عناصر المادة
- باب نفقة الأقارب والمماليك
- شروط وجوب النفقة على الأقارب
- نفقة الأقارب على قدر إرثهم
- حكم الإجبار على الكسب لأجل النفقة
- ترتيب الأقارب في استحقاق النفقة
- حكم أخذ النفقة المستحقة مِن مال مَن تلزمه النفقة
- حكم إنفاق الأجنبي بنية الرجوع على من تلزمه النفقة
- حكم النفقة على المملوك وإعفافه
- تحريم الإساءة إلى المملوك
- حكم لعن الكافر المعين
- تأديب المملوك والزوجة والولد
- أحكام النفقة على البهائم
- الأسئلة
ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى:
باب نفقة الأقارب والمماليك
وهذا الباب من الموضوعات المهمة التي يكثر السؤال عنها، سواء فيما يتعلق بالنفقة، أو فيما يتعلق بما يترتب على النفقة: وهو الزكاة، هل يجوز دفع الزكاة للقريب؟ أو لا يجوز دفع الزكاة للقريب؟
هي فرع عن وجوب النفقة عليه، إذا كانت تجب النفقة على هذا القريب لا يجوز دفع الزكاة إليه، إذا كانت لا تجب فيجوز.
فإذن؛ هذا الباب يحوي مسائل مهمة.
شروط وجوب النفقة على الأقارب
قال:
وهنا المؤلف لم يُفرق بين ما إذا كان القريب من عمودي النَّسب أو لم يكن، وغيره من فقهاء الحنابلة فرَّقوا، مثل صاحب “الزاد”؛ فرَّق بين ما إذا كان القريب من عمودي النَّسب أو لم يكن؛ فقالوا: إنه إذا كان القريب من عمودي النَّسب، وهما: الأبوان وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا، فهؤلاء تجب النفقة عليهم، وسواء كانوا وارثين أو غير وارثين.
من يُمثِّل لنا بقريب من عمودي النَّسب غير وارث؟ الجد مع وجود الأب، فهو غير وارث.
فتجب إذن نفقة هؤلاء، سواء كانوا وارثين أم غير وارثين؛ ولهذا قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على وجوب النفقة على الوالدين.
وقال: وأجمع من نحفظ عنه من أهل العلم أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم. فنقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، يعني: على وجوب نفقة الوالدين، ووجوب نفقة الأولاد.
وأما الوالدان، فالأدلة الكثيرة التي فيها الأمر بالإحسان للوالدين، وبر الوالدين، ومنها قول الله : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، فمن الإحسان إلى الوالدين: الإحسان إليهما بالنفقة، فإن بر الوالدين يشمل الإحسان بالقول، وبالفعل، وبالمال، فهو يشمل ثلاثة أشياء: الإحسان بالقول وبالفعل وبالمال، فالمال أحد الأقسام الثلاثة في بر الوالدين.
وأما بالنسبة للنفقة على الأولاد، فأيضًا نصوص كثيرة دلت على هذا، منها قول الله : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233].
فإذن؛ عمودا النَّسب تجب النفقة عليهم إذا احتاجوا للنفقة، وكان المنفق قادرًا على النفقة.
فإذن؛ نستثني عمودي النَّسب مما ذكره المؤلف من الشروط، أما الأقارب من غير عمودي النَّسب مثل مَن؟ مثل: الإخوة والأخوات، مثلًا أبناء الأخ، أبناء العم، العم مثلًا، فهؤلاء يقول المؤلف: إنه تجب نفقتهم.
تجب النفقة عليهم بثلاثة شروط.
فهذا الشرط لا بد منه، أما لو كانوا أغنياء أو لهم كسب يستطيعون الاستغناء به؛ فلا تجب النفقة عليهم.
يعني: غنى المنفق، والفقهاء يقولون: إن الغنى في كل شيء بحَسَبِه، ليس المقصود بالغنى أن يكون من الأثرياء، إنما الغنى في كل شيء بحسبه.
فما هو الغنى في هذا الباب؟ قال:
فهذا هو الغنى المقصود هنا: (أن يفضُل عن قوت نفسه، وزوجته، ورقيقه، يومه وليلته) هذا يُعتبر غنيًّا في هذا الباب. إذا كانت حاجته هو وحاجة من تلزمه نفقته قد كُفيت، وكان هناك فاضل عليها، يعني: إذا وُجد عنده فاضل عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقته؛ فهذا يُعتبر غنيًّا في (باب النفقات)، يُعتبر غنيًّا في هذا الباب؛ لأن الغنى في كل شيء بحسبه.
الغنى في (باب الزكاة) ما هو؟ مِلْكُ النِّصاب. فالغنى هنا في (باب النفقات): أن يملك فاضلًا عما يحتاجه هو ومَن تلزمه نفقته.
ثم استثنى المؤلف، يعني هو ورجع واستثنى:
رجع واستثنى، لو أنه فعل كما فعل صاحب “الزاد” لكان أولى، لكن ربما المؤلف له مأخذٌ آخر: وهو أنه يُريد أن يجعل الشرط الأول والشرط الثاني شاملًا حتى الأصول والفروع في وجوب النفقة، وأن الخلاف بين الأصول والفروع -يعني: عمودي النَّسب- وغيرهم؛ إنما هو بالشرط الثالث، وهذا يعني ملمحٌ جيد.
فإذن؛ الشرط الثالث: أن يكون وارثًا لهم، أن يكون وارثًا لهذا القريب، إما بفرض أو تعصيب؛ والدليل لهذا قول الله : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، ثم قال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، معنى الآية: على وارث الولد الذي لو مات الصبي وله مالٌ ورثه عليه؛ أن يقوم مثل الأب.
هذا الطفل الرضيع يجب رزقه وكسوته على والده: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ؛ يعني: الوالدات وكذلك أيضًا هذا الولد المولود، إذا عُدِم؛ فعلى وارثه؛ والدليل قوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني: نفقة الرضاع.
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إلى قوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233].
فأوجب الله على الوارث مثل ما على الأب من نفقة الرضاع، فدلَّ ذلك على اشتراط أن يكون وارثًا، اشترط في وجوب النفقة عمومًا: أن يكون هذا القريب وارثًا له، فإن كان غير وارث فلا تجب نفقته عليهم.
إذن؛ خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن عمودي النَّسب تجب النفقة عليهم إذا احتاجوا وكان المنفق غنيًّا، من غير اشتراطٍ لإرث، أما ما عدا عمودي النَّسب فتُشترط هذه الشروط الثلاثة.
لو أخذنا على هذه الشروط تطبيقات: إنسان له أب وأخ فقير، هل يجب عليه أن يُنفق على أخيه الفقير أو لا يجب؟ له أب وأخ فقير، هل يجب أو لا يجب؟
مداخلة: ….
الشيخ: لماذا لا يجب؟ نعم؛ لأنه ليس وارثًا له، هل هذا لو مات أخوه هل يرثه؟ ما يرثه؛ لأنه محجوب بالأب، فلو مات هذا عن أب وعن أخ ما ورثه الأخ، لا إرث للحواشي مع ذكر الفروع، مع وجود الأب لا يرث الحواشي. فإذن لا تجب عليه نفقته.
ويترتب على هذا: أنه ما دام ما تجب عليه نفقته، يجوز له أن يُعطيه من الزكاة.
لكن، لو قلنا مثالًا آخر: هذا شخص له إخوة، وأبوه متوفى، وإخوته فقراء، إخوة صغار مثلًا فقراء، هل يجب عليه أن يُنفق عليهم؟ يجب، هل يجوز أن يُعطيهم من الزكاة؟ ليس له أن يُعطيهم من الزكاة، إنما يُعطيهم من حُرِّ ماله، وليس من الزكاة؛ لأنه وارث لهم لو ماتوا. فانتبِه لهذه المسألة.
مَن له ابن وأخ فقير، هل يجب عليه أن يُنفق على أخيه الفقير؟ لا يجب، لماذا؟ لأنه غير وارث له. هل يجوز أن يُعطيه من الزكاة؟ نقول: نعم، يجوز له أن يُعطيه من الزكاة. وعلى هذا فقِسْ.
من له ابن فقير، وأخ موسر، فهل يجب عليه على هذا الأخ أن يُنفق على ابن أخيه مثلًا؟ يعني: هذا له أخ موسر وله ابن، فنقول: ما دام أن الابن موجود أو الأب موجود، فهو يحجب جميع الحواشي، وبالتالي لا تجب النفقة عليهم.
سيأتينا بعد قليلٍ أمثلةٌ على تبعيض النفقة، لو كان لها أكثر من قريب، مثلًا: مجموعة إخوة لهم أخ فقير، سيأتي الكلام عنها بعد قليل.
نفقة الأقارب على قدر إرثهم
قال:
(وإذا كان للفقير ورثة دون الأب) الأب مستثنى هنا؛ لأن الأب أصلًا تجب عليه النفقة ولو كان لهذا الابن ورثة آخرون ولو كان لهم أم، فالأب تجب عليه النفقة؛ لأن الله قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233].
فأوجب الله تعالى النفقة على الأب؛ ولقول النبي لهند رضي الله عنها: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف[1].
لكن غير الأب، إذا كان للفقير ورثة دون الأب قال: (فنفقته على قدر إرثهم).
مثال ذلك: رجل له أمٌّ وجَدٌّ، طفل مثلًا له أم وجد، من الذي يُنفق عليه وأبوه غير موجود، طفل يتيم، أبوه غير موجود، متوفى، وعنده أم وعنده جد، فإذا أردنا أن نوجب الآن النفقة، فمن الذي تجب عليه النفقة؟
مداخلة: ….
الشيخ: تجب بقدر الإرث، فيجب على الأم ثلث النفقة، وعلى الجد ثلثا النفقة، لماذا؟ لأنه لو مات لورثه أمه وجده، وأمه لها ثلث التركة، والجد له الباقي وهو الثلثان. فهذا معنى قول المؤلف: إن النفقة على قدر إرثهم.
من له جدة وأخ شقيق، فكيف تكون النفقة؟ الجدة يجب عليها السدس، والباقي على الأخ الشقيق.
فإذن؛ على حسب الميراث؛ لأن الآية -سبحان الله-: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] ثلاث كلمات، ومع ذلك تضمنت أحكامًا عظيمة، فالآية رتبت هذا كله على الإرث.
فإذن؛ تكون النفقة على قدْر الإرث.
قال:
لأن هذا هو القدر الواجب عليه، لو كان مثلًا في مثالنا السابق: مَن له أمٌّ وجَدٌّ، الجد هذا غنيٌّ ثريٌّ، والأم ليست فقيرة لكن حالها متوسطة، فهل نقول: النفقة كلها تجب على الجد؟ لا، نقول: الأم عليها ثلث النفقة، والجد عليه الثلثان ولو كان موسرًا.
هذا معنى قول المؤلف: (ولا يلزم الموسر منهم مع فقر الآخر سوى قَدْر إرثه) يعني: سوى قَدْر إرثه الواجب عليه.
حكم الإجبار على الكسب لأجل النفقة
ثم قال:
هذا إنسان قادر على العمل، والعمل متهيئ له، وعنده زوجة وأولاد، ويقول: أنا ما أريد أن أعمل، أريد أن آخذ من الناس من الصدقات. فنقول: لا، يُجبر على العمل؛ وذلك لأن تركه الكسب مع قدرته عليه تضييع لمن يعول.
قال النبي : كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يَعُول[2]، رواه النسائي[3]، ورواه مسلم بلفظ: كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته[4].
فكونه قادرًا على العمل ولا يعمل، والعمل بالنسبة له متهيئ، هذا تقصير منه؛ فيُجبر على العمل، وعلى التكسب.
ترتيب الأقارب في استحقاق النفقة
قال:
يعني: وجد مالًا لكن لا يكفي نفسه ومن تلزمه نفقته، فبأيهما يبدأ؟ قال:
لقول النبي : ابدأ بنفسك ثم بمن تعول[5].
وذلك لأن نفقة الزوجة على سبيل المعاوضة، وليس على سبيل المواساة، فتُقدَّم على ما يجب على سبيل المواساة؛ ومما يدل لهذا أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار، بخلاف نفقة القريب فإنها على سبيل المواساة، وتجب في حال اليسار دون الإعسار.
فإذن؛ نفقة الزوجة مقدَّمة على نفقة القريب.
قال:
يعني: يلي الزوجةَ الرقيقُ، لكونها تجب مع اليسار والإعسار.
يعني: فالأقرب فالأقرب في ذلك بالنسبة له، لكن مع تقديم الأقرب فالأقرب حسب الميراث.
فمثلًا: في الميراثِ الولدُ مقدَّم على الأب، فيُقدَّم كذلك في النفقةِ الولدُ على الأب، وكذلك أيضًا ولد ابنه وجده وأخيه، يعني: بحسب ترتيب الميراث.
فإن قال قائل: كيف نقول: إن نفقةَ الولد مقدمة على الأب، وفي قصة أصحاب الصخرة[6] نجد أن الرجل الذي أتى بالغَبُوق وقف على رأس والديه وأطفالُه تحت رجليه يبكون ويصيحون من الجوع، ومع ذلك كانت هذه محمدة له، كانت من أسباب تفريج الكربة التي وقعوا فيها وانفراج الصخرة، فكيف نجيب عن هذا؟!
مداخلة: ….
الشيخ: نعم، هذا هو الأقرب في الجواب، أن يقال: إن هذا في شرع من قبلنا، لكن مثل هذه المسألة في شرعنا، يعني: إذا وَجد أن أولاده يصيحون جوعًا ووالداه نائمان، فعلى مقتضى القواعد الشرعية يُعطي الطعام أولاده؛ لأنهم مقدَّمون في النفقة على والديه. لكن، يظهر هذا في شرع من قبلنا، وهذا أحد الأجوبة.
ومن الأجوبة كذلك: أن حاجة الأولاد لم تكن شديدة، وكأن هذا شيء زائد على الحاجة الأساسية، فرأى أن إكرام والديه مقدَّم على إكرام أولاده.
مداخلة: ….
الشيخ: لأن نفقة الأم أصلًا واجبة على الأب، فيُعطي الأب؛ لأن الأب سينفق على أمه منها.
ولذلك؛ لو أمر إنسانًا أبوه بأمر، وأمرته أمه بأمر مخالفٍ.
مثلًا؛ قال له أبوه: اذهب. قالت الأم: لا تذهب. فطبعًا هنا ينظر ما فيه المعروف لكن لو كان كِلاهما من الأمور السائغة وليس بينهما تعارض، أما لو كان بينهما تعارض ينظر لما هو فيه المصلحة.
لكن، لو كان ليس بينهما تعارض؛ يعني طلب أبوه منه حاجة، وطلبت أمه منه حاجة في نفس الوقت، فأيهما يُقدَّم؟ الأم أم الأب؟ الأب مقدم.
لماذا مع أن حق الأم أعظم؟ لأن الأم أصلًا مأمورة بطاعة الأب، فهي ترجع إلى الأب أصلًا، يعني الأم يُفترض لها أن تراعي أمر زوجها؛ لأنه ولي أمرها، فهي مأمورة بطاعة الأب، تُقدَّم هنا طاعة الأب على طاعة الأم.
فنقول: إذا قالت الأم: إن حقها آكد. صحيح حقها آكد، لكن هي أيضًا هي مأمورة بطاعة أب هذا الولد، فهي ترجع إلى الأب. أما إذا انفصلا فتأتي المسألة أن حقَّ الأم آكد.
حكم أخذ النفقة المستحقة مِن مال مَن تلزمه النفقة
قال:
مستحق النفقة له أن يأخذ ممن تجب عليه النفقة إذا امتنع، والأصل في هذا ما جاء في الصحيحين عن هند امرأة أبي سفيان أنها أتت النبي وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يُعطيني ما يكفيني وولدي. فقال لها النبي : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف[7].
وهل هذا الحكم خاص بالزوجة؟ لا، ليس خاصًّا بالزوجة، المؤلف عمَّم قال: لكل مستحق النفقة. فيشمل كذلك الأولاد، لهم أن يأخذوا من مال أبيهم بغير علمه إذا كان -مثلًا- مقصرًا عليهم في النفقة، الأولاد من بنين وبنات.
لو كانت النفقة تجب على أخيه، هذا إنسان فقير، نفترض مثلًا أنه طالب، أبوه متوفى، وله أخ غني، ورفض أن يُنفق عليه، فاستطاع أن يأخذ من ماله، هل له أن يأخذ من ماله بغير علمه؟
نعم، يجوز، لكن بالمعروف، يأخذ قدْر حاجته ولو بغير علمه.
فالمسألة لا تختص فقط بالزوجة والأولاد، مستحق النفقة عمومًا، بل إذا أردنا أن نوسِّع الدائرة نقول: كل من له حق عند غيره، فله أن يأخذه ولو بغير علمه، وهذه تُسمى “مسألة الظَّفر”.
لكن، ينبغي ألا يكون ذلك إلا إذا كان سبب الحقِّ ظاهرًا؛ لأنه إذا كان سبب الحق خفيًّا قد يترتب عليه مفاسد، قد يُتهم بالسرقة، قد يتخذه بعض الناس ذريعة لأخذ أموال الناس، ثم يقول: إنها من باب الظَّفر. فلا بد أن يكون سبب الحق ظاهرًا أو مثبتًا.
فإذا كنت مثلًا تطلب إنسانًا مالًا وماطل بك، تطلبه مثلًا عشرين ألف ريال ورفض، يعني: يُماطل بك، ولم يُعطكِ حقك، فوجدت مثلًا شيئًا له، يجوز أن تأخذه بنية أنه من حقك الذي في ذِمَّته هو، ولو بغير علمه؛ لأن هذا من باب الظَّفر.
حكم إنفاق الأجنبي بنية الرجوع على من تلزمه النفقة
قال:
إذا أنفق أجنبي بنية الرجوع، فإنه يرجع بالنفقة على من تلزمه النفقة.
فنفترض -مثلًا- أن هذه الأسرة فيها أطفال، واحتاجوا للنفقة، ورفض الزوج أن يُنفق عليهم، هذه تحصل غالبًا مع الانفصال ومع الطلاق؛ فمثلًا: أخو الزوجة قام وأنفق عليهم بنية الرجوع على الزوج، فله أن يرجع، ويُلزم هذا الزوج بأن يُعطيه ما أنفق.
أما إذا كان أنفق عليهم بنية التبرع، وليس بنية الرجوع، فهل له الرجوع؟ ليس له الرجوع.
كيف نعرف هذه المسألة: أنه أنفق بنية التبرع، أو بنية الرجوع؟ كيف نعرفها؟
مثلًا: إذا وصلت المسألةُ القاضيَ، وادَّعى هذا الشخص أنه أنفق على أولاد أخته من بنين وبناتٍ وبنية الرجوع، وادَّعى الزوج أنه أنفق عليهم متبرعًا، كيف نعرف أنه أنفق بنية الرجوع، أو بنية التبرع؟
مداخلة: ….
الشيخ: أحسنت. باليمين، ما يوجد غير اليمين؛ لأن النية أمر باطن متعلِّق بالقلب، ما أحد يستطيع أن يعرف نية هذا الإنسان هل هو بنية الرجوع أم بنية التبرع إلا أن نُحلِّفه، ما لم توجد قرينة أو بيِّنة.
لو وُجدت بيِّنة؛ مثلًا أنه تكلم وشهد عليه شهود، فيُعمَل بها، لكن إذا لم توجد بيِّنة فيُحلِّفه القاضي أنه إنما أنفق بنيَّة الرجوع، فإذا أنفق بنيَّة الرجوع فيُلزَم الزوج بدفع النفقة. أما إذا أنفق بنية التبرع فليس له الرجوع، وأيضًا هذا قياسٌ على قضاء الدَّين مثلًا.
لو أن إنسانًا رَفَع فيه شكايةً وأُوقف مثلًا في السجن، أتى شخص من الناس وسدَّد عنه الدَّين، ثم طالب المدين، فنقول: إن كان سدَّد عنه الدَّين بنية الرجوع فيرجع عليه، أما إن كان سدَّد عنه الدَّين بنية التبرع فليس له الرجوع. هذه قاعدة مطردة.
قال:
يعني: لا نفقة بالقرابة مع اختلاف الدِّين.
بالولاء تجب للعتيق على مُعتِقه؛ وذلك لأنه يرثه مع اختلاف الدين.
ثم قال المؤلف رحمه الله:
انتقل المؤلف للكلام عن نفقة المماليك.
حكم النفقة على المملوك وإعفافه
الرِّق يُعرِّفه العلماء بأنه: “عجزٌ حُكْمي يقوم بالإنسان بسبب كفره بالله تعالى” هذا هو تعريف الرِّق.
والأصل في الرِّق أنه مرتبط بالجهاد في سبيل الله، فلا يجوز أن يُسْتَرَق إلا الكافر، أما المسلم لا يجوز استرقاقه، لكن قد يستمر الرِّق بالتوالد.
والرق في وقتنا الحاضر يكاد يكون منقرضًا، والقوانين الدولية تمنع منه رسميًّا في جميع دول العالم؛ ولذلك لا يكاد يوجد رِقٌّ، وما قد يوجد في بعض الدول الإفريقية مشكوك في شرعيته.
مداخلة: ….
الشيخ: على كل حال، هذا معروف، بعض المشايخ عندهم هذا، وأنا أعرف أن بعض المشايخ وبعض -أيضًا- طلاب العلم الموريتانيين عندهم الشيء هذا، لكنه مع ذلك محل شك، عندي أنه محل شك، لم أطمئن له كثيرًا.
قال: (وعلى السيد نفقة مملوكه)؛ يعني: يجب على السيد أن يُنفق على رقيقه ومملوكه.
ويدل لهذا قول النبي : للمملوك طعامه، وكسوته، بالمعروف، ولا يُكلَّف من العمل ما لا يُطيق أخرجه مسلم في “صحيحه”[8].
والدليل على أن له تزويجه إذا طلب قول الله : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]؛ يعني: من العبيد والإماء إن طلبوا التزويج فأنكحوهم بنص الآية.
ولكن إذا استخدمه نهارًا، فإنه يُمكِّنه من الاستمتاع بزوجته ليلًا.
يعني: على السيد إعفاف أَمَته.
بمِلك اليمين.
يعني مثلًا: إذا أراد أنه ما يطؤها، فيُزوِّجها وإن كانت مملوكة له، لكن يُزوِّجها. وسبق معنا أنه لا بد قبل هذا أن يستبرئها بحيضة.
إن كان لا يُريد أن يطأها بملك اليمين، ولا يريد كذلك أن يُزوِّجها، فيبيعها.
تحريم الإساءة إلى المملوك
قال:
وذلك لأن النبي نهى عن الضرب في الوجه، وقال: فإن الله خلق آدم على صورته الحديث في الصحيحين[9].
وأيضًا جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي قال: من لطم غلامه فكفارته عتقه[10]. فالضرب في الوجه لا يجوز، حتى ضرب الأولاد لا يجوز أن يكون في الوجه، ورد النهي عن هذا، وإنما يكون في غير الوجه. الضرب في الرأس، وليس في الوجه.
الرأس من غير الوجه هل يجوز؟ يبقى على الأصل، الأصل: أنه إذا لم يكن هناك ضرر فيجوز.
عمر كان أحيانًا يضرب الدِّرَّة بالرأس، صَبِيغ بن عسل الذي أتى ويُشكِّك الناس ويقرأ: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]، عمر لما أُخبر عنه قال: اللهم أَمْكِنِّي منه. فلما لقيه ضربه على رأسه بالدِّرَّة، حتى قال: والله يا أمير المؤمنين، لا أجد شيئًا من هذا!
يعني: أحيانًا بعض الأمور ما ينفع معها إلا الحزم. الشاهد: أن عمر ضربه على رأسه ثم نفاه، قال: اذهب -وحَلَق رأسه- اذهب وقل للناس: إن فلانًا قد طلب العلم وأخطأ.
كان عمر له هيبة عظيمة.
فهنا، الضرب في الرأس إذا اقتضت المصلحة لا بأس به، لكن الذي ورد النهي عنه هو الضرب في الوجه.
قال:
حكم لعن الكافر المعين
لا يجوز شتم الإنسان ولا شتم أبويه، حتى وإن كانا كافرين.
وهذا يقودنا إلى مسألة “حكم لعن الكافر المعين، والدعاء على الكافر المعين”، فهي محل خلاف بين العلماء:
- من العلماء من أجازها؛ ولهذا نجد بعض العلماء كابن كثير وغيره إذا مر أحد من هؤلاء قال: “لعنه الله”.
- ومن العلماء من منعها، وهذا هو الراجح.
القول الراجح: أنه لا يجوز لعن الكافر المعين، ولا الدعاء على الكافر المعين؛ لأن النبي كان يقول: اللهم العن فلانًا وفلانًا. فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128][11]، فنهاه الله تعالى عن هذا.
وأيضًا، لا أحد يتألَّى على الله، الله قادر على أن يهديه، إن كان حيًّا فالله قادر على أن يهديه، وإن كان ميتًا فما يدريك ربما يكون أسلم وأخفى إسلامه، ربما يكون معذورًا مثلًا في بعض الأمور التي ارتكبها، ليس كل من وقع في الكفر يكون كافرًا.
ولهذا؛ فاللعن يكون على سبيل الوصف، وليس على سبيل الشخص، فنقول: لعنة الله على الكافرين، لعنة الله على اليهود والنصارى.
لكن، أن تلعن فلانًا بعينه، فالقول الراجح: إنه لا يجوز.
مداخلة: ….
الشيخ: لهذين الأمرين: لأن الله نهى نبيه : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]؛ ولأن الله قادر على أن يهديه مهما بلغ من الكفر والطغيان، ولا أحد يتألَّى على الله .
مداخلة: ….
الشيخ: الدعاء على الكافر المعين إذا كان ظالمًا فيجوز بنص الآية؛ لأنه إذا كان مسلمًا يجوز، ما بالك بالكافر؟! لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، إن كان ظالمًا فيُدعى عليه بشخصه.
فمعنى الآية: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يُحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا المظلوم، فله الدعاء على الظالم بشخصه.
لكن، إذا لم يكن ظالمًا، وإنما لأجل كفره فقط، فهل له أن يدعو عليه؟ هذا محل خلاف، الأقرب أنه ليس له ذلك، إنما يدعو له بالهداية، يدعو له بأن الله يهديه.
ولهذا؛ لمَّا قال الطُّفَيل للنبي : ادْعُ على دوس. قال: اللهم اهدِ دوسًا. فدعا لهم بالهداية[12].
قال:
للحديث السابق في “صحيح مسلم”: ولا يُكلِّفه من العمل ما لا يُطيق[13].
قال:
لقول النبي : لا ضرر ولا ضرار[14]، فيجعل له وقتًا للراحة، ووقتًا للنوم، وكذلك وقتًا للصلاة المفروضة.
وإذا كان هذا يجب في حق المملوك، فيجب في حق الأجير الخاص من باب أولى. ومن ذلك مثلًا: السائق والخادمة، يجب من باب أولى أن يُعطى وقتًا للراحة.
فبعض الناس ما يُعطي هذا الأجير وقتًا للراحة، يُريد منه أن يعمل من الصباح إلى الليل؛ ليس له ذلك، لا شرعًا ولا حتى نظامًا، حتى نظام العمل والعمال، ساعات محدودة للعامل.
وما عليه عَمَلُ بعض الناس -أو كثير من الناس- هذا خطأٌ مخالفٌ للشرع، ومخالفٌ للنظام أيضًا، نظام الدولة. بل يجب أن يُعطيه وقتًا للراحة، وقتًا للنوم، وقتًا للقيلولة، وكذلك أيضًا إذا كان ممن تجب عليه الصلاة مع الجماعة مثلًا فيجب عليه أن يُعطيه وقتًا ليُصلِّي فيه مع الجماعة؛ لأنه إذا كان هذا يجب عليه في حق المملوك، ففي حق الأجير الخاص من باب أولى.
قال:
وذلك لإزالة الضرر. وسبق أن ذكرنا مسألة “مداواة الزوجة”، وإذا كان الجمهور قالوا: لا يجب عليه علاج الزوجة، فما بالك بالرقيق؟
وهذه المسألة بحثناها في الدرس السابق “حكم علاج الزوجة”، وقلنا: المذاهب الأربعة على أنها لا تجب وإنما تُستحب، وذكرنا قولًا آخر بالوجوب، وقولًا ثالثًا وهو وسط بين القولين.
الرقيق: هو أقل من رتبة من الزوجة؛ ولذلك يقول: يُستحب مداواته إن مرض.
لقول النبي : إخوانكم خَوَلُكُمْ، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعمه مما يطعم، وليُلبِسه مما يلبس، ولا يُكلفه من العمل ما لا يُطيق متفق عليه[15].
تأديب المملوك والزوجة والولد
قال:
إن خاف عليه من الهروب فله أن يُقيِّده، وله أن يُؤدِّبه.
ولهذا؛ في حجة الوداع، كان النبي جالسًا، وأبو بكر يضرب غلامه لمَّا أضاع بعيره، غلام أبي بكر أضاع البعير، فجعل أبو بكر يضربه، والنبي يتبسَّم ويقول: انظروا إلى ما يصنع هذا المُحرِم[16]. فهذا إقرار من النبي عليه الصلاة والسلام على مثل هذا، لكن يكون ضربًا غير مبرح.
قال:
لقول النبي : إذا أبق العبد لم تُقبل له صلاة رواه مسلم[17]. وفي رواية عند غير مسلم[18]: أيما عبد أَبَق فقد بَرِئت منه الذِّمة[19].
ونفيُ القبول هنا: المقصود به نفي الأجر والثواب، وأنه لا تبرأ الذمة بهذه الصلاة، فليس معنى ذلك نقول له: لا تُصلِّ أربعين يومًا، لا، يُصلِّي، لكن هو لا يُؤجر ولا يُثاب على هذه الصلاة.
مثل مَن أتى كاهنًا لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا[20]، المقصود هنا نفي الأجر والثواب، أما الإجزاء فإنها تُجزئ بالإجماع، بإجماع العلماء أنها صلاة مجزئة، يعني لا يُقال: إنه يُسوَّى بمَن لا يُصلِّي، فنفي القبول هنا المقصود به نفي الثواب.
قال:
(تأديب زوجته) وهذا كما قال الله : وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34].
مرت معنا هذه المسألة في (باب النشوز)، وقلنا: إن الضرب يكون غير مُبرِّح عند الحاجة إليه.
ولهذا؛ فالنبي ما ضرب امرأة ولا خادمًا قط، لكن قد يوجد بعض النساء مَن لا ينفع معها، يعني: تكون ناشزًا ولا ينفع معها: لا الموعظة ولا الهجر في المضجع، ولا ينفع معها إلا الضرب غير المُبرِّح، ولا شك أن تأديبها بالضرب غير المبرح خير من طلاقها.
هذه موجودة يا إخوان، الله تعالى أعلم بما يُصلح الخلق، موجودٌ صِنف من الناس ما ينفع معه أيُّ أسلوبٍ إلا الحزم. هذا كما هو موجود بالنسبة للنساء، موجود أيضًا لدى بعض الرجال.
فبعض النفوس يكون عندها نوع من التمرُّد، فعند سلوكِ مسلكِ الحزم تنضبط وتستقيم، أما إذا سلك معها مسلك اللين، ما ينفع معها اللين.
فهذه الفئة ممكن أن يُستخدم معها أسلوب الحزم.
فللإنسان أن يُؤدِّب زوجته عند اعوجاجها الاعوجاجَ الزائد عن الاعوجاج الفطري، وإلا فالمرأة بطبيعتها فيها عوج، لكن إذا حصل منها نشوز وترفُّعٌ على الزوج وعدم الطاعة له، فله أن يُؤدِّبها، لكن يكون الضرب غير مبرح.
قال:
كذلك الأب له سلطة على الولد، فعندما يُقصِّر الولد في القيام بطاعة الله، أو يرتكب ما حرَّم الله، للأب أن يُؤدِّبه بالضرب.
لكن، القاعدة في ضرب التأديب -وسيأتينا إن شاء الله في (باب التعزير)- هو قول النبي : لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حَدٍّ من حدود الله تعالى متفق عليه[21].
لا يُجلد فوق عشرة أسواط يعني: لا يجوز أن يُؤدِّب زوجته ولا ولده ولا مملوكه أكثر من عشرة أسواط.
هل يشمل هذا أيضًا ضربَ المدرسين الطلابَ في المدارس؟ يشمل كذلك؛ يعني: إدارة المدرسة عندها صلاحية في الضرب، المدير خاصة، المدير له صلاحية، فلا يجوز أن يزيد على عشرة.
ونسمع أن بعض المدارس يزيدون على هذا، وهذا لا يجوز، ينبغي أن يُنَبَّهوا على هذا، إدارة المدرسة لها صلاحية في الضرب، فعندما يُريدون تأديب الطالب، يجب ألا يزيدوا على عشرة أسواط.
وهذه المسألة سيأتي -إن شاء الله- بحثها مفصَّلًا في (باب التعزير).
قال:
يعني: الضرب لا يكون شديدًا؛ لأن المقصود منه ليس الانتقام ولا التشفِّي، المقصود منه التأديب، هي رسالة تربوية لهذا الإنسان الذي قد قصَّر في أداء واجب أو ارتكب أمرًا محرمًا. فهي رسالة له توقظه؛ بعض الناس قد يكون غافلًا، فإذا ضُرب كان مثل: تُوقظه وتُصحيه -كما يقال- وتُنبهه.
قال:
يعني: إذا كان هذا السيد قائمًا بحقوقه، فلا يُلزَم ببيع رقيقه، لا يُلزَم بذلك، كما أن الزوج لا يُلزَم بطلاق امرأته إذا كان قائمًا بحقوقها. وهذا ظاهر.
أحكام النفقة على البهائم
ثم انتقل المؤلف للكلام عن نفقة البهائم.
قال:
يعني: في نفقة البهائم.
لقول النبي : عُذِّبت امرأة في هِرَّة[22]، وفي رواية: دخلت النار امرأة في هِرَّة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض متفق عليه[23].
وجاء في حديث الكسوف: لمَّا كسفتِ الشمس، وأتى النبيُّ فَزِعًا وصلَّى بالناس، وتقدمت الصفوف، ثم تأخر فتأخرت الصفوف، قال: إني أُريت الجنة والنار. وذكر بعض ما رآه في النار، قال: ورأيت في النار امرأةً تُعذَّب في هِرَّة حبستها، فلا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض[24].
وهذا يدل على أن حبس الحيوان من غير طعام ولا شراب حتى يموت؛ أنه من كبائر الذنوب.
وهذا يدل على عظمة الإسلام، وعظمة هذه الشريعة، ومراعاتها ليس لحقوق الإنسان فحسب، بل حتى حقوق الحيوان.
فلا يجوز إذن للإنسان أن يحبس حيوانًا ولا يطعمه ولا يسقيه، بل يجب عليه ذلك.
طيب، إن امتنع؟ نفترض أن إنسانًا رفض، عنده حيوان، يا فلان، أنفِق عليه، قال: أبدًا، هذا حلالي، وأنا حُرٌّ فيه. قال المؤلف:
يُجبر على ذلك، كيف يُجبر؟ قال:
فيُجبر على بيعها، نقول يا فلان: إذا كنت لا تستطيع أن تُنفق على هذه البهيمة؛ يجب عليك أن تبيعها. نبحث عمن يشتريها منه ويبيعها عليه، أو يُؤجرها، أو أنه يذبحها ويأكلها إن كانت مما يؤكل. فهذه هي صورة الإجبار.
المهم، أنها لا تبقى هذه البهيمة، أو هذا الحيوان، لا يبقى في يده يُعذبه ويتركه بدون طعام ولا شراب.
قال:
يعني: يحرُم لعن البهيمة. وهذا باتفاق أهل العلم؛ لحديث عمران : أن النبي كان في سفر، فلعنت امرأةٌ ناقةً، فقال النبي : خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة. يقول عمران: فكأني أراها تمشي في الناس ما يعرض لها أحد، يعني: تركها الناس امتثالًا لأمر النبي [25]، وجاء في رواية :لا تُصاحبنا ناقة ملعونة رواه مسلم[26].
فتركها الناس تمشي؛ لأنها ناقة ملعونة، وهذا فَعَله النبي عليه الصلاة والسلام لتأديب هذه المرأة، وردعًا لغيرها.
وعكسُ ذلك جَمَلُ جابرٍ ، أراد جابرٌ أن يُسَيِّبَه، كان جملًا هزيلًا، ضربه النبي عليه الصلاة والسلام وأصبح في مقدمة الجيش، وجعل الله فيه بركة، بقي مدة طويلة[27]. وكان يُعرف بجمل جابر؛ لأنه بقي -حتى قيل- إلى زمن معاوية، بقي مدة طويلة. بينما هذه الناقة التي لعنتها هذه المرأة تركها الناس، وتمشي وحدها، فإنها ناقة ملعونة.
لا يجوز لعن الحيوان، ولا حتى غير الحيوان، يعني: يُهذِّب الإنسان لسانه، يكون عفيف اللسان من اللعن، ومن كلام الفُحش، الكلام السيئ.
اللعن من كبائر الذنوب، وقد قال النبي : لعن المؤمن كقتله متفق عليه[28]. وقال: ليس المسلم باللعَّان، ولا بالطعَّان، ولا بالفاحش، ولا البذيء[29].
فمن ذلك مثلًا: لعن السيارة يُشبه لعن الناقة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، والذي يظهر أن الشيء إذا لُعِن من المال أنه تُمحَق بركته.
ولذلك؛ النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تصحبنا ناقة ملعونة[30]، أصبحت هذه الناقة شؤمًا، لا تصحبنا ناقة ملعونة. فلماذا الإنسان يتسبب في نزع البركة من أمواله بهذه الكلمات البذيئة؟!
لكن، لو كان على سبيل المقابلة هل يجوز؟ لو قال إنسان: لعنك الله. هل يجوز أن تقول: بل لعنك الله أنت، أو لا يجوز؟ يجوز. طيب، هو الذي بدأ، هذا بدأ باللعن، هل يجوز أن ترد عليه بمثل ما قال؟ هو الذي بدأ. نعم.
هذه مسألة ورد فيها نص، وهو قول النبي : المستبَّان، ما قالا فعلى البادئ يجوز، والإثم كله على البادئ ما لم يَعْتَدِ المظلومُ. رواه مسلم[31].
فيجوز مثل ذلك، ونص على هذا الإمام ابن تيمية رحمه الله في “السياسة الشرعية”، وسمعته أيضًا من شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله -أيضًا- يذكر هذا، وذكر أيضًا هذا الشيخ محمد ابن عثيمين.
لأن النصوص ظاهرة هنا، فالإثم عليه هو، هو الذي يتحمل الإثم، لكن بشرط أنك ما تزيد، فلو أنه لما سبَّه، سبَّه وسبَّ والديه، هنا زاد، لكن لما سبَّه سبَّه بمثل ما سبَّه به فهذا يجوز: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].
بل الحديث هذا نصٌّ في المسألة: المُستبَّان، ما قالا فعلى البادئ؛ يعني: الإثم كله على البادئ، وإن كان الأولى للإنسان ألا يُقابل السِّباب بمثله، لكن يجوز له ذلك.
مداخلة: …..
الشيخ: هنا سَبَّه بغير حق، وهذا يدل على أن هذا الطرف الآخر أيضًا، لا يدل على أنه يجوز له أن يسُبَّ أباه، لكن هذا يدل على أنه قد تسبَّب في سبِّ أبيه؛ ولذلك قال: المُستبَّان، ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم[32].
قال:
يعني: حملًا يكون عليها مشقة فيه، فلا تحمل ما تعجز عنه، أو ما لا تُطيق.
قال:
لا يجوز كذلك، أن يحلب من لبنها ما يضر ولدها؛ لما في ذلك من الضرر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا ضرر ولا ضرار[33].
الضرب في الوجه تكلَّمنا عنه بالنسبة للآدميين، وكذلك حتى بالنسبة للبهائم لا يجوز الضرب في الوجه، ولا يجوز الوسم في الوجه.
وقد جاء في “صحيح مسلم” عن جابر : أن النبي مرَّ على حمارٍ وُسِم في وجهه، فقال : لَعَن الله من وَسَمَه[34]. وهذا يدل على أن الوسم في الوجه من كبائر الذنوب؛ فلا يجوز الضرب في الوجه، ولا الوسم في الوجه، ولو كان حيوانًا.
يعني: إذا كانت لا تؤكل فذبحها يعتبر من قبيل إضاعة المال، وقد نهى النبي عن إضاعة المال.
يجوز أن تُستعمل في غير ما خُلقت له، كبقر مثلًا لحمل وركوب.
وأما ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها إذ قالت: إني لم أُخلق لذلك، إنما خُلقت للحرث. قال: آمنت بذلك وأبو بكر وعمر. وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا حاضرين، هذا الحديث في الصحيحين[35].
فكيف نُجيب عن هذا؟ والمؤلف قرر أنه يجوز استعمالها في غير ما خُلقت له!
يعني: بقرة مثلًا هي للحرث وليست للركوب، وإنسان استخدمها للركوب، فنحن قلنا: يجوز، كيف نُجيب عن هذا الحديث؟
مداخلة: ….
الشيخ: إي نعم، أحسنت.
نقول: إذا كان هذا لا يشق عليها فيجوز، وأيضًا الحديث ليس فيه دلالة على التحريم، إنما فيه إخبار عن أن البقرة تنطق، تكلمت هذه البقرة، والحيوانات لها لغة، لكن الله تعالى مكَّن هذا الرجل من فهم لغتها، فتكلمت، وقالت: إنَّا لم نُخلق لهذا.
كل الحيوانات لها لغة، سليمان عليه الصلاة والسلام علمه الله لغة الطير، ولغة الحيوان، ولغة النمل: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [النمل:18]. هذا إخبار عن نطق الحيوان، وعن فهم الإنسان للغة الحيوان، لغة تلك البقرة التي تكلمت.
وإلا، فالحيوانات تتكلم فيما بينها ولها لغة: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]. فهي أمم تتكلم ولها لغة، لكن فهم الإنسان للغتها هذا هو الشأن.
فهذا الحديث ليس بصريح الدلالة في منع استخدامها في غير ما خُلِقت له، لكن القاعدة أن نمنع الإضرار بها، سواء في استخدامها في غير ما خُلقت له أو في غيره، نمنع من الإضرار بها.
نكتفي بهذا القدر، نقف عند (باب الحضانة)، نأخذه إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
ما تبقى من الوقت، نُجيب فيه عما تيسر من الأسئلة.
مداخلة: ….
الشيخ: لا تجب، إذا كانت لا تجب مداواة الإنسان، فما بالك بالحيوان؟!
مداخلة: ….
الشيخ: حتى لو اشتد، ما يلزمه ذلك؛ لأن الله تعالى جعل أصلًا في الحيوان علاج نفسه بنفسه، فما يحتاج إلى الدواء، ليس ضروريًّا، خاصة بالنسبة للحيوان ليس ضروريًّا، وحتى ليس ضروريًّا للإنسان أيضًا، ولا يُقطع معه بالشفاء، إنما هو بذلُ سببٍ.
مداخلة: ….
الشيخ: رقية الحيوان لا بأس بها، بل حتى رقية غير الحيوان أيضًا، حتى رقية السيارة لا بأس؛ لأن القرآن مبارك: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]. القرآن مبارك، ونفعه عظيم.
لو أراد مثلًا استخدام الرقية لرجاء بركة هذا القرآن في أيِّ شيء ليس فيه امتهان للقرآن؛ فلا بأس.
الأسئلة
نبدأ بالأسئلة المكتوبة.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا السائل يقول: هناك نازلة معاصرة: وهي وضع مؤسسة تسمى “بنك الحليب”، فما رأيكم بهذا يا شيخنا؟ وجزاكم الله خيرًا.
الشيخ: هذه، الكلام فيها من قديم وليست الآن منتشرة، مع وجود الحليب المجفف أصبح انتشارها محدودًا، فمثل هذا اللبن سبق أن قلنا: إنه لا بد من أن يُقطع بأنه لبن امرأة معينة، وتكون من خمس رضعات محرِّمات، فإذا لم يُقطع بأنه لبن امرأة معينة فالأصل عدم التحريم؛ أنه لا يحرِّم هذا.
ولذلك قلنا: إذا شُكَّ حتى في التحريم، في كون هذا اللبن محرِّمًا، فالأصل أنه لا يحرِّم. هذا هو الأصل.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: هل يحق لمكتب العقار أن يأخذ أكثر من القيمة؟ كأن تقول له: أجِّر هذه الشقة بعشرة آلاف، فيُؤجِّره بخمسة عشر ألفًا بدون إذن صاحبه، فهل هذا جائز؟
الشيخ: أما بدون إذن صاحبه فليس له ذلك؛ لقول النبي : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه[36]. فلا بد من أن يكون الطرف الذي سيُؤخذ منه المبلغ يعلم بهذا.
والقاعدة: لا يُؤمِن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[37].
إذا كنت لا ترضى بهذا، سواء كنت مؤجرًا أو مستأجرًا؛ إذا كنت مؤجرًا وتعلم بأن المكتب العقاري يُؤجره بخمسة عشر ألفًا ولا يُعطيك إلا عشرة آلاف وأنت لا تعلم، لا تَرْضَاه.
وهكذا لو كنت مستأجرًا يأخذ منك خمسة عشر ألفًا ولا يُعطي المالك إلا عشرة آلاف، لا ترضَى؛ فهذا لا يجوز مع عدم الرضا، أما لو كان بالشرط فلا بأس، لو شرط عليه مكتب العقار، قال: ترى، لي كذا؛ هذا لا بأس به. بدون شرطٍ المرجع في ذلك للعرف، إلا إذا تراضيا.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: هل يجوز الوسم في الوجه إذا كان لمرض ونحوه؟
الشيخ: إذا كان لمرض لا يُسمى “وسمًا” وإنما “كَيًّا”، فإذا كان في ذلك مصلحة فلا بأس؛ لأن هذا يعتبر من قبيل المداواة وليس من قبيل الوسم أو الضرب. لكن هذا قد يُحتاج إليه قديمًا، أما في الوقت الحاضر مع تقدم الطب، قد لا يحتاج إلى الكي في الوجه.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: هل يجوز للإنسان أن يشتري دابة ملعونة؟
الشيخ: الله أعلم.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا السائل يسأل عن ذهابه إلى جدة مع نيته للعمرة، وهو يريد حضور مناسبة، فما العمل؟
الشيخ: هذا السؤال يكثر، ويتكرر وقوع مثل هذه المسألة، بعض الناس يكون له إما حضورُ مناسبة كما ذكر الأخ السائل، أو يكون مُنتدَبًا مثلًا، أو نحو ذلك، وهو لا يُريد أن يأتي بالعمرة في البداية.
فنقول: الأصل أنه يجب عليه أن يُحرم من الميقات، هذا هو الأصل، لكن لو أراد تأخير الإحرام فله ذلك، لكن لا يُحرم من جدة، وإنما يرجع للميقات، يجب عليه أن يرجع للميقات؛ لأنه لما مرَّ بالميقات كان ناويًا النُّسك، فيجب عليه إذن أن يرجع.
فنقول: يذهب إلى جدة، ويحضر المناسبة، ثم الميقات قريب الآن ليس بعيدًا، سواء وادي السيل الكبير أو وادي محرم، لا يأخذ إلا ساعة ونصفًا أو ساعتين، مثل هذا أمره سهل، فيمكن بعد حضور المناسبة أن يذهب إلى الميقات، سواء وادي محرم أو السيل، ويُحرِم بالعمرة.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: هل يجوز الدعاء على الكفار بـ”اللهم يَتِّم أطفالهم، ورمِّل نساءهم” ونحو هذا؟
الشيخ: مثل هذه الأدعية محل نظر؛ الدعاء بالهلاك على الكافرين أو “يتِّم أطفالهم، ورمِّل نساءهم”، وإنما يُدعى بما فيه إذلالهم وهزيمتهم وكبتهم، هذا الذي يُدعى به على الكافرين.
أما الدعاء بالهلاك العام للكافرين، فهذا عدَّه بعض أهل العلم من الاعتداء في الدعاء؛ لأنه دعاءٌ بأمرٍ غير ممكن، لأن النصوص دلَّت على بقاء الكفار إلى قيام الساعة، كما قال النبي : لا تقوم الساعة إلا والروم أكثر الناس[38].
فأنت الآن تدعو بأمرٍ غير ممكن؛ فلذلك يُعتبر هذا من الاعتداء، إلا إذا خصَّصت الظالمين، لو مثلًا دعوت على الصهاينة المحتلين لفلسطين، مثلًا هؤلاء فهذا لا بأس به، الدعاء بهلاكهم، الدعاء بأن يُذلهم الله تعالى، أن يرد كيدهم في نحورهم، ونحو ذلك.
أما الدعاء بتيتيم الأطفال! ما ينبغي مثل هذا الأمر، وهذا ممكن، أن يُحقَّق المرادُ بصيغة أخرى، بأن يكبتهم الله ، أن يُذلهم، أن يجعل كيدهم في نحورهم، ونحو ذلك من الأدعية، أن يُعز الإسلام والمسلمين، ويُذل الكفرة والكافرين، ونحو ذلك.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: هل يجوز التأمين الطبي الذي تقوم به بعض دوائر المؤسسات لموظفيها؟ وإذا كان لا يجوز فعلى من يكون الإثم؟
الشيخ: أما إذا كان يُعطى للموظف مجانًا فيجوز؛ لأنه هبة من الشركة لهذا الموظف، وهو لم يدفع شيئًا، ولم يدفع عوضًا، يجوز له أن يقبل هذه الهبة، بغض النظر عن تعاقد الشركة مع شركات التأمين.
فالآن، الشركة التي يعمل عندها تهَبُ له هبة: وهو أن يُعالَج مجانًا في المستشفيات، بناءً على معاقدة بينها وبين إحدى شركات التأمين؛ هذا لا بأس به.
أما إذا كان يُقتطع من راتبه شيء لأجل التأمين، فإن كان اختياريًّا فلا يجوز إذا كان التأمين تجاريًّا، أما إذا كان مجبرًا عليه فلا إثم عليه، لا حرج عليه، وإذا كان مجبرًا عليه يجوز أن ينتفع بهذا التأمين؛ لأنه إذا جاز الدفع جاز الأخذ.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا السائل يقول: إذا كان الإمام يتحرَّى السنة في الإطالة في الصلاة وفي السجود وفي الركوع، وحصل به تنفيرٌ لجماعة المسجد، فهل يَتَّبِعُ السنة في ذلك أم يُراعي الجماعة؟
الشيخ: السنة ألا يفعل الإمامُ ما يُنفِّر الناس، وقد قال النبي لمَّا بلغه أن رجلًا أطال في صلاة الفجر، قال أحد الناس: إني لأتأخر عن الصلاة لما يُطيل بنا فلان. فغضب النبي حتى يقول الراوي: ما رأيت غضبًا مثل ذلك الغضب، وقال : أيها الناس، إن منكم منفِّرين، أيكم أمَّ الناس فليخفف[39].
لا شك أن السنة هي أن يقتدي بالنبي ، وأن يُصلِّي بصلاة النبي .
لكن أيضًا تُراعى أحوال الناس، هل حال الناس الآن مثل حال الناس في زمن النبي ؟ حال الناس الآن يختلف، كما ترون الضعف الآن والفتور.
فلذلك؛ تُراعى أحوال الناس في الوقت الحاضر، فلو أراد أحدٌ أن يُصلِّي صلاة النبي في الوقت الحاضر، ربما شقَّ ذلك على الناس.
ولهذا؛ فيُراعي الإمام هذه الأحوال، فيأتي بأدنى الكمال والقدر الواجب، لكن التطويل يُطيل لنفسه في صلاته وحدَه، أما التطويل الذي يشقُّ به على الناس، ويُسبِّب إذا وصل إلى هذه الدرجة تنفيرَ الناس من الإمام، فمعنى ذلك أن هذا خلاف السنة.
ليس له أيضًا أن يُخفِّف مراعاةً للناس تخفيفًا يَحصُل به الإخلال بالواجبات مثلًا، وفي الوقت نفسه أيضًا ليس له أن يُطيل إطالة منفِّرة؛ لأن هذا يتنافى مع مقصود الشارع.
المقصود من صلاة الجماعة هو ائتلاف القلوب والمحبة والمودة، إذا كانت صلاة الجماعة تتسبب في تنفير الإمام عن المأمومين؛ أخَلَّت بالمقصود العظيم من صلاة الجماعة.
فلهذا نقول: إن هذا الإمام إذا علم بأن الجماعة ينفِرُون من التطويل، فإنه لا يُطيل، وهو إذا طبَّق السنة أيضًا؛ السنة: هي أن يقرأ غالب المفصَّل في الفجر، طوال المفصل ليس طويلًا.
يعني لو -مثلًا- قرأ بسورة من طوال المفصل، سورة (الحجرات) مثلًا، أو سورة (ق)، هذا ليس طويلًا، وليس فيه تنفير.
لكن، في الظهر والعصر والعشاء من وسط المفصل، من عند: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [سورة النبأ] إلى (الضحى)، هل هذا طويل؟
إذا قرأ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [سورة الشمس]، وقرأ: سَبِّحِ [سورة الأعلى]، ليس طويلًا. المغرب من قصار المفصل.
فهو لو قرأ من المفصَّل فلن يُطيل أصلًا، أما إذا قرأ من غير المفصل -فكما ذكرنا- يُراعي أحوال الناس، وأيضًا يضع في الذهن أن أحوال الناس الآن ليست كحال الناس زمن النبي .
فأنا أذكر مرةً كنتُ في دورة شرعية، وكنت أُصلِّي بهم صلاة الفجر جميع الأوقات، لكن صلاة الفجر كان الجو باردًا، تحت الصفر، فكان لا يأتي إلا أناس عندهم تقوى وصلاح، فكانوا يطلبون أن أُطيل عليهم في القراءة، أطيل لا أُقصِّر، فهؤلاء يرغبون في التطويل.
لكن، حال الناس الآن في المساجد العامة أنهم لو أطلت عليهم ربما ينفرون.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ. هذا سائل يقول: هل يُوافَق المؤلف على تقييده صلاة النفل بعدم قبولها من العبد الآبق؟
الشيخ: هذا ورد فيه الحديث: أيما عبد أَبَق، لم تُقبل له صلاة[40].
لكن، لعل الأخ يقول: لماذا قيَّدنا الصلاة بصلاة النافلة؟ الجمهور قيَّدوا هذا بصلاة النافلة. ويحتمل أن يقال: إنها تشمل صلاة النافلة وصلاة الفريضة؛ لعموم الحديث. أقول: هذا محتمل.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم. يقول: ما حكم التوسعة على الأهل في يوم عاشوراء؟ وما حكم صيام ثلاثة أيام: التاسع والعاشر والحادي عشر؟
الشيخ: التوسعة على الأهل لصيام عاشوراء بقصد التعبُّد بدعة، هذا أمر غير مشروع ولم يَرِد، والأحاديث المروية فيه موضوعة لا تصح، فيوم عاشوراء كغيره من الأيام.
وأما صيام ثلاثة أيام؛ هذا فيه تفصيل: إذا كان الصيام لقصد عاشوراء فغير مشروع؛ لأن رواية صوموا يومًا قبله ويومًا بعده[41]، ضعيفة.
أما إذا قصد الإنسان بصيام ثلاثة أيام فالاستكثار من الصيام في شهر الله المحرم لقول النبي : أفضل الصيام بعد رمضان، شهر الله المحرم[42].
واحتياطًا لثبوت الشهر؛ ولأنه أبلغ في تحقيق المخالفة، وأيضًا حتى يكون صيام ثلاثة أيام من الشهر؛ قد أوصى النبي صلى الله وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فهو يقول: هذا الشهر بدل أن أصوم أيام البيض، أصوم هذه الأيام الثلاثة؛ فهذا لا بأس به.
أما إن قصد ارتباطه بعاشوراء، فليس مرتبطًا بعاشوراء؛ لأن الحديث -كما ذكرنا- لا يصح. لكن، إذا قصد المعاني التي أشرت إليها، فلا بأس بذلك.
السؤال: ….
الشيخ: أما ضابط الفقر:
فالفقير: هو الذي لا يجد شيئًا، أو يجد دون نصف الكفاية.
والمسكين: هو الذي يجد نصف الكفاية وأكثرها دون تمامها.
فمثلًا: مَن ليس عنده شيء، هذا فقير، دَخْلُهُ يكفيه إلى أقل من نصف الشهر إلى خمسةٍ أو إلى عشرَةٍ من الشهر؛ فقير. يكفيه إلى منتصف الشهر أو أكثر الشهر؛ مسكين. يكفيه إلى آخر الشهر هذا مَكْفيٌّ ليس فقيرًا ولا مسكينًا. هذا هو الضابط.
وأما إذا كان الموسر مدينًا، ليس كُلُّ مدين فقيرًا، المدين: ننظر إذا كان الدين حالًّا عليه، وهو عاجز عن سداده؛ فهذا يُعتبر من الغارمين.
أما إذا كان الدَّين مُؤجَّلًا ومُقسَّطًا، كما هو حالُ كثيرٍ من الناس؛ فهذا لا يستحق به الزكاة؛ لأن بإمكانه جدولة هذا الدَّين على راتبه، فيُقسِّط هذا الدين على راتبه، اللهم إلا أن تكون أقساطًا تأخذ معظم راتبه، فهذا له حالٌ تخصه.
لكن، الدَّين المقسَّط لا يجعل صاحبه من الغارمين، إنما الذين يكون من الغارمين هو الدَّين الحالُّ، بحيث لو رُفع فيه شكاية لربما سُجن بسبب ذلك الدين. هذا هو الذي يكون من الغارمين المستحقين للزكاة.
السؤال: ….
الشيخ: لا ينبغي الدعاء بهذه الصيغة عمومًا، لا ينبغي مثل هذه الأمور؛ لأنه لا يجوز حتى قتل -مثلًا- الأطفال، ولا يجوز التعدِّي على الأطفال وعلى النساء، وكذلك الدعاء بمثل هذا: أن يكونوا أيتامًا.
السؤال: ….
الشيخ: يُعيدها، لا تصح الطهارة؛ لقول النبي : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ[43]، لا يقبل الله صلاة بغير طهور[44]، كما لو صلى بدون وضوء.
فلا بد أن يُعيد هذه الصلوات التي صلاها بعد انقضاء المدة.
مداخلة: ….
الشيخ: لا، هو يوم وليلة مِن أولِ مسحٍ بعد الحَدَث، لكن يقول: لو افترضنا: انقضت المدة ونسي؛ فيُعيد الصلوات التي صلَّاها بعد انقضاء المدة.
مداخلة: ….
الشيخ: إذا صلى بها.
مداخلة: ….
الشيخ: حتى ولو لم.. بمجرد انقضاء المدة تنتقض الطهارة على القول الصحيح.
مداخلة: ….
الشيخ: الله تعالى يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]؛ يعني: المنفِق وارثٌ للمنفَق عليه، لو مات هذا المنفَق عليه لورثه المنفِق، هذا هو المقصود. وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ يعني: على الوارث المنفِق، يجب عليه أن يُنفِقَ على الموروث. هذا المقصود.
مداخلة: ….
الشيخ: أربع وعشرون ساعة، يوم وليلة؛ يعني: أربع وعشرون ساعة.
لكن، كيف تُحسب؟ من أولِ مسحٍ بعد الحدث، يعني: أول مرة يلبس الخفين، ثم يُحدث، ثم يمسح، يبدأ يحسب أربعًا وعشرين ساعة.
مداخلة: ….
الشيخ: خلع الجورب، هذا فيه تفصيل:
- إذا كان خلع الجورب بعد الوضوء وقبل المسح، قبل انتقاض الطهارة؛ لا يؤثر.
- أما إذا خلع الجورب بعدما بدأت مدة المسح؛ فهذا ينقُض الطهارة عند الجمهور.
المسألة خلافية، لكن عند الجمهور: أنه ينقض الطهارة، لماذا؟ لأن هذين القدمين الآن مكشوفتان، لا هما مغسولتان ولا عليهما شيء ممسوح؛ فتُنتقض الطهارة فيهما.
وتُشترط الموالاة في الوضوء، فيُؤدِّي هذا إلى نقض الطهارة في جميع الأعضاء. هذا هو المأخذ الفقهي لقول الجمهور، من أهل العلم من قال: إنها لا تنتقض، لكن الصواب هو ما عليه أكثر أهل العلم من أنها تنتقض.
السؤال: ….
الشيخ: يعني جمع العصر مع صلاة الجمعة، لا يجوز، لا يجوز الجمع بين العصر وصلاة الجمعة إذا صلَّيتها جمعة؛ وذلك لأنه لم يَرِد هذا؛ ولأن النبي لما خطب بالناس، وأتى أعرابيٌّ وقال: ادْعُ الله أن يُغيثنا. رفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه ونزل مطرٌ غزير، ولم يجمع معها العصر[45].
فلا يُجمع العصر مع الجمعة، إلا إذا لم تُصَلِّها جمعة، صليتها ظهرًا؛ فيجوز، كما جمع النبي بين الظهر والعصر في عرفة[46]، مع أنه كان يوم جمعة، فإذا صليتها ظهرًا يجوز، أما إذا صليتها جمعة فلا يجوز الجمع في أرجح أقوال أهل العلم.
نكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 7180، ومسلم: 1714. |
---|---|
^2 | رواه أحمد: 6495، وأبو داود: 1692. |
^3 | رواه النسائي في “الكبرى”: 9131. |
^4 | رواه مسلم: 996. |
^5 | رواه مسلم: 997. |
^6 | رواه البخاري: 2272، ومسلم: 2743. |
^7, ^13, ^30, ^32, ^33, ^40 | سبق تخريجه. |
^8 | رواه مسلم: 1662. |
^9 | رواه البخاري: 6227، ومسلم: 2612. |
^10 | رواه مسلم: 1657. |
^11 | رواه البخاري: 4559، ومسلم: 675. |
^12 | رواه البخاري: 2937، ومسلم: 2524. |
^14 | رواه مالك: 31، وأحمد: 2865. |
^15 | رواه البخاري: 2545، ومسلم: 1661. |
^16 | رواه أحمد: 26916، وأبو داود: 1818، وابن ماجه: 2933. |
^17, ^19 | رواه مسلم: 70. |
^18 | رواه أحمد: 19155، وأبو داود: 4360، والنسائي: 4054. |
^20 | رواه معمر في “الجامع”: 20349، والخلال في “السنة”: 1402، والطبراني في “الأوسط”: 6670. |
^21 | رواه البخاري: 6850، ومسلم: 1708. |
^22 | رواه البخاري: 2365، ومسلم: 2242. |
^23 | رواه البخاري: 3318، ومسلم: 2619. |
^24 | رواه البخاري: 745، ومسلم: 904. |
^25 | رواه مسلم: 2595. |
^26 | رواه مسلم: 2596. |
^27 | رواه البخاري: 2309، ومسلم: 715. |
^28 | رواه البخاري: 6105، ومسلم: 110. |
^29 | رواه أحمد: 3839، والترمذي: 1977. |
^31 | رواه مسلم: 2587. |
^34 | رواه مسلم: 2117. |
^35 | رواه البخاري: 3471، ومسلم: 2388. |
^36 | رواه أحمد: 20695. |
^37 | رواه البخاري: 13، ومسلم: 45. |
^38 | رواه مسلم: 2898. |
^39 | رواه البخاري: 90، ومسلم: 466. |
^41 | رواه أحمد: 2154. |
^42 | رواه مسلم: 1163. |
^43 | رواه البخاري: 6954، ومسلم: 225. |
^44 | رواه مسلم: 224. |
^45 | رواه البخاري: 1013. |
^46 | رواه مسلم: 1218. |