة لأب.

ثم خالات أمه، ثم خالات أبيه، ثم عمات أبيه، ثم بنات إخوته وأخواته، ثم بنات أعمامه وعماته، ثم لباقي عصباته الأقرب فالأقرب.

هكذا رتب المؤلف الحضانة بهذا الترتيب.

وقال الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي رحمه الله، قال: إن ترتيب الحاضنين فيه خلاف كثير، والنصوص الواردة فيه قليلة؛ ولذلك وقع الإشكال والخلاف الكبير في هذه المسألة.

وقال ابن رشد في “بداية المجتهد”: “أما نقل الحضانة من الأم إلى غير الأب فليس في ذلك شيء يُعتمد عليه”.

وابن سعدي رحمه الله يقول: “لم يتحرر لي في تقديم بعض النساء على بعض في الحضانة ضابط تطمئن إليه النفس، إلا أنه يُراعى مصلحة المحضون، وأن من تحققت فيه فهو أولى”. يعني: كأنه يقول: إن المسألة فيها إشكال، وهذا الترتيب لا دليل عليه، فتُراعى مصلحة المحضون.

الحقيقة: عندما نُناقش المؤلف في هذا الترتيب الذي ذكره فيمن هو أحق بالحضانة، الذي ورد: أنتِ أحق به ما لم تنكحي[3]، قلنا: هذا صحيح، وهذا محل إجماع بالنسبة للأم، لكن مَن بعد الأم ممن ذُكر بهذا التسلسل وهذا الترتيب، هذا ليس مبنيًّا على دليل، ولا مبنيًّا أيضًا على قياس صحيح، وفيه شيء من التناقض والاضطراب.

ولهذا؛ ذهب أبو العباس ابن تيمية رحمه الله إلى تقديم الأقرب فالأقرب مطلقًا.

انتبِه لهذا الضابط: تقديم الأقرب فالأقرب مطلقًا، سواء من جهة الأب، أو من جهة الأم، فإن استوت درجتهم قُدِّمت الأنثى على الذكر.

انتبه! تقديم الأقرب فالأقرب، سواء من جهة الأب، أو من جهة الأم، فإن استوت درجتهم قُدِّمت الأنثى على الذكر، فإن كانا ذكرين أو أنثيين مع استواء الدرجة؛ فيُقرع بينهما إذا كانا في جهة واحدة، وإلا فتُقدَّم جهة الأبوة.

أُعيد الضابط مرة أخرى، نقول: ضبط هذه المسائل الحقيقة مشكلة، ضبطها أبو العباس ابن تيمية، وأيضًا سنُناقش ضابطه، لكن نفهم أولًا ضابطه، ضبط أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فيمن يُقدَّم في الحضانة بهذا الضابط، قال: الذي يُقدم هو الأقرب فالأقرب، سواء من جهة الأب أو من جهة الأم، فإن استوت درجتهم قُدِّمت الأنثى على الذكر، فإن كانا ذكرين أو أنثيين مع استواء الدرجة، فيُقرع بينهما إذا كانا في جهة واحدة، وإلا فمع اختلاف الجهة تُقدَّم جهة الأبوة، وتسهيلًا لحفظ هذا الضابط، جُمع في بيتين، يقول الناظم في تقرير ضابط ابن تيمية:

وقدِّم الأقرب ثم الأنثى وإن يكن ذكرًا أو أنثى
فأقرِعَنَّ في جهة وقدِّمِ أبوَّة إن الجهات تنتمي

يعني: قدِّم الأقرب، يعني: الأقرب مطلقًا، فإن استويا في الدرجة فقدِّم الأنثى، وهذا معنى قوله: “ثم الأنثى”، “وإن يكن ذكرًا، أو أنثى”؛ يعني: مع استواء الدرجة، “فأقرِعَنَّ في جهة” إذا كانوا في جهة واحدة.

ومع اختلاف الجهة: “وقدِّم أبوَّة إن الجهات تنتمي” يعني: إذا كانت مختلفة.

نريد الآن أن نضع أسئلة على ضابط الإمام ابن تيمية رحمه الله، عندنا الآن: الأم والأب، الدرجة أولًا واحدة أو مختلفة؟ الجهة مختلفة والدرجة واحدة، فتُقدَّم الأنثى على الذكر، فتُقدَّم الأم على الأب، والجدة على الجد، والخالة على الخال، والأخت على الأخ؛ وذلك لأنهم استووا في الدرجة، ما داموا استووا في الدرجة فيُرجَّح جانب الأنثى.

أمٌّ وجَدٌّ، أيهما أولى بالحضانة على ضابط ابن تيمية؟ الأم؛ لأنها أقرب درجة، أقرب للميت من الجد.

أب وجدة التي هي أم الأم، أب وجدة؟ الأب؛ لأنه أقرب.

جد وجدة؟ الجد والجدة في نفس الدرجة، فيُرجَّح جانب الأنثى، فالجدة مقدمة.

أم الأم وأم الأب؟ على رأي ابن تيمية أم الأب تقدَّم على أم الأم. وهذا فيه إشكال الحقيقة، أم الأب تُقدَّم على أم الأم.

فإذن؛ أعيد ضابط ابن تيمية، يقول: قدِّم الأقرب درجة، فإن استويا في الدرجة فيُقدَّم جانب الأنثى، فإن كانا ذكرين أو أنثيين مع استواء الدرجة، فيُقرَع بينهم، ومع اختلاف الجهة تُقدَّم جهة الأبوة على جهة الأمومة.

نقول: الأقرب ما ذهب إليه شيخ الإسلام في هذا الضابط، لكن باستثناء مسألة اجتماع الجدات والخالات مع الأب والجد وأمهاتهم، باستثناء هذه المسألة، استثناء مسألة اجتماع الجدات والخالات مع الأب والجد وأمهاتهم.

وذلك أن ظاهر السنة هو تقديم الجدات والخالات على الأب والجد وأمهاتهم؛ لقول النبي : الخالة بمنزلة الأم[4]، وهذا الحديث أخرجه البخاري في “صحيحه”، لما أتت ابنة حمزة رضي الله عنهما للنبي تقول: يا عم، يا عم. فأراد عليٌّ أن يأخذها عنده، فنازعه في ذلك زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، فقال عليٌّ: إنها ابنة عمي. وقال زيد: إنها ابنة أخي من الرضاعة. وقال جعفر: إنها ابنة عمي، وخالتها تحتي. فقضى بها النبي لجعفر، وقال: الخالة بمنزلة الأم[5].

فإذا كانت الخالة بمنزلة الأم، فأم الأم أولى من الخالة، يعني: أيهما أقرب: أمُّ الأمِّ أو الخالة؟ أمُّ الأم أقرب، فإذا كانت الخالة بمنزلة الأم، فأم الأم بمنزلة الأم من باب أولى، فتكون إذن أقرب من الأب ومن الجد، فعند تنازع الخالة مع الأب، أو أم الأم مع الأب، فالصحيح أنه تُقدَّم الخالة وأم الأم؛ لقول النبي : الخالة بمنزلة الأم[6].

ثم إن أيضًا الأب والجد هل يَلِيَان الحضانة بأنفسهما؟ هل يأخذان هذا الطفل ويُنظِّفانه ويقومان عليه، أو بغيرهما؟ بغيرهما؛ الأب والجد لا يليان الحضانة بأنفسهما، وإنما بغيرهما، فكانت أم الأم والخالة أولى بالحضانة من ذلك الغير.

وعلى هذا؛ فأم الأم مقدمة على الأب، ومقدمة على أم الأب، وهكذا الخالة أيضًا مقدمة على الأب وعلى أم الأب وعلى العمة.

وعلى الضابط الذي ذكره ابن تيمية رحمه الله أيضًا تُقدَّم العمة أم الخالة؟ العمة؛ لأنه مع اختلاف الجهة، عنده جهة الأبوة مقدمة، والصواب: أن الخالة مقدَّمة؛ لقول النبي : الخالة بمنزلة الأم[7].

وفي عُرف الناس الآن، واقع الناس، إذا نظرنا نظرة واقعية: أيهما أكثر شفقة على الطفل، خالته أم عمته؟ خالته، خالته قريبة من أمه، هي كأنها أمه في الحقيقة، بمنزلة الأم.

طيب، إذا نظرنا نظرة واقعية: أيهما أقرب لهذا الطفل: أمُّ أمِّه، أو أم أبيه؟ أم أمه أقرب وأكثر شفقة.

في الحقيقة، هذا مما يُشكل على ضابط الإمام ابن تيمية رحمه الله، وإلا فهو ضابط جيد، فنُوافقه في الضابط وفيما قال، إلا في هذه المسألة “مسألة اجتماع الجدات والخالات مع الأب والجد وأمهاتهما”.

فنقول: إن الجدات والخالات مقدَّمات على الأب وعلى الجد وعلى أمهاتهما. هذا هو القول الراجح والله أعلم، وهو الذي تجتمع به النصوص في هذه المسألة الشائكة، التي -كما ذكرنا- ابن سعدي قال: إنها مسألة شائكة، والنصوص فيها قليلة. وذكر أنه لم يتحرَّر له فيها شيء، لكن بضابط ابن تيمية رحمة الله عليه، مع -أيضًا- تعديل هذا الضابط، لعل المسألة تستقيم بهذا.

مداخلة: …..

الشيخ: أمُّ الأم والخالة، أيهما أقرب للطفل؟

مداخلة: الخالة.

الشيخ: أم الأم، أيهما أقرب لك؟ طبِّق على نفسك، إذا أشكل عليك شيء طبِّق على نفسك، أيهما أقرب لك: أمُّ أمك أو خالتك؟ أم الأم لا شك أنها أقرب، فإذا كانت الخالة بمنزلة الأم، فأم الأم أولى بأن تكون بمنزلة الأم.

مداخلة: …..

الشيخ: تقديم أم الأم على الأب؛ لأنه -كما ذكرنا- أولًا: أن أم الأم بمنزلة الأم؛ لأنه إذا كانت الخالة بمنزلة الأم، فأم الأم بمنزلة الأم، هذا حتى على المذهب، أم الأم مقدَّمة على الأب، للتالي: أولًا ما ذكرنا من أنها بمنزلة الأم للحديث، لأنه إذا كانت الخالة بمنزلة الأم، فأم الأم بمنزلة الأم.

ثانيًا: هذا الأب لن يلي الحضانة بنفسه، بغيره، فأيهما أولى: أن تلي امرأة أجنبية هذا الطفل، أو تلي أمُّ أمه؟ لا شك أن أم أمه أولى بالحضانة.

طبعًا، هذا هو الأصل، لكن لو عرَضَ عارض مثلًا، وكانت أم الأم هذه غير مؤهلة لأيِّ سبب، فيُمكن أن نَعدِل للأب ونقدِّمه. لكن، نحن نقرر الآن أصولًا وقواعد عامة.

إذن؛ الضابط هو كما قال ابن تيمية رحمه الله: أن المقدَّم: الأقرب مطلقًا، سواء من جهة الأم، أو من جهة الأب، فإن استوت درجتهم قُدِّمت الأنثى على الذكر، وإن كانوا في درجة واحدة يُقرَع بينهم،  نقول: نُضيف الضابط ما عدا اجتماع الجدات والخالات مع الأب والجد وأمهاتهما فقط، فتُقدَّم الجدات والخالات عليهما، فيُضاف لها هذا الاستثناء.

مداخلة: …..

الشيخ: تدخل على التقييد هذا، يعني: الخالة بمنزلة الأم، الخالة إذا كانت تقدَّم على الأب، فتُقدَّم على العمة من باب أولى.

ما يمنع الحضانة

قال:

ولا حضانة لمن فيه رِقٌّ، ولا لفاسق، ولا لكافر على مسلم.

الرق

(ولا حضانة لمن فيه رِقٌّ)؛ يعني: للرقيق أو مَن كان فيه رِقٌّ ولو قلَّ؛ وذلك لأن الحضانة -يقولون- ولاية، وهو ليس من أهل الولاية، فلم يكن له حضانة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده.

وقال ابن القيم رحمه الله: إنه لا دليل على اشتراط الحرية للحضانة. ومِن العلماء مَن فصَّل وقال: إن الرقيق له حقٌّ في الحضانة إنْ أذن سيده بذلك، وإن لم يأذن فلا حق له. قالوا: والدليل على أن الرقيق له حقٌّ في الحضانة إن أذن سيده بذلك، هو قول النبي : لا يُفرَّق بين والدة وولدها رواه الترمذي وابن ماجه[8].

فقوله : لا يُفرَّق بين والدة وولدها مقصوده: في الإماء، دليلٌ على أن الأَمَة لها حق في الحضانة. فهذا هو الأقرب والله أعلم: أنه إن أذن سيده له في الحضانة فله حق، وإن لم يأذن فلا حق له في الحضانة.

الفسق والكفر

قال:

ولا لفاسق.

يعني: أن الفاسق ليس له حق في الحضانة، يقولون: لأنه لا يُوثق به في أداء الواجب في الحضانة، وهو غير مأمون في تربية هذا الطفل.

أولًا: المؤلف قرر أنه لا حق للفاسق في الحضانة. نريد معرفة ضابط الفسق، متى يقال عن الإنسان: إنه فاسق؟

مداخلة: …..

الشيخ: من ارتكب كبيرة هذا محل اتفاق، لكن لو أصرَّ على الصغيرة فمحل خلاف، الإصرار على الصغيرة هل يجعل الإنسان فاسقًا؟ الشوكاني وجماعة من أهل العلم قالوا: إنه لا دليل يدل على أن الإصرار على الصغيرة يجعل الإنسان فاسقًا.

فإذن؛ الحد المتفق عليه: هو أن من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يكون فاسقًا.

تعريف الكبيرة

هذا أيضًا يدعونا لضابط الكبيرة، ما هو ضابط الكبيرة؟

مداخلة: …..

الشيخ: ما معنى كبيرة؟ كيف نُفرِّق بين كبائر الذنوب وصغائر الذنوب؟

مداخلة: …..

الشيخ: أحسنت. “كل ما ورد فيه حدٌّ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة؛ من لعنة، أو غضب، أو سخط، أو نار، أو نفي إيمان”.

أعيده مرة أخرى، أحسن ما قيل في تعريف الكبيرة: هي أنها “كل ما ورد فيه حدٌّ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة؛ من لعنة، أو غضب، أو سخط، أو نار، أو نفي إيمان”.

يعني: جميع المعاصي التي فيها حدود كلها من الكبائر، يعني: شرب الخمر من الكبائر، القذف من الكبائر، الزنا من الكبائر، السرقة من الكبائر، كلها فيها حدود.

“أو وعيد في الآخرة من لعنة”؛ أيُّ معصية يَرِد فيها: لَعَن الله تعالى مَن فعل كذا، أو لَعَن رسولُه مَن فعل كذا؛ فهي كبيرة.

“أو غضب، أو سخط، أو نار، أو نفي إيمان”، من فعل كذا دخل النار، أو مثلًا: لا يدخل الجنة من فعل كذا، لا يدخل الجنة نمَّام[9]، هذا دليل على أن النميمة من كبائر الذنوب، أو نفي إيمان: والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه[10]، دليل على أن أذيَّة الجار من كبائر الذنوب.

فإذن؛ هذا هو الضابط، فمن ارتكب كبيرة يُعتبر فاسقًا، مثلًا على هذا الضابط: إذا كان هذا الإنسان يشرب الخمر يكون فاسقًا لا حق له في الحضانة، إذا كان مثلًا يسب ويشتم، السباب على لسانه، هل يُعتبر فاسقًا أم لا؟

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، أحسنت.

هذا بالنص: سِبَاب المسلم فَسَوقٌ[11]، وقوله عليه الصلاة والسلام: لَعْن المؤمن كقتله. متفق عليه[12]؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام في المرأة التي لعنت ناقتها: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة[13]، يعني: لا يكون ذلك إلا على ارتكاب كبيرة.

فالذي يسُبُّ يُعتبر فاسقًا، الذي يلعن ويسُبُّ يُعتبر فاسقًا، وهكذا، هذا المقصود بالفسق، فالمؤلف يقول: إنه لا حظ للفاسق في الحضانة.

وهذا القول -الحقيقة- لو قلنا به لأسقطنا الحضانة عن كثيرٍ من الناس، خاصة مع رِقَّة الديانة لدى كثير من الناس؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أنه إن كان فسقه يُؤدِّي إلى عدم قيامه بالحضانة، فإن الفسق يُسقط حقَّه في الحضانة، وإن كان فسقه لا يُؤدِّي إلى ذلك فلا يسقط حقه في الحضانة.

إذن؛ القول الثاني: إنه إذا كان فسقه يُؤدِّي إلى عدم قيامه بالحضانة، فإن فسقه يُسقط حقه في الحضانة، وإن كان لا يُؤدِّي إلى ذلك، فلا يسقط حقه في الحضانة.

وهذا هو القول الأقرب والله أعلم، وقد نصره ابن القيم، وكذلك رجحه من المعاصرين الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله.

فمثلًا: لو كان هذا الإنسان عنده تقصير، يحلق لحيته، ويسمع الأغاني، لكنه مِن أحرص الناس على هذا الطفل، حريص جدًّا على تنشئته وتربيته والقيام بشؤونه، فهل نقول: إن هذا الفسق يُسقط حقه في الحضانة؟ لا.

لكن، لو كان هذا الإنسان يرتكب الفواحش مثلًا، ولا يُؤمَن أن يوجد هذا الطفل عنده، يشرب الخمر، ويرتكب الفواحش، هنا هذا يُؤدِّي إلى عدم قيامه بهذا، أو مثلًا يتعاطى المخدِّرات، هذا يُؤدِّي إلى عدم قيامه بالحضانة على الوجه المطلوب، فهذا الفسق يُسقط حقه في الحضانة.

قال ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد”: “الصواب أنه لا تُشترط العدالة في الحاضن قطعًا، واشتراطها في غاية البعد، ولو اشتُرط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم، ولَعَظُمَتِ المشقة على الأُمَّة واشتد العَنَت. ولم يزل من حين قام الإسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفُسَّاق بينهم، لا يتعرض لهم أحدٌ في الدنيا، مع كونهم الأكثرين، ولم يزل الفسق في الناس، ولم يمنع النبي ولا أحدٌ من الصحابة فاسقًا من تربية ابنه وحضانته”. ثم أفاض رحمه الله في نصرة هذا القول في المجلد الخامس صفحة (461) في “زاد المعاد”.

لكن القول بعدم اشتراط العدالة مطلقًا فيه إشكال، الأقرب هو تقييد ذلك بما ذكرنا، أنه إذا كان فسقه لا يُؤدي إلى عدم قيامه بالحضانة، فلا يسقط الفسق حقه في الحضانة، أما إذا كان يُؤدي فلا.

يعني مثلًا: إنسان يتعاطى المخدرات، كيف نجعله هو الحاضن لهذا الطفل؟ فهذا الطفل عليه خطورة من هذا الإنسان.

لكن، لو كان -كما ذكرنا- عنده أمور أخرى، لكن لا تمنع من قيامه بواجب الحضانة، فلا يمنع فسقه من أن يكون هو الحاضن. هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.

قال:

ولا لكافر على مسلم.

وذلك لأن الكافر يُخشى من أن يدعو هذا الطفلَ إلى الكفر ويُنشِّئه عليه، وقد قال النبي : كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه[14]. ولا شك أن بقاء الطفل في يدِ كافرٍ يُربِّيه ويُنشِّئه فيه خطر عظيم على دينه؛ فلا يُمكَّن الكافر من حضانة المسلم.

زواج الأم بأجنبي

قال:

ولا لمتزوجة بأجنبي.

المقصود هنا: المرأة المتزوجة، يعني: الأم مثلًا، أو من كانت حاضنة لهذا الطفل، إذا تزوجت برجل أجنبي فيسقط حقها في الحضانة؛ وذلك لقول النبي : أنتِ أحق به ما لم تنكحي[15].

هذا إذا كان الزوج أجنبيًّا، والمقصود بالأجنبي في هذا: هو من كان ليس قريبًا لهذا الطفل؛ يعني: من لم يكن من عَصَبات المحضون. هذا هو الضابط، فيسقط حقها في الحضانة.

أما إذا كان زوج هذه المرأة ليس أجنبيًّا، من عَصَبات المحضون؛ كأن يكون مثلًا عمه أو نحو ذلك، فلا يسقط حقها في الحضانة، بدليل قصة ابنة حمزة رضي الله عنهما، فإن النبي قضى بها لجعفر ؛ لكون خالتها تحته وهو ابن عمها.

فإذن؛ المرأة إذا تزوجت بأجنبي سقط حقها في الحضانة، أما إذا تزوجت بغير أجنبي فإنه لا يسقط حقها في الحضانة.

وهذا هو القول الذي تجتمع به الأدلة.

قال:

ومتى زال المانع.

(زال المانع)؛ بأن عتق الرقيق، وتاب الفاسق، على القول بأن الفسق يُسقط الحضانة، وأسلم الكافر، وطلقت المُزوَّجة؛ رجع حقه، يعني: رجع إلى كلٍّ من هؤلاء حقه في الحضانة؛ لوجود السبب وانتفاء المانع.

قال:

أو أسقط الأحقُّ حقَّه، ثم عاد؛ عاد الحق له.

(أسقط الأحق) بالحضانة (حقَّه)، ثم تراجع وعاد، عاد حقُّه إليه.

وهذا يقودنا إلى مسألة مهمة، وهي: هل الحضانة حق للحاضن أو حق عليه؟

  • إن قلنا: إنها حق للحاضن، فمعنى ذلك: أن للحاضن أن يتنازل عن حقه، وإذا امتنع من الحضانة تنتقل لمن بعده حتى تصل للحاكم.
  • وإذا قلنا: حق عليه، فيلزمه القيام بالحضانة، ما لم يُنازعه منازع.

المذهب عند الحنابلة: أن الحضانة حق للحاضن. هذا هو ظاهر كلام المؤلف. وبناءً على ذلك: إذا امتنع الحاضن من الحضانة، انتقلت لمن بعده، حتى تصل إلى الحاكم.

وذهب بعض العلماء إلى أن الحضانة حق للحاضن وحق عليه، وهذا هو الذي رجحه ابن القيم رحمه الله: أنها حق له وعليه، فإن نازعه منازع فيها فهي له، وإن لم يُنازعه منازع فيُلزم بالحضانة.

وذلك لأننا لو قلنا: إن الحضانة حق للحاضن وليست حقًّا عليه، فقد يُؤدِّي هذا إلى ضياع حقوقه، فإنه ربما يمتنع من له حق الحضانة إذا انتقلت إليه، فيمتنع، ثم مَن بعده يمتنع، ثم من بعده يمتنع، فيتسبب هذا في ضياع حق هذا الطفل في الحضانة.

فإذن؛ الصواب: أنها حق له وحق عليه.

متى يظهر أثر الخلاف؟ حق له إذا نازعه منازع؛ حق له، حق عليه إذا امتنع عن الحضانة ولم يُنازعه منازع.

هذه مثلًا جدة، أمُّ أمٍّ، وهذا الطفل مثلًا أمه متوفاة، ورفضت أن تقوم بحضانته، ولم يُنازعها منازع؛ نُلزمها بالحضانة لأنها حق له وعليه. هذا هو القول الصحيح في مسألة أحقية الحضانة.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن سفر أحد الأبوين.

الأحق بالحضانة إذا أراد أحد الأبوين السفر

قال:

وإن أراد أحد الأبوين السفر -ويرجع- فالمقيم أحق بالحضانة.

(إن أراد أحد الأبوين السفر)؛ يعني: أراد سفرًا، (و)سوف (يرجع) من هذا السفر، (فالمقيم أحق بالحضانة)، وذلك إزالةً لضرر السفر عن الطفل، فإن كون هذا الأب أو الأم يذهب بهذا الطفل ثم يعود به، فيه ضرر عليه، فيقولون: إن المقيم أحق.

وإن كان للسُّكنى، وهو مسافة قصر، فالأب أحق، ودُونَها.

يعني: دون مسافة القصر.

فالأم أحق.

يعني: إن سافر أحد الأبوين للسُّكنى، أو سافر سفرًا طويلًا، فيقول المؤلف: إن الأب أحق من الأم؛ وذلك لأنه هو الذي يقوم بتأديبه وحِفظ نَسَبه والقيام بشؤونه. وهذا هو القول الأول في المسألة.

والقول الثاني في المسألة: إن الأم أحق به إذا كان بحاجة لها، أما إذا لم يكن بحاجة لها فالأب أحق به.

ومثل هذه المسائل ربما أيضًا نضبطها بضابط “المصلحة”، فنقول: يكون هذا الطفل عند مَن هو أصلح؛ لأنه ليس فيها دليلٌ ظاهر، وكلام الفقهاء فيها مبني على تقدير المصلحة.

وسفر الناس الآن يختلف عن سفر الناس من قبل، سفر الناس فيما يسبق يلحق الناسَ معه مشقة عظيمة، يسافرون على الإبل، وأحيانًا يُسافرون على أرجلهم، ويلحق الناس في ذلك؛ أولًا: المشقة العظيمة، ثانيًا: الأخطار الكبيرة، والطرق غير سالكة في كثير من الأحيان، وغير آمنة.

أما في الوقت الحاضر، اختلف الأمر اختلافًا كثيرًا، مع وجود السيارات ووجود وسائل المواصلات الحديثة، أصبحت الأسفار أكثرها آمنة.

ولذلك؛ فمثل هذه المسائل: الصحيح أننا نُقيِّدها بمصلحة الطفل، فننظر للأصلح للطفل، فنقول: عند سفر أحد الأبوين فيكون الطفل عند من هو أصلح له من الآخَر؛ لأنه ليس في المسألة دليلٌ يدل على أحقية أحدهما، فيكون الطفل عند من هو أصلح.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن تنازع الأبوين في حضانة الطفل.

حضانة الصبي إذا بلغ سبع سنين

قال:

فصل
وإذا بلغ الصبي سبع سنين عاقلًا، خُيِّر بين أبويه.

(إذا بلغ الصبي)؛ يعني: الذكر (سبع سنين).

طيب لماذا قال: (سبع سنين)؟ لأن ما دون السبع يكون عند مَن؟ يكون عند أمه، ما لم تتزوج بأجنبي. أما إذا بلغ سبع سنين، يقول المؤلف: إنه يُخيَّر بين أبويه. قالوا: وقضى بذلك عمر ، وورد هذا أيضًا عن النبي ، كما في حديث أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى النبي ، فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني. فقال: يا غلام، هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت. فأخذ بيد أمه فانطلقت به[16].

وأيضًا قضى به عمر وعليٌّ رضي الله عنهما.

ولكن يَرِد على هذا إشكال: وهو أن هذا الطفل إذا خيرناه فربما يختار مَن يتركه على هواه في اللعب ونحو ذلك، وأما من يقوم بمصالحه ويُلزمه بما فيه مصلحته ربما لا يختاره.

ولهذا؛ ذكر بعضهم: أنه تنازع أبوان في صبيٍّ عند بعض الحُكَّام، فخيَّره القاضي بين أبيه وأمه، فاختار هذا الصبيُّ أباه، فقالت أمه: سَلْهُ لأيِّ شيء اختاره. فقال: إن أمي تبعثني كل يوم للكُتَّاب، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان. فقام هذا القاضي وغيَّر رأيه وقضى به لأُمِّه.

يعني يَرِد إشكالٌ؛ ربما أن هذا الصبي يختار من يتركه يلعب ويلهو، أما من يحزم عليه ويأمره بما فيه مصلحته، فربما لا يختاره، وهو في هذه السن طفل، ليس له كامل العقل والإدراك، ومرفوع عنه القلم، فكيف نقول: إنه يُخيَّر؟ كيف نُجيب عن هذا الإشكال؟

نقول: الحقيقة أن هذا الإشكال يَرِد على هذا القول أيضًا بالضعف.

ولهذا؛ القول الصحيح في هذه المسألة: أن الطفل إنما يكون عند الأصلح من الأبوين، إذا بلغ سبع سنين يكون عند الأصلح منهما، فإذا كانت الأم هي الأصلح فيبقى عند الأم، وإذا كان الأب هو الأصلح يبقى عند الأب.

وهذا هو اختيار الإمام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى؛ لأن الصبي في هذه السن ضعيف العقل، يُؤثِر البطالة واللعب، فإذا اختار مَن يُساعده على ذلك فلا نلتفت لاختياره وهناك من هو أنفع له، وقال ابن القيم: “إن الشريعة لا تحتمل غير هذا”؛ أنه يكون عند الأصلح.

طفل عمره سبع سنوات، يختار مَن يُعينه على البطالة وعلى اللعب وعلى اللهو، ما يعرف مَن هو الأصلح، فنحن نختار له من هو الأصلح، لكن إذا استويا في الصلاح وكان كل منهما نظير الآخر، فحينئذٍ يُخيَّر، فيكون التخيير عند استوائهما في الصلاح، وعلى ذلك يُحمل حديث أبي هريرة  في أن النبي خيَّر هذا الطفل بين أبيه وأمه؛ لأنهما استويا في الصلاح، وتُحمل أيضًا الآثار المروية عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهما في ذلك؛ لأنهم كانوا في زمن نبوة، والناس في زمن النبوةِ الصلاحُ في ذلك العصر ظاهر، فكان أبوه وأمه متساويين في الصلاح، فخيَّره النبي عليه الصلاة والسلام.

أما بعد عصر صدر الإسلام، هنا الغالب أنه يكون بين الأب والأم تفاوت، فنجعله عند الأصلح منهما، لو افترضنا تساويهما في الصلاح، فنُخيِّر هذا الطفل. هذا هو القول الصحيح الذي قال عنه ابن القيم: “إن الشريعة لا تحتمل غير هذا”. هذا بالنسبة للذكر.

قال:

فإن اختار أباه كان عنده ليلًا ونهارًا.

قلنا: على القول الراجح، إن اختار أباه عند تساويه مع أمه في الصلاح (كان عنده ليلًا ونهارًا).

ولا يُمنع من زيارة أمه.

لا يجوز للأب أن يمنع هذا الطفل من زيارة أمه، ومنعه إياه حرام عليه؛ لأن هذه الأم لها حق في أن يزورها ولدها. وما يفعله بعض الآباء بأنه إذا طلَّق أُمَّه منع أبناءها من زيارتها، هذا أمر عظيم، ويُخشى أن الله تعالى يُسلِّط عليه عقوبة؛ لأنه منع هؤلاء الأطفال من زيارة والدتهم، والجزاء من جنس العمل، فكما منعهم من زيارة والدتهم قد يُسلِّط الله تعالى عليه ما يمنعه أو يحرمه من الخير، أو من التوفيق.

قال:

ولا هي من زيارته.

كذلك لا يمنع أمه من زيارته.

وإن اختار أمه كان عندها ليلًا، وعند أبيه نهارًا؛ ليُؤدِّبه ويُعلِّمه.

وقلنا: على القول الراجح إنه يكون عند الأصلح منهما، ولا يكون التخيير إلا عند التساوي.

ومثل هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف لا دليل عليه، لكن يُراعى في ذلك المصلحة، وألا يمنع من عنده هذا الطفل من أب أو أم، من زيارة أبيه أو أمه له. هذا بالنسبة للذكر.

حضانة الأنثى إذا بلغت سبع سنين

وأما بالنسبة للأنثى، قال:

إذا بلغت الأنثى سبعًا كانت عند أبيها وجوبًا إلى أن تتزوج.

وليس في المسألة دليل ظاهر يدل لهذا الحكم، ولكنهم ذكروا تعليلًا وقالوا: لأن هذا هو الأحفظ لهذه البنت؛ ولأن الأب هو الأحق بولايتها من غيره.

والقول الثاني في المسألة: إن الأنثى بعد بلوغها سبع سنين تكون عند أمها. وهذا هو قول مالك وأبي حنيفة، وأحمد في رواية، وقال عنه ابن القيم رحمه الله: “هذا القول الذي لا نختار سواه” –ابن القيم إذا انتصر لقولٍ يأتي بمثل هذه العبارات القوية، قال: “هذا القول الذي لا نختار سواه”- وأيضًا رجحه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله.

أولًا: قبل أن نذكر تعليلهم، أيهما أصلح لهذه الفتاة؟ عمرها سبع سنوات، طفلة، أيهما أصلح لها في عرف الناس: أن تكون عند أمها، أم عند أبيها؟ لا شك أن الأم أكمل شفقة ورحمة وقربًا لهذه الفتاة، أقرب من الأب.

ولهذا عللوا فقالوا: إن العادة أن الأب يتصرف في المعاش والخروج ولقاء الناس، والأم في خِدْرها مقصورة في بيتها، فالبنت عندها أصون وأحفظ.

وقالوا أيضًا: إن البنت محتاجة إلى تعلُّم ما يصلح للنساء من الغَزْل والقيام بمصالح المنزل، وهذا إنما تقوم به النساء لا الرجال، فهي أحوج إلى أمها لِتُعَلِّمها ما يصلح للمرأة، وفي دفعها لأبيها تعطيلٌ لهذه المصالح.

وكل مفسدة تعرض لهذه الفتاة عند وجودها للأم فهي أيضًا تعرض لهذه الفتاة عند وجودها للأب وأكثر، بل يقول ابن القيم: المخاوف التي يخاف منها الفقهاء من بقاء المرأة عند الأم هي أيضًا كذلك عند الأب وأكثر، وذلك أنه إذا تركها في البيت وحدها لم يأمن عليها، وإن تركها عند امرأته أو غيرها فالأم أشفق عليها وأصون لها من المرأة الأجنبية.

هذا القول إذن هو القول الراجح: إن الأنثى بعد بلوغها سبع سنين: الأحق بها أمها. هذا هو القول الصحيح.

لكن، إلا إذا عرَضَ عارضٌ بأن تكون أمها مثلًا غير مأمونة، مثلًا أمها امرأة عليها ملاحظات أخلاقية، وكل مرة مثلًا يُقبض عليها من مراكز الهيئة ونحو ذلك، ويَخشى هذا الأب على ابنته أن تُفسدها أمها. هنا يمكن أن تكون هذه الأنثى عند الأب، هذا أمر عارض.

لكن، نحن نُؤصِّل الآن المسألة كتأصيل، نقول: الأقرب -والله أعلم- أن الأم أحق من الأب في هذه الفتاة وهذه الأنثى.

والذي عليه العمل في المحاكم: هو أنها عند الأب، الذي أعرف أن الذي عليه كثير من القضاة هو أنها عند الأب، بناءً على هذا القول الذي ليس عليه دليلٌ في الحقيقة.

وكم من امرأة فُجِعت في ابنتها لمَّا أُخِذت منها، أعرف أن نساءً فُجِعن، بل بعضهن يمرضن عندما تُنتَزع ابنتها منها.

ولهذا؛ ينبغي للقاضي أن ينظر لمثل هذه المسائل، وينظر لأدلة هذا القول، لا دليل عليه: لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا آثار عن الصحابة، وإنما مجرد تعليل.

والقول بأنها عند الأم؛ لا شك أنه الأقرب للأصول وقواعد الشريعة، وكما قال ابن القيم رحمه الله: “إن هذا القول دلالته ظاهرة”، قال: “إنه القول الذي لا يختار سواه؛ لأن دلالته ظاهرة”. الأم في جميع الأعراف هي أكثر شفقة وحنانًا وقربًا لهذا الطفل من الأب، فكيف إذا كان هذا الطفل أنثى؟

فإذن؛ خلاصة الكلام في هذه المسألة: أنه عند تنازع الأبوين في هذا الطفل، إن كان دون سبع سنين فالأحق به الأم ما لم تتزوج بأجنبي. إن بلغ سبع سنين: إن كان ذكرًا فيكون عند الأصلح منهما، فإن تساويا في الصلاح فيختار منهما من أراد، وإن لم يختر يُقرع بينهما. وأما بالنسبة للأنثى، فإن الأصلح لها أن تكون عند أمها مطلقًا.

مداخلة: …..

الشيخ: إذا كانت متزوجة -ذكرنا- يسقط حقها في الحضانة إذا كانت متزوجة بأجنبي، أما إذا كانت متزوجة بغير أجنبي ما يسقط.

هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة، هذا كلام المحققين أيضًا فيها، وأحسن من تكلم عن هذه المسائل ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد”، حررها تحريرًا جيدًا، وإلا هي كما قال ابن سعدي: “مسائل شائكة”.

قال:

ويمنعها -ومن يقوم مقامه- من الانفراد.

يعني: لو أرادت هذه الأنثى أن تنفرد بأن تعيش في بيتٍ وحدها فيمنعها؛ لأن انفرادها مَظِنَّة الفساد، وأيضًا مظنةُ أن يُطمع فيها، فيمنعها الأب أو من يقوم مقامه في الحضانة، يمنع هذه الأنثى من الانفراد.

قال:

ولا تُمنع الأم من زيارتها.

هذا على القول بأن الأحقَّ بها الأب.

ولا هي من زيارة أمها، إن لم يُخَف الفساد.

أما إن خيف الفساد، إن كانت هذه الأم -كما مثَّلنا- عليها ملاحظات أخلاقية، والأب يُريد أن يمنع البنت من زيارة أمها، أو من أن تزورها أمها، ما هو الحل؟ يرى الأب أن أمها لو زارتها أفسدتها.

مداخلة: …..

الشيخ: أحسنت. نقول: لا تُمنع من زيارتها، لكن تُمنع من الخلوة بها، هي لن تفسدها إلا إذا خلت بها، لكن عند عدم الخلوة بها في الغالب أنها لا تستطيع أن تُفسدها، فنقول: تُمنع من الخلوة بها، لكن لا تُمنع من زيارتها.

هذا أحسن ما قيل في هذه المسألة؛ إذا كان الأب يخشى من إفسادها فتُمنع من الخلوة بها، لا من زيارتها.

وهكذا أيضًا بعض الأزواج يُريد أن يمنع زوجته من زيارة أهلها، يقول: لأن أهلها يُفسدونها عليَّ. نقول: ليس له ذلك، لا يَمنعها من زيارة أهلها، لكن له أن يمنع أهلها من الخلوة بها، يقول: تزورين أهلك وأنا معكِ مثلًا، إذا كان فعلًا أهلها قد يُفسدونها.

بعض الأهل يُفسدون المرأة على زوجها، فإذا كان يخشى من ذلك، نقول: لا يَمنع، لا يتسبب في عقوقٍ أو قطيعة، لكن يمنعها من الخلوة، من أن تخلو بمن يفسدها، إذا كانت أمها هي التي تُفسدها يمنعها من الخلوة بأمها مثلًا.

هذا أحسن ما قيل في مثل هذه المسائل، وبذلك لا تحصل قطيعة، ولا يحصل عقوق، ويحصل المقصود.

حضانة المجنون

قال:

والمجنون -ولو أنثى- عند أمه مطلقًا.

وذلك لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره، والنساء أصلح في هذا الأمر من الرجال، فيكون إذن عند أمه؛ لأنها أصلح بالنسبة له.

ولا يُترك المحضون بيد من لا يصونه ويصلحه.

وذلك لفوات المقصود من الحضانة، فمن لا يصونه ولا يُصلحه لا يقَرُّ هذا المحضون بيده؛ ولأن الغرض من الحضانة هو إصلاح هذا المحضون.

هذه أبرز المسائل التي ذكرها العلماء في (باب الحضانة).

وبهذا نكون قد انتهينا مما يتعلق بـ(كتاب النكاح والطلاق)، ونقف عند (كتاب الجنايات).

(كتاب الجنايات) إلى آخر (دليل الطالب) إن شاء الله نفتتح به الدرس القادم بعد استئنافه، يعني: بداية الفصل الدراسي الثاني، إن شاء الله تعالى، نبدأ في (كتاب الجنايات).

نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: …..

الشيخ: لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه[17]، لكن المراد بنفي الإيمان هنا: هل هو نفي صحة أو نفي كمال؟ نَفْي كمال، فإذا كان نفي كمال فقد نقول: إنه لا ينطبق مثل هذا عليه.

مداخلة: …..

الشيخ: إذا اشترطت الزوجة إي نعم. لا، هو أصلًا زواجها بأجنبي أسقط حقها في الحضانة؛ لأن أب هذا الطفل يقول: أنا لا أرضى بأن يكون ابني عند رجل أجنبي، مهما كان. هذا الرجل الأجنبي سيتعامل على أنه ليس ولده، كأن هذا الطفل سيعيش في غربة، أبوه غير موجود، كأنه يتيم، فهو لا يرضى مهما كان، هذا الأجنبي لن يقوم مقام الأب.

ولذلك؛ حتى لو اشترطتْ، إلا إذا رضي الأب بإسقاط حقه، إذا رضي الأب فلا مانع، أما إذا تمسك الأب بحقه فالأم يسقط حقها في الحضانة.

السؤال: أحسن الله إليكم وباركم فيكم فضيلة الشيخ. هذا السائل يقول: إذا كانت الأم كافرة كتابية، والأب مسلمًا، فهل تكون حضانته للأب أم الأم؟

الشيخ: إذا كانت الأم كافرة، فسبق أن قلنا: إن الكافر ليس له حق في الحضانة حتى وإن كانت الأم؛ وذلك لأن الكافر يخشى عليه من أن يُؤثِّر على هذا المحضون، فلو مُكِّنت هذه الأم الكافرة من حضانة هذا الطفل ستُنشِّئه على دينها.

وهذا الآن هو الواقع، لو ألقيتَ نظرة في بعض من تزوجوا بنساءٍ نصرانيات، تجد أن هؤلاء الأطفال يتبعون أمهم إذا لم تُسلم، يتبعون أمهم ويتنصَّرون، هذا الطفل يتأثَّر بأمه تأثُّرًا عظيمًا. وهذه خطورة كبيرة على هذا الطفل.

ولذلك؛ لا يقَرُّ بيد أمه ما دامت غير مسلمة.

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: إذا تنازع الحضانةَ أمُّ الأب والخالةُ فمن يُقدَّم؟

الشيخ: إذا تنازع أم الأب والخالة، فعلى الخلاف الذي ذكرنا، فعلى رأي ابن تيمية رحمه الله: أن الأب مقدَّم. وعلى القول الصحيح: إن الخالة مقدَّمة؛ لقول النبي : الخالة بمنزلة الأم[18]؛ ولأن الأب لن يقوم بحضانة هذا الطفل بنفسه، وإنما بغيره، ولا شك أن خالة هذا الطفل أحق من أم أبيه.

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: ذكرتم أن البنك ليس له بيعُ ما لا يملك، وفي مسألة الفضولي رجَّحتم صحة بيع ما لا يملك إذا أجازه المالك. ولم يتضح لي الفرق بين المسألتين، أرجو التوضيح وجزاكم الله خيرًا.

الشيخ: نعم، الفضولي إذا باع ما لا يملك ثم أجازه المالك، قلنا: القول الصحيح إنه يصح.

لكن، في مسألة البنك، البنك الآن ما باع سلعة لغيره، البنك الآن البنك باع شيئًا لا يملكه أصلًا، باع شيئًا لا يملكه لشخص آخر. أما مسألة الفضولي: باع مِلْك إنسان، وصاحِبُ المِلك أجازه، نقول: هذا لا بأس، صاحب الملك أجازه. أما البنك ما باع ملك إنسان فأجازه صاحب الملك، لا، هو باع سلعة لا يملكها لشخص. فبين المسألتين فرق ظاهر.

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول…

الشيخ: قبل هذا، الأخ يقول: الدروس التي في (جامع الصانع) لم تنزل على موقع البث المباشر، أنا كلمت إمام (جامع الصانع)، وأخبرني بأنه قد اعتدى بعض السُّرَّاق على الجامع، نسأل الله العافية، ما تركوا حتى المساجد، وسرقوا الكمبيوتر، وكل ما يتعلق بالتسجيل، وانقطع التسجيل مدة أسبوعين، ثم أعادوه الآن. هذا هو سبب انقطاع تسجيل الدروس، بسبب هذا الاعتداء الذي وقع.

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: عرفتم الكبائر، فما هي الصغائر؟ ومثل ماذا؟

الشيخ: الصغائر هي ما عدا الكبائر، الذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر.

والله تعالى يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]؛ يعني: تُكفَّر الصغائر. وقوله: إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32] يعني: صغائر الذنوب. فمن يُمثِّل لنا بمثالٍ لصغيرة؟ النظر المحرم، النظر المُحرَّم يُعتبر من الصغائر، ليس من الكبائر، ولا ينبغي أيضًا التوسع في تمثيل الصغائر؛ حتى لا يستهين بها الناس.

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: كيف الجمع بين أن الله قدَّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض، وبين أنَّ في ليلة القدر يُكتب فيها ما يكون في السنة؟ وجزاكم الله خيرًا.

الشيخ: يا إخوان، مسائل القدر هذه فوق مستوى العقل البشري، هذه نصيحة، لا يتوغَّل الإنسان في مسائل القدر؛ لأن العقل البشري إنما يحكم على عالم المادة فقط، أما ما وراء المادة ما يستطيع العقل البشري أن يحكم عليه؛ فمسائل القدر مستواها فوق مستوى العقل البشري، ما يستطيع العقل البشري أن يتصورها تصورًا كاملًا.

ولهذا؛ السلف نَهَوْا عن التعمُّق في مسائل القدر، فنؤمن بهذه النصوص كما وردت؛ أن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب الله تعالى مقادير كل شيء، كل شيء قدَّره تقديرًا جل وعلا، وتُقدَّر الأشياء أيضًا وقتَ الخلقِ عندما يبلغ أربعة أشهر يُكتَب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أو سعيد، وأيضًا في ليلة القدر. هناك تقدير عمري، وتقدير حولي.

ولكن هذه أمور -كما ذكرت- لا يستطيع العقل البشري أن يستوعبها، إذا كنت الآن لا تستطيع أن تستوعب الروح التي بين جنبيك، روحك التي بين جنبيك هل تعرف ما هي؟ ما تستطيع أن تعرف كنهها وحقيقتها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، كيف تريد أن تستوعب مثل هذه المسائل العظيمة؟ فالعقل البشري محدود جدًّا.

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، أحسنت. ما وراء الجدار، وما وراء الباب، ما يمكن أن نعرفه.

فمسألة القدر من المسائل التي هي فوق مستوى العقل البشري؛ ولذلك إذا أطلق الإنسان لعقله التفكير ما يهتدي لشيء، وكم من أناس ضلوا في مسائل القضاء والقدر.

ولهذا؛ أثر العبودية يظهر في الاستسلام لله ، الاستسلام على اليقين بأن الله حكيم عليم، وأن الله تعالى عدل، فلا يدخل الإنسان في مثل هذه المسائل ويتعمَّق فيها؛ لأنها فوق مستوى تفكيره، وفوق مستوى العقل البشري.

العقل البشري محدود جدًّا، يحكم على عالم المادة، وما عدا عالم المادة ما يستطيع أن يحكم عليه، لا يستطيع أن يحكم على الروح، الروح من عالم آخر، ليس من عالم المادة، ما أخبر الله تعالى به، يعني من أمور الغيب، هذا عالم آخر، الجنة مثلًا وما فيها من النعيم هذا أيضًا من عالم آخر، ليس من عالم الدنيا، عالم آخر.

ولذلك؛ ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء.

فهي عالم آخر، يعني: ما تستطيع أن تتصور المتعة واللذة التي في الجنة، وكذلك أيضًا النار التي تكون يوم القيامة تشبه نار الدنيا في حرِّها لكن أشد، لكن حقيقتها وطبيعتها لا يستطيع العقل البشري أن يتصورها.

بعض أهل العلم ذكر مثالًا بسيطًا لمثل هذا، يقول: الجنين في بطن أمه، نفترض افتراضًا أنه قيل له: إنك ستخرج من هذا الجو الذي أنت تعيش فيه الآن، الآن هو يعيش في ظلمات، يظن أن الدنيا هكذا، قيل له: إنك ستخرج وسترى كونًا فيه شمس، وفيه قمر، وفيه نجوم وجبال، وفيه كذا، وفيه كذا، هل سيفهم؟ ولو فهم هل سيعقل؟

وكذلك أيضًا عالم الآخرة بالنسبة للدنيا، هو كالدنيا بالنسبة لهذا الجنين الذي هو في بطن أمه. فلا يستطيع الإنسان أن يحكم على هذه المسائل.

والعقل البشري نقول: إنه عقل لا يحكم إلا على عالم المادة فقط –وأيضًا- حكمًا ليس حكمًا كاملًا، حكمًا محدودًا أيضًا، حكمًا محدودًا؛ قد يرى الشيء، يرى السراب يظنه ماءً، ثم يتبين أنه ليس بماء، يسمع الشيء ثم يتبين أنَّ سمعه غير صحيح. الحُكم حتى على عالم المادة حكم محدود، فكيف تريد منه أن يُلِمَّ بمسائل القضاء والقدر! أو بما وراء المادة! ما يمكن. فانتبِهوا يا إخوان لهذه المسائل.

ولذلك؛ مقتضى العبودية: الاستسلام لله ، أنت عبدٌ لله سبحانه، فإذا كنت عبدًا لله تستسلم لما قاله الله وقاله رسوله .

مداخلة: …..

الشيخ: نعم، لا شك، حتى الأم، ما بالك بالخالة؟ إذا كان الأب أصلح من الأم، فيكون هو الأحق بالحضانة، فالخالة من باب أولى.

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا السائل يقول: لدي محفظةُ أسهم من أربع سنوات جعلتها للاكتتاب، فاجتمعت فيها أسهم، ولا أعلم هل الشركة تُزكِّي أم لا؟ فكيف أزكِّي مع اختلاف رأس المال في كل سنة؟

الشيخ: هذه المحفظة ما دام أنه لا يبيع ولا يشتري فيها، فتكفي زكاة الشركة، الشركات عندنا في المملكة، جميع الشركات المساهمة مُلزَمة بدفع الزكاة إلى مصلحة الزكاة والدخل، جميعها، وبذلك لا يلزم هذا المُكتتِب أن يُخرج زكاته.

أما إذا كان يبيع ويشتري فيها، فهذا مضارب، هذا لا بد أن يُقيِّم ما في المحفظة ويُخرج زكاتها، إذا كان يبيع ويشتري فيها، أما إذا كان تركها وما يبيع ولا يشتري فيها فتكفي زكاة الشركة. هذا أحسن ما قيل في مسألة زكاة الأسهم.

إلا الصناديق الاستثمارية، الصناديق الاستثمارية لا تُخرج في زكاة الشركات، في الصناديق الاستثمارية لا بد من زكاتها. أما المحافظ في غير الصناديق الاستثمارية فعلى التفصيل الذي ذكرنا: إن كان يبيع ويشتري فلا بد أن يُزكِّي، وإن كان لا يبيع ولا يشتري فتكفي زكاة الشركة.

السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: ورد في الحديث: أنت ومالك لأبيك[19]، فهل للأب أن يأخذ المال من ابنه مع أنه قد يزيد على حاجته؟

الشيخ: نعم، للأب أن يأخذ من مال ابنه بشرطين:

  • الشرط الأول: ألا يأخذ ما يضر الابن.
  • والشرط الثاني: ألا يأخذه ويُعطيه ولدًا آخر.

أما الشرط الأول: لا يأخذ ما يضر الابن؛ لقول النبي لا ضرر ولا ضرار[20]، يعني مثلًا: لو كان هذا الابن ما عنده إلا سيارة واحدة يذهب عليها للجامعة، فليس للأب أن يأخذ هذه السيارة منه بحجة أنت ومالك لأبيك، لكن إذا كان عنده أموال كثيرة وأخذ الأب منها فلا بأس.

وأيضًا، ليس للأب أن يأخذ هذا المال ويُعطيه ولدًا آخر؛ لأن الأب أصلًا ممنوع من تفضيل بعض أولاده على بعضٍ في مال نفسه، ففي مال ولده من باب أولى.

اشتراط الحاجة؛ اشترط بعض الفقهاء أن يكون الأب محتاجًا، ولكن هذا لا دليل عليه، والحديث المروي في ذلك وهو تقييد أخذ الأب لحاجة ضعيفٌ لا يصح. والصواب: عدم اشتراط الحاجة.

ويتفرع عن هذا مثلًا مسألة: قد يكون بعض الأطفال لهم مكافآت مثلًا، طلاب مدارس تحفيظ القرآن مثلًا أو غيرها يكون لهم مكافآت، فبعض الآباء والأمهات يتحرَّجون من الأخذ منها، نقول: لا حرج، الأب والأم خاصة لهم الأخذ من أموال أولادهم، فيعني: لا يلحقهم الحرج كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم[21]. والصحيح: أن الأم كالأب في هذا؛ لحديث عائشة رضي الله عنها السابق.

السؤال الأخير: أحسن الله إليكم. هذا سائل يقول: كيف يُصفِّي طالب العلم نيته في الطلب؟

الشيخ: قيل للإمام أحمد: ما الإخلاص؟ قال: أن تنوي رفع الجهل عن نفسك، ورفع الجهل عن غيرك، وأيضًا لا ينوي بهذا العلم رياءً ولا سمعة.

ويا إخواني، مِن أنفع ما يُفيد طالب العلم: الدروس، مثل هذا الدرس مثلًا، الدليل على هذا: الصحابة ، أليسوا هم أعلم الأُمَّة؟ كيف طلبوا العلم؟ كان أكثرهم من الأميين لا يقرؤون ولا يكتبون، فإذن كيف حصَّلوا العلم؟ عن طريق المجالسة والسماع.

دليلٌ على أن هذا من أعظم الطرق، حتى يفوق طريق القراءة، المجالسة والسماع وحضور دروس العلم هذا يفوق حتى القراءة. وقد أشار لهذا الشاطبي، وذكر أن للعلم طريقين: طريق أخذ العلم عن أهله، وطريق القراءة والجهد الشخصي. وذكر أن الطريق الأولى أنفع وأكثر فائدة.

ولذلك؛ الصحابة أخذوا العلم بهذه الطريقة.

فدروس العلم تُفيد كثيرًا طالب العلم، وأيضًا تختصر له الوقت والجهد، ربما مسألة تقرؤها في كتاب لا تفهمها، ويأتي من يشرحها لك بأسلوب مبسط وسهل، ويختصر لك الكثير من الجهد ومن الوقت.

وأيضًا مع الأجر والثواب، شيء ذكره الشاطبي، يقول: إن من يلزم دروس العلم، إن الله تعالى يفتح عليه، يكون هناك فتح من الله . وقال: إن هذا كان يَجِده الصحابة  مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولما مات النبي أنكروا أنفسهم. فقال: إن هذا الشعور يجده من يُلازم حِلَق العلم، وهو: أن الله تعالى يفتح عليه أبواب العلم، ويجد أنه مع مرور الوقت قد حصَّل المَلَكة، وفهم الكثير.

لكن أيضًا لا بد من أن يكون منضبطًا أولًا في الحضور، حضور الدرس، يكون جادًّا أيضًا في مراجعة الدرس، هذه أمور لا بد منها؛ لأن الإنسان إذا لم يُراجع ما سمعه ربما ينسى، لأن الذاكرة الآن عند الناس ضعفت، ليست كالذاكرة في وقت الصحابة .

كان العرب في الجاهلية يسمعون المُعلَّقات -القصائد من مائتي بيت- ويحفظونها من أول مرة، ويستعيبون من المُلقي أن يُعيدها مرة ثانية، أين الآن من يحفظها من عاشر مرة وليس من أول مرة؟

وذكر أيضًا عن الزُّهري أنه يحفظ الشيء من أول مرة، والشعبي يحفظ الشيء من أول مرة، والشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يقول: كنت إذا قرأت شيئًا حفظته. يعني: هذا من قريب.

فالآن، أين من يحفظ الشيء من عاشر مرة؟ الذاكرة ضعفت؛ ولذلك لا بد من وسائل لتعاهد هذا العلم، حياة العلم المذاكرة.

وفي الوقت الحاضر، إما بطريق الكتابة والتلخيص، أو حتى بطريق التسجيل، يعني المسجلات هذه نعمة من الله ، إذا أخذ الإنسان مثلًا الدرس وسمعه مرة، مرتين، ثلاثًا، لا شك أن المعلومة تستقر في الذهن.

على سبيل المثال؛ درَسنا هنا “دليل الطالب”، الإخوة جزاهم الله خيرًا سجَّلوا جميع الدروس في أقراص، فبالإمكان أن من أراد الاستذكار أن يجعلها معه في السيارة في الأوقات التي يسمونها “أوقات ضائعة”، يستذكر فيها ما شُرح، ويستفيد بذلك فائدة عظيمة.

أما الإنسان الذي ما يتعاهد ما سمعه سرعان ما ينساه، ويستفيد الأجر والثواب، لكن حتى تتم الفائدة لا بد من المذاكرة لما سمع، حياة العلم المذاكرة.

مداخلة: …..

الشيخ: لا يُعاب عليه أصلًا، استماع الدروس من الأشرطة هو بمثابة حضور الدروس، لكن هذه أيضًا قد تكون حِيَلًا نفسية عند بعض الناس، يقول: أنا ما أريد الدروس، أريد أن أستمع للأشرطة، يتحمس له أسبوعًا، أسبوعين، شهرًا، شهرين، ثم ينقطع. هذا بالتجربة.

لكن، لو ألزم نفسه بحضور الدروس فلا شك أن هذا أكثر فائدة وأكثر نفعًا، لكن لا مانع إذا فاته درس مثلًا أن يذهب ويستمع له من شريط، أو مثلًا إذا كان شيخ يرى أنه يُفيد الطلاب ويصعب عليه الوصول إليه، يُتابع شرحه عن طريق شريط مثلًا.

والآن، أتى الله بالإنترنت، والمواقع التي تُحفظ فيها الدروس هذه أيضًا نعمة من النعم، فبإمكانك الآن أن تتخيَّر فقط الدرس الذي تريد، والشيخ الذي تريد. هذه من النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها على طلاب العلم.

السؤال: …..

الشيخ: نعم، حتى الآن لم يتحرَّر فيها شيء.

السؤال: …..

الشيخ: وأما الخُيَلاء فلا شك أنه من الكبائر، وهذا محل إجماع، لكن إذا كان لغير خيلاء فإذا حملنا عليه قول النبي : ما أسفل من الكعبين ففي النار[22]، فهذا يدل على أنه كبيرة.

وإذا رأينا اختلاف العلماء، وأن الجمهور لا يرونه أصلًا حرامًا، قد يقول: إنه ليس كبيرة. فالمسألة محتملة، والراجح: أنه محرم، لكن البحث: هل هو كبيرة أو ليس كبيرة؟ وإلا فالراجح أنه محرم لعموم الأدلة.

السؤال: …..

الشيخ: مسألة البنك مختلفة تمامًا أصلًا، الفضولي ليس معه وكالة، هو باعه ما لا يملك، لا تقس على الناس في الوقت الحاضر، لا بد أن يكون عنده وكالة. لكن، افترِض أنه باعه، قال: “بِعْتُك هذه السيارة”، بيع شفهي، يعني البيع صحيح إذا أذِن المالك، إذا أذِن المالك فالبيع صحيح. أما البنك فما باع شيئًا لمالكه ثم أذِن له المالك، هو باع على إنسان أجنبي شيئًا لا يملكه، وإنما سوف يشتريه ثم يبيعه عليه، وهذا يكون قد باع ما لا يملك.

مداخلة: …..

الشيخ: هو الفرق الرئيس: أن البنك الآن لا يبيع ملك هذا الإنسان لمصلحته، هو يبيع الآن على إنسان أجنبي شيئًا سوف يشتريه الآن، ما شراه الآن سوف يشتريه، فرقٌ بينه وبين مسألة الفضولي، عندما -مثلًا- أقول لك: بعتك سيارة موديل كذا، وأنا ليس عندي سيارة أصلًا. ليس لها علاقة بمسألة الفضولي هذه، مسألة الفضولي: أن يأتي إنسان لسيارة موجودة فيبيعها ثم يأذن المالك، هذه مسألة الفضولي.

نكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أحمد: 6707، وأبو داود: 2276.
^2, ^3, ^5, ^6, ^7, ^15, ^18 سبق تخريجه.
^4 رواه البخاري: 2699.
^8 رواه أحمد: 23499، والترمذي: 1566.
^9 رواه مسلم: 105.
^10 رواه البخاري: 6016، ومسلم: 46.
^11 رواه البخاري: 48، ومسلم: 64.
^12 رواه البخاري: 6105، ومسلم: 110.
^13 رواه مسلم: 2595.
^14 رواه البخاري: 1358، ومسلم: 2658.
^16 رواه أحمد: 7352، وأبو داود: 2277، والترمذي: 1357، والنسائي: 3496، وابن ماجه: 2351.
^17 رواه البخاري: 13، ومسلم: 45.
^19 رواه أحمد: 7001، وأبو داود: 3530، وابن ماجه: 2292.
^20 رواه مالك: 31، وأحمد: 2865.
^21 رواه أحمد: 24032، وأبو داود: 3528، والترمذي: 1358.
^22 رواه البخاري: 5787.
zh