طيب، ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد بدأنا في الدرس الماضي بـ(كتاب الوقف)، ووصلنا إلى قول المؤلف:
الشروط في الوقف
مصرِف الوقف، المقصود به: مصرف رَيْع الوقف؛ لأن الوقف -كما قلنا- هو تحبيس الأصل وتَسْبِيل المنفعة، فهذا الرِّيْع للوقف من ثمرة، أو أجرة، أو غيرها، المرجع فيها إلى شرْطِ الواقِف على ما شَرَطه.
والشروط في الوقف هي ما يشترطه الواقف في وَقْفه، كأن يشترط شروطًا: في بيان مصرِف الوقف، ومَن ينتفع به، ومقدار ما يُعطى كل شخص، والنَّاظر للوقف، وإصلاحه، ونحو ذلك.
مثال ذلك، أن يقول مثلًا: بيتي هذا وقفٌ على أن أسكنه طيلة حياتي، ويكون رَيْعُه من بعدي للفقراء والمساكين.
الفرق بين شروط الوقف والشروط في الوقف
وبهذا نعرف الفرق بين شروط الوقف، والشروط في الوقف، وهذا المصطلح مرَّ معنا في عدة أبواب: “شروط البيع والشروط في البيع”، ومثل ذلك أيضًا سيأتي إن شاء الله: “شروط النكاح والشروط في النكاح”.
فشروط الوقف هي الشروط السابقة التي تكلمنا عنها بالدرس الماضي: وهي شروط صحة الوقف التي إذا تخلَّف واحد منها لم يصح الوقف، الشروط الخمسة التي تكلمنا عنها بالتفصيل في الدرس السابق.
وأما الشروط في الوقف: فهي ما يشترطه الواقف في وقفه، بأن يشترط أن يكون الناظر فلانًا، أن يكون رَيْع هذا الوقف لفلان، أن يستثني -مثلًا- في هذا الوقف أشياءَ، هذه تُسمَّى “الشروط في الوقف”.
والفرق بين شروط الوقف والشروط في الوقف: شروط الوقف يتوقف عليها صحة الوقف، أما الشروط في الوقف فلا يتوقف عليها صحة الوقف؛ ولذلك لو وقف وقفًا ولم يشترط فيه شروطًا فالوقف صحيح.
وشروط الوقف كلها صحيحة، أما الشروط في الوقف فقد تكون صحيحة، وقد يكون بعضها باطلًا، كما لو -مثلًا- اشترط شروطًا فيها جورٌ أو نحو ذلك، وهذا يقودنا إلى تقسيم الشروط في الوقف.
أقسام الشروط في الوقف
الشروط في الوقف تنقسم إلى قسمين:
- شروط صحيحة.
- وشروط فاسدة.
فالشروط الصحيحة هي ما وافق مقتضى العقد، ولم يُبطله الشارع أو ينهى عنه.
فلو أنه وقف وقفًا، وقال: بيتي هذا وقفٌ على أني أبيعه متى ما شئتُ. هل هذا الشرط صحيح؟ هذا الشرط غير صحيح، لماذا؟ لأنه خالف مقتضى العقد، مقتضى عقد الوقف أنه لا يصح بيعه.
أو قال مثلًا: بيتي هذا وقفٌ على أولادي، على أن يكون للذكور فقط دون الإناث. فهذا الشرطُ شرطٌ غير صحيح؛ لأنه مخالف للشرع في تفضيل الذكور على الإناث، وهكذا.
إذن؛ الصحيح: هو ما وافق مقتضى العقد ولم يُبطله الشارع ولم يَنْهَ عنه. والفاسد عكسه: ما خالف مقتضى العقد أو أبطله الشارع أو نهى عنه.
الرجوع في مصرف الوقف إلى شرط الواقف
نرجع لعبارة المؤلف، يقول:
يعني: جُهِل شرط الواقف.
هنا، المؤلف فرَّق بين العُرف والعادة. فما هو الفرق بين العادة والعرف؟
إذا قيل: عادة، وقيل: عرف، ما هو الفرق من حيث الأثر الفقهي بينهما؟ من يستنبط لنا الفرق؟ إذا قيل: إن هذه عادة، وهذا عرف؟
مداخلة: …..
الشيخ: كيف يكون أعمَّ؟
مداخلة: …..
الشيخ: أحسنت.
العادة تتعلَّق بشخص أو فرد؛ ولذلك يُقال: عادة المرأة، عادة المرأة في الحيض كذا، ترجع إلى عادتها. أما العرْف فيكون لمجتمع، عُرْف أهل البلد الفلاني كذا.
فإذن؛ العرف متعلِّق بمجتمع وأناس كثيرين، بخلاف العادة، فإنها تكون لفرد واحد.
فإذن؛ المرجع إذا جُهِل شرطُ الواقف يُعمل بالعادة الجارية، إذا كان لهذا الشخص الواقف عادة جارية في وَقْفه، فيُعمَل بها، يُعمل بعادته. فإن لم يكن هناك عادة جارية، فبالعُرْف، ننظر لعرْف أهل البلد؛ وذلك لأن العادة الجارية والعرف المستقر يدلان على شرط الواقف.
يعني: إن لم توجد عادة جارية ولا عرف مستقر.
يعني: ليس هناك شروط، وحينئذ يكون الاستحقاق على وجه التساوي؛ وذلك لثبوت الشركة دون التفضيل.
وسيأتينا في الفصل الآتي أنه يستوي الذكور والإناث إذا قال: بيتي وقفٌ على أولادي. فيتساوى الذكور والإناث، ولا يُفضَّل الذكور على الإناث. وسنأتي لبيان هذا.
فإن فَضَّل الذكورَ على الإناث، فسيأتي الكلام عنه، هل يصح أو لا يصح؟
قال:
(يُرجَع إلى شرطه في الترتيب بين البطون) بأن يقول: هذا وقفٌ على أولادي، ثم أولادهم، ثم أولاد أولادهم. البطن الأول: أولاده، ثم البطن الثاني: أولاد أولاده، ثم البطن الثالث: أولاد أولاد أولاده. هذا معنى الترتيب بين البطون.
(أو الاشتراك): أن يقف على أولاده وأولادهم، يعني: يُشرِك أولاد أولاده مع أولاده. “الاشتراك” يقول: هذا وقفٌ على أولادي وأولادهم.
يعني: يُرجَع إلى ما شرط في إيجار الوقف، فلو قال: يُؤجَّر هذا الوقف بكذا، إذن يُرجَع لما قدَّر ولما شَرَط في القَدْر وفي المدة، فلا يُزاد على ما شرط.
قول الفقهاء: نصُّ الواقف كنصِّ الشارع
قال:
(نصُّ الواقف كنصِّ الشارع)، هذه مقولة مشتهرة في كتب الفقه، ولكن لا بد أن تُفهَم الفهم الصحيح؛ “نصُّ الواقف كنصِّ الشارع”.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تكلَّم عن هذه العبارة، قال: إن معنى قول الفقهاء: نصُّ الواقف كنصِّ الشارع؛ يعني: في الفهم والدلالة، كتقييد المطلق، وتخصيص العام، ونحو ذلك، وأما أن يُجْعَل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين. هذه عبارة شيخ الإسلام.
إذن؛ نُعيد مرة أخرى، يقول شيخ الإسلام رحمه الله حول فهم هذه العبارة الفهم الصحيح: قول الفقهاء: نصُّ الواقف كنصِّ الشارع؛ يعني: في الفهم والدلالة، كتقييد المطلق، وتخصيص العام، ونحو ذلك، لا في وجوب العمل، أما أن يُجعَل نصُّ الواقف كنَصِّ الشارع في وجوب العمل. قال: أما أن يُجعَل نصُّ الواقف، أو نصوص غيره، كنَصِّ الشارع في وجوب العمل، فهذا كفر باتفاق المسلمين.
إذن؛ لا يمكن لأحد أن يقول: إن نصَّ الواقف كنصِّ الشارع في وجوب العمل، أو حتى يجعل الأنظمة والقوانين كالشريعة في وجوب العمل، هذا لا يجوز، بل هذا يؤول إلى الكفر، وربما تجد خللًا عند بعض الناس الذين يجعلون الأنظمة كنصوص الشريعة، بل تجد بعض الناس يُقدِّس الأنظمة أكثر من تقديس نصوص الشارع. وهذا خلل، هذا قد يُؤدِّي بالإنسان مع توفر شروطه إلى الكفر، نسأل الله العافية.
نصوص البشر تبقى بشرًا، ليست كنصوص الشارع، فالأنظمة هي من وضع البشر، لا تُجعل في وجوب العمل كنصوص الشارع، هي كلامُ بشر، ووَضَعَها بشرٌ، لكن تجد بعض الناس مِن إيغالهم في القوانين والأنظمة يُقدِّسون هذه الأنظمة كأنها نصوصُ الشارع، بل ربما تجد أنه يُقدِّس هذه الأنظمة بحذافيرها.
يعني: على الأقل نصوص الشارع يدخلها تخصيص العام، وتقييد المطلق، والجمع بين النصوص، لكن يُقدِّسون هذا النظام، يُؤخَذ بحذافيره. هذا لا يجوز، يعني له اتصال بمُعتَقد المسلم، هذا قد يصل للكفر، نسأل الله العافية.
ولذلك؛ فالأنظمة وُضِعت أصلًا لمصلحة الناس، وُضِعت لمصلحة البشر، فإذا كان النظام ليس فيه مصلحة، فلا يجب العمل به؛ لأن الطاعة بالمعروف.
فلا بد أن نعرف أن هذا النظام فيه مصلحة، فإذا عرفنا أن نظامًا وُضِع هكذا، ليس فيه أيُّ مصلحة ظاهرة، فلن نُوجب على الناس العمل به. هذه مسألة مهمة وخطيرة؛ لاتصالها بأمور المعتَقد، فنجد -حقيقةً- الخللَ في فهم هذه المسألة.
ولذلك؛ على سبيل المثال: لو كانت إشارةً مرورية -مثلًا- وتجزم مائة في المائة ما عندك أحد، فمثلًا لو أن إنسانًا قطع هذه الإشارة، هل نقول: إنه آثِمٌ؟ إذا قلنا: إنه آثم هنا. جعلنا نصَّ النظام كنصِّ الشارع، فنقول: هو آثِمٌ، إذا كان مَظِنَّة الضرر أو الخطر، فإذا كان ولو بنسبة 1% أنه قد يمرُّ أحدٌ، نقول: ما يجوز قطع الإشارة، لكن إذا كنت تجزم مائة في المائة فلا نستطيع أن نجزم بالتأثيم.
وهكذا في سائر أنظمة البشر، هذه المسألة ينبغي أن تُفهَم الفهم الصحيح، فلا تجعل كلام البشر ككلام الله وكلام رسوله في وجوب العمل. أما إذا جعلناها ككلام الله وكلام رسوله في الفهم والدلالة، تخصيص العام، تقييد المطلق؛ فهذا لا بأس به.
فإذن؛ كلام الفقهاء: نصُّ الواقف كنصِّ الشارع؛ المقصود: في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل.
قال:
طبعًا، وجوبه ليس كوجوب العمل بنصوص الشارع، هو أدنى مِن ذلك.
لذلك؛ سيأتينا أنه إذا وجد مصلحةً في الانتقال من شرط الواقف إلى شرطٍ أصلح فلا بأس، فلا تُقدَّس نصوص الواقف، لا يُجعَل لها من التقديس ما لنصوص الشارع، نصوص الشارع نعمل بها سواءٌ عرفنا الحكمة أو لم نعرف؛ لأننا نعلم أنها صادرة من حكيم عليم، لكن نصوص البشر لا بد أن نعرف الحكمة، فإذا لم نعرف الحكمة فلا نُوجب على الناس العمل بها؛ لأنها ناشئة من بشر.
يُعمَل بشرط الواقف ما لم يُفْضِ إلى الإخلال بالمقصود الشرعي
قال:
أي: بالمقصود الشرعي، يعني: يُعمَل بشرط الواقف ما لم يُفْضِ إلى الإخلال بالمقصود الشرعي، فيُعَمل به.
ثم مثَّل المؤلف؛ قال:
لأن هذا شرطٌ صحيح معتبر شرعًا فيُعمَل به؛ ولأنه ثبت بِوَقْفِه، فوجب أن يُتبع فيه شرطه.
قال:
فإذا قال مثلًا: هذه المدرسة للمذهب الفلاني: مذهب الحنابلة، أو الشافعية، أو هذه المقبرة لأهل البلد الفلاني، أو نحو ذلك؛ فيُعمَل بشَرْطِه.
قال:
لو قال: هذا المسجد لا يُصلِّي فيه إلا الحنابلة فقط، هذا الشرط غير صحيح، يُصلِّي فيه المسلمون كلهم، سواء كانوا من الحنابلة أو من غيرهم، فلا يعملون بشرطه هنا، ولا يختص ذلك به؛ ولأن -أيضًا- لو صلَّى غيرهم فيه ناله من الأجر والثواب ما هو أعظم.
قال:
أي: ولا يُعمل بشرطه.
ما معنى هذه العبارة؟ من يوضح لنا بمثال (ولا إن شرط عدم استحقاق من ارتكب طريق الصلاح)؟
إخواني، نُريد مشاركة؛ لأن المشاركة.. هذه التي تُنَمِّي المَلَكة.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، يقول: أَقِف هذا الوقف على الناس، إلا على الصالحين، أو على مَن كان ملتحيًا مثلًا.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، يعني: إنسان له موقف مثلًا من أهل الخير والصلاح، فقال: هذا الوقف لجميع الناس إلا على أهل الخير، فنقول: هذا الشرط غير صحيح، هذا شرط غير صحيح، ولا يُعمل به، ولا يُعمل بمثل هذه الشروط.
النَّظَارة في الوقف
طيب، ثم قال المؤلف رحمه الله:
عَقَد المُؤلِّف فصلًا للكلام عن النَّظَارة في الوقف؛ قال:
“النَّاظِر” ناظِرُ الوقف: هو الذي يتولَّى حِفظه، وصَرْفَ غَلَّته في مصارفها الشرعية، وإجراءَ ما يلزم من التصرفات.
وينبغي لمن وقف وقفًا، ينبغي أن يُعيِّن ناظرًا، وذلك أنَّ مِن أبرز أسباب ضياع الأوقاف عدمَ وجود النُّظَّار الصالحين؛ يعني: الآن نحن في القرن الخامس عشر الميلادي، كم أوقاف المسلمين؟ أوقافٌ كثيرة على مَرِّ العصور والقرون، أين هي؟ أين الأوقاف الموجودة في عهد الصحابة والتابعين ومَن تبعهم؟ ضاع -حقيقة- كثيرٌ من الأوقاف، ومِن أبرز أسباب ضياع الأوقاف: عدم ترتيب نَظَارة الوقف.
لهذا؛ ينبغي لمن وَقَفَ وقفًا أن يُرتِّب النَّظَارة، يقول: النَّاظر مِن بعدي فلان، ومِن بعده كذا، فيُرتب النَّظَارة، فإنَّ هذا من أعظم أسباب حفظ الوقف.
شروط النَّاظِر للوقف
قال:
يعني: خمسة شروط.
الشرط الأول: الإسلام
الشرط الأول من شروط النَّاظِر:
وهذا إذا كان الوقف على مسلم أو على جهةٍ، نحن في الدرس السابق اشترطنا إذا كان على جهة: أن تكون على جهة بِرٍّ. أما إذا كان على غير جهة، قلنا: لا يُشترط، بل يجوز الوقف على الكافر إذا لم يكن حربيًّا. بيَّنا هذا في الدرس السابق.
فإذن؛ اشتُرِطَ الإسلام إذا كان الوقف على مسلم أو جهة؛ لقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].
الشرط الثاني: التكليف
لا بد أن يكون النَّاظر بالغًا عاقلًا؛ لأن غير المكلف غير مؤهَّل للنَّظر فيما يملكه، ففي الوقف من بابٍ أولى.
الشرط الثالث: الكفاية للتصرُّف، والخبرة به، والقوة عليه
قال:
وذلك حتى يُمكنه مراعاةُ حفظ الوقف، فلا بد أن يكون قادرًا على ذلك، عنده قوة، وعنده خبرة وأهلية للقيام على شؤون هذا الوقف. أما إن كان -مثلًا- إنسانًا ضعيفًا ليس عنده ما يُعرِّفه كيف يُدير الوقف؛ فلا يصح أن يكون ناظِرًا عليه.
إن كان إنسانًا -مثلًا- سفيهًا، ما يعرف كيف يتصرف في المال، فهذا لا يُمكَّن من تضييع ماله، فلا يُمكَّن كذلك من تضييع الوقف من بابٍ أولى، ويُختار في الأمور كلها مَن اتَّصف بوصفين هما ركنا الولاية، وهما ماذا؟ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26].
وجميع نظريات الإدارة الحديثة ترجع لهذين الرُّكْنَيْن: القوة والأمانة، فإذا اجتمع قوةٌ وأمانة في إنسان، هذا هو الذي يصلح للإدارة، والذي يصلح للولاية، وهو الذي ينفع الله به، وقد يكون الإنسان قويًّا غير أمين، وقد يكون أمينًا غير قوي.
طيب، إذا وجدنا قويًّا أمينًا، هذا هو المطلوب، لكن إذا وجدنا قويًّا غير أمين، ووجدنا أمينًا غير قوي، فأيُّهما يُقدَّم؟
مداخلة: ……
الشيخ: طيب، الآن سمعنا رأيين، سمعنا مَن يقول: الأمين، وسمعنا من يقول: القوي.
مداخلة: ……
الشيخ: نعم، حسب طبيعة العمل، إذا كان طبيعة العمل تتطلب قوةً فيُقدَّم القوي، كمثل قيادة الجيوش ونحوها، نُقدِّم القوي وإن كان غير أمين. أما إذا كان مثلًا لحفظ أموال ونحوها، نُقدِّم الأمين. فعلى حسب طبيعة العمل أو الوظيفة التي يُراد لها.
لكن لو تَسَاوَيا من جميع الوجوه، فربما نُقدِّم القوة على الأمانة؛ لأن كثيرًا ما يكون هناك إنسان أمين لكنه ضعيف، فيتسلَّق الناس على كتف هذا الأمين، وينهَبون الأموال، وربما تضيع الأموال بسبب ضعفه الشديد.
ولذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذرٍّ : إني أراك ضعيفًا؛ فلا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيم هذا في “صحيح مسلم”[1]. فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يتأمَّر على اثنين لضعفه وأن يتولَّى مال يتيم.
لكن، هنا في الوقف يُشترط القوة ولا تُشترط الأمانة في مواضع، الأمانة فيها تفصيل، إذن القوة مُشترَطة، فإن كان ضعيفًا ضُمَّ إليه قويٌّ أمين؛ ليحصل المقصود.
طيب، الأمانة سيأتي الكلام عنها.
تولي المرأة نظارة الوقف
قال:
فيصلح أن تكون المرأة هي النَّاظِرة للوقف؛ ويدل لذلك أن عمر جعل نَظَارة وَقْفِه مِن بعده لابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، ثم للأكابر من آل عمر ؛ فدَلَّ ذلك على أنه يجوز للمرأة أن تكون نَاظِرةً للوقف.
العدالة في ناظِر الوقف
قال:
يعني: الأمانة، ما تُشترط الأمانة والعدالة في ناظِر الوقف.
نحن قلنا: القوة لا بد منها، إلا إن وجدنا ضعيفًا فلا بد أن نضم إليه قويًّا أمينًا.
طيب الأمانة، “الأمانة” المؤلفُ فصَّل فيها، فقال: (إن كان بجعل الوَاقِف)؛ يعني: الوَاقِف هو الذي عيَّن هذا الإنسان الفاسق ناظِرًا للوقف، فيقول: هذا يصح، ولا تُشترط العدالة ولا الأمانة.
لكن يقول الفقهاء: إنه ينبغي أن يُضَمَّ إلى الفاسق أمين، ينبغي أن يُضَمَّ إليه أمين لحفظ الوقف، ولا يُزال الوقف مِن يده؛ لأنه يمكن الجمع بين الحقَّين، فلو -مثلًا- قيل: إن فلانًا هو الناظر على الوقف. وهو فاسق، وقيل: إن الذي وضعه الوَاقِف، الوَاقِف هو الذي وضعه ناظِرًا، فما هو الحل؟ الحلُّ أن نَضُمَّ معه ناظِرًا مساعدًا أمينًا.
لكن إن (كان من غيره)؛ يعني: إن كان تعيين الناظر من غير الواقف، كمن ولَّاه حاكمٌ -يعني: قاضٍ- أو ناظِرٌ ولَّى ناظرًا آخر، فهنا لا بد من العدالة؛ وذلك لأنها ولاية على مال، فاشتُرط لها العدالة؛ كالولاية على اليتيم.
إذن؛ نُلخِّص الكلام مرةً أخرى، نقول: عندنا القوة والأمانة. القوة هنا لا بد منها، لكن إن وُجِد غير قويٍّ، إن وجد ضعيف فيُضَمُّ إليه قويٌّ أمين. أما العدالة، فإن كان الذي عيَّن النَّاظِرَ هو الوَاقِفُ، فهنا العدالة لا تُشترَط، لكن ينبغي أن يُضَمَّ إليه أمين. وأما إذا كان الذي يُعيِّن النَّاظِرَ ليس الوَاقِف، وإنما القاضي أو النَّاظِر يُعيِّن ناظِرًا آخر، فهنا لا بد من الأمانة.
الحكم إذا لم يشترط الواقف النظارة لأحد
فيكون إذن بناءً على هذا التفصيل؛ قال:
يعني: هذا إنسانٌ وقفَ وقفًا، ولم يشترط ناظِرًا.
يعني: عَدْلًا كان أو فاسقًا، رجلًا كان أو امرأة، قال: بيتي هذا وقفٌ على فلان، ولم يُعيِّن له ناظرًا، ففلان هذا هو النَّاظِر، بغضِّ النظر عن كونه عدلًا أو فاسقًا.
قال:
يعني: لا بد أن يكون -أيضًا- الموقوف عليه محصورًا؛ كأن يقول: فلان وفلان، أو نحو ذلك.
طيب، فإن كان غير محصور؟ قال:
إذا كان الوقف على غير محصور فالنَّظَارة تكون للقاضي؛ كأن يقول: بيتي وقفٌ على الفقراء، ولم يُعيِّن ناظرًا.
فالناظر مَن هو؟ القاضي، والولاية العامة على الأوقاف تكون للقضاة، وهذا هو الذي عليه العمل.
قال:
يعني: ليس للقاضي الولاية على الوقف والنَّظر مع وجود ناظِرٍ خاصٍّ، فالنَّاظِر الخاصُّ أولى؛ ولهذا فوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف لا تنتزع الوقف من أحدٍ إذا وُجِد ناظر خاصٌّ؛ لأنهم يجعلون الناظر الخاص أولى من نَظَارة الوزارة، إنما تتولى الوزارة النَّظَارة إذا لم يُوجد ناظِرٌ خاصٌّ.
لو كان هذا النَّاظِر الخاصُّ يفعل أمورًا لا تسُوغ، مِن -مثلًا- تبذير الأموال أو وضعها في المعاصي أو نحو ذلك، فالحاكم له ولاية، فيعتَرِض عليه ويُبيِّن له خطأه، فإن استمرَّ فربما له الحق أن يسحب النَّظَارة منه، وأن يتولى النَّظَارةَ الحاكم.
وظيفة ناظر الوقف
قال:
وظيفة الناظر هي باختصار: أن يفعل ما فيه مصلحة الوقف، وذكر المؤلف له أمثلة؛ قال:
يعني: أن يفعل ما فيه مصلحة هذا الوقف، كُلُّ ما يتعلَّق به داخل في النَّظَارة، وهذا مما يختلف باختلاف الأحوال وباختلاف الأزمان.
قال:
أي: النَّاظِر.
أي: من أجرة مثلِهِ.
أي: عقد الإجارة.
أي: النَّاظِر.
وذلك لأنه يتصرَّف في مال غيره على وجه الأحظِّ؛ فضمن ما نقص كالوكيل.
نوضح هذا بمثال: هذا رجل وقَّف بيتًا، وجعل النَّاظِرَ عليه زيدًا من الناس، وإيجار هذا البيت في عُرْف الناس مثلًا خمسة عشر ألفًا، هذا النِّاظِر قام وأجَّره بعشرة آلاف، فهنا نُضمِّنه خمسة آلاف، فإن قال: أنا راعيت حال هذا المستأجر؛ لأنه إنسان فقير وأنه محتاج؛ فخفضت الإيجار وجعلته بدل خمسة عشر ألفًا: عشرة آلاف، هل له ذلك؟
نقول: لا، إذا كان فقيرًا فيُمكن أن تُساعده من مالك الخاص، أما بالنسبة للوقف فأنت مأمور بألَّا تتصرَّف إلا بالتي هي أحسن، كُلُّ مَن وَلِيَ مالًا لغيره فلا يقرَبُ هذا المال إلا بالتي هي أحسن، كوليِّ اليتيم: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152].
فالإنسان ليس له أن يَقْرَبَ مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني: الأحظ والأصلح والأحسن؛ ولذلك ليس له أن يُقرض مال اليتيم، وليس له أن يتصدَّق من مال اليتيم، وليس له أن يستثمره إلا إذا كان ذلك هو الأحسن.
ومثل -أيضًا- وليِّ اليتيمِ ناظِرُ الوقف، ليس له أن يُؤجر -مثلًا- الوقف بأقل من أجرة المِثْل، وليس له أن يتسامح مع المستأجر، التسامح بماله الخاص، نعم، لكن مال الوقف ليس له ذلك.
هذه قاعدة مهمة يا إخوان، فمَن وَلِيَ مالًا لغيره فهو كوليِّ اليتيم، حتى في المال العام يا إخوان، الإنسان مثلًا في دائرة حكومية هو كوليِّ اليتيم تمامًا، مأمورٌ بأن يتصرَّف بالتي هي أحسن، والوكيل مأمورٌ بأن يتصرَّف بالتي هي أحسن، والوصي، والولي، وناظر الوقف، هؤلاء كلهم، والذين -أيضًا- في الجمعيات مثلًا، وفي مكاتب الدعوة، وفي غيرها، هم كوليِّ اليتيم لا يتصرَّفون إلا بالتي هي أحسن؛ ولذلك لو فرَّط وآجَرَهُ بأنقص من أجرة المِثْلِ فإنه يضمن.
أي: ولي اليتيم.
هذه مسألة مهمة: ناظِرُ الوقف قد يبذل جهدًا كبيرًا في نَظَارة الوقف، فلو قلنا: إن نَظَارة الوقف إنها مجانًا، ربما الناس يعتذرون، كُلٌّ يعتذر؛ ولذلك أولًا ينبغي للوَاقِف أن يشترط أجرةً للنَّاظِر ابتداءً، فإن لم يشترط فيجوز للناظر أن يأخذ أجرةَ المِثْلِ ولو لم يشترط الواقِف ذلك.
ولهذا؛ قال المؤلف:
لكن، يكون ذلك بالمعروف، والمقصود بالمعروف هنا أجرة المِثْل.
ولهذا؛ قال البخاري في “صحيحه”: “باب نفقة القيِّم للوقف”؛ يعني: النَّاظِر، ثم ساق بسنده عن أبي هريرة : أن النبي قال: لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركتُ بَعْدَ نفقةِ نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة[2]. ثم ساق بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر اشترط في وَقْفِه أن يأكل منه وليُّه، ويُؤكِل صديقَه بالمعروف، غير متموِّل مالًا[3].
فيُفرَض له أجرة المِثْل؛ مثلًا: نفترض أن الوقف عقار، وأعطينا هذا العقار مكتبًا عقاريًّا، وقلنا: المطلوب منك إدارة هذا العقار، كم تأخذ؟ إذا قالوا مثلًا: نأخذ 2.5% من الإيجار، إذن نقول: أنت أيها النَّاظِر لك 2.5%. هذا هو المقصود، ولا يُشترَط حاجتُه؛ ولهذا قال: (ولو لم يكن محتاجًا).
يعني: يُقِرُّ في وظائفه مَن أراد حسبَ ما تقتضيه المصلحة؛ وذلك لأنه من مصالحه، ومن ذلك مثلًا المسجد، فهو الذي يُنصِّب إمام المسجد أو المؤذن على المسجد، لكن يلزمه أن يُولِّي من هو الأحقُّ شرعًا.
فنفترض -مثلًا- أن هذا الإنسان أُعطي مبلغًا من المال، مليون ريال؛ ليبني بها مسجدًا، وأنت النَّاظِر عليه، فلما بنى المسجد فهو الأحقُّ باختيار الإمام والمؤذن، وهذا الذي عليه أيضًا عمل الوزارة، وزارة الشؤون الإسلامية، أنهم يجعلون مَن يبني المسجد هو الأحقُّ بتعيين الإمام أو باختيار الإمام والمؤذن، أو النَّاظِر للوَقْفِ هو الأحق، لكن يلزمه أن يختار من هو الأصلح شرعًا، مَن هو الأولى بالإمامة أو بالأذان.
قال:
نفترض مثلًا أنه اختير فلان من الناس إمامًا لهذا المسجد، فليس لمن بنى هذا المسجد أو النَّاظِر عليه أن يستبعده ويأتي بآخر، إلا بسبب، إلا بموجِبٍ شرعيٍّ، أما مجرد أن يستبعده ويأتي -مثلًا- بإنسان آخر بدون مبرِّر شرعيٍّ فإن هذا لا يجوز. وهذا معنى كلام المؤلف: (مَن قُرِّرَ في وظيفة -كإمامة المسجد- على وَفْقِ الشرع)؛ يعني: رأى أن هذا هو الأحقُّ بالإمامة.
(حرُم إخراجه منها) لا يجوز أن يُخرَج من إمامة المسجد (بلا مُوجِبٍ شرعيٍّ)؛ إلا بموجب شرعيٍّ؛ كَفِسْقٍ ظاهر مثلًا أو نحو ذلك، أو مثلًا عدم قيامه بالإمامة أو الأذان على الوجه المطلوب، يتغيَّب مثلًا عن إمامة المسجد أو عن الأذان، أو نحو ذلك.
ومن ذلك أيضًا ولاية -مثلًا- وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، فإن الذين يبنون المساجد الآن يجعلون النَّظَارة للوزارة، وحينئذ إذا عُيِّن إنسان في مسجد فلا يجوز فصله إلا بسبب شرعيٍّ، أو المؤذن لا يجوز فصله إلا بسبب شرعيٍّ، فإن كان بدون سبب شرعي فإن ذلك يحرُم.
قال:
(لمن هو أهلٌ لها) يعني: مَن تنازل عن وظيفة من وظائف الأوقاف؛ من إمامةِ مسجدٍ أو أذانٍ أو نحو ذلك (لمن هو أهلٌ لها)، فإن ذلك يصح ويكون هذا المتنازَل له هو الأحقُّ.
لاحِظوا: المؤلف يتكلَّم عما هو موجود في زمنه، وقلنا في الدرس السابق: في القرون الماضية على مدار ثلاثة عشر قرنًا إلى القرن الرابع عشر الهجري، كان اعتماد المسلمين على الأوقاف في كُلِّ شيء؛ في الصحة، في التعليم، في الطرق، في جميع الأمور التي يحتاج لها الناس، الدولة الإسلامية كانت فقط تهتم بالأمن الداخلي والخارجي، وكان الوليُّ والخليفة يُعطِي كُلَّ مسلم عَطاءً من بيت المال، يعني: إن كان هناك فائض في بيت المال يُعطِيك، أنت فلان لك حقٌّ في بيت المال مقداره كذا، هذا معنى العطاء.
لكن الأمور الخَدْمَاتِيَّة التي يحتاج إليها الناس، هذه تعتمد على الأوقاف، فكان الفقهاء يُعْطوَنَ من الأوقاف؛ يعني: من طلاب العلم والفقهاء والأئمة والمؤذنين، كلها تعتمد على الأوقاف. ولذلك؛ كلام المؤلف يُشْعِر بهذا: (وما يأخذه الفقهاء من الوقف فكالرزق من بيت المال).
والأخذ من الرزق من بيت المال للمصالح الشرعية كالإمامة والأذان والقضاء ونحو ذلك؛ جائز بالإجماع، الخلاف في الأجرة، أَخْذِ الأجرة؛ ولهذا قال المؤلف:
الأجرة هي الجُعْل، فيها خلاف كثير، ومرَّت معنا فيما سبق في (كتاب الإجارة).
فما يأخذه إذن، ما يُؤخذ من الوقف ومن الرزق من بيت المال لا ينقصُ به الأجر مع الإخلاص، لا ينقص به الأجر، ولا -أيضًا- يقال: هذا هو الوَرَع أن الإنسان ما يأخذ -مثلًا- مقابل إمامة المسجد أو الأذان، ليس في هذا وَرَع، الوَرَع يكون في الشيء المُشتَبه، لكن هذا كما ذكرنا يجوز بالإجماع، فليس فيه شبهة.
الأجرة، هذا صحيح، هي محل خلاف بين أهل العلم: الإجارة على الأذان والإمامة والوظائف الشرعية، هذه هي التي فيها الخلاف بين أهل العلم، وسبق الكلام عنها.
ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية: “ما يُؤخذ من بيت المال -يعني: مقابل الوظائف الشرعية- فليس عِوَضًا وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البِرِّ الموصى بها”.
يتفرَّع عن هذا مسألة مهمة يا إخوان، إذا قلنا: إن ما يُؤخذ -مثلًا- على الوظائف الشرعية كالإمامة والأذان، أنه رزق وليس أجرة، وأنه من باب الإعانة على الطاعة، وليس معاوَضة، ليس عِوَضًا، فمعنى ذلك: لو أن الإمام أو المؤذن تخلَّفا أيامًا -مثلًا- ما أذَّن فيها، أو ما أمَّ فيها، لا يلزمه أن يُخرِج مقابل هذه الأيام ويتصدَّق بها، أو يردَّها -مثلًا- لحساب إبراء الذِّمة، لا يلزم ذلك، لماذا؟
لأن ما يأخذه ليس عِوَضًا، المسألة ليست معاوَضة، إنما هي كأن نقول بلُغة العصر: مكافأة تشجيعية للإعانة على الطاعة، وعلى أن يلتزم بهذا المسجد إمام أو مؤذن. بينما لو قلنا: إنها إجارة فتُصبح معاوَضة.
ولذلك؛ ذكَر لي بعض الإخوة أن في بعض الدول العربية، يقول: إن الإمام إذا غاب وقتًا يُخصَم عليه مقابل هذا الوقت، إذا غاب وقتين يُخصَم عليه مقابل هذين الوقتين، هذا إذا جعلنا الإمامة والأذان لها أجرة، ونحن لا نعتبرها أجرة، وإنما هي رزق من بيت المال من باب التشجيع والإعانة.
ومثل ذلك مثلًا: مكافأة طلاب الجامعة، المكافأة هذه ليست معاوَضة، ليست مرتبًا؛ ولذلك -مثلًا- الطالب الذي يغيب له يومًا ويومين، يغيب له أيام، ما نقول: يلزمه أن يتصدَّق مقابل هذه الأيام التي ما أتى فيها للجامعة؛ لأنها مكافأة تشجيعية لتشجيعه فقط.
فهذا يا إخوان من الفقه، أن نفرِّق بين ما كان على سبيل المعاوَضة، وما كان على سبيل الإعانة والتشجيع، ففَرْقٌ كبير بين الأمرين.
طيب، هل لإمام المسجد أو المؤذن إذا تغيَّب أيامًا يُريد إبراءَ ذِمَّته، نقول: إذا كان غيابه أكثر من حضوره فليس له أن يستمر؛ لأن هذا يُضيِّع المسجد، وإنما يستقيل، ويأثم بهذا، يلحق ذِمَّتَه شيءٌ، أما إذا كان حضوره أكثر من غيابه فلا بأس، لكن بشرط أن يُنِيب مَن يَؤُمُّ عنه أو يُؤذِّن عنه. هذا هو الضابط.
هذا هو أحسن ما يُقال في هذه المسألة: إذا كان حضوره أكثر من غيابه فلا بأس أن يستمر، ولا يلزمه أن يتصدَّق عن الأوقات التي لا يكون موجودًا فيها، بشرط أن يُنِيب مَن يَؤُمُّ عنه أو يُؤذِّن عنه. أما إذا كان غيابه أكثر من حضوره فلا يجوز له الاستمرار في وظيفة إمام المسجد أو المؤذن.
الوقف على الأولاد
ثم انتقل المؤلف للكلام عن الوقف على الأولاد؛ قال:
ومَن وقَفَ على ولده، أو ولد غيره، دخل الموجودون فقط من ذكور وإناث بالسَّويَّة مِن غير تفضيلٍ، ودخل أولاد الذكور خاصَّة.
فائدة الوقف على الأولاد
أولًا: نُريد أن نُؤصِّل لهذه المسألة: الوقف على الأولاد، هو يصح الوقف على الأولاد من حيث الأصل، وفائدة الوقف على الأولاد، قد يقول الإنسان: ما الفائدة من الوقف على الأولاد، مع أنه سيصل لهم بالميراث، قد يكون بعض الناس يهدُف من هذا، مَن يذكر لنا الفائدة؟
مداخلة: …..
الشيخ: الفائدة كبيرة، نعم، قد يبيعونه، يرى أن أولاده قد يبيعون هذا البيت وهذا العقار وتضيع أموالهم، يعرف أنه ليس عندهم حسن تدبير وحسن تصرُّف، فيقول: هذا البيت أُريد أن أَقِفَه حتى ما يبيعونه، وأيضًا بعض الناس يُريد أن يكون -مثلًا- بيته هذا مركزًا للعائلة، يُريد أنهم يجتمعون في هذا البيت مِن بعده، وربما تكون والدتهم موجودة، فيَقِف هذا العقار على أولاده. ففيه فائدة، فهو من حيث الأصل صحيح.
حكم تخصيص بعض الأولاد بالوقف دون بعض
لكن بعض الناس ربما يرتكب أخطاءً في الوقف على الولد، ومن ذلك تخصيص بعض أولاده بالوقف دون بعض، فإن هذا مُحرَّم، ولا يجوز تخصيص بعض أولاده دون بعض، أو تخصيص الذكور دون الإناث، أو تخصيص الأولاد من زوجة دون الأولاد من زوجة أخرى، هذا محرم ولا يجوز؛ لأنه يتضمَّن الظلم والجور.
والشيخ الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، له رسالة مطبوعة في هذا بعنوان “إبطال وقف الجنف والإثم”، ويبدو أن هذه الأوقاف كانت منتشرة زمن الشيخ، فصنَّف رسالة في هذا، وشدَّد في هذه المسألة، وكان مما قال: ومن أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه، والتحيُّل على ذلك، والتقرُّب إليه بمثل هذه الأوقاف التي يُحرَم فيها من أعطاه الله من امرأة أو نَسْلٍ أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يُعطى مَن حرمه الله، أو يزيد أحدًا عما فرض الله أو يُنقصه. ثم قال: فالأدلة على بطلان هذا الوقف أكثر من أن تُحصَر.
إذن؛ لا يجوز تخصيص بعض الأولاد بالوقف دون بعض.
لكن، لو وقف وقفًا على جميع أولاده فلا بأس بذلك، أو وقف وقفًا وعلَّقه بوصفٍ يُمكن أن يدخل فيه جميع الأولاد فلا بأس.
ومن ذلك مثلًا: أن يجعل وقفًا على المحتاج من ذريته، فإن هذا لا بأس به؛ لأن كل واحد ربما يدخل في هذا الوقف، وهذا له أصلٌ، الوقف على المحتاج من الذرِّية له أصلٌ، وقد جاء في “صحيح البخاري” عن الزبير بن العوَّام أنه وقَّف دُوره واشترط أن تَسكُن المردودة -يعني: المطلقة- من بناته غيرَ مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، فإن استغنت بزوج فلا حقَّ لها فيه. ولم يُنكر ذلك بقية الصحابة .
فإذا قال: وقفٌ على المحتاج مِن ذُرِّيتي، أو من ورثتي، أو من أولادي؛ فلا بأس بذلك. أما أن يقول: وقفٌ على فلان دون فلان من أولاده، فإن هذا لا يجوز.
بل إنه ينبغي أن يُنصح من كان عنده أولاد، خاصة إذا كانوا من أكثر من امرأة، أو يرى بينهم شيئًا من النزاع، أن يُوقِّف على المحتاج منهم، يقول مثلًا: بيتي هذا وقف على المحتاج، كلُّ مَن احتاج من امرأة، من رجل، أيَّ محتاج من ورثته، يأتي ويسكن في هذا البيت، فإن لم يكن فيهم محتاج، فإنه يُؤجَّر ويُجْعَل رَيْعُه في وجوه البِرِّ.
فهذا من أعظم الأوقاف التي يجعلها الإنسان إذا أراد جمع شمل الأسرة من بعده.
إذا وقف على أولاده فيستوي الذكور مع الإناث من غير تفضيل
قال:
الصواب: النسخة الأخرى: (أو ولد غيره)، وهنا أشار لها المحقق في بعض النسخ: “أو”، الصواب “أو”؛ لأنها أقرب لمقصود المؤلف.
يعني: إذا وقَفَ على أولاده فيدخل فيهم الموجودون فقط من الذكور والإناث، هنا يقول: بالسَّويَّة، ومعنى: بـ”السَّويَّة” أي: أنه يستوي الذكر والأنثى، فلا يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وذلك لأنه ليس تمليكًا تامًّا، وإنما هو تمليكُ استحقاق؛ ولذلك لا يملك هؤلاء الذين وَقَفَ عليهم، لا يملكون مِلكًا تامًّا، فلا يملكون أن يبيعوه، ولا يملكون أن يرهنوه، ولا يملكون أن يهَبوه.
طيب، هذه المسألة هي محلُّ اتفاق: أنه إذا وقَّف على أولاده فيستوي الذكور مع الإناث، ولا يقال: للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله: لم أقف على أحدٍ خالف في هذه المسألة.
طيب، نوضح هذا بمثال: لو قال: بيتي هذا وقفٌ على أولادي. وله ابنان وبنتان، فكم تكون أسهم المسألة؟ ابنان وبنتان: أربعة، لكل واحد سهم، بينما لو جعلنا للذكر مثل حظ الأنثيين كم تكون؟ للذكر -كلِّ واحدٍ- اثنان، واثنان: أربعة، واحد وواحد: ستة. فإذن؛ يستوي الذكر والأنثى هنا؛ لأنه تمليكُ استحقاق، وليس تمليكًا تامًّا، فيستوي الذكر مع الأنثى.
حكم الوقف على الأولاد ثم على أبناء الذكور
قال:
يعني: يدخل أولاد الذكور لو وقف على ولده، لو قال: “بيتي هذا وقفٌ على أولادي”، فيقول: يدخل الأبناء والبنات، وأولاد الذكور. وهذا هو القول الأول في المسألة.
والقول الثاني: إنهم لا يدخلون، لا يدخل أولاد الذكور مع وجود آبائهم؛ وذلك لأن القاعدة: “أن مَن استحقَّ بوصفٍ فيُقَدَّم مَن كان أقوى في هذا الوصف”. ومعلوم أن الولادة بالنسبة للأولاد أقوى وصفًا من أولاد البنين.
ولذلك؛ لو قال: “بيتي هذا وقف على أولادي” فهنا يدخل فقط الذكور والإناث، أما أولاد أولاده ما يدخلون، أولاد أولاده لا يدخلون.
القاعدة أن: “مَن استحقَّ بوصفٍ فيُقَدَّم مَن كان أقوى في هذا الوصف”. لكن، هل الترتيب بطنًا على بطن، أو فردًا على فرد؟ الترتيب هل هو بطنًا على بطن أو فردًا على فرد؟
يظهر لهذا ثمرة، سنوضح هذا بالمثال: بطن على بطن، المذهب: أنه بطن على بطن. والقول الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه.. فردًا على فرد.
فلو أنه وقفَ على ابنين فقط، فمات أحدهما، فهل ينتقل نصيب الميت لأولاده؟ إذا قلنا: بطنًا على بطن فلا ينتقل؛ لأن البطن الأول ما زال، ما زال عمهم موجودًا. وهذا هو المذهب.
والقول الثاني: إنه.. فردًا عن فرد، فمعنى ذلك: أن نصيب هذا الميت ينتقل لأولاده. وهذا هو الأقرب، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله.
نوضح مرة ثانية المسألة، أقول: هل الانتقال هنا، أو الترتيب، بطنًا على بطن أو فردًا على فرد؟
انتبه! يعني: لو قرأت في كتب الفقه تجد الكلام فيها شائكًا، لكن هذه خلاصته: أقول: المذهب عند الحنابلة: أن الترتيب بطنًا على بطن. والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الراجح: أن الترتيب فردًا على فرد؛ لأن الاستحقاق ليس من البطن الذي فوقه، وإنما الاستحقاق من جهة الواقِف.
فلو أن رجلًا له ابنان، فلو قلنا: إن الترتيب بطنًا على بطن، ومات أحد الابنين، فإنه لا ينتقل نصيبه لأولاده. وإذا قلنا: فردًا على فرد فأولاده يقومون مقامه في هذا الوقف.
والصحيح أن الترتيب فردًا على فرد، وليس بطنًا على بطن.
قال:
لو قال: هذا الوقف على أولادي فقط؛ فالأولاد الحادثون يقول: إنهم لا يدخلون.
يعني إنسان مثلًا قال: بيتي هذا وقفٌ على أولادي. ثم بعد سنة أو سنتين أو أكثر رُزِقَ بأولاد، هل الأولاد الذين حدَثوا بعدما وقَّف هذا العقار يدخلون؟ المؤلف يقول: إنهم لا يدخلون.
والقول الثاني في المسألة: إنهم يدخلون، القول الثاني: إنه يدخل الحادث تبَعًا. واختار هذا القول ابن أبي موسى، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو القول الراجح: أنهم يدخلون، الحادث يدخل؛ وذلك لأنه أقرب لمقصود الواقف، فإن الإنسان عندما يقول: بيتي هذا وقفٌ على أولادي، يقصد الموجودين، ويقصد مَن يأتي مِن أولاده فيما بعدُ، ولا يقصد أولاده الموجودين ويحرِم الحادث من أولاده.
فإذن؛ الأقرب من مقصود الواقف: إدخال الحادث من الأولاد في وقفِ الأولاد.
قال:
وهذا مما يُقوِّي ترجيح المسألة السابقة، الحقيقة أنه لا فرق بين المسألتين، لا المسألة الأولى ولا الثانية، وأنه يدخل الحادِثون كما يدخل الموجودون.
هل أولاد البنات يدخلون في مسمى الأولاد؟
قال:
وهذه مسألة مهمة: هل أولاد الإناث -أولاد البنات مثلًا- يدخلون في مسمى الأولاد أو لا يدخلون؟
إنسان قال: “بيتي هذا وقفٌ على أولادي”، طيب، أولاده البنون والبنات، ومن بعدهم؟ أبناء البنين وأبناء البنات هل يدخلون في هذا الوقف؟
أو قال: “بيتي وقفٌ على ذرِّيتي”، هل يدخل أبناء البنات أو لا يدخلون؟
- المذهب عند الحنابلة، وهو قول الجمهور: أنهم لا يدخلون.
- والقول الثاني في المسألة: هو أن أولاد البنات يدخلون في الأولاد. وهو مذهب الشافعي.
ومَن قال بدخولهم استدلَّ بقول الله تعالى: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84]، إلى قوله: وَعِيسَى [الأنعام:85]، وعيسى هو ولدُ بنت وليس ولد ابن، هو عيسى ابن مريم عليهما السلام؛ قالوا: فجعل الله تعالى عيسى مِن ذرية نوح مع أنه ولدُ بنته، فجعله من ذرِّيته، وذكر الله تعالى أيضًا، قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ [مريم:58]، وعيسى معهم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن ابني هذا سيد وهو ابن بنت[4].
وأما الجمهور فقالوا: إن أولاد البنات لا يدخلون في ذلك؛ وذلك لأن هذا هو الأقرب لمقصود الواقفين؛ لأن مقصود الواقفين عدم دخول أولاد البنات؛ ولأن أولاد البنات يُنسَبون إلى آبائهم دون أمهاتهم؛ ولأنه لو وقفَ إنسان على ولدِ رجلٍ وصاروا قبيلة، دخل ولد البنين دون ولد البنات بالإجماع؛ ولأنه في العاقِلة لا يدخل أولاد البنات، في العاقِلة التي تَعْقِل الدِّيَة عن القاتل خطأً أو شبهَ العمد لا يدخل أولاد البنات، ولا مدخل لهم -أيضًا- في ولاية النكاح، ويُعتَبرون من ذوي الأرحام؛ ولأن ولد الهاشمية من غير الهاشمي ليس بهاشمي، ولا يُنسَب إلى أبيه، لا يُنسَب إلى أبيه، إلى أمه.
طيب، أيهما أقرب إلى مقصود الواقفين؟ دخول أولاد البنات في مُسمَّى الأولاد، أو عدم دخولهم في عُرْف الناس؟
إذا قال إنسان: “وقفي هذا البيت على أولادي”، أيهم أقرب؟ اترك أبناءه وبناته، واضح، لكن عندك أولاد أولاده وأولاد بناته، فماذا يقصد هذا الواقِفُ غالبًا؟ هل يقصد دخول أولاد البنات أو لا يقصد؟
الغالب أنه ما يقصد؛ ولهذا فالقول الراجح: إن أولاد البنات لا يدخلون، القول الراجح هو ما قرَّره المؤلف: إن أولاد البنات لا يدخلون.
وأما ما ذكره أصحاب القول الثاني عن عيسى عليه الصلاة والسلام، قالوا: إن أمَّ عيسى هي أبوه، يعني: تقوم مقام أبيه؛ لأنه وُلِد من غير أبٍ، فأمُّ عيسى أبوه، فلم يكن له أبٌ يُنسَب إليه؛ فنُسِبَ لأُمِّه؛ ولذلك يقال: عيسى ابن مريم.
وقول النبي إن ابني هذا سيد، هذا من باب التجوُّز في العبارة، وإلا فالله يقول: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [الأحزاب:40]، فالأقرب: هو أن أولاد البنات لا يدخلون في مُسمَّى الأولاد.
وصاحب “الشرح الكبير” قال: “القول بأنهم يدخلون أصح وأقوى دليلًا”، ولم أرَهَ للموفق مع أن صاحب “الشرح الكبير” غالبًا ينقل اختيارات الموفق، لكن هذه من المسائل التي ذكرها صاحب “الشرح” ولم يذكرها الموفق ابن قدامة رحمه الله.
فإذن؛ الأقرب عدم دخول أولاد البنات في مُسمَّى الأولاد عند الإطلاق، أما عند وجود قرينة فيُعمَل بالقرينة، فلو قال مثلًا: “بيتي هذا وقفٌ على أولادي من بعد وفاتي، ومَن بعدهم أولاد الأولاد، وأولاد البنات”؛ فيُعمَل بهذا التصريح أو القرينة الموجودة.
وذلك لأن لفظ “البنين” إنما يُطلق على الذكور، لكن قال الفقهاء: إن كانت قبيلة كبني هاشم وبني تميم مثلًا، فيشمل كل الذكور والإناث، ويُقال: بنو هاشم كلهم، ليس المعنى أنه ذكور بني هاشم، وإنما يشمل الذكور والإناث؛ لأنه يُقال للقبيلة: بني فلان، واسم القبيلة يشمل ذَكَرَها وأنثَاها.
حكم تفضيل بعض الأولاد على بعض لغير سبب
قال:
والصحيح أنه يَحرُم، ليس مجرد كراهة؛ لقول النبي : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم[5]، وقوله في الرواية الأخرى: أشهِد على هذا غيري؛ فإني لا أشهد على جور فسمَّاه النبي “جورًا”[6].
قال:
والصحيح في مثل هذا: هو أن للذَّكَر مثل حظ الأنثيين، الصحيح أن الأولى أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، كقسمة الله في الميراث، وقد اختار هذا القول الموفق ابن قدامة رحمه الله؛ لأنه لا أعدل مِن قسمة الله تعالى، فإن الإنسان إذا أراد أن يُعطِي أولاده فالسُّنة أن يجعل الذَّكَر ضعف الأنثى.
طيب، كلامنا السابق، نحن قلنا: يُسوِّي بين الذكر والأنثى، كيف نوفِّق بينه وبين هذا الكلام؟
نقول: هذا إذا أطلق، إذا قال: “بيتي هذا وقفٌ على أولادي”، فنقول: يستوي الذكر والأنثى، لكن ابتداءً إذا كان حيًّا يُريد أن يَقِف، نقول: لا، اجعل الذكر له ضعف الأنثى.
فالسُّنة إذن أن يكون الذكر ضعف الأنثى: في الهِبَة، وفي العطية، وفي الوقف، وفي كل شيء؛ لأنه لا أعدل من قسمة الله، والله تعالى جعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ ولأن الذكر أكثرُ حاجةً، فالذكر هو الذي يُطالب بالنَّفَقةو الأنثى لها النَّفَقة، الذكر هو الذي يُطالَب بالمهر والأنثى لها المه.، فلا شك أن العدل والإنصاف يقتضي أن يكون الذكر له أكثر من نصيب الأنثى.
مداخلة: …..
الشيخ: القول بالتسوية، إذا قال: “بيتي هذا وقفٌ على أولادي” وأطلق، فنقول: يستوي الذكر والأنثى، لكن إذا كان حيًّا ويُريد أن يَقِف؛ نقول: السُّنة أن تجعل الذكر ضعف الأنثى: في العطية، وفي الوقف، وفي الهبة، وفي كل شيء.
قال:
لا بأس أن يخصَّ بعض أولاده بوصفٍ، لكن بشرط أن يكون هذا الوصف يصلح أن ينطبق على الجميع، بحيث يمكن لأيِّ واحد من الأولاد أن يشمله هذا الوصف.
فمثلًا: لو خصَّ الذكور لا يجوز؛ لأن الإناث يبقين إناثًا، ما يمكن أن يَكُنَّ ذكورًا، لكن لو خصَّ المحتاج، قال: “بيتي هذا وقفٌ على المحتاج” فهنا لا بأس؛ لأن كل واحد منهم قد يحتاج فيدخل في هذا الوصف، لو قال: “بيتي هذا وقف على المشتغلين بالعلم” من باب تشجيعهم على طلب العلم فلا بأس، لو خصَّ -مثلًا- ذا الدين والصلاح فلا بأس.
المهم أنه إذا خصَّهم بوصف يصلح لأن يصدُق على أيِّ واحد منهم؛ فلا بأس بذلك، أما إذا خصهم بوصف لا يصدُق على واحد منهم فإن هذا لا يجوز.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، إذا كان -مثلًا- أحد الأبناء بارًّا فلا يجوز أن يخصَّه بعَيْنِه، وإنما يصح أن يُخَصَّ بالوصف، أما صلاحه وبِرُّه فلنفسه، فلا يجوز -مثلًا- أن يخُصَّ الولد، يقول: ولدي هذا البارُّ أعطيه كذا، أما غير البارِّ فما أعطيه شيئًا؛ ما يجوز هذا لأن صلاحه وبِرَّه لنفسه، لكن له أن يقول: الصالح من أبنائي له كذا، أو المحتاج، أو -مثلًا- الفقير، أو نحو ذلك.
نوع عقد الوقف
ثم قال المؤلف رحمه الله:
آخر فصل معنا في (باب الوقف)؛ قال:
أفاد المؤلف بأن نوع عقد الوقف: أنه عقد لازم.
فسَّر المؤلف المقصود بقوله: “لازم”، قال:
طيب، قبل هذا بقي مسألة يحسُن التنبيه لها، قبل أن ننتقل للفصل الأخير:
إذا قال: “الوقف على قرابتي”، القرابة تشمل الفروع؛ يعني: الأبناء وأبناء الأبناء وإن سَفَلوا. وتشمل كذلك الأصول؛ فلا بد من التحديد، وإلا لو لم نُحدِّد القرابة لوصلنا إلى آدم، لوصلنا في القرابة إلى آدم، لكن لا بد من التحديد، وأحسن ما قيل في التحديد هو كما ذكر ذلك في “الروض المربِع” أنه إلى الأب الثالث، ودليل هذا أن الله قال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].
وأيضًا أقارب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا إلى بني هاشم؛ ولذلك لا تحِلُّ الصدقة لأقارب النبي عليه الصلاة والسلام، الذين هم بنو هاشم فقط، فالنبي عليه الصلاة والسلام سلسلةُ نَسَبِه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم. لكن عبد مناف، بنو عبد مناف لا، ليسوا كلهم قرابة للنبي عليه الصلاة والسلام، وليسوا كلهم لا تحِلُّ لهم الزكاة.
مثلًا: بنو المطلب تحِلُّ لهم الزكاة، بنو عبد شمس، بنو نوفل تحِلُّ لهم الزكاة، لكن بني هاشم فقط هم الذين لا تحِلُّ لهم.
فدلَّ ذلك على أن القرابة هم الذين يلْتَقون في الأب الثالث، محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، وهم الذين تجب صِلَتهم، صِلَة الرحم أيضًا، يعني مثلًا: مِن أسرة كذا آل فلان، هل يجب عليك أن تصل هؤلاء كلهم؟ نقول: يجب عليك أن تصل الفروع، وتصل من الأقارب إلى الأب الثالث، ما عدا الأب الثالث فيُستحب.
قال:
وذلك لأنه عقد يقتضي التأبيد؛ ولقول النبي في حديث عمر : لا يُباع أصله ولا يُوهب ولا يُورث[7]، قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم. وإجماع الصحابة على ذلك، فيحرُم بيعه ولا يصح.
قال:
هذه كلها تفريعٌ على قوله: (عقدٌ لازمٌ).
الواجب في الوقف إذا تعطل نفعه
لكن استثنى من ذلك؛ قال:
فيجوز يجوز بيعه حينئذ إذا تعطَّلت منافعه، فإذا تعطَّلت منافعه بالكُلِّية يجوز بيعه ونقله بقول جماهير الفقهاء.
ولذلك قال المؤلف:
هذا عند تعطُّل منافعه، لكن لو تعطَّلت بعض منافعه ولم تتعطَّل منافعه بالكلية، فهل يجوز نقله لما هو أصلح أو لا؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فالجمهور على أنه لا يجوز نقله، والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز نقله لما هو أصلح. واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ واستدل الجمهور بعموم قول النبي : لا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَث.
وأصحاب القول الثاني الذين قالوا بجواز نقله لما هو أصلح؛ استدلوا بحديث جابر رضي الله عنهما: أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين؟ فقال النبي : صَلِّ هاهنا، فأعاد عليه، قال : صَلِّ هاهنا فأعاد عليه، قال : صَلِّ هاهنا فأعاد عليه، قال : شأنك إذًا رواه أبو داود[8].
فهنا وجه الدلالة: أن النبي أرشده إلى إبدال المنذور بخيرٍ منه؛، وذلك أن الصلاة في المسجد الحرام خير من الصلاة في المسجد الأقصى، فإذا جاز ذلك في المنذور مع أنه نذر طاعة يجب الوفاء به، فكذلك في إبدال الموقوف بما هو خير منه.
وهذا من أظهر الأدلة على جواز نقل الوقف إذا لم تتعطَّل منافعه بالكلية، وهذا عند أبي داود بإسناد صحيح[9].
مداخلة: …..
الشيخ: إذا كان أصلح، يعني مثلًا: نفترض أن هذا الوقف إيجاره عشرة آلاف، ولو نقلناه في المكان الفلاني أصبح إيجاره خمسة عشر ألفًا، فهنا على قول شيخ الإسلام يجوز نقله، لكن على قول الجمهور لا يجوز، والذي عليه العمل الآن هو جواز النقل.
وشيخ الإسلام له نظرة: وهي أن نصوص البشر لا تأخذ من التقديس كما لنصوص الشارع؛ فلذلك يقول: إن هذا بشر؛ الذي وقفَ، إذا وجدنا مصلحة في نقل ما هو أصلح فلا بأس بهذا، قواعد الشريعة تدل لهذا، ولا بأس به؛ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام أرشد هذا الرجل بأن يُصلِّي في المسجد الحرام مع أن نذرَه كان في المسجد الأقصى.
طيب، إذن من حيث أصل المسألة قلنا: القول الراجح: أنه يجوز نقل الوقف لما هو أصلح.
قال:
يعني: هنا يجوز عند تعطُّل منافعه في قول أكثر أهل العلم، ولو تعطَّلت بعض منافعه على القول الراجح.
قال:
يعني: لو تعطَّلت أشياء من الموقوف لم يتعطَّل الموقوف كله، وإنما بعض آلته، أو حجارته، أو بعض الأثاث، أو نحوه، فهنا يقول: يُنقل إلى مسجد آخر، وذلك أولى من بيعه.
نوضح هذا بمثال، مثلًا: جماعةُ مسجدٍ أرادوا أن يستبدلوا مكبِّر الصوت بمكبِّر صوتٍ آخر، أو أرادوا أن يستبدلوا المكيفات بمكيفات أخرى مثلًا، فهنا نقلها لمسجد آخر أولى، تُنقَل المكيفات القديمة إلى مسجد آخر، أو الفرش القديم لمسجد آخر.
لكن، هل يجوز أن تُباع هذه المكيفات القديمة ويُجعل رَيْعها للمسجد؟ نعم، يجوز، لكن المؤلف يقول: إن نقلها لمسجد آخر أولى؛ ولذلك قال: (لمسجدٍ آخر احتاج إليها، وذلك أولى من بيعه). لكن بيعه يجوز؛ ولهذا قال البُهُوتي في “الروض المربع”: “يجوز بيع بعض آلته وصرفها في عمارته”.
وعلى ذلك لو -مثلًا- بِيعت المكيفات وجُعِلت في عمارة هذا المسجد، في مصالحه؛ فلا بأس، يبيع إمام المسجد -مثلًا- مكيفات المسجد القديمة، والثمن يجعلونه لمصلحة المسجد، فلا بأس بذلك، يبيع -مثلًا- مكبِّر الصوت القديم، ويجعل ثمنه في المسجد.
إذن؛ إذا استغنوا عن شيء قديم وأرادوا استبداله بشيء جديد، عندنا خياران:
- الخيار الأول: أن ينقلوا القديم لمسجد آخر، أو ما هو من جنس الوقف. هذا هو الأولى.
- الخيار الثاني: وهو يجوز أن يُباع هذا القديم، ويُجعَل الثمن في مصلحة المسجد، كِلَا الأمرين جائز.
قال:
يعني: نقل المنارة وجعلها حائطًا -يعني: جدارًا- لتحصين المسجد، ونحو هذا يجوز؛ لأن ذلك من مصلحة المسجد.
القاعدة: أن الوقف إذا تعطلت منافعه، أو أُرِيد نقله، أو استُغِنيَ عنه، فيُنقل فيما هو من جنسه؛ إذا كان في المسجد فيُنقل لمسجد آخر، وإذا كان -مثلًا- في مدرسة فلمدرسة أخرى.
ولذلك؛ يُخطئ بعض الناس، تجده يستغني -مثلًا- جماعة المسجد عن مكبِّر الصوت، فيأتي بعض الناس وينقلونه لمدرسة، هذا خطأ، لا بد عند نقله أن يُنقَل لمسجد آخر وليس لمدرسة، فلا بد أن يكون النقل لما هو من جنسه.
قال:
ثم ختم المؤلف (باب الوقف) بهذه المسألة؛ قال:
وذلك لأن البقعة مستحقة للصلاة، فتعطيلها عدوان. لكن استثنى المؤلف، قال:
أما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس، إذا كان مصلحة في حفر البئر -مثلًا- لأجل استخراج الماء ليتوضأ الناس، أو وُجد مصلحة لوضع الشجر على محيط المسجد مثلًا أو قريب من سور المسجد، هذا كله لا بأس به، إذا وجد في ذلك مصلحة.
بهذا نكون قد انتهينا من أبرز المسائل والأحكام المتعلقة بـ(باب الوقف).
الأسئلة
ونُجيب عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: …..
الشيخ: هذا عند الجمهور أنه لا يصح ولا يجوز، وقلنا: على رأي شيخ الإسلام يصح.
السؤال: …..
الشيخ: بعض المنافع، إذا تعطلت بعض المنافع، مثلًا: المكيفات، هي تشتغل، لكن وُجِد متبرع لمكيفات جديدة، فيمكن نقل المكيفات لمسجد آخر، أو بيعها وصرف ثمنها للمسجد، حتى في كل شيء، كل شيء -يعني- إذا لم تتعطل المنافع بالكلية فيه خلاف قوي: فالجمهور يمنعون، لكن على رأي شيخ الإسلام أن ذلك يجوز. ورأي شيخ الإسلام أقرب؛ لأن شيخ الإسلام له نظرةٌ، أن كلام البشر يخضع للمصلحة، ولا يُقدَّس كلام البشر، وإنما ذلك لنصوص الشارع. هذه نظرة شيخ الإسلام رحمه الله، وعليه تتفرع هذه المسائل كلها.
السؤال: …..
الشيخ: لا، الوقف لا يُباع، لا يُباع مطلقًا، حتى الموقوف عليه ليس له أن يبيع.
السؤال: …..
الشيخ: هو تنازل عنه، يمكن أن يتنازل عنه بعِوَض، لكن البيع لا، له أن يتنازل عنه بعِوَض.
نأخذ الأسئلة المكتوبة.
الشيخ: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا يقول: فضيلة الشيخ، أنا مؤذن في أحد المساجد، ولا أحضر فيه إلا صلاة المغرب والعشاء، وباقي الفروض لا يوجد جماعة، فما قولكم؟
الشيخ: إذا كان الواقع كما ذكر، أنه لا يوجد جماعة ولو واحد، فلا حرج عليه، أما إذا كان يمكن أن يوجد جماعة فليس له ذلك؛ لأنه الآن غيابه أكثر من حضوره، لكن إذا كان الواقع كما ذكر أنه لو ذهب لَصَلَّى وحده، فهنا لا يلزمه، وإن كان الأولى أن يذهب ولو أن يُصلِّي وحده، كونه يفتح المسجد ويُحيِي المسجد هذا أولى، لكن لا نستطيع أن نُوجب عليه ولا يوجد فيه جماعة.
لكن، أنا أقول: لو أنه فعل ذلك، وأعلن ذلك للبيوت القريبة، فسيُشجِّع الناس، إذا عرف الناس أن هذا المسجد سوف يفتح ويُصلَّى فيه، فالغالب أنه سيأتي من يُصلِّي معه فيه، لكن إذا عرف الناس أن هذا المسجد مُقفَل فلن يُصلِّي معه أحد.
ولذلك؛ هو يُجرِّب على الأقل، لو جرَّب شهرًا واشتُهر عند الناس أن هذا المسجد يُصلَّى فيه بقية الأوقات، فربما يجد مِن جماعة المسجد من الأحياء القريبة مَن يُصلِّي معه.
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا يقول: هل على الوقف زكاة؟
الشيخ: الوقف ليس عليه زكاة، الوقف مطلقًا ليس عليه زكاة؛ وذلك لأنه إنما يُصرَف في وجوه البِرِّ، وما كان من وجوه البِرِّ فليس فيه زكاة مطلقًا، حتى ولو استثمره، ولو استثمره الناظر فليس فيه زكاة مطلقًا.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: أرجو توضيح الوقف على النفْس، هل معنى ذلك أن يكون هو النَّاظِر؟
الوقف على النفس
الشيخ: الوقف على النفْس: هذا إنسان عنده بيت، وقال: “بيتي هذا وقف على نفسي في حياتي، وبعد وفاتي يُصرَف في وجوه البِرِّ”؛ فلا بأس بذلك.
الوقف على النفْس معناه: أن هذا العقار لا يستطيع أن يبيعه، ولا أن يَهَبه، ولا أن يَرْهَنه. هذا معنى الوقف على النفْس، وهو جائز ولا بأس به، وسبق أن أشرنا له في الدرس السابق وتكلمنا عن هذه المسألة بالتفصيل.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: كثيرًا ما تقولون عن كتاب “هكذا علَّمتني الحياة”، وقد قيل: إن فيه مخالفات. فما رأيكم؟
الشيخ: هذا ليس في هذا الكتاب فحسب، الكتب كثيرة، خذ “فتح الباري”، خذ “شرح النووي على مسلم”، أو لو أخذتَ غيرها من الكتب، فيها مخالفات، هل كل كتاب فيه مخالفات يُترَك؟ لو أخذنا بهذا المبدأ ما صفا لنا من الكتب إلا القليل القليل جدًّا وما بقي معنا إلا كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعدد قليل من أهل العلم.
ولذلك؛ فالمنهج الصحيح أن الإنسان يستفيد من هذه الكتب، وإن كان فيها أخطاء، يستفيد مما فيها من الفائدة، مما فيها من العلم، ولا يتركها بسبب هذه الأخطاء.
مثلًا: “شرح النووي على صحيح مسلم” تأويل الصفات صريح وعلى مذهب الأشاعرة، ومع ذلك هو من أنفع الكتب، بل كان شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله يقول: هو أحب كتاب إليه. وقرأه مرارًا.
فطالب العلم يكون عنده سَعَة أُفُقٍ، يستفيد من هذه الكتب وإن كان فيها أخطاء، لكن ينتبه للأخطاء ويتجنَّبها، لكن ليس معنى ذلك أن أيَّ كتاب فيه أخطاء، أنه يهجرها، هذا منهج غير صحيح.
السؤال: أحسن الله إليكم. مسجد قديم واحتاج إلى ترميم، وجاء فاعل خير وبناه، فمن يكون صاحب الوقف؟
الشيخ: الأرض تكون للأول، والبناء يكون للثاني؛ لأن البناء انهدم وبناه شخص آخر، فيكون أجر البناء للثاني، وأما أرض الوقف فأجرها للأول، فيكونان يشتركان في الأجر، فضل الله واسع.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا كان مصرف الوقف لأهل البدعة، فهل يجوز للحاكم أن يصرفه؟
الشيخ: الحاكم له ولاية عامة على الأوقاف، فإذا كان لأهل البدعة فيجوز بل يجب عليه أن يصرفه لأهل السنة، ولا يجوز أن يُمَكن أهل البدعة للاستفادة من أوقاف أهل السنة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: لو وقف على أولاده، ثم مات أولاده، فهل يستمر لأولاده، أو يُصرَف في وجوه البِرِّ؟
الشيخ: هذه ترجع لمسألة خلافية: وهي مصرف الوقف المنقطع. وأشرنا لها في الدرس السابق، وقلنا: المذهب عند الحنابلة أنه يكون للورثة، أن الوقف يرجع للورثة ثم ورثتهم، وهكذا ورثته نَسَبًا. وذكرنا القول الثاني وقلنا: هو القول الراجح، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن مصرِف الوقف المنقطع يكون في ماذا؟
مداخلة: …..
الشيخ: في الفقراء والمساكين، أحسنت.
ونقلنا كلام ابن قدامة أنهم هم مصارف مال الله وحقوقه.
فبناءً على ذلك جوابًا عن سؤال الأخ: إذا وقف على أولاده وسكت، فانقرض أولاده، فيكون للفقراء والمساكين.
مداخلة: …..
الشيخ: المانع أولًا لعدم ثبوت ذلك، لو ثبت أنه صحيحٌ.. كلامُ الأخِ السائل ما ثبت أصلًا، كلها إسرائيليات، الوارد في هذا إسرائيليات، ما ورد في ذلك حديث صحيح، لو أنه ثبت هو ليس ممتنعًا عقلًا، لكن لم يثبت سَنَدًا، لم يثبت سنَدًا.
فإذا كان لم يثبت سنَدًا، فالأقرب لظاهر القرآن هو عدم صحة هذه الرواية؛ لأن الله تعالى أخبر بأنه أمطرَ عليهم حجارة من سجيل، فيعني حجارة من سجيل يُعذَّبون بها، فلو كانوا رُفِعوا إلى السماء ثم قُلِبت عليهم، الغالب أنهم سيتقطعون ويموتون قبل أن ينالهم عذاب هذه الحجارة.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: رجل وقف عقارًا على أولاده، وكان العقار… على بعض الأولاد، فهل يجوز الوقف؟
الشيخ: ما دام أنه وقفَ على أولاده، فيعني مَن أُجِّر عليهم يدفعون الأجرة، ثم يُخصَم ما يخص الأولاد، ما يخص الأولاد يخصم يعني: يُعامل هذا المستأجر معاملة الأجنبي، لو أجَّر عليه -مثلًا- بعشرة آلاف، نقول: ادفع عشرة آلاف، ثم بعد ذلك العشرة الآلاف هذه تكون على الموقوف عليه.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هل آثَمُ إذا ساويتُ بين أولادي في النفقة؟
الشيخ: التسوية بينهم في النفقة إذا كانوا متساوين، يعني مثلًا: عندك ابنان ذَكَران سِنُّهُما متقاربة، فهنا لا بأس، أما إذا كانوا مختلفين فإن هذا جور، أن تُعطِي الكبير مثل الصغير، مثل ابن في المرحلة الجامعية، أو مثلًا في المرحلة الثانوية، هل تُعطيه مثل ابنك في المرحلة الابتدائية؟ أو مثل البنت؟ مثل الذكر مثل الأنثى؟
هذا ليس من العدل، العدل هو أن تُعطِي كلَّ واحدٍ ما يحتاج إليه، الذي يلزم فيه التسوية هو العطية المحضة، في العطية المحضة يُساوَى بين الذكور ويُعطى الذكر ضعف الأنثى. وهذه مسألة إن شاء الله سنتعرَّض لها الدرس القادم بالتفصيل إن شاء الله في (باب الهِبَة).
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا كان هناك دار مُوقُوفة، وسكن فيها رجل فقير، ومصرف الوقف على الفقراء، فهل لِنَاظِر الوقف تأجيره…؟
الشيخ: إذا كان هو فقيرًا فله -أصلًا- أن يسكن فيه بالمجان، فإذا طُلِب منه سعر أقل من أجرة المِثْل فلا بأس؛ لأنه -أصلًا- مستحقٌّ لهذا الوقف، ما دام أن مصرف هذا الوقف للفقراء والمساكين، وهو من الفقراء، فهو أصلًا من مصارف هذا الوقف.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا أوصى بوقفِ بيته بعد وفاته، فهل تكون الوصية لازمة لوجود الوقف فيها، أو أن له الرجوع؟
الشيخ: هذا تكلمنا عنه بالتفصيل، يا إخواني الذي تكلمنا عنه وشرحناه في الدرس السابق ولا نُريد أن نُعيد الكلام فيه؛ لأننا تكلمنا عنه بالتفصيل.
فلعل الأخ السائل يرجع للشرح، ينبغي أيضًا مَن يحضُر الدرس يضع آلية للضبط: إما بالتسجيل، أو بالكتابة، أما أنه يحضُر بدون تسجيل وبدون كتابة سينسى، بعد شهر ينسى المعلومات كلها.
فلعل الأخ إن شاء الله تعالى، الذي يُظَنُّ أن كل واحد يحضر عنده آلية للضبط، فيرجع للكلام، تكلمنا عن هذه المسألة بالتفصيل في الدرس السابق.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم، يقول: إذا كان هناك كتب موقوفة في المسجد، ولكن فيها بعض الخلل العقدي، مثل بعض كتب التفسير، ماذا يُفعل بها؟
الشيخ: نعم، هذه تكلَّمنا عنها قبل قليل، وقلنا: لا يخلو كتاب من أخطاء، بل إن الشافعي رحمه الله يقول: “يأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه”، ثم استدل بقول الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء:82].
أيُّ كتاب غير كتاب الله تجد فيه شيئًا من القصور والخلل، وكما ذكرنا: الإنسان يستفيد مما في هذه الكتب من الخير ويترك ما فيها من الشر، معظم كتب التفسير ما تخلو من أخطاء، ما تخلو من إسرائيليات، ما تخلو من تأويل الصفات، عندهم بعض الانحراف، حتى تفسير ابن كثير فيه إسرائيليات كثيرة. وكذلك مثلًا بعض شروح الأحاديث، ومن أبرزها مثلًا “فتح الباري” لابن حجر، “شرح النووي”.
كثير من الكتب فيها أخطاء، فيها أحيانًا تأويل الصفات، فيها التفويض، فهنا طالب العلم يستفيد بما فيها من الخير، ويترك ما فيها من الشر، هذا هو الموقف.
أما أنه يُريد كتابًا ليس فيه أخطاء إطلاقًا، هذا ربما يحصل في عدد قليل جدًّا من الكتب، بل حتى لو كتب ابن القيم، مثلًا “مدارج السالكين” فيه تصوُّف، لكن طالب العلم يُميِّز بين النافع من الضار، يُميِّز بين الحق من الباطل.
فربما أن بعض هؤلاء العلماء نشأ في بيئة وتأثَّر ببيئته، مثل: النووي وابن حجر، نشآ في بيئة كلها أشاعرة، كان مذهب الأشاعرة هو السائد في وقتهما، كان من على العقيدة السلفية الصحيحة قِلَّة، ولم يكن لهم دولة ولم يُمكَّنوا، قرونًا طويلة لم يُمَكَّنوا، وكان من بعد هارون الرشيد أو حتى قبل ذلك لم يُمكَّن مَن على العقيدة السلفية، لا من ولايات ولا من القضاء، كانوا حتى يُبعَدون من القضاء، والحنابلة كذلك، حتى قامت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، فمُكِّن مَن على المعتقد السلفي الصحيح، وانتشر مذهب الحنابلة.
وكما يقول بعضُ من كَتب تاريخ الفقه: لعل الله تعالى عوَّض المذهب الحنبلي بقيام هذه الدعوة المباركة، دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وانتشر الآن مذهب الحنابلة انتشارًا كبيرًا.
الدولة العباسية لما أتت، حصروا القضاء في المذهب الحنفي، وكان القاضي أبو يوسف هو رئيس القضاة، ما يُولِّي إلا الحنفية فقط. والدولة العثمانية أيضًا حصرت القضاء في المذهب الحنفي. والمذهب المالكي انتشر في بلاد المغرب العربي. والشافعي انتشر في مصر، وكذلك في بعض الحجاز.
مذهب الحنابلة -حقيقة- هو كان أقلَّ المذاهب الأربعة انتشارًا، ولم يُمَكَّن أتباعهم من الولايات، لا في القضاء، ولا غيرها، لكن كان لهم التمكين بعد قيام دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وهذا هو السِّرُّ، تجد بعض الأئمة كيف؟! تستغرب!
مثل النووي وابن حجر، فيه عندهم انحراف فيما يتعلَّق بتأويل الصفات، النووي، أيُّ صفة غير الصفات السبع يُؤوِّلها، حتى في “رياض الصالحين” له كلام في تأويل بعض الصفات، وفي “شرح النووي”، هنا طالب العلم يُميِّز بينها، ولا تُهجر هذه الكتب ولا تُتْرك لأجل ما فيها من تلك الأخطاء.
السؤال: المتوكل يا شيخ…
الشيخ: المتوكل، نعم هو نَصَر السُّنة في الجملة، ليس في كل شيء، هو عنده بعض الأخطاء، لكنه يُحمَد له نُصرَة الإمام أحمد، ولأهل السنة في الجملة.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم.
الحاشية السفلية