عناصر المادة
- آداب الأكل
- حكم الأكل من الوليمة بلا إذن صريح أو قرينة
- حكم تقبيل الخبز
- حكم إهانة الخبز
- غسل اليدين قبل الطعام وبعده
- حكم التسمية عند الطعام والشراب
- صفة الجلوس عند تناول الطعام
- حكم الأكل باليمين
- يُصغِّر اللُّقمة، ويُطِيل المَضْغ ويمسح الصَّحْفَة
- يأكل ما تناثر، ويغُضُّ طرْفَه عن جليسه، ويُؤثِر المحتاج
- الأكل مع الزوجة والمَمْلُوكِ والولد
- يلعَقَ أصابعه، يُخلِّل أسنانه
- ما يُكره في الأكل والشرب
- الاتكاء في الأكل
- يأكل ويشرَب مع أبناءِ الدُّنيا بالأدب
- الأكل مع الفقراء بالإيثار
- الأكل مع الإخوة بالانبِسَاطِ
- إِطعام السائل
- الحمد بعد الطعام والشراب
- الدعاء لصاحب الطعام
- حكم التبرك بآثار الصالحين
- إعلان النكاح، والضرب فيه بدُفٍّ
- حكم ضرب الدف في الأعراس
- قصائد التشبُّب بالنساء في الأعراس
- ضربُ الدُّفِّ في الخِتان وقُدُوم الغائب
- باب عِشرة النساء
- الأسئلة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد وصلنا في درسنا شرح “دليل الطالب” إلى (باب الوَلِيمة وآداب الأكل)، تكلمنا عن أحكام الوليمة (وَلِيمة العرس)، وذكرنا في الدرس السابق الخلاف بين الفقهاء في حكمها، وأن القول الراجح هو أنها مستحبة وليست واجبة.
وأجبنا عن حديث: ومن لم يُجِب الدعوة فقد عصى الله ورسوله[1]. وقلنا: إن هذا من كلام أبي هريرة ، وليس من كلام النبي ، وأنه فهمٌ فَهِمَه .
آداب الأكل
ثم وقفنا عند (آداب الأكل).
حكم الأكل من الوليمة بلا إذن صريح أو قرينة
قال المؤلف رحمه الله:
فإذا لم يُؤذَن للإنسان بالأكل: إما بالإذن الصريح أو القرينة؛ فلا يجوز له الأكل؛ لأن الأصل هو أن مال الغير محترم.
وقد رُوي في ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبيَّ قال: مَن دخل على غيرِه مِن غيرِ دعوةٍ؛ دخل سارقًا وخرج مُغِيرًا[2].
مَن دخل على غير دعوة هكذا عند أبي داود، مَن دخل على غير دعوة دخل سارقًا وخرج مُغِيرًا. هكذا رواه أبو داود بهذا اللفظ.
إذن: مَن دخل على غير دعوة دخل سارقًا وخرج مغِيرًا، لكن هذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد.
ولكن المؤلف استدرك؛ قال:
فإذا وُضِع الطعام، فمجرد وضع الطعام إذْنٌ في الأكل، وهكذا الدعاء للوليمة، كما لو قال: “تفضَّلوا” مثلًا، أو “حياكم الله”، أو “سَمُّوا”، أو نحو ذلك، فهذا إذْنٌ في الأكل.
وكذلك أيضًا لو كان على يقين -أو حتى غلب الظن- برضا صاحب البيت بالأكل؛ جاز ذلك. إذا كان هذا صاحبًا له أو صديقًا له، ويُسَرُّ لو أكل، لو علم بأنه أكل؛ جاز ذلك.
فالكلام إذن إذا كان صاحب الطعام لو علم لَمَا رضي أو نحو ذلك، فهنا لا بد من الإذن الصريح، أو القرينة الدالة على ذلك.
قال:
يعني: (يقدِّم) صاحب الوليمة أو صاحب الطعام الذي يُزار (ما حضر) يعني: ما تيسر (من الطعام من غير تكلف).
وقد جاء في قصة سلمان الفارسي لمَّا دخل عليه رجلٌ، فدعا له بما كان عنده، ثم قال: لولا أنَّا نُهينا عن التكلُّف لَتكَلَّفنا لك. رواه أحمد وهو حديث حسن.
لكن، إذا كان هذا زائرًا، فهنا الأولى عدم التكلُّف. أما لو كان ضيفًا فإكرام الضيف واجب، وسبق معنا بيان ذلك.
وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قدَّم لضيفه عِجْلًا سمينًا حَنِيذًا، وهذا نوعٌ من التكلُّف، لكن لمَّا كان فيه مبالغةٌ في الإكرام؛ كان فِعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ممدوحًا، بشرط ألا يُؤدِّي ذلك إلى السَّرف والتبذير.
فليس معنى قولنا: إنه ينبغي عدم التكلُّف؛ أن الإنسان لا يُكرِم الضيف.
فلو كان -مثلًا- ضيف نزل على الإنسان وأراد أن يُكرمه؛ فلا بأس بذلك ولو تكلَّف؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام فَعَله، وفيه نوعٌ من الكُلْفة؛ كونه ذهب وأتى بعجل سمين، ثم أيضًا شَوَاه. حَنِيذٍ [هود:69] يعني: مَشْوي، فهذا لا شك أن فيه شيئًا من التكلُّف، لكن هذا كان إكرامًا لأولئك الضيوف، بشرط ألا يصل إلى حَدِّ الإسراف والتبذير.
وقد ذكر الله تعالى هذا عن إبراهيم على وجه الثناء عليه.
حكم تقبيل الخبز
قال:
يعني: يبدو أن هذه كانت موجودة في زمن المؤلف ونحو ذلك، تَقْبِيل الخبز لا يُشرع، ولا تَقبِيل غيره من الجمادات، إلا شيئًا واحدًا، وهو ماذا؟ الحجر الأسود.
إذن؛ لا يُشرع لا تَقبِيل الخبز ولا غيره من الجمادات، إلا الحجر الأسود؛ فإنه قد وردت السنة بتقبيله والسجود عليه واستلامه[3]، وورد أيضًا ما يدل على أنه من حجر الجنة[4]، وأنه يَنْظر إلى كلِّ مَن استلمه أو قبَّله بحقٍّ ويُجعل له يوم القيامة عَيْنان، فيشهد لكُلِّ مَن استلمه أو قبَّله بحقِّ هذا[5].
إذن؛ الذي يُشرع: تقبيل الحجر الأسود، أما غيره من الجمادات فإنه لا يُشرع تقبيلها، بل إن تقبيلها قد يُفضي إلى التبرُّك به.
أما تقبيل المصحف فقد رُوي عن بعض الصحابة، رُوي عن عكرمة بن أبي جهل أنه كان يتلو المصحف ويقول: كتاب ربي.
فالذي يظهر أنه لا بأس بتقبيله تعظيمًا له، لكن الأولى ترك ذلك؛ لأنه لم يَرِد عن أكثر الصحابة ، ولو كان مشروعًا لفعله النبي عليه السلام، وفعله الصحابة أو أكثرهم، لكن فعل بعض الصحابة يدل على الجواز.
حكم إهانة الخبز
قال:
الضمير يرجع إلى الخبز؛ يعني: تُكرَه إهانة الخبز.
لأن مسح اليدين بالخبز فيه إهانة له.
لأن -أيضًا- وضع الخبز تحت القصْعَة فيه إهانة له. يعني: يُريد المؤلف بهذا أنه يُكرَه إهانة الخبز؛ لأنه طعام، وطعام الآدميين محترم، فينبغي احترامه وعدم إهانته بأيِّ وجهٍ من وجوه الإهانة.
غسل اليدين قبل الطعام وبعده
ثم قال المؤلف رحمه الله:
ويُستحب غسل اليدين قبل الطعام وبعده.
وذلك لحديث سلمان أن النبي قال: بركة الطعام الوضوء قبله وبعده. وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي، لكنه حديث ضعيف[6]. والمراد بالوضوء في الحديث يعني: غسل اليدين؛ بركة الطعام الوضوء قبله وبعده المراد بذلك: غسل اليدين. لكنه حديث ضعيف.
ولهذا؛ فالقول بالاستحباب يحتاج إلى دليل ظاهر، الأقرب أن ذلك مباح، وأن الإنسان إذا احتاج إلى غسل اليدين فالأولى له أن يفعل ذلك، وإذا لم يحتج فلا نقول في ذلك باستحبابٍ أو عدمه؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء، تبقى هذه من الأمور المباحة.
حكم التسمية عند الطعام والشراب
قال:
(تُسَنُّ التسمية)؛ يعني: أن يقول: “بسم الله”، وهل يزيد فيقول: “الرحمن الرحيم”، “بسم الله الرحمن الرحيم”، أو يقتصر على قول “بسم الله”؟
إذا نظرنا للأحاديث الواردة في المسألة، نجد أن جميعها بلفظ: “بسم الله”، يا غلام، سَمِّ الله[7]، فليذكر اسم الله[8]، كلُّ الأحاديث الواردة تنصُّ على “بسم الله”.
وزيادة: “الرحمن الرحيم” اختلف العلماء فيها: فمِن أهل العلم مَن قال: إنه يُستحب أن يُكمِل التسمية، فيقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”. والقول الثاني في المسألة: إن الأفضل الاقتصار على “بسم الله”.
مع اتفاق الجميع على أنه لو قال: “بسم الله الرحمن الرحيم” ففِعله صحيح، لا يُنكَر عليه، ولو قال: “بسم الله” ففعله صحيح لا يُنكَر عليه. لكن، الخلاف بين العلماء في الأفضل، أيهما أفضل: أن يقتصر على قول “بسم الله” أو يزيد “الرحمن الرحيم”؟
إذا نظرنا للأحاديث الواردة، كلها اقتصرت على قول “بسم الله”، لم تَرِد زيادة “الرحمن الرحيم”، لم تَرِد لا في حديث صحيح ولا ضعيف مطلقًا.
لهذا؛ فالأقرب والله أعلم هو الاقتصار على قول “بسم الله” عند الطعام والشراب؛ وذلك لأن هذا هو الوارد في الأحاديث، الوارد في الأحاديث أن يقول: “بسم الله”.
وقوله: (وتُسَنُّ التسمية) هذا هو قول الجمهور، هذا قول أكثر أهل العلم، على أن التسمية عند الطعام والشراب مُستحبة وليست واجبة.
وقد حكى النووي رحمه الله في “شرحه على صحيح مسلم” الإجماع على ذلك، على أن التسمية مستحبة، ولكن حكاية النووي رحمه الله للإجماع محل نظر؛ إذ إن المعروف من مذهب الظاهرية هو أن التسمية عند الطعام والشراب واجبة.
لهذا نقول: إن العلماء اختلفوا في حكم التسمية عند الطعام والشراب، على قولين مشهورين:
- القول الأول: قول أكثر أهل العلم: إنها مستحبة؛ واستدلوا لاستحبابها بالأحاديث التي ورد فيها الأمر بالتسمية، ومنها: حديث عمر بن سلمة ، قال: كنت غلامًا في حجر النبي ، فقال: يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك. والحديث في الصحيحين[9]. فقوله: يا غلام، سَمِّ الله هذا أمر بالتسمية، لكن حمَلُوه على الاستحباب؛ لأن هذا في باب الآداب، والأمر في باب الآداب يُحمَل على الاستحباب. وهذه قاعدة أصولية.
وجمهور العلماء على أن الأمر في الآداب للاستحباب، والنهي في الآداب للكراهة. وممن نص على ذلك الشافعي في “الأم”؛ فقالوا: إن هذا في الآداب؛ فيُحمل على الاستحباب.
وأيضًا لحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي قال: إذا أكَل أحدكم فلْيذكر اسمَ الله، فإن نسي فليقل: بسم الله أولَّه وآخرَه. رواه أبو داود، والترمذي وقال: “هذا حديث حسن صحيح”[10].
- والقول الثاني في المسألة: هو وجوب التسمية عند الطعام والشراب؛ واستدلوا بالأحاديث السابقة: حديث عمرو بن سلمة ، وحديث عائشة رضي الله عنها، وقالوا: الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب.
قالوا أيضًا: مما يدل لذلك ما جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي قُدِّم إليه طعامٌ مع بعض أصحابه، فأتت جارية كأنما تُدفَع دفعًا، فأرادت أن تضع يدها في الطعام، فأمسك النبي بيدها، ثم أتى أعرابيٌّ، فأراد أن يضع يده بالطعام، فأمسك النبي بيده، وأمرهما بالتسمية، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان قد أخذ بِيَد هذه ليستحل بها فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به يعني: الطعام فأخذتُ بيده. والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدهما[11].
قال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطانَ جاء بهذه الجارية؛ ليستحل بها يعني: الطعام فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده. والذي نفسي بيده إنَّ يده يعني: الشيطان في يدي مع يدهما. وهذا الحديث رواه مسلم[12]. وهذا يدل على تأكُّد التسمية.
لكن، هل يُقال بالوجوب بحيث إنَّ مَن أكَل ولم يُسَمِّ يأثم، أو مَن شرب ولم يُسَمِّ يأثم؟!
لا شك أن القول الثاني قولٌ قويٌّ، خاصة الحديث الأخير، يعني: حديث أبي هريرة، حتى لو قلنا: إن الأصل في الأمر أنه يقتضي الاستحباب إذا كان في الآداب، لكن ماذا نقول عن الحديث الأخير حديث أبي هريرة؟
ومِن هنا، الظاهرية قالوا بوجوب التسمية، ورجَّحه كذلك الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله.
ولكن، هل هذا الحديث صريح في الوجوب، أو أنه يدل على تأكُّد الاستحباب؟
الذي يظهر أنه يدل على تأكُّد الاستحباب؛ لأن كون الشيطان يستحل الطعام ويأكل مع الإنسان ليس بصريحٍ في وجوب التسمية؛ لأن الشيطان أيضًا إذا دخل الإنسانُ بيتَه ولم يُسَمِّ يبيت معه، هل هذا يدل على وجوب التسمية عند دخول المنزل؟ أو وجوب ذكر الله عند دخول المنزل؟ لم يقل بهذا أحدٌ مِن أهل العلم.
فالذي يظهر: أن التسمية مستحبة استحبابًا مؤكدًا، خاصة أنه قد حُكي الإجماع على ذلك. وقيل: إن الإجماع سابقٌ لخلاف الظاهرية.
ثم أيضًا القول بالوجوب يترتب عليه تأثيم ترك التسمية، ويلزم مِن ذلك تأثيم أكثر الناس، خاصة أكثر الناس لا يُسمِّي عند الشراب، لمَّا يشرب ماءً أو يشرب قهوة ونحو ذلك، كثير من الناس لا يُسَمِّي. وتأثيم أكثر الأُمَّة يحتاج إلى دليل واضح، فلا نجرؤ على هذا إلا بشيء واضح ظاهر.
فالأقرب والله أعلم هو ما عليه أكثر أهل العلم من استحباب التسمية عند الطعام والشراب استحبابًا مؤكدًا.
مداخلة: …..
الشيخ: الإجماع هنا مُنتَقض بخلاف الظاهرية، لكن حكاية الإجماع مُؤشِّرٌ على أن هذا -على الأقل- هو قول الأكثر.
مداخلة: …..
الشيخ: يعني هو إجماعات النووي وابن عبدالبر وابن المنذر، هذه يظهر أن لهم في هذا منهجًا خاصًّا، وهم يقصدون بذلك إجماع مَن يحفظون عنه من أهل العلم في زمنهم، لكن هذا المؤشر يُعطيك أن هذا هو رأي الأكثر، حتى وإن لم نُسلِّم بحكاية الإجماع، لكن يُعطيك أن هذا هو رأيُ الأكثر، أكثر الأمة، أكثر علماء الأمة.
وقوله: (جهرًا)؛ أي: تُسَنُّ التسمية جهرًا؛ وذلك للتعليم، وتذكير مَن حوله، ونحو ذلك؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام أيضًا كان هذا هو هَديُه، وقال لعمر بن سلمة : سَمِّ الله[13]، فدلَّ ذلك على أن التسمية تُسَنُّ جهرًا.
صفة الجلوس عند تناول الطعام
قال:
(أن يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى) يعني: كما يفعل في بعض هيئات الصلاة، في التشهد الأول مثلًا، أنه يفترش رِجْله اليسرى وينصب اليمنى. فيقول المؤلف: إن هذه الصفة مستحبة.
والدليل لهذا أن النبيَّ جَثَا عند الأكل، وقال: أمَّا أنا فلا آكُلُ مُتَّكِئًا[14]. ومعنى “جَثَا” أي: قعد على ركبتيه جالسًا على ظهور قَدَمَيْه، هذا معنى الجُثُوِّ، ومنه قول الله : وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28].
وإنما فعل هذا النبيُّ في قصةٍ، وهي أنه عليه الصلاة والسلام أُهدي له شاة، فجَثَا على ركبتيه ليأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجِلسة يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللهَ جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا[15].
وأصل هذه القصة -كما قلنا- في “صحيح مسلم”، فالصفة التي ذكرها المؤلف لا يدل عليها الحديث، الحديث يدل على الجُثُوِّ على الركبتين، يعني: أنه يقعد على الركبتين جالسًا على ظهور القدمين، وأن هذه من الصفات الواردة عند الأكل؛ وجاء في حديث أنس : أن النبي أَكَلَ مُقْعِيًا تمرًا[16].
والمُقْعِي كما قال النووي: الذي يُلصِق أَلْيَتَيْهِ بالأرض ويَنصِبُ ساقيه؛ يعني: كالمُحْتبي.
فإذن؛ هذه جِلسة وردت، وتلك وردت، والذي يظهر أن الأمر في ذلك واسع، وأن الإنسان يجلس على أيِّ صفة يرى أنها الأيسر له، من غير أن يُقال باستحباب صفة معينة؛ لأن هذه إنما وردت عن النبي اتفاقًا، ولم يَرِد ما يدل على أن ذلك من السُّنة، فهذه وردت اتفاقًا.
وما جزم به المؤلف مِن أنه يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى؛ لا دليل عليه، إنما الذي ورد هو الجُثُوُّ، والذي ورد هو الأكل مُقْعيًا، وعرفنا المقصود بالجُثُوِّ وعرفنا المقصود بالأكل مُقْعيًا.
فالذي يظهر أن هذا حصل اتفاقًا، وأن الإنسان يجلس عند الأكل الجِلسة التي يراها الأيسر له والأكثر راحة له، مِن غير أن يُقيِّد ذلك بجِلسة معينة. وهذا هو الذي يتفق مع مقاصد الشريعة، وعدمِ تقييد الإنسان عند الأكل بجِلسة معينة، إلا ما سيأتي، إلا ما ورد استثناؤه وهو الأكل متَّكِئًا، هذا ورد كراهته.
قال: (أو يتربَّع) يعني: أن هذه من الجِلسات التي يُسَنُّ فِعلها عند الطعام. وهذا في الحقيقة هذا ليس عليه دليل، بل إن بعض العلماء عَدُّوا التربُّع من صفات الاتِّكَاء، والصحيح أنه ليس من صفات الاتِّكاء كما سيأتي. وسنُبيِّن المقصودَ بالاتِّكاء والراجِحَ في معناه.
لكن نقول: الذي يظهر -والله أعلم- أن الإنسان عند الأكل يختار ما يراه الأيسر والأكثر راحة له إلا الاتِّكَاء؛ فهو الذي قد وردت كراهته. فلا نُسلِّم إذن للمؤلف ما ذَكَره مِن استحباب الأكل متربِّعًا.
حكم الأكل باليمين
قال:
أما كونه يأكل (بثلاث أصابع)؛ فلحديث جابر : أن النبي أمر فيه بلعق الأصابع، لكن حديث كعب بن مالك: كان النبيُّ يأكل بثلاث أصابع، ولا يمسح يده حتى يلعقها. رواه مسلم[17].
فالأفضل أن يأكل بثلاث أصابع، وإن أكل بيده كلها بالأصابع الخمسة فلا بأس، لكن الأفضل ومن الحكمة في ذلك أن الأكل بثلاث أصابع يدعو للتقليل من الأكل؛ حتى لا يُكثِر الإنسان من الطعام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ما ملأَ آدَميٌّ وعاءً شَرًّا من بَطنٍ، فإن كان لا بد فاعلًا: فثُلُثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِه[18].
ويُشبه من بعض الوجوه الأكلُ بثلاث أصابع الأكلَ بملعقة، فإن الأكل بملعقة يُحقِّق معنى التقليل من الأكل وعدم الشراهة عند أكل الطعام.
وقوله: (مما يليه)؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن سلمة: كُلْ مما يليك[19]، ولكن هذا محمول عند أهل العلم على أنه إذا كان الطعام نوعًا واحدًا. أما إذا كان أنواعًا فلا بأس أن يأكل من غير ما يليه، إذا كان أنواعًا؛ مثلًا فواكه وأرزًا، يعني: عدة أنواع، فلا يلزم أن يأكل مما يليه، أو فلا نقول: إنه ينبغي أن يأكل مما يليه، بل إن هذا خاص بما إذا كان الطعام نوعًا واحدًا.
وأما قوله: (ويأكل بيمينه) فظاهر كلام المؤلف أن الأكل باليمين مستحب وليس واجبًا، وهذا هو قول الجمهور، جمهور أهل العلم يرون أن الأكل باليد اليمنى مستحب وليس واجبًا، وهكذا الشرب باليد اليمنى مستحب وليس بواجب، وحملوا الأمر في قول النبي : وكُلْ بيمينك على الاستحباب.
والقول الثاني في المسألة: إن الأكل باليمين واجب؛ وذلك لأن النبي أخبر بأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يأكل أحد بشماله ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله. رواه مسلم[20].
وقد نُهينا عن اتباع الشيطان والتشبُّه به، فيكون هذا قرينة على أن النهي مقصودٌ به التحريم، فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الأكل بالشمال والشرب الشمال، وقَرَن ذلك ببيان أن هذا هو صنيع الشيطان؛ فدلَّت هذه القرينة على أن النهي عن الأكل بالشمال والشرب الشمال محرَّم.
وهذا هو القول الراجح والله أعلم، القول الراجح: أن الأكل باليمين واجب، والشرب باليمين واجب، وأن الأكل والشرب بالشمال محرم؛ وذلك لقوة دليله، فإنه في هذا الحديثِ أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الشيطان هذا صنيعه، وقد نُهينا عن التشبه به.
فإذن؛ نقول: الصواب خلاف ما ذكره المؤلف، الصواب: أن الأكل باليد اليمنى والشرب باليد اليمنى واجب وليس فقط مجرَّد مستحب.
وكذلك أيضًا الحديث لمَّا قال : كُلْ بيمينك. قال: لا أستطيع. قال : لا استطعت[21]. هذا أيضًا يكون دليلًا آخر يدل على وجوب الأكل باليد اليمنى.
يُصغِّر اللُّقمة، ويُطِيل المَضْغ ويمسح الصَّحْفَة
قال:
وهذا ليس عليه دليل ظاهر، اعتبار أن هذا مسنون يحتاج إلى دليل؛ ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “إن هذه المسألة لم أجدها مأثورة ولا عن أبي عبدالله”؛ يعني: الإمام أحمد رحمه الله.
ولهذا؛ يبقى هذا من الأمور المباحة، لا يُقال فيها بالاستحباب أو عدمه.
قال:
يعني: الوعاء الذي يأكل فيه الطعام، السنة مَسْحه؛ أي: لعقه بعد الفراغ من الأكل؛ وذلك لحديث جابر أن النبي أمر بلعق الأصابع والصَّحْفَة، وقال: إنكم لا تدرون في أيِّ طعامكم البركة. رواه مسلم[22].
فإذن؛ عندنا لَعْقُ الأصابع سُنَّة بعد الفراغ من الأكل، ولعق الصَّحْفَة -يعني: لعق الوعاء الذي فيه الطعام- سُنَّة.
وتجد بعض الناس بعد الفراغ من الأكل يستعمل المناديل، نقول: لا بأس باستعمال المناديل، لكن ينبغي أن يسبق ذلك لعق الأصابع، ولا يستقذر الإنسان هذا، أو يخشى أن الناس ربما ينتقدونه، أو نحو ذلك؛ لأن هذا وردت به السُّنة، أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلعق الأصابع، حتى إن الظاهرية يرون الوجوب، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني كذلك يرى الوجوب؛ لأنه يقول: “هذا أمر”.
لكن، نقول: الصواب ما عليه أكثر أهل العلم، أن ذلك مستحبٌّ استحبابًا مؤكَّدًا، فينبغي إذن الحرص على تطبيق هذه السُّنة؛ أن الإنسان إذا أكل طعامًا يلعق أصابعه، ويلعق الوعاء الذي فيه الطعام، هذه سُنة مستحبة استحبابًا مؤكدًا.
يأكل ما تناثر، ويغُضُّ طرْفَه عن جليسه، ويُؤثِر المحتاج
قال:
يعني: لو تناثر شيء من الطعام أو سقط فالسُّنة أن يأكله؛ وذلك لحديث جابر أن النبي قال: إذا وقعت لُقْمة أحدكم فلْيأخُذْها، فلْيُمِطْ ما كان بها من أذًى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان. رواه مسلم[23].
فهذا أيضًا من السنة، إذا سقطت اللُّقمة أن يُمِيطَ ما بها من أذى وأن يأكلها؛ لأنه إذا تركها فيتركها للشيطان.
قال:
القول بأن ذلك مستحب يحتاج إلى دليل، لكن نقول: إن ذلك هو الأولى، أو من الأدب أن يغُضَّ طَرْفه عن جليسه؛ لئلا يستحي منه، فلا ينظر في وجه جليسه وهو يأكل الطعام، فإن ذلك مخالف للمروءة.
لو كان هناك إنسان محتاج للطعام فيُستحب له أن يُؤثره؛ كما قال : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وقد جاء في السنة أن رجلًا أتى النبي كما في الصحيح، أتى النبي يطلب طعامًا، فبعث النبي إلى نسائه كلهن، قلن: ما عندنا إلا الماء. فقال عليه الصلاة والسلام: من يُضيِّف هذا الليلة يرحمه الله؟. فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. فذهب به وقال لزوجته: هل عندك طعام؟ قالت: ما عندي إلا قوت صبياني. فقال: عَلِّلِيهم -يعني: حتى يناموا- ففَعَلَتْ ذلك، ثم أتى والضيف، وزوجته، ولعل ذلك قبل نزول آية الحجاب، وجعل يُريد أن يُصلح السِّراج، يتظاهر بأنه يُريد أن يُصلح السراج فأطفأه، وجعل كأنه يأكل مع الضيف وزوجته، والضيف يأكل، حتى شبع الضيف وباتا طاوِيَيْن، فلما أصبح قال له النبي : لقد عَجِب الله من صنيعكما الليلة، أو ضحك، ثم أنزل قوله : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9][24].
فالإيثار من مكارم الأخلاق، إلا الإيثار في القُرَب، فالإيثار في القرب مكروه، إلا إذا ترتَّب عليه مصلحة شرعية؛ مثلًا: لو كان أمامك فرجة في الصف الأول فلا يُستحب أنك تقول لصاحبك: تقدَّم. أنت الذي تقدَّم، لا تُؤثره بهذه القُرْبة إلا إذا كان هناك مصلحة شرعية، مثل ماذا؟
مثلًا: أن يكون الذي معك هو والدك، فلو قلت له: تقدَّم، بررت به، فهنا فيه مصلحة شرعية، وإلا فالأصل أن الإيثار مستحب، إلا في القُرَب، فيُكره، ما لم يترتب على الإيثار مصلحة شرعية معتبرة.
مداخلة: …..
الشيخ: وكذلك توقير أهل العلم مثلًا، يدخل ذلك في المصالح الشرعية.
الأكل مع الزوجة والمَمْلُوكِ والولد
قال:
وذلك لأن هذا هو هدي النبي ، كان عليه الصلاة والسلام لا يسْتَنْكِفُ أن يأكل مع هؤلاء، وتقول عائشة رضي الله عنها: كنت أَتَعَرَّقُ العَرْقَ -والعَرْق: هو العظم الذي عليه اللحم- فأُنَاوِله النبي ، فيأكل منه، حتى إنه لَيَضع فاه على موضع فِيَّ عليه الصلاة والسلام. رواه مسلم[25].
وأكلَ النبي ومعه عمر بن سلمة في حجره وهو صغير[26].
فلا يسْتَنْكِفُ الإنسان إذن أن يأكل مع الزوجة، أو المملوك، أو الخادم، أو الولد، أو نحو ذلك.
يلعَقَ أصابعه، يُخلِّل أسنانه
قال:
تكلمنا عن هذه المسألة، وقلنا: إن لعق الأصابع سنة.
وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: تَرْكُ الخلال يُوهن الأسنان. ورُوي مرفوعًا عن النبي لكنه لا يصح مرفوعًا[27]، وإنما هو موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، كما رواه الطبراني[28].
وقول ابن عمر رضي الله عنهما صحيح؛ لأن ترك تخليل الأسنان يُوهنها؛ وذلك لأن بقايا الطعام مع مرور الوقت تتخمَّر وتتحلَّل البكتيريا، ثم بعد ذلك تبدأ تنْخُر الأسنان.
لكن القول بالاستحباب يحتاج إلى دليل، لكن نقول: الأولى، أو أن هذا من آداب الطعام: هو التخليل، رُوي في ذلك بعض الأحاديث الضعيفة، منها مثلًا حديث: تخللوا من الطعام؛ فإنه ليس شيءٌ أشدَّ على المَلَك الذي على العبد أن يجد من أحدكم ريح الطعام. وهذا الحديث ضعيف، رواه الطبراني لكنه ضعيف[29].
ففي هذا الباب أحاديث لكنها ضعيفة، ولا يصح في ذلك شيءٌ مرفوع عن النبي ؛ ولهذا نقول: الأولى؛ حتى ما نقول: يستحب، نقول: الأولى تخليل الأسنان بعد الطعام.
على أن السُّنة أن يستاك الإنسان، ومن السواك -كما مرَّ معنا- استعمال الفرشاة مع المعجون، هذا داخلٌ في السواك؛ لأن السواك لا ينحصر في عود الأراك.
فإذن؛ لو قيل: إن الأولى أيضًا أن يستعمل الإنسان فرشاة الأسنان بعد الطعام، وخاصة قبل النوم، هذا له وجه، لكن على سبيل الأولوية، إلا إن اعتبرنا أن هذا داخل في السواك، فيكون مستحبًّا.
قال:
وإنما ذكر المؤلف هذا الحكم لحديث أبي هريرة أن النبي قال: مَن أكل؛ فما لاكَ بلسانه فلْيَبْلَع، وما تَخَلَّل فلْيَلْفِظ، مَن فعل فقد أحسن، ومَن لا فلا حرج. وهذا الحديث في “سنن أبي داود”، وكذلك رواه أحمد وابن ماجه، لكنه ضعيف[30].
وكما ذكرنا؛ لا يثبت في تخليل الأسنان شيء عن النبي ، فيبقى هذا من الأمور المباحة، ولا يُقال فيه بالسُّنية.
ما يُكره في الأكل والشرب
قال المؤلف رحمه الله:
وكذلك الشراب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه. رواه أبو داود، والترمذي وقال: “حديث حسن صحيح”[31].
والسُّنة عند شرب الطعام أن يشربه ثلاث مرات، فقد أمر النبي بأن يتنفس في الإناء، يعني: خارج الإناء، وأن يشرب منه ثلاث مرات، وقال: إنه أهنأ، وأروى، وأبرأ رواه مسلم[32]؛ يعني: عندما تُريد أن تشرب الماء، فالسُّنة أن تقول: “بسم الله” وتشرب المرة الأولى، ثم تقول: “بسم الله” المرة الثانية، ثم “بسم الله” المرة الثالثة؛ هذه السنة.
وذكر النبي أن في ذلك ثلاث فوائد: أهنأ يعني: أكثر هنيئًا عندما تفعل هذا، وأمرأ كذلك تشربه مريئًا، وأبرأ هنا كلمة “وأبرأ” هذه تكلَّم عنها ابن القيم رحمه الله في “الطب النبوي”، وذكر أن فيها فائدة طِبِّيَّة عظيمة، وأنَّ الإنسان الذي يشرب الماء دفعة واحدة يضر ذلك بالمعدة، وشبَّه ذلك ابن القيم قال: أرأيت القِدْر الذي تحته نار، عندما تأتي بالماء وتصبُّه فيه دفعة واحدة، تجد أنه يفور، لكن عندما تصب فيه دَفَعات لا يحصل هذا الفوران.
فيقول: كذلك المعدة فيها حرارة، عندما يشرب الماء دفعة واحدة يتسبب ذلك في بعض الإشكالات، ويضر ذلك بالمعدة ضررًا بالغًا، ولا شك أن ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام أنه حقٌّ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
فإذن؛ نقول: السُّنة عند شرب الماء أن يشربه الإنسان ثلاث مرات، يعني: ثلاث دفعات.
وقوله: (يُكرَه نفخ الطعام) قلنا: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، لكن قال الآمدي: “إنه لا يُكرَه النفخ والطعام حارٌّ”. وعلَّق على ذلك المَرْداوي في “الإنصاف”، قال: “قلتُ: وهو الصواب”.
وهذا بشرط أن يكون الطعام خاصًّا بالإنسان، أما إذا كان مع الناس فلا ينفخ فيه ولو كان حارًّا، وإنما ينتظر، لكن إذا كان الطعام خاصًّا بالإنسان وكان حارًّا فلا بأس أن ينفخ فيه؛ لأجل أن يبرد.
قال:
أي: يُكرَه أن يأكل الطعام حارًّا. وقد قال أبو هريرة : لا يُؤكل طعام حتى يذهب بخاره. رواه البيهقي بإسناد حسن.
لكن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وما ذكره أبو هريرة فهو قول صحابي، يحتمل أن يكون قد قال ذلك على سبيل الأولوية؛ أن الأولى أن الإنسان لا يأكل الطعام حارًّا.
ولذلك؛ فالقول بالكراهة محل نظر. فالصواب: أنه لا يُكرَه، إلا أن يضر ذلك بصحة الإنسان، فإن كان يُؤدِّي إلى الضرر فنقول: إنه حتى ربما يُكره أو يحرم. أما إذا كان لا يضر بالصحة؛ فالصواب أن ذلك باقٍ على الأصل وهو الإباحة.
قال:
يعني: يُكرَه أن يأكل بأقل من ثلاث أصابع؛ لأن ذلك كِبْرٌ أو مشابهة للمتكبرين، وأن يأكل بأكثر من ثلاث أصابع يقول:
ولكن القول أيضًا بالكراهة يحتاج إلى دليل، نقول: الأولى ألا يفعل ذلك، وقد ورد أن النبي أكل بكفِّه كلها، لكن قال الإمام أحمد: “إن هذا لا يصح”.
يعني: يُكره أن يأكل بشماله. وسبق أن تكلمنا عن هذه المسألة، وذكرنا أن الصواب: أنه يحرم، يحرم أن يأكل بشماله أو يشرب بشماله.
في بعض النُّسَخ (و).
يعني: يُكرَه أن يأكل من أعلى الصَّحْفَة.
وذلك لقول النبي : كُلْ مما يليك[33]، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: إذا أكل أحدكم طعامًا، فلا يأكل من أعلى الصَّحْفة، ولكن ليأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل من أعلاها. رواه أبو داود، والترمذي وقال: “هذا حديث حسن صحيح”[34].
وأيضًا، جاء في لفظ آخر: كلوا من جوانبها ودعوا ذِرْوَتَها يُبارَكْ فيها[35].
فالسُّنة إذن ألا يأكل الإنسان من أعلى الوعاء الذي فيه الطعام، وإنما يأكل من أسفله، يعني: من جوانبه، يبدأ مما يليه، ومن جوانبه، ولا يأكل من أعلاه.
قال:
وذلك لأن هذه الأمور مما تُستقذَر، وربما سقط منه شيء فيها فيقذرها؛ ولهذا قالوا: إن هذا مما يُكرَه.
وهذا إنما يكون إذا أكل مع غيره، فإذا أكل مع غيره فيُكرَه للإنسان أن يتكلَّم بكلامٍ يسْتَقْذِرُه الحاضرون؛ لأن الموضع موضع طعام وأكل، فلا ينبغي أن يتكلم بكلام فيه شيء مما يُستَقْذَر.
وكذلك أيضًا كأن يتمخَّط مثلًا، أو نحو ذلك.
الاتكاء في الأكل
قال:
يعني يُكرَه أن يأكل مُتَّكِئًا، وأكثر أهل العلم على أن الأكل مُتَّكِئًا مكروه، والظاهرية على مذهبهم وهو التحريم، لكن الأكثر -أكثر العلماء- على أن ذلك مكروه، وقد ورد أنَّ النبي نهى عن الأكل مُتَّكِئًا، لكنه ضعيف، وإنما المحفوظ قوله عليه الصلاة والسلام: إني لا آكل مُتَّكِئًا. وهذا في الصحيحين[36]، وهذا يدل على كراهة الأكل مُتَّكِئًا.
ولأن الأكل مُتَّكِئًا فيه نوعٌ من الاستخفاف بالنعمة. فإذن؛ الأكل وهو متَّكِئٌ مكروه.
لكن ما صفة الاتِّكَاء؟ اختلف العلماء في صفة الاتِّكَاء؛ فقيل: إن صفة الاتكاء المكروهة هي أن يتمكَّن للجلوس في الأكل على أيِّ صفة. وقيل: إن الاتكاء أن يعتمد بيده اليسرى على الأرض. والقول الثالث في المسألة: إن الاتكاء هو الميل على أحد الشِّقين.
إذن؛ عندنا في المسألة ثلاثة أقوال:
- أن يتمكَّن للجلوس في الأكل على أيِّ صفة.
- القول الثاني: أن يعتمد على يده اليسرى على الأرض.
- القول الثالث: الميل على أحد الشِّقين، يعني: يميل على أحد الشقين ويأكل، هكذا.
القول الثالث جزم به ابن الجوزي، وسمعت شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله يقول: إن هذا هو الصواب في تفسير الاتِّكاء.
ويدل لهذا حديث أبي بَكْرة في الصحيحين: أن النبي قال: ألا أنبيكم بأكبر الكبائر قالها ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان مُتَّكِئًا فجلس، وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: لَيْتَه سكت[37].
فقوله: “وكان مُتَّكِئًا فجلس” دليل على تفسير الاتِّكاء، كان مُتَّكِئًا على أحد شِقَّيه، ثم لما أتى بقول الزُّور جلس، هذا هو التفسير للاتِّكاء.
أما ما ذكروه من التفسيرات الأخرى فلم يثبت فيها شيء، فالأظهر -والله وأعلم- أن الاتِّكاء معناه: أن يميل على أحد شِقَّيه، فيأكل وأحد شِقَّيه مائل؛ لأن هذه جِلْسة المتكبرين، أو فيها تشبُّهٌ بجلسة المتكبرين؛ كون الإنسان مُتَّكِئًا على أحد شِقَّيه ثم يأكل هذه مكروهة.
هل يدخل في ذلك: ما لو كان الإنسان مُتَّكِئًا على أريكة أو مَرْكَى مثلًا، ما يُسمَّى “مَرْكى” مثلًا، يعني مثل المَرَاكي الموجودة، مثل هذا المَرْكَى مثلًا، يَتَّكِئُ عليه مثلًا ويأكل، هل يدخل في هذا؟
مداخلة: …..
الشيخ: خلِّنا في الأحوال المعتادة، إنسان جلس على مثل هذا المَرْكى وهو مُتَّكِئٌ ويأكل؟
مداخلة: …..
الشيخ: الظاهر أنه يدخل، وأنه إذا جلس على المَرْكى لا بد أن يميل، لكن الميلان قد يكون شديدًا وقد يكون خفيفًا، لكن يصدُق عليه أنه مُتَّكِئٌ.
ولهذا؛ تجد الناس في عُرْفهم يقولون: آتي لك مثلًا بأريكة، بمَرْكى تتَّكِئُ عليه، فهو في عُرْف الناس يُعتبر متَّكئًا.
فلذلك نقول: مَن أراد أن يأكل أو يشرب ينبغي ألا يتَّكِئَ، إنما يبتعد عن الاتِّكَاء، فيدخل في ذلك الميل بجميع صوره، سواء كان أشبه بالمضطجع، أو كان مُتَّكِئًا على أريكة، أو على ما يُسمَّى بمَرْكى أو غيره، كل ذلك يدخل في الكراهة.
مداخلة: …..
الشيخ: مِن بابٍ أولى، نعم.
قال:
يعني: يُكرَه أن يأكل كثيرًا بحيث يُؤذيه هذا الأكل، والسُّنة أن الإنسان عند الأكل لا يشبع في غالب الأحيان؛ لقول النبي في حديث مَعْدِي كَرِب: ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطنٍ، فإن كان لا ، فثُلُثٌ لطعام، وثُلُثٌ لشراب، وثُلُثٌ لنفسه. رواه الترمذي[38].
ولكن، لو أنه شبع في بعض الأحيان فلا بأس، ويدل لذلك قصة أبي هريرة لما أُتي النبي بطعام وكان جائعًا، فقال: أُتي بلبن وكان جائعًا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهَبْ به فأَعْطِه أهلَ الصُّفَّة. فشرب أهل الصُّفَّة كلهم، ثم قال: بقي أنا وأنت يا أبا هِرٍّ، فقال: اشرب. فشرب أبو هريرة ثم قال: اشرب، ثم قال: اشرب، حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا. ثم شرب النبي . والحديث في الصحيحين[39].
فهذا ظاهر أن أبا هريرة قد شبع، قال: “لا أجد له مسلكًا”، فكون الإنسان يشبع أحيانًا لا بأس، لكن ينبغي أن يكون الغالب هو أن يترك الشِّبَع.
قال: (أو قليلًا بحيث يضرُّه)؛ يعني: لو أنه أكل قليلًا بحيث يؤدِّي للضرر فإن هذا يُكره.
وعلى ذلك أيضًا تُخرَّج مسألة الإضراب عن الطعام، الإضراب عن الطعام نقول: إذا كان يؤدِّي إلى الضرر بالإنسان فإنه دائر بين الكراهة والتحريم، يعني: أقل أحواله الكراهة إذا كان يؤدِّي إلى الضرر، أما إذا كان لا يؤدِّي إلى الضرر وترتب عليه مصلحة فلا بأس به.
فإذن؛ العبرة هنا، المعوَّل عليه هو الضرر.
يأكل ويشرَب مع أبناءِ الدُّنيا بالأدب
قال:
هذه عبارةٌ للإمام أحمد نقلها المؤلف بنصِّها، قال: (ويأكل ويشرب مع أبناء الدنيا بالأدب).
يعني: مع أرباب الدنيا، أهل الدنيا، يأكل معهم بالأدب والمروءة، فلا يأتِ بشيء يَخْرِم المروءة، ويكون متأدِّبًا بآداب الطعام.
الأكل مع الفقراء بالإيثار
يُؤثِرهم -كما ذكرنا- ويُقرِّب إليهم الطعام ونحو ذلك ويتواضع لهم؛ لأن الغالب على النفوس ازدراء الفقراء والمساكين، كما ذكر الله تعالى ذلك في قصة أصحاب الجنة، فكون الإنسان يتواضع للفقراء ويُؤثرهم ويُحسن إليهم؛ هذا من مكارم الأخلاق.
الأكل مع الإخوة بالانبِسَاطِ
قال:
يعني: مع إخوانه، أصدقائه، فهنا ينبَسِط معهم بالأحاديث المناسبة التي ليست فيها غِيبة، وليس فيها كلام مُحرَّم، وبالحكايات التي تُناسب المقام، يعني: يتوسَّع معهم ويتبسَّط مع إخوانه أكثر مما يتبسَّط مع غيرهم.
لهذا؛ نُقل عن الشافعي أنه قال: إن الوقار في البستان مخالف للمروءة. يعني: كون الإنسان يكون وقورًا في البستان.
ومن ذلك البَرِّيَّة ونحو ذلك، يقول: هذا مخالف للمروءة، فمثل هذه الأمور ينبغي أن يتبسَّط فيها الإنسان أكثر مما يتبسَّط في غيرها إذا كان معه أصدقاؤه وإخوانه.
إِطعام السائل
هذا إذا كان الإنسان يأكل مع غيره.
أنت دُعيت لوليمة، وأتى إنسان يسأل طعامًا، فهل يجوز لك أن تذهب وتُعطيه من طعامِ غيرك؟ يقول: (في جوازه وجهان)، والأظهر هو الجواز، كما قال ابن مفلح في “الفروع”.
ومثل ذلك أيضًا: كونك تُطعم الهِرَّ؛ دُعيت لوليمة ثم أتى هِرٌّ فأطعمته طعامًا ليس لك، لو كان لك ليس فيه إشكال، لكن أنت مَدْعُوٌّ.
فالأقرب أن هذا لا بأس به؛ لأن هذا مما يُتسامح فيه، ومِن أهل العلم مَن قال: إن الأدب هو الكفُّ عن هذا؛ لما في ذلك من إساءة الأدب مع صاحبه ببعض التصرف من غير إذْنٍ صريح.
وهنا: إذا كان يعرف مِن صاحبِه الإذنَ في هذا والتسامح نقول: لا بأس بذلك. أما لو كان يعرف مِن صاحبه أنه يكره مثل هذا فنقول: الأولى ترك ذلك، حتى إن بعض الفقهاء يقول: إنه لا يجوز ذلك؛ لأن الأصل أن طعام غيره محترم، ولا يجوز أن يتصرَّف فيه إلا بإذنٍ صريح منه.
لكن، في الوقت الحاضر وفي عُرْفنا جرى التسامح في مثل هذا، فلا بأس به.
الحمد بعد الطعام والشراب
قال:
يعني: إذا فرغ من الطعام والشراب؛ لقول النبي إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبة فيحمده عليها. رواه مسلم[40].
السُّنة إذا فرغ الإنسان من الطعام والشراب أن يقول: الحمد لله.
قال:
وذلك لحديث معاذ بن أنس أن النبي قال: من أكل طعامًا، فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورَزَقَنِيه من غير حول مني ولا قوة؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه. وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه[41]، ومن أهل العلم من ضعَّفه، ومنهم من حسَّنه، والأقرب فيه الضعف؛ لهذا قال الترمذي: “إنه غريب”، إذا قال الترمذي: “غريب” يقصد بذلك أن يُشير إلى الضعف، فهو حديث ضعيف. لكن يقتصر على قول: “الحمد لله”.
لكن جاء في “صحيح البخاري” أنه يقول: الحمد لله كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، غير مَكْفِيٍّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُسْتَغْنًى عنه، ربَّنا[42]. فإن أتى بهذه الصيغة أحيانًا فهذه قد وردت بها السُّنة.
الدعاء لصاحب الطعام
قال:
السُّنة أن الإنسان إذا أتى إلى وليمة، أو طَعِم عند أحدٍ طعامًا، إذا فرغ من ذلك أن يدعو له.
وقد جاء في حديث عبدالله بن بُسْرٍ: أن النبي لمَّا أكل عندهم طعامًا، قال: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم. رواه مسلم[43]. وهذا أصح ما ورد في ذلك: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم.
وجاء في حديث أنس أن النبي قال: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصَلَّت عليكم الملائكة. هذا الحديث رواه أبو داود[44]. وقال ابن الملقن في “البدر المنير”: إنه صحيح. وأيضًا كذا قال الحافظ ابن حجر في “التلخيص الحبير”: إنه حديث صحيح. هذا أيضًا مما ورد.
مداخلة: …..
الشيخ: يعني: هل هذا خاص بما إذا أفطر الصائمون؟ نعم، الذي يظهر أن هذا خاصٌّ؛ لأنه قال : أفطر عندكم الصائمون، إذا أفطر.
فهذا يدل على أن هذا خاص بالصيام، لكن الحديث الأول هو أصح -كما ذكرنا- وأثْبَت، وأيضًا عموم الحديث: مَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له[45]. فهذا يدل على أنه ينبغي الدعاء له.
وجاء في حديث جابر رضي الله عنهما عند أبي داود، في قصة الهيثم بن التَّيِّهان لمَّا صنع للنبي طعامًا، فلما فرغوا قال : أثيبوا أخاكم. قالوا: يا رسول الله، ما إثابته؟ قال: إن الرجل إذا دُخِلَ بيتُه فأُكِل طعامه وشرابه، فدَعَوْا له؛ فذلك إثابته. هذا قلنا: في “سنن أبي داود” لكنه ضعيف[46].
لكن -كما ذكرنا- عموم حديث: مَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجد ما تكافئونه فادعوا له[47]، وأيضًا حديث: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم[48]. يدل على أن هذا مشروع.
ويمكن أن تأتي بأيَّة عبارة؛ كأن تقول: “كثَّر الله خيركم” مثلًا، أو “أنعم الله عليكم”، أو نحو ذلك، بأيَّة عبارة فيها الدعاء لصاحب الطعام.
وينبغي أن يُعوِّد الإنسانُ نفسَه على أن يُكافئ مَن أسدى إليه معروفًا، ولو بتقديم طعام إليه، فإن لم يجد ما يُكافئه فيدعو له، ينبغي أن يُعوِّد الإنسان نفسه على هذا، كان هذا هو هدي النبي .
حكم التبرك بآثار الصالحين
قال:
قالوا: لحديث أبي أيوب : كان رسول الله إذا أُتِيَ بطعام أكل وبعثَ بفَضْله إليَّ، فيسأل أبو أيوب عن موضع أصابعه، فيتتبَّع موضع أصابعه. رواه مسلم[49].
ولكن هذا خاص بالنبي ، وما ذكره المؤلف ليس بصحيح، التبرُّك بآثار الصالحين غير مشروع، إنما هذا خاص بالنبي ، هو الذي يُتبَرَّك بآثاره، فأما غير النبي عليه الصلاة والسلام فلا يُقاس عليه.
ولهذا؛ لم يكن الصحابة يتبرَّكون بآثار أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا بقية الصحابة ، ولم يفعل ذلك التابعون، ولا تابعو التابعين، وإنما حدث هذا فيما بعدهم.
فالصواب: أن هذا أنه منكر، وأن هذا غير مشروع، هذا إنما تفعله بعض الفرق المنحرفة، الصوفية مثلًا، لكنه تسرَّب إلى بعض الفقهاء فذكروا ذلك، وأنه كان يُنَصُّ على استحباب هذا، لكن الصواب: أن التبرُّك بآثار الصالحين غير مشروع بل هو منكر، وأن التبرُّك بالآثار خاصٌّ بالنبي . هذا هو الصواب، فيكون هذا الصواب بخلاف ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
إعلان النكاح، والضرب فيه بدُفٍّ
قال:
إعلان النكاح يُسَنُّ، وقد نقول: إنه يُشترط على رأي بعض العلماء، كأبي العباس ابن تيمية يرى أنه من شروط النكاح. وسبق معنا: هل يُشترط شهادة شاهدين، أو أنه يُشترط مجرد إعلان النكاح؟ وأن أبا العباس ابن تيمية يرى أن المُشترَط هو إعلان النكاح.
لكن مراد المؤلف المبالغة في الإعلان، ليس الإعلان الذي يكون عند العقد، وإنما الإعلان الذي يكون عند الدخول، فإن هذا سنة، وكذلك الضرب فيه بالدُّفِّ، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالغربال. رواه ابن ماجه لكنه ضعيف من جهة الإسناد[50].
وجاء في الحديث الآخر: فصلُ ما بين الحلالِ والحرامِ الدُّفُّ والصوتُ في النكاحِ. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، لم يروه أبو داود، وقال الترمذي: “إنه حديث حسن[51].
فإذن؛ الأحاديث الواردة تدل على أن الضرب بالدُّفِّ عند النكاح مستحب؛ لما فيه من إعلان وإشهار النكاح. وإعلان وإشهار النكاح قد وردت السنة به، لكن هذا إنما يكون بالدُّفِّ خاصَّة؛ ولهذا قال:
والصُّنُوج: هي ما يُجعل في إطار الدُّفِّ من النحاس.
والفرق بين الدُّفِّ وبين الطَّبْل: أن الدُّفِّ يكون من جهة واحدة، يكون الرَّقُّ فيه من جهةٍ واحدة، لا يكون من الجهتين، أما الطبل فيكون من الجهتين.
ومعلوم أن وَقْع الطَّبْل أقوى، فيه من صوت الموسيقى ما هو أشد؛ ولذلك يختلف حكم الطبل عن حكم الدُّفِّ.
حكم ضرب الدف في الأعراس
وهل هذا خاص بالنساء أو يشمل الرجال؟ قال:
هكذا قال المؤلف: أن ضرب الدُّفِّ في العُرس يُسَنُّ للنساء، وهذا محل اتفاقٍ أنه مسنون للنساء.
لكن قوله: (ويُكرَه للرجال) هذا محل خلاف، قال ابن مفلح في “الفروع”: وظاهر نصوص الإمام أحمد هو التسوية بين النساء والرجال. قال: وهو ظاهر النصوص، التسوية. يعني: أنه يُسَنُّ ضربُ الدُّفِّ للرجال كما أنه يُسَنُّ للنساء.
وهذه المسألة كما ذكرنا -يعني: ضرب الدُّفِّ للرجال في العُرس- مما اختلف فيه أهل العلم:
فمِن أهل العلم مَن قال: إن ذلك خاصٌّ بالنساء، وإنه يُكره في حقِّ الرجال؛ قالوا: لأن الغالب أن الذي يفعل ذلك هو النساء؛ ولأن ضرب الرجال للدُّفِّ فيه تشبُّهٌ بالنساء؛ لأنه من خصائص النساء.
والقول الثاني في المسألة: إنه للرجال: إما مباح أو مسنون؛ وذلك لأن الأصل هو عموم الأدلة؛ ولأن المقصود هو إعلان النكاح. قالوا: وإعلان النكاح بالدُّفِّ للرجال أبلغُ من إعلانه بدُفِّ النساء، إعلان النكاح بِدُفِّ الرجال أبلغ من إعلانه بِدُفِّ النساء، لماذا؟
قالوا: لأن النساء إذا ضَرَبن الدُّفَّ فإنما يفعلن ذلك في موضعٍ مغلق، بخلاف الرجال فإنهم عندما يضربون الدُّفَّ فيكون ذلك في الغالب في موضع بارز، فهو أبلغ في الإعلان.
وهذا هو ظاهر المنصوص عن الإمام أحمد، وأيضًا ذكر ذلك صاحب “منتهى الإرادات”، فظاهره أنه لا فرق بين الرجال والنساء.
وهذا هو القول الراجح: أنه يجوز للرجال ضرب الدُّفِّ، لكن القول بالاستحباب للرجال -يعني- محل نظر؛ الأقرب أنه سنة للنساء مباح للرجال، فمَن ضرب الدُّفَّ من الرجال، لو اجتمع رجال وأرادوا أن يضربوا الدُّفَّ في الزواج فلا نُنْكِر عليهم، وبالنسبة للنساء نقول: إن ذلك مستحب.
وإنما فرَّقنا بين الرجال والنساء؛ لأن الظاهر من حال الناس في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي يضرب الدُّفَّ النساء، وأنه لم يكن الرجال يفعلون ذلك؛ فلذلك خصَّصنا الاستحباب بالنساء. لكن، لمَّا كان المقصود هو الإعلان قلنا بالإباحة أيضًا للرجال.
ولكن كما ذكرنا: إن الحكم خاصٌّ بالدُّفِّ، وأما الطبل فيبقى على الأصل، الأصل أن هذه الأمور كلها محرمة، هذا هو الأصل، الطبل والدُّفُّ وكلُّ ما شابهها من الآلات الموسيقية والمعازف الأصل فيها التحريم، إلا ما ورد النص باستثنائه، ومما ورد النص باستثنائه: ضرب الدُّفِّ في العُرس.
ومما يدل على أن الأصل هو التحريم: ما جاء في الصحيحين أن جاريتين كانتا تضربان بالدُّفِّ في بيت النبي ، وكان ذلك يوم عِيد، ورسول الله مُضطجِعٌ، قد وجَّه وجهه إلى الجهة الأخرى، فدخل أبو بكر مُغضَبًا، وقال: أمَزْمور الشيطان في بيت رسول الله ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: دعهما يا أبا بكر، إن لكلِّ أمة عِيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام[52].
أنا أريد الآن أن أستنبط وجه الدلالة على أن الأصل في الدُّف التحريم، مَن يذكر لنا وجه الدلالة؟
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، أحسنت.
أن أبا بكر فهم أن الدُّفَّ من مزامير الشيطان، وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الفهم، لكنه أخبر أن هذه حالة مستثناة، وهو كونه يوم عيد.
فهذا يدل على أن الأصل في هذه كلها هو التحريم؛ ولذلك ضرب الدُّفُوف في الأناشيد -ما يُسمَّى بالأناشيد- لا يجوز؛ لأن الأصل في الدُّفِّ أنه محرم، إلا فيما ورد النص باستثنائه.
إذن؛ هذه الحالة التي يجوز فيها ضرب الدُّفِّ، وذكر المؤلف أيضًا حالة أخرى، قال قبل ذلك:
قصائد التشبُّب بالنساء في الأعراس
يعني: يأتي بقصائد فيها نوعٌ من الغَزَل، يعني: الغَزَل هو التشبُّب بالنساء ونحو ذلك، ولكن هذا ليس على إطلاقه، وإنما لا بد ألا يكون الغَزَل بامرأة معينة مثلًا، وألا يكون فاحشًا، وإنما يكون يسيرًا.
ومن ذلك قول كعب:
بانَتْ سُعَادُ فقَلْبي اليوم مَتْبُولُ | …………………………………….. |
هذا في قصيدته المشهورة، قالها بحضرة النبي .
وكذلك أيضًا:
أتيناكم أتيناكم | فحَيُّونا نُحَيِّيكم |
ولولا الذهب الأحمر | لَمَا حلَّتْ بِوَادِيكم |
ولولا الحبَّةُ السوداء | ما سرَّت عَذَارِيكم |
إلى غير ذلك مما ورد[53].
الغزل إذا كان يسيرًا، ولم يكن على امرأةٍ معينة فلا بأس به، أما إذا كان فاحشًا أو كثيرًا أو كان بامرأة معينة فإن هذا لا يجوز.
ضربُ الدُّفِّ في الخِتان وقُدُوم الغائب
قال:
يعني: هذا مما يجوز، من الحالة التي تُستثنى، ولكن هذا يحتاج إلى دليل، ليس هناك دليل ظاهر يدل على ذلك.
لهذا؛ الصواب أنه لا يجوز ضرب الدُّفِّ في الختان، الصواب أن ذلك لا يجوز؛ لعدم وجود الدليل الذي يدل على هذا.
قال:
أي: إنه يجوز ضرب الدُّفِّ عند قدوم الغائب؛ وذلك لقصة المرأة التي أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك أن أضرب الدُّفَّ عند رأسك. فقال عليه الصلاة والسلام: أَوْفِي بنَذْرِكِ. فدخل أبو بكر وهي تضرب الدُّفَّ، ثم دخل عليٌّ، ثم دخل عثمان، ثم لما دخل عمر لم تضرب الدُّفَّ بل جعلته في الأرض وقعدت عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان لَيَفِرُّ منك يا عمر[54].
فاستدل بهذا كثيرٌ مِن أهل العلم على أنه يجوز ضرب الدُّفِّ عند قدوم الغائب. ولكن، هل هذا على إطلاقه عند قدوم أيِّ غائب؟
من أهل العلم مَن قال: إنه على إطلاقه. ومنهم من خصَّه فقال: إنه إذا كان هذا الغائب له جاهٌ، إذا كان إنسانًا وجيهًا، وله جاهٌ وشرف ورتبة؛ كأمير أو وزير أو نحو ذلك. ورجَّح هذا الشيخُ محمد ابن عثيمين رحمه الله، وقال: لأن هذا خرج من العموم، والأصل أن ما خرج عن العموم فيجب أن يتقيَّد بما قُيِّد به من حيث النوع والوصف والزمان والمكان.
فالأصل في الدُّفِّ أنه محرم، فما دام أنه ورد في هذه الحالة فنُقيِّدها كما وردت، فيكون إذن ليس عند قدوم أيِّ غائب، وإنما قدوم الغائب الذي له جاهٌ كالسلطان أو الأمير، أو نحو ذلك.
إذن؛ هذه الحالة الثانية: ضرب الدُّفِّ.
والحالة الثالثة في العيد. طيب، في العِيد للرجال أو للنساء، أو للرجال والنساء؟
نرجع للحديث: إن لكل أمة عيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام[55]، فالنبي عليه الصلاة والسلام علَّل بكونه عِيدًا، فهذا يدل على أنه للجميع؛ للرجال والنساء.
ولكن، إذا نظرنا للواقع، نجد أن المخالفات تأتي من جهة استبدال الدُّفِّ بأي شيء؟ بالطبلِ، الطبلُ مُحرَّم، الأصل فيه التحريم، إذا كان الأصل في الدُّفِّ التحريم فمن باب أولى الطبل.
ولهذا؛ جاء في “سنن أبي داود” بسند جيد: أن النبي قال: إنَّ اللهَ حرَّم الخمرَ والمَيْسِرَ والكُوبَةَ[56]. والكُوبة: هي الطَّبْل.
فلو أنه مثلًا في العرضات التي تُقام، لو قيل لهؤلاء: استبدِلوا الطبول بالدُّفِّ؛ لكان ذلك جائزًا، يعني: ضرب مثلًا العرضات التي تكون في الأعياد، لو وُجِّه هؤلاء بأن يستبدلوا الطبول بالدُّفوف لكان هذا جائزًا ولو كان ذلك للرجال.
وهكذا عند قُدُوم -مثلًا- غائب له جاهٌ، لو قيل لهم: استبدلوا هذه الطبول بالدُّفوف، فلو أنه عُدِّل وضع هذه العرضات، لكان القول بالجواز هنا مُتَّجِهًا إذا استبدلوا الطبل بالدُّفِّ.
لكن الغالب على العرضات الموجودة الآن أنها تكون بالطبول، وإذا كانت بالطبول فإنه لا يجوز المشاركة فيها، ولا حتى حضورها أو مشاهدتها؛ لأن الأصل في الطبل أنه محرم، كما أن الدُّفَّ الأصل فيه أنه من مزامير الشيطان، إلا ما ورد النص باستثنائه.
باب عِشرة النساء
ثم قال المؤلف:
كنا نود أن ندخل في هذا الباب، على كلِّ حالٍ نُرجِئُه للدرس القادم، فنكتفي بهذا القدر.
إذن، إن شاء الله تعالى ستتضح الرؤيةُ الدرسَ القادمَ والذي يليه، ثم يتوقف الدرس؛ فإن شاء الله نأخذ ما تيسر من (عشرة النساء)، وكذلك (الخلع)، ونقف عند (كتاب الطلاق) إن شاء الله تعالى.
نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، هو ورد في “صحيح مسلم” أنَّ مَن شرب قائمًا فَلْيَسْتَقِئْ، أنه نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الشرب قائمًا، وقال: من فعل ذلك فَلْيَسْتَقِئْ[57]. لكن الحديث ضعيف، وإن كان في “صحيح مسلم” إلا أن الحُفَّاظ حكموا عليه بالضعف.
ولكن، السنة أن يشرب وهو قاعد، وقد ورد أن النبي شرب ماء زمزم وهو قائم، فإذا شرب قائمًا لا حرج، لكن الأفضل أن يشرب وهو قاعد، هذا هو الأفضل.
مداخلة: …..
الشيخ: على كلِّ حالٍ، الدُّفُّ يختلف عن الطبل، تستعين بأهل الخبرة في هذا للتمييز بين هذا وهذا، أهل الخبرة يعرفون أن ضرب الدُّف غير ضرب الطبل، ومن باب أولى الآلات الموسيقية بجميع أنواعها محرمة، الموسيقى بجميع أنواعها محرمة.
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا يقول: قوله : أما أنا فلا آكل مُتَّكِئًا رواه مسلم[58]، يقول بعض أهل العلم: إن هذا إخبار منه عن حاله، ولا يُريد منه الكراهة.
الشيخ: نعم، هذا صحيح، لكن للمعاني التي ذكرناها:
أولًا: أن هذا خلافُ هَدْيِ النبي .
ثانيًا: أن قوله: أما أنا فلا آكُل مُتََكِئًا فيه إشارة إلى أن الأكل مُتَّكِئًا يُخالف هدي النبي عليه الصلاة والسلام؛ كأنه يقول: أما أنا فهذا هَدْيي، فالأكل مُتَّكِئًا خلاف هَدْيي.
ولذلك؛ نحن لم نجزم بالتحريم؛ لأنه ليس هناك دليل صريح يدل على التحريم، لكن هذه العبارة تدل على أن هذا هو هَدْي النبي عليه الصلاة والسلام، وأن خلاف ذلك هو مكروه.
ثم أيضًا فيها مشابهة لفعل المتكبرين، وفيها نوع من الاستخفاف أيضًا، كل هذه المعاني جعلت جمهور أهل العلم يقولون بالكراهة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: قال: المؤلف: (ويأكل ويشرب مع العلماء بالتعلم) نرجو شرح ذلك؟
الشيخ: نعم، هذه فاتت علينا، نُنَبِّه عليها.
يعني: إذا كان مع العلماء يتعلَّم منهم، يطرح عليهم الأسئلة والاستفسارات ونحو ذلك، ويتأدَّب بآداب طالب العلم، فلكُلِّ مقامٍ مقال، إذا جلس مع أبناء الدنيا هذا له مقام، وإذا جلس مع أهل العلم له مقام، وإذا جلس مع أصدقائه وأصحابه له مقام.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ألا نستطيع أن نقول: إن فِعل إبراهيم هو مِن شَرْع مَن قبلنا، وهو مخالفٌ لشرعنا، حيث إنه ورد في الحديث: “نُهِينا عن التكلُّف”[59]؟
الشيخ: نعم، الله تعالى ذَكَره على وجه الثناء عليه.
وقصة سلمان: أولًا مِن أهل العلم مَن ضعفها من جهة السند. ثانيًا: على تقدير ثبوتها، أتى بلفظ: “نُهينا”، ولم يأتِ بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون فهمًا فهمه سلمان ، فلا يُعارَض به ما ذكره الله تعالى في القرآن.
وعندنا قاعدة: أنه عند التعارض في فهم النصوص، يُقدَّم الأصح والأصرح دلالة.
ولا شك أن دلالة الآية القرآنية صريحة وظاهرة في الكرَم العظيم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وذكر ابن القيم لها عدة وجوه:
أولًا: أنه انْسَلَّ خُفْية. وهذا أبلغ في إكرام الضيف. ثم أتى بعجل، وهو في زمن إبراهيم مِن أفضل ما يُقدَّم للضيف. ثم هذا العجل سمينٌ، فَعَل به أحسن ما يُفعل للضيف، وهو أنه قام بشَوْيِه حَنِيذٍ [هود:69]. ثم قرَّبه إليهم، وهذا أبلغ في الكرم، كونك تُقرِّب الطعام للضيف يقولون: أبلغ في الكرم مِن أن تقول للضيف: “تفضل”.
يعني بعض الناس مثلًا يضع هذا الأكل المفتوح، ثم يقول للناس: “تفضَّلوا”. الأفضل والأبلغ في الكرم أنك تأتي بالطعام وتُقدِّمه للضيف.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:27]، فذكر الله تعالى هذا عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام على وجه الثناء عليه. فدل ذلك على مشروعية مثل هذا.
وكما ذكرنا؛ قصة سلمان لا يُعارَض بها هذا الشيء الصريح.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ألا نقول بمنع الدُّفِّ للرجال سدًّا للذريعة؟ لأنه يغلب على الظن تجاوز الحدود الشرعية مِن تمايل ورقص؟
الشيخ: نعم، هذا قولٌ له وجهٌ الحقيقة؛ لأننا إذا نظرنا إلى واقع الناس الآن: هل سيقتصر الرجال على الدُّفوف لو أَذِنَّا لهم؟ الغالب أنهم يتجاوزون، يحصل تجاوز، لن يقتصروا على الدُّفوف.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، فهذا القول الذي ذكره الأخ السائل له وجه، إذا كان مثلًا القول بالجواز يُؤدِّي إلى الوقوع في الحرام، وأن الناس لن يتقيَّدوا، وتَعرف أن هؤلاء الجماعة لو قُلْتَ لهم: إنه يجوز؛ فلن يتقيَّدوا بل سيأتون بالطبول، وربما أتوا بآلات موسيقية، وربما صاحَبَ ذلك أمور منْكَرة؛ فهنا القول بالمنع له وجه.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: نرى مِن بعض الشباب في أيام العيد مَن يُطبِّل على أبواب السيارات، فهل يكون له حكم الدُّف أم الطبل؟
الشيخ: لكن هل يُطبِّل على أبواب السيارة على وجه الطَرَب؟
مداخلة: أو الطاولات.
الشيخ: لكن، هل هو على وجه الطَّرَب، أو أنه مجرد فقط أمر غير مقصود؟ تحتاج مزيد تأمل.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: قلتم -حفظكم الله- لا يجوز التعيين في الغَزَل، مع أن كعب بن زُهَيْر قال: “بانت سعاد”، فما رأيكم؟
الشيخ: نعم، لكن هل كعب يقصد امرأة معينة بعينها، أو أنه يقصد محبوبته عمومًا؟ الظاهر هو الثاني، يقصد محبوبته عمومًا.
أما قصد امرأة معينة؛ معنى ذلك: أنه يتشبَّبُ بامرأة لفعل الحرام معها؛ لأنها امرأة معينة، كأنه يُريد أن يقع بها، أو يتشبَّب بفعل امرأة معينة ليقع في الحرام، وربما يبلغ هذه المرأة وتسمع مِن هذا الكلام؛ فيكون ذلك ذريعة للوقوع في الحرام، والوقوع في الزنا.
أما إذا كانت امرأة غير معينة، أو يأتي باسم عام من الأسماء وكان يسيرًا؛ فلا بأس به.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: في قول الشارح: “أتيناكم أتيناكم”، هل يثبت هذا الشعر عن النبي ، مع أن النبي منفيٌّ عنه الشعر؟
الشيخ: هو لا يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام أنشأ هذا الشعر، لكن هم قالوا له: ماذا نقول؟ قال: قولوا مثل أتيناكم أتيناكم[60]. على أن في إسناده مقالًا أيضًا.
لكن، على تقدير صحته فيُحمل على هذا؛ فكأنه يقول عليه الصلاة والسلام: قولوا بقول الشاعر: أتيناكم أتيناكم. وليس هذا من إنشاء النبي .
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما صحة إمامة المرأة للرجال الذين لا يُحسنون القراءة؟ وما صحة حديث أم ورقة رضي الله عنها: أن النبي قال لها: “قَدِّمي الرِّجالَ أمامكِ، وقومي خلفهم فصَلِّي”؟
الشيخ: قصة أم وَرَقة في سندها مقال[61]؛ مِن أهل العلم مَن ضعفها عند “أبي داود”، ومنهم مَن حسَّنها.
ولكن، إمامة المرأة للرجال في صلاة الفريضة لا تصح، حتى ولو كانوا لا يُحسنون القراءة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: لن يُفلِح قومٌ ولَّوْا امرهم امرأة[62]. حُكي هذا إجماعًا، وقيل: إن الخلاف في ذلك خلاف شاذ.
السؤال: أحسن الله إليكم. السؤال الأخير يقول: ينتشر في الأسواق منتجات جلدية؛ كحقائب وأحذية ونحوها، مأخوذة من جلد الثعابين أو جلود السباع، فهل يجوز شراؤها واستعمالها؟
الشيخ: إذا كانت من جلود طبيعية فإنه لا يجوز؛ لأن النبي نهى عن جلود السباع، وصح النهي عنه، سواء كانت من ثعابين، أو نمور، أو غير ذلك.
أما إذا كانت من جلود صناعية، وتُسمَّى “جلود سباع” فلا بأس، فإن العبرة بالحقيقة، وليست العبرة بالاسم.
ومِن ذلك أيضًا الحرير، فإنه أحيانًا يُسمَّى “حريرًا” وهو حرير صناعي، فهنا يجوز للرجال لُبْسه، إنما الممنوع الحرير الطبيعي، الذي يكون مِن دود القَزِّ، وهذا في الوقت الحاضر نادر، وثمنه غالٍ وباهظ.
فإذن؛ إذا كانت جلودًا طبيعية فنقول: لا يجوز؛ للنهي عن جلود السباع، لكن بشرط التحقُّق من كونها جلودًا بالفعل طبيعية للسباع أو الثعابين ونحوها.
طيب، يوجد أسئلة شفهية؟
مداخلة: …..
الشيخ: خلاف الأولى، الأكل واقفًا أو الشرب قائمًا خلاف الأولى، حتى القول بالكراهة يحتاج إلى دليل ظاهر.
وقلنا: الحديث الذي في “صحيح مسلم” في النهي عن الشرب قائمًا: ومن شرب فليستقئ [63] قلنا: ضعيف، حَكَم الحُفَّاظ بنكارته.
فنقول: السُّنةُ الأكل والشرب جالسًا، أما الأكل والشرب قائمًا فهو خلاف الأولى.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، العِيد، يعني: إذا كانت المناسبة مرتبطة بالعيد فلا بأس؛ لأن في قصة الجاريتين اللتين تضربان الدُّفَّ[64]، كان في أيام التشريق، لم يكن في نفس يوم العيد، كان ذلك في أيام التشريق.
فإذا كان ضرب الدُّف مرتبطًا بمناسبة العيد فلا بأس به، وهكذا أيضًا إذا كان ضرب الدُّف مرتبط بمناسبة الزواج، يعني: أحيانًا يكون ضرب الدُّف في اليوم الثاني أو الثالث، فهنا نقول: لا بأس به، المهم أن يكون مرتبطًا بمناسبة الزواج.
مداخلة: …..
الشيخ: حياة العلم المذاكرة، لا بد أن طالب العلم يراجع ما قيَّده وما كتبه في هذه الدروس؛ لأنك إذا لم تُراجع فإنك تنسى، وطريق المراجعة الآن: إما بالكتابة، وإما أن يكون ذلك بطريق استماع الشريط المسجَّل. فإما أن يكون بهذه الطريقة أو بتلك، حتى ترسخ المعلومات في الذهن؛ لأن الإنسان إذا لم يتعاهد ما أخذه فإنه سرعان ما ينساه، لكن إذا كرِّره وذاكره فإنه يستقر في الذهن.
وبالمناسبة، إذا كان أحدٌ عنده مقترح لطريقة معينة للمراجعة نسلكها مثلًا بعد استئناف الدرس، يعني بعد الإجازة الصيفية، فنرحب بهذا، إذا كان هناك مقترحات فنرحب بجميع مقترحات الإخوة فيما يتعلق بالدرس أو مذاكرة الدرس، أو مثلًا وضع مسابقة أو نحو ذلك، كل هذه مما نرحب بها.
والله تعالى أعلم، وهو الموفِّق والمستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 5177، ومسلم: 1432. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 3741. |
^3 | رواه البخاري: 1597، ومسلم: 1270. |
^4 | رواه أحمد: 2795، والترمذي: 877، والنسائي: 2935. |
^5 | رواه أحمد: 2215، والترمذي: 961، وابن ماجه: 2944. |
^6 | رواه أحمد: 23732، وأبو داود: 3761، والترمذي: 1864. |
^7, ^9, ^13, ^19 | رواه البخاري: 5376، ومسلم: 2022. |
^8 | رواه أحمد: 25106، وأبو داود: 3767. |
^10 | رواه أحمد: 25106، وأبو داود: 3767، والترمذي: 1858. |
^11 | رواه مسلم: 2017. |
^12, ^26, ^33, ^47, ^48, ^55, ^60, ^63, ^64 | سبق تخريجه. |
^14 | رواه البخاري: 5398. |
^15 | رواه أبو داود: 3773، وابن ماجه: 3263. |
^16 | رواه مسلم: 2044. |
^17 | رواه مسلم: 2032. |
^18 | رواه أحمد: 17186، والترمذي: 2380، وابن ماجه: 3349. |
^20 | رواه مسلم: 2020. |
^21 | رواه مسلم: 2021. |
^22 | رواه مسلم: 2034. |
^23 | رواه مسلم: 2033 |
^24 | رواه البخاري: 3798. |
^25 | رواه مسلم: 300. |
^27 | رواه الديلمي في “زهر الفردوس”: 1175. |
^28 | رواه الطبراني في “الكبير”: 13065، وأبو نعيم في “الطب النبوي” 331. |
^29 | رواه ابن أبي شيبة في “مسنده”: 13، والطبراني: 4061، وأبو نعيم في “الطب النبوي”: 330. |
^30 | رواه أحمد: 8838، وأبو داود: 35، وابن ماجه: 337. |
^31 | رواه أحمد: 1907، وأبو داود: 3728، والترمذي 1888. |
^32 | رواه مسلم: 2028. |
^34 | رواه أحمد: 2730، وأبو داود: 3772، والترمذي: 1805. |
^35 | رواه أبو داود: 3773، وابن ماجه: 3275 |
^36 | رواه البخاري: 5398. |
^37 | رواه البخاري: 6273، ومسلم: 87. |
^38 | رواه أحمد: 17186، والترمذي: 2380، وابن ماجه: 3349. |
^39 | رواه البخاري: 6452. |
^40 | رواه مسلم: 2734. |
^41 | رواه أحمد: 15632، وأبو داود: 4023، والترمذي: 3458، وابن ماجه: 3285. |
^42 | رواه البخاري: 5458. |
^43 | رواه مسلم: 2042. |
^44 | رواه أحمد: 12406، وأبو داود: 3854. |
^45 | رواه أحمد: 5365، وأبو داود: 5109، والنسائي: 2567. |
^46 | رواه أبو داود: 3853. |
^49 | رواه مسلم: 2053. |
^50 | رواه الترمذي: 1089، وابن ماجه: 1895. |
^51 | رواه أحمد: 15451، والترمذي : 1088، والنسائي: 3369، وابن ماجه: 1896. |
^52 | رواه البخاري: 949، ومسلم: 892. |
^53 | رواه أحمد: 15209، وابن ماجه: 1900. |
^54 | رواه الترمذي: 3690. |
^56 | رواه أحمد: 2476، وأبو داود: 3696. |
^57 | رواه مسلم: 2026. |
^58 | رواه البخاري: 5398 |
^59 | رواه البخاري: 7293 |
^61 | رواها أحمد: 27283، وأبو داد: 592. |
^62 | رواه البخاري: 7099. |