عناصر المادة
الدخول في نوبة واحدة من زوجاته إلى غيرها
فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة رضي الله عنها، فاحتبس أكثر مما يحتبس، بوَّب عليه البخاري: “باب: دخول الرجل على نسائه في اليوم”[1].
كان عليه الصلاة والسلام مِن حُسن عشرته: أنه كان يطوف النهار على جميع نسائه[2]، وهذا فيه عدل، وليس معنى ذلك أنه ينقطع، قد يكون مثلًا في البيت الأول أطفال يحتاجون إلى رعاية، متابعة، اهتمام، فليس معنى ذلك أنه ينقطع عن هذا البيت.
لكن، الأصل أنه لا يدخل بيت الأخرى في الليل إلا لضرورة، وفي النهار إلا لحاجة، أو على وجهٍ يعدِل فيه مع الأخرى.
فإذا كان مثلًا كل ليلة يدخل على جميع زوجاته -كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل- ولو لغير حاجة فلا بأس، ولو كان ذلك لغير حاجة فلا بأس بهذا، المهم هو أن يُحقِّق العدل في ذلك.
قال الموفق رحمه الله: النهار يدخل في القسم تبعًا لليل؛ بدليل ما رُوي عن سودة رضي الله عنها أنها وَهَبت يومها لعائشة رضي الله عنها. متفق عليه[3]. وقالت عائشة رضي الله عنها: قُبض رسول الله في بيتي وفي يومي. وإنما قُبض عليه الصلاة والسلام نهارًا، واليوم يتبع الليلة الماضية؛ لأن النهار تابع لليل؛ الليل أسبق من النهار؛ ولذلك يكون الليل أول الشهر.
لكن، إن أحب أن يجعل النهار مضافًا إلى الليل -يعني: يتعقبه- جاز، فالأصل أن النهار يكون بعد الليل، إن أراد أن يجعل الليل بعد النهار فلا بأس بذلك. هذا فيما يتعلَّق بالمَبِيت.
العدل في المبيت بين الزوجات
قال:
يعني: إن لبث عند امرأة في ليلة الأخرى، أو في يوم الأخرى؛ يلزمه القضاء، وهكذا لو جامع أيضًا، ليس له أن يُجامع وهو في ليلة الأخرى.
قال:
وذلك لأنه تسبَّب بالطلاق إلى إبطال حقِّها من القَسْم، فليس له أن يُطلِّقها في وقت نوبتها.
يعني: لو أنه طلَّقها، ثم بعد ذلك راجعها، أو بانت منه، ثم عقد عليها؛ يقضي ذلك اليوم أو تلك الليلة، كالمعسر بالدَّين إذا أيسر.
طيب، هذا فيما يتعلق المبيت.
التسوية بين الزوجات في الوطء
وأما غير المبيت قال المؤلف:
لا تجب التسوية بين الزوجات في الوطء، وذلك قد حكاه ابن قدامة إجماعًا.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أنه لا تجب التسوية بين النساء في الجماع؛ وذلك لأن الجِماع طريقه الشهوة والميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك؛ لأن قلبه قد يميل إلى إحداهن دون الأخرى، كما قال : وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ [النساء:129]، وقال عبيدة السلماني في تفسيرها: لن تستطيعوا أن تعدلوا في الحب والجماع.
لكن، إن أمكن التسوية بينهما في الجماع كان ذلك أحسن وأولى؛ لأنه أبلغ في تحقيق العدل.
وقد رُوي عن النبي أنه كان يقسم بين نسائه ويقول: اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك. لكن هذا الحديث من جهة الإسناد ضعيف، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وهو ضعيف من جهة الإسناد[4].
لكن، يكفي قول الله : وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ [النساء:129]، يدخل في ذلك أول ما يدخل -كما قال المفسرون- في المحبة والجِماع.
إذن؛ لا تجب التسوية في الوطء ودواعيه.
العدل بين الزوجات في النفقة والكسوة
يعني: لا تجب التسوية في النفقة.
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء: هل تجب التسوية في النفقة والكسوة أو لا تجب؟ المذهب عند الحنابلة -كما قرره المؤلف- أنه لا تجب التسوية في النفقة والكسوة، وأن ذلك مستحب.
ولهذا قال المؤلف:
والقول الثاني في المسألة: أنه تجب التسوية في النفقة والكسوة كما تجب في المبيت. وهذا هو القول الراجح والله أعلم؛ لأن هذا هو مقتضى العدل، أنه يُسوِّي بينهن في النفقة والكسوة، وأما أن يُنفق على واحدة ويُغدِق عليها والأخرى ما يُنفق عليها ويُقتِّر عليها؛ ليس هذا من العدل.
والعدل مأمور به، الله قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، فمعنى ذلك: العدل الأصل أنه مأمور به في كلِّ ما يستطيعه الزوج، والنفقة والكسوة مستطاعٌ العدل فيها. ولكن، العدل في النفقة أن يُعطي كُلَّ واحدة ما تحتاج إليه.
فالصواب إذن هو القول الثاني؛ وهو أنه تجب التسوية في الكسوة والنفقة.
بناءً على القول الراجح إذن يجب التسوية في ثلاثة أمور، وهي: المبيت، والكسوة، والنفقة. وما عدا ذلك لا تجب التسوية فيه.
وعلى المذهب عند الحنابلة: تجب التسوية في أمر واحد: وهو المبيت فقط. لكن الصحيح أنه تجب التسوية في هذه الأمور الثلاثة: المبيت والنفقة والكسوة.
وما عدا ذلك من: المحبة، أو الجِماع، أو دواعيه، فلا تجب التسوية فيها.
لكن، مرَّ معنا أنه يجب عليه أن يطأ في كلِّ ثُلُث سنةٍ مرة، مرت هذه المسألة؛ لأنَّ -كما ذكرنا- الجماع متعلِّق بالمحبة، ولا يُجبَر على أن يعدل بينهن في الجماع؛ لأن هذا غير مستطاع.
هذا فيما يتعلق بالتسوية بين النساء فيمن عدَّد بين الزوجات.
الآداب المتعلقة بمن تزوج بكرًا أو ثيِّبًا
ثم انتقل المؤلف رحمه الله تعالى بعد ذلك للكلام عن الآداب المتعلقة بمن تزوج بكْرًا أو ثيِّبًا، قال:
وإن تزوج بِكْرًا أقام عندها سبعًا، وثيِّبًا ثلاثًا، ثم يعود إلى القسم بينهن.
السُّنة في حقِّ من تزوج بكرًا: أن يُقيم عندها سبعة أيام بليالهن؛ وهذا قد دلَّت له السُّنة كما جاء في الصحيحين عن أنس قال: مِن السنة إذا تزوج البِكْر على الثيِّب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيِّب أقام عندها ثلاثًا، ثم قسم[5].
والحكمة من ذلك: هي أن من تزوج امرأة فهي تحتاج إلى أن يبقى عندها لأجل الأُلفة والأُنس وتوثيق العلاقة الزوجية؛ فإن هذه المرأة دخلت على رجل كان أجنبيًّا عنها، فأصبح بَعْلًا لها، فهو بحاجة لأن يُوثِّق هذه العلاقة معها فيُقِيم عندها.
ولمَّا كانت البِكْرُ أكثرَ حياءً من الثيِّب، وليس عندها خبرة سابقة في الرجال، جاءت السُّنة بأن يُقيم عندها سبعة أيام. أما الثيِّب؛ فقد سبق أن تزوجت، وعندها خبرة، وأقلُّ حياءً في الغالب مِن البِكْر؛ فيُقيم عندها ثلاثة أيام.
هذه السبعة وهذه الثلاثة أيام من غير القَسْم، إذا أقام سبعة أيام بعد ذلك يبدأ القَسْم ليلة وليلة، وهكذا إذا قام عندها ثلاثة أيام، يبدأ القَسْم بعد ذلك ليلة وليلة.
وقد جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام، ثم لما أراد أن يخرج مِن عندها أمسكتْ بثوبه تُريد أن يبقى عندها أكثر، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس بكِ هوانٌ على أهلِكِ، فإن شئتِ سبَّعتُ لكِ، وإن سبَّعتُ لكِ سبَّعتُ لِنِسائي. رواه مسلم[6].
ما معنى هذا الكلام: إن شئتِ سبَّعت لكِ، وإن سبَّعتُ لكِ سبَّعت لنسائي. الحديث رواه مسلم[7]. ما معنى: إن شئتِ سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبَّعت لنسائي؟
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، يعني: إن شئتِ أن أبقى عندك سبعة أيام ليس عندي مانع، وإن سبَّعتُ لكِ سبَّعت لنسائي ما معناه؟ كيف تكون الحسبة؟ سبَّعت لنسائي هل معنى ذلك: أنه لو أقام عند الثيِّب سبعة أيام يقضي لبقية نسائه أربعة أيام؟ هل هذا هو المعنى؟
مداخلة: …..
الشيخ: ليس هذا هو المقصود، المقصود كما قال الشُّراح -النووي في “شرح مسلم” وغيره- أن المعنى: إن شئتِ أقمتُ عندك ثلاثة أيام، وبعد ذلك قسمت بينك وبين نسائي، وإن شئتِ لم أقم عندك ثلاثة أيام، أقمت عندك سبعة أيام، لكن إذا أقمتُ عندك سبعة أيام؛ سوف أقضي لكُلِّ واحدة من نسائي سبعة أيام، يعني: يسقط حقُّكِ في الانفراد.
فكأنه خيَّرها: تُريدين أن أبقى عندكِ منفردًا ثلاثة أيام فقط؟ تُريدين ألا أكون منفردًا، وإنما أقضي لبقية نسائي مثلك؛ أُقيم سبعة أيام. هذا هو معنى الحديث.
فتُخيَّر الثيِّب: هل تُريد أن يبقى عندها سبعة أيام؟ ثم يبقى عند ضَرَّاتها سبعة أيام، فهذا خيار.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، سبعة أيام بالمجموع.
وإن شاءت أن يبقى عندها ثلاثة أيام بالانفراد، فهذا حقُّها. فهي تُخيَّر بين هذين الخيارين، كما خيَّر النبي عليه الصلاة والسلام أم سلمة رضي الله عنها. هذا هو معنى الحديث، كما قال شُرَّاح الحديث: إن هذا هو المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: وإن سبَّعتُ لكِ سبَّعت لنسائي.
أحكام النشوز
ثم انتقل المؤلف رحمه الله تعالى للكلام عن النشوز، ويعقد له بعض الفقهاء بابًا أو فصلًا مستقلًّا.
النشوز ذكره الله في القرآن، النشوز يكون من المرأة: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34].
هل النشوز يكون من الرجل؟ هل يمكن أن يكون الرجل ناشزًا؟ في المرأة واضح، لكن في الرجل، هل يُقال: إن الرجل ناشز، ويكون النشوز من الرجل؟
مداخلة: …..
الشيخ: أحسنت. يكون من الرجل، كما في قول الله : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا [النساء:128].
النشوز يكون من الرجل ويكون من المرأة، لكن الفقهاء يتكلمون عن نشوز المرأة لأنه هو الغالب. النشوز من الرجل أن تجد المرأة من الرجل إعراضًا عنها، وتخشى أن يُطلِّقها فتتنازل عن بعض حقوقها كما فعلت سَوْدة رضي الله عنها، سَوْدة لما تقدَّم بها السن، كبرت، ورأت أن النبي عليه الصلاة والسلام كأنه يُريد أن يُطلقها، فتنازلت عن ليلتها لعائشة رضي الله عنها وتبقى في عصمة النبي [8].
هذا هو نشوز الرجل؛ لذلك هو ليس كنشوز المرأة، نشوز المرأة هذا هو الذي يتكلم عنه الفقهاء، والذي تكلم عنه المؤلف رحمه الله، نشوز المرأة يُعرِّفه الفقهاء بأنه: معصية المرأةِ الزوجَ فيما يجب عليها.
فهو مأخوذ من النَّشز: وهو ما ارتفع من الأرض، فكأنها ارتفعت وتعالت عما فُرِضَ عليها من المعاشرة بالمعروف.
إذا ظهرت أمارات النشوز فيُعالِج الرجل هذا النشوز بما ذكره الله في القرآن. كيف تظهر علاماته؟ بأن تعصي أوامره، يأمرها فلا تمتثل أوامره، إذا طلبها للفراش لا تُجيبه. فهذه من علامات النشوز، أو أنها تُجيبه مُتبرِّمة متثاقلة، تخرج بغير إذنه، يأمرها بألا تذهب إلى كذا فتعصيه وتذهب إلى المكان الذي نهاها عنه، فتجد أنها متمرِّدة على زوجها، عاصية لزوجها، هذه يُسمِّيها الفقهاء “امرأة ناشز”.
وقد كثر هذا في وقتنا الحاضر، مع هذا الانفتاح الذي يعيشه الناس في الوقت الحاضر، كان من آثاره نشوز بعض النساء، فأصبحت بعض النساء تعصي الزوج، ولا تأتمر بأمره، وتفعل ما بدا لها. ولا شك أن هذا خلاف الشرع.
وسبق أن تكلمنا في الدرس السابق: أن حقَّ الزوج على زوجته عظيم، حتى إنه أعظم من حقِّ والديها عليها.
وكما ترون الآن في اللباس مثلًا، بعض الأزواج يأمر امرأته باللباس الساتر، لكنها تعصيه وتلبس اللباس الفاضح غير الساتر، وكما تواتر في قصور الأفراح أن بعض النساء يلبسن لباسًا ربما لا تستطيع المرأة فيما سبق أن تلبسه إلا لزوجها فقط.
كيفية علاج نشوز الزوجة
فإذن؛ النشوز الآن بدأ في الوقت الحاضر يكثر؛ ولهذا فكيف نعالج هذا النشوز؟ ذكره الله في القرآن.
المؤلف ذكر مثالًا على النشوز: وهو ترك الفرائض، قال:
إذا تركت فريضة؛ يأمرها أن تُصلِّي وما تُصلِّي مثلًا، هذه المرأة أيضًا يُؤدِّبها زوجها. كيف يكون علاج النشوز؟ قال:
العلاج مأخوذ من القرآن الكريم في قول الله : وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، ثم ذكر في الآية الأخرى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35].
هناك أربعة مراحل لعلاج النشوز: الوعظ، والهجر في المضجع، والضرب غير المبرح، وأيضًا التدخل الخارجي بِبَعْثِ حكمٍ من أهله وحكمٍ من أهلها. هذه كلها تكون قبل الطلاق، مراحل يسلكها الزوج قبل الطلاق.
المرحلة الأولى: الوعظ
قال:
فإن بعض النساء قد يكون عندها خوفٌ من الله ، وينفع معها الوعظ، فيسلك معها هذا المسلك، ربما أنها تكون غافلة عن حقِّ الزوج، يُذكِّرها بالله، يُخوفها بالله، يُبيِّن لها عِظَم حقِّ الزوج، يعظها فبعض النساء ينفع معهن الوعظ، فيُعالج النشوز لهذا الصِّنف من النِّسوة بالوعظ.
المرحلة الثانية: الهجر
فإن لم ينفع؟
انتقل للمرحلة الثانية، قال:
يهجرها في المضجع ما شاء؛ لقوله : وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34]. ولاحِظ أنه هَجْرٌ في المضجع، ولم يقُل: هجرهن في البيت، يعني: ينبغي أن يكون هذا الهجر بين الزوج والزوجة لا يظهر أمام الأولاد؛ لأن ظهوره أمام الأولاد يُؤثِّر على نفسية الأولاد تأثيرًا كبيرًا؛ ولذلك ينبغي أن يكون خاصًّا، يعني: مسألة خاصة بين الزوجين فقط.
وبعض النساء يصعب عليها كثيرًا أن يهجرها زوجها في المضجع، يصعب عليها هجران زوجها لها في المضجع، فيكون هذا تأديبًا لها على هذا النشوز.
والنبي وقع منه الهجر لنسائه في القصة المشهورة، فإن نساءه اجتمعن واشتكى بعضهن إلى بعض ما يَجِدْنه من شَظَف العيش وقلة النفقة، ثم اتفقن على رأيٍ واحد، رأيٍ جماعي: وهو أن يُكلِّمن النبي عليه الصلاة والسلام ويشتكين شَظَف العيش وقلة النفقة، وكما تقول عائشة رضي الله عنها: كان يمُرُّ الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، وما أُوقد في بيت رسول الله نار[9].
فاجتمعن على أن يُكلِّمن النبي عليه الصلاة والسلام بصورة جماعية، فلما كلَّمن النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة؛ غضب عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا، وأقسم بالله ألا يدخل عليهن شهرًا كاملًا، ثم ذهب إلى مَشْرُبة له مُغضبًا عليه الصلاة والسلام.
وأُشيع في المدينة أنه طلَّق عليه الصلاة والسلام نساءه، بلغ ذلك عمر فأتى مسرعًا، فسأل نساءه، سأل نساء النبي عليه الصلاة والسلام، كلُّ واحدة تقول: ما أدري، وهُنَّ يبكين، وسأل حفصة رضي الله عنها قالت: ما أدري. فتكلَّم عليها كلامًا شديدًا، قال : لا تَغُرُّك هذه -يعني: عائشة رضي الله عنها- وتكلَّمت عليه أم سلمة رضي الله عنها، وقالت: يا ابن الخطاب، ما بقيت إلا تَدْخُل بين رسول الله وبين نسائه.
ثم ذهب للنبي عليه الصلاة والسلام، وجده في مَشْرُبة له، وكان عليه الصلاة والسلام مغضبًا غضبًا شديدًا، في هذه المَشْرُبة يُؤتى له بطعامه وشرابه، فطلب من حارسه أن يأذَنَ له فأذِنَ له، المرة الأولى ما أذِن، والمرة الثانية، ثم المرة الثالثة أذِن له فدخل عليه، وأراد أن يُنفِّس عن النبي عليه الصلاة والسلام أولًا، فقال: يا رسول الله، هل طلَّقْتَ نساءك؟ قال: لا. قال: الحمد لله. حَمِد الله وكبَّر، ثم قال: يا رسول الله، أرأيتَ إن ضربتُ زوجتي وكسرت عُنُقها، أتقتصُّون منَّا؟ ونحو ذلك، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام، أراد أن يُذهب عنه هذا الغضب.
ثم نظر إلى المَشْرُبة فلم يجد إلا خِزانةً من شعير، ورأى الحصير قد أثَّر في جنبه، فدمعت عينا عمر ، قال: يا رسول الله، أنت رسول الله وخِيرَتُه مِن خلقه، وأرى الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذا كسرى وقيصر في القصور والأنهار! فقال عليه الصلاة والسلام: أوَفِي شَكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قومٌ عُجِّلت لهم طيِّباتُهم في حياتهم الدنيا، أمَا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟.
ثم رجع عمر وأعلن في الناس، وقال: إن رسول الله لم يُطلِّق نساءه. وأنزل الله : وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83][10].
هذه القصة قصة عظيمة، وفيها دروس وفوائد وعِبَر، ينبغي أن تكون موضوعًا للخطب والمحاضرات؛ لأن فيها دروسًا كثيرة، ليس المقام مقام ذكر هذه الدروس والعِبَر.
بقي عليه الصلاة والسلام شهرًا كاملًا، فلما أتمَّ تسعة وعشرين يومًا، دخل على عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا رسول الله، بقي يوم، والله إني لأعدُّهن عدًّا. فقال عليه الصلاة والسلام: إن الشهر تسعة وعشرين. يعني: وافق ذلك الشهر أنه تسعة وعشرون.
ثم بدأ بعائشة رضي الله عنها، وأنزل الله قوله: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29].
بدأ النبي بعائشة رضي الله عنها، وقال: إني ذاكِرٌ لكِ أمرًا، فلا تستعجلي حتى تستشيري أبويك، ثم قرأ عليها هذه الآية، قالت: يا رسول الله، أَوَفِيكَ أستشير أبويَّ؟ إني والله أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم ذهب لبقية نسائه، كلُّهن قُلْنَ: نُريد الله ورسوله والدار الآخرة[11].
فهذه قصة هَجْرِ النبي عليه الصلاة والسلام لنسائه، فاخترن البقاء مع النبي عليه الصلاة والسلام، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، مع ما يُلاقِينَه مِن شَظَف العيش؛ فإنه عليه الصلاة والسلام كان يعيش كَفافًا، لم يكن عليه الصلاة والسلام يتنعَّم بنعيم الدنيا، ولو أراد لحصل له ذلك، عُرِضت عليه كنوز الأرض لكنه أبى عليه الصلاة والسلام.
إذن؛ المرحلة الثانية: الهجر في المضجع، وهنا قال: (ما شاء) يعني: لا يتقيَّد بمدة معينة.
(وفي الكلام ثلاثة أيام)؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث[12].
ولكن، يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام إذا كان فيه مصلحة راجحة. فمن يذكر الدليل لهذا الهجر؟ للزوجة ولغير الزوجة.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، أحسنت. هجر النبي عليه الصلاة والسلام الثلاثة الذين خُلِّفوا، هجرهم وأَمَرَ بهجرهم خمسين ليلة، حتى إنهم كانوا يُسلِّمون عليه وما يرُدُّ السلام عليهم، حتى رَدَّ السلام، مع أن ردَّ السلام واجب، كان كعب يقول: أُسلِّم عليه وأنظر: هل حَرَّك شفته بالسلام أم لا؟[13].
فإذا كان في الهجر مصلحة، فيجوز ولو أكثر من ثلاثة أيام، سواء للزوجة، أو لغيرها، بشرط أن يكون فيه مصلحة. أما إذا لم يكن فيه مصلحة، فالأصل أنه لا يزيد على ثلاثة أيام.
وأعني بالمصلحة المصلحة الشرعية، ليست مصلحة دنيوية، مصلحة شرعية، يكون مقيمًا على معصية مثلًا، فتهجره وتَعْلم بأن هجرك يُؤثِّر عليه، فهنا هذه مصلحة شرعية.
المرحلة الثالثة: الضرب
ما نفع معها الهجر، بعض النساء ما ينفع معها الهجر، بعض النساء تكون متمرِّدة، يعِظُ ما ينفع، يهجر ما ينفع، فما الذي يفعله الرجل؟ ينتقل لشيء من الحزم والقسوة، وهو- قال:
يضربها ضربًا غير مبرِّح؛ لقوله : وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34].
والضرب ينفع مع بعض النساء، بعض النساء إذا ضُرِبت تستقيم، إذا ما ضُرِبت تتمرَّد على الزوج، لكنْ قليلٌ هذا في أوْساط النساء، لكنه موجود، صِنْفٌ ما ينفع معها لا موعظة ولا هَجْر ولا إقناع ولا أيُّ شيء، ما ينفع معها إلا الضرب، وهذا الصِّنف موجود في المجتمع.
وكذلك أيضًا بعض الأولاد ما ينفع معهم إلا الضرب. فلذلك؛ ذكره الله علاجًا للمرأة الناشز، وذكره النبي عليه الصلاة والسلام علاجًا أيضًا: ضرب الولد إذا لم يُصلِّ بعد عشر سنوات[14].
وبهذا يتبيَّن أن ما يأتينا من الغرب ليس صحيحًا، الغرب يعتبرون الضرب جريمة، وهذا غير صحيح؛ لأن الله خالِقَ البشر أمر به في حقِّ المرأة الناشز، كيف يكون جريمة والله تعالى أمر به! وهو أعلم؛ خالق البشر، وهو أعلم بما يصلحُ للبشر.
ليس كلُّ ما يأتينا من الغرب يكون صحيحًا؛ فبعض الناسِ، كُلُّ ما يأتي من الغرب يعتبره هو المثال. غير صحيح؛ ما يأتينا من الغرب ننقُدُه، ما كان فيه مِن حقِّ ومِن خيرٍ نأخذ به، ما كان فيه من خطأ أو من شَرٍّ نجتنبه. فعندهم أن الضرب جريمة، وأن الجلد جريمة، عند بلاد الغرب كلها، مع أنهم في الواقع العملي يضربون، لكن عندهم فيما يُظهرون أنه جريمة عندهم.
لكن، في الإسلام جعله وسيلة للعلاج، لكن بشرط أن يكون ضربًا غير مبرِّح، فهو وسيلة تربوية، رسالة لهذه المرأة الناشز بأنها قد عَصَت، رسالة لها. فلا يُدْمِي، ولا يَكسِر عظمًا، ولا يكون له أثرٌ أيضًا، وإلا كان هذا حرامًا.
ولذلك؛ بعض الفقهاء يقول: إنه يكون بعُود السِّوَاك ونحوه، يعني: شيءٌ هو مجرد رسالة للمرأة، لا يُقصد منه انتقام، ولا يُقصد منه التَّشَفِّي، هو رسالة تربوية لهذه المرأة الناشز.
وأيضًا لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط؛ لقول النبي : لا يُجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حَدٍّ من حدود الله تعالى[15].
فتأديب المرأة وتأديب الولد، ونحو ذلك تأديب الطلاب في المدارس، لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط.
قال:
يعني: حتى يُوفِّيه؛ لأنه يكون ظالمًا بطلبِه حقَّه مع مَنْعِه حقَّها.
يعني: إذا كان هو مُقصِّرًا في حقِّها، فإن لها أن تُقصِّر في حقِّه، وإذا قصَّرت في حقِّه لا يسلك معها هذا المَسْلك، يُمنع من أن يضربها؛ لأن بعض الناس يُريد من الزوجة أن تقوم بحقوقه وهو يُقصِّر في حقوقها، وإذا قصَّر هو في حقوقها جاز لها أن تُقصِّر في حقِّه، ويُمنع من ضربها، ليس له أن يضربها في هذه الحالة إذا كان مقصرًا في حقوقها.
ولهذا؛ قال المؤلف: (ويُمنع من ذلك) يعني: من الضرب (إن كان مانعًا لحقِّها) يعني: مقصرًا في حقوقها.
المرحلة الرابعة: التدخل الخارجي
لكن، إذا كان غير مُقصِّر، ونَشَزَت، فله أن يسلك معها هذا المَسْلك، فإن لم يُجْدِ الضربُ فلا بد من تدخُّل خارجي: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، يأتي حَكَمان وينظران في أسباب الخلاف، ويُحاولان الإصلاح قَدْر المستطاع.
فإن لم تُجْدِ هذه المرحلة؛ فلم يبقَ هناك حلٌّ سوى الطلاق، والطلاق خيرٌ مِن أن تبقى هذه المرأة مع الزوج بهذه الحالة التي لا يتحقَّق معها مقاصد النكاح.
كتاب الخلع
ثم قال المؤلف رحمه الله:
تعريف الخلع ومشروعيته
الخلع معناه في اللغة: فراق المرأة، المرأةُ تَخْلَعُ نفسها من الزوج.
ومعناه في الاصطلاح: فراق الزوجة بألفاظ مخصوصة، بعِوَض يأخذه الزوج. هذا معنى الخُلع.
فإذن؛ هو يدور حول معنى: أن يُفارق الرجل امرأته بعوض يأخذه الرجل من المرأة.
والأصل فيه قول الله : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]. هذا معناه فيما خالَعت به المرأة زوجها.
وورد في السنة في الصحيحين: أن امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنها أتت النبي ، وقالت: يا رسول الله، ثابت ما أعيب عليه في دين ولا خُلُق، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال عليه الصلاة والسلام: أَتَرُدِّين عليه حديقته؟. قالت: نعم. قال: اقْبَلِ الحديقةَ وطلِّقها تطليقة[16].
“أكره الكفر في الإسلام” معناها: كفران العشير، يعني: أكره كُفْران العشير، كُفْران الزوج، هذا هو المقصود.
وسبب مُخالعتها إياه: جاء في رواية أنها قالت: لكني لا أُطيقه بغضًا[17]. وفي روايةٍ للنسائي: أنه كسر يدها[18]، لكنها ضعيفة.
ووقع التصريح بسبب آخر: وهو أنه كان دميم الخِلقة، في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: وكان رجلًا دميمًا، فقالت: والله لولا مخافة الله لبصَقْتُ عليه إذا دخل عليَّ[19].
وأخرج عبدالرزاق في “المصنَّف” أنها قالت: يا رسول الله، بي مِن الجمال ما ترى، وثابت رجل دميمٌ[20].
كأنها ترى نفسها أنها امرأة جميلة، وأن زوجها قبيح.
فهذا هو الأظهر في المُخَالَعة، المرأة إذا رأت نفسها جميلة، فربما يكون لهذا ضريبةٌ أنها ربما تعتَدُّ بنفسها، وربما أنها تستعلي على زوجها.
ولذلك؛ هنا امرأة ثابت بن قيس طلبت المُخالعة لأجل هذا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قَبِل منها.
لأن المرأة إذا كانت لا تُطيق أن تبقى مع الرجل لا تُجبَر، لا تُجبر لأيِّ سبب، سواء كان السبب لخِلْقَتِه، أو كان لخُلُقه فبعض الناس سيِّئ الخُلُق، أو كان لنَقْصِ دِينه، أو خافت إثمًا بترك حقوقه، أو نحو ذلك، فيجوز لها طلب الخلع وتُسَنُّ إجابتها.
لكن، قال أهل العلم: إذا كان يُحبها فيُسن صبرها عليه وعدم المخالعة إذا لم يكن هناك حاجة للخلع، بل بينهما الحال مستقيمة؛ فالجمهور يقولون: يُكره للمرأة أن تطلب الخلع؛ لحديث ثَوْبان أن النبي قال: أيُّما امرأةٍ سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرامٌ عليها رائحة الجنة. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو حديث صحيح[21].
ولكن، لو تأملنا هذا الحديث؛ هل هو يدل على الكراهة أو التحريم؟ التحريم؛ فحرام عليها رائحة الجنة، لا يُقال هذا في الأمور المكروهة.
ولهذا؛ الصواب: أن طلب الخلع مع استقامة الحال محرَّم. وقال ابن المنذر: رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكثير من أهل العلم. واختاره الموفق ابن قدامة، وأبو العباس ابن تيمية رحمه الله.
ويدل لهذا قول الله : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229]، قال الموفق: وهذا صريح في التحريم إذا لم يخافا ألا يُقيما حدود الله. ثم قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، فدلَّ بمفهومه على أن الجُناح لاحِقٌ بهما إذا افتدت به من غير خوف، ثم غلَّظ بالوعيد فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
وجاء في حديث أبي هريرة أن النبي قال: المختلعات والمنتزعات هن المنافقات. أخرجه الترمذي والنسائي[22]. وقيل: إنه من طريق الحسن ولم يسمعه، وقال الحافظ في “التهذيب”: إنه إسنادٌ لا مَطعَن في أحدٍ من رواته، وإن هذا الحديث سمعه الحسن من أبي هريرة. وصحَّح إسناد هذا الحديث.
وهذا يدل على تحريم المُخالعة من غير حاجة؛ لأنه ضارٌّ بها وبزوجها، وفيه إزالة لمصالح النكاح.
هذا قد يحصل عندما تتعلَّق المرأة برجل آخر، يعني: تكون حالها مع زوجها مستقيمة، لكن تتعلق برجلٍ آخر، وتُكوِّن معه علاقة، تطلب الخلع من زوجها طمعًا في الرجل الآخر! فنقول: هذا مُحرَّم، ما دامت الحالة مع زوجها مستقيمة فلا يجوز لها أن تطلب الخلع. أكثر ما يحصل هذا عندما تتعلَّق برجل آخر ويُغريها هذا الرجل الآخر، ويُفسدها على زوجها؛ فتطلب المخالعة منه، فنقول: إن طلب الخلع في هذه الحال لا يجوز.
شروط الخلع
نعود لعبارة المؤلف، قال:
الشرط الأول: أن يقع من زوج يصح طلاقه
يُشترط لصحة الخلع سبعة شروط، الشرط الأول، قال:
والزوج الذي يصح طلاقه: هو الحُرُّ الرَّشيد غير المحجور عليه؛ لأنه إذا مَلَك الطلاق وهو مجرد إسقاط لا تحصيل فيه، فلأَنْ يملكه مُحصِّلًا لعِوَضٍ مِن بابٍ أولى، فمَن صح طلاقه صح الخلع منه.
الشرط الثاني: أن يكون على عوض ولو مجهولًا
أي: لا بد أن يكون الخلع على عوض، فلا يصح الخلع بدون عوض، فلو أرادت المرأة أن تُخالع الزوج بدون عوض، طلبت منه أن يُخالعها بدون عوض، فيقول المؤلف: لا يصح، وهذا قول أكثر أهل العلم.
وذكر في “منار السبيل”: “فإن خالعها بغير عوض لم يصح حكاه الشيخ تقي الدين إجماعًا”. وهذه النسبة للشيخ تقي الدين غير صحيحة؛ الشيخ تقي الدين في كتبه ذكر رأيًا آخر، اختار رأيًا آخر، فكيف يحكي إجماعًا؟!
يظهر أن هذا وهمٌ من صاحب “منار السبيل” رحمه الله؛ ولهذا أنقل عبارة ابن تيمية رحمه الله، قال: “ويصح الخلع بغير عوض، وتقع به البينونة: إما طلاقًا، وإما فسخًا، في أحد القولين، وهذا هو مذهب مالك المشهور عنه في رواية أبي القاسم، وهو الرواية الأخرى عن أحمد… وهذا القول له مأخذان: أن الرَّجعة حقٌّ للزوجين، فإذا تراضيا على إسقاطها سقطت. والثاني: أن ذلك فرُقْة بعوض؛ لأنها رضيت بترك النفقة والسُّكنى، ورضي هو بترك ارتجاعها”.
فإذن؛ الشيخ تقي الدين ابن تيمية يرى أنه يصح الخلع بدون عِوض.
قال: (ولو مجهولًا) يعني: يصح أن يكون الخلع مجهولًا.
فلو اتفقا على -مثلًا- أن تُعطيه شيئًا، وهذا الشيء مجهول: حقِّي من الإرث، حقِّي من كذا، وهو مجهول فلا بأس؛ وذلك لأنه إسقاطٌ لحقِّه من البُضْع، وليس تمليكًا. والإسقاط تدخله المسامحة بخلاف التمليك.
قال:
فلا بد أن يكون ممن يصح تبرعه، ولا بأس أن يكون من الزوجة، أو من أجنبيٍّ: كأخيها مثلًا، أو عمها، أو قريب لها يرى أن هذه المرأة متضرِّرة ببقائها مع زوجها فيبذل لها العوض، فهذا لا بأس به.
قال:
(لو عَضَلَها ظلمًا لتَخْتَلِع منه لم يصح)؛ يعني: لو أنه عَضَلَها وضارَّ بها لأجل أن تدفع له المهر وتختلع منه، فإن هذا حرام عليه ولا يصح؛ لقول الله : وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]. فالأصل أنه لا يجوز للزوج.
يعني: تجد بعض الناس إذا تزوج امرأة لا يُريد أن يُطلِّقها، فيبدأ يُضارُّ بها، يَعْضُلُها لكي تختلع منه؛ هذا حرام عليه، لا يجوز، ولا يصح الخلع في هذه الحالة، إلا أن تأتي بفاحشة مبيِّنة، وهذه هي الفاحشة المبيِّنة أول ما يدخل فيها الزنا، إذا زنت أو ظهر منها أمارات الزنا؛ فيجوز له أن يَعْضِلَها لكي تفتدي منه.
وأيضًا قاس عليها بعض العلماء: إذا تركت فرضًا وأصرَّت على ذلك، ونصحها ولم ترتدع؛ فيجوز له أن يَعْضُلَها لتفتدي منه.
وقالوا: أيضًا إذا نَشَزَت فيجوز لها أن تفتدي منه. ففسَّروا الفاحشة بتفسير أوسع، على قول الجمهور ليس المقصود به الزنا فقط، وإنما يدخل في ذلك أيضًا النُّشُوز وترك الفرائض.
الشرط الثالث: أن يقع مُنَجَّزًا
قال:
يعني: فلا يصح أن يكون مُعَلَّقًا، كأن يقول: إن بذلتِ كذا وكذا فقد خالعتُكِ. قياسًا على عقود المعاوضات، قالوا: لأن هذا فيه عوض؛ ولذلك لا بد أن يكون مُنَجَّزًا.
والقول الثاني في المسألة: إنه يصح الخلع معلًّقًا، ولا يُشترط هذا الشرط. القول الثاني: إنه لا يُشترط الخلع أن يكون منجَّزًا، ويصح أن يكون معلَّقًا قياسًا على الطلاق.
أيُّ القياسين أقرب؟ أن نقيس الخلع على الطلاق، أو نقيسه على عقود المعاوضات؟ على الطلاق.
لهذا؛ فالقول الراجح هو القول الثاني؛ لأنه أقْيَس؛ لأن قياس الخلع على المعاوضات هذا بعيد، فقياسه على الطلاق أقرب.
فالصواب إذن عدم اشتراط هذا الشرط.
الشرط الرابع: أن يقع الخلع على جميع الزوجة
وذلك لأنه فسخ، فلا يصحُّ خلعُ جُزْءٍ منها كنصفها مثلًا، أو مُعيَّنٍ كيَدِها.
يعني: هذه مسألة نادرة الوقوع، فيذكرها الفقهاء يقولون: لا بد أن يكون الخلع على جميع الزوجة.
الشرط الخامس: ألا يقع حيلة لإسقاط يمين الطلاق
كيف إسقاط يمين الطلاق؟ يعني: لو أنه حلف عليها بالطلاق أنه إن أتى كذا فهي طالق، إن جاء اليوم الفلاني ولم تحضر كذا، أو لم تفعل كذا فهي طالق.
فقبل أن يأتي ذلك اليوم، وتعرفون الطلاق المعلَّق على قول الجمهور يقع مُطلَقًا، فيقول بعض الناس: يحتال، قبل هذا الموعد، يُخالعها باعتبار أن الخلع فسخ، ثم إذا مَرَّ هذا الوقت عَقَد عليها ولا تُحسب عليه طلقة، فيقولون: إذا كان حِيلةً لم يصح. هذا على قول الجمهور.
وعلى القول الذي يُفتى به الآن -وهو قول ابن تيمية رحمه الله-: أن الطلاق المعلَّق لا يقع، وحكمه حكم اليمين.
لكن، ترى المذاهب الأربعة -يا إخوان- على أن الطلاق المعلَّق يقع، ينبغي إشاعة هذا القول.
وسيأتينا إن شاء الله في (كتاب الطلاق)، قول الجمهور يكاد يكون الآن مُغيَّبًا، وسنُسَلِّط عليه الضوء إن شاء الله في (كتاب الطلاق)، فهذه حِيلة قد يفعلها بعض الناس لإسقاط يمين الطلاق، فنقول: إذا كانت حيلةً فإنه لا يصح.
الشرط السادس: ألا يقع بلفظ الطلاق
وسيأتي الكلام عنها، يعني: لا بد أن يكون بلفظ الخلع ولا يكون بلفظ الطلاق.
الشرط السابع: ألا ينوي به الطلاق
فإن نوى به الطلاق؛ وقع طلاقًا.
طيب، عندنا الآن الخلع بلفظ الخلعِ والخلعُ بلفظ الطلاق.
الخلع فسخ لا ينقض عدد الطلاق
قال المؤلف:
إذا كان الخلع بلفظ الخلع، إن وقع الخلع بلفظ الخلع أو الفسخ أو نحوه؛ بأن قال: خلعت زوجتي فلانة، أو فسخت زوجتي فلانة، أو نحو ذلك، ولم ينوه طلاقًا، فإنه يُعَدُّ فسخًا وليس بطلاق، يُعتبر فسخًا وليس طلاقًا.
وقد رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، واحتج بقول الله تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، ثم قال: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
ما وجه دلالة هذه الآيات على أن الخلع لا يُعتبر طلاقًا وإنما هو فسخ؟ ابن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآيات الثلاث أن الخلع فسخٌ وليس طلاقًا: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، ثم: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، ثم: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، استنبط ابن عباس رضي الله عنهما من هذا أنه فسخٌ وليس طلاقًا.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، أحسنت.
لأن الله تعالى ذكر الخلع بين الطلاق، ذكر أولًا تطليقتين: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، ثم ذكر الخلع في الآية التي بعدها، في قوله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] يعني: التطليقة الثالثة.
فلو كان الخلع طلاقًا لكان قوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] فأصبحت التطليقةُ أيَّ شيء؟ الرابعة، وهذا خلاف الإجماع، وهذا كما ترون ظاهر الدلالة.
هذا استنباط ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فذكر: تطليقتين والخُلعَ وتطليقة بعدهما، فلو كان الخلع طلاقًا لكان رابعًا. وهذا من استنباط ابن عباس رضي الله عنهما، وهو استنباط جيد، وهو ظاهر الدلالة في أن الخلع فسخٌ وليس طلاقًا.
هذا إذا كان بلفظ الخلع، أما إذا نواه طلاقًا فيُعتبر طلاقًا.
وإذا كان بلفظ الطلاق، فهل يُعتبر طلاقًا، أو يعتبر خلعًا؟
يعني: امرأة قالت لزوجها: أنتَ دفعت لي مهرًا أربعين ألف ريال، أنا أعطيك أربعين ألفًا، لكن أريد أن أختلع منك. فقال: “طلقتك” أو قال: “أنتِ طالق”، يعني: أتى الخلع بلفظ الطلاق، هل يُعَدُّ طلاقًا، أو نقول: إنه خُلعٌ ويُعتبر فسخًا؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين، والخلاف فيها قويٌّ جدًّا:
فجمهور أهل العلم قالوا: إنه يُعتبر طلاقًا؛ وذلك لأنه أتى بلفظ الطلاق، وما دام أنه قد أتى بلفظ الطلاق فيُعتبر طلاقًا؛ لعموم الآيات لعموم النصوص: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] فيُعتبر طلاقًا، لكنه طلاق بائنٌ بينونة صغرى.
والقول الثاني في المسألة: إنه فسخ ولو كان بلفظ الطلاق، ما دام أنه كان على عوض.
ولهذا؛ قال ابن تيمية رحمه الله: ولو أتى بصريح الطلاق لا يُعتبر طلاقًا، وإنما هو فسخ، قال: “وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن أحمد، وقدماء أصحابه”، وقال: “لم يُفرِّق أحدٌ من السلف ولا أحمد ولا أحدٌ من أصحابه في الخلع بين لفظٍ ولفظٍ؛ لا لفظ الطلاق ولا غيره، بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأيِّ لفظٍ كان”.
وهكذا أيضًا قرَّر ابن القيم هذا المعنى، وقال: الخلع فُرْقة وليس بطلاق، فقيل له: تذهب إلى حديث ابن عباس رضي الله عنهما؟ قال: ابن عباس رضي الله عنهما يتأوَّل الآية، كان يقول: هو فداء.
وقال: مما يدل لهذا أن النبي أمر ثابت بن قيس أن يُطلِّق امرأته؛ اقبل الحديقة وطلِّقها تطليقة، ومع ذلك أمرها النبي بأن تعتَدَّ بحيضة واحدة، مع ذلك قال : طلقها تطليقة. قال: وهذا صريح في أنه فسخ ولو وقع بلفظ الطلاق.
وأيضًا فإن الله سبحانه علَّق عليه أحكام الفِدية؛ لكونه فدية، ومعلوم أن الفدية لا تختص بلفظٍ معيَّن، ولم يُعيِّن الله لفظًا معينًا.
الحقيقة أن هذه المسألةَ الخلافُ فيها قويٌّ، وأنا متوقفٌ فيها، لم يترجَّح عندي أحدُ الرأيين؛ قول الجمهور قويٌّ، هذا الرجل أتى بلفظ الطلاق، ما الذي يُخرجه من عموم النصوص؟
وقول ابن تيمية وابن القيم أيضًا قويٌّ، قالوا: إن هذا خلعٌ وإن أتى بلفظ الطلاق، حتى وإن أتى بلفظ الطلاق فهو خلع، الله سماه “افتداءً”، فإذا أتى بلفظ الخلع أو الفسخ أو الطلاق فهو خلع، العبرة بالمعنى وليست العبرة باللفظ.
فهذه المسألة من المسائل التي الخلاف فيها قوي، وأنا متوقفٌ فيها، لم يترجح لي فيها أحدُ الرأيين.
أما المسألة الأولى الأمر فيها واضح، إذا أتى الخلع بلفظ الخلع فهو فسخ وليس طلاقًا، هذا ظاهر الدلالة من الآية، وظاهر النصوص، ولا إشكال فيه. لكن، الإشكال إذا وقع الخلع بلفظ الطلاق: هل يُعتبر طلاقًا أو لا؟
ولهذا، ينبغي للقاضي أن يطلب من الزوج أن يُوقع الخلع بلفظ الخلع حتى يخرج من الخلاف، حتى ما يُحسب عليه طلاقًا على قول الجمهور، فيقول: يأتي به بلفظ الخلع، أما إذا أتى به بلفظ الطلاق فيجري على الخلاف الذي أشرت إليه، وكما ذكرت هو خلافٌ قويٌّ.
صيغ الخلع
قال:
كالطلاق.
يعني: الصيغة الصريحة.
فيقول: هذه إذا أتى بها فلا تحتاج إلى نية.
قال:
الصحيح أن كنايات الخلع -وكذلك كنايات الطلاق- لا تنحصر في ألفاظ معينة، هذا هو الصحيح، خلاف المذهب عند الحنابلة الصحيح: أنها لا تنحصر، الخلع ما يحتمل الخلع وغيره، الطلاق ما يحتمل الطلاق وغيره.
فالكناية لا يقع بها الخلع ولا الطلاق إلا بالنية، أما إذا لم ينوِ فلا يقع بها خلعٌ ولا طلاقٌ، فإذا أتى بأيِّ كلمة تحتمل الخلع وغيره، ونوى بها الخلع؛ فيقع خلعًا، وإلا فلا.
قال:
الأصل في الكناية: أنه لا بد من نية، لكن إذا وُجد قرائن تدل على النية؛ لا نحتاج إلى نِيَّة، يعني مثل ما ذكره المؤلف: لو قالت المرأة لزوجها: “خالعني، خذ هذه أربعين ألف ريال، وأُريد أن أختلع منك”، وبذَلَتْ له العوض، وأتى بلفظِ كنايةٍ، قال: “اذهبي لأهلك” مثلًا، فهنا يُعتبر خلعًا، ولا نحتاج أن نسأله عن نيَّته.
أما مع عدم وجود القرينة؛ فلا بد من النية.
وهذا يُؤكِّد أن الخلع لا يختص بلفظ معين، ولا يُتَعبَّدُ بلفظه، لكن لا بد من التلفُّظ به، فلو أن المرأةَ دفعت للزوجِ العوضَ وأخذ العوض، وذهب بها لبيت أهلها، هل يقع الخلع أو لا يقع؟ قالت: “خذ، أريد أن أفتدي منك”، وسلَّمَتْه له، فذهبت لأهلها، هل يقع الخلع؟
مداخلة: ……
الشيخ: لا يقع إلا بلفظٍ، أحسنت.
مثل الطلاق، الخلع كالطلاق، لا بد من لفظٍ، لا بد من أن يتلفَّظ، فإن لم يتلفَّظ فإنه لا يقع؛ ولذلك قال الفقهاء: إنه لا يحصل الخلع بمجرد بَذْل المال وقبوله من غير لفظٍ من الزوج.
ولهذا؛ قال النبي لثابت بن قيس: اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة[23]. قال الموفق ابن قدامة: “وهذا صريح في اعتبار اللفظ”.
ولذلك؛ لا بد مِن أن يتلفَّظ؛ ولهذا مثلًا الذي يُطلِّق في نفسه: هل يقع طلاقه؟ لا يقع، الذي يُخالع في نفسه ما يقع، لا بد من التلفُّظ.
وكذلك الذي يقرأ الفاتحة مثلًا في نفسه: هل تصح صلاته؟ لا تصح، لا بد من التلفُّظ.
اللفظ -يا إخوان- مُعتبَر، صحيحٌ إنما الأعمال بالنيات[24]، لكن بعض الأمور لا بد فيها من التلفُّظ: في النكاح لا بد من التلفُّظ، في الطلاق لا بد من التلفُّظ، في الخلع لا بد من التلفُّظ، أركان الصلاة وواجباتها لا بد فيها من التلفُّظ، أما مجرد أنها تَبْذُل له العوض من غير أن يتكلَّم، هذا لا يحصل به الخلع، لا بد من أن يتلفَّظ بالخلع.
هذه هي أبرز المسائل المتعلقة بالخلع، وبهذا نكون قد انتهينا مما أردنا شرحه، وبقي معنا من (كتاب الطلاق) إلى آخر المتن.
هذا إن شاء الله تعالى نُنهيه الفصل القادم بإذن الله، الفصل الدراسي القادم نحاول -إن شاء الله- أن ننتهي منه، خاصة أن القِصاص والحدودَ الكلامُ فيها ربما لا نحتاج أن نتوسع فيه.
فإن شاء الله تعالى، الفصل القادم يكفينا لإنهاء هذا المتن، هذا هو آخر درس، ونتوقف إن شاء الله تعالى مدة الاختبارات والإجازة الصيفية وشهر رمضان، ثم يُستأنف الدرس كالمعتاد في أول اثنين مع استئناف الدراسة.
الدراسة ستُستأنف في اليوم الثاني عشر من شهر شوال، يعني: الرابع عشر من شهر شوال يكون موعد استئناف الدرس.
مداخلة: ……
الشيخ: لا، العادة أننا أول أسبوع، يعني: دائمًا الدراسة 12 شوال في العادة على طريقتنا؛ ولذلك نحن لا نحتاج لإعلان استئناف الدرس، الدرس الآن عمره دخلنا في السنة الحادية والعشرين، بدأ عام ألف وأربعمائة واثني عشر من الهجرة.
وشرحنا متونًا كثيرة: في العقيدة، وفي الفقه، وفي غيرها، ودخلنا في السنة الحادية والعشرين، ولم نحتج إلى إعلان هذا الدرس؛ لأننا نمشي على طريقة معروفة للجميع.
فمع بداية -إن شاء الله تعالى- استئناف الدراسة نستأنف الدرس.
نحن اعتدنا في الدروس أيضًا أن يكون هناك متنان أو درسان من باب التنويع وكذلك عدم الملل، وأيضًا تحصيل أكبر قدر من الإفادة، ولأننا خاصة في ليالي الشتاء نُطيل عن درسين.
هذا الدرس كان فيما سبق هو الأحد والاثنين، ثم ضغطناها في الاثنين، باعتبار أن بعض الإخوة يأتي من أماكن بعيدة، ويشقُّ عليهم أن يأتوا في يومين فنحن نُطيل.
ولهذا؛ فنحتاج إلى تسمية متن آخر يكون مع “دليل الطالب”. واقترح عليَّ بعض الأخوة وألحُّوا في أن يكون في أصول الفقه.
والحقيقة تأمَّلت متون الأصول، ووجدت أن الأفضل هو أن نرتبط بمنظومة أحسن من أن نرتبط بمتن، لماذا؟ لأن المنظومة: أولًا: هي أسهل في الحفظ وأثبت في البقاء، تبقى في الذهن، تبقى مدة طويلة، تستفيد منها، بخلاف غير المنظوم سرعان ما يُنسى.
ولذلك مثلًا؛ عندما تأتي أسباب الإرث، أسباب ميراث الورثة:
………………………………… | كل يُفيد ربه الوراثة |
وهي: نكاح وولاء ونَسَب | ………………………….. |
تجد أنك ضبطتها بهذا البيت، خلاص ما تنساها: “نكاحٌ وولاءٌ ونَسَب”، فالنَّظْمُ يبقى، يبقى في الذهن، وينتفع منه طالب العلم انتفاعًا عظيمًا.
وتأمَّلت المنظومات في أصول الفقه، وكان هناك في الأخير تردُّد بين أمرين، بين: “الورقات ونظمها” للعمريطي. ووجدتُ هناك أيضًا نظمًا آخر وهو للشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، مع أنه قليلٌ منه النَّظْم أو نادر، لكنه نظمَ منظومة في أصول الفقه، وبالمقارنة بينهما وجدت أن منظومة الشيخ محمد أعمق وأفضل بكثير، وأجود في العبارة، وأيضًا لا تقتصر على أصول الفقه، بل تشمل قواعد الشريعة، يذكر قواعد لا تجدها في جميع كتب أصول الفقه، فمِن ذلك مَثَلًا لما قال:
والشرع لا يلزم قبل العلمِ | دليله: فعل المُسِيء فافهمِ |
“والشرع لا يلزم قبل العلم” هذه مسألة لا تجدها في كتب أصول الفقه، ثم ذكر الدليل في نفس البيت، ذكر الدليل لهذه القاعدة: “دليله: فعل المسيء فافهمِ” يعني: المُسِيء صلاته.
ولِمَا ذَكَر مَثَلًا:
والشك بعد الفعل لا يؤثر | وهكذا، إذا الشكوك تكثر |
هذه قاعدة ما تجدها في كتب الأصول، تجدها في كتب الفقه، وتجدها ربما في غير مَظَانِّها، أن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يُلتفت إليه، وأن كثير الشكوكِ لا يُلتفَتُ لشكوكه، وهكذا تجد فيها لطائف وفرائد لا تُوجد في غيرها.
والشيخ رحمه الله شَرَح متونًا كثيرة، وكتبًا كثيرة، وأتى لنا بخلاصةٍ في هذه المنظومة التي وقعت في مائة بيت وثلاثة أبيات.
ولهذا؛ فإن شاء الله تعالى أنا رجَّحت أننا نأخذ هذه المنظومة، لكن بشرط يا إخواننا أن تلتزموا بحفظها، أطلب من الجميع حفظها، ومِن باب الحفز -يعني: تحفيز الإخوة على الحفظ- سنضع جائزة قيِّمة إن شاء الله تعالى.
نُحدِّد إن شاء الله في أول الدرس موعدًا للتسميع، والتسميع سيكون ليس شفهيًّا؛ العدد كبير، وإنما سيكون كتابة، يعني: اكتب من بيت كذا إلى بيت كذا، ومن بيت كذا إلى بيت كذا. ثم نضع هناك لجنة للتصحيح والاقتراع بين الإجابات الأفضل.
ويكون هناك إن شاء الله تعالى جائزة قيمة من باب الحفز.
ولهذا؛ أنا أذكر لكم هذه المنظومة لكي تجتهدوا في أوقات الإجازة في حفظها، منظومة عظيمة تُفيد طالب العلم كثيرًا، وتُعطيه جوانب في التأصيل وفي التقعيد في مسائل أصول الفقه، وغيرها من القواعد في الشريعة الإسلامية.
فإن شاء الله تعالى تكون بدايتنا في يوم الاثنين الرابع عشر من شهر شوال.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، بالنسبة للدورات الصيفية، إن شاء الله تعالى سوف أشارك مع الإخوة في دورة الشيخ ابن جبرين في أول أسبوع من الإجازة، وقد طلبت منهم أن يكون في الأطعمة، والأَيْمان والنذور؛ لأن هذه الأبوابَ قليلٌ من يشرحها، تجد المشايخ يشرحون أول الفقه، لكن الأطعمة والأيمان والنذور، قليل من يشرحها، وفيها مسائل مهمة.
وكذلك هناك دورات أخرى خارج الرياض، ربما تُنقل عبر الإنترنت في المدينة المنورة، وسيكون لي إن شاء الله تعالى دورة أيضًا في شهر شعبان.
الأسئلة
طيب، نُجيب عما تيسر من الأسئلة، نبدأ أولًا بالأسئلة المكتوبة.
السؤال: أحسن الله إليكم، وبارك فيكم. هذا يقول: قول المؤلف: (وإن لبث أو جامع لزمه القضاء)، هل يقضي ليلة كاملة، أو يقضي مقدار مكوثه عند الأخرى؟
الشيخ: يقضي مقدار مكوثه فقط؛ لأن هذا هو مقتضى العدل، ليس المعنى أنه يقضي ليلة كاملة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هل يجب العدل في السفر بين الزوجات، أو يقرع بينهن كما فعل النبي ؟
الشيخ: نعم، هذا سؤال جيد الحقيقة، فاتنا التنبيه عليه، وهو السفر، الأصل أنه يجب العدل في السفر، إذا سافر بهذه يُسافر بهذه. هذا هو الأصل.
وهذا قد يكون فيه مشقة؛ إذا أراد أن يخرج من المشقة ماذا يفعل؟ يُقرع بين نسائه كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل، النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده تسع نسوة، فكان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه[25].
فإذا أراد أن يَسْلَم من المشقة يُقرع بين نسائه، لكن إذا سافر بواحدة لا بد أن يُسافر بالأخرى.
بعض الناس إذا تزوج امرأة ثانية، أو ثالثة، أو رابعة، يُسافر بها، هل هذا يدخل في حقِّ المرأة؟ البكْر لها سبعة أيام والثيِّب لها ثلاثة أيام؟ ما يدخل.
ولذلك؛ فلا بد أن يقضي هذا السفر للزوجة الأخرى، “سبعة أيام” ليس المقصود بها السفر، المقصود بها الإقامة فقط دون السفر.
ولذلك؛ فلا بد إذا سافر بهذه -يعني: الجديدة- لا بد أن يسافر بالأولى فيقضي السفر.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، التسوية -ذكرنا- في ثلاثة أمور: المبيت، والنفقة، والكسوة، والسفر تابع لهذه الأمور، وإن شئتَ أن تُفرده فلا بأس.
والسفر يجب العدل فيه، خاصة في وقتنا الحاضر، ترى في السابق ربما يكون كل امرأة لا تُريد السفر؛ لأنها تتعب في السفر وفيه مشقة، فربما الاقتراع لأجل أيِّ امرأة التي تبقى وما تسافر. أما في الوقت الحاضر فالعكس، أصبح السفر هنا للسياحة والفرجة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: لو قال قائل: إن نساء النبي طالبن بحقٍّ من حقوقهن: وهو العيش الرغيد، فلِمَ الهجر؟ أو أن هذه حالة خاصة بالنبي ؟
الشيخ: نعم، هذا ذكره الله في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاوَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]، ثم قال: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [الأحزاب:32].
فنساء النبي لهن حالة خاصة، فهذه حالة خاصة؛ ولهذا ينبغي ألا يُؤذِين النبي عليه الصلاة والسلام بأيِّ شيء، لا يُؤذينه لا بطلب نفقة ولا غيرها.
أما غير النبي عليه الصلاة والسلام فالحكم يختلف، غير النبي عليه الصلاة والسلام إذا قصَّر في النفقة. مع أننا ما نقول: النبي عليه الصلاة والسلام قصَّر في النفقة، لكن هُنَّ كُنَّ يُرِدْنَ زيادة في النفقة.
لكن، غير النبي عليه الصلاة والسلام لو أنه لم يُنفق عليها؛ لها المطالبة بالفسخ.
لكن، هذه حالة خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام وزوجاته؛ ولهذا ذكرها الله تعالى في كتابه، وقال: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [الأحزاب:32]، وقال: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30]، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب:31].
قال أهل العلم: إنَّ مَن عظُمت عليه النعمة ضُوعفت عليه النقمة. كيف هذا؟ يعني: نساء النبيِّ النعمةُ عليهن أعظم، فأجرهن أعظم، وعذابهن أشد: يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30]؛ يعني: لو وقعت في معصية يُضاعَف لها العذاب ضعفين، ولو أتت بحسنة يكون لها الأجر مرتين.
وهذه قاعدة: أن من عظمت عليه نعمة الله تعالى، تعظُم في حقِّه النِّقمة. ليس فقط في حقِّ نساء النبي، حتى في غيرهن.
يعني مثلًا: الشَّيء مِن العالِم الكبير، ليس كما يكون مِن غيره؛ إنسان مثلًا عالم، أو طالب علم، ويقع منه أمر مخِلٌّ مثلًا بالشَّرف، أو نحو ذلك، بالنسبة له يُعتبر كبيرًا، وبالنسبة لغيره ربما لا يكون كبيرًا، لكن بالنسبة له يُعتبر كبيرًا؛ لأنه قد عظُمت عليه النعمة؛ فتعظُم في حقِّه النّقمة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا وقع الخلع بلفظ الطلاق، هل فيه رجعة على رأي الجمهور؟
الشيخ: إذا وقع الخلع بلفظ الطلاق فليس فيه رجعة، يكون بائنًا بينونة صغرى، والبينونة: إما أن تكون صغرى، أو كبرى. البينونة الصغرى هي الخلع.
والطلاق بلفظ الخلع يُعتبر فسخًا، لكن الطلاق بلفظ الخلع يقولون: بائنًا بينونة صغرى.
ومن البينونة الصغرى أيضًا: إذا طلق ولم يُراجع، طلَّق تطليقة واحدة أو ثنتين ولم يُراجع، وانتهت العدة؛ تكون بائنة بينونة صغرى.
البينونة الكبرى أن يُطلِّق ثلاث تطليقات، هذه تكون بائنة بينونة كبرى.
فإذن، إذا أتى بلفظ الطلاق مع بَذْل عوض، فعند الجمهور تكون بائنة بينونة صغرى، فليس له حقُّ الرَّجعة.
مداخلة: …..
الشيخ: هَْجرُ النبي عليه الصلاة والسلام لزوجاته كان في كُلِّ شيء.
مداخلة: …..
الشيخ: كما قلنا: النبي عليه الصلاة والسلام حالته مع زوجاته حالة خاصة؛ لأنه أقسم ألا يدخل عليهن شهرًا، ونزلت في ذلك الآيات القرآنية، وأُقِرَّ على هذا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام له حالة خاصة، لا يُقاس عليه غيره. وتعرف أن النبي عليه الصلاة والسلام له تسع زوجات أيضًا، فهو له مع زوجاته حالة خاصة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: قول الصحابية رضي الله عنها التي أرادت الخلع: “إني امرأة جميلة” هل هذا قبل الحجاب أم بعده؟
الشيخ: النبي عليه الصلاة والسلام من خصائصه أنه يجوز أن ينظر للنساء، ما يحتجبن منه، مِن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأنه كالأب لهم، هو كالأب لجميع نساء الأُمَّة؛ فلذلك ذكروا من خصائصه أنه يجوز له النظر للنساء؛ لأنه كالأب لجميع نساء الأُمَّة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: كيف نقول بالمنع من الضرب فوق عشر جلدات، مع أننا نرى الأحكام التعزيرية تصل إلى أكثر من ذلك؟
الشيخ: هذا إن شاء الله سيأتينا في (باب التعزير)، الجمهور ومنهم الحنابلة يقولون: لا يُزاد على عشرة أسواط حتى في التعزير.
ولكن القول الثاني في المسألة -وهو قول ابن تيمية وابن القيم-: إنه يجوز أن يُزاد في التعزير على عشَرة أسواط، ولو أن يصل إلى القتل، لكن بشرط أن يكون في حَدٍّ من حدود الله، يعني: في معصية متعلِّقة بالله ، ليست تأديبًا.
وهذا هو الذي عليه العمل، هذا هو الذي أخذ به القضاء عندنا في المملكة، فأخذوا برأي ابن تيمية مع أنه خلاف المذهب، الأصل في القضاء عندنا هنا أنه على المذهب الحنبلي، لكن في هذه المسألة أخذوا برأي ابن تيمية رحمه الله.
ولكن -حقيقة- الذي يُشكل، وهذا إن شاء الله سنُشِير له في (باب التعزير)، أن يصل الجلد إلى آلاف الجلدات، ستة آلاف جلدة، خمسة آلاف جلدة، هذا حقيقة أنا لا أعلم له أصلًا، ولا أعلم أنه موجود في عهد السلف، أن يصل إلى هذه الألوف المؤلَّفة!
أنا أذكر: كنا في دورة شرعية، وأُثِيرت ضجَّة في إحدى الصحف في البلاد الغربية، قالوا: هذا هو الإسلام، يجلدون ستة آلاف، كان محكومًا عليه بستة آلاف جلدة، فسألني السفير: هل هذا في شريعة الإسلام: أن الجلد يصل إلى ستة آلاف؟ قلت: هذا اجتهاد من بعض القضاة، لكن في الإسلام لا أعلم أن لهذا أصلًا.
وسألت بعض مشايخنا الذين لهم عناية بالجنايات، وأَلَّفوا فيها وصنَّفوا، مثل: شيخنا عبدالله الركبان، قال أيضًا: “لا أعلم لهذا أصلًا”.
هذه الجلدات بهذه الأُلُوف المُؤلَّفة في الحقيقة تحتاج إعادة نظر، ثم تكرار الجَلْد الآن هل يُؤثِّر؟ فلماذا لا يُجعل جزءٌ -مثلًا- جَلْدًا مائة مثلًا أو مائتين مثلًا، والباقي يكون هناك مجال آخر؟
ثم التعزير لا ينحصر في الجَلْد، ولا ينحصر في السَّجْن، التعزير بما يُصلِح المعزَّر.
ولهذا؛ بعض القضاة من طلاب العلم -خاصة في الآونة الأخيرة- بدؤوا يسلكون هذا المسلك.
وعُقد عندنا في (مركز التميز) في الجامعة، ندوة عن العقوبات البديلة للسَّجْن، وحضر بعض القضاة، وذكروا أنهم طبَّقوا عقوبات بديلة، منها مثلًا أن يُعزَّر، أن يُحكَم عليه إما بجلد وإما بأن يقوم ببعض الأعمال التطوعية؛ كتنظيف المسجد مثلًا، أو العمل في جمعية خيرية، أو مثلًا بعض القضاة قال: اشترِط على هذا: إما أن يُجلد مثلًا كذا جلدة، والسجن كذا شهرًا، أو أنه يأتي بورقة من إمام المسجد أنه يُحافظ على صلاة الفجر لمدة ستة أشهر. فطبعًا هذا اختار الخيار الثاني، فصلحت حاله، فكان هذا التعزير سببًا لاستقامته.
فالتعزير إذن لا ينحصر لا في الجلد ولا في السجن، فكون الجلد يصل إلى آلاف الجلدات، عندي أن هذا محل نظر، ولا أعلم لهذا أصلًا، لا من القرآن ولا من السنة، ولا من فعل السلف الصالح.
مداخلة: …..
الشيخ: ممكن، لكن يُجعل فيها خيار بين كذا وكذا.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: لأحد الإخوة أرض بقيمة مليون ريال، أراد تمويلًا لها، فقال البنك: بِعْهَا لنا حالًّا، ثم اشترها بالأقساط بمليون ومائتين، أو بِعْهَا لشركةٍ نعرفها، ثم نشتريها ونبيعها عليك، أو بِعْهَا لشخص تثق فيه ثم نشتريها ونبيعها عليك تقسيطًا، فما الحكم؟
الشيخ: هذه قد تكون من مسائل العِينة، إذا قالوا: بِعْهَا علينا ثم نقسطها عليك، من مسائل العِينة، تُعتبر من مسألة العِينة، فكونه يبيعها عليهم ثم يُقسِّطونها عليه، هذه من العِينة المحرمة.
وهكذا أيضًا لو قالوا: بِعْها لشخص ثالث؛ كأخيه أو زوجته، ثم البنك يشتريها من هذا الثالث، ثم يبيعونها عليه، هذه أيضًا تدخل في العِينة الثلاثية، هذه لا تجوز، لا هذه ولا هذه، كلها حِيلة على الربا؛ لأن الأرض ستعود له، وسيحصل على سيولة نقدية، ويثبت بذمته أكثر منها، هذه النتيجة في النهاية، فكِلا الصورتين غير جائزة.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم. نقول: بما أننا مقبلون على الإجازة الصيفية، هل من وصية تُوصون بها طالب العلم لاستغلال هذه الإجازة؟
الشيخ: يا إخوان، أَثْمَنُ ما عند الإنسان وقتُه، الوقت هو الحياة، الوقت هو العمر، فكما قال عليه الصلاة والسلام: نعمتان مغْبُونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ[26].
فلا بد من أن يُحسن المسلم -خاصة طالب العلم- استثمار هذا الوقت فيما ينفعه، ويضع له برامج وخططًا للاستفادة واستثمار هذا الوقت، فمِن ذلك مثلًا:
الالتزام بحضور الدورات الشرعية، الدورات فيها خير كثير، وفيها بركة، وتُشرح فيها متون كثيرة في وقت وجيز.
من ذلك أيضًا أن يجعل له برنامجَ -مثلًا- قراءة في كتاب معين يُكمله في هذه الإجازة.
من ذلك -مثلًا- الحفظ، إذا كان -مثلًا- لا يحفظ القرآن، يبدأ بحفظ القرآن، مثلًا يُراجع ما حفظه، فيضع له برنامجًا للاستفادة من هذه الإجازة، يقرأ كتبًا نافعة. المهم أنه يُخطِّط لاستثمار هذه الإجازة.
وإذا تأمَّلت الناجحين في المجتمع والبارزين؛ تجد أنهم يجتمعون في هذه الخَصلة: وهي حسن الإفادة من الوقت، وحسن إدارة الوقت، واستثمار الوقت.
أما الذي يُضيِّع وقته في لهوٍ وفي غفلة، ومن مجلس إلى مجلس، ومن استراحة إلى استراحة، ومن مكان إلى مكان، ومن سفر إلى سفر، ما يُحصِّل شيئًا مثل هذا، هذا ما يُحصِّل شيئًا، يُضيِّع وقته في لهوٍ وفي غفلة.
لا بد يا إخوان من أن يكون الإنسان حازمًا مع نفسه، وأن يُحسن الإفادة من وقته، وهذا كان موجودًا عند السلف، يُسمُّونها: “المشارطة” و”المحاسبة”.
المشارطة: هي التي تُسمى بلغة العصر “التخطيط للوقت”. والمحاسبة: أن الإنسان يُحاسب نفسه: كيف أمضى وقته؟ كيف مضى عليه هذا الوقت؟
تجد بعض طلاب العلم ربما تمضي عليه أيامٌ كثيرة ما قرأ فيها شيئًا من القرآن، ليس بقصدٍ، وإنما بسبب الفوضوية، وكل يوم بكرة، بكرة، وإذا أتى المسجدَ مبكرًا قرأ، وإلا مضت عليه أيامٌ ما قرأ شيئًا من كتاب الله .
فتجد دين الإسلام دينًا يُعين الإنسان على الانضباط، الصلاة لو صُليت قبل الوقت بدقيقة واحدة ما تصح، دقيقة واحدة ما تصح.
إذن؛ انْضَبِط بالوقت، لا بد من الانضباط بالوقت، الصلاة تُصلَّى في وقتٍ محدَّدٍ لها، وقت تبدأ به ووقت تنتهي فيه، وكذلك الصيام، وكذلك أمور العبادة. تجد الإسلام يُعوِّد المسلم على الانضباط.
انظر النبي عليه الصلاة والسلام بُعث وعمره كم سنة؟ أربعون، توفي وعمره كم؟ ثلاثة وستون؛ يعني بقي في النبوة والرسالة كم سنة؟ ثلاثًا وعشرين سنة فقط، ثلاثًا وعشرين سنة، قصيرة، ومع ذلك غيَّر وجه العالم، أخرج اللهُ تعالى به الناسَ من الظلمات إلى النور.
انظر إلى بركة وقته عليه الصلاة والسلام في ثلاثة وعشرين سنة فقط!
لو تأملت مثلًا حياة الصحابة ، سعد بن معاذ أسلم وعمره واحد وثلاثون سنة، وتوفي وعمره ستٌّ وثلاثون سنة أو قيل: سبع وثلاثون؛ يعني: بقي ست أو سبع سنوات في الإسلام فقط، ومع ذلك لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن، الحديث في الصحيحين[27]، في سبع سنوات فقط، ماذا كان يعمل في هذه السبع السنوات؟
للصحابة حسن إفادة من الوقت. أبو بكر ، خلافته كم؟ سنتان وأشهر. عمر بن عبدالعزيز؟ سنتان وأشهر. فانظر إلى بركة الوقت، وحسن الإفادة من الوقت.
فالإنسان المسلم يحرص على تنظيم وقته، وعلى حسن الإفادة من وقته، فيما يُفيده وفيما ينفعه.
نسأل الله للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لما يحب ويرضى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 5216، ومسلم: 1474. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 284، ومسلم: 309. |
^3 | رواه البخاري: 2593، ومسلم: 1463. |
^4 | رواه أحمد: 25111، وأبو داود: 2134، والترمذي: 1140، والنسائي: 3943، وابن ماجه: 1971. |
^5 | رواه البخاري: 5213، ومسلم: 1461. |
^6 | رواه مسلم: 1460. |
^7, ^8, ^23 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه البخاري: 2567، ومسلم: 2972. |
^10, ^11 | رواه البخاري: 2468، ومسلم: 1479. |
^12 | رواه: البخاري: 6237، ومسلم: 2560. |
^13 | رواه البخاري: 6255، ومسلم: 2769. |
^14 | رواه أحمد: 6756، وأبو داود: 494، والترمذي: 407 |
^15 | رواه البخاري: 6850، ومسلم: 1708. |
^16 | رواه البخاري: 5273. |
^17 | رواه البخاري: 5274. |
^18 | رواه النسائي: 3497. |
^19 | رواه أحمد: 16095، وابن ماجه: 2057. |
^20 | رواه عبدالرزاق في “المصنف”: 11759. |
^21 | رواه أحمد: 22440، وأبو داود: 2226، والترمذي: 1187، وابن ماجه: 2055. |
^22 | رواه أحمد: 9358، والترمذي: 1186، والنسائي: 3461. |
^24 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^25 | رواه البخاري: 2593، ومسلم: 2445. |
^26 | رواه البخاري: 6412. |
^27 | رواه البخاري: 3803، ومسلم: 2466. |