عناصر المادة
ننتقل بعد ذلك إلى شرح متن “دليل الطالب”، وكنا قد بدأنا في مسائل الطلاق، ووقفنا عند: (باب سُنة الطلاق وبدعته).
وهذا الباب من الأبواب المهمة في الطلاق، بل هو أهم باب في (باب الطلاق).
سنة الطلاق وبدعته
قال رحمه الله:
الطلاق السُّني
وهذا باتفاق أهل العلم؛ أن السنة فيمن أراد أن يُطلِّق زوجته أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يُجامعها فيه، ويُطلِّقها أيضًا طلقة واحدة، لا يزيد على ذلك، وإذا فعل هذا فإنه لن يندم، ولن يبحث عمن يُفتِيه في مسائل الطلاق.
ولهذا قال علي : “لو أن الناس أخذوا بما أمر الله به من الطلاق، ما يُتبع رجلٌ نفسه امرأةً أبدًا، يُطلِّقها تطليقة ثم يَدَعُها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثة، فمتى شاء راجعَها”.
يعني: لو عمل الناس بالسنة في هذا: أولًا: يتحيَّن الوقت المناسب، لن يطلقها في أيِّ وقت؛ في طُهْرٍ لم يُجامعها فيه. ثانيًا: يُطلِّقها طلقة واحدة. ثالثًا: إن طلَّقها طلقة واحدة له أن يُراجعها ما دامت في العِدَّة، والعِدَّة طويلة، العِدَّة ثلاث حِيَض إن كانت ممن تحيض، وثلاثة أشهر إن كانت ممن لا تحيض.
هذه الفترة بإمكانه أن يتراجع إذا كان مثلًا بسبب غضب، إذا كان بسبب سوء فهم، إذا كان بسببٍ؛ فعنده فرصة للتراجع، للمُراجعة.
ولذلك؛ مثل هذا الذي اتقى الله في طلاقه، لا يحتاج للسؤال عن الطلاق.
وأيضًا كما قال عليٌّ : “لا تتبع نفسه امرأة”؛ لأنه إذا طلَّقها وبقيت ثلاثة أشهر أو ثلاث حِيَض، وما راجعها، معنى ذلك: أن نفسه قد طابت منها.
ولهذا؛ من يتقي الله لا يحتاج للسؤال، لا تتبع نفسه امرأة، لا يندم.
وهذا هو السر في أن الأمر بالتقوى تكرَّر في سورة الطلاق مع قِصَرها، لاحِظ: كم تكرر فيها الأمر بالتقوى، وبيان فائدته وثمرته: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطلاق:1]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
كل هذا في سورة واحدة؛ لأن المُطلِّق مأمورٌ بتقوى الله ، هذه الأمور كون الإنسان يلتزم فيها بالتقوى، يعني: هذه فيها صعوبة على النفس، فتحتاج إلى إيمان قوي.
فإذن نقول: السنة في الطلاق أن يُطلِّقها مرة واحدة في طُهْرٍ لم يُجامعها فيه.
حكم طلاق الحائض
قال:
أما طلاق الثلاث ففيه تفصيلٌ سنأتي للكلام عنه، لكن الذي يُهمنا هو قول المؤلف: (وفي الحيض).
فقول المؤلف: إنه إذا طلقها في الحيض يقع الطلاق، فيرى المؤلف أن طلاق الحائض خلاف السنة، بل هو بدعة، ولكنه يقع.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين:
القول الأول: أن طلاق الحائض يقع، مع اتفاقهم على أنه خلاف السنة وأنه طلاق بدعة، لكن اختلفوا في وقوعه. انتبِه لهذه المسألة! الخلاف فيها قوي.
نقول: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن طلاق الحائض يقع، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة: مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول أكثر أهل العلم، بل حكاه ابن المنذر إجماعًا، وحكاه ابن عبدالبر كذلك إجماعًا، بل قال ابن المنذر: “إنه لم يُخالِف في هذه المسألة -يعني: في وقوع طلاق الحائض- إلا أهل البدع والضلال”.
وكذلك أيضًا النووي قال: “إنه لم يخالف في زماننا في وقوع طلاق الحائض إلا الرافضة وأهل البدع والضلال”.
وهذا الكلام قد يكون غير دقيق، هناك مَن خالف مِن العلماء في ذلك لكنهم قِلَّة، لكن يُبيِّن لك هذا: أن هذا رأي أكثر علماء الأُمَّة، وقد حُكِي إجماعًا، لكن لا تصح حكاية الإجماع.
والقول الثاني في المسألة: إن طلاق الحائض لا يقع، وهذه رواية عن الإمام أحمد واختيار أبي العباس ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله تعالى.
وأيضًا اختار هذا القول من المعاصرين ويُفتي به: شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله، وكذلك أيضًا سماحة المفتي العام الآن ودار الإفتاء، الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ ودار الإفتاء الآن يُفتون بهذا، بأن طلاق الحائض لا يقع.
نأتي للأدلة:
أما من قال بأن طلاق الحائض يقع؛ فاستدلوا بقصة ابن عمر رضي الله عنهما لما طلَّق امرأته وهي حائض، فذكر عمر ذلك للنبي ، وقال: مُرْهُ فليُراجعها إلى آخر القصة، وقد وردت بعدة روايات، القصة في الصحيحين[1].
وجاء في “صحيح البخاري” عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حُسِبت عليَّ بتطليقة. هذا لفظ البخاري[2]. هذا كما ترون صريح وصحيح؛ في “صحيح البخاري”، وصريح يقول: حُسِبت عليَّ بتطليقة.
وأيضًا ساق البخاري في “صحيحه” عن أنس بن سيرين قال: سمعتُ ابن عمر رضي الله عنهما قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر عمر للنبي فقال: ليراجعها قلتُ: تُحتسَب؟ قال: فَمَهْ؟ يعني: قال ابن عمر: فَمَهْ؟ يعني: كالمُنكِر[3].
وعن قتادة، عن يونس بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مُرْهُ فليُراجعها قلت: تُحتسَب؟ قال: أرأيت إن عَجَز واسْتَحْمَقَ[4].
ومِن أحسن مَن بحث هذه المسألة الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”، الكتاب معي الآن، فذَكَر فيها الأدلة، ويكفينا رواية البخاري، هي صريحة في هذا الحقيقة، صريحة في أن طلاق الحائض لا يقع.
نَقَل عن النووي: “قال النووي: شذَّ بعض أهل الظاهر، فقال: إذا طلَّق الحائض لم يقع الطلاق؛ لأنه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبية، وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض. وقال ابن عبدالبر: لا يُخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال؛ يعني: الآن. قال: ورُوي مثله عن بعض التابعين، وهو شذوذ، وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن عُلَيَّة، يعني: إبراهيم بن إسماعيل بن عُلية -يعني وهو من المعتزلة- قال عنه الشافعي: إنه ضالٌّ”.
لكن القول بمسألة الإجماع محل نظر، يكفينا أن هذا رأي ابن تيمية، لكن هناك من يقول: إن ابن تيمية رحمة الله عليه مسبوق بالإجماع.
لكن هذا محل نظر، الخلاف في هذه المسألة واقع، لكن رأي الأكثرية أنه لا يقع.
فإذن؛ عمدة الجمهور هو قصة ابن عمر رضي الله عنهما.
أصحاب القول الثاني الذين قالوا: إنه لا يقع؛ استدلوا بقول النبي : مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ[5].
قالوا: وإذا كان مردودًا فإنه يكون قد وقع على خلاف السنة فلا يقع.
واستدلوا أيضًا بأنه قد جاء في بعض روايات ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: “هي واحدة”[6]. قالوا: هذا نصٌّ في موضع الخلاف فيجب المصير إليه.
وأيضًا قالوا: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام: فليراجعها، لو قلنا: إنه يقع، لقلنا: إن قوله : فلْيُراجِعها، ثم يُطلِّقها أنه يكون ابن عمر رضي الله عنهما مأمورًا بأن يُطلِّقها تطليقتين، قالوا: وهذا بعيد؛ لأنه قال: فليُراجعها، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلَّق[7].
والقول الصحيح في هذه المسألة، هو قول الجمهور، وهو أن طلاق الحائض يقع كما ذكرتُ، وقد حُكِي إجماعًا، ولو لم يكن من ذلك إلا قول ابن عمر رضي الله عنهما: حُسِبت عليَّ بتطليقة.
ولكن أصحاب القول الثاني يقولون: لعل الذي حَسَبها غير النبي . وهذا بعيد جدًّا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الموجه وهو المرشد لابن عمر رضي الله عنهما، فيبعُد جدًّا أن يكون الذي حسبها غير النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما رواية: «هي واحدة» فإنها لا تثبت.
وابن حجر رحمه الله تكلَّم عن هذه المسألة كلامًا طويلًا، وخلص إلى أن القول الصحيح هو قول الجمهور: وهو أن طلاق الحائض يقع. هذا هو الأقرب والأقوى في هذه المسألة.
وأُحيلكم على “فتح الباري”، المجلد (9/ 351)، تكلَّم كلامًا طويلًا، ربما لو قرأناه يأخذ منَّا وقتًا، لكن خلاصة الكلام في هذه المسألة هو ما ذكرت.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، هي واحدة ولم يَعُدَّها شيئًا، نعم أحسنت.
«هي واحدة»[8] تصلح دليلًا للجمهور، لكن الذي قصدت من الرواية: “ولم يَعُدَّها شيئًا” عند أبي داود[9]، عند أبي داود: “ولم يعدها شيئًا”؛ قوله: “ولم يعدها شيئًا” هذه الرواية ضعيفة.
وعلى كلِّ حال، الحافظ ابن حجر تكلَّم عنها من جهة الرواية ومن جهة الدراية في “فتح الباري”، فلا نُريد أن تأخذ منّا هذه المسألة وقتًا، أُحيلكم للمرجع.
لكن، يكفينا قول ابن عمر رضي الله عنهما: حُسبت عليَّ تطليقة. قال: أرسَلوا إلى نافعٍ يسألونه: هل حُسبت تطليقة ابن عمر رضي الله عنهما على عهد النبي ؟ فقال نافع: نعم[10]. يعني: بعد موته.
ونافع هو من أعلم الناس بابن عمر رضي الله عنهما وبحاله، ومِن أثْبَت الناس في ابن عمر رضي الله عنهما، فهو من جهة الرواية والدراية.
فالأقرب والله أعلم: هو قول الجمهور في هذه المسألة.
لكن باعتبار المسألة الخلافية: حكم الحاكم يرفع الخلاف، يعني: لو ذهب الإنسان لمحكمة، وحكم القاضي بأنه لا يقع؛ يُعمل بذلك. لو ذهب مثلًا لدار الإفتاء وأفتوه بأنه لا يقع؛ يعمل بذلك، فحكم الحاكم يرفع الخلاف.
لكن الذي يظهر لي: أن قول الجمهور هو في غاية القوة، لو لم يكن إلا الرواية التي ساقها البخاري صريحة في هذه المسألة. وكان شيخنا عبدالله ابن قعود رحمه الله أيضًا ممن يُرجِّح بل ينصر هذا القول، وهو قول الجمهور: أن طلاق الحائض يقع.
مداخلة: …..
الشيخ: أخونا الشيخ عبدالله ينقل عن سماحة المفتي، يقول: إنه كان يرى هذا الرأي، لكن لما ولي الإفتاء بعد الشيخ عبدالعزيز ابن باز، أصبح يسير على فتوى الشيخ ابن باز رحمه الله.
حكم طلاق الثلاث
ننتقل بعد ذلك إلى طلاق الثلاث؛ طلاق الثلاث -يا إخوان- يحتاج إلى شيء من التفصيل.
طلاق الثلاث له عدة صور: إما أن يُطلِّق بكلمة واحدة، أو يُطلِّق بكلمات.
يُطلِّق بكلمة واحدة، يعني يقول: أنتِ طالق بالثلاث؛ هذه صورة.
يُطلِّق بكلمات لها عدة صور أيضًا: أن يقول: “أنتِ طالق، ثم طالق، ثم طالق”. هذه صورة.
ومن الصور أيضًا أن يقول: “أنت طالق، طالق، طالق”، أن يقول: “أنت طالق مائة مرة”، أو “ألف مرة”، أو “أنت طالق، وطالق، وطالق”.
كلُّ هذه الصور نريد الآن أن نُحقِّق الكلام فيها:
أما الصورة الأولى: وهي الطلاق بكلمة واحدة، طلاق الثلاث بكلمة واحدة، أن يقول: أنت طالق بالثلاث.
أما المذهب: فكما قال المؤلف: تقع ثلاثًا، وهذا هو قول الجمهور، ومذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: أنها تقع ثلاثًا إذا قال: “أنت طالق بالثلاث”.
والقول الثاني في المسألة: أنه إذا قال: “أنت طالق بالثلاث”؛ يعني: طلاق الثلاث بكلمة واحدة؛ يُعتبر طلقة واحدة. وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية وابن القيم، واختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله، رحمة الله تعالى على الجميع.
الجمهور قالوا: إذا أوقع الطلاق بثلاث تطليقات فيقع ثلاثًا؛ لعموم الأدلة، ومنها قول الله :الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ [البقرة:230]، استدلوا بعموم الأدلة.
أصحاب القول الثاني الذين قالوا: إن طلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع تطليقة واحدة؛ استدلوا بما جاء في “صحيح مسلم” عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم[11]. ففعل ذلك عمر من باب السياسة الشرعية.
قالوا: والمقصود بقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان الطلاق على عهد رسول الله ، طلاق الثلاث واحدة. يعني: طلاق الثلاث بكلمة واحدة. هذا هو المقصود، أن يقول: أنت طالق بالثلاث.
فيقولون: الصواب هو ما كان عليه الأمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وفي عهد أبي بكر الصديق ، وأما عمر فاجتهد اجتهادًا في تعزير الناس بإيقاع الطلاق الثلاث عليهم. لكن، مُحَالٌ أن يكون فعلُ عمر أفضل من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وحكم عمر أفضل من حكم النبي عليه الصلاة والسلام. هذه هي وجهتهم.
وأيضًا قالوا: إن اللغة العربية -وانتبِه لهذا؛ هذا مأخَذٌ قويٌّ، انتبه! لو قرأت في كتب الفقه تجد الكلام فيها مُشتَّتًا، فنُريد أن نجمع الكلام فيها، ونُحرِّره في هذه المسائل. انتبهِوا لهذا المَأْخَذ، وهذا سمعتُه مِن شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله- يقولون: إن اللغة العربية تقتضي أن يكون الكلام المجموع مؤدَّاه عن مرة واحدة، الكلام المجموع يكون عن مرة واحدة. قالوا: ولهذا لو أن رجلًا في اللعان قال: أشهد بالله أربع مرات إني لمن الصادقين، لم يُعَد إلا مرة واحدة بالإجماع، فلا بد من التكرار، لا بد أن يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين، أشهد بالله إني لمن الصادقين، يُكرِّر، وهكذا بالنسبة للمرأة.
هذا يدل على أن التكرار عند العرب يختلف عن أن يُقال بكلمة واحدة.
قالوا: ولهذا لو أنَّ شخصًا قال بعد الصلاة، بدل أن أقول: “سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر” ثلاثًا وثلاثين، يعني: أُكرِّرها ثلاثًا وثلاثين مرة، أقول: “سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين” وأمشي، فيقولون: إن العرب تُفرِّق بين أن تُكرِّر وبين أن تقول الشيء بكلمة واحدة.
وهكذا أيضًا بدل أن تقول: “سبحان ربي العظيم” تُكرِّرها في الركوع، تُكرِّر “سبحان ربي الأعلى” في السجود، تقولها بكلمة واحدة: “سبحان ربي العظيم ثلاثًا”، أو “سبحان ربي العظيم عشر مرات” مثلًا.
إذن؛ العرب في لغتهم يُفرِّقون بين أن يكون الكلام مكرَّرًا، وبين أن يكون مجموعًا بكلمة واحدة. وهذا مأخَذٌ قويٌّ جدًّا.
ولهذا؛ فالقول الراجح والله أعلم في هذه المسألة: هو القول الثاني.
هذه المرة وافقنا أصحاب القول الثاني، للإمام ابن تيمية وابن القيم وجهة قوية في هذا، وهو أنه إذا كان طلاق الثلاث بكلمة واحدة، أنه يُعَدُّ تطليقة واحدة.
ثم أيضًا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما صريح في أن هذا كان عليه الأمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر ، كان طلاق الثلاث المجموع بكلمة واحدة يُعَدُّ تطليقة واحدة.
وأيضًا جاء في قصة رُكانة أنه طلق امرأته ثلاثًا، فقال له النبي لما حزن عليها حزنًا شديدًا: «هي واحدة». قال: قد طلقتها ثلاثًا في مجلس واحد يا رسول الله. قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة[12]. وهذا قد رُوي بعدة ألفاظ، رواه أحمد وغيره، وقال أبو العباس ابن تيمية: إن إسناده جيد.
إذن؛ خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن القول الراجح إن طلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع تطليقة واحدة، وأن هذا هو الذي عليه الأمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر .
طلاق الثلاث إذا تكرَّر بألفاظ وليس بكلمة واحدة، هذا له عدة صور:
- الصورة الأولى: أن يُطلِّق الرجل زوجته ثلاثًا في أوقات متعدِّدة، أي: يُطلِّقها ثم يُراجعها في العِدَّة، وبنكاح جديد بعد الخروج من العِدَّة، ثم يُطلِّقها ثانية، ثم يُراجعها، ثم يُطلِّقها. فتحرم عليه زوجته في هذه الحال حتى تنكح زوجًا غيره بالإجماع؛ لقول الله : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] ثم قال الآية التي بعدها: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
- الصورة الثانية: أن يقول لزوجته: “أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق”، أو يقول: “أنتِ طالق وطالق وطالق”، أو: “طالق فطالق فطالق”. فيقع طلاقه ثلاثًا في قول أكثر أهل العلم؛ لعموم الآية: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ؛ ولأنه لو قال: “السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم”؛ عُدَّ مُسلِّمًا ثلاثًا، فهكذا إذا قال: “طالق ثم طالق ثم طالق”، فيُعتبر ثلاث تطليقات.
خالف في هذا الإمامُ ابن تيمية رحمه الله، قال: إنها تُعتبر تطليقة واحدة. ولكن، قال شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله: أما اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية لعدم وقوع الطلاق على الرَّجعية إلا بعد عقد أو رَجعة، فقولٌ ضعيفٌ مخالف للأدلة الشرعية، ولا أعلم له سندًا ولا سلفًا، وإن قُدِّر أن أحدًا من التابعين أو غيرهم قال بقوله فهو قول غلط مخالف للأدلة الشرعية.
شيخ الإسلام ابن تيمية عنده هذه القاعدة: أنه لا يقع الطلاق على الرَّجعية إلا بعد عقد أو رجعة؛ يعني لو قال: “طالق ثم طالق ثم طالق”؛ يُعتبر تطليقة واحدة. وهذا أيضًا رجحه الشيخ محمد ابن عثيمين.
لكن قيل: إنه قد حُكِي الإجماع على ذلك قبل الإمام ابن تيمية رحمه الله، وكما قال الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله: إنه قول ضعيف مخالف للأدلة الشرعية.
فالصواب إذن أنه يقع ثلاثًا؛ لأنه لا فرق بين أن يقول: “طالق” ثم يُراجعها، ثم يُطلقها ثم يُراجعها ثم يُطلقها، وبين أن يقول: “طالق ثم طالق ثم طالق”، يعني: الفترة الزمنية هذه غير مؤثرة.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، ستأتي مسألة التأكيد.
فإذن؛ إذا قال: “طالق ثم طالق ثم طالق”، أو: “طالق وطالق وطالق”؛ فالصواب ما عليه أكثر أهل العلم، بل حُكِي إجماعًا أنه يقع ثلاثًا، وقول الإمام ابن تيمية مع حبِّنا للإمام ابن تيمية، ومع كونه محقِّقًا، إلا أنه يظهر في هذه المسألة أنه قول مرجوح.
الصورة الثالثة: أن يقول: “أنتِ طالق طالق طالق”، فإن كان يُريد تأكيدًا فيقع تطليقة واحدة، إن كان يُريد تأكيدًا أو إفهامًا، ولم ينوهِ ثلاثًا.
انتبِه لهذا القيد: إن كان يُريد تأكيدًا أو إفهامًا ولم ينوهِ ثلاثًا؛ فيقع واحدة. أما إذا نوى به ثلاثًا فيقع ثلاثًا، حتى لو كان “طالق طالق طالق”.
فإذن؛ أصبحت عندنا الصور: هذه ثلاث والأولى؛ أصبحت أربعًا كلها، طلاقُ الثلاثِ أربعُ صورٍ، نُريد تلخيصها مرة أخرى.
انتبِه! هذه مسائل مهمة جدًّا كما ذكرت، إذا قرأت في كتب الفقه تجد الكلام فيها مشتتًا، وفيها عدة أقوال، فنُريد أن نحصر الصور؛ قلنا: طلاق الثلاث له أربع صور، فنُريد أن نعيدها مرة أخرى:
- الصورة الأولى: أن يكون ثلاث تطليقات بكلمة واحدة، قلنا: الجمهور على أنه يقع ثلاثًا. والقول الراجح أنه يقع واحدة، وذكرنا دليلنا.
- الصورة الثانية: أن يقول: “أنت طالق ثم طالق ثم طالق”، وفي معناه: “طالق وطالق وطالق”، وهذه قلنا: أكثر أهل العلم يرونه يقع ثلاثًا.
مَن الذي خالف هذه المسألة؟ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك الشيخ محمد ابن عثيمين تَبِعه في هذه المسألة، ورجَّحنا قول الجمهور.
الصورة الثالثة: أن يقول: “أنتِ طالق طالق طالق”، فهنا فيها تفصيل: إن كان يُريد تأكيدًا أو إفهامًا ولم ينوِ ثلاثًا فيقع واحدة، أما إن نوى ثلاثًا فيقع ثلاثًا.
الصورة الرابعة وهي محل الإجماع: أن يُطلِّق امرأته ثم يُراجعها في العِدَّة أو بنكاح جديد بعد الخروج من العِدَّة، ثم يُطلِّقها مرة أخرى ثم يُراجعها في العِدَّة أو بنكاح جديد بعد خروجها من العِدَّة، ثم يُطلِّقها؛ فهذه تقع ثلاثًا بالإجماع.
فأصبحت الصور: أربع صور، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسائل.
مداخلة: …..
الشيخ: “طالق ثم…” هذا بعيد.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، أحسنت، هذا سؤال جيد، يقول: لو أن شخصًا طلَّق، قال: “طالق ثم طالق ثم طالق”، ثم ادَّعى أنه نوى تأكيدًا، فحُكْمًا لا يُقبل قوله، ودِيانةً يُقبل.
أما حُكمًا؛ يعني: أمام القاضي، يعتبرها ثلاثًا؛ لأنه يتعلَّق به حقُّ الغير. وأما ديانة فيما بينه وبين الله، لو لم يذهب للقاضي، فنقول: أنت على نِيَّتك: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى[13].
بل سنذكر بعد قليلٍ مسائلَ أعظم من هذا، ومع ذلك يقول الفقهاء: إنه يُديَّن فيما بينه وبين الله.
مداخلة: …..
الشيخ: هو طلاق الثلاث مُحرَّم، لكنه على التفصيل الذي ذكرنا من جهة الوقوع. أما الطلاق في أثناء العِدَّة فهو يقع؛ لأنه إذا قلنا: إنه إذا كان في نفس الوقت يقع، فكذلك أيضًا الطلاق في العِدَّة يقع. لكن، هل هو مُحرَّم أو لا؟ يظهر أنه ليس محرَّمًا ما دامت في العِدَّة.
الطلاق الذي لا يوصف بسنة ولا بدعة
قال:
يعني: غير المدخول بها، لا يُقال: إن هذا طلاق سُنِّيٌّ ولا بِدْعِيٌّ؛ لأنه لا عِدَّة لها، فتتضرَّر بتطويلها، ما دام أنه ليس لها عِدَّة فيجوز أن يُطلِّقها حتى وهي حائض؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، فلا سنة أيضًا ولا بدعة لمن لم يدخل بها.
طلاق الصغيرة والآيسة والحامل
لأنهما تعتَدَّان بأيِّ شيء؟ بالأشهر، وليس بالأقْرَاء، الصغيرة والآيسة تعتدَّان بالأشهر: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].
ولذلك لا يُقال: إن طلاقها سنة ولا بدعة؛ لأنها لا تحيض أصلًا، فلا تَرِدُ مسألة السُّنية والبِدْعِيَّة.
قال:
طلاق الحامل هو السنة؛ ولذلك جاء في بعض روايات حديث ابن عمر رضي الله عنهما: طلِّقها طاهرًا أو حاملًا[14].
بخلاف ما يعتقده بعض العامة: أن طلاق الحامل لا يصح، وأنه غير مشروع؛ هذا غير صحيح، طلاق الحامل من السنة، وإن كان الأفضل والأولى أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يُجامعها فيه.
لأنها أيضًا إذا كانت حاملًا؛ ينبغي أن نراعي مشاعرها من كونها عليها ثقل الحمل، ثم يزيد هذا الثقل بثقل الطلاق، وإن كان هذا ليس بدعة ولا حرامًا، لكن الأولى أن يجعل طلاقها في طُهْرٍ لم يُجامعها فيه، إلا إذا هي طلبت الطلاق أو كانت تتشوَّف للطلاق مثلًا، فنقول: إن طلاق الحامل من السنة.
حكم الطلاق والخلع زمن البدعة بسؤال الزوجة
قال:
يعني: إذا سألتْ هي الطلاق، فيقول المؤلف: إنه يُباح الطلاق وكذا الخلع؛ وعلَّلوا لذلك قالوا: لأن المنع منه إنما شُرِع لحَقِّ المرأة، فإذا رضيت بإسقاط حقِّها زال المنع؛ كأنهم يقولون: إن هذا لأجل حقِّ المرأة؛ لأنها تتضرَّر بتطويل العِدَّة، فإذا رضيت بإسقاطه سقط.
والقول الثاني في المسألة: إنه لا يُباح الطلاق في الحيض بسؤالها إياه؛ لأن المنع في الطلاق كما أنه لِحَقِّ المرأة، فهو كذلك أيضًا لحق الله ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك، وغَضِبَ لمَّا فعله ابن عمر رضي الله عنهما[15]، ففيه إذن حقٌّ لله ، كما أن فيه حقًّا للمرأة، قال الزركشي: “وهذا هو ظاهر إطلاق الكتاب والسنة”.
فالأقرب إذن: أنه لا يجوز الطلاق في الحيض، حتى لو سألت المرأة ذلك، حتى لو سألت المرأة الطلاق حال الحيض.
مداخلة: …..
الشيخ: الطُّهْر الذي جامعها فيه؛ لأنها قد تكون حاملًا؛ يعني: قد تكون في حال الطُّهْر تَطُول معها العِدَّة، فيقولون: إذا كان في طُهْر قد جامعها فيه، فهنا ستطول العدة؛ لأنها ستنتظر وترى هل تحمل أو لا تحمل؟ هل تحيض أو لا تحيض؟ فيكون في ذلك ضرر.
فأخذوه من حكمة الشريعة من المنع من الطلاق في حال الحيض، فقالوا: إن الحكمة من المنع في الطلاق في حال الحيض؛ لأجل تطويل العِدَّة عليها.
وكذلك أيضًا هذا المعنى موجودٌ لو طلَّقها في طُهْر قد جامعها فيه؛ لأنها ستطول عليها العِدَّة، وستبدأ تنتظر، لا تدري هل تحمل أو لا؟ بخلاف ما إذا طلَّقها في طُهْرٍ لم يُجامعها فيه، لو طلَّقها في طُهْر لم يُجامعها فيه، فيكون هذا أضبط لِعِدَّتها.
باب صريح الطلاق وكنايته
ثم قال المؤلف رحمه الله:
لفظ الطلاق وما تصرف منه
الطلاق يُقسِّمه الفقهاء إلى: صريح وكناية.
قال:
ما هو الصريح؟ قال:
يُعرِّف الفقهاء الصريح بأنه: (لفظُ الطلاق وما تصرَّف منه)؛ يعني: مما لا يحتمل غير الطلاق، كأن يقول: “أنت طالق”، أو “مطلقة”، أو نحو ذلك.
قال:
كأن يقول: “طلِّقي”، طلِّقي هذا لا يقع.
كأن يقول: تُطلَّقين.
هذا لا يقع، لكن لو قال: “أنت طالق”، “أنت مُطلَّقة”، ونحو ذلك فيقع الطلاق.
حكم طلاق الهازل
قال:
إذا قال: “أنت طالق”، فقد أتى باللفظ الصريح الذي لا يحتمل إلا الطلاق، حتى ولو كان هازلًا؛ لحديث أبي هريرة أن النبي قال: ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وهَزْلُهنَّ جِدٌّ: النكاح، والطَّلاق، والرَّجْعة. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد[16]، ومن أهل العلم من يُضعِّف إسناده.
لكن حتى لو قلنا بأنه غير ثابت، فقد نقل ابنُ المنذرِ الإجماعَ على ذلك، قال ابن المنذر: “أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن هَزْلَ الطلاق وجِدَّه سواء”.
فإذن؛ طلاق الهازل يقع في قول عامة أهل العلم، حتى لو قلنا: إن الحديث لا يثبت.
لكن قول المؤلف: (هازلًا كان أو لاعبًا) يعني: جعل “لاعبًا” كأنها مقابل لـ”هازلًا”، وهذا غير مُسلَّم؛ لأن “لاعبًا” ليست مقابلة لـ”هازلًا”، لو أن المؤلف قال: “ولو كان هازلًا أو لاعبًا”، أما قوله: (هازلًا كان أو لاعبًا)، كأن “لاعبًا” قسيمٌ لـ”هازلًا”، والهازل واللاعب: الظاهر أنه ليس بينهما فرق؛ فاللاعب هو الهازل.
ولهذا؛ صاحب “الفروع”، وغيره من كتب الحنابلة، لم يذكروا هذا، وإنما قالوا: “هازلًا” فقط، نصُّوا على أنه هازل.
فإذن؛ لعل عبارة: لو أنه قال: “ولو كان هازلًا أو لاعبًا”؛ لكان أجود في العبارة.
(أو لم ينوِ) يعني: حتى لو لم ينوِ، يقولون: يقع الطلاق؛ لأنه أتى باللفظ الصريح.
ومن أهل العلم من قال: إنه إذا لم ينوِ وصرَفه إلى ممكن؛ قُبِلَ إذا كان عدلًا، وهذا مرويٌّ عن الإمام أحمد، واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى[17].
هذا إنسان قال: أنا.. خرجتْ عن اللسان من غير قصدٍ، “أنت طالق”. قلنا: يا فلان، ماذا نويت؟ قال: والله ما نويتُ الطلاق، ولا خطر ببالي الطلاق، لكن هكذا خرجتْ، ما أدري كيف خرجتْ هذه الكلمة. فعلى كلام المؤلف يقع الطلاق.
لكن، إذا رجعنا إلى قواعد الشريعة نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، والأصل: صحة النكاح وبقاؤه واستمراره، فكيف نقول: إن هذه المرأة تحرم على زوجها وتحل لغيره وهو لم ينوِ الطلاق أصلًا؟!
فإذا قال: إنه لم ينوِ وكان عدلًا، فيُقبل ذلك منه، ويُديَّن فيما بينه وبين الله .
حكم من سُئل عن الطلاق فأقر وهو كاذب
قال:
يقول: فتُطلَّق؛ لأن “نعم” صريح في الجواب، الجواب الصريح للَّفْظِ الصريح يكون صريحًا.
ومِن أهل العلم مَن يقول: إنه إذا كان كاذبًا فإنه لا يقع الطلاق؛ وذلك لأنه إنما أخبر خبرًا كاذبًا، فكيف نُلزمه بالطلاق وهو لم ينوِه ولم يتلفَّظ به؟
وهذا هو الأقرب والله أعلم: أنه إذا كان كاذبًا فلا يقع الطلاق؛ لأنه أخبر خبرًا كاذبًا.
قال:
وقع الطلاق حُكمًا مؤاخذةً له بإقراره؛ لأنه يتعلَّق به حقُّ إنسان معين، هو أشبه ما لو أقَرَّ بمال، فلو كان عند القاضي فيُوقع الطلاق.
وأما ديانة فيما بينه وبين الله فيُدَيَّن، فإذا قال: أردت الكذب، كما قلنا قبل قليل: الصحيح أنه لا يقع الطلاق، وإنما نقول: عليك التوبة إلى الله من هذا؛ لأن غاية ما في الأمر أنه كذب، أخبر خبرًا كاذبًا، يقول: “حَلَفْتُ بالطلاق” وهو لم يحلف، فكيف نُلزمه بالطلاق وهو لم يُطلِّق أصلًا؟
حكم من قال: عليَّ الطلاق أو يلزمني الطلاق
قال:
إذا قال: “عليَّ الطلاق”، منجَّزًا، لا إشكال في وقوع الطلاق، “أو يلزمني الطلاق”، لا إشكال في وقوعه.
لكن إذا كان الطلاق معلَّقًا، ولاحِظ أن هذا أكثر ما يقع من طلاق الناس اليوم؛ الطلاق المعلَّق.
الطلاق المعلَّق: هو أن يُعلِّق الطلاق على شيء، ويُرِيد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب، ولا يُريد به الطلاق.
فيقول: “عليه الطلاق إن لم يفعل كذا” يُريد حثَّ نفسه على هذا الأمر، أو “عليه الطلاق إن فعل كذا” يُريد منع نفسه، أو “عليه الطلاق إن كان هذا الخبر غير صحيح”، أو “عليه الطلاق إن كان هذا الخبر صحيحًا”، أو “عليه الطلاق أنك تأكل ذبيحته”، أو “عليه الطلاق أن تفعل كذا”، أو يقول لزوجته: “إن خرجتِ للسوق فعليه الطلاق”.
فهنا لم يُرِد الطلاق، وإنما أراد الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب، هذا يُسَمِّيه الفقهاء بـ”الطلاق المعلَّق”.
نُريد الآن أن نستنبط الحكم من كلام المؤلف، المؤلف ماذا يرى؟ ماذا يرى المؤلف؟ نعيد قراءة عبارته: (وإن قال: عليَّ الطلاق، أو يلزمني الطلاق، فصريح، منجَّزًا أو معلَّقًا أو محلوفًا به).
إذن؛ المؤلف ماذا يرى؟ أنه يقع، أنه يقع، وحكمه حكم الصريح. وهذا هو قول المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
والقول الثاني في المسألة: إنه إذا لم ينوِ الطلاق فلا يقع، إذا نوى الطلاق فيقع، أما إذا لم ينوِ الطلاق. وإنما أراد بذلك الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ فلا يقع، ويكون حكمه حكم اليمين، فعليه كفارة يمين. وهذا هو رواية عن الإمام أحمد، واختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم، وهو الذي اختاره شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله، وهو الذي عليه الفتوى الآن.
واستدل أصحاب هذا القول، نأتي للأدلة: أولًا: أدلة الجمهور؛ استدلوا بعموم الأدلة، قالوا: هذا إنسان طلَّق فيدخل في عموم الأدلة فيقع الطلاق.
وأما أصحاب القول الثاني استدلوا بقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى[18]. قالوا: إن هذا لم ينوِ الطلاق، وإنما نوى الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب. قالوا: والعبرة بما نواه الإنسان، وبما كان في ضميره، والكلام إنما هو لمجرد التعبير عما في نِيَّته، فإذا لم ينوِ الطلاق أصلًا، فكيف نُوقع عليه الطلاق وهو لم ينوِ الطلاق؟!
قالوا: ولهذا فإن الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، فمَن حرَّم على نفسه شيئًا، لا نقول: إنه يحرم عليه، وإنما فيه كفارة اليمين.
فقالوا أيضًا: إذا كان التحريم يأخذ حكمه حكم اليمين، هكذا أيضًا الذي أراد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ كأنه منع نفسه من شيءٍ، وحرَّم على نفسه شيئًا، لكنه لم يقصد بذلك حقيقة الطلاق، فلا يقع طلاقًا، وإنما حكمه حكم اليمين.
والقول الراجح والله أعلم: هو القول الثاني: أنه لا يقع طلاقًا، وأن حكمه حكم اليمين.
لكن أيضًا أنا أريد أن أُنَبِّه إلى أنه ينبغي إبراز قول الجمهور -وهو وقوع الطلاق-؛ لأن قول الجمهور الآن في الوقت الحاضر أصبح مُغيَّبًا، حتى إن بعض الناس تجد الطلاق على لسانه في مَدْخله وفي مخرجه، إذا أراد أن يُكرم ضيفًا طلَّق، وإذا أراد أن يُؤكِّد صحة خبرٍ طلَّق، بل يتباهى بعض الناس بهذا.
فمثل هذا ينبغي أن يُبيَّن للناس، يُبرَز للناس قول الجمهور، وأن امرأتك قد طُلِّقت عند أكثر أهل العلم، وعند جماهير أهل العلم.
وينبغي أن يُبرَز هذا القول حتى في الخُطَب، ويُبيَّن هذا للناس؛ لأنه الآن -قول الجمهور- يكاد يكون مُغيَّبًا، فبعض الناس تجد أن الطلاق على لسانه، ثم يرفع سماعة الهاتف، ويُقال: “عليك كفارة يمين”، ويستمر في هذا، مع أن المسألة فيها خطورة.
وكما ترون الخلاف قويٌّ أيضًا، وحجة القول الثاني ليست بتلك الحجة الفاصلة، هذا رجلٌ تكلَّم بالطلاق، ما الذي يُخرجه من عموم الأدلة؟ وحجة الجمهور أيضًا قوية.
فينبغي أيضًا أن يُبرَز قول الجمهور للناس، بل إنني أقول: إن مسائل الطلاق ينبغي أن تُحصَر الفتوى فيها وتُضبَط، والآن دار الإفتاء هي التي تختص عندنا في المملكة بالفتوى في الطلاق، فينبغي أن يتواصى طلاب العلم على عدم الفتوى في مسائل الطلاق، وأن يُرسل المستفتي إلى دار الإفتاء، أو إلى المحكمة الشرعية.
وهذا فيه فائدتان:
فيه فائدة -أولًا- ضبط الفتوى، وعدم تشتُّت الفتوى واختلافها، هذا يقول: امرأتك تحلُّ لك، وهذا يقول: تحرم عليك.
وأيضًا الفائدة الثانية، فيها فائدة تربوية: هذا المُطلِّق إذا قلنا له: اذهب إلى دار الإفتاء، فيذهب، ويستأذن من عمله، وربما يبقى يومًا كاملًا، وربما يجد زحامًا، وربما يتعب، هذا يكون درسًا له، نُلقِّنه درسًا حتى لا يُكرِّر مثل هذا مرة أخرى.
أما إذا كان سيُطلِّق ويتلاعب بحدود الله، ثم يرفع السماعة، ويقال: عليه كفارة يمين، أو حتى بعض الناس ما يسأل، مباشرة يدفع كفارة يمين، هذا يجعله يستمرئ في هذا.
ولهذا؛ نجد كثرة وقوع الطلاق المعلَّق بين الناس، بل أصبح عادة عند بعض الناس، إذا أراد أن يعزم أحدًا يرى أنه لا يُكرِم الضيف إلا إذا طلَّق. هذا من الجهل، ومن الخطأ الكبير، وينبغي إبراز قول الجمهور للناس، وإن كنَّا لا نُرجِّحه، لكن ينبغي إبرازه للناس، وأنه قولٌ له وجهةٌ قويةٌ، وأنه قول أكثر علماء الأُمَّة.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، إذا لم يكن متزوجًا لا يقع شيئًا؛ إنما الطلاق لمن أخذ بالساق[19]، لا يقع شيء، لكن ينبغي أن يبتعد عن هذه الألفاظ، ويقبح جدًّا أن يصدر هذا من طالب علم، هذا قبيح حتى وإن كان غير متزوج، ينبغي لطالب العلم أن تكون ألفاظه ألفاظًا جيدة؛ لأنه قدوة للناس، إذا كان طالب العلم هو الذي سيُطلِّق إذن ماذا نقول لعامة الناس؟!
لكن، بكلِّ حالٍ، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق، غير المتزوج لا يقع منه طلاق.
مداخلة: …..
الشيخ: الظاهر أن عليه كفارة؛ لأنه يأخذ حكم اليمين.
مداخلة: …..
الشيخ: الحالف بغير الله، ما يقصد الحلف بغير الله، الحلف بغير الله إذا كان يقصد به التعظيم لغير الله، هو القَسَمُ بمُعظَّم، هنا لا يقصد التعظيم أصلًا، إنما يقصد أن يحث نفسه على شيء، أو منع نفسه من شيء، أو تصديقًا أو تكذيبًا.
فمسألة الحلف بغير الله وإن كانت تَرِد عن بعض الفقهاء، لكن أنا في نظري أنها غير واردة أصلًا هنا، لا يقصد الإنسان أن يُعظِّم الطلاق؛ الحلف بغير الله أن تحلف بمعظَّم، مثلًا: من يحلف بالنبي يقصد تعظيم النبي ، من يحلف بغير الله يقصد تعظيم هذا الشيء المحلوف به. ولا أحد يقصد هذا الشيء، إنما يقصد الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب.
مداخلة: …..
الشيخ: سيأتي الكلام عنه.
حكم من قال: عليَّ الحرام
قال:
إن قال: عليَّ الحرام ألا أفعل كذا. ومثل ذلك لو قال لزوجته: أنتِ عليَّ حرام. هاتان صيغتان، وحكمهما واحد عند الحنابلة: أنه ظهار، فهم ينصُّون على أنه ظهار إن نوى امرأته، أما إذا لم ينوِ امرأته فلَغْوٌ. لكن إذا قصد امرأته فيكون ظِهارًا.
والقول الثاني في المسألة: هو القول بالتفصيل: وهو أنه على ما نوى؛ فإن نوى ظِهارًا فيكون ظِهارًا، وإن نوى طلاقًا فيكون طلاقًا، وإن نوى يمينًا فيكون يمينًا.
فإذا نوى ظِهارًا، قال: أنا قصدي بقولي: عليَّ الحرام، أو أنتِ عليَّ حرام، يعني: كما تحرم عليَّ أمي وأختي. فنقول: إذن؛ هذا ظِهار، يترتب عليه ما يترتب على الظِّهار من أحكام. وسيأتينا إن شاء الله كلام عنه بالتفصيل.
إن قال: أنا قصدت بهذا اللفظ الطلاق. فيكون طلاقًا، لماذا؟ لأن هذه الصيغة تصلح لأن تكون كناية من كنايات الطلاق.
أما إن قصد يمينًا فيكون له حكم اليمين. كيف نعرف أنه قصد يمينًا؟ قال: إنه لم يقصد الظِّهار ولم يقصد الطلاق، لكن قصد حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، فيكون حكمه حكم اليمين.
هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله، واختيار كذلك الشيخ محمد ابن عثيمين أنه بهذا التفصيل: على حسب نِيَّته.
والغالب من الناس إذا قال: “عليَّ الحرام” أنه ماذا يقصد؟ اليمين، الغالب أنه يمين. أما إذا قال: “أنت عليَّ حرام” فهنا يختلف؛ قد يقصد يمينًا، قد يقصد طلاقًا، وقد يقصد ظِهارًا، وإن كان قصده في الظهار قليلًا، لكن قد يُقصد.
ولذلك؛ من الخطأ الفتيا في مسائل الطلاق من واسطة؛ لأن النية مؤثِّرة في الفتوى، فلا يأتي إنسان يقول: إن فلانًا قد طلَّق، ويُفتَى، هنا لا بد أن يحضر المطلِّق نفسه، حتى يُسأَل عن نِيَّته وعن قصده وعن لفظه.
حكم من طلق زوجته ثم شرَّك ضَرَّتها
قال:
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، وإلا فلَغْوٌ، يعني: وإن لم يقصد امرأته وشملها، يعني: إن لم يقصد امرأته فلَغْوٌ. لكن، القول الصحيح هو على التفصيل الذي ذكرناه.
قال: (ومَن طلَّق زوجته، ثم قال عَقِبَه لضَرَّتها: شرَّكتك)؛ طلَّق امرأته، كان مغضبًا فتحدَّثت ضَرَّتها، فقال: أنت مثلها، أو أنتِ -كما قال- شَرَّكتُكِ، أو شريكتها، أو نحو ذلك؛ فيقع عليهما جميعًا؛ يقع عليهما جميعًا؛ لأنه صريح فيهما، وهذا ظاهر.
حكم من قال: امرأتي طالق، وله أكثر من امرأة
وهذا ظاهر.
قال: عليَّ الطلاق، أو امرأتي طالق، أنا أقصد واحدة من نسائي، طيب مَن هي؟ قال: ما أدري، فيقولون: هنا تخرج هذه بقرعة؛ لأنها طريقٌ شرعي لإخراج المجهول.
وقال بعض أهل العلم: إن الطلاق يقع على جميع نسائه؛ وذلك لأن القرعة هنا لا مدخل لها؛ لأن الطلاق واقع لا محالة بكونه قد تلفَّظ به، والقرعة لا ترفعه عن امرأة وتُوقعه على غيرها، ولا يؤمن وقوع القرعة على غيرها، فهو كما لو اشتبهت زوجته بأجنبية فإنهما تحرمان عليه. قال الموفق ابن قدامة: “وهذا هو الصحيح، وهو قول أكثر أهل العلم”.
إذن؛ القول الصحيح: أن القرعة لا مدخل لها هنا، القرعة قد تُوقع الطلاق على امرأة بريئة لم تُقصَد بالطلاق، وترفع عن أخرى، فالقرعة لا مدخل لها هنا. القرعة تكون في الأموال، تكون في الإرث، أما في الطلاق فكما قال ابن قدامة: “لا مدخل للقرعة في مسائل الطلاق، فإذا طلق امرأة ونَسِيها، أو مبهمة؛ فيقع على نسائه”.
ولهذا أيضًا؛ قال المؤلف:
طلق الكل؛ لأن الكل امرأة، وهي محلٌّ لوقوع طلاقه، ولا مُخصِّص.
والصحيح: أنه لا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة التي قبلها؛ فإن قال: كيف؟ أنا قصدت امرأة واحدة، كيف تُوقعون عليَّ طلاق الكل؟ نقول: نُوقع عليك طلاق الكل؛ لأنك متلاعب بحدود الله، كيف تُطلِّق بهذه الطريقة؟!
فمثل هذا متلاعب؛ ولذلك يقول الفقهاء: إنه يقع طلاق الكل.
حكم من طلَّق بقلبه
قال:
وهذا بإجماع العلماء: أن من طلَّق في قلبه لا يقع طلاقًا؛ لقول النبي : إن الله عفا لأمتي ما حدَّثت بها أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم متفق عليه[20].
مَن قرأ الفاتحة في قلبه، هل تُجزئه صلاته؟ ما تُجزئه، صلاته لا تصح، لا تُجزئه قراءة الفاتحة في القلب.
بعض الناس يأخذ المصحف ويقرأ في قلبه، هل هذه تلاوة للقرآن؟ هذه ليست تلاوة، هذا مجرد تأمل أو تفكير.
انتبِهوا -يا إخواني- لهذه المسألة، أنا ورد عليَّ أسئلة كثيرة في هذا: بعض الناس يُصلِّي ويقرأ الفاتحة في قلبه؛ صلاته لا تصح بالإجماع.
المسألة خطيرة، أقول: المسألة -يا إخوان- خطيرة.
وهكذا من يفتح المصحف ويبدأ.. تجدون هذا يقرأ؟! هذا مجرد تأمل وليس قراءة؛ ولذلك عند العلماء أنه لا يقع طلاقًا لو طلَّق بهذه الطريقة بالإجماع.
قال:
إن تلفَّظ به يقع بالإجماع، لا إشكال في وقوعه إذا تلفَّظ به.
لكن قول المؤلف: (أو حرَّك لسانه) هل العبرة بمجرد تحريك اللسان أو بالتلفُّظ؟ العبرة بالتلفُّظ.
ولهذا؛ الصواب: أن مجرد تحريك اللسان مع عدم إبانة الحروف لا يقع بها الطلاق، فلا بد من أن يقترن بتحريك اللسان إبانة الحروف. أما مجرد تحريك اللسان؟ لو حرَّك لسانه ولم يتلفَّظ ولم يُبِن الحروف بالطلاق؛ الصواب أنه لا يقع الطلاق.
وقوله:
إذا تلفَّظ به وقع، حتى لو لم يسمعه، وإنما نصَّ المؤلف على هذه المسألة لأن فيها خلافًا، فإن بعض الفقهاء يشترط أن يسمعه، ويشترط في قراءة الفاتحة أن يُسمِع نفسه.
ولكن الصحيح أنه لا يُشترط ذلك كله، مجرد التلفُّظ يكفي، سواء في قراءة الفاتحة أو الطلاق.
ولهذا؛ نجد أن الحنابلة أنفسهم في قراءة الفاتحة يقولون: لا بد من إسماع نفسه، وهنا في الطلاق يقولون: يقع الطلاق ولو لم يُسمِع نفسه.
والصحيح: أنه لا فرق بين المسألتين، نقول: إنه بمجرد تلفُّظه يقع الطلاق، وبمجرد تلفُّظه تُجزئه قراءة الفاتحة، ولا يُشترط أن يُسمِع نفسه، ولا دليل يدل على أنه لا بد من أن يُسمِع نفسه.
ويا إخوان عندنا قاعدة، وهي: أن الأصل صحة النكاح، والأصل استمرار النكاح. لا نخرج عن هذا الأصل إلا بشيء واضح، لا نقول: إن المرأة طُلِّقت إلا بشيء واضح وظاهر تمامًا كالشمس.
أقول هذا لأن بعض الناس عندهم وسوسة، والوسواس في الطلاق كثير، بل هو قريب من الوسواس في الطهارة، كثيرٌ الوسواس في الطلاق.
وأنا أذكر أن رجلًا تزوج امرأة، ثم بسبب الوسواس في الطلاق طلَّقها، ثم تزوج الثانية، وقد اتصل بي، وهو على وشك أن يُطلِّقها، فقلت له: لن تستقر لك امرأة ما دمت بهذا الوسواس. يقول: لدرجة أنه إذا أتى آيات الطلاق يتجاوزها، وإذا سمعها في الشريط يقلب الشريط، وصل لهذه المرحلة. قلت: هذا من تلاعب الشيطان ببعض الناس.
الأصل: صحة النكاح، واستمرار النكاح، لا يقع الطلاق إلا بشيء واضح، بشيء بيِّن. أما مثل هذه الوساوس، فنقول: إنها لا تُعتبر شيئًا.
بل قال كثيرٌ مِن أهل العلم: إن طلاقَ الموسوس لا يقع حتى لو أتى باللفظ الصريح، طلاق الموسوس لا يقع؛ لأنه مغلوبٌ على أمره ومُغلَقٌ عليه، قال عليه الصلاة والسلام: لا طلاق في إغلاق[21].
حكم الطلاق بالكتابة
قال:
هذه مسألة مهمة: وهي “مسألة كتابة الطلاق”، هل هو من قبيل صريح الطلاق، أو من الكناية؟
وهذا أكثر ما يقع السؤال عنه، يعني: عندما يُرسل الزوج رسالة لامرأته: “أنتِ طالق”، وأذكر أن أحد الناس سأل يقول: إنه أراد أن يُمازح زوجته، فأرسل لها هذه الرسالة “أنتِ طالق”، ثم بدأ يسأل، قال: أنا قصدي المزح، قصدت أن أخوِّفها، فهل هذا يقع؟ يقول: إنه لم ينوِ الطلاق، وإنما أراد الممازحة، أو نحو ذلك.
هذا يقودنا إلى مسألة “كتابة الطلاق”، هل هي من قبيل صريح الطلاق أو من قبيل الكناية؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين، وثمرة الخلاف في هذه المسألة:
- إذا قلنا: من صريح الطلاق؛ لا ننظر لنِيَّته، يقع مُطلقًا.
- إذا قلنا: من الكناية؛ ننظر: هل نويت الطلاق أم ما نويت الطلاق؟ إذا نويت الطلاق يقع، إذا ما نويت الطلاق فلا يقع.
القول الأول: إن الكتابة من قَبِيل صريح الطلاق. وهذا هو القول الذي قرَّره المؤلف رحمه الله: وهو الصحيح من مذهب الحنابلة؛ واستدلوا بأن النبي كان مأمورًا بتبليغ الرسالة، فحصل ذلك في حقِّ البعض بالقول، وفي حقِّ آخرين بالكتابة إلى الملوك؛ فدلَّ هذا على أن الكتابة من قَبِيل الصريح.
قالوا أيضًا: كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في إثبات الديون والحقوق، وإن الصحابة قد جمعوا القرآن في المصحف خطًّا، وأقاموه مقام تلفُّظهم به نطقًا، حتى صار ما تضمَّنه إجماعًا لا يجوز خلافه.
والقول الثاني في المسألة: إن الكتابة من قَبِيل الكناية، فلا يقع الطلاق بها إلا بنِيَّة. وقد نسبه الماوردي في “الحاوي الكبير” إلى جمهور الفقهاء.
وبالمناسبة -يا إخوان- كتاب “الحاوي الكبير” كتاب عظيم من كتب الشافعية، ويتميَّز أولًا بشموله، وكذلك أيضًا بسهولة عبارته، وبحسن ترتيبه.
فأنا أنصح كُلَّ طالب علم أن يقتني هذا الكتاب العظيم “الحاوي الكبير” للماوردي، فهو من أمهات كتب الشافعية، بل تجد تكملة “المجموع” التكملة الثانية، كلها منقولة من “الحاوي”، ومَن بعد الماورديِّ مِن الشافعية كثيرٌ منهم عالةٌ على “الحاوي”.
مداخلة: …..
الشيخ: مُقارِنٌ؛ مثل “المغني” و”المجموع”.
أقول: نَسَبَه الماوردي في “الحاوي” إلى جمهور الفقهاء، ورجَّح هذا القول شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله؛ أن الكتابة من قَبِيل الكناية.
ويدل لهذا القول: أن الله تعالى قد أَرسل رسوله لأُمَّته مُبلِّغًا لرسالته، ولو كانت الكتابة كالكلام الصريح لمكَّن الله تعالى رسوله من الكتابة، ولعلَّمه إياها، ولما كان أُمِّيًّا لا يكتب.
وأيضًا قالوا: إن الكتابة لو قامت مقام صريح الكلام؛ لأجزأ مَن كتب القرآن في الصلاة عن أن يتكلم به.
وأيضًا: لو كانت الكتابةُ صريحةً كالكلام؛ لصَحَّ بها عَقْد النكاح، ولَصَحَّ بها وقوع الطلاق.. كما يقع بها الطلاق. وعقد النكاح لا يصح من قادرٍ على الكلام إلا بالتلفُّظ به، فلا يصح عقد النكاح بالكتابة بالإجماع؛ ولأن الكتابة تحتمل أن يُريد بها الكاتب الطلاق، وتحتمل غير ذلك، فما كان مُحتمِلَ الطلاقِ وغيرِه فهو من قَبِيل الكناية.
والقول الراجح والله أعلم: هو القول الثاني، وهو أن الكتابة من قَبِيل الكناية، وليست من قبيل الصريح.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول؛ فغاية ما استدلوا به من أدلةٍ تدلُّ على أن الكتابة معتبرة، أنها معتبرة شرعًا؛ ولذلك يقع بها الطلاق إن نواه، لكنها لا تدل على أن الكتابة من قَبِيل الصريح، فليس فيها الدلالة على أن الكتابة من قَبِيل الصريح.
بناءً على ذلك؛ نعود إلى مسألتنا، رجل أرسل لامرأته رسالة في الهاتف الجوال: “أنت طالق” ولم ينوِ بها طلاقًا، فعلى القول الأول يقع. وعلى القول الثاني لا يقع، وهذا هو القول الراجح.
وكان شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه يُفتي بالقول الثاني، وهو: أن الكتابة من قَبِيل الكناية، وأنه لا يقع بها الطلاق.
لكن، مع ذلك، مثل هذا التصرُّف تصرُّفٌ غير جيد؛ لأنه على قول بعض أهل العلم يقع، فلا ينبغي للإنسان أن يتلاعب بحدود الله ويأتي بمثل هذه الألفاظ، ينبغي أن يبتعد عن مثل هذا.
قال:
سبحان الله! ما وجد كلمةً يُجوِّد خطه بها إلا كلمة الطلاق، ضاقت اللغة العربية إلا من كلمة الطلاق. طيب، لو افترضنا أن هذا وقع؟
قال:
يقول المؤلف: إنه إذا قصد بذلك تجويد خطَّه أو غَمَّ أَهْلِه؛ يُقبَل.
وهذا يُؤكِّد أن الكتابة من قَبِيل الكناية، فإذا كنتم تقبلون هذا منه، وتقولون: إنه يُقبل حكمًا، فهذا يُرجِّح القول الثاني.
ولهذا؛ ذكرنا من علامات القول الراجح اطِّراده، وعدم تناقضه وعدم اضطرابه. فيَرِد على القول الأول مثل هذه المسألة، نقول: ماذا تقولون لو قال: أريد تجويد خطِّي وغَمَّ أهلي؟ فيقولون: نقول: إنه يُقبل. إذن؛ هذا تناقض، اعتبرتموه أنتم من قَبِيل الصريح، فكيف تقبلون قوله هنا؟!
وهذا يؤكِّد رُجحان القول الثاني: وهو أن الكتابة من قَبِيل كناية الطلاق، وليست من قَبِيل صريحه.
طلاق الأخرس
قال:
إذا كانت مُفهِمة، إذا كانت هذه الإشارة إشارة مفهومة، فإشارة الأخرس المفهومة تقوم مقامَ نُطْقه تمامًا.
ثُمَّ تكلم المؤلف بعد ذلك عن (كناية الطلاق)، وفصَّل الكلام فيها، وفرَّق بين الكناية الظاهرة والخفية، ونُرجِئُ الكلام عن (كناية الطلاق) للدرس القادم.
ونكتفي بهذا القدر، ونُجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: هذا سائل يقول: هل من تأصيل شرعيٍّ لقضية الاحتفال بالأيام الوطنية؟
الشيخ: نعم، أقول: مِن المُجمَع عليه أن المسلمين ليس لهم في السَّنة إلا عِيدان: عيد الفطر، وعيد الأضحى. وعيد الأسبوع الذي هو الجمعة.
واتخاذ عيد غير هذه الأعياد لا شك أنه بدعة، وما هو العيد؟ العيد يكون بتعظيم زمنٍ معين يتكرَّر كل سنة. هذا معنى العيد. فإذا كان هذا الزمن معظَّمًا، ويُحتفَل فيه، ويتكرَّر كل سنة؛ هذا هو معنى العيد. هذا من البدع المُحدَثة.
ولذلك؛ فتاوى مشايخنا من الشيخ محمد بن إبراهيم، ومن بعده الشيخ عبدالله ابن حميد، والشيخ عبدالعزيز ابن باز، والشيخ محمد ابن عثيمين، المشايخ كلهم على أن الأعياد الوطنية كلها من البدعة المُحدَثة.
السؤال: أحسن الله إليكم، وبارك فيكم. هذا يقول: هل الجهل بالعلم كالجهل في الحال بالحكم؟
الشيخ: أنا لا أدري ماذا يقصد السائل، ما الذي في ذهنه؟ مسألة الجهل بالحال، والجهل بالعلم؟
الجهل بالعلم يعني أنه لا يعرف حكم هذه المسألة، لكن لا أدري ماذا يقصد بالجهل بالحال؟
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما حكم شراء دفاتر المناقصات التي تُجرى في الدوائر الحكومية؟ مع العلم أن قيمتها لا تُمثِّل أجورًا فعلية، كما أن تلك المبالغ لا تُرَدُّ إلى أصحابها عند عدم إرساء العقود عليهم؟
الشيخ: هذه المسألة درسها مجمع الفقه الإسلامي، وأصدر قررًا بأنه يجوز دفع هذه المبالغ لشراء كوبونات المناقصات ونحوها، أو قسائم المناقصات، ولكن الواجب: هو أن الجهة إذا لم تَرْسُ المناقصة على هذا المقاول؛ أن يردوا عليه ما دَفَع، وإلا كان من أكل المال بالباطل.
أما بالنسبة لشرائه هو لهذه القسيمة فلا إثم عليه، لكن الإثم يقع على تلك الجهة؛ لكونهم أخذوا مالًا بغير حقٍّ، وهو إذا كان عندهم مؤسسة وأراد الدخول، لا حرج عليه، لكن الحرج عليهم هم، والإثم عليهم؛ لكونهم لم يَرُدُّوا عليه هذا المبلغ.
يُفترض أن تُعدَّل الأنظمة في هذا، وأن من لم تَرْسُ عليه هذه المناقصة يُرَدُّ عليه المبلغ، ما الذي يُبيح لهم أن يأخذوا منه هذا المبلغ؟
هم في البداية يطلبون هذا الغرض المعلَن: أن دفع هذا المبلغ لأجل إثبات الجدِّية، ما يأتي إلا إنسان جادٌّ، ما يأتي أيُّ إنسان، وهذا غرضٌ صحيح. طيب، إذا لم تَرْسُ عليه المناقصة؟ يُفترض أنكم تُعيدون له المبلغ، فما الذي يُبيحه لكم؟
الأصل أن أموال الناس حرام، الأصل فيها الحرمة: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا[22].
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: امرأة طلقها زوجها، ثم راجعها بعد مدة، ثم طلقها، ثم راجعها، ثم طلقها، كل ذلك قبل أن تنتهي عِدَّتها من أول طلقة، السؤال: من أيِّ طلقة تبدأ عِدَّتُها؟ هل من الطلقة الأولى باعتبار أنه طلاق بِدْعِي؟ أم من الطلقة الثالثة؟
الشيخ: نعم، يُحسب من الطلقة الثالثة؛ لأنه الآن لما طلقها كانت في العِدَّة، ثم طلَّقها تطليقة ثانية أنشأت عِدَّة جديدة، ثم طلقها تطليقة ثالثة أنشأت عِدَّة جديدة، فيكون حساب العِدَّة على التطليقة الثالثة، تعتَدُّ على التطليقة الثالثة؛ لأن التطليقة الأخيرة نسَخَت ما قبلها.
السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يسأل عن بعض المؤذنين الذين يتأخَّرون عن الأذان، ثم يَصِلُ بعد الأذان بعشر دقائق، السؤال هل يُؤذِّن أم لا؟
الشيخ: يؤذِّن، لكن في غير مكبر الصوت، يقفل مكبر الصوت ويُؤذِّن، يكون قد أتى بهذه الشَّعيرة. أما كونه يُؤذِّن بمكبر الصوت بعد عشر دقائق، لا شك أن هذا فيه تشويشًا على الناس، والمؤذِّن مؤتمن، هذا خلاف الأمانة.
فنقول هنا: يُؤذِّن، لكنْ مِن غير أن يكون بمكبر الصوت، أما لو كانت دقائق يسيرة فلا يضر.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: في كفارة اليمين، هل يجوز في الإطعام أن يُعطى الفقير طعامًا غير مطبوخ، أم يشترط أن يكون مطبوخًا؟
الشيخ: لا يُشترط أن يكون مطبوخًا، لكن يُشترط أن يكون طعامًا يُقتات، يعني: من قُوت البلد، من القُوت الذي يقتاته الناس؛ كأن يكون أرزًا مثلًا، أو بُرًّا، أو تمرًا، أو نحو ذلك، ولا فرق بين أن يكون مطبوخًا أو غير مطبوخ.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما هي قصة قول رسول الله : إن أبي وأباك في النار؟
الشيخ: هذا الحديث أخرجه مسلم في “صحيحه”: أن رجلًا سأل النبي عليه الصلاة والسلام، قال: أين أبي؟ قال: أبوك في النار. ثم قال: إن أبي وأباك في النار[23]. هذا وإن كان في “صحيح مسلم” إلا أن بعض أهل العلم قال: فيه نَكَارة من جهة مَتْنِه.
أولًا: ما الفائدة أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لرجل: إن أباك في النار؟! ومعلوم حكمته عليه الصلاة والسلام ورحمته ورفقه بالناس، يعني: ما هي الفائدة أن يقول لرجل من الناس: إن أباك في النار؟! هذا فيه ضرر محض، إحزان له، فيقولون: مَتْنُه فيه شيء من النَّكَارة.
مداخلة: …..
الشيخ: طيب، هناك أسئلة؟
السؤال: …..
الشيخ: لكن هل مرضه يُرْجى بُرْؤه منه، أو لا يُرْجى؟
مداخلة: …..
الشيخ: هنا المرجع للأطباء، فإذا قال الأطباء: إن مرضه لا يُرجى بُرْؤه؛ فهنا الواجب عليه الإطعام ابتداءً، فنحسب الأيام التي أدركها من رمضان قبل أن يموت، لو كان مثلًا مات منتصف رمضان؛ يُطعِم عن خمسة عشر يومًا، إذا كان مرضه لا يُرجى بُرْؤه.
أما اذا كان مرضه يُرجى بُرْؤه، وكان ينوي القضاء بعد رمضان، لكنه أدركه الموت، فهنا ليس عليه شيء؛ لأنه لم يُفرِّط.
والمرجع في كونه يُرجى بُرْؤه أو لا يُرجى بُرْؤه، لأهل الاختصاص، وهم الأطباء في هذا.
السؤال: …..
الشيخ: هذه من المسائل العويصة الحقيقة، الكافر الذي بلغه الإسلام لكن مُشوَّهًا، هل نقول: إنه قامت عليه الحجة، أو نقول: إنه لم تقم عليه الحجة؛ لأنه بلغه الإسلام بطريقة مشوهة، والله يقول: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور:54]؟
لا بد أن يكون بلاغًا مُبِينًا، ليس مجرد بلاغ فقط، بلاغ مبين، فهذه من المسائل -الحقيقة- المشكلة التي أتوقف فيها.
قد نقول: إنه لما بلغه الإسلام كان ينبغي له أن يسأل وأن يتعلم، وإنه قد فرَّط بترك السؤال. وقد نقول: إن هذا هو غاية جهده، هو يظن أن الإسلام بهذه الطريقة المشوَّهة.
فالأحسن في مثل هذا ألا نجزم فيه بشيء معين، نقول: الله أعلم، هو سيقف بين يدي حكمٍ عدل جل وعلا: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
السؤال: …..
الشيخ: هذا المبلغ تضعه بعض حلقات التحفيظ، يقول: إذا ختمت الحزب تأخذ هذا المبلغ، وإذا لم تختمه يُصادَر منك، هذا أيضًا نوعٌ من أكل المال بالباطل، الأصل حرمة مال المسلم، لا يجوز أن يُصادر إلا بسبب شرعي، وليس هذا مرتكبًا لمعصية حتى نقول: إن هذا تعزير. فالقاعدة: لا يحل مالُ امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه.
أما لو أنهم قالوا: “مَن رغب”، يعني: جعلوا هذا على سبيل الاختيار، “من رغب في هذا” من باب أنه يُلزِم نفسه، مع أنه أيضًا بعض الناس قد يخجل، قد يستحي، فمثل هذه الأمور ينبغي ألا تكون، وإنما يُسلَك مسالك أخرى؛ لأن الأصل حرمة مال المسلم.
مداخلة: …..
الشيخ: لكن ربما يكون بسيف الحياء، بعض الناس ربما يكون مع مجموعة من الناس، واتفقوا هذا الاتفاق، يستحي أن يَشِذَّ مِن بينهم.
لكن، لو افترضنا أن هذا المال دفعه بطيبة من نفسه؛ فلا حرج، لكن تحقيق أنه بطيبة من نفسه، هذا قد لا يتحقق، كما ذكرت الإنسان الذي يكون مع مجموعة يُصانعهم ويُجاملهم في هذا، فقد يُغلَب بسيف الحياء، وربما أنه يُساء به الظن لو أنه اعترض أو شذَّ أو نحو ذلك.
ولهذا؛ فهذه الأمور يُحتاط لها، لكن لو جُعلت على سبيل الاختيار، أو تأكدنا بطريقة معينة أنه أخرجها بطيبة من نفسه؛ فلا حرج في ذلك.
السؤال: …..
الشيخ: على العموم، يقولون: إنه إذا طلقها في أثناء الحيض تطول عدتها، بدل أن تكون ثلاثة قُرُوء تزيد على ثلاثة قُرُوء؛ فتتضرَّر المرأة بطول العِدَّة، لربما إذا طالت العِدَّة تمنع من النكاح بزوج آخر، فيكون في هذا ضرر على المرأة، لا شك تطويل العِدَّة على المرأة فيه ضرر عليها. هذه من الحِكم، وقد يكون هناك حِكم أخرى أيضًا.
مداخلة: …..
الشيخ: لا تُعتبر، لا تُعَدُّ.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 4908، ومسلم: 1471. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 5253. |
^3 | رواه البخاري: 5252، ومسلم: 1471. |
^4 | رواه البخاري: 5333، ومسلم: 1471. |
^5 | رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718. |
^6, ^8 | رواه أحمد: 4500، وأبو داود: 2183، والترمذي: 1178. |
^7 | رواه البخاري: 5251، ومسلم: 1471. |
^9 | رواه أبو داود: 2185. |
^10, ^15, ^18 | سبق تخريجه. |
^11 | رواه مسلم: 1472. |
^12 | رواه أحمد: 2387، وأبو داود: 2196. |
^13, ^17 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^14 | رواه مسلم: 1471. |
^16 | رواه أبو داود: 2194، والترمذي: 1184، وابن ماجه: 2039. |
^19 | رواه ابن ماجه: 2081. |
^20 | رواه البخاري: 2528، ومسلم: 127. |
^21 | رواه أحمد: 26360، وأبو داود: 2193، وابن ماجه: 2046. |
^22 | رواه البخاري: 67، ومسلم: 1679. |
^23 | رواه مسلم: 203. |