عناصر المادة
ننتقل بعد ذلك إلى شرح (دليل الطالب)، كنا قد وصلنا إلى (كنايات الطلاق).
ضابط الكناية في الطلاق
قال المؤلف رحمه الله:
وكنايته لا بد فيها من نية الطلاق.
سبق أن تكلمنا في الدرس السابق عن صريح الطلاق إذا كانت مُفهِمة، وقلنا: إن الطلاق ينقسم إلى: صريح وكناية، وإن الصريح هو اللفظ الموضوع للطلاق وما تصرَّف منه؛ كأن يقول: أنتِ طالق، أو مطلَّقة، أو نحو ذلك. وأما الكناية فهي: ما تحتمل الطلاق وغيره.
وهذه الكناية يقول المؤلف:
يعني: ما دام أنها تحتمل الطلاق وتحتمل غير الطلاق؛ لا يقع الطلاق فيها إلا بالنية، فإذا لم ينوِ الطلاق لم يقع، بخلاف الصريح.
أقسام كنايات الطلاق
وقسَّم فقهاء الحنابلة الكناية إلى قسمين.
قال:
ويُعرِّفون الكنايات الظاهرة بأنها: “الألفاظ الموضوعة للبينونة”؛ لأن معنى الطلاق فيها أظهر.
وأما الكنايات الخفية فهي: “الألفاظ الموضوعة لطلقة واحدة”، فلا يقع بها الطلاق إلا طلقة واحدة، ما لم ينوِ أكثر. وسيأتي الكلام عن هذا.
كنايات الطلاق الظاهرة
قال:
يعني: الألفاظ الموضوعة للبينونة.
نحن نريد أن نشرح أولًا عبارة المؤلف، ثم نُبيِّن القول الراجح في المسألة.
(فالظاهرة يقع بها الثلاث) يعني: هذه الألفاظ الموضوعة للبينونة يقع الطلاق بها ثلاثًا.
هذا هو حكم الكناية عند الحنابلة: إذا كانت الكناية ظاهرة يقع بها ثلاثًا، وإذا كانت خفية يقع واحدة، ما لم ينوِ أكثر.
ما هي الكنايات الظاهرة؟ حصرها المؤلف قال:
“أنت خَلِيَّة” يعني: يقول الزوج لزوجته: أنت خَلِيَّة. والخَلِيَّة معناها في الأصل: الناقة تُطلق من عِقالها ويُخلَّى عنها. فالخَلِيَّة من النساء هي: الخالية من الزوج.
“بَرِيَّة”، ويُقال: بريئة، وهذا معناه: أنكِ خالية من الزوج، أو بريئة من الزوج.
“بائِن”؛ يعني من البَيْن: وهو الفراق، يعني: منفصلة عن زوجك.
من البتِّ، البتُّ معناه: القطع، يعني: مقطوعة.
من البَتْل: وهو أيضًا قطع الوصلة، فيكون معناها: منقطعة عن النكاح؛ ولذلك تُسمَّى مريم البَتول؛ لانقطاعها عن النكاح بالكلية.
يعني: لا رقَّ عليك؛ لأن النكاح رِقٌّ للزوجة؛ لهذا يقول عليه الصلاة والسلام: فإنهن عوان عندكم[1] يعني: أسيرات.
فإذا أخبرَ بزوال الرِّق، فيعني: هو الرِّق المعهود، وهو رق الزوجية، يُحتمل أن يُريد به الطلاق ويُحتمل ألا يريد، بحسب نِيَّته.
يعني: الحرام والإثم.
هذه العبارة تقال يقصد بها: خلَّيت سبيلك.
هذه معناها ظاهر.
يعني: لأنني طلَّقتُكِ حللتِ للأزواج، فتكون هذه من كنايات الطلاق.
أيضًا هذه معناها ظاهر.
هي كقوله: أنت حرة، كما ذكرنا قبل قليل.
هذه أيضًا من الكنايات الظاهرة، فيُحتمل أنه يقصد بها غطِّي شعركِ لأجل أني طلقتكِ، ويُحتمل أنه يُريد معنى آخر، وكذلك لو قال: تقَنَّعِي.
هذه هي الكنايات الظاهرة.
كنايات الطلاق الخفية
والتي قلنا: هي الموضوعة لطلقة واحدة، قال هي:
إذا قال لها: اخرجي من البيت، اخرجي من المنزل، ونحو ذلك، فهذه من الكنايات الخفية.
يعني: ذوقي مرارة الطلاق.
يعني: تجرَّعي مرارة الطلاق.
يعني: تركتك.
يعني: واحدة من المطلَّقات.
يعني: هذا أكثر ما يقع في وقتنا الحاضر من كناياته، هذا يقول: لستِ لي بامرأة، أو لستِ لي بزوجة.
إذا قال: اعْتَدِّي، فهذه قد يُريد بها الطلاق، وقد يُريد بها معنى آخر، فهي من الكنايات الخفية للطلاق.
يعني: اطلبي البراءة لرَحِمك، استبرئي رَحِمك، من الاستبراء؛ استبراء الرَّحِم.
يعني: كوني وحدك في جانب.
“الْحَقي بأهلك” هذه من كنايات الطلاق، وهذه قد جاءت في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، فإن كعب بن مالك لمَّا أمر النبيُّ الثلاثةَ الذين خُلِّفوا بأن يعتزلوا أهلَهم، قال لزوجته: الْحَقِي بأهلك.
لكن، هل كان كعب يقصد بذلك الطلاق؟ ما كان يقصد الطلاق، الْحَقِي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر؛ ولذلك لم يَعُده النبي عليه الصلاة والسلام طلاقًا، الْحَقِي بأهلك هذه من كنايات الطلاق.
هذه أيضًا من كنايات الطلاق.
هذا أيضًا مما يكثر وقوعه في الوقت الحاضر، وبعضهم يُعبِّر عن هذا بصيغة أخرى: الذي بيني وبينك انتهى، أو ما بقي شيء.
يعني: أغناكِ الله تعالى عنِّي بالطلاق.
هذه أيضًا من كنايات الطلاق.
يُحتمل أن يريد الطلاق وغيره.
يعني: جرى القلم بالطلاق.
هذه إذن كنايات الطلاق، يُقسِّمونها: لكنايات ظاهرة، وكنايات خفية، ويقولون: إذا نوى الطلاق فإنه يقع. وعندهم الظاهرة تقع ثلاثًا، والخفية تقع واحدة ما لم ينوِ أكثر. هذا هو المذهب عند الحنابلة.
والقول الثاني في المسألة: إن هذه الألفاظ كلها وما جاء في معناها لا يقع الطلاق فيها إلا بالنِّيَّة، فهو على ما نوى، حتى في الكنايات الظاهرة على ما نوى؛ فإن نوى وقوع الطلاق وقع، وإن نوى عدم وقوعه لم يقع، وإن نوى واحدة وقع، وإن نوى أكثر وقع، فهو على ما نوى، من غير تفريق بين الكنايات الظاهرة والكنايات الخفية.
إذن؛ القول الثاني في المسألة: الكناية على حسب نِيَّته من غير هذا التفصيل، لا نحتاج لهذا التفصيل كله.
والكناية: هي ما تحتمل الطلاق وغيره، فهو على ما نوى؛ واستدلوا بقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى[2].
واستدلوا أيضًا بقصة رُكانة لما طلَّق امرأته البتة، فقال له النبي : ما أردتَ إلا واحدة؟. قال: ما أردتُ إلا واحدة. فردَّها إليه[3]. وهذه سبق أن تكلمنا عنها في درسنا السابق، وقلنا: إنها صحيحة من جهة الإسناد.
وأيضًا قال النبي لابنة الجون أميمة بنت النعمان: الْحَقِي بأهلك، لما قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد استعذت بمعاذ، الْحَقِي بأهلك[4]. وقيل: إنها كانت امرأة من أجمل النساء، فغُرِّر بها بأن تقول هذه الكلمة: أعوذ بالله منك، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لما استعاذت بالله منه: قد استعذتِ بمعاذٍ، وطلَّقها عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ، قال: الْحَقِي بأهلك.
وهذا هو القول الراجح، القول الراجح إذن: أن كنايات الطلاق سواء كانت ظاهرة أم خفية، أنها تقع بحسب نِيَّة المتكلم، بحسب نِيَّة الزوج، من غير تفريقٍ بين الكنايات الظاهرة أو الكنايات الخفية، إن لم ينوِ الطلاق لم يقع شيء، إن نوى الطلاق وقع بحسب نِيَّته، إن نوى واحدة وقع واحدة، إن نوى أكثر وقع أكثر، بحسب ما نوى. هذا هو القول الصحيح في هذه المسألة.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، هو يُحتمل أن اللهَ شَرَع الطلاق، يُحتمل هذا، فقد يقصد هذا، وقد يقصد بالفعل وقوع الطلاق.
فإذن؛ هذا هو حاصل كلام أهل العلم في الألفاظ.
وبهذا، على القول الراجح نستطيع أن نختصر المسألة كلها، نقول: إن الطلاق ينقسم إلى: صريح وكناية، فالصريح يقع مطلقًا، والكناية لا يقع إلا بالنية، والكناية ما يحتمل الطلاق وغيره. من غير حاجة لهذه التفريعات وهذا التفصيل.
قال:
يعني: لا تُشترط النية في هذه الحال، اكتفاءً بدلالة الحال.
يعني: فيما بينه وبين الله.
لتأثير دلالة الحال على الحكم، يعني لو قال لها: “الْحَقِي بأهلك” في حال الخصومة، وهي قد رفعت عليه قضية، قالت: إن هذا قد طلقني مثلًا، وقال: إني لم أُطلِّقها. فعند القاضي يحكم بأنه قد طلَّقها؛ لأن هناك قرينة تدل على الطلاق، وهي هذه الخصومة.
لكن، فيما بينه وبين الله، لو لم ترفع عليه مثلًا قضية في المحكمة، فيما بينه وبين الله نقول: حسب نية الزوج، هل نويت الطلاق أم لا؟ إن قال: نويت الطلاق؛ وقع، إن قال: إنه لم ينوِ الطلاق؛ فإنه لا يقع.
اختلاف عدد الطلقات باعتبار الحرية والعبودية
ثم قال المؤلف رحمه الله:
يملك الحُرُّ والمُبعَّضُ ثلاث طَلَقاتٍ.
يملك أن يُطلِّق ثلاث تطليقات؛ لقول الله : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، ثم قال في الآية التي بعدها: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، فهو يملك ثلاثًا.
وقد رُوي في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي قال: طلاق العبد اثنتان، فلا تحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره[5]. ولكن هذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد، رواه الدارقطني وهو ضعيف لا يصح، لكنه رُوي عن عدد من الصحابة ، رُوي عن عمر وغيره؛ ولهذا قال الترمذي في “جامعه”: “العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي “، وحكى قومٌ أنه إجماع.
فإذن؛ العبد في الأصل أنه على النصف من الحُرِّ، لكن الطلاق لا يتبعَّض فيكون للعبد طلقتان، والحُرُّ له ثلاث.
مسائل يقع الطلاق فيها بائنًا
قال:
يعني: يقع الطلاق بائنًا. والبينونة تنقسم إلى قسمين:
- بينونة صغرى.
- وبينونة كبرى.
البينونة الكبرى: هي إذا طلق ثلاثًا، لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
البينونة الصغرى: تقع في مسائل.
والمؤلف ذكر النوعين، قال: المسألة الأولى:
هو يقول فيه تفصيل: إذا كان بلفظ الخلع، مر معنا في (باب الخلع) إذا كان بلفظ الخلع فهو فسخ ليس طلاقًا.
قلنا: لو كان طلاقًا لكان قول الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] طلقة رابعة، فالخلع فسخ وليس طلاقًا؛ لأن الله تعالى قال: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229] هذا هو الخلع، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]. لو كان الخلع طلاقًا لكانت هذه التطليقة الرابعة، فالخلع فسخ.
لكن، إذا كان الخلع بلفظ الطلاق، فهذا فيه محلٌّ قويٌّ، هل يُعتبر فسخًا أو يُعتبر طلاقًا؟
والمذهب عند الحنابلة: أنه طلاق، لكنه بائن، وهذا الذي قصده المؤلف هنا: أنه بائن، لكن بينونة صغرى، فإذا كان الطلاق على عوض، فيكون بائنًا بينونة صغرى.
الحالة الثانية من الحالات التي يكون الطلاق فيها بائنًا: (قبل الدخول)؛ إذا كان الطلاق قبل الدخول؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، والرَّجعة لا تُملك إلا في العِدَّة، وهي لا عِدَّة عليها، فغير المدخول بها لا عِدَّة عليها، وطلاقها بائن بينونة صغرى.
المسألة الثالثة: (أو في نكاح فاسد)؛ إذا كان الطلاق في نكاح فاسد فتكون أيضًا بائنًا بينونة صغرى؛ لأنها إذا لم تحل بالنكاح لعدم صحته؛ وجب ألا تحل بالرَّجعة فيه.
المسألة الرابعة: (بالثلاث)؛ إذا طلقها ثلاثًا، فتكون هنا بائنًا بينونة كبرى، لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
ففي المسائل الثلاث الأولى تكون بائنًا بينونة صغرى، وفي المسألة الرابعة تكون بائنًا بينونة كبرى.
إذا -مثلًا- طلَّقها قبل الدخول؛ إنسان عقد على امرأة ثم طلقها، ثم أراد أن يتزوج بها مرة أخرى، ماذا نقول له؟ لا بد من عقد ومهر جديد، ورضاها أيضًا.
الألفاظ التي يقع بها الطلاق ثلاثًا
قال:
إذا قال: “أنتِ طالق بلا رجعة” يعني هذه فيها إشكال: هل نعتبرها ثلاثًا، أو نعتبرها واحدة؟ فإن قلنا: ثلاثًا، ونحن قد رجحنا أنه إذا قال: “أنت طالق بالثلاث” في درس سابق، قلنا: يقع طلقة واحدة، وإن قلنا أيضًا: إنه لا يقع إلا واحدة، فيه إشكال، اللفظ صريح “طالق بلا رجعة”.
والمذهب عند الحنابلة كما قرَّر المؤلف أنها ثلاث.
والقول الثاني في المسألة: إنها صريحة في طلقة، كناية ظاهرة فيما زاد. وهذا القولُ هو قولٌ عند الحنابلة، واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.
وهذا هو القول الراجح: أنها صريحة في طلقة واحدة، كناية فيما زاد عن الطلقة؛ وذلك لأن هذه اللفظة صريحة في الإيقاع، كناية في العدد.
فهي إذن مركبة من صريح وكناية، صريحة في الإيقاع؛ لأنه قال: “أنت طالق”، “بلا رَجعة” كناية؛ يُحتمل أن يقصد طلقة واحدة وأنكِ لا ترجعين إليَّ إذا انقضت العِدَّة، ويُحتمل أن يقصد أنكِ بلا رجعة، أني طلقتك ثلاثًا.
فهي إذن كناية فيما زاد على الطلقة الواحدة.
فنقول لهذا الزوج: ما قَصْدُكَ بقولك: “طالق بلا رَجعة”؟ هل تقصد ثلاثًا، أو واحدة؟ إن قال: واحدة؛ فيقع واحدة، وإن قال: ثلاثًا؛ يقع ثلاثًا. هذا هو القول الراجح في المسألة.
ومثلها أيضًا: “البتة” أو “بائنًا”، فهو صريح في الإيقاع، كناية في العدد. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
قال:
إن قال: “أنتِ الطلاق”، أو “أنتِ طالق”، الأصل أنه يقع واحدة، لكن يقول المؤلف: إنه إن نوى ثلاثًا وقع ما نواه؛ لأنه إذا قال: “أنتِ الطلاق”، فكأنه يقول: الطلاق كله.
وهكذا أيضًا قوله: “أنتِ طالق”، فيُحتمل أن يقصد الثلاث، فيقول: كأنه صريح في هذا.
والقول الثاني في المسألة: إنه في هذه الحالة يكون طلقة واحدة؛ لأننا إذا كنا قد رجَّحنا أنه لو قال: “أنت طالقٌ بالثلاث” فيقع واحدة، فهذه المسائل من باب أولى أن تكون الطلقة فيها واحدة. وهذا هو القول الراجح.
فإذا قال: “أنتِ طالق”، الأصل أنه يقع طلقةً واحدة. هذا القول الراجح: إنه طلقة واحدة، وحتى لو قال: “أنتِ الطلاق”، فيقع طلقة واحدة.
قال:
فيقولون: هذه تقع ثلاثًا.
ولو قال: أنتِ طالق مثل هذه؛ أنتِ طالق ألف طلقة، أو مليونًا، أو عشرة آلاف، أو أتى بأيِّ رقم، أو عدد النجوم، أو عدد الأشجار، أو نحو ذلك من العبارات؛ فالمذهب عند الحنابلة: أنه يقع ثلاثًا، يكفي ثلاثًا، وما زاد فلَغْوٌ. هذا هو المذهب عند الحنابلة في هذه المسألة.
والمسألة محل خلاف بين أهل العلم إذا أتى بمثل هذه الألفاظ، والخلاف في هذه المسألة يرجع إلى مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد، وسبق أن ذكرنا خلاف العلماء فيها.
ما معنى طلاق الثلاث بلفظ واحد؟ يعني: طالق بالثلاث. وذكرنا خلاف العلماء فيها، من يُلخِّص لنا ما قلناه؟
مداخلة: …..
الشيخ: اتركنا من الصور، الصورة هذه فقط: “أنتِ طالق بالثلاث”.
مداخلة: …..
الشيخ: يقع ثلاثًا، وهذا قول مَن؟ وأيضًا المذاهب الأربعة كلها أنه يقع ثلاثًا.
وقلنا: القول الثاني: إنه يقع طلقة واحدة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: كان الطلاق على عهد النبي طلاق الثلاث واحدة، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، فقال عمر: إن الناس قد تعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم[6].
وأيضًا في اللغة العربية أن هذا مقتضاه: لو قال بدل أن أقول: “سبحان الله والحمد لله والله أكبر”، “سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثًا وثلاثين”، ومشى، هل هذا يكفي عن أن يُكرِّر؟ ما يكفي، وفي أيمان اللِّعان كذلك لا يكفي أن يقول: “أشهد بالله أربع مرات إني لمن الصادقين”، لا بد من التكرار.
فدل هذا على أن العرب يُفرِّقون بين أن يأتي الكلام بلفظ مجموع، وبين أن يُكرِّره.
وبناءً على ذلك؛ بناء على ترجيح القول بأن طلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع طلقة واحدة، أيضًا هذه المسائل كلها يكون الطلاق فيها طلقة واحدة، كل هذه المسائل التي ذكرها المؤلف.
فإذا قال: أنتِ طالق كلَّ الطلاق، أو أكثره، أو جميعه، أو عدد الحصى، أو عدد النجوم، أو مائة طالق، أو ألف طلقة، أو مليون طلقة؛ فالقول الصحيح أنه يقع واحدة.
ولهذا؛ أفتى شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله فيمن طلَّق زوجته سبعين مرة بلفظ واحد، قال: أنتِ طالقٌ سبعين مرة. قال الشيخ: إنه يقع طلقة واحدة.
وأفتى فيمن طلق زوجته عدد سَعَفِ النَّخْل؛ أنه يقع طلقة واحدة، قال الشيخ رحمه الله: إنه قد صح عن النبي ما يدل على الفتوى بذلك.
فإذن؛ الطلاق المجموع بكلمة واحدة؛ هذا الصحيح أنه يكون طلقة واحدة، فإذا قال: عدد النجوم، عدد سعف النخل، سبعين مرة، مائة مرة، أنتِ طالق بالثلاث؛ القول الصحيح أنه طلقة واحدة.
متى يكون ثلاثًا؟ إذا كرَّر، أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق.
ذكرنا الصور في الدرس السابق، أما لو قال: طالق بالثلاث، أو طالق عدد النجوم، أو طالق مليون طلقة، أو طالق خمسين طلقة، أو عدد سَعَف النخل؛ هذا القول الراجح: أنه يقع طلقة واحدة. وذَكَرنا دليل هذا، ذكرنا دليله من الأثر ومن النظر: من الأثر حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومن النظر قلنا: إن هذا هو مقتضاه أيضًا في اللغة العربية.
قال:
لأن هذه العبارات تقتضي طلقة واحدة، لا تقتضي عددًا، وإنما طلقة واحدة، فالطلقة الواحدة يصح بأن تُوصف بأنها ملء الدنيا، أو مثل الجبل، أو طلقة واحدة، على جميع المذاهب. كلُّ هذه تصح على هذه العبارات، فالمُتيَقَّن هو طلقة واحدة، وما زاد عليها مشكوك فيه؛ ولهذا تُعلَّق بنِيَّته ما لم ينوِ أكثر، إذا نوى أكثر فيقع على ما نوى.
تبعيض الطلاق
ثم قال المؤلف رحمه الله:
يعني: في تبعيض الطلاق.
قال:
الطلاق لا يتبعَّض، هذا ضابط في هذا الباب، الطلاق لا يتبعَّض، فلو قال: أنتِ طالق نصف طلقة، يعني: هذه من المسائل النادرة، لكن قد تقع.
إنسان قد يتفلسف، قال: “المرة هذه أطلِّقك نصف طلقة، وبعد مدة سأطلِّقك النصف الآخر”، قال لها: أنتِ طالق نصف طلقة، فما الحكم؟ تقع طلقة كاملة؛ لأن الطلاق لا يتبعض. وهكذا لو قال: ربع طلقة، خمس طلقة، سدس طلقة.
ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال: “أجمعَ كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنها تُطلَّق بذلك، إلا داود، وخلاف داود شاذ في هذه المسألة”.
قال:
لو قال لها: نصفكِ طالق، أو ربعكِ طالق؛ فالطلاق لا يتبعَّض فتطلق كلها؛ لأنه أضاف الطلاق إلى جملةٍ لا تتبعَّض.
قال:
هنا يُفرِّق الفقهاء في تطليق الجزء من الزوجة بين ما إذا كان متصلًا أو منفصلًا، فيقولون: إذا كان الشيء المُطلق منفصلًا فإنه لا يقع الطلاق، وإذا كان متصلًا يقع.
قال المؤلف: (وإن طلَّق منها جزءًا لا ينفصل) يعني: متصل. ومثَّل لهذا، قال:
قال: أنفكِ طالق، رجلكِ طالق، يدكِ طالق؛ فيقع طلقة واحدة.
إن طلق جزءًا منفصلًا، مثَّل المؤلف لهذا، قال:
إذا كان هذا الجزء منفصلًا فإنه لا يقع الطلاق.
ولهذا؛ عندهم ليس فقط في الطلاق، في الظهار وفي العتاق، يُفرِّقون بين الجزء المتصل والجزء غير المتصل؛ فالجزء المتصل يقولون: يلحق به الطلاق، يقع به الطلاق والظهار والعتق، والجزء المنفصل لا يقع به ذلك كله.
ثم قال المؤلف رحمه الله..
بعض المسائل نادرة الوقوع، والمسائل النادرة: منهجنا في الشرح أننا لا نتوسع فيها، نحن نتوسع في المسائل التي لها صلة بالواقع؛ لأن هذا هو منهج السلف، منهج السلف الصالح أنهم يُركِّزون على الشيء الواقع.
بل حتى في مقام إجابة السائل، إذا سأل السائل عن مسألة لم تقع، يقولون: حتى تقع؛ لأن هذا هو الفقه النافع، هذا هو الذي ينفع طالب العلم، يُركِّز على الشيء العملي، الشيء الواقعي، الشيء غير الواقع يُلِمُّ به لكن على سبيل الإجمال، حتى لا يكون ذلك على سبيل الأشياء الواقعة.
فمنهجنا في الشرح: أن المسائل نادرة الوقوع نفهمها، لكن لا نُركِّز عليها ولا نتوسع فيها.
اختلاف الطلاق بالعطف والتأكيد
قال:
وإذا قال: أنتِ طالق، لا، بل أنت طالق؛ فواحدة.
يعني: إذا قال: “أنتِ طالق”، ثم نفى، قال: “لا بل أنتِ طالق”، يقولون: إنها واحدة؛ لأنه أثبت بعدما نفى؛ فيقع واحدة.
هذه مرت معنا في الدرس السابق، إذا قال: “طالق طالق طالق”، نحن ذكرنا فيها تفصيلًا، ما هو هذا التفصيل؟ نعم، أحسنت، إذا قصد التأكيد فيقع واحدة، قال: “طالق طالق طالق” يقصد بذلك التأكيد أو الإفهام حتى تسمع؛ يقع واحدة. وإذا أراد بذلك العدد؛ فإنها تقع ثلاثًا، إذا أراد بذلك أنها تُطلَّق ثلاث تطليقات؛ فتقع ثلاثًا.
مداخلة: …..
الشيخ: هذا ظاهر، إذا قصد ثلاثًا وقعت ثلاثًا، إذا قصد واحدة وقعت واحدة.
لكن إذا لم ينوِ شيئًا، نوى الطلاق فقط، قلنا له: يا فلان، ماذا نويت؟ هل نويت واحدة، أو نويت ثلاثًا؟ قال: والله ما أدري، أنا نويت الطلاق فقط.
هذا يحصل من كثير من العامة، كثير من العامة ما يعرف نِيَّته، ما يُحرِّر النية، تسأله عن النية فما يستطيع أن يُحرِّر النية، يقول: أنا نويت الطلاق، ولا أدري، ما قصدت شيئًا، لا واحدة ولا ثلاثًا.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، الأصل أنها طلقة واحدة، هذه ذكرها الموفق في “المغني”، قال: “وإن قال: أنتِ طالق طالق طالق، ولم ينوِ واحدة ولا ثلاثًا، وإنما نوى الطلاق فقط، فإنه يقع طلقة واحدة؛ لأن هذا هو المُتيَقَّن، وما زاد فهو مشكوك فيه”.
قال:
وهذا ظاهر، إذا قال: “أنتِ طالق، أنت طالق”؛ وقع ثنتان ما لم ينوِ تأكيدًا، وسيستثني المؤلف التأكيدَ والإفهام، لكن يقع ثنتان في المدخول بها، أما غير المدخول بها فسيأتي الكلام عنها.
قال:
فإذا نوى تأكيدًا أو إفهامًا فإنها تقع واحدة، فأنت طالق أنت طالق، هو كقوله: أنت طالق طالق طالق، فإن نوى تأكيدًا وإفهامًا وقع واحدة، وإن نوى ثلاثًا وقع ثلاثًا. هذا بالنسبة للمدخول بها.
أما غير المدخول بها فإنها تَبِين بالأولى، فإذا قال: أنتِ طالق؛ فتَبِين.
وبناءً على ذلك؛ غير المدخول بها، لو قال لها: “أنتِ طالق أنت طالق أنت طالق”، ونوى ثلاثًا، فكم يقع؟ واحدة. لماذا؟ لأنه لمَّا قال: “أنتِ طالق” الأولى بانت، فالثانية والثالثة صادفت غير محلٍّ، لم تصادف محلًّا، فتُعتبر الثانية والثالثة لَغْوًا.
إذن؛ إذا قال: “أنت طالق طالق طالق” لغير المدخول بها، فنقول: تقع واحدة.
وهذا يحصل أحيانًا، خاصة مع طول فترة ما بعد العقد وقبل الدخول، أحيانًا يحصل اختلاف بين الزوج والزوجة، فيغضب الزوج ويُطلِّق، يقول: “أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق”، فكيف نحسب الطلاق هنا؟ نقول: نحسبها طلقة واحدة؛ لأنها قد بانت بالأولى.
قال:
فثنتان في المدخول بها، لكن غير المدخول بها؟
(تَبِين غيرها)؛ يعني: غير المدخول بها تَبِين بالأولى؛ فإذا قال: “أنت طالق فطالق”، أو “طالق ثم طالق”، فغير المدخول بها تَبِين بالأولى كالمسألة السابقة.
وإذا قال:
لا إشكال في المدخول بها، لكن في غير المدخول بها، هنا يقول المؤلف:
وقوله: (ولو) إشارة للخلاف، فالمسألة فيها خلاف.
فهذا رجل عَقَد على امرأة، ثم اختلف معها، فقال لها: “أنتِ طالق وطالق وطالق”، فعلى رأي المؤلف يقع ثلاثًا.
والقول الثاني في المسألة: إنها تقع واحدة، وإنها تَبِين بالأولى. وهذا هو القول الراجح في المسألة؛ لأنه لمَّا قال: “أنت طالق” بانت منه.
فقوله: “وأنت طالق وأنت طالق” لم يُصادف محلًّا، فتَبِين بالأولى.
فإذن؛ لا فرق في هذه المسائل كلها بالنسبة لغير المدخول بها؛ تَبِين بالأولى.
الاستثناء في الطلاق
ثم قال المؤلف رحمه الله، لعلنا نختم بهذا الفصل:
في الاستثناء في الطلاق
وهذا له صلة بمبحث الاستثناء الذي يتكلم عنه الأصوليون، ومذكور في كتب أصول الفقه مباحث الاستثناء، فهذه من تفريعات تلك المباحث، الاستثناء في الطلاق.
يقول المؤلف:
(يصح الاستثناء في النصف فأقل) فأفادنا المؤلف بأن الاستثناء إنما يصح من عدد الطلاق، وكذلك من النساء المطلقات، في النصف فأقل، لا أكثر من النصف.
فلو قال: أنتِ طالق إلا اثنتين مثلًا، فعلى المذهب يقع الطلاق ثلاثًا؛ لأنه: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين، إذا قال: “أنتِ طالق ثلاثًا إلا اثنتين”، فعلى المذهب يقع ثلاثًا؛ لأنه عندهم إذا كان الاستثناء أكثر من النصف فلا يصح.
وهذا راجع إلى مسألة أصولية وهي: هل يصح استثناء أكثر من النصف أو لا يصح؟
أولًا: تحرير محل الخلاف: لا خلاف بين العلماء أنه لا يصح استثناء الكل، قال الموفق ابن قدامة في “الروضة”: “لا نعلم في ذلك خلافًا”.
وأيضًا لا خلاف بين العلماء في أنه يصح استثناء أقل من النصف، أو بعبارة أخرى أجمع: لا خلاف بين العلماء في أنه يصح استثناء النصف فأقل.
ثالثًا: وإنما الخلاف بينهم في استثناء أكثر من النصف: فذهب بعض أهل العلم -وهو المذهب عند الحنابلة- إلى أنه لا يصح استثناء أكثر من النصف، وقالوا: إن أهل اللغة نفوا ذلك، واعتبروه عِيًّا من الكلام.
قال ابن جِنِّي: “لو قال قائل: مائة إلا تسعة وتسعين، ما كان متكلِّمًا بالعربية، وكان كلامه عيًّا من الكلام، ولُكْنة”. فأحالوا ذلك لمقتضى هذا في اللغة العربية.
والقول الثاني في المسألة: إنه يصح استثناء أكثر من النصف، وهذا هو قول الجمهور؛ واستدلوا بقول الله . انتبِهوا للاستدلال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]؛ لاحِظ الاستثناء: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:83].
وقال في آية أخرى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، فاستثنى كل واحد منهما من الآخر.
لاحِظ في الآية الأولى: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَإِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] المستثنى مَن هم؟ “المخلَصين”.
في الآية الثانية: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، المستثنى هم؟ “الغاوين”.
فاستثنى كلًّا منهما من الآخر، ولا بد أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، ومن الذي أكثر: “المخلَصين” أو “الغاوين”؟ “الغاوين”؛ ولهذا قال: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]. ومع ذلك استثناه هنا: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ؛ فدلَّ ذلك على صحة الاستثناء.
وقالوا: إنه لو قال له: عليَّ عشرة إلا سبعة؛ لكان مقرًّا له بثلاثة.
وقالوا أيضًا: لا نُسلِّم بأن هذا مقتضى اللغة العربية، وإنه قد ورد بيت من الشعر:
أدُّوا التي نقصت تسعين من مائة | ثم ابعثوا حكمًا بالحقِّ قوَّامًا |
لكن قيل: إن هذا البيت مصنوع، قال ابن فَضالة النحوي: “إنه مصنوع، ولم يثبت عن العرب”.
بكلِّ حالٍ، فالقول الراجح هو قول الجمهور، القول الثاني: أنه يصح استثناء أكثر من النصف؛ لقوة ما استدلوا به من الآية، فإن الآية ظاهرة الدلالة؛ ولهذا قال الشنقيطي رحمه الله في “المذكرة على الروضة”: “هذا الدليل في المسألة قوي”.
ولأنه لو تكلم بكلامٍ معقولِ المعنى؛ يُقبل المعنى الذي قصد باعتباره عِيًّا من الكلام، فإنه لا يُؤثر في إبطال الحكم الشرعي، هذا على التسليم باعتباره عيًّا من الكلام، مع أن الصحيح: أنه لا يُعتبر عيًّا من الكلام؛ لأن القرآن قد ورد به.
ثمرة الخلاف في المسألة: لو قال: أنتِ طالق ثلاثًا إلا اثنتين، فعلى المذهب يقع ثلاثًا، وعلى قول الجمهور يقع كم؟ واحدة.
فإذن؛ الصواب أنه يصح استثناء أكثر من النصف، سواء في طَلَقات أو في المُطلَّقات.
فرَّع المؤلف على هذا، قال:
(أنتِ طالق ثلاثًا إلا واحدة) الاستثناء هنا أقل من النصف، أقل من النصف؛ ولهذا صحَّ الاستثناء؛ ولهذا قال: طُلِّقت ثنتين. (وأنتِ طالق أربعًا إلا ثنتين) الاستثناء هنا للنصف؛ فيقع ثنتان.
قال:
لأنها نصف الأربع.
هل يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه؟
قال:
هذه أيضًا مسألة أصولية مختلفٌ فيها: هل يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه، أو لا يشترط؟ المؤلف يقول: إنه يشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه.
أولًا: نريد بحث المسألة من الناحية الأصولية؛ اختلف الأصوليون في هذه المسألة على قولين:
- القول الأول: إنه يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه، فلا يصح استثناءُ ما لم يتصل بالمستثنى منه. وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
وقيل: إنه قول جمهور الأصوليين، وقالوا: لأن غير المتصل يقتضي رفع ما وقع بالأول، والطلاق إذا وقع لا يمكن رفعه، بخلاف المتصل فإن الاتصال يجعل اللفظ جملة واحدة فلا يقع الطلاق قبل تمامها. واستثنوا من هذا، قالوا: أن يكون اتصاله حكمًا، كما مثَّل المؤلف، قال: (لفظًا) يعني: بأن يأتي متواليًا، أو (حكمًا كانقطاعه بعطاس) أو سعال أو نحوه.
- والقول الثاني في المسألة: إنه يصح الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ولا يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه، ما لم يَطُل الفصل عُرْفًا.
إذن؛ القول الثاني: إنه لا يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه ما لم يطُل الفصل عرفًا.
وهذا القول مأثور عن بعض السلف، وهو قولٌ عند الحنابلة، واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: إن الله حرم مكة[7].
أنا سأذكر لكم الدليل وأطلب منكم وجه الدلالة: إن الله حرم مكة، لا يُخْتَلى خَلاها، ولا يُعْضَد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُها، إلا لِمُعَرِّف، فقام العباس بن عبدالمطلب فقال: يا رسول الله، إلا الإذخر، لصاغتنا وقبورنا. فقال النبي : إلا الإذخر[8]. ما وجه دلالة هذا الحديث على أنه لا يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه؟
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، أن النبي عليه الصلاة والسلام استثنى الإذخر مع وجود الفاصل، لاحِظ أنه لما قال: لا يُخْتَلى خَلاها، أتى بعد ذلك كلام: ولا يُعْضَد شجرها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا تُلْتقط لُقَطَتُها، إلا لِمُعَرِّف. ثم قام العباس وتكلَّم، قال: إلا الإذخر. قال: إلا الإذخر[9].
فدل هذا على أنه لا يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه، وهذا -كما ترون- نصٌّ صريح وصحيح، في الصحيحين، وصريح في هذا.
وأيضًا استدلوا بدليل آخر: وهو قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهي في الصحيحين أيضًا، لمَّا قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، تلد كلُّ امرأة غلامًا يُقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله. فلم يقل: إن شاء الله. قال عليه الصلاة والسلام: لو قال: إن شاء الله؛ لم يحنث، وكان دَرَكًا لحاجته[10]. طيب، ما وجه الدلالة؟
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، قوله: “إن شاء الله” بعد كلام، لم يتصل المستثنى بالمستثنى منه؛ لأنه قال: لأطوفن الليلة، لاحِظ: على تسعين امرأة، تلد أتى كلامٌ بعدها: تلد كلُّ امرأة غلامًا يُقاتل في سبيل الله. قال المَلَك: قل: إن شاء الله.
لاحِظ! هذا فيه فاصلٌ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: لو قال: إن شاء الله لنَفَعه هذا: لكان دَرَكًا لحاجته؛ يعني: أدرك حاجته ولم يحنث، وهذا أيضًا ظاهر الدِّلالة.
ولهذا أيضًا، نحن ذكرنا: أنَّ مَن حلف على شيء فقال: “إن شاء الله” لم يحنث. حتى لو كان هناك فاصل؟ حتى لو كان هناك فاصل. لو أن شخصًا حلف، فقال له أحد الحاضرين: قل: إن شاء الله. قال: “إن شاء الله” فإنه لا يحنث.
والقول الراجح: هو القول الثاني؛ لهذه الأدلة الظاهرة، وهو أنه لا يشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه، وأنه يصح الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام الغير، وبالسكوت.
لكن، لا بد أن نُقيِّد ذلك نقول: ما لم يَطُل الفصل عُرْفًا، يعني: ما يستثني بعد -مثلًا- مُضيِّ شهر هذا غير مقبول، لو فتحنا المجال لاستثنى بعد مُضيِّ شهر، أو بعد مُضيِّ سنة، فهذا لا بد إذن من أن نُقيِّدَه بألا يطول الفصل عُرْفًا. فهذا هو قول الراجح.
وبناءً على ذلك؛ يكون الصواب هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف من هذا الشرط، فيكون الصواب: أنه لا يُشترط الاتصال، لكن ما لم يطُل الفصل عُرْفًا.
وأيضًا اشترطوا شرطًا آخر لم يذكره المؤلف، لم يذكر المؤلف هذا الشرط، وهو النية، أن ينوي الاستثناء، أن ينوي المُتكلِّم الاستثناء قبل كمال ما استثُني منه، فلو أنه لمَّا قال: “أنتِ طالق ثلاثًا” غير ناوٍ الاستثناء، ثم عرض له الاستثناء فقال: “إلا واحدة”، فيقول: لا ينفعه الاستثناء.
وهذه أيضًا مسألة راجعة لمسألة أصولية: وهي هل يُشترط نية المستثنى منه من المستثنى قبل كمال ما استثُني منه، أو لا يشترط ذلك؟
هذه المسألة أيضًا محل خلاف بين الأصوليين، والصحيح: أنه لا يُشترط؛ للأدلة السابقة، ورجَّح هذا أبو العباس ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، فإن النبي عليه الصلاة والسلام، ظاهر القصة أنه لم ينوِ لمَّا قال: لا يُخْتلى خَلَاها، ولا يُعْضد شجرها، لم ينوِ إلا لمَّا قال له العباس ، فلو لم يقل العباس : إلا الإذخر؛ ما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إلا الإذخر. فظهر من هذا أنه عليه الصلاة والسلام لم يَنْوِ استثناء الإذخر.
وأيضًا، سليمان عليه الصلاة والسلام لم يَنْوِ هذا حتى قال له المَلَكُ: قل: إن شاء الله.
فقصة العباس ، وقصة سليمان ، ظاهرة الدلالة في أنه لا يشترط نية الاستثناء.
وبناءً على ذلك؛ لو قال: أنتِ طالق ثلاثًا، فقال له أحد الحاضرين: إلا اثنتين، قال: إلا ثنتين؛ فيصح، أو قال: إلا واحدة، اجعلها واحدة مثلًا، فرصة، فقال: إلا واحدة؛ فينفعه ذلك، هذا بناءً على القول بأنه إذا قال: أنتِ طالق ثلاثًا، تقع ثلاث تطليقات.
هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسائل.
نقف عند (طلاق الزَّمَن) وما يتعلق به من مسائل وأحكام.
وإن شاء الله الدرس القادم ننتهي من (باب الطلاق)، نحاول أن ننتهي إن شاء الله الدرس القادم من (باب الطلاق).
الأسئلة
نكتفي بهذا القدر، ونُجيب عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا سائل يقول: لو قال الزوج في طلاقه: أنتِ طالق بالثلاث. وكرَّر هذه العبارة ثلاثًا، فهل يقع ثلاثًا أم واحدة؟
الشيخ: إذا قال: أنتِ طالق بالثلاث. هذا سؤال جيد، لو قالها مرة واحدة تقع واحدة، لكنه إذا كرَّرها، قال: أنت طالق بالثلاث، أنت طالق بالثلاث، أنت طالق بالثلاث؛ فيقع ثلاثًا؛ لأنها أشبه ما لو أنه حذف كلمة “بالثلاث”، لو قال: “أنت طالق أنت طالق أنت طالق”، نواها ثلاثًا؛ تقع ثلاثًا.
فمِن باب أولى إذا أكَّد هذا وقال: “أنت طالق بالثلاث” وكررها ثلاثًا؛ فتقع ثلاثًا.
مداخلة: …..
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما الفرق بين “نظم الورقات” و”منظومة الأصول” لابن عثيمين؟ وأيهما أقرب إلى “روضة الناظر”؟
الشيخ: “نظم الأصول” للشيخ ابن عثيمين لا يقتصر على القواعد الأصولية المذكورة في كتب أصول الفقه، يذكر قواعد أخرى غير المذكورة في كتب أصول الفقه، مثلما مرَّ معنا في مسألة “من لم يبلغه الشرع”، هذه ما تجدها في كتب أصول الفقه بهذا التقرير الذي قرَّره الشيخ رحمه الله.
وستأتي أيضًا مسائل أخرى لا تجدها في كتب أصول الفقه، فالشيخ رحمه الله جمع بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية، وقواعد في الشريعة لا توجد في كتب الأصول، بخلاف “الورقات”، هي مرتبة على ما هو مذكور في كتب الأصوليين.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما الحد الأدنى الذي يكفي طالب العلم في علم الحديث؟
الشيخ: الحديث لا بد من ربطه بالفقه، والذي يقرأ الفقه بدون أن يربط الفقه بالحديث لا يستفيد الاستفادة الكاملة، وأحسن الطرق في هذا أنك تنطلق من كتب الفقه وتربطها بالحديث، هذا أحسنُ مِن أن تنطلق من كتب الحديث وتربطها بالفقه، لماذا؟ لأن كثيرًا من المسائل ليس فيها أدلة.
فإذن؛ إذا انطلقتَ من كتب الحديث تفوتك هذه المسائل.
فمثلًا (باب الشركات)، يمكن ليس فيه إلا حديث أو حديثان، وأعلم أيضًا في سندها مقال، كلام الفقهاء فيها طويل، وفيها تقعيدات، وفيها أصول وضوابط، لو أنك انطلقت مثلًا من “بلوغ المرام” تفوتك هذه المسائل، بل المعاملات أكثرها الأدلة فيه قليلة؛ لأن الأصل فيها الحل والإباحة.
لكن لو انطلقت مثلًا من “دليل الطالب” أو من “الزاد” أو من متن فقهي ربطته بالحديث، تمشي على جميع المسائل، سواء التي ورد فيها النص أو التي مبناها على النظر.
فمثلًا؛ إذا درست (باب المسح على الخفين) تربطه بالأحاديث المذكورة في “البلوغ” والأحاديث المذكورة في الصحيحين، وجميع الأحاديث في المسح على الخفين تربطها بمسائل المسح على الخفين. طيب، هناك مسائل في المسح على الخفين لا يوجد فيها أدلة، تعرف أيضًا رأي العلماء فيها، مبناها على النظر.
فإذن؛ الطريقة الصحيحة: أن تربط الفقه بالحديث.
وأما بالنسبة للمصطلح فيكتفي منه بقَدْر معين، لا يُشترط التعمُّق فيه، إن تيسَّر أن يتعمَّق في هذا لا شك أنه كمال، لكن لو لم يتعمَّق فيه فيمكنه أن يعتمد على حكم المُحدِّثين.
فهناك طريقتان: طريقة المحدثين، وبعضهم يُسمِّيها طريقة المتقدمين والمتأخرين. لكن بعضهم يُسمِّيها: طريقة الفقهاء وطريقة المحدثين، وطريقة الأصوليين وطريقة المحدثين.
طريقة المحدثين طريقة الأئمة السابقين؛ كالإمام أحمد وابن المديني وأبي حاتم، وأيضًا الترمذي.
والطريقة الثانية: طريقة الفقهاء والأصوليين، أو بعضهم يُسمِّيهم “المتأخرين”، هي طريقة الانطلاق من التقعيد في المصطلح، يضع قاعدة ويمشي عليها.
فطريقة المحدثين أجود؛ لأنهم لهم نظر في معرفة الرواة، ومعرفة العلل، ومعرفة مدارك السَّند.
فلذلك؛ أنا أنصح إذا أردتَ أن تعرف حكم حديث أن ترجع لآراء المتقدمين، ومِن أفضل ما يُعين على معرفة آراء المتقدمين كتاب قيم: وهو كتاب “البدر المنير”، “البدر المنير” يذكر آراء المتقدمين، خاصة آراء ابن أبي حاتم.
والترمذي أيضًا أحكامه في الجملة جيدة، إذا قال: “حسن صحيح” هذا في الغالب أنك تجد الحديث صحيحًا، إذا قال: “غريب” يعني: ضعيف، تجد حكم الترمذي على الحديث أيضًا من أجود ما يكون.
تجد بعض الناس يعتمد على بعض المتأخرين ويترك هؤلاء المتقدمين، يعني عنده مثلًا حكم الشيخ أحمد شاكر، أو الألباني، أو أحد من المتأخرين -مع جلالة علمهم وقدْرهم- يُفضِّله على حكم الترمذي، فرقٌ كبير بين حكم الترمذي وهؤلاء، هؤلاء لهم طرق، ربما تفوتهم بعض العلل والنظر في العلل.
وأيضًا هؤلاء المتأخرون -كما ذكرت- ينطلقون أحيانًا من تقعيدات.
يعني مثلًا الأحاديث الواردة في الحُليِّ المُعَدِّ للاستعمال: حديث المَسْكَتَيْن، وحديث.. إذا نظرتَ بطريقة المتأخرين تجد أن ظاهر الأحاديث أسانيدها صحيحة، لكن إذا نظرتها بطريقة المتقدمين تجدها كلها ضعيفة؛ قال الترمذي: “لا يصح في هذا الباب شيء”، فترتب على ذلك اختلافٌ حتى في الترجيح، في النظر في بعض المسائل؛ فانتبِهوا لهذا.
وهناك مُصنَّفات في هذا، هناك كتابات كثيرة في هذا الموضوع، وهناك من صنَّف أيضًا في هذا.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: اشتراط نية الاستئناف قبل الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، يَرِد في هذا إشكال: وهو أن النبي لم ينوِ الاستئناف قبل كلام العباس حين قال: إلا الإذخر؟
الشيخ: نعم، وهذا يؤكِّد أن القول الراجح أنه لا تُشترط النية، لا تُشترط نية الاستثناء، في هذا الحديث -حديث العباس – وكذلك قصة سليمان ، ما نوى المستثنى، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب، ما نوى الاستثناء إلا لمَّا قاله العباس : إلا الإذخر. فهذا يُؤكِّد رُجْحان عدم اشتراط النية.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا عزم المرء على الطلاق عزمًا أكيدًا، ولكن حدث أمر ولم يُطلِّق، فما الحكم؟
الشيخ: لا يقع الطلاق بالإجماع إذا لم يتلفَّظ بالطلاق، ولو عزم عليه عزمًا أكيدًا لا يقع الطلاق؛ لقول النبي : إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يعمل أو يتكلم[11].
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هل الصحيح قول “الضرورات تُبيح المحظورات”، أو قول “الضرورات تُبيح بعض المحظورات”؟
الشيخ: “الضرورات تُبيح المحظورات” يعني: في الجملة، المقصود في الجملة، فيُعبِّر الفقهاء عن ذلك: “الضرورات تُبيح المحظورات” يعني: في الجملة، وأن هناك بعض المحظورات التي لا تُبيحها الضرورة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: كيف نضبط الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالعُرْف؟ وما هو أكثر وقت للفصل؟
الشيخ: نعم، لا نستطيع أن نَحُدَّه بحَدٍّ معين، يعني: الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، بعضهم قدَّرها بالمجلس، يقول: ما دام في المجلس فيصح الاستثناء، وإذا خرج من المجلس لم يصح.
لكن، التحديد في المجلس يحتاج إلى دليل، الأقرب هو العُرْف، يعني: عُرْف الناس أنه يكون متصلًا، إذا كان الفاصل ليس طويلًا، وما زال في سياق الكلام، وما زال في نفس الموضوع، وما زال.. فهنا يصح أن يَستثني. لكن، أن يأتي اليوم، وغدًا يستثني؛ هذا ما يصح، هذا الاستثناء ما يصح.
لكن، لو كان في نفس الكلام، وما زال في نفس السياق، وما زال.. فهنا نقول: إنه يصح الاستثناء، فالمرجع في ذلك للعُرْف، ما عَدَّه الناس في عرفهم اتصالًا فهو اتصال، وما عدُّوه انفصالًا فهو انفصال، يعني: ما عدُّوه انفصالًا طويلًا، وإلا، إذا انفصل الكلام انفصالًا لكن ما عدُّوه انفصالًا طويلًا فهو انفصال، وإلا فلا.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم. يقول: هل يجوز لُبْس الساعة إذا كانت مصنوعة مِن جِلْد حيوان غير مأكول اللحم؟ وإن جهل نوع الجِلْد هل هو مأكول اللحم أو لا؛ فما الحكم؟
الشيخ: جلود السباع قد ورد النهي عنها، كما في حديث أبي المليح، فنهى النبي عن جلود السباع[12].
وإذا كان هذا الجِلد من جلود السِّباع فلا يجوز لُبْسه، سواءٌ كان سَيْر ساعة، أو كانت نِعالًا، أو كانت أيَّ لباسٍ يلبسه، لا يجوز ما دامت من جلود السباع، إذا تحقَّق من ذلك. أما إذا كانت من مأكول اللحم فلا بأس بها.
وأحيانًا قد يُقال: إن هذا من جِلْد نَمِرٍ مثلًا، لكنه مجردُ تسميةٍ أنه يُشبه جِلْدَ النَّمِر، لكنه حقيقة ليس كذلك، فإذا كان مصنوعًا يُلاحظ فيه الصنعة، غلبت عليه، لكنه يُشبه جلد النمر؛ هذا لا يضر. أما إذا كان من جلد سَبُعٍ، جلدًا طبيعيًّا؛ فهذا لا يحل، قد ورد النهي عنه.
طيب، نأخذ بعض الأسئلة الشفهية.
مداخلة: …..
الشيخ: هو إذا قال: “أنتِ طالق أشدَّ الطلاق”، أو حتى “أكثر الطلاق”، فننظر للعبارة نفسها، فإذا قال: “أشد الطلاق”، يعني: هذه إذا كنا نقول: إذا قال: “أنتِ طالق بالثلاث” ما تقع إلا واحدة؛ فهذه من باب أولى ما تقع إلا واحدة، حتى لو نوى ثلاثًا.
لكن، مسألة أكثر الطلاق، هذه التي فيها الإشكال، أكثر الطلاق هذه محل نظر، اعتبارها واحدةً محلُّ نظر؛ لأنه إذا قال: “أكثر الطلاق” فهو قد نصَّ على أكثر من واحدة. ويُحتمل أن نقول: إذا قلنا: إنه لو قال: “أنت طالق بالثلاث” لم يقع، فهذا من باب أولى أنه لا يقع.
فمِثل هذه المسائل فيها خلاف كثير بين أهل العلم، ووقوعها نادر، نادر أن أحدًا يأتي بمثل هذه العبارات.
ولذلك؛ أحببنا عدم الدخول في تفاصيلها، وإلا ففيها كلام كثير لأهل العلم، وفيها خلاف كثير، لكن باعتبارها نادرة الوقوع لم نشأ أن ندخل في تفاصيلها.
مداخلة: …..
الشيخ: الصريح كما قلنا في الدرس السابق هو الطلاق وما تفرَّع منه، أما غير لفظ الطلاق فليس بصريح، الفراق يحتمل؛ يحتمل الطلاقَ ويحتمل عدمَ وقوعه.
والفراق، هذا أمرٌ ما يُستفاد منه، هذا لا صريح ولا كناية، مجرد: أَوْ فَارِقُوهُنَّ [الطلاق:2]، المقصود بالمفارقة يعني: الطلاق: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، تسريح؛ فهذا لا يُستفاد منها، إنما التسريح قد يُقصَد به الطلاق وقد لا يقصد به الطلاق، تدخل في (باب الكناية). فالصريح: هو لفظ الطلاق خاصة وما تفرَّع منه؛ كأن يقول: “أنتِ مُطلَّقة”، هذا هو الصريح.
يكون آخر سؤال.
مداخلة: …..
الشيخ: أولًا: الضرورة في شرب الخمر ذكروا لها مسألة واحدة، وتُشبه أن تكون مُفترَضة، قالوا: إذا غُصَّ بلقمة ولم يجد إلا كأس خمر، فله أن يشرب بقدر ما يدفع هذه الغُصَّة.
أولًا: لماذا وُضع الخمر عنده على المائدة؟ هذا السؤال، فلا يصح التمثيل أصلًا بهذا.
مداخلة: …..
الشيخ: فمثل هذه المسألة أنا أرى عدم التمثيل بمثلها؛ لأنها نادرة الوقوع؛ ولأنها تُفترَض افتراضًا، ولا ينبغي أن يكون لدى المسلم أصلًا خمر على المائدة.
قاعدة “الضرورة تبيح المحظورات” مقيَّدة بقاعدة أخرى، وهي: “أن الضرورات تُقدَّر بقدْرها”؛ ولذلك قال : غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ [البقرة:173]، فتكون بقَدْر الضرورة، يعني: لا يَشْبع إذا أكل مِن مَيْتة، بقدر ما يَسُد الرَّمَق، فيكون بقدر الضرورة فقط، لا يزيد على هذا القَدْر، بقَدْر ما تزول به ضرورته.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 20695، والترمذي: 1163، وابن ماجه: 1851. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^3 | رواه أحمد: 2387، وأبو داود: 2196. |
^4 | رواه البخاري: 5255. |
^5 | رواه الدارقطني في “سننه”: 3994، والبيهقي في “الكبرى”: 15169. |
^6 | رواه مسلم: 1472. |
^7 | رواه البخاري: 2090، ومسلم: 1354. |
^8, ^9 | رواه البخاري: 1833، ومسلم: 1355. |
^10 | رواه البخاري: 3424، ومسلم: 1654. |
^11 | رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127. |
^12 | رواه أحمد: 5751، وأبو داود: 4131، والترمذي: 1770، والنسائي: 4253. |