عناصر المادة
تتمة شروط صحة النِّكاح
في درس الفقه، كنا قد وصلنا إلى الشرط الرابع من شروط صحة النِّكاح: وهو شرط الشهادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
الشرط الرابع: الشهادة
اختلف العلماء في هذا الشرط: هل هو شرط أو ليس بشرط؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: إن الشهادة شرط لصحة النكاح، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة.
- والقول الثاني: إن الشهادة ليست شرطًا لصحة النكاح، وهذا هو مذهب المالكية.
- والقول الثالث: إنه يشترط إما الإشهاد أو الإعلام، إما الإشهاد أو الإعلام. وهذا قول للحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أما الجمهور الذين اشترطوا هذا الشرط فاستدلوا بحديث: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل. وهذا الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي[1]، وأحمد[2]، وفي سنده مقال، له طُرُقٌ، لكن جميع طُرقه واهية، ولا يصح وإن كان بعض المحدثين حسَّنه، لكن جميع طُرقه واهية.
وذكروا أيضًا آثارًا، استدلوا بأثار عن بعض الصحابة؛ كعمر وابن عباس وعلي .
وأيضًا قالوا: إن اشتراط الشهادة في النكاح آكَدُ من اشتراطها في البيع؛ لأن النكاح يتعلَّق به حقُّ غير المتعاقدين وهو الولد؛ لئلا يجحده أبوه فيضيع نَسَبُه، بخلاف البيع.
أما أصحاب القول الثاني وهم المالكية فقالوا: إن الشهادة ليست بشرط، واستدلوا بعموم قول الله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، ولم يذكر الله تعالى الشهادة.
وأيضًا أن النبي تزوَّج صفية رضي الله عنها، وكان لما تزوَّجها قالوا: لا ندري هل يتزوجها رسول الله أم يجعلها أمَّ ولد؟ فلما أراد أن يركب، أَمَرَها بالحجاب، فعلموا أنه تزوَّجها، قالوا: ولم يعرفوا أنه تزوَّجها إلا بالحجاب[3]؛ مما يدل على عدم اشتراط الإشهاد في عقد النكاح، لو كان النبي تزوَّجها لَأشَهَد شاهدين، ولانتشر الخبر. وقد أشكل على الصحابة : هل تزوَّج صفية رضي الله عنها أم لا؟
ولكن أُجيب عن ذلك: بأن هذا من خصائص النبي ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام من خصائصه أنه له أن يتزوَّج المرأة بدون وليٍّ ولا شهود، هذا مما ذُكِر من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
لكن أقوى دليل لهم عدم وُرُودِ دليل يدل على اشتراط الشهادة، وأن أمر النكاح من الأمور العظيمة التي يحتاج لها الناس في كلِّ زمان ومكان، فلو كانت الشهادة شرطًا لصحَّته؛ لَبَيَّن ذلك النبيُّ بيانًا واضحًا ولَاشْتُهِر ذلك.
أما أصحاب القول الثالث فقالوا: إن مقصود الشريعة هو إعلان النكاح، والحد الأدنى من الإعلان هو شهادة شاهدين، فإن شهد شاهدان فقد تحقَّق الإعلان، وإن حصل الإعلان من غير شهادة الشهود فقد حصل مقصود الشارع.
والقول الثالث هو الأقرب والله أعلم: أنه يُشترط إعلان النكاح: إما بشهادة شهودٍ وهو الحد الأدنى للإعلان، أو بإظهاره وإعلانه، فإن هذا كافٍ ولو لم يشهد شاهدان.
ولكن إذا كان وليُّ الأمر يُلزِم بشهادة شاهدين -كما مثلًا هنا في المملكة- فينبغي الالتزام بذلك؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهذه المسألة كما ترون ليس فيها أدلة صريحة وظاهرة.
وأيضًا الأصل في الأبضاع التحريم، فقول الجمهور فيه نوع احتياط، قول الجمهور فيه احتياط، لكن من حيث الدليل ليس هناك دليل ظاهر؛ لأن الحديث الذي استدلوا به -كما قلنا- ضعيف.
فالأقرب -والله أعلم- أن المقصود هو الإعلان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: أعلنوا النكاح. وأَمَرَ بضرب الدُّفِّ للنساء من أجل إعلان النكاح[4].
لكن القول -أيضًا- بأنه لا يُشترط لا إشهاد ولا إعلان؛ هذا يُخالف أصول ومقاصد الشريعة، بإمكان الرجل إذا زنا بامرأة أن يدَّعي بأنه قد تزوَّجها في السِّر؛ فينفتح بابُ شرٍّ عظيم على الناس.
ولذلك؛ فالمقصود إذن هو الإعلام، فالأقرب والله أعلم هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه لا بد إما من إعلان، وإما إشهاد.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن شروط الشهادة، أو الشروط التي ينبغي توافرها في الشاهدين:
الشروط التي ينبغي توافرها في الشاهدين
قال:
قال الإمام أحمد: “إذا تزوج بشهادة نسوة؛ لم يجز ذلك”؛ ولقول الزُّهري: “مضت السُّنة أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق”. رواه أبو عبيد.
الشرط الثاني:
أن يكونا مكلَّفين؛ أي: بالغين عاقلين.
قال:
أي: ولو كان الشاهدان رَقِيقَيْن، فلا تُشترط الحرية في الشاهدين.
وبناءً على هذا؛ فلا تصح شهادة الأخرس والأصم؛ لأنهما لا يتمكَّنان من أداء الشهادة، فالأخرس لو شهد النكاح ثم احتِيج إليه فلا يتمكَّن من أدائها فيما بعد، لا يستطيع أن يتكلم، والأصم لا يستطيع أن يسمع الإيجاب والقبول، فلا يتمكَّن من أداء الشهادة فيما بعد.
وقال بعض أهل العلم: إن الأخرس والأصم إذا كانا بصيرين ويستطيعان التعبير عن الشهادة إما بكتابة أو بإشارةٍ مفهومة فتصح شهادتهما؛ لأن الغرض من الشهادة هو الإعلان، وإنه إذا احتيِج إليهما يستطيعان التعبير عن شهادتهما. وهذا القول الأخير هو الأقرب والله أعلم.
أما أننا نمنع شهادة الأصم والأخرس فليس بظاهر، إذا كان الأخرس يستطيع أن يقرأ ويكتب، ويرى -مثلًا- كتابة العقد، ويرى توقيع الزوج والزوجة، وقد يكون له إشارة -أيضًا- مُفهِمة، وكذلك الأصم أيضًا ربما يكون يقرأ ويكتب، وأيضًا يُشير، فما المانع من قبول شهادتهما؟!
فإذن؛ الصحيح هو قبول شهادتهما، لكن إذا كانا يستطيعان التعبير عن شهادتهما بكتابة أو بإشارة مُفهِمة.
وأما الأعمى فتصح شهادته؛ لأنها شهادة على قول فقُبِلَت من الأعمى؛ كالشهادة بالاستفاضة.
فإذن؛ الصحيح أن أصحاب العاهات تصح شهادتهم جميعًا: الأعمى، والأخرس، والأصم، تصح شهادتهم جميعًا.
وأيضًا قال من الشروط: أن يكونا:
فلا تصح شهادة الكافر على النكاح، وأن يكونا عَدْلَين.
والعدالة هنا تكفي فيها العدالة الظاهرة، ولا يُشترط العدالة الباطنة.
والمقصود هنا بالعدالة الظاهرة: أنه يكفي أن يكونا مَسْتُورَيِ الحال، فلا يظهر منهما فسق، وإن لم نقبلهما في الأموال، يعني: حتى وإن لم نقبل شهادة هذين الشاهدين في الأموال، إلا أنه في النكاح يكفي أن يكونا مستوري الحال؛ وذلك لأن النكاح يكون في المدن وفي القرى وفي البوادي وبين عامة الناس. فاعتبار الشهادة ظاهرًا وباطنًا يشقُّ؛ فاكتُفي بظاهر الحال.
وبناءً على ذلك؛ لو كان الشاهد حليقًا مثلًا، هل تصح شهادته؟ تصح، نعم تصح، إذا لم يظهر منه أمر مُفسِّق فتصح شهادته.
فإذن؛ يصح إذا كانا مستورَيِ الحال، العدالة الظاهرة كافية.
حكم شهادة عمُودَيِ النَّسَب على الزواج
قال:
يعني: فلا تصح شهادة أصل الزوج، ولا فرع الزوج، لا تصح شهادة عمُودَيِ النَّسَب بالنسبة للزوجين. وهذه من المسائل المهمة.
فمثلًا؛ يكون الوليُّ هو الأب، ويطلب المأذون أن يَشهد على النكاح شهود، فيشهد إخوان الزوجة، إخوان الزوجة فرع لمَن؟ للوليِّ على كلام المؤلف؛ هل تصح الشهادة؟ لا تصح.
كذلك لو كان الزوج مثلًا أراد أن يعقد على امرأة، وشهد معه ابنه، على كلام المؤلف؛ لا تصح، أو شهد أبو الزوج؛ فلا تصح.
وأذكر قبل -تقريبًا- عشر سنوات، عمَّمت المحكمة العامة على المأذونين بعدم قبول شهادة فرع الزوج وأصله، وفرع الوليِّ وأصله.
وهذا يقودنا إلى بحث هذه المسألة بالتفصيل؛ لأهميتها، ولوقوع كثيرٍ من الناس فيها:
فأولًا: مَن لم يشترط الشهادة من الفقهاء -وهم المالكية- فلا تَرِد عندهم هذه المسألة؛ لأنهم أصلا لا يشترطون الشهادة.
لكن مَن يشترط -وهم الجمهور- اختلفوا في اشتراط هذا الشرط، واختلفوا في انعقاد النكاح بشهادة عمُودَيْ نَسَبِ الزوجين، أو عمُودَيْ نَسَبِ الوليِّ:
- القول الأول -قول المؤلف-: لا ينعقد النكاح. نبدأ بقول المؤلف، لا ينعقد النكاح بشهادة عمُودَيْ نَسَبِ الزوجين، أو عمُودَيْ نَسَبِ الوليِّ. وهذا هو المذهب عند الحنابلة كما قرَّره المؤلف، وهو قولٌ عند الشافعية.
- والقول الثاني: إنه ينعقد النكاح بشهادة عمُودَيْ نَسَبِ الزوجين، أو عمُودَيْ نَسَبِ الوليِّ. وإلى هذا ذهب الحنفية، وهو الصحيح من مذهب الشافعية.
والمالكية؟ أصلًا لا يشترطون الشهادة، المالكية غير داخلين معنا هنا.
نأتي للأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بعدم انعقاد النكاح بشهادة عمُودَيِ النَّسَب؛ قالوا: إن شهادة الابن لا تُقبل لوالده، وكذا العكس؛ وذلك للتُّهمة؛ ولقول النبي : لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة إلى قوله : ولا ظَنِينٍ في ولاءٍ ولا قرابةٍ. وهذا الحديث رواه الترمذي والبيهقي[5].
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، بالظاء ظَنِينٍ.
ومعنى: ولا ظَنِينٍ أي: مُتَّهَم في شهادته بسبب القرابة.
قالوا: والأب يُتَّهم لولده وكذا العكس؛ ولأن بين الأصول والفروع بعضيَّة، فكأن الشاهد يشهد لنفسه؛ لهذا قال النبي : فاطمة بَضْعَةٌ منِّي، يُؤذيني ما أذاها، هذا قاله لما أراد عليٌّ أن يُعدِّد، أن يتزوَّج بامرأة أخرى، النبي عليه الصلاة والسلام اعترض على عليٍّ، قال : إنما فاطمة بَضْعَةٌ منِّي، يُؤذيني ما أذاها، واللهِ لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله[6]؛ لأنه أراد أن يأخذ بنت أبي جهل، يتزوَّج بنت أبي جهل، فمنع النبي عليه الصلاة والسلام من أن يُعدِّد حتى ماتت فاطمة، فعدَّد بعدها.
ولعلَّ هذا من خصائص أيضًا بنت النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن كون الرجل يُعدِّد على امرأته يُؤذيها لا شك بدافع الفطرة، وإذا آذى فاطمة آذى أباها، وهو رسول الله ، فأشفق النبي عليه الصلاة والسلام على عليٍّ، يعني: أنه يُؤذي النبي عليه الصلاة والسلام فيلحقه شيء.
إذن؛ هذه أدلة أصحاب هذا القول.
وأما أصحاب القول الثاني الذين قالوا: إنه ينعقد بشهادة عمُودَيِ النَّسَب؛ فاستدلوا بعموم حديث: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل[7]، قالوا: هذا يشمل فروع الزوجين وأصولهما؛ ولأنه ينعقد بالفروع والأصول نكاحُ غيرِ هذا الزوج؛ ولأنهم أهلُ الشهادة؛ ولهذا انعقد بهم النكاح كسائر العدول.
والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أنه ينعقد النكاح بشهادة عمُودَيْ نَسَبِ الزوجين، أو عمُودَيْ نَسَبِ الوليِّ، هذا هو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية.
وأما قول الحنابلة أو استدلالهم بالحديث: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة[8]، فهذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد؛ لهذا قال عنه الترمذي: “إنه حديث غريب”، وعلى تقدير ثبوته فالنكاح لا تُهَمَة فيه؛ لأن كلَّ واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك، فهو عندما يشهد الشاهد في النكاح، فهل هو يشهد للزوج أو عليه؟ أو للزوجة أو عليها؟ هو يشهد له وعليه.
وأما قولهم: إن بين الأصول والفروع بَعْضِيَّةً، فنقول: إن هذا لا يمنع من قبول الشهادة، بل إن في شهادة عمُودَيْ نَسَب الزوج والولي مصالح عظيمة: من معرفة الشهود لعين المرأة، ومعرفة رضاها، وزيادة التوثق في الرضا، وانتفاء الموانع، ومعرفة واقع الحال، ثم إن فيه رفقًا وتيسيرًا بالناس، فليس هناك مانعٌ يمنع من قبول شهادة عمُودَيِ النَّسَب.
وأيهما أولى: أن يشهد أخو الزوجة الذي يعرف أخته تمام المعرفة، ويعرف رضاها، ويعرف واقع الحال، ويعرف كلَّ شيءٍ متعلِّق بالنكاح؟ أو أن نأتي بشاهد بعيد إنما يشهد فقط على الإيجاب والقبول؟ لا شك أن الأول أقرب وأعظم مصلحة.
يعني: ليس مع المانعين دليل إلا الحديث، وقلنا: إنه ضعيف، ولو ثبت فلا نُسلِّم وجود التُّهَمَة، التهمة إنما تكون في الشهادة على الأموال ونحوها، أما الشهادة على النكاح فهي في الحقيقة شهادة لمَن؟ للزوجين وعليهما؛ لأن النكاح يُثبِت لهما حقوقًا وعليهما حقوقًا.
ثم نحن أيضًا رجَّحنا أن القول الصحيح في الشهادة: هو أنه يُشترط الإعلان أو الإشهاد، حتى لو لم نعتبر شهادة عمُودَيِ النَّسَب، فمجرد إعلان هذا النكاح أمامهم كافٍ. فالقول الصحيح إذن: هو قبول شهادة عمُودَيِ النَّسَب.
وبناءً على ذلك؛ فما يفعله بعض الناس من أن إخوان الزوجة يشهدون مثلًا، والأب هو الذي يعقد: أن هذا صحيح، وأن هذا لا بأس به، وأن أبا الزوج هو الذي يشهد، أو ابن الزوج هو الذي يشهد، على القول الراجح: أن هذا صحيح ولا بأس به. إنما فقط الحنابلة هم الذين منعوا من ذلك، وعرفنا أدلتهم، وأنها أدلة ضعيفة.
مداخلة: …..
الشيخ: لكن الذي يعقد هو الولي، هذا من باب التغليب، فعمُودَا نَسَبِ الزوج يعني: أبو الزوج، وابن الزوج، وأبو الولي، وابن الولي؛ ولذلك في كتب الحنابلة يُصرِّحون بذلك، لكن هنا من باب التجوُّز في العبارة.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، لكن الذي ذكره الحنابلة هو هذا، عمُودَا نَسَبِ الزوج أو الوليِّ. لكن إذا قالوا: “الزوجين” من باب التجوُّز في العبارة.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، أخو الزوجة إذا كان الأب هو الوليُّ، فأخو الزوجة فرعٌ للأب، هو ابن الأب، أخوها؛ ولذلك نحن قلنا: إن المقصود عمُودَا النَّسَب، إذا أردنا أن نكون أكثر دقة في العبارة: عمُودَا نَسَبِ الزوج أو الوليِّ، ولا نقول: الزوج، أو الزوجة، أو الزوجين، هذا هو المصرَّح به في كتب الأصحاب، عمُودَا نَسَبِ الزوج أو الولي.
لكن قلنا: هذا لا دليل عليه، والصواب: عدم اشتراط هذا الشرط، وأن النكاح ينعقد ولو بشهادة عمُودَيْ نَسَبِ الزوج أو الولي.
مداخلة: …..
الشيخ: إذا لم يكن الولي هو أبو الزوجة، لا إشكال في ذلك حتى عند الحنابلة، إذا كان أخوها هو الولي ويشهد أخوها الثاني فلا حرج، لا إشكال عند جميع العلماء.
الإشكال إذا كان الأب هو الوليُّ ويُريد أن يشهد ابنه الذي هو أخو الزوجة، فهنا شهد الفرع، فهذا هو الذي يَرِد عليه الإشكال.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، هو كان في التنظيم السابق يمنعون كما ذكرتُ لكم، لكن لما انتقلتْ مأذونية النكاح لمحكمة الضمان والأنكحة، سكتوا عن هذا، يعني: يظهر أنهم يقبلون، يقبلون شهادة عمُودَيِ النَّسَب، لكن حكم الحاكم يرفع الخلاف، هذه قاعدة عند أهل العلم.
مداخلة: …..
الشيخ: عند الحنابلة يُخِلُّ بالعقد، عند الحنابلة ما يصح النكاح، هذا هو وجهُ الذي ذكرت لكم، يعني: التعميم، لأن يُقال: القضاء يعتمد على المذهب الحنبلي، عند الحنابلة ما يصح النكاح، عندهم أنها مسألة كبيرة وخطيرة، لكن العبرة بالدليل.
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
قال:
والموانع الآتية في (باب المحرمات في النكاح).
إما برضاع، أو مصاهرة، أو اختلاف دين.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام بعد ذلك عن مسألة مهمة، وهي: “الكفاءة في النكاح” هل هي شرط أو ليست شرطًا؟
يقول المؤلف:
الكفاءة في النكاح
“الكفاءة” من الكُفْء: وهو المِثْل في اللغة العربية، والمراد بها: أن يكون الزوج أهلًا لأن يُزوَّج.
ومِن أهل العلم مَن اعتبر الكفاءة شرطًا لصحة النكاح، وهو رواية عند الحنابلة. ومنهم من قال: إنها ليست شرطًا مطلقًا. ومنهم من قال: إنها ليست شرطًا، لكن لا يلزم النكاح إلا بها. يعني: شرطٌ في اللزوم. وهذا هو المذهب، وهو الذي مشى عليه المؤلف: أنها ليست شرطًا، لكنه لا يلزم لمن لم يرضَ بهذا النكاح مِن الزوجة أو مِن أوليائها، فتكون المسألة فيها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: إنها شرط مطلقًا.
- القول الثاني: إن الكفاءة ليست بشرط مطلقًا.
- والقول الثالث: إنها ليست بشرط، لكن النكاح يكون غير لازم إذا لم ترضَ الزوجة به، أو لم يرضَ به أحدٌ من أوليائها.
والمؤلف فرَّع على هذا القول، ثم بعد ذلك بيَّن ما الذي تُعتبر فيه الكفاءة، كان ينبغي أن يكون العكس؛ ولذلك نحن نبدأ من آخر كلام المؤلف، المؤلف لما قال:
ما هي الكفاءة؟ وبأيِّ شيءٍ تكون؟
فيم تكون الكفاءة؟
الأول:
والمراد بالدِّين هنا: أداء الفرائض واجتناب النواهي، فليس شرطًا أن يكون الزوج مؤدِّيًا لجميع الفرائض ومُجتنِبًا لجميع النواهي. وبناءً على ذلك يصح تزويج الفاسق.
لكن مِن أهل العلم مَن قال: إن الدِّين شرطٌ لصحة النكاح إذا كان الخلل من جهة العفاف؛ بأن يكون الزوج معروفًا بالزنا ولم يتُب، فإنه لا يصح أن يُزوَّج العفيفة، وهكذا لو كانت الزوجة معروفة بالزنا ولم تتب؛ فلا يصح أن يتزوَّجها العفيف؛ لقول الله : الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3].
أما ما عدا هذه المسألة فلا يُعتبر، فمثلًا لو كان الزوج يشرب الدخان، والمرأة متنمِّصة، فهل هذا يُخِلُّ بالدِّين؟ لا يُخِلُّ هذا بالدين عند عامة أهل العلم.
ولم يشترط العلماء لصحة النكاح أن يكون الزوجان عَدْلَيْنِ، ولو اشتُرِطَ هذا الشرط لَفَات النكاح على كثيرٍ من الناس؛ ولذلك فالمقصود بالدين هنا: أداء الفرائض واجتناب النواهي.
لكن ما ذكره بعض أهل العلم صحيح؛ مِن أنه إذا كان أحدهما معروفًا بالزنا ولم يتُب فلا يجوز أن يُزوَّج.
قال:
هذا هو الأمر الثاني مما تكون فيه الكفاءة: “الصناعة”، فإذا كان -مثلًا- الزوج أو من يُريد الزواج زبَّالًا، والمرأة من بيت أغنياء، فهنا يكون فيه عدم كفاءة.
الثالث قال:
فلو كان الزوج فقيرًا والمرأة غنية، فيكون فيه عدم كفاءة أو العكس.
الرابع قال:
فالحُرَّة إذا تزوَّجت العبد هنا لم تتحقَّق الكفاءة، الحرُّ يتزوَّج الحرَّة، والعبد يتزوَّج الأَمَة؛ بناءً على هذا الشرط.
الخامس:
بأن يكون هناك تكافؤٌ في النَّسَب، فإذا لم يكن هناك تكافؤٌ في النَّسَب لم تتحقَّق الكفاءة في النكاح.
فإذن؛ الكفاءة في النكاح في هذه الأمور الخمسة، وعلى الخلاف الذي ذكرناه.
والصحيح أن الكفاءة ليست شرطًا في النكاح مطلقًا، وأيضًا ليست شرطًا لا في صحته ولا لزومه. هذا هو القول الصحيح، وهو قول أكثر أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ لقول الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
ولأن النبي أمر فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن تنكح مولاه أسامة ، وفاطمة رضي الله عنها كانت من أشراف العرب قرشية، وأسامة مولى، ومع ذلك أمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تتزوَّج به لما أتت إليه تستشيره[9].
ولأن النبي عليه الصلاة والسلام زوَّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها من أشراف العرب، وزيدٌ مَوْلًى[10].
فدلَّ ذلك على عدم اشتراط الكفاءة، ومَن اشترطها فعليه الدَّليل، وليس هناك دليل ظاهر يدلُّ لذلك، اللهم إلا في مسألة واحدة، وهي المسألة التي ذكرناها، وهي ما إذا كان أحد الزوجين غير عفيف؛ بأن كان زانيًا ولم يتُب، فهنا الكفاءة مشتَرَطة.
فلو مثلًا زوَّج رجلٌ ابنته، ثم تبيَّن أنَّ الزوجَ من أصحاب الدعارة ويزني ولم يتُب، وأن هذا هو دَيْدَنُه، فهنا للمرأة أن تطلب الفسخ؛ لأن هذا النكاح ليس بلازمٍ؛ لعدم تحقُّق الكفاءة. هذه هي المسألة الوحيدة التي تُشتَرط فيها الكفاءة، وهذا أيضًا هو اختيار الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، وهو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية.
وأما اعتبار الكفاءة في هذه الأمور الخمسة، فليس عليه دليل، سواءٌ كان اعتبارها لصحة النكاح، أو حتى لِلُزوم النكاح، فليس هناك دليل ظاهر يدلُّ على اعتبار ذلك.
المؤلف فرَّع بناءً على قولٍ عند الحنابلة، وهو أن الكفاءة ليست شرطًا لصحة النكاح، لكنها شرطٌ لِلُزومه.
قال:
ويُشترط لصحة النكاح التراضي، المرأة لا بد أن ترضى أصلًا بالنكاح أولًا، لكن نفترض أنها لم تعلم أن هذا الزوج يعمل زبَّالا مثلًا، وهي من بيت أغنياء، ثم علمت بعدُ، يقولون: لها أن تطلب الفسخ ولو بعد مدة طويلة.
قال:
يقولون أيضًا: الأولياء يلحقهم العار إذا زُوِّجت قريبتهم مِن غير كُفْءٍ لها، فيقولون: لهم أن يُطالبوا بالفسخ.
وبناءً على ذلك؛ لو أن امرأة زُوِّجت رجلًا لا يُكافئها في النَّسَبِ، وبعد عشرين سنة بعدما أنجبت أولادًا أتى أحدُ أبناء عمومتها الأباعد وطلب الفسخ، بناءً على قول المؤلف: أن له الفسخ. هذا ما يُبيِّن ضعف هذا القول.
فإذن؛ يقول:
يعني: لو أن الكفاءة أيضًا زالت بعد العقد، يعني: هذا الإنسان كان مكافئًا لها مَثَلًا في المال، ثم افتقر بعد ذلك، فلها أيضًا طلب الفسخ.
هذا يُؤدِّي إلى عدم استقرار عقد النكاح، هذا قولٌ مرجوحٌ، والصواب عدم اشتراط هذا الشرط مطلقًا، إلا في مسألة واحدة: وهي إذا لم يكن الزوج كفئًا لها في الدِّين من جهةِ -يعني- الإخلال بالعفاف؛ بأن كان زانيًا، أو أنها أيضًا كانت زانية ولم يتُب أو لم تتُب. في هذه الحال لها الفسخ، أما ما عدا ذلك فليس لها الفسخ.
وليس هناك دليل لهذه التفريعات التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
لكن مع ذلك فمراعاتها أولى، حتى يكون ذلك أدعى لاستقرار النكاح؛ لأنه إذا كان هناك تفاوتٌ بين الزوج والزوجة، يُؤدِّي ذلك إلى عدم الاستقرار؛ ولذلك لمَّا تزوَّج زيدٌ زينب رضي الله عنها لم يستقر معها؛ لأنها ترى أنها قرشية ومِن سادة قريش، وزيدٌ مَوْلًى، فطلَّقها، وثُمَّ بعد ذلك تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام.
فيعني ينبغي مراعاة ذلك حرصًا على استقرار عقد الزوجية، وأيضًا درءًا للفتنة؛ لأنه -أيضًا- عند عدم التكافُؤ خاصة في النَّسَب، قد يُؤدِّي ذلك إلى الفتن العظيمة، قد يُؤدِّي حتى إلى القتل، قد يُؤدِّي إلى العقوق، قد يُؤدِّي إلى قطيعة الرحم، إذا كان يُؤدِّي إلى شيء من ذلك فينبغي ترك ذلك؛ لأن درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، أما لو كان لا يُؤدِّي لشيء من ذلك، فنقول: لا بأس به.
لكن إذا كان يُؤدِّي إلى شيء من المفاسد، أو مَظِنَّةٌ لأنْ يُؤدِّي إلى شيءٍ من المفاسد؛ فالأولى، على سبيل الأولوية فقط وليس على سبيل الشرط أو اللزوم، الأولى تَرْكه.
المحرمات في النكاح
ثم قال المؤلف رحمه الله:
المُحرَّمات في النكاح
(المحرَّمات في النكاح)؛ أي: الممنوعات، فالمُحرَّمات بمعنى: الممنوعات؛ لأن التحريم بمعنى المنع، ومنه حريم البئر؛ أي: ما دنا منها، فإنه يُمنع من إحياء ما حول البئر.
أنواع المحرمات في النكاح:
والمحرَّمات في النكاح أنواع: محرَّمات إلى أبَدٍ، ومحرَّمات إلى أمَد.
النوع الأول: المحرمات إلى أبد
المُحرَّمات إلى أبدٍ ابتدأ بها المؤلف، قال:
وهذا بالإجماع؛ لقول الله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23].
وقال:
والبنت مِن المُحرَّمات في النكاح أيضًا بالإجماع، لكن قول المؤلف: (ولو من زِنًا)، هذه محلُّ خلاف، والصحيح كما قرَّره المؤلف أنها مُحرَّمة على الزاني، فإنها خُلِقت من مائه فكيف يتزوجها؟! فالصحيح: أنها -كما قال المؤلف- مُحرَّمة. وسيأتي الكلام عن هذه المسألة.
قال:
ذكرًا كان أو أنثى، وإن نزلت درجتهن؛ لقول الله تعالى: وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23].
إذا قال الفقهاء: (من كل جهة) يقصدون: سواء كانت أختًا شقيقة، أو أختًا لأب، أو أختًا لأم؛ لقول الله : وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23].
قال:
وإن نزلن. لمَّا قال: (والأخت) يعني: وبنت ولد الأخت، هي من المحرمات في النكاح.
(وبنت كلِّ أخٍ) يعني: سواء كان أخًا شقيقًا، أو أخًا لأب، أو أخًا لأم، فهي من المحرمات في النكاح.
(وبنت ولدها) كذلك من المحرمات في النكاح، بنت ولد الأخت.
وهذا بالإجماع من كل جهة: كعمة أمه، وعمة أبيه، وخالة أمه، وخالة أبيه؛ لقول الله وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ [النساء:23]، وهذه كما ذكرتُ ليس فيها خلاف بين أهل العلم، هي منصوص عليها في الآية الكريمة، ومحلُّ إجماع، إلا مسألة البنت من الزنا، وسيأتي الكلام عنها.
يحرُم بالرضاع ما يحرُمُ بالنَّسَب
قال:
يعني: مما سبق، من الأقسام السابقة؛ لقول النبي : يَحرُمُ من الرضاع ما يحرُمُ من النَّسَبِ. متفق عليه[11]. فمعنى ذلك: أن أمَّ الإنسان من الرضاع حرامٌ عليه، أخته مِن الرضاع حرام عليه، بنته من الرضاع حرام عليه، عمته من الرضاع حرام عليه، خالته من الرضاع حرام عليه، وهكذا؛ هذا معنى كلام المؤلف.
قال:
يعني: فلا تكون مُحرَّمة عليه؛ وذلك لأن التحريم يتعلَّق بالمُرتَضِع ولا يتعلَّق بأخيه.
هذه مسألة يجهلها كثير من العامة، فبعض الناس يظن أن هذا الإنسان إذا رضع من هذه المرأة فإنها تحرُمُ عليه وعلى إخوانه، هذا غير صحيح، الحكم متعلِّقٌ بالمرتضع فقط، ولا يتعلَّق بإخوانه، إخوانه ليس لهم علاقة، فلو أراد أخوه من النَّسَبِ أن يتزوَّج بأمِّ أخيه من الرضاع يصح أو لا يصح؟ يصح.
هذا معنى قول المؤلف: (إلا أمَّ أخيه من الرضاع) فليست من المحرمات.
يعني: فتحِلُّ أخت ابنه من الرضاع.
يعني: هو له ابن، وهذا الابن له أختٌ من الرضاع، فالحكم -كما قلنا- متعلِّقٌ بالمرتضع، لا علاقة له بغيره، لا بأبيه، ولا بإخوانه، الحكم متعلِّقٌ بالمرتضع فقط. (وأخت ابنه من الرضاع) يعني: تحِلُّ له.
فهذا رجل له ابن من الرضاع، وهذا الابن له أخت، فالأصل أنها تحِلُّ له، ما يوجد شيء يمنع من ذلك.
قال:
يعني: فتحِلُّ له، وهذا بالإجماع.
فتحِلُّ له بالإجماع.
المحرمات بالمصاهرة
ثم انتقل بعد ذلك المؤلف للمحرمات بالمصاهرة، قال:
يعني: تحريمًا مؤبدًا.
يعني: أربعٌ من النساء، ثلاثٌ بمجرَّد العقد، والرابعة بغير عقد.
أما الثلاث بمجرد العقد:
(زوجة أبيه وإن علا) مِن نَسَبٍ أو رضاع؛ لقول الله : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22].
أيضًا من نَسَبٍ أو رضاع؛ لقول الله تعالى: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ [النساء:23].
وإن علت، ومِثْلُها أيضًا من الرضاع؛ لقول الله وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23].
طيب، أم الزوجة هذا واضح أنها من المحرمات عليه في النكاح، وأنه مَحْرَمٌ لها. طيب، جدة زوجته: هل هي من المُحرَّمات عليه؟ نعم؛ إذن هو مِن محارمها؟ نعم، كأمِّ زوجته تمامًا تكشف له، وهو من محارِمها.
إذن؛ أم زوجته وإن عَلَت حتى من الرضاع أيضًا، مِن نَسَبٍ أو من رضاع.
قال:
مِن نَسَبٍ أو رَضَاع، يعني: إن عقد على امرأةٍ ووطئها؛ فتحرُم عليه ابنتها وكذلك بنت ابنها، وهي ما تُسمَّى بـ”الرَّبِيبَة” في قول الله : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23].
فإذن؛ اشترط الله لمَن عَقَد على امرأة -يعني: لتحريم الرَّبِيبَة على الرجل إذا عقد على امرأةٍ- أن يدخل بها: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
والمقصود بالدخول في الآيةِ الوطءُ، ومن باب التأكيد على هذا الحكم قال: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، فلا بد إذن من الدخول بهن. وأما قوله: فِي حُجُورِكُمْ فإن هذا عند الجمهور لا مفهوم له، يعني: سواءٌ كانت الرَّبِيبَة في حَجْرِه أو لم تكن.
وحُكِيَ هذا إجماعًا، إلا أن هذا الإجماع منقوضٌ بما رُوي عن بعض الصحابة أنهم رخَّصوا أن يتزوَّج برَبِيبَتِه إذا لم تكن في حجره ولو دخل بأمها، ولكن قال ابن المنذر: أجمع علماء الأمصار على خلافه. وأن قوله: فِي حُجُورِكُمْ إنما خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له؛ لأن التربية ليس لها تأثير في التحريم.
وبناءً على ذلك؛ لو أن رجلًا عَقَد على امرأة، ثم لم يدخل بها، وطلَّقها، فهل تحل له ابنتها؟ نعم، تحل بنص الآية.
طيب، لو ماتت المرأة، عقد على امرأة وماتت ولم يطأها، هل له أن ينكح ابنتها؟ نعم.
فإذن؛ يُشترط لتحريم بنت الزوجة أن يكون قد دخل بأمِّها بنص الآية، وهكذا أيضًا بنت الابن، الحكم فيها كالحكم في الرَّبِيبَة.
قال:
هذه الرابعة، المؤلف لما قال: (يحرم أبدًا بالمصاهرة أربعة) ذكر الثلاث: زوجة أبيه، وزوجة ابنه، وأم زوجته.
الرابعة تحرُم، لكن بغير العقد، كيف بغير العقد؟ يعني: المقصود بالزنا.
ومعنى ذلك: أن مجرد الخلوة لا يُحرِّم، ليس له أثرُ التحريم، ولا المباشرة، وإنما لا بد من الوطء.
يعني: حتى وإن كان الوطء في دُبُر، لكن إن كان صالحًا للوطءِ؛ ولذلك قال:
يعني: الغلام ذكرًا إنما يكون قادرًا على الوطء إذا كان ابن عشر فما فوق، والأنثى تكون صالحة للوطءِ إذا كانت بنت تسع فما فوق.
فلا يكون أحدهما ميِّتا، يعني: حصل الزنا بهذه القيود التي ذكرها المؤلف؛ فحينئذٍ تحرُم عليه، تنتشر الحرمة، فليس له مثلًا أن يعقد على أمِّ مَن زَنى بها مثلًا. وقالوا: لأنَّ ما تعلَّق من التحريم بالوطء المباح؛ تعلَّق بالمحظور، كوطء الحائض.
وبناءً على ذلك؛ فالزنا عندهم أنه ينشر الحرمة. ولكن هل تثبت به المَحْرَمِيَّة؟
يعني: إذا قلنا الآن: إنه ليس له -مثلًا- أن يتزوَّج بأمِّ مَن زنى بها، ولا ببنت مَن زنى بها، لكن هل يكون مَحْرًمًا إذن وتكشِفُ له؟ لا، يقولون: يُحرَّم عليه هؤلاء النسوة، لكن لا تثبت به المَحْرَمِيَّة، ولا إباحة النظر، فقالوا: إن هذه من المسائل التي تتبعَّض فيها الأحكام.
يحرُمُ بوَطْءِ الذَّكَر ما يحرُمُ بوَطْءِ الأنثى
قال:
ما معنى هذا الكلام؟
يعني: اللِّواط أيضًا عندهم أنه ينشر الحُرمة، فلو تلوَّط إنسان بغلام، فيحرُم على كلِّ واحدٍ منهما أمُّ الآخر وابنته، فليس له أن يتزوَّج بأمِّ مَن فعل فيه اللواط، وليس للمفعول به أن يتزوَّج بأمِّ مَن فعل فيه، يعني: كلٌّ منهما لا يتزوج بأمِّ الآخر ولا بابنته، فعندهم أن اللواط يأخذ حكم الزنا في انتشار تحريم النكاح.
ولكن هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم؛ ولذلك قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في “المغني”: الصحيح أن هذا لا ينشر الحرمة؛ فإن هؤلاء غير منصوص عليهن في التحريم، فيدخلن في عموم قول الله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24].
ولأنه ليس هناك دليل يدلُّ على أن اللواط ينشر الحرمة، وليس مع القائلين بنشر الحرمة سوى التعليل بأنه وطءٌ في الفرج، فأشبَه وطءَ المرأة، وهذا تعليل غير صحيح، وقياس مع الفارق.
ولذلك؛ فالصواب: أن اللواط ليس له علاقة بنشر الحرمة، وأنه لو قُدِّر أن رجلًا لَاطَ بآخر فيجوز له أن يتزوَّج بأمه أو بابنته ونحو ذلك، هذا بناءً على القول الراجح والله أعلم في هذه المسألة.
قال:
(ولا تحرُم أمُّ زوجة أبيه)؛ هذا رجل أراد أن يتزوج بأمِّ زوجة أبيه، أبوه تزوَّج بامرأة ولها أمٌّ، فالابن قال: أريد أن أجمع أمَّها مع امرأةِ أبيه، يصح أو ما يصح؟ قال: أريد أن يجتمع الأم والبنت، فالبنت لمَن؟ للأب أو للابن؟ البنت للأب، والأم للابن، فهذا يصح.
النوع الثاني: المحرمات إلى أمد
ثم قال المؤلف رحمه الله، انتقل بعد ذلك للكلام عن المحرمات إلى أمد، قال:
لقول الله : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23].
حتى ولو كان برضاع. حكاه ابن المنذر إجماعًا؛ لقول النبي : لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها متفق عليه[12].
قال:
يعني: في نفس الوقت، عقَدَ في نفس الوقت على هاتين الأختين، لم يصح العقد؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا مزية لإحداهما على الأخرى.
يعني: جُهل الأسبق.
لإحداهما نصف المهر بقُرْعةٍ تُجرَى بينهما، هذا إذا كان العقد في نفس الوقت وليس مرتبًا. أما إذا كان مرتبًا قال:
لأن الأول عقد صحيح ولا جمع فيه، ويبطُل الثاني؛ لأن الجمع قد حصل به.
يعني: في مِلك اليمين، ملك اليمين يختلف عن النكاح، فإذا ملك أختين يصح ذلك، اشترى مثلًا أَمَتَين، وهاتان الأمتان أختان.
وقوله: (ومن ملك أختين أو نحوهما)؛ يعني: كامرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها (صح)؛ يعني: العقد. لكن:
نقول: اختر: إما أن تطأ هذه، أو هذه.
إذا وَطِئ إحداهما؛ حرُم عليه وطءُ الأخرى وإن كان سيدًا لها.
وذلك حتى لا يجمع بينهما في الفراش.
نحن قلنا: إذا وطئ إحداهما تحرُم عليه الأخرى، فإن قال: أنا أريد الأخرى. فنقول: إذن تبيع الأولى، فتخرج عن ملكك؛ فتحِلُّ لك الثانية.
(أو تزويجٍ بعد الاستبراء) تستبرِئها بحيضةٍ ثم تُزوِّجها، فلا تجمع بينهما في الوطء، لا تجمع بين الأختين ولا بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها في الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما في المِلك.
قال:
وكذلك نكاح عمتها أو خالتها.
وَطَئ امرأةً بزنا، زَنَا بها، ثم بعد ذلك بعدها مثلًا بأسبوع أراد أن يتزوَّج بأختها، فنقول: ليس لك ذلك حتى تنقضي عدة المَزْني بها.
وهكذا لو وَطِئ امرأةً وَطْءَ شبهة، ثم أراد أن يتزوج بأختها مثلًا، أو بعمتها، أو بخالتها، فنقول: انتظِر حتى تنقضي العدة، عدَّة الموطوءة بشُبهة، أو عدَّة المَزْني بها.
له، وكذلك أيضًا يحرم أن يطأها إن كانت زوجةً أو أَمَة له، حتى لا يجمع في الوطء بين أختين، أو بين امرأةٍ وعمتها، أو امرأة وخالتها.
فلو زنى بأخت زوجته مثلًا، زنى بأخت زوجته فهنا يحرُم عليها أن يطأ امرأته حتى تنقضي عِدَّة المَزْني بها.
(حرُمَ أن يزيد على ثلاثٍ غيرِها)؛ يعني: غير المَوْطُوءة بشُبهة أو زِنًا، فلو أنه وَطِئ امرأةً وَطْءَ شُبهة فله أن يتزوَّج ثلاثَ نساء، لكن ليس له أن يتزوَّج أربعًا حتى تنقضي عِدَّة الرابعة، ليس له أن يعقد عليها حتى تنقضي عدَّة المَوْطُوءة بشُبهة أو المَزْني بها.
حرمة جمع أكثر من أربع زوجات
وهذا بإجماع العلماء، حُكِيَ إجماعًا؛ لقول النبي لغَيْلان بن سلمة لمَّا أسلم وتحته عشر نساء، قال : أمسِك أربعًا، وفارِق سائرهن[13].
طيب، النبي كان عنده إحدى عشرة امرأة، تُوفي وعنده تسع، كيف نجيب عن هذا؟ الشيعة يستدلون بهذا ويُجيزون التعدُّد إلى تسع، يقولون: لنا في رسول الله أسوة، كيف نُجيب عن هذا؟
مداخلة: …..
الشيخ: من خصائصه ، نقول: هذا من خصائص النبي ، هذا من خصائصه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يتزوج لمصلحة: إما لمصلحة الدعوة، أو لمصلحة مَن يتزوج بها.
أم حبيبة رضي الله عنها مات زوجها وهي في الحبشة، فتزوج بها النبي عليه الصلاة والسلام جَبْرًا لخاطرها، وما يُذكر مِن أنه تنصَّر هذا غير صحيح، لم يثبُت أنه تنصَّر عبد الله بن جحش ، وإنما مات. وكذلك مثلًا أم سلمة، مات زوجها.
تجد أن جميع زوجات النبي عليه الصلاة والسلام ثَيِّبات ما عدا عائشة رضي الله عنها فقط، عائشة رضي الله عنها هي البكر الوحيدة.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة لم يُعدِّد، إنما بقي على خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، إنما عدَّد بعد الهجرة، وذلك لمصالح عظيمة؛ حتى ينقلن أحوال النبي عليه الصلاة والسلام الخاصة في بيته للأُمَّة، لكن قبل الهجرة لم يُعدِّد عليه الصلاة والسلام، فإن هدفه عليه الصلاة والسلام من ذلك هو المصالح العظيمة المترتبة على ذلك: مِن نقل التشريع، ونقل أحواله عليه الصلاة والسلام في بيته، ونحو ذلك.
قال:
العبد دائمًا الأصل فيه أنه على النصف من الحُرِّ حتى في الحدود، فمثلًا: حَدُّ الزاني غير المحصن الحُرُّ، كم جلدة؟ مائة جلدة، بينما العبد خمسون: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ يعني: من الحرائر مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25].
قال:
يعني: المُبعَّض إذا كان نصفه حُرًّا فأكثر، يعني: فأكثر مِن النصف؛ له أن يجمع ثلاثًا، أولًا ثنتين بنصفه الحُرِّ، وواحدة بنصفه الرَّقِيق.
قال:
كَحُرٍّ طلَّق واحدةً مِن أربعٍ، أو عَبْدٍ طَلَّق واحدةً من ثنتين.
المعتدة والمطلقة الرجعية لهما حكم الزوجة
وذلك لأن المُعتَدَّة لها حكم الزوجة، والمطلقة الرَّجعية لها حكم الزوجة.
ولذلك؛ هذه من المسائل التي يُلْغَزُ بها، يقال: متى يَعْتَدُّ الرجل؟ المعروف أن العِدَّة على المرأة، لكن متى يَعْتَدُّ الرجل؟
إذا كان عنده أربعُ نساءٍ وطلَّق واحدة، هنا يَعْتَدُّ، المقصود هنا يَعْتَدُّ يعني: ليس له أن يتزوج أخرى حتى تنقضي عدَّة المطلَّقة، هذا هو المقصود.
يعني: إن ماتت واحدة من هؤلاء النسوة الأربع، فلا يلزمه الانتظار، وإنما له أن يتزوج مباشرة؛ لأنه لا عِدَّة لها في هذه الحال.
نود أن ننتهي فقط من هذا الفصل، ونقف عند (باب الشروط)، ثم نُتيح فرصة للأسئلة.
حكم الزواج بالزانية
قال:
لقول الله : الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ، وهذا موضع الشاهد: لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
فلو أن رجلًا زنى بامرأة، ثم أراد أن يعقد عليها، علم أهلها بذلك وأرادوا الستر، فقالوا: إذن نعقد لك عليها. هل يجوز ذلك؟ نقول: لا بد من التوبة، لا بد أولًا من التوبة، قال: (حتى تتوب، وتنقضي عدَّتُها).
أولًا: تتوب. ثانيًا: تنقضي عدَّتُها. ثم بعد ذلك يعقد عليها. وهذا هو قول الجمهور.
والقول الثاني في المسألة: إنه لا يُشترط انقضاء عدتها، حتى وإن حملت فهي إنما حملت مِن مائه. هذا هو مذهب الحنفية، فأجازوا العقد على المَزْني بها وإن لم تنقضِ عدتها.
وأما اشتراط التوبة فهذا لا بد منه عند الجميع، عند جميع العلماء لا بد من التوبة، ولا بد أن تظهر التوبة من الزاني ومن الزانية. وأما انقضاء العِدَّة فهو قول الجمهور، والحنفية على عدم اشتراطه.
قال:
إذا طلَّق امرأته ثلاثًا فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، لقول الله : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
والمراد بالنكاح هنا: الوطء، وذلك لما جاء في الصحيحين في قصة امرأة رِفَاعة بن رافع، لما أتت للنبي بعد أن طلَّقها رِفاعة ثلاثًا، وتزوَّجت بعده بعبدالرحمن بن الزَّبِير، فأتت النبي وقالت: يا رسول الله، إنه ليس معه إلا مثل هُدْبَةِ الثوب -يعني: أن آلته لا تنتشر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيْلَته، ويذُوق عُسَيْلَتك[14]. فاشترط النبي عليه الصلاة والسلام الوطء، وكنَّى عن الوطء بقوله : حتى تذوقي عُسَيْلَته، ويذُوق عُسَيْلَتك.
وهذه المرأة أرادت أن ترجع لزوجها السابق، حنَّت له، وإلا فعبدالرحمن بن الزَّبير لما بلغه الخبر أتى ومعه ابنان يُشبِهانه شبهًا كبيرًا، وأنكر ما ذكرَتْه، أنكره إنكارًا شديدًا، وأخبر بأنه يَطُؤها، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى معه ابنان يُشبهانه، معنى ذلك أنه قادرٌ على الوطء، قال: يا رسول الله إنها كاذبة، كذبت لأجل أن ترجع إلى زوجها الأول. فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: لا هي أتت بحجة تظنُّها لها، وهي في الحقيقة عليها، هي في الحقيقة عليها لأنها قالت: إنه ليس عنده قدرة على الوطء. طيب، إذا كان ليس عنده قدرة على الوطء، معنى ذلك: أنك لا تَحِلِّين لزوجك الأول؛ ولذلك قال: لا، حتى تذوقي عُسَيْلَته، ويذُوق عُسَيْلَتك[15].
فإذن؛ مطلَّقَتُه ثلاثًا لا بد أن تنكح زوجًا غيره، ويُشترط أيضًا أن يطأها، فلا يكفي مجرد العقد.
قال:
لقول النبي : لا يَنْكِحُ المُحْرِم، ولا يُنْكِح، ولا يَخْطُب. رواه مسلم[16]. فالمُحْرِمة لا يجوز العقد عليها حتى تَحِلَّ من إحرامها، وهكذا المُحرِم.
وبناءً على ذلك: لو أن امرأة لم تَطُف مثلًا، لم تَطُف طواف الإفاضة، أو لم تَطُف طواف العمرة، أو أُفْتِيَت بأن طوافها غير صحيحٍ لأيِّ سببٍ من الأسباب، ثم عُقِد عليها، فإن العقد غير صحيح، ويلزم تجديد العقد.
انتبِهوا لهذه المسألة، أحيانًا المرأة -مثلًا- يأتيها الحيض، فلا تطوف وترجع لبلدها، أو تطوف طوافًا غير صحيح، تطوف وهي حائض مثلًا، فهنا لو عُقِد عليها فالنكاح غير صحيح.
حرمة نكاح المسلمة بالكافر
قال:
يعني: لا يجوز أن تنكح المسلمة الكافر مطلقًا، حتى وإن كان من أهل الكتاب بالإجماع؛ لقول الله : وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، ولقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].
حكم الزواج من غير الكتابية
يعني: لا يَحِلُّ للمسلم أن يتزوَّج بامرأةٍ كافرة غير كتابية، بوذية مثلًا، أو وثنية، أو نحو ذلك.
وأما الكتابية فتجوز؛ لقول الله : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5]، وهذا بنص الآية، ولا قول لأحد مع قول الله .
فيجوز إذن للمسلم أن يتزوَّج باليهودية والنصرانية بنصِّ الآية وبالإجماع. وممن حكى الإجماعَ ابنُ المنذر، قال: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرَّمه.
لأنه رُوي على ابن عمر رضي الله عنهما ذلك، لكن ابن المنذر يقول: إنه لا يصح، ولا يثبت ذلك عنه.
وبكُلِّ حالٍ، هذه المسألة منصوص عليها في الآية الكريمة، وليس لأحد أن يُحرِّم ما أحلَّه الله، فالله تعالى أباح نكاح الكتابيات.
شروط نكاح الحر للأَمَة
قال:
وهذا منصوصٌ عليه في الآية الكريمة، في قول الله : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا يعني: قدرة على أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ يعني: الحرائر، إلى قوله في آخر الآية: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، فاشترط الله لنكاح الحُرِّ للأَمَة شرطين:
الشرط الأول: أن يعدِم طَوْلَ الحرَّة، ليس عنده قدرة على مهر الحُرَّة.
والشرط الثاني: أن يخاف العَنَت: وهو الزنا.
قال:
لا يكون ولد الأمة حُرًّا إلا في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: أن يشترط الحرِّية، فإن اشترط الحرِّية فيكون حُرًّا.
الثاني: أن يُغَر؛ بأن يظنها حُرَّة فيتبيَّن أنها أَمَة، فيكون حُرًّا، يكون الولد حُرًّا.
الثالث: السيد، فيكون ولده منها أيضًا حُرًّا.
إذا ملَكَ أحدُ الزوجينِ الآخرَ انفسخ العقد
قال:
وهذا بالإجماع، إذا ملَكَ أحدُ الزوجينِ الآخرَ، يعني: كانا رقيقين مثلًا، ثم أحدهما أُعتِق، ثم اشترى الآخر فمَلَكه، فإنه ينفسخ النكاح مباشرة.
وهكذا أيضًا لو أن أحدهما أُعتِق، فيُخيَّر، أن المرأة أُعتِقَت، الزوجة التي هي الأَمَة أُعْتِقَت، والزوج لا يزال مملوكًا، فتُخيَّر المرأة بين بقائها معه أو فسخ النكاح، كما حصل في قصة بَرِيرة، فإن بَرِيرة لما عَتَقَتْ بكتابتها أرادت أن تترك زوجها مُغيثًا، وكان يُحبها حبًّا شديدًا، وكانت تكرهه، فلما علم بذلك زوجُها مُغيث ذهب في الطرقات يبكي يسيل دمعه على خدَّيه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا تعجبون من هذا؟!. أبلَغوا النبي عليه الصلاة والسلام بالواقع، فدعا بريرة وأشار عليها، قال: هذا زوجك، ويحبك، وهو كذا. فقالت يا رسول الله: أتأمر أم تُشِير؟ قال: بل أُشير. قالت: لا حاجة لي به. أصرَّت على رأيها، وهذا من العجائب: أن تكون تكرهه كراهية شديدة وهو يُحبُّها حبًّا شديدًا[17].
قال:
آخر مسألة معنا.
وهذا ظاهر، فيصح في المباحة، ولا يصح في المحرَّمة.
ومَن حرُم نكاحها؛ حرُم وطؤها بالملك
(ومَن حرُم نكاحها حرُم وطؤها) هذا يصح أن يكون قاعدة فقهية: ومَن حرُم نكاحها؛ حرُم وطؤها بالمِلْك”، فإذا حرُم وطؤها بالنكاح فيحرم وطؤها بالمِلْك كذلك؛ لكون المِلْك طريقًا إلى الوطء، فهو أولى بالتحريم.
ويُستثنى من ذلك الأَمَة الكتابية، فإنه يحرُم نكاحها ولا يحرُم وطؤها بمِلْك اليمين؛ لعموم قول الله تعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]. وأما نكاح الأَمَة الكتابية فإنه يحرُم؛ لأجل ما يترتب عليه من إرْقَاقِ الولد وبقائه مع الكافرة، مع أنها أَمَة وهو حُرٌّ.
بهذا نكون قد انتهينا من أبرز المسائل والأحكام التي أردنا شرحها في هذا الدرس، ونقف عند (باب الشروط في النكاح).
نُتِيح المجال للأسئلة.
الأسئلة
السؤال: …..
الشيخ: قصدك يعني: ابن ابنته؟ نعم، هذا سؤال جيد، نعم، زوجة ابن ابنته هو من محارمها وتكشف له، فما دام أنه ابن ابنته فهو من محارمه، وهو يُعتبر محرمًا لها وتكشف له، ولا إشكال.
السؤال: أحسن الله إليكم، وبارك فيكم. هذا يقول: إذا ما اشترطنا الكفاءة في العفة فقط، فكيف نُوجِّه حديث بريرة؟
الشيخ: نحن ذكرنا بالنسبة للحُرِّية وعدمها فيها التفصيل الذي ذكرنا، أصلًا الحُرُّ لا يجوز أن يتزوج بأَمَة إلا بشرطين، وكذلك إذا عتق أحد الزوجين، فمسألة الحرية هذه فيها تفصيل، فيها التفصيل الذي أشرنا إليه، فهي مستثناة من هذا.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: عندما يقول: صاحب “منار السبيل”: “وفي الشرح”، فهل يقصد “المغني” أم “الشرح الكبير”؟
الشيخ: يقصد “الشرح الكبير على المقنع”، ومعظم مادة “الشرح الكبير” هي “المغني”، لكن “المغني” مرتب على “مختصر الخِرَقي”، بينما “الشرح الكبير” مُرتَّب على ترتيب “المقنع”، وإلا فـ”الشرح الكبير” تقريبًا هو “المغني”، لا يختلف عنه إلا في أشياء يسيرة جدًّا؛ لأن ابن أخي الموفق شمس الدين إنما قصد إعادة ترتيب “المغني” على “المقنع”، لم يقصد تأليفًا جديدًا.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: لو زنى رجل بامرأة وهو متزوج بأختها، فما الحكم؟ وإذا كانت هناك عِدَّة فما مدتها؟
الشيخ: هذه أشرنا لها في الدرس، تكلمنا عنها في الدرس.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا كان الزوج لا تجب عليه النفقة على زوجته إلا إذا تسلَّمها، فهل تجب عليها طاعته بحيث إذا لم تسمع كلامه تكون آثمة؟
الشيخ: نعم، هو لا تجب عليه النفقة حتى يتسلَّمها ويتمكَّن من الوطء، وأما طاعته فالأصل أنها تجب، هذا هو الأصل، لكن ليس وجوب الطاعة هنا كوجوبها بعدما يتسلمها، فلا يلزمها أن تستأذن في كُلِّ صغيرة وكبيرة، وإنما تستأذن في الأمور الكبيرة والأمور المهمة؛ لأنه لم يدخل بها بعدُ ولم يتسلَّمها، لكن يبقى له حقُّ الطاعة في الأمور الكبيرة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: شخص يعمل في إحدى الشركات، ولديه خصم عند شركة “الجميح للسيارات”، ويرغب في شراء سيارة باسمه، ثم يقوم ببيعها على أحد أقاربه من أجل أن يحصل قريبه على هذا الخصم؟
الشيخ: ما دام أنه سوف يشتريها شراءً حقيقيًّا، فلا بأس بذلك؛ لأن هذا بيع وشراء، والأصل في ذلك الجواز، فلا نستطيع أن نمنعه من هذا ولو كان بهذا القصد؛ قصد الاستفادة من الخصم.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هل لبنت الزوجة أن تكشف لزوج أمها؟
الشيخ: بنت الزوجة هي الرَّبِيبَة، ذكرنا التفصيل في الرَّبِيبَة، إذا كان قد دخل بأمها فتكون من محارمه وتكشف له، إذا كان لم يدخل بأمها فلا تكون من محارمه ولا تكشف له.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول في قوله تعالى: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ [النساء:23]، ألا يخرج من ذلك زوجة الابن من الرضاع؟
الشيخ: هذه قال بها بعض أهل العلم، ونُقل ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن الأقرب هو قول الجمهور في هذه المسألة؛ لأن قوله مِنْ أَصْلَابِكُمْ إنما ذُكر ذلك لإبطال التَّبَنِّي؛ لأن التَّبَنِّي كان موجودًا، فأراد أن يُنبِّه على أن المقصود بالأبناء: الأبناء من الصُّلب، وليس من التَّبَنِّي. وأما الرضاع فعلى القاعدة: يحرُم من الرَّضاع ما يحرُم من النَّسب[18].
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا السؤال من إحدى النساء عبر البث، تقول: فضيلة الشيخ بارك الله فيكم وفي علمكم، لديَّ بعض الحوائج تخصُّني وتخصُّ أبنائي، وليس لديَّ بعد الله سوى زوجي ليقوم بشؤوني، ومع ذلك أجده منشغلًا عنِّي بطلبه للعلم، فما الأولى به: قضاء احتياجاتي الضرورية، أو حضور مجالس العلم وقضاء حوائج الغير؟ أرجو توجيهكم، فهو يُواظب على حضور دروسكم.
الشيخ: المطلوب هو أن يكون طالب العلم عنده توازنٌ بين طلب العلم وبين القيام بشؤون الأسرة، فلا يُخِلُّ بجانبٍ من الجوانب على حساب أن يَفِي بجانب آخر، المطلوب في حياة المسلم التوازن.
وأيضًا مع مراعاة الواجب، الواجب مقدَّم على النافلة، وحينئذٍ نقول: إن القيام بحقوق الأهل لا شك أنه من الأمور التي ينبغي مراعاتها، ولكن أيضًا لا يكون على حساب طلب العلم، يكون هناك نوع من التوازن وترتيب وتنظيم الوقت، بحيث يستطيع أن يجمع بين الأمرين: بين طلب العلم، وبين القيام بحقوق الأهل.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم. يقول: قولُ بعض الناس: “فلان، الله يذكره بالخير” هل اللفظ فيه إشكال؟
الشيخ: لا يظهر أن فيه إشكالًا، هذا دعاء طيِّب؛ لأن الله يقول في الحديث القدسي: من ذكَرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي، ومَن ذكَرَني في ملأ ذكرتُهُ في ملأ خيرٍ منهم[19]. أثبت الله الذِّكر للعبد، الذِّكر له بالثناء الحسن وبالخير، فمثل هذا اللفظ لا بأس به إن شاء الله.
مداخلة: …..
الشيخ: التوبة تكون بإظهار الندم والإقلاع، إذا رأينا مثلًا هذا لا يذهب لهذه الأماكن المشبوهة، وأظهر الندم، وظهر عليه الصلاح والالتزام مثلًا بالمحافظة على الصلاة، وترك الجلساء السيئين، هذا، يُعرف ذلك بالقرائن، أما إذا كان على وضعه السابق: يذهب مع أصحابه السيئين، ولا زال لا يحافظ على الصلاة، ولا زال له علاقات واتصالات مشبوهة فنعرف من ذلك…..
مداخلة: …..
الشيخ: الله تعالى ذَكَر الشرطين: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، ثم قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، نعتبره شرطًا، يعني: محلَّ إشكال، لكن لو قيل: إنه الأولى، الأولى ألا ينكح أَمَة إلا إذا كان غير قادر على تملُّكها وعلى سبيل الأولوية، أما اعتبار الشرط فيحتاج إلى دليل.
مداخلة: …..
الشيخ: على قول الجمهور أنها لا بد أن تعتَدَّ، فإذا اعتَدَّت فمعنى ذلك أنه إذا وَطِئ أختها يكون كأنه قد جمع بين أختين، هذه وجهتهم، فعنده الآن زوجته الأساس، وهذه المرأة أختها، فإذا وَطِئ هذه الثانية يكون قد وطئها وأختها أيضًا لا زالت معتَدَّة من وَطئِه، هذا بناءً على قول الجمهور. وبناءً على قول الحنفية لا إشكال، له أن يطأ زوجته؛ لأنهم لا يشترطون العِدَّة للمَزْني بها.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، يعني إذا كان عنده أربع نساء، حتى في الزواج البائن نعم، حتى في الزواج البائن، سواء كان الزواج بائنًا أو غير بائن، لا بد أن ينتظر حتى تنقضي عدتها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه الدارقطني في “السنن”: 3521، والبيهقي في “الصغير”: 2379. |
---|---|
^2 | رواه أحمد: 19710. |
^3 | رواه البخاري: 4212، ومسلم: 1365. |
^4 | رواه أحمد: 16130، والترمذي: 1089، وابن ماجه: 1895. |
^5 | رواه الترمذي: 2298، والبيهقي: 21386. |
^6 | رواه البخاري: 3729، ومسلم: 2449. |
^7, ^8, ^15, ^18 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه مسلم: 1480. |
^10 | رواه عبدالرزاق في “مصنفه”: 10326، وسعيد بن منصور في “سننه”: 585. |
^11 | رواه البخاري: 2645، ومسلم: 1447. |
^12 | رواه البخاري: 5109، ومسلم: 1408. |
^13 | رواه مالك: 76، وأحمد: 4609. |
^14 | رواه البخاري: 2639، ومسلم: 1433. |
^16 | رواه مسلم: 1409. |
^17 | رواه البخاري: 5283. |
^19 | رواه البخاري: 7405، ومسلم: 2675. |