عناصر المادة
أهمية الوقف
هو في الحقيقة من أسرار نهضة الحضارة الإسلامية على مَرِّ القرون الماضية، هو يُعتبر من أسرار بل هو سِرُّ نهضة الحضارة الإسلامية؛ لذلك لما أتى المستشرقون لاستعمار البلاد الإسلامية، لمَّا أراد هؤلاء المحتلُّون الذي يُسَمَّون “مستعمرين” احتلالَ البلاد الإسلامية، أرسلوا مستشرقين ودرسوا أسرار نهضة المسلمين وأسرار نهضة حضارتهم، ووجدوا أن من أعظم الأسرار في ذلك هو الوقف، فركَّزوا على الوقف وشَلُّوا الأوقاف في كثيرٍ من الدول الإسلامية، واستطاعوا السيطرة عليها بسهولة بعد ذلك.
على سبيل المثال: أتوا إلى مصر مثلًا، ورأوا قوة الأزهر؛ لأنه يعتمد اعتمادًا كاملًا على الأوقاف، فأُلغِيَت الأوقاف الأهلية فيه، وبقيت الأوقاف الخيرية على ضَعْف، وحُوِّل الأزهر من اعتماده على الأوقاف إلى اعتماده على جهاتٍ أخرى، وكذلك أتوا أيضًا للعراق وللشام، وأُلغِيَت فيها الأوقاف الأهلية، واستطاعوا بالتالي استعمار تلك الدول بسهولة.
فيما سبق، كانت الحضارة الإسلامية تعتمد على الوقف اعتمادًا كاملًا، كانت الدولة الإسلامية تعتني بحفظ الأمن الداخلي والخارجي فقط. أما التعليم، فعلى الوقف اعتماد كامل، الصحة على الوقف، إنشاء الطرق والجسور على الوقف، كل ما يحتاج له الناس على الوقف.
ولذلك ازدهرت الحضارة الإسلامية، وصنَّف المسلمون كتبًا ومؤلفات في جميع الفنون، ولولا البيئة المناسبة ما وجدنا هذا التصنيف العظيم، عندما تأخذ ابن قدامة مثلًا، مصنفاته كثيرة جدًّا، خُذ “المغني”، كم مجلدًا؟ “الكافي”، “روضة الناظر”؟ يعني كتب كثيرة، لولا أن البيئة مهيَّأةٌ له ما صنَّفَ هذه التصانيف، ولكان اشتغل بكَسْب لُقمة العيش وما صنَّف هذه التصانيف.
انظر مثلًا العلماء: ابن الجوزي مثلًا، السيوطي، وهكذا العلماء المُكثِرون من التصنيف، تجد أن هناك بيئة ساعدتهم على ذلك، وكان الشيخُ يتفرَّغ للتعليم تفرُّغًا كاملًا مع طلابه، وهم مَكْفيُّون مَن كَسْب لُقمة العيش من الأوقاف، فهو يقال له: أنت فقط عَلِّم هؤلاء الطلاب في المسجد؛ ولذلك يتدَّرج معهم، ويكون معهم، وهي بمثابة المدرسة والجامعة، ويعتمدون على الأوقاف، هو وطلابه، حتى وُجدت أوقافٌ على غسيل ثياب طلاب العلم، أصبحوا يتفنَّنون في الأوقاف.
وكذلك أيضًا أوقافٌ على الجسور، أوقافٌ على الصحة، أوقافٌ على كل ما يحتاج له الناس. فكانت الدولة لا تُقَدِّم هذه الخدمات للناس، إنما هي معتمدة على الأوقاف؛ ولذلك بلَغت مبلَغًا عظيمًا في الازدهار والتقدُّم.
ولذلك؛ لما شُلَّت الأوقاف في كثير من الدول؛ سهُل استعمارها، وانشَلَّت الحركة العلمية فيها، وضعف المسلمون ضعفًا كبيرًا، ومن ثَمَّ سهُل سيطرة هؤلاء المحتلين الذين يُسمُّون أنفسهم “المستعمرين” عليها.
ولله الحمد في الآونة الأخيرة، بدأ هناك وعيٌ من المسلمين بأهمية الأوقاف، لكن أيضًا ما زال الوعيُ دون المستوى المطلوب، فلا بد من أن نُعيد رسالة الوقف، وإحياء الوقف، وتفعيله.
يا إخوان، لو فعَّلنا الوقف لَكَان مَوْرِدًا رئيسًا وعظيمًا للمَناشط الخيرية، لِحِلَقِ تحفيظ القرآن، لدروس المساجد، للدورات العلمية، للقنوات الفضائية المحافظة لتَنْشُر العلم الصحيح وتدعو إلى الله ، لكُلِّ ما يحتاج إليه المجتمع ويكون فيه قوة للخير ولأهل الخير، ودعوة أهل الخير.
ولا شك أن الدعوة تحتاج إلى مال، مشروع العلم يحتاج إلى مال، ومِن أعظم موارد هذا المال الأوقاف؛ إذن لا بد من إحياء رسالة الوقف، وإعادة الوقف إلى ما كان عليه مِن قبل.
فمثلًا: لو وُجدت أوقافٌ لقنواتٍ محافظة متخصصة في الدعوة إلى الله ، قنوات لنشر العلم الصحيح، قنوات لما يحتاج له المجتمع، وكانت مواردها من أوقافٍ لا يملكها أشخاص، وإنما أوقاف، لماذا؟
أوقافُ بعض الناس تنحصر في الطعام والشراب، يعني هل سمعتم أن أحدًا مات من الجوع أو العطش؟ قليل، يندر، لكن نجد مَن يَضِلُّ وينحرف عن دِين الله ، وعن الصراط المستقيم، وهم كُثُر.
إذن؛ حتى نقوم بواجب الدعوة إلى الله ، نحتاج أيضًا إلى مال يدعم الدعوة إلى الله تعالى، وهذا المال لا بد أن يكون له مصدر ثابت، وله رِيع ثابت، ويكون ذلك من الأوقاف.
ثم إن الأوقاف تُمثِّل العمل المؤسسي الذي لا يرتبط بشخص معين، عندما -مثلًا- نجد متبرعًا يتبرع، التبرع يرتبط بفلانٍ من الناس، في حال يُسْرِه وعُسْرِه، حياته ووفاته، لكن عندما يكون وقف مثلًا لمكتب الجاليات في كذا، مثلًا مكتب الدعوة وتوعية الجاليات، أو مكاتب توعية الجاليات عمومًا، هذا وقفٌ مستمرٌّ، ما دام هذا الوقف يُنتفع به؛ فيستمر رِيعُه، ولا يرتبط بأشخاص، وإنما يرتبط بهذا الوقف، فهو يُمثِّل صورة للعمل المؤسسي المنظم.
ولذلك؛ فالوقف دوره عظيم جدًّا في بناء الحضارة الإسلامية، وفي دعم المناشط الخيرية، وفي دعم الدعوة إلى الله ، وفي دعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي دعم نشر العلم الصحيح.
هناك كثير من التجار المسلمين بدؤوا الآن، عندهم وعيٌ، وأصبحوا يضعون أوقافًا، بدل أن يتبرَّع يضعُ تبرُّعاته هذه في وقفٍ، ويجعل رِيعَه في أمور تنفع الإسلام والمسلمين. ربما يكون من غير المناسب أن يذهب ويُعطي ويتبرع بمبلغ كبير، عندما يتبرع -مثلًا- بمليون ريال، ثم تُصرف هذه المليون بعد شهر أو شهرين أو أشهر، لكن لو جعلها في وقف، وكان هذا الوقف له رِيعٌ؛ كان النفع أعلى وأعظم من أن تدفعها مرة واحدة، وتُنفَق مرة واحدة.
ولذلك؛ فالوقف يُعتَبر من أفضل أنواع التبرعات؛ لأن النبي أشار به على عمر ، لو كان هناك شيء أفضل منه لأشار به النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المستشار مؤتَمن، فعمر قال: أصبت مالًا، أَنْفَس مالٍ أصبتُه في حياتي، فما تأمرني يا رسول الله؟ يعني: أفضل وأَنْفَس وأغلى مالٍ أصابه عمر ، استشار فيه النبي عليه الصلاة والسلام، فأشار عليه بالوقف، لو كان هناك شيء أفضل من الوقف لأشار به النبي عليه الصلاة والسلام عليه؛ لأن المستشار مؤتَمن[1].
ولهذا؛ سنُفَصِّل في مسائل الوقف لأهميته، سنجعله في درسين، هذا الدرس الجزء الأول، وإن شاء الله تعالى بقية الكلام عن الوقف في الدرس القادم، إن شاء الله.
كتاب الوقف
قال المؤلف رحمه الله:
تعريف الوقف
“الوقف” معناه في اللغة: الحبس عن التصرُّف، يقال: وقَّف الشيء إذا حَبَّسَه، قال ابن الأثير رحمه الله: “يُقال: وقَفْتُ الشيءَ أَقِفُه وَقْفًا، ولا يُقال: أَوْقَفْتُ -يعني يُقال: وقَفتُ ووقَّفتُ، ولا يُقال: أَوْقَفْتُ بالهمزة- إلا على لغة رديئة”. وقيل: إن “أَوْقَفْتُ” لغة تميم، لكن الأفصح أن يُقال: وقَّفت، ولا يُقال: أوقفت.
وبمعنى الوقفِ الحبسُ والتسبيل، يُقال: وقفت، وحبَّست، وسبَّلت.
وأما معناه في الاصطلاح هو: “تَحْبِيسُ الأصل وتَسْبِيلُ المنفعة”. والمقصود بـ”التحبيس” -كما سبق- أي: الإمساك عن التصرفات من البيع والهِبَة والإرث ونحوه، والمراد بالتحبيس هو هذا. والمراد بـ”الأصل”: ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه؛ كالعقارات والبساتين ونحوها.
و”تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة”؛ المقصود بـ”المنفعة” الغَلَّةُ الناتجة عن ذلك الأصل؛ كالثمرة والأجرة ونحوهما، “تَسْبِيلُها” يعني: إطلاقها، فيُحبَس هذا الأصل، لا يُباع، لا يُوهَب، لا يُورث، وتُطلَق منفعته فيما أُوقِف فيه.
نُريد أمثلة للأوقاف في الوقت الحاضر، مَن يُعطِينا مثالًا؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم؛ مثل عقار، إنسان عنده عقار، قال: عقاري هذا وقفٌ، يكون رِيعُه مثلًا في وجوه البِرِّ، أو يكون رِيعُه على طلاب العلم، أو يكون رِيعُه مثلًا لمكاتب الدعوة بتوعية الجاليات، أو يكون رِيعُه لقنوات محافظة، قناة كذا وقناة كذا مثلًا.
وأيضًا من أعظم الأوقاف: المساجد، المساجد تُعتبر أوقافًا بل هي أعظم الأوقاف، بل إن من أبرز خصائص المسجد وأبرز الفروق بين المسجد والمُصلَّى: هو أن أرض المسجد موقوفة، أبرز خصائص المسجد أن أرضه موقوفة، بينما المُصلَّى أرضه غير موقوفة، مملوكة. هذا أوضح الفروق بين المُصلَّى والمسجد: أن المسجد أرضه موقوفة، لا يمكن أن يكون مسجدًا وأرضه مملوكة لأحد، لا يمكن أن يُعتَبر مصلَّى.
فمثلًا؛ حتى لو كان مكان يُصلِّي فيه الناس، حتى لو كانوا يُصَلُّون فيه خمس صلوات، لكن أرضه مملوكة، هل يعتبر مسجدًا؟ لا يُعتبر.
مثلًا؛ فيه بعض الدول، في دول الغرب، يتبرع بعض الناس بشقَّة عنده أو غرفة كبيرة، ويقول للناس أصحاب العمارة ومَن حولها: صَلُّوا فيه. فيُصَلُّون فيه الصلوات الخمس، هل يُعتبر هذا مسجدًا؟ ما يُعتبر مسجدًا، هذا يُعتبر مُصلًّى؛ لأن أرضه ليست موقوفة، وإنما هي مملوكة. لكن، إذا كانت موقوفة، فهذا هو من أبرز خصائص المسجد، وقد تكون موقوفة ولا يكون مسجدًا، كمُصلَّى العيد. لكن، من أبرز الخصائص وأوضح الفروق: هو أن المسجد أرضه موقوفة.
مداخلة: …
الشيخ: لا، المسجد أفضل لا شك، إذا تيسَّر للإنسان أن يُصلِّي في المسجد فهو أفضل، هذا ما يصدُق عليه أنه مسجد، هذا مجرد مصلَّى. إي نعم، إذا كان عندهم مسجد قريب فيعني على نيتهم، لكن لو كان هناك مصلًّى وهناك مسجد، فلا شك أن المسجد أفضل.
بعض مجالات الأوقاف
إذن؛ قلنا: مجالات الأوقاف كثيرة، وما يُوقَّف فيه -كما ذكرنا- وجوهُ البر؛ مِن طعام الفقراء والمساكين، ومن نشر العلم الصحيح، الدعوة إلى الله ، طباعة الكتب النافعة، ومن ذلك أيضًا وضع برَّادات -مثلًا- الماء على الشوارع.
هذه تُعتبر من أمثلة الأوقاف، فالأمثلة كثيرة، لكن القاعدة أن الوقف كُلَّما كان أعظمَ نفعًا كان أعظمَ أجرًا، كلما كان أعظم نفعًا كان أكثر أجرًا وثوابًا.
ولذلك؛ عندما يُريد الإنسان أن يَقِف شيئًا ينبغي أن يبحث عما هو أعظم نفعًا، يستشير، ينبغي أن يستشير غيره: ما هو أعظم شيء أُقدِّمه للمسلمين؟ ما هو أعظم نفع؟ فكُلَّما كان أعظمَ نفعًا كان أعظمَ أجرًا وثوابًا.
ويستمر أجرُ الوقف ما دام يُنتفع به، يستمر أجره، فإذا قُطِع الانتفاع به قُطِع الأجر والثواب. ولذلك؛ أحيانًا بعض الأوقاف قد تستمر مئات السنين، مثلًا الكتب النافعة قد تستمر مئات السنين، وفي وقتنا الحاضر مع وجود البناء المسلَّح الآن، يستمر ربما أيضًا عشرات أو حتى مئات السنين، هناك مبانٍ الآن في بعض دول العالم لها مائتان وخمسون سنة، لها ثلاثمائة سنة، رأيت بعض هذه المباني، فلو كانت هذه مثلًا وقفًا، هذا المبنى وقفًا، واستمر الانتفاع به مئات السنين، فما أعظم أجر هذا الواقف، هذا من المال المبارك الذي ينفع الإنسان في حياته وبعد وفاته.
مداخلة: …
الشيخ: يوجد من الأوقاف القديمة، ويُقال: إن وقف عثمان ما زال موجودًا إلى الآن، حدثني بعض الإخوة يقول: وقف عثمان ما زال موجودًا، ويُسمَّى إلى الآن “وقف عثمان” في مكة عند الحرم.
مشروعية الوقف
الأصل في الوقف هو حديث عمر ، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي يستشيره فيها، قال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصِب قَطُّ مالًا أنْفَسَ عندي منه، فما تأمرني يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئتَ حبستَ أصلها وتصدَّقت بها، غير أنه لا يُباع أصلها ولا يُوهَب ولا يُورَث. فتصدَّق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على مَن وَلِيَها أن يأكل منها أو يُطعِم صديقًا بالمعروف، غير مُتَمَوِّلٍ فيه؛ يعني: غير متخذٍ مالًا؛ أي: ملكًا[2].
وجاء في رواية البخاري: أن هذه الأرض التي وقَّفها عمر أن اسمها “ثَمْغ” بالثاء والميم والغين، كانت نخلًا، وأن عمر أوصى بها إلى أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، ثم إلى الأكابر من آل عمر [3].
لكن أين هي الآن؟ هل هي موجودة؟ كثير من الأوقاف الآن اندثرت، لكن ربما أن وقف عمر وغيره قد تكون مضى عليها مُدَد طويلة، لكن أحيانًا أوقاف ما مضى عليها مدة طويلة ومع ذلك تندثر.
ومن أسباب ذلك: عدم ترتيب النَّظَارة، ينبغي من أراد أن يَقِف وقفًا أن يُرتِّب له ناظرًا، وبأجرة أيضًا، وأن يُرتِّب النَّظَارة بعد وفاة هذا الناظر الذي بعده، وهكذا. الوقف الذي له نُظَّار نجد أنه يبقى أكثر، وما أكثر أوقاف المسلمين التي اندثرت الآن، اندثر كثير من أوقاف المسلمين، ما بقي منها إلا القليل.
فإذن؛ قصة عمر هذه هي الأصل في الوقف، وقيل: إن وقف عمر هو أول وقف في الإسلام، فقد أخرج الإمام أحمد في “مسنده” عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أول صدقة -يعني: موقوفة- كانت في الإسلام صدقة عمر[4].
وقيل: إن أول وقف في الإسلام هو أراضي مُخَيْرِيق التي وقَّفها النبي ، والمشهور: هو أن وقف عمر هو أول وقف في الإسلام.
والصحابة كان لهم عناية كبيرة بالأوقاف، فعمر وقَّف أرضه التي بخيبر، ووقَّف دارًا له أيضًا، وكذلك أنس وقَّف داره، والزبير بن العوام وقَّف دُورَه، قال: للمَرْدودة -يعني: المطلقة- من بناته أن تسكن غير مُضِرَّةٍ ولا مُضرًّا بها. وابن عمر رضي الله عنهما، بل إن جابرًا رضي الله عنهما يقول: “لم يكن أحد من أصحاب النبي ذا مقدرةٍ إلا وقَّف”. لماذا؟
لأنهم يعلمون أن الوقف هو أفضل الصدقات، أفضل التبرعات، وأجره عظيم؛ ولذلك كان الصحابة يُسارعون في الوقف، فلم يكن أحدٌ من الصحابة ذا مقدرةٍ إلا وقَّف.
والوقف هو الصدقة الجارية المذكورة في قول النبي : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له[5]، قال النووي: “الصدقة الجارية هي الوقف”، فمعنى الصدقة الجارية: الوقف، ومعنى كونها جارية؛ يعني: يجري ثوابها للإنسان بعد موته، ما دام يُنتفع بهذه الصدقة.
وكم من إنسان في عداد الأموات، لكن أجره وثوابه مستمرٌّ بسبب وَقْفِه هذا.
طيب، نعود لعبارة المؤلف رحمه الله.
ما يحصل به الوقف
يحصُلُ بأحد أمرين:
قال:
يعني: ينعقد الوقف.
الوقف ينعقد بكُلِّ ما يدلُّ على رضا الواقِف من قول أو فعل. والقول: هو الصيغة القولية، والفعل: هو الصيغة الفعلية. فمعنى هذا: أن الوقف ينعقد بالصيغة القولية والفعلية، وهو ما عبَّر عنه المؤلف بقوله: “بأحد أمرين”.
وبدأ المؤلف بالصيغة الفعلية؛ قال:
يعني: بفعلٍ يفعله، لكن لا بد من قرينة تدلُّ على إرادة الوقف. ومثَّل المؤلف لهذا، قال:
وهنا لا بد من أن يكون الإذن عامًّا؛ لأن الإذن الخاص قد يقع على غير الموقوف، فلا يُفيد الدلالة على الوقف.
يعني: الآن مَن بنى مسجدًا وفتحه للناس، وما قال: يا جماعة، ترى المسجد هذا وقف، هل يكون وقفًا؟ نعم، يكون وقفًا بمجرد أن يأذن للناس إذنًا عامًّا، كُلُّ من أراد صلَّى في هذا المسجد، فيكون وقفًا.
أما الإذن الخاص، يعني مثلًا: بعض القصور يكون فيها مكان يُصلَّى فيه، لكن لا يُؤذَّن فيه لأيِّ أحدٍ أن يُصلِّي فيه، وإنما إذنٌ خاصٌّ لأفراد معيَّنين، هذا لا يكون وقفًا، لا يكون، لا بد من أن يكون الإذن عامًّا، ولا يحتاج لأن يقول: إن هذا وقف، مجرد أنه يبني المسجد، يبنيه على هيئة المسجد، ويأذن للناس إذْنًا عامًّا بالصلاة فيه؛ يكون هذا وقفًا.
وقال:
كذلك يجعل الأرض مقبرة، ويأذن إذنًا عامًّا -كما قلنا في المسجد- ليس إذْنًا خاصًّا. أما إذا كان إذْنًا خاصًّا فلا تكون وقفًا، لكن لا بد من الإذن العام.
كل من أراد أن يدفن في هذا المكان يدفن، فهذا يكون وقفًا. فهذه إذن هي الصيغة الفعلية، لا بد من قرينة تدل على إرادة الوقف حتى ينعقد الوقف.
أما الصيغة الفعلية، قال المؤلف:
يعني: بالصيغة القولية.
فأفاد المؤلف بأن الصيغة القولية تنقسم إلى قسمين: صريح وكناية.
الألفاظ الصريحة التي ينعقد بها الوقف
قال:
يعني: الألفاظ الصريحة التي ينعقد بها الوقف.
هذه ألفاظ صريحة، فالوقف، يعني لفظ “وقَّفت” هو موضوع لهذا المعنى، وهو أصرَحُ ما يكون في إرادة الوقف، وكذلك “حَبَّستُ” و”سَبَّلتُ”، هذه يقولون: من الألفاظ الصريحة؛ لاستعمال الشارع لهما في هذا المعنى، ووافقه الاستعمال العُرْفي، خاصة “سَبَّلت” لا يزال الناس يستعملونه، يُقال: هذه سبالة، سبَّل فلانًا هذا الشيء، حبَّست كذلك. ورد استعمال الشارع له، وهو موجودٌ في بعض البلاد، خاصة بلاد المغرب العربي، يُسمَّون الوقف “الحبس” أو “التحبيس”؛ ولذلك تجد في الكتب المالكية: الحبس، باب الحبس، والحنفية: التحبيس والأحباس.
فإذن؛ هذه الألفاظ الثلاثة ألفاظ صريحة في الوقف، فهذه مجرد أنه يتلفَّظ بها ينعقد الوقف من غير حاجة إلى نية أو قرينة.
ألفاظ الكناية التي ينعقد بها الوقف
قال:
يعني القسم الثاني: الكناية.
الكناية بـ”تصدَّقتُ” “وحرَّمتُ” وأبَّدتُ، وأيضًا أيُّ لفظ يحتمل معنى الوقف، لا تنحصر في هذه الألفاظ، أيُّ لفظ يحتمل معنى الوقف، فهذه إن نوى الوقف فإنه يكون وقفًا؛ ولذلك يقول الفقهاء: إنه لا ينعقد الوقف بألفاظ الكناية إلا إذا انضم لها واحد من أمور ثلاثة، وهي:
- أولًا: النية كما قرر المؤلف، فمتى أتى بإحدى الكنايات ونوى الوقف، فإنه ينعقد الوقف، فلو قال: “تصدقت ببيتي هذا” ونوى الوقف؛ يُصبح وَقْفًا، قال: حرمت بيتي هذا يُريد الوقف؛ ينعقد، أبَّدت بيتي هذا ونوى الوقف؛ ينعقد.
- الأمر الثاني: أن يقترن بلفظِ الكنايةِ أحدُ الألفاظ الأخرى للوقف، سواءٌ من الصريح أو من الكناية، أحد الألفاظ الأخرى للوقف.
فإذن؛ الثاني: يقترن بلفظ الكناية، أحد الألفاظ الأخرى للوقف، سواءٌ من الصريح أو من الكناية؛ كأن يقول مثلًا: تصدقت صدقة مَوْقُوفة، أو صدقة مُحَبَّسة، أو صدقة مُسَبَّلة، أو صدقة محرَّمة، أو صدقة مؤبَّدة. فإذن؛ لفظ الكناية إذا اقترن بلفظ آخر يدلُّ على الوقف فإنه يترجَّح إرادة الوقف، وينعقد الوقف بذلك.
- الثالث: أن يقترن بأحد ألفاظ الكناية حكم الوقف، كأن يقول: تصدقت بهذه الدار صدقة لا تُباع ولا تُوهَب ولا تُورَث.
هذه أنا فصَّلت الكلام عنها، وعن مسائل الوقف، وأحكام الوقف، في كتاب “الوجيز في عقود الاستيثاق والارتفاق”، يعني: مذكور فيه أحكام الوقف ومسائله بالتفصيل.
قال:
أي: فيكون وقفًا من غير حاجة إلى نية؛ لأن ذلك لا يُستعمل في غير الوقف، فيكون كالصريح. وهو إذا قال: على قبيلة كذا، كأنه استعمل لفظًا آخر. نحن قلنا: إذا اقترن بلفظِ الكنايةِ لفظٌ آخر يدلُّ على معنى الوقف؛ ينعقد به الوقف.
وأبو العباس ابن تيمية رحمه الله له قاعدة في هذا، يقول: “إن العقود كلها تنعقد بكُلِّ ما دلَّ عليها من قول أو فعل”، سواءٌ كانت عقود المعاملات، أو حتى عقد النكاح، كُلُّ ما دل عليها من قول أو فعل تنعقد بها. فإذن؛ لا نحصُر الوقف في ألفاظ محدَّدة كما فعل بعض الفقهاء، والصحيح أن كُلَّ ما دَلَّ على الوقف ينعقد به، من غير أن نحصُره بألفاظ معينة.
شروط صحة الوقف
ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن شروط الوقف.
قال:
يعني: شروط صحته.
الشرط الأول: كونه من مالكٍ جائز التصرُّف، أو ممن يقوم مقامَه
فلا بد أن يكون الواقِفُ جائز التصرُّف، وهذا المصطلح “جائز التصرف” مَرَّ معنا في دروس سابقة كثيرًا، فما المقصود بهذا المصطلح؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، أحسنت، إذا قيل: “جائز التصرف” المقصود به: الحُرُّ المكلَّف الرشيد، الحُرُّ فلا يكون رقيقًا، المكلَّف بأن يكون عاقلًا بالغًا، الرشيد بألا يكون سفيهًا، فلا بد إذن أن يكون الواقِفُ حُرًّا مكلَّفًا رشيدًا، فلا يصح الوقف من الصغير، ولا من السَّفيه، ولا من المملوك.
(أو ممن يقوم مقامه)؛ أي: ممن يقوم مقامَ جائز التصرُّف كوكيله مثلًا، فلو وكَّله في ذلك؛ فيصح.
الثَّانِي: كونُ الموقوف عينًا يصح بيعها، ويُنتَفعُ بها نفعًا مباحًا مع بقائها
فالشرط الثاني إذن: أن يكون الموقوف مما يُنتفع به انتفاعًا مستمرًّا مع بقاء عينه؛ كالعقار مثلًا، والأثاث، وكالمصحف، وكتب العلم، ونحو ذلك.
طيب، المؤلف جعل محترَزات لهذا الشرط؛ قال:
حكم وقف ما لا يُنتفع به إلا بإتلافه
وقفُ ما لا يُنتفع به إلا بإتلافه كما في الأمثلة التي مثَّل بها المؤلف، هل يصح أو لا يصح؟
المؤلف قرَّر أنه لا يصح، وهذا هو قول الجمهور، قول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، يقولون: إنه لا يصح وقفُ ما لا يُنتفع به إلا بإتلافه؛ كالمطعوم والمشروب ونحو ذلك، وعلَّلوا لذلك قالوا: لأن ما لا يُنتفع به إلا بإتلافه يتلف فلا يُراد به الدوام، والوقف لا بد أن يُراد به الدوام، أن يكون صدقة جارية، ولا يمكن ذلك فيما لا تبقى عَيْنُه.
والقول الثاني في المسألة: إنه يصح وقف ما لا يُنتفع به إلا بإتلافه. وهذا مذهب المالكية، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: “إن تسميته وَقْفًا بمعنى أنه وُقِفَ على تلك الجهة، لا يُنتفع به في غيرها، وهذا لا تأباه اللغة، وهو جائز في الشرع”.
وقياسًا على الماء الذي يُجيز وَقْفَه الجمهورُ، مع أن الماء لا يُنتفع به إلا بإتلافه، وقد وردت آثارٌ عن السَّلف بصحة وَقْفِه، فأيُّ فرقٍ بين الماء وبين المطعوم والمشروب ونحوه؟!
وهذا هو القول الراجح والله أعلم: أنه يصح وقف ما لا يُنتفع به إلا بإتلافه.
مداخلة: …
الشيخ: بإتلافه؛ يعني مثلًا: أكلٌ أو شربٌ، يعني مثلًا: وَقَف تمرًا، هذا التمر سيُؤكَل، وإذا أُكِلَ انتهى. هذا المقصود، وَقَفَ ماءً، وَقَفَ طِيبًا، فالصحيح: أنه يصح، لكن هو مدته قصيرة.
لكن معنى كونه وقفًا فيه فائدة: وهي أنه يتحدَّد لهذه الجهة؛ فمثلًا: لو أتى شخصٌ بعُود بَخُور، وقال: هذا وقفٌ للمسجد، فمعنى ذلك: أنه لا يصح أن يكون لغير هذا المسجد، وُقِفَ على هذا الجامع. فهنا يُستفاد منه فائدة: وهي أن يكون هذا البخور خاصٌّ بهذا الجامع.
الجمهور يقولون: لا نمنع منه، ولا نقول: إنه محرم، لكن لا تُسمُّونه “وقفًا”، سمُّوه “صدقة”، وكما قال شيخ الإسلام: لا مشاحة في الاصطلاح، سواء سمَّيناه وقفًا أو سمَّيناه صدقة.
لكن الأثر، هل هناك أثرٌ فقهي بين قول الجمهور وقول المالكية؟ يعني ما هو الأثر؟ هل الخلاف لفظيٌّ: مجردُ أن هذا يُسمَّى صدقة وهذا وقفًا، أو الخلاف له ثمرة؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، أحسنت.
- أولًا: في الرجوع، لا يُرجع فيه.
- ثانيًا: كذلك تحديد الجهة.
إذن؛ فيه فائدة؛ يعني: هو سواء كان للميت أو الحي، يعني الأجر يحصل للواقف أو من وُقِف عنه، لكن له فائدة، عندما يَقِف هذا الشيء الذي لا يُنتفع به إلا بإتلافه، ففيه فائدة، الفائدة: أنه ما يَرجع عنه؛ لأنه يكون لازمًا، بينما الصدقة لا تلزم.
ولذلك؛ قال الفقهاء: إنه لو وَضع دراهم ليتصدَّق بها في جيبه، جاز له أن يرجع ما لم يُسلِّمها لفقيرٍ، بينما الوقف لا يجوز الرجوع فيه.
فثانيًا: يُستفاد منه في تحديد الجهة، فعندما نقول مثلًا: هذا البَخُور، هذا العود لهذا الجامع؛ إذن فلا يُصرَف في غيره، عندما يُقال: هذا التمر مثلًا لتفطير الصائمين في جامع كذا، فلا يُصرَف في غير هذه الجهة. ففيه فائدة.
فإذن؛ القول الراجح: إن كل ما ذكره المؤلف؛ أنه يصح وقفه. والمؤلف يقول: إنه يصح لكن لا يُسمَّى “وقفًا”؛ يُسمَّى “صدقة”.
والأقرب أنه لا يُسمَّى “وقفًا”، ولا مانع من تسميته “وقفًا”، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “اللغة لا تأباه، وهو جائز في الشرع، والجمهور أنفسهم يُجيزون وقف الماء وهو مما لا يُنتفع به إلا بإتلافه.
طيب، الثالث، الشرط الثالث:
طيب، قبل أن ننتقل للشرط الثالث، هناك مسألة مهمة متعلِّقة بالشرط الثاني، وهي وقف النقود.
وقف النقود
وقف النقود، هل يصح وقف النقود؟ إنسان مثلًا عنده عشرة آلاف ريال، قال: أريد أن أجعلها وقفًا لإقراض المحتاجين مِن -مثلًا- أقاربي؛ لإقراض المحتاجين من زملائي، لإقراض المحتاجين في حلقة تحفيظ القرآن في المسجد الفلاني مثلًا، هل يصح مثل هذا أو لا؟
أما على قول الجمهور فلا يصح، لكن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والخلاف فيها يرجع أيضًا إلى -بالإضافة إلى هذه المسألة، وهي مسألة: ما لا يُنتفع به إلا بإتلافه- يرجع إلى مسألة أخرى، وهي: هل الدراهم تتعيَّن بالتعيين، أو لا تتعيَّن بالتعيين؟ ما معنى هذا الكلام؟
يعني عندما -مثلًا- يكون معي خمسمائة ريال لفلان، هل يصح أن أبدلها مثلًا؟ أو أن الـخمسمائة هذه تكون لفلان، أعطاني هذه الـخمسمائة، قال: أعطها فلانًا، طيب لو ما أعطيته الـخمسمائة هذه، أعطيته خمسمائة أخرى، هل يصح؟
فإذن؛ من العلماء من قال: إن الدراهم تتعيَّن بالتعيين. خلاص، هذه الدراهم لفلان فتكون لفلان، صدقة تكون صدقة، ما تُغيرها. والقول الصحيح: إن الدراهم لا تتعيَّن بالتعيين، الصحيح أن الدراهم لا تتعيَّن.
ولذلك؛ لو أن أحدًا أعطاك مثلًا خمسمائة، وذهبتَ لتتصدَّق بها، وذهبت وتصدقت بخمسمائة أخرى؛ يصح، لا مانع من هذا.
فإذن؛ الصحيح أن الدراهم لا تتعيَّن بالتعيين، وإذا كانت الدراهم لا تتعيَّن بالتعيين، فبناءً على هذا القول يصح وقفها.
إذن؛ الجمهور يمنعون مِن وقف الدراهم، يقولون: أولًا؛ لأنه لا يُنتفع بها إلا بإنفاقها. ثانيًا: أنها لا تتعيَّن بالتعيين.
القول الثاني: إنه يصح وقف النقود. وهو مذهب المالكية، ورواية عند الحنابلة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو القول الراجح؛ وذلك لأن تحبيس الأصل يكفي فيه معناه، وهو متحقِّق في وقف النقود، فإن قيمتها باقية، وذاتها غير مقصودة. والقول الصحيح: إنها لا تتعين بذاتها عند التعيين.
طيب، إذا قلنا: إن النقود لا تتعيَّن بالتعيين كما هو القول الراجح، يمكن أن يُستفاد من هذا القول في أفكارٍ لتقديم مساعدة للمحتاجين، يمكن أن تستفيد منها الجمعيات الخيرية، يستفيد منها الناس، مِن ضِمن هذه الأفكار مثلًا: أن تُوجد جمعية إقراض المحتاجين، فيُقال مثلًا: مَن أراد أن يجعل في هذه الجمعية مالًا لإقراض المحتاجين، فمَن يجعل مثلًا فيها عشرة آلاف ريال، العشرة آلاف ريال هذه، مَن هو محتاج؟ المحتاج فلان، طيب تأخذها وتردُّها علينا، تردُّ علينا مثلًا في الشهر خمسمائة ريال، ثم إذا اجتمع عندنا عشرة آلاف نُعطيها للمحتاج الآخر، ثم للمحتاج الآخر، وهكذا.
فيُمكن أن يُؤسَّس جمعيات لإقراض المحتاجين، يمكن أن يُؤسَّس جمعيات لمساعدة الراغبين في الزواج، فمثلًا نقول: حتى نساعد أكبر قَدْر من الراغبين في الزواج، ما نُعطيه هِبَة، لا، نُعطيه قرضًا، ونجعل هذه النقود وقفًا، فنُعطي مثلًا فلانًا قَدْر المهر، نُعطيه مثلًا أربعين ألفًا، لكن تردُّها علينا، كُلَّ شهر تدفع لنا خمسمائة ريال أو ألف ريال مثلًا، أو أكثر أو أقل، ثم تجتمع عندنا مرة أخرى، ثم نُعطيها فلانًا نُساعده، ثم نُساعد بها فلانًا، وهكذا.
فيُمكن إذن أن نستفيد بناءً على ترجيح هذا القول في أفكار كثيرة في مساعدة المحتاجين ونحوهم.
طيب، ننتقل بعد ذلك إلى الشرط الثالث:
الشرط الثالث: كونه على جهة بِرٍّ وقُرْبة
من شروط صحة الوقف: أن يكون على جهة بِرٍّ وقُرْبة، ومثَّل المؤلف لهذا بأمثلة؛ قال:
فلا بد أن تكون على جهة بِرٍّ، فلا يصح الوقف على غير جهة بِرٍّ، فلا يصح مثلًا الوقف على القبور، هذا موجود مع الأسف، الوقف على القبور، أو الوقف على الأضرحة، أو الوقف على الأولياء، أو نحو ذلك، فإن هذه الأوقاف لا تصح، وهي محرمة، ولا يجوز الوقف على كل ما كان فيه معصية.
يعني: مجرد الأغنياء ليست جهة بِرٍّ؛ لأن الأغنياء ماذا يستفيدون من هذا الوقف؟ أو الفُسَّاق مثلًا؟ أو المغنين؟ أو المطربين؟ أو الأضرحة؟ أو القبور؟ أو نحو ذلك؟
حكم الوقف على الذمي والفاسق
قال:
لاحِظ هنا: أن هذا الشرط كونه على جهة بِرٍّ، وليس على فرد، يعني: بالنسبة للوقف إذا كان على فرد، فلا يُشترط أن يكون على جهة بِرٍّ، أما لو كان على جهة فلا بد أن يكون على بِرٍّ، الفقهاء فرَّقوا بين الجهة وبين الفرد. فإذن؛ الجهة لا بد أن تكون على بِرٍّ؛ ولذلك قالوا: لا يصح الوقف على الأغنياء؛ لأنها ليست جهة بِرٍّ.
أما لو كان فردًا فلا بأس، حتى لو لم تكن جهة بِرٍّ، لو كان فردًا فيصح بشرط ألا يكون ذلك الوقف على معصية.
قال:
يعني: الوقف على الكافر إذا لم يكن محاربًا يصح، ومما يُذكر في هذا: أن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها بنت حُيَيٍّ، أنها أوصت لأخ يهودي لها بالثلث، وهذا رواه البيهقي وابن أبي شيبة، وفي كثير من كتب الفقه، ومنها “الروض” وغيره[6]، يقولون: “وقفتْ على أخٍ لها”، لكن لا أعلم أنه ورد بهذا اللفظ، أنها وقفت على أخٍ لها، إنما الوارد في كتب السنن والآثار: أنها أوصت لأخٍ لها يهودي.
ولأن الصدقة تجوز على المعيَّن، سواء كان كافرًا.. ما لم يكن حربيًّا، والوقف من جِنس الصدقة، هل يجوز أن تتصدق على الكافر؟ يجوز، لكن لا تُعطِه من الزكاة إلا في أحوال معينة.
ما الدليل على جواز الصدقة على الكافر إذا لم يكن محاربًا؟ مَن يذكر لنا الدليل من القرآن؟ الدليل على جواز الصدقة على الكافر؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، أحسنت.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، فلم يكن أسرى عند المسلمين إلا كفار، لكن إذا كان محاربًا وطليقًا وليس بأسير، لا يجوز الصدقة عليه؛ لأن هذا إعانة له على المسلمين، لكن إذا كان أسيرًا أو كان كافرًا غير حربيٍّ؛ فتجوز الصدقة عليه.
قال:
يعني يقول: حتى لو وقف على فاسقٍ؛ يبقى مسلمًا، وإذا كان يجوز الوقف على كافر فما بالك بالمسلم الفاسق؟!
يقول: يصح الوقف عليه، بخلاف جهة الأغنياء، فيُفرِّقون بين الجهة وبين الفرد، فيصح ذلك.
الشرط الرابع: كونه على معيَّن غير نفسه
قال:
يعني: يُشترط في صحة الوقف أن يكون على معين، لكن استثنوا من ذلك النفس، قالوا: لا يصح أن يَقِف الإنسانُ على نفسه. وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، قالوا: لا يصح الوقف على النفس، قالوا: لأن الوقف الوارد في قصة عمر وغيره، هو وقفٌ على الغير وليس على النفس؛ ولأن الوقف عقد يقتضي زوال المِلك، فصار كالبيع والهِبَة، ومعلوم أنه لا تصح مبايعة الإنسان لنفسه، ولا هِبَته لنفسه، فكذلك الوقف.
القول الثاني في المسألة: إنه يصح الوقف على النفس، وهذا قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وذلك لما رُوي عن عثمان : أن النبي قال: مَن يشتري بئر رُومة فيجعل دلوَه مع دِلَاء المسلمين بخيرٍ له منها في الجنة؟. فقال عثمان : أنا يا رسول الله. فاشتريتها مِن صُلب مالي. رواه الترمذي وحسنه[7]؛ ولأن عمر وقف دارًا له، وسَكَنها إلى أن مات، والزُّبير لما وقفَ دُوره سكن منزلًا منها؛ ولأن الوقف على النفس فيه فائدة، ما هي فائدة الوقف على النفس؟
مداخلة: …
الشيخ: لا، هذا إنسان يَقِف على نفسه بأن يسكنها، يسكن بيته، يقول: وقْفٌ.
مداخلة: …
الشيخ: وهو بعد الموت قد يكون هذا، الفائدة أنه يكون بعد الموت، يُرتِّب مثلًا مَن يسكنها بعد موته، أو يجعل رِيعها للفقراء والمساكين، لكن أيضًا حتى في حياته، في حياته فيه فائدة. الفائدة: أنه لا يبيعها، يُبقِيها، بعض الناس ربما أنه يخشى أن تغلبه نفسه فيبيعها، وبعض الناس أَخْرَقُ ما عنده حسن تدبير للمال، فربما أنه يُريد أن يمنع نفسه مِن أن يبيعها، فيقول: هذا البيت وقفٌ عليَّ في حياتي، وبعد وفاتي يكون في كذا. ففيه فائدة.
إذن؛ القول الراجح هو صحة الوقف على النَّفْس، ولا يصح قياس الوقف على البيع للفروق الكثيرة بينهما.
فالصواب إذن: صحة الوقف على النْفس، ويدل له أثر عثمان ؛ فإن دَلْوه جعله مع دِلَاء المسلمين، وهذا نوع من الوقف على النفْس، وعليه عمل الناس.
ولهذا؛ قال المَرْداوي في “الإنصاف”، وكتاب “الإنصاف” بالمناسبة من الكتب العظيمة يا إخوان، مَيْزته أنه يذكر لك الخلاف في المسألة ويستقصي، وأحيانًا يذكر سبعة أقوال، وأحيانًا ثمانية أقوال، ومن مزاياه أيضًا: أنه يُحقِّق الصحيح من المذهب عند الحنابلة، ومن مزاياه أيضًا: أنه يعتني باختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأحيانًا اختياراته ما تجدها إلا عند صاحب “الإنصاف”، ومن مزاياه أيضًا: أنك تعرف المسألة هل هي محل اتفاق أم محل خلاف، فالغالب أن صاحب “الإنصاف” إذا ما ذكر فيها خلافًا أنها إما أنها تكون محل اتفاق، أو يكون الخلاف فيها ضعيفًا غالبًا.
فكتاب “الإنصاف” من الكتب العظيمة التي لا يستغني عنها طالب علم في بحث أيِّ مسألة خلافية، في أيِّ مسألة خلافية لا تستغنِ عن “الإنصاف” في بحث تلك المسألة.
يقول صاحب “الإنصاف”: إن الوقف على النفس هو الذي عليه العمل في زماننا. وقد تُوفي سنة ثمانمائة وخمس وثمانين للهجرة، قال: وقبله -يعني: وقبل زماننا- وهو الصواب، وفيه مصلحة عظيمة وترغيب في فعل الخير.
فإذن؛ الصواب هو صحة الوقف على النفْس، فيكون الصواب هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
قال:
محترزات على الوقف على معين
ثم ذكر المؤلف محترزات هذا الشرط؛ قال:
لأن الوقف تمليك، وتمليكُ غير المعيَّن لا يصح، تمليك المجهول، كيف يُملَّك المجهول؟ أو مثلًا مُبهَم.
لكن قوله: (مسجد) يقصد غيرَ معيَّن، مسجدًا غيرَ معيَّن، ولكن التمثيل بالمسجد محل نظر، يمكن للإنسان أن يَقِف وقفًا ويقول: هذا لأيِّ مسجدٍ من المساجد. فالتمثيل بالمسجد محل نظر، وإنما التمثيل الصحيح هو كرجل، أو على أحد هذين، أو نحوه.
طيب، كيف يصح الوقف على المساجد وهي لا تَملِك؟ أورد هذا الإشكالَ الموفقُ ابن قدامة في “الكافي”، كيف يصح الوقف على المساجد وهي لا تَملِك؟ ثم أجاب عنه فقال: “الوقف إنما هو على المسلمين، لكنه عيَّن نفعًا خاصًّا لهم”.
فنقول: صحيح المساجد لا تَمْلِك، لكن الوقفُ: على المسلمين الذين يُصلُّون في هذه المساجد، وعيَّن وقفًا؛ نفعًا خاصًّا لها، وهو أنها تُهَيَّأ للصلاة فيها، ونحو ذلك.
قال:
تكلمنا عنها.
يعني: لا يملِك:
فهؤلاء لا يصح الوقف عليهم؛ لأنهم لا يَمْلِكون، بخلاف ما لو وقف وجعل الثواب والأجر للميت، فهذا لا بأس به، وهذا لا يُريده المؤلف، إنما يُريد المؤلفُ الوقفَ على الميت نفسه، كالوقف على الأضرحة والقبور، أما لو وَقَفَ وقفًا وجعل ثوابه وأجره للميت؛ فهذا لا بأس به.
قال:
فلا يصحُّ الوقف على الحَمْل استقلالًا؛ لأنَّ الوقف تمليك والحمل استقلالًا لا يَمْلك، ولكن تَبَعًا؛ لأنه يصح بيع الحمل تَبَعًا، فيصح كذلك الوقف عليه؛ مثال الوقف على الحَمْل تَبَعًا: كأن يقول: وقفتُ على أولادي ثم على أولادهم، وفيهم حَمْلٌ، فيشمله الوقف.
الشرط الخامس: كون الوَقْفِ مُنَجَّزًا
(كون الوَقْفِ مُنَجَّزًا) فلا يصح تعليقه إلا بموته، يعني: لا بد أن يكون الوقف غير معلَّقٍ، ناجزًا.
ومثال الوقف المُعلَّق: أن يقول: بيتي هذا وقفٌ بعد شهر، أو بعد سنة، أو عند دخول شهر رمضان، أو نحو ذلك من العبارات.، فيشترطون أن يكون ناجزًا، وعلَّلوا لذلك قالوا: لأنه نقلٌ للملِك فيما لم يُبْنَ على التغليب والسِّراية، فلم يَجُزْ تعليقُه على شرطٍ في الحياة كالهِبَة.
والقول الثاني في المسألة: إن الوقف يصح مع التعليق مطلقًا، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو القول الراجح في المسألة.
وبناءً على ذلك؛ فمَن قال مثلًا: إنْ شفى الله مريضي فبيتي وقفٌ على الفقراء والمساكين. على قول الجمهور لا يصح، وعلى القول الراجح يصح.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، يقول: إن شفى الله مريضي فبيتي وقفٌ على الفقراء والمساكين. ما المانع من صحة هذا! أو: إن أتى شهر رمضان فبيتي وقفٌ أو نحو ذلك! فلا مانع يمنع من صحة تعليق الوقف.
لكن الحنابلة استثنوا من هذا مسألةً، قالوا: “إلا بموته”؛ يعني: يصح التعليق بموته، فلو قال: إن متُّ فبيتي وقف. وهذا يحصل كثيرًا، قال: فيلزمُ من حين الوقف، إن خرج من الثلث، إذا قال: “إن مِتُّ فبيتي وقفٌ”؛ فمن أهل العلم من قال: إن هذا حُكْمه حكم الوصية تمامًا، وهذا قول الجمهور.
والقول الثاني: إن حكمه حكم الوصية، إلا أنه يلزم -كما قال المؤلف- مِن حين الوقف.
ما الفرق بين القول الأول والثاني؟
القول الثاني هو مذهب الحنابلة: إن حكمه حكم الوصية، إلا أنه يلزم من حين الوقف. والقول الأول: حكمه حكم الوصية تمامًا في كل شيء.
فما الفرق بين القول الأول والقول الثاني؟ ما الفرق بين قول الجمهور وقول الحنابلة؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، أحسنت.
الوصية يجوز أن يرجع فيها، ولا تَلْزمُ إلا بالموت، بينما الوقف هنا يلزمُ من حينِ الوقفِ، وليس له الرجوع. وقول الحنابلة هنا قولٌ متَّجِه.
والشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله اسْتَشْكَل قول الحنابلة، قال: “كيف يكون فيه مِن حُكم الوصية وفيه من حكم الوقف؟! إما أن يجعله وصيةً، أو يجعله وقفًا. أمَّا أن يقول: هو حكمه حكم الوصية، إلا أنه يلزم؟! فيقول: “هذا لا يستقيم”.
لكن عندي أن قولَ الحنابلة قولٌ متَّجِهٌ وقويٌّ، ولا مانع من أن يكون حكمه حكم الوصية، لكنه لازمٌ مِن حين الوقف، فما الذي يمنع من هذا؟ فما دام أنه وقفٌ فقد لزِمَهُ، لكنه يكون حكمه حكم الوصية في كونه -مثلًا- لا يكون إلا من الثلث، فلا يزيد على الثلث؛ لكونه علَّقَه بموته، والتصرُّفات المُعلَّقة بالموت إنما تكون في حدود الثلث، فقولُ الحنابلة قولٌ متَّجِهٌ.
مداخلة: …
الشيخ: لا، الوقف على الميت نفسه.
مداخلة: …
الشيخ: إي نعم، يعني: مثل الوقف على الأضرحة وعلى القبور.
الشرط السادس: ألا يَشترِطَ فيه ما يُنافيه
فإن شَرَط مثل هذه الشروط فلا يصح الوقف؛ وذلك لأن هذه الشروط تُنافي مقتضى عقد الوقف.
الشرط السابع: أن يَقِفَهُ على التأبيد
وبناءً على ذلك: لا يصح الوقف مؤقتًا، فلو قال: بيتي هذا وقفٌ لمدة سنة، أو وقفٌ لمدة شهر، أو وقفٌ لمدة خمس سنين، فعلى قول الجمهور، يقولون: إنه لا يصح.
وذهب المالكية إلى أنه يصح الوقف المؤقت، وقالوا: إنه لا مانع. ما الدليل على أنه لا يصح الوقف المؤقت؟ كما أنه يصح الوقف المؤبَّد فيصح الوقف المؤقت؛ لأن المقصود به أن يكون على جهة بِرٍّ، وهو إذا قال: بيتي وقفٌ لمدة السنة؛ فهو على جهة بِرٍّ.
ولكن الأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو أنه لا يصح الوقف المؤقت؛ لأن هذا هو ظاهر النصوص، فإن في قصة عمر ، قال له النبي : حبِّسِ الأصلَ، وسبِّلِ الثَّمرةَ[8]، وفي رواية الدارقطني قال: حبِّس الأصلَ وسبِّل الثمرة[9]، وإن كان في سنده مقال. والتحبيس يُنافي التأقيت.
وأيضًا جاء في قصة عمر قال: تصدَّق بأصله على ألا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَث، ولكن يُنفَق ثمره كما عند البخاري[10]، وهذا صريح في التأبيد؛ إذ إنه لو جاز التأقيت؛ لجاز بيعه، ولَجَازَتْ هِبَته وأمكن إرثه، أليس كذلك؟ إذا كان مثلًا وُقِفَ لمدة سنة، فبعد سنة يجوز بيعه، ويجوز إرثه وهِبَتُه، وهذا يُنافي الحديث.
ثم أيضًا لم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة والتابعين أنه وقَّف وقفًا مؤقتًا، إنما المنقول عنهم أنهم يَقِفون أوقافًا مؤبَّدة، وحينئذٍ نقول: إن الوقف إذا كان مؤقتًا لا يصح وقفًا، لكن نعتبره مثلًا صدقة، لكن على الوقف لا يصح وقفًا، أو مثلًا عارِيَّة، أو نحو ذلك، لكن وقفٌ! لا يصح أن يكون وقفًا؛ لأن الوقف من خصائصه التأبيد.
قال:
وقلنا: إن هذا -أيضًا- هو القول الصحيح.
هذه مسألة مهمة، وهي ما يُعبِّر عنها بعض الفقهاء بـ”مصرف الوقف المنقطع”.
مصرف الوقف المنقطع
الوقف المنقطع له عدة صور، منها هذه الصورة التي ذكرها المؤلف، أن يقول: وقَّفْتُ كذا، ويسكت.
طيب، وقَّفْتُ كذا في ماذا؟ ما ذكر شيئًا.
وأيضًا من صور الوقف المنقطع أن تزيد غلة الوقف على الجهة التي وُقِف فيها، وهذا كثير، مثلًا يقول: وقفت بيتي هذا في أضحيتين، لي ولوالدي مثلًا، الأضحيتان -مثلًا- قيمتهما ألفا ريال، رِيع هذا الوقف عشرة آلاف، أو عشرون ألفًا، أو أكثر، القدر الزائد ماذا نفعل به؟ واضح، صورة المسألة؟ إذن؛ هذا يُسمِّيه الفقهاء بـ”مصرف الوقف المنقطع”.
اختلف العلماء في مصرف الوقف المنقطع على أقوال، أشهرها قولان:
- القول الأول، هو المذهب عند الحنابلة، وهو الذي قرَّره المؤلف هنا: وهو أن مصرف الوقف المنقطع يكون لورثة الواقف من النَّسَب على قَدْر إرثهم، فهذا القَدْر الزائد يرجع للورثة، نقسمه بينهم على حسب الميراث، إذا كان -مثلًا- جعل هذا الوقف في أضحيتين، نضحي بأضحيتين بألفي ريال، والباقي نُعيده للورثة على حسب الميراث الذكر له ضعف الأنثى، مثل المثال الذي ذكره المؤلف على جهةٍ؛ يرجع للورثة، فنقسمه بينهم قسمة الإرث، وعلَّلوا لذلك قالوا: لأن الوقف مصرفه البِرُّ، وأقاربه أولى الناس بِبِرِّه.
- القول الثاني في المسألة: إن مصرف الوقف المنقطع هو الفقراء والمساكين، وهذا رواية عن الإمام أحمد، واختار هذا القول الموفق ابن قدامة رحمه الله في “المغني”، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن الفقراء والمساكين هم مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها؛ ولأن هذا هو الغالب على مقاصد الواقفين، الواقف لو كان يُريد أن يكون هذا إرثًا ما وقفه أصلًا، لكن هو أخرجه لله ، فهو يُريد أن يكون في جهة بِرٍّ، والأصل في مصارف البِرِّ أنها تكون للفقراء والمساكين، وقد اختار هذا القول الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي رحمه الله ونصره، قال: إن هذا هو الغالب على مقاصد الواقفين. ولكن إذا كان في أقاربه فقراء فيكونون أولى من غيرهم؛ لأن القريب أولى بالصدقة والزكاة وصلة الرحم، وكذلك أيضًا أولى بمصرف الوقف.
فإذن؛ هذا هو القول الراجح: إنه لا يكون مصرف الوقف المنقطع إرثًا، وإنما يكون للفقراء والمساكين.
مداخلة: …
الشيخ: مثلًا جُهِل، أو جُهِل ماذا قال، أو نحو ذلك. لكن الذي عليه العمل في المحاكم: هو أنهم يجعلونها إرثًا، لكن من حيث الدليل ومن حيث النظر والأقرب للقواعد الشرعية: هو أنه يكون للفقراء والمساكين؛ لما ذكرنا من أنهم هم الأصل، كما يقول ابن قدامة: هم مصارف مال الله وحقوقه. وأيضًا لأن هذا هو الأقرب لمقاصد الواقفين، فالواقف لو أراد أن يكون إرثًا لَمَا وقَّف أصلًا، هو أراد أن يُخرج هذا القدر لله .
فإذن؛ القول الراجح في مصرف الوقف المنقطع: أنه يكون للفقراء والمساكين.
ونكتفي بهذا القدر في هذا الدرس.
إن أردتم أن نأخذ الفصل الثالث فقط، حتى إنه ليس فيه كلام كثير؛ لأنه بقي معنا خمسة فصول، لو أخذنا الفصل الثالث يبقى معنا أربعة فصول؛ حتى نضمن أن ننتهي الدرس القادم.
على كلِّ حالٍ، ما نزيد على خمس دقائق، ليس فيه كلام كثير، في الفصل الثالث.
فصل: لزوم الوقف بمجرده
قال:
ويلزَمُ الوَقفُ بمجرَّده، ويملكُهُ الموقوفُ عليه.
يعني: يلزم بمجرَّد الوقف، سواء بصيغته القولية أو الفعلية، ويملكه الموقوف عليه إذا كان معيَّنًا.
إذا قال: هذا البيت وقفٌ على فلان؛ فيملكه فلان.
يعني: يكون الموقوف عليه هو الناظر لهذا الوقف.
إذا كان الموقوف عليه محجورًا عليه، إذا كان -مثلًا- مجنونًا، فإنسانٌ رَقَّ على هذا الإنسان المجنون وقال: وقفتُ عليه كذا، وقفتُ عليه هذه السيارة، أو وقفت عليه هذا البيت؛ فيكون الناظر ليس هذا المجنون، وإنما يكون وليَّه.
فإن شَرَط ناظرًا فيكون الناظر من اشترطه.
وعمر جعل الناظر على وَقْفه مِن بعده حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فلا يُصرف إلى جهة أخرى. انتبِه لهذه المسألة!
فمثلًا: مَن وقفَ وقفًا للمساجد، فلا يُصرَف إلا في المساجد، ما يُصرَف في جهةٍ أخرى.
فمثلًا: المصاحف الموقوفة على المساجد لا تُصرف في جهة أخرى، لو أراد شخص -مثلًا- أن يأخذ هذه المصاحف ويذهب بها للمدرسة؛ فلا يجوز هذا، أو يذهب بها -مثلًا- للبيت، يقول: أنا أريد أن أقرأ في المصحف في البيت؛ ما يجوز.
طيب، لو أذن له الإمام، إذا قال: أُريد أن آخذ هذا المصحف وأقرأ فيه في البيت، وأذِن له الإمام، هل يَمْلِك؟ ما يملك، لا الإمام ولا الآذِنُ، هذا وقفٌ على المسجد وليس له أصلًا أن يأخذه.
فنقول: إذا أردت أن تقرأ من المصحف فاقرأ في المسجد، أمَّا أن تذهب به للبيت فليس لك ذلك، ولا يملك الإمام ولا غيره الإذن أصلًا.
فإذن؛ الوقف على جهة معيَّنة يتعيَّن أن يكون في تلك الجهة.
وعند الفقهاء قاعدة، وسنتكلم عنها إن شاء الله بالتفصيل في الدرس القادم، يقولون: “شرط الواقف كشرط الشارع”، لكن المقصود: كشرط الشارع في الفهم والدلالة، في تقييد المطلق وتخصيص العام ونحو ذلك، وليس في وجوب العمل.
وقد شدَّد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: من اعتقد أن شرطَ الواقف كشرط الشارع في وجوب العمل قد يكون هذا قد يؤول إلى الكفر. والعياذ بالله، كيف يجعل كلام البشر ككلام الله وكلام رسوله ؟!
لكن المقصود: شرط الواقف كشرط الشارع، مقصود الفقهاء الذين أطلقوا هذا العبارة؛ يعني: في الفهم وفي الدلالة.
فإذن؛ الواقف يُعمَل بشرطه إذا استثنى نفسه أو استثنى صديقه أو استثنى ولده أو نحو ذلك، فيُعمل بشرطه.
حكم الوقف إذا انقطعت الجهة التي وقف عليها
يعني: لو أن هذه الجهة انقطعت، وَقَفَ على مدرسة، ثم هذه المدرسة أُلغِيَت، فيقول: إن الوقف يرجع للواقف، وهذا بناءً على القول الذي قرَّره المؤلف: وهو أن مصرف الوقف المنقطع يكون لورَثَته؛ لأنه قال: كان لورثته إذا كان ميتًا، وله إذا كان حيًّا.
وبناءً على القول الذي رجحناه: أن مصرف الوقف المنقطع يكون لماذا؟ للفقراء والمساكين، بناءً على ذلك نقول: إذا انقطعت الجهة والواقف حَيٌّ؛ فإن الوقف يكون للفقراء والمساكين، بناءً على أن القول الراجح في مصرف الوقف المنقطع: أنه للفقراء والمساكين.
قال:
لوجود الوصف فيه، فإنه إذا وَقفَ على الفقراء فافتَقَرَ، أصبح فقيرًا؛، فيدخل فيمن يستحق هذا الوقف.
وذلك لأن هذا العتق سوف يُبطل الوقف؛ لأنه سوف يُبطل الوقف، فلا يصح عتق الرقيق الموقوف، ما دام أن هذا الرقيق موقوف لا يصح أن يُعتق؛ لأن هذا العتق سوف يُبطل الوقف.
يعني: إذا أُوقِفت عليه أَمَةٌ، قيل: يا فلان هذه الأَمَة وقفٌ عليك لتخدمك. فوَطِئَها؛ فإنه يأثم بذلك؛ وذلك لأن مِلْكه ناقص وليس تامًّا.
طيب، هل يُحدُّ حَدَّ الزنا؟ لا يُحدُّ حَدَّ الزنا؛ لأنه وطءٌ بشبهة، ما دام أنها موقوفة عليه ووَطِئَها، فهو وطءٌ بشبهة، لكنه يأثم بذلك
بناءً على أن أمهات الأولاد يُعتَقْنَ بموت السيد، وتجب قيمتها في تركته ليُشترى بها مثلها، قالوا: لأنه أتلَفَها على مَن بعده من البُطُون، وحينئذٍ فإنه يجب عليه قيمتها في تركته.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا يقول: هل يصح أن يقِفَ على نفسه في حياته ثم إذا مات ينتقل إلى جهة بعينها كالفقراء؟
الشيخ: نعم، يصح مثل هذا؛ لأنه قلنا: إن الواقف له أن يشترط، فيقول: هذا الوقف، هذا البيت على نفسي ما دمتُ حيًّا، وبعد الوفاة يكون للفقراء والمساكين. هذا عليه العمل، كثير من الأوقاف تكون بهذا.
بل ينبغي للإنسان -خاصة إذا كان له أولاد كثيرون، وإذا كان له أكثر من زوجة- أن يَقِف بيتَه على المحتاج مِن ورثته، لماذا؟ لأنه بعد الوفاة يحصل التنازع.
وأعرف أسرة كانت حالتهم جيدة، لكن بعد وفاة والدهم -ولم يَقِف شيئًا- باعوا البيت، وباعوا كُلَّ أملاكه، وقسموا التركة، وأصبحت والدتهم ليس لها بيت، تتنقَّل من بيتٍ إلى بيت، لكن لو أن والدهم وقف هذا البيت؛ أصبح مركزًا للأسرة، وتبقى فيه والدتهم، ومَن احتاج من الورثة أن يسكن فيه؛ يسكن فيه، هذا أفضل من كونها تتنقَّل ولا يبقى هناك بيت. وأيضًا حتى لو بقي؛ يكون لهم عليها مِنَّة؛ لأنهم أذِنُوا لها في البقاء فيه.
فينبغي هنا أن يَقِف بيته ويستثني، يستثني السُّكنى، يسكن هو مثلًا في هذا البيت مدة حياته، وبعد وفاته -مثلًا- يكون على المحتاج من ورثته، أو بعد وفاته يكون للفقراء والمساكين، كُلُّ هذا الأمر فيه واسع.
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا يقول: هل تحقيق الكتب العلمية يدخل في الوقف؟
الشيخ: لا شك أنه يدخل في الوقف؛ لأن تحقيق الكتب فيه فائدة إخراج هذا المخطوط للناس، ويدخل في نشر العلم الصحيح؛ ولذلك فلا شك في دخوله في الصدقة الجارية، وفي العلم الذي يُنتفع به.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما حكم نقل الوقف من مكان إلى مكان آخر؛ كنقل مزرعة، أو نخل، أو نحوها؟
الشيخ: هذا إن شاء الله سنُجيب عنه في الدرس القادم بالتفصيل؛ ولذلك فلا داعي أن نُجيب عن هذا السؤال الآن؛ لأن هذا -إن شاء الله- سنذكر كلام أهل العلم فيه بالتفصيل في الدرس القادم.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا اشترط الواقف ألَّا ينتقل الوقف ولا تكون نِظَارَتُه لوزارة الأوقاف، فهل يصح شرطه؟
الشيخ: ألَّا ينتقل؟ يعني مقصوده: ألَّا ينتقل للوزارة مثلًا؟ نعم، له شرطه ذلك، إذا اشترط مثل هذا الشرط، فله شرطه، له نَظَرٌ في هذا الشرط، ربما يرى أنه لو انتقل للوزارة أنه ربما لا يُعتنَى به ولا يُهتَم به، بخلاف ما إذا كان -مثلًا- نَظَر عليه شخصًا معيَّنًا يهتم به أكثر، فلا شك أن هذا الشرط فيه فائدة، فيكون شرطًا صحيحًا.
ونحن نتمنى -الحقيقة- أن يأتي الوقت الذي يثق فيه الناس بالوزارة، ويُسلِّمون الأوقاف لهم؛ لأن الناس الآن متخوِّفُون، وأنا ذكرت هذا لمعالي وزير الشؤون الإسلامية، قلت: الناس لا يثقون الآن بالوزارة، بل يتخوَّفون أنهم إذا أَعْطوا الوزارةَ الوقفَ؛ يضيع، فينبغي أن تُفعِّل دَور الأوقاف في وزارة الشؤون الإسلامية حتى يُحقِّق الوقف.
وقبل أشهرٍ صدر قرار من مجلس الوزراء بإنشاء هيئة عامة للأوقاف، وتنفصل عن الوزارة، وكل ما يتعلَّق بالأوقاف يكون عندها، ولها مُحافظ بمَرْتبة ممتازة، لكن حتى الآن لم يُفعَّل هذا القرار، فلعَلَّه إذا فُعِّل ووُجِدت هذه الهيئة، ربما أنها تُعِيد ترتيب الأوقاف الموجودة، ونتمنى إن شاء الله أن نصل للمرحلة التي يثق فيها الناس بالوزارة أو الهيئة هذه، وأنها تتولَّى أوقاف الناس، ويكون لها نفعٌ ظاهر في المجتمع.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: لو قال الواقف: هذا البيت يسكنه فلانٌ مدة حياته، ثم يرجع مِلْكُه لي، فهل يجوز؟
الشيخ: هذه المسألة تُسمَّى “مسألة العُمْرَى والرُّقْبَى”، وهي نوعٌ من الهِبَة.
وهذه سنتكلم عنها -إن شاء الله- في (باب الهِبَة) في الدرس بعد القادم بالتفصيل إن شاء الله. هي محل خلاف، وردت فيها بعض الأحاديث، وسنتكلم عنها بالتفصيل إن شاء الله.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: وجدت في محفظتي مبلغًا من المال، ولا أدري مِن أين أتى! فماذا أصنع به؟
الشيخ: المال الذي يأتي للإنسان ولا يعرف مصدره، لا يقول: هذا رزقٌ ساقه الله لي. وإنما يتصدَّق به عن صاحبه؛ لأنه مملوك لشخص معين، الرزق لا بد أن يُعرَف سببه، ولا بد أن يعرف مصدره. إذن؛ لا بد مِن أن يتصدق به براءةً لذِمَّته.
ومِثل ذلك أيضًا: لو وجدتَ أن حسابك دخل فيه مبلغٌ مالي، تجد كثيرًا من الناس يسكت ويقول: هذا رزق من الله. هذا ليس بصحيح، الرزق له أسباب، لا بد أن تعرف ما هو السبب، فلا بد أن تُعيده، فإن أمكن أن تعرف صاحبه فتُعِيده عن طريق البنك، وأحيانًا البنك لا يعرف من صاحبه، فتتصدق به عن صاحبه.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم. يقول: كيف نجمع بين قوله : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبِقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[11]، وقوله لما مرَّت جنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال : وجبت، ومرَّت جنازة أخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: وجبت، ثم قال : أنتم شهداء الله في أرضه[12]؟
الشيخ: نعم، هذا الإشكال لم يغفل عنه العلماء، ذكروه، ذكره الحافظ ابن كثير، وذكره ابن القيم، وذكره أهل العلم، وقالوا: كيف يكون الإنسان محسِنًا طِيلَة عمره، ثم تصدر منه السيئة آخر عمره فيكون من أهل النار؟!
قالوا: الله تعالى عدل، ولو كان عند الإنسان.. يُمثِّل ابن القيم بمثال، يقول: لو كان عند الإنسان رَقِيقٌ وأحسن له طيلة عمره -هذا الرَّقِيق- ثم بدر منه زَلَّة، فهل من العدل والإنصاف أن ينسى حسناته كلها ويعامله بهذه الزلة؟ يقول: من ظنَّ ذلك بالله، فقد ظنَّ بالله ظنَّ السَّوء. يقول ابن القيم، وحينئذ لا بد من فهم الحديث فهمًا صحيحًا.
والفهم الصحيح يكون بروايةٍ وردت في الصحيحين، وهي: إن أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، فيسبِقُ عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس[13].
فيكون المعنى: أن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس؛ أي: أنه والعياذ بالله مُرَاءٍ، لكنه في الحقيقة يعمل بعمل أهل النار، فيكون من أهل النار. أو أنه يعمل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس، إنسان عنده خير وعنده صلاح وعبادة في السِّرِّ، لكن الناس يعتقدون أنه من أهل النار. وهذا تجده؛ مثلًا بعض الناس عنده مظهرُ تقصيرٍ، لكن عنده عبادات يعملها في السِّرِّ وفي الخفاء، فيكون من أهل الجنة، فيكون هذا هو الفهم الصحيح للحديث، كما قرَّر ذلك ابن كثير وابن القيم وجمع من المحققين من أهل العلم.
وليس معناه: أن الإنسان يكون مُحسِنًا مطيعًا لله طيلة عمره، ثم تبدُر منه زلَّة قبل وفاته فيكون من أهل النار، هذا حتى في مقاييس البشر ليس من الإنصاف والعدل، فالله تعالى عنده العدالة المطلقة، البشر عدالتهم ناقصة، بينما الله تعالى عدلٌ عدالةً مطلقة، فلا يمكن أن يكون هذا، بل إن هذا كما يُقرِّره أهل العلم مِن ظنِّ السوء بالله ، وحينئذٍ لا بد أن يُفهم هذا الحديث الفهم الصحيح.
حديث: أنتم شهداء الله في أرضه دليلٌ على أن الإنسان الذي يتفق أكثر الناس على الثَّناء عليه، على أنه إن شاء الله من أهل الخير، يعني: يُثنون عليه ثناءً، يعني: يتفقون عليه، سواء حيًّا أو ميتًا.
طيب، كيف نجمع بين هذا وبين: فيما يبدو للناس؟ فيما يبدو للناس المقصود: ليس أكثر الناس، وإنما المقصود: مَن يعرف هذا الشخص، ربما خطر بباله أن هذا الشخص من أهل الجنة، أو خطر بباله أنه من أهل النار.
أما أنتم شهود الله في أرضه: هذا الشيء الذي يتفِقُ عليه الجَمُّ الغفير من الناس أنه إنسانٌ صالح أو إنسان غير صالح، فهذا: أنتم شهداء الله في أرضه كما قال عليه الصلاة والسلام، وبذلك يحصل التوفيق بين هذين الحديثين.
مداخلة: …
الشيخ: لا، هو إذا قيل: الثلث فالمقصود به هو وقت الوفاة، دائمًا الوقف سواءٌ الثلث في الوصية أو العطية في مرض الموت، أو مِثل الوقفِ هنا المُعلَّقِ بالموت. فالمقصود بالثلثِ الثلثُ زمن الوفاة.
مداخلة: …
الشيخ: هذا يرجع لمسألة تبديل الوقف بما هو أصلح منه. هذا -إن شاء الله- فيه كلام كثير لأهل العلم، سوف نُفصِّل الكلام فيه الدرس القادم إن شاء الله.
إذن؛ نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2737، مسلم: 1632. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2737، ومسلم: 1632. |
^3 | رواه البخار: 2764. |
^4 | رواه أحمد: 6461. |
^5 | رواه مسلم: 1631. |
^6 | رواه عبدالرزاق في “المصنف”: 9913، وابن أبي شيبة في “المصنف”: 32800، والبيهقي في “الكبرى”: 12651. |
^7 | رواه الترمذي: 3703، والنسائي: 3608. |
^8 | رواه أحمد: 5947، والنسائي: 3603، وابن ماجه: 2397. |
^9 | رواه الدارقطني في “العلل”: 96. |
^10 | سبق تخريجه. |
^11 | رواه البخاري: 3332، ومسلم: 2643. |
^12 | رواه البخاري: 1367، ومسلم: 949. |
^13 | رواه البخاري: 2898، ومسلم: 112. |