logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(69) باب الجعالة- من قوله: “وهي جعل مال معلوم لمن يعمل عملا..”

(69) باب الجعالة- من قوله: “وهي جعل مال معلوم لمن يعمل عملا..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

طيب، ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى:

باب الجعالة

باب: الجَعَالة.

الجَعَالة هي بتثليث الجيم، الجيم مُثَلثَّة، وهذا المصطلح “مُثَلثَّة” مَرَّ معنا في دروس سابقة، ما معنى إذا قلنا: إنها بتثليث الجيم، أو أن الجيم مُثَلثَّة.

مداخلة:

الشيخ: أحسنت.

يجوز الأوجه الثلاثة: الضم والفتح والكسر، فيصح أن تقول: جُعالة وجَعالة وجِعالة، كلها صحيحة.

تعريف الجعالة

قال:

وهي: جَعلُ مالٍ.

عرفها المؤلف بأنها:

جَعلُ مالٍ معلومٍ لمن يعمَلُ عملًا مباحًا، ولو مجهولًا.

(جَعلُ مالٍ معلومٍ) يعني: العوض معلوم لمن يعمل عملًا مباحًا، ولو مجهولًا.

وعرفها صاحب “الزاد”: “أن يجعل -أي: جائز التصرف- شيئًا معلومًا، لمن يعمل له عملًا معلومًا أو مجهولًا، لمدة معلومة أو مجهولة”.

فلاحِظ هنا: الجَهَالة في الجَعَالة:

أولًا: الجهالة في العمل، قالوا: حتى لو كان العمل مجهولًا.

ثانيًا: الجهالة في المدة، حتى لو كانت المدة مجهولة.

وهذه الجهالة وهذا الغرر معفوٌّ عنه؛ وذلك لما يترتب على الجَعَالة من المصالح العظيمة للناس، وليس كُلُّ غرَرٍ أو جهالة ممنوعًا شرعًا، فيُباح من الجهالة والغرر ما تدعو إليه الحاجة ولا يُوقع في النزاع.

حكم الجعالة

والجعالة من العقود الجائزة؛ ولذلك هي بعيدة عن النزاع، إنما يكون فيها المنازعة لو كانت من العقود اللازمة، لكنها من العقود الجائزة، التي لكُلٍّ من الطرفين فيها الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر؛ ولذلك يُتسامح فيها.

وقد أثبت الجعالةَ الجمهورُ من المالكية والشافعية والحنابلة، وأنكرها الحنفية وقالوا: إنها لا تصحP لما فيها من الجهالة والغرر.

والصحيح هو القول بالجَعَالة، وقد أخذ بها الصحابة  كما في قصة اللَّديغ، فإن نفرًا من الصحابة نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فلُدِغَ سيدهم، فأتوا إليهم وقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ فقال أحد الصحابة، وكانوا لا يعرفون بأنه يرقي، قال: إني والله لأرقي، ولكن لا أفعل لأنكم لم تُضيِّفُونا. فقالوا: نجعل لك جُعْلًا قطيعًا من غنم. فتشاوَر أولئك الصحابة، ثم قَبِلوا، فجعل يقرأ سورة الفاتحة، قرأ سورة الفاتحة فقط، جعل يقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] وينفث الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] وينفث، ثم قام ذلك الرجل كأنما نشِط من عِقال، وفي رواية: ما به قَلَبَة[1].

سبحان الله! انظر إلى عظيم تأثير القرآن، خاصة سورة الفاتحة، مع أن هذا الرجل لُدِغَ، نَفَذَ سُمُّ العقرب في دمه، ومع ذلك شفاه الله تعالى بالرُّقية، هذا يدل على عظيم شأن الرُّقية، وخاصة إذا كان عند الرَّاقي يقينٌ، وأيضًا إذا كانت بسورة الفاتحة، أعظم ما يُسترقَى به سورة الفاتحة.

ثم إن بعض أولئك النفر من الصحابة تشكَّكوا في هذا، هل هو جائز أو لا؟ كيف نأخذ جُعْلًا على الرُّقية، فذهبوا للنبي فقال: خذوه، واضربوا لي معكم بسهم تأكيدًا للجواز، وفي رواية قال : وما يُدرِيك أنها رُقية؟!. يعني: الفاتحة. فدلَّ ذلك على جواز الجَعَالة، فإن الجَعَالة هنا ظاهرة، قالوا: لا نرقي حتى تجعلوا لنا جُعْلًا[2].

ولذلك؛ فالصحيح ما عليه الجمهور من إثبات الجَعَالة، وما فيها من الغرر -كما قلنا- يُتسامح فيه.

أمثلة للجعالة

المؤلف مثَّل للجَعَالة، قال: 

كقوله: مَن رَدَّ لُقَطَتي، أو بنى هذا الحائط، أو أذَّنَ بهذا المسجد شهرًا؛ فله كذا.

هذه أمثلة للجعالة: مَن رَدَّ لُقَطَتي، مَن رَدَّ جَمَلي الشارد فله كذا، من وجد محفظتي -محفظة ضائعة مثلًا فيها بطاقات وفيها نقود- فله كذا، من بنى لي هذا الحائط فله كذا، من فعل كذا فله كذا. هذه أمثلة للجعالة.

ومِن أمثلة ذلك مِن واقعنا المعاصرِ الجوائزُ التي تُرصَد من الجهات الخيرية على حِفظ القرآن مثلًا أو حفظ السُّنة، فيُقال: مَن حفظ القرآن فله كذا، مَن حفظ جزءًا من القرآن فله كذا، من حفظ كذا حديثًا فله كذا من المال، مَن أجاب عن أسئلة هذه المسابقة فله كذا.

هذه كلها تدخل في الجعالة، لكن بشرط أن يكون من يُقدِّم الجُعْل من غير المتسابقين، أما إذا كان من المتسابقين فتدخل في السَّبَق، وهذه لا تجوز -كما مَرَّ معنا- إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ، لكن إذا كان من طرفٍ خارجي، من جهة خارجية، فإن هذه تدخل في (باب الجعالة).

الفرق بين الجعالة والإجارة

والفرق بين الجعالة والإجارة:

الإجارة والجعالة بينهما شبه؛ ولذلك لا بد أن نُميِّزَ أبرز الفروق بينهما:

  • الفرق الأول: أن الجعالة لا يُشترط لصحتها العلم بالعمل، بينما الإجارة يُشترط لصحتها أن يكون العمل المؤاجر عليه معلومًا.
  • الفرق الثاني: أن الجعالة لا يُشترط فيها معرفة مدة العمل، بخلاف الإجارة فيُشترط أن تكون مدة العمل معلومة.
  • الفرق الثالث: أن العامل في الجعالة لم يلتزم بالعمل، بخلاف الإجارة فإن العامل قد التزم بالعمل، في الإجارة يوجد شخص معين يلتزم لك، بينك وبينه عقد، أما في الجعالة: مَن رَدَّ ضالتي، أيُّ شخص يرُدُّ ضالَّته، ما التزم لك عامل معين.
  • الوجه الرابع: أن الجعالة لا يُشترط فيها تعيين العامل، بخلاف الإجارة فإنه يُشترط فيها.
  • الفرق الخامس -وهو مِن أهمِّها-: أن الجعالةَ عقد جائز، لكُلٍّ من الطرفين الفسخ، ولو بغير رضا الطرف الآخر، بينما الإجارة -كما مَرَّ معنا- عقد لازم، ليس لأحد من الطرفين الفسخ إلا برضا الطرف الآخر.

فإذن؛ الجعالة تختلف عن الإجارة من هذه الوجوه الخمسة.

وقد ذكر الله تعالى في قصة يوسف  في قوله : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، يعني: ولمن جاء بصُوَاع الملك الذي فُقِدَ حِمْلُ بعير، قال أهل العلم: هذا نوع من الجعالة.

وقصة اللَّديغ هي ظاهرة أيضًا في الجعالة، والحاجة تدعو إليها، فإن رَدَّ الضالَّة ونحو ذلك مما لا يمكن المؤاجرة عليه؛ لوجود الجهالة والغرر، وقد لا يوجد مَن يتبرع بمثل هذه الأمور، وحينئذ فالحاجة داعية إليها، ولا يترتب عليها أيُّ مفسدة.

صور معاصرة للجعالة

نُريد أيضًا صورًا للجعالة من الواقع المعاصر، من يذكر لنا صورًا أخرى؟

مداخلة:

الشيخ: الإمامة والأذان، قد تكون جعالة، وقد تكون رزقًا من بيت المال، وقد تكون أجرة، فلو قال -مثلًا- جماعة المسجد: مَن أذَّن لنا شهرًا فله كذا؛ تكون جعالة، هي جائزة. أما إذا تعاقدوا مع شخص عقدًا ملزمًا؛ فهذا إجارة.

وأما ما عليه الآن وهو الواقع، فهو من قَبِيل الرزق من بيت المال، وقد حُكِي إجماع أهل العلم على جوازه؛ لأن بيت المال يُصرَف في مصالح المسلمين، ومن أعظم مصالح المسلمين ترتيبُ رزقٍ للإمام والمؤذِّن؛ حتى ينتظم أمر المسجد.

طيب، نُريد أمثلة أخرى.

مداخلة:

الشيخ: نعم، التبليغ عن المطلوبين، مثلًا: إنسان محكوم عليه للسجن ونحو ذلك، وهو هارب، يُبلِّغ عنه، أو مثلًا: من بلَّغ عن شخص من أرباب المخدرات فله كذا، ونحو ذلك، هذه تدخل في الجعالة. وأيضًا؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، هذا يكون من الجعالة، ولا يُشدِّد العلماء كثيرًا، حتى في العوض لا يُشدِّدون فيه كثيرًا، فمثلًا هذه أيضًا تصح فيها الجعالة، أصلًا يدخلها الجهالة والغرر من عدة وجوه.

وأيضًا من صور الجعالة: عملية التنقيب عن البترول -مثلًا- والمعادن، يقال للشركات المتخصصة في التنقيب: إن وجدتِ شيئًا مِن ذلك فلكِ كذا من المال. هذه تدخل في الصور.

مِن ذلك: عقد الوساطة التجارية في بعض الصور، كأن يأتي شخص لآخر يقول: إن بعت سيارتي، أو بعت هذه السلعة، فلك كذا.

تحصيل الديون المشكوك فيها: كأن يأتي شخص لآخر يقول: إن لي ديونًا على أناس، فإن حصَّلت ديوني فلك مثلًا خمسة في المائة منها نظير تعبك.

وأيضًا بعض العلماء يجعل عقد المحاماة، يجعل المحاماة في بعض الصور من قَبِيل الجعالة، فيُقال: أُريد منك أن تُخاصم عني في المحكمة، ومن يُخاصم عني في المحكمة فله كذا من المال. هذه قد تكون من قَبِيل الجعالة، وقد تكون أيضًا من قَبِيل الإجارة، بحسب طبيعة العقد.

مداخلة:

الشيخ: لا، هذا يكون من قَبِيل السمسرة، هذا من قَبِيل السمسرة.

طيب، نعود لعبارة المؤلف.

استحقاق الجعل بعد العمل

قال:

فمن فعَلَ العملَ بعدَ أن بلَغَه الجُعْلُ، استحقَّه كلَّه.

إذا عملَ العملَ المطلوب بعد أن بلَغَه الجُعْلُ، يعني مثلًا قال: مَن رَدَّ بعيري الشارد فله كذا. فذهب ورَدَّ بعيره الشارد؛ يستحق الجُعْلَ كاملًا. وعلَّلوا ذلك، قالوا: لاستقراره بتمام العمل، فهو كالربح في المضاربة.

قال:

وإن بلَغَهُ في أثناء العمل؛ استحقَّ حصَّة تمامِهِ.

مراد المؤلف بـ”حصَّة تمامِه”؛ أي: قِسْط تمامه، وهذه عبارة صاحب “زاد المستقنع”، وهي أوضح، فإذا بلغه في أثناء العمل؛ استحقَّ قسط تمامِهِ.

فلو أنه قال: مَن بنى لي هذا الحائط فله ألف ريال، من بنى لي هذا الحائط في يوم واحد فله ألف ريال. ثم إن رجلًا من الناس مَرَّ بهذا الطريق وبنى الحائط، ولم يعلم بالجُعْل، لم يعلم، فلما انتصف في بناء الحائط بلَغَه أن صاحب الحائط جعل جُعْلًا، فأكمل بناءه، فكم يستحق؟ يستحق النصف.

أُعِيدُ المثالَ مرةً أخرى: هذا رجلٌ مَرَّ بصديقٍ له، وشرع في بناء حائط له من باب المعروف إليه، إسداء المعروف إليه، فلما انتصف في البناء، قيل له: إن صاحب هذا الحائط يقول: مَن بنى لي هذا الحائط فله ألف ريال. فأكمل بناء الحائط، هنا لا يستحق الجُعْلَ كُلَّه؛ لأنه لم يعلم به إلا في أثناء العمل، فيستحقُّ النصف، بنى النصف، فنقول: ما بَنَيْتَه قبل أن تعلم بالجُعْلِ مجانًا تبرعٌ مِن عندك، النصف الآخر هو الذي تستحق عليه نصف الجُعْل.

هذا معنى قول المؤلف: (وإن بلَغَهُ في أثناء العمل؛ استحقَّ حصَّة تمامِهِ)؛ يعني: قسط تمامه.

وبعد فراغِ العملِ لم يستحِقَّ شيئًا.

يعني: هذا إنسان جَمَلُه شارد، فذهب إنسان وتبرَّع بردِّ الجمل الشارد، ولم يعلم بأن صاحب الجمل قد جعل جُعْلًا، فردَّه متبرعًا، فقيل: إن صاحب الجمل قال: مَن ردَّ جَمَلي الشارد فله -مثلًا- ألف ريال؛ فهنا لا يستحقُّ؛ لأنه لم يعلم بالجُعْل، فإذا لم يبلغه إلا بعد الفراغ من العمل فإنه لا يستحقُّ شيئًا.

مثال آخر: إنسان ضاعت محفظته، فوجدها إنسان وسلَّمها إليه، ولم يَبْلغه أن صاحب المحفظة قال: يا جماعة، مَن وجد محفظتي فله خمسة آلاف ريال. لكن هذا الذي وجدها لم يعلم، فأتى وسلَّم له المحفظة، فدعا له، قال: جزاك الله خيرًا. وقيل: إن صاحب المحفظة جعل جُعْلًا، فذهب إليه وقال: أعطني خمسة آلاف ريال. هل يستحقُّ؟ ما يستحقُّ؛ لأنه لم يبلغه الجُعْل قبل العمل.

فإذن؛ إذا لم يبلغه الجُعْل إلا بعد الفراغ من العمل؛ فإنه لا يستحق شيئًا.

ما يَسْتحِقُّه العامل في حالة فساد عقد الجعالة

قال:

وإن فَسَخَ الجاعِلُ قبل تمامِ العملِ لزِمَهُ أجرة المِثْلِ، وإن فَسَخَ العاملُ فلا شيء له.

أما قوله: (إن فسخ العامل فلا شيء له) فهذا ظاهر، فلو أنه قال: مَن بنى لي هذا الجدار فله كذا، فبنى العامل نصف الجدار، أو ثلاثة أرباع الجدار، ولم يُكمله، وفسخ عقد الإجارة، فليس له شيء، ويقال له: إن أردت أن تأخذ الجُعْل أَكْمِل بناء الجدار.

لكن إن كان الفسخ من الجاعِل، فالمؤلف يقول: (لزمه أجرة المِثْل)، لو أنه قال: من بنى لي هذا الجدار فله كذا. فلما بنى ثلاثة أرباع الجدار أو قارب من الانتهاء، قال: فسختُ الجَعَالة. هل نقول: العامل ليس له شيء؟ لا، بل له، لكن ماذا له؟ يقول المؤلف: (أجرة المِثْل).

وقال بعض أهل العلم: إنه يكون للعامل حصَّته من المُسَمَّى، لا أجرة المثل، حصَّته من المُسَمَّى يعني: مُسَمَّى الجُعْل، لا من أجرة المِثْل. وهذا قد اختاره الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي رحمه الله؛ كما في “المختارات الجلية”، وكذلك الشيخ محمد ابن عيثمين، رحمة الله على الجميع. وهذا هو القول الراجح.

وقال الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي: إنه يوجد من العمال من لا يعمل إلا إذا كان المُسَمَّى أكثر من أجرة المِثْل، فدخل على هذا، وصار شرطًا شَرَطَه له الجاعِل، فإن أتمَّه استحقَّه كُلَّه، وإلا استحقَّ القسط المُسمَّى، سواءٌ وافق أجرة المثل أو أقل أو أكثر.

نوضح هذا بمثال: بناء هذا الحائط، لو استأجر أجيرًا لَكَان من يبْنِيه بألف ريال، لكن هذا الرجل يُريد مَن يبني له هذا الحائط في يوم واحد، مُستعجِلٌ عليه، فأراد أن يُحفِّز العُمَّال، قال: مَن بنى لي هذا الحائط فله ألفَا ريال.

وأنا، لو استأجرت أجيرًا سيبْنِيه بألف ريال، لكن يمكن أن يأخذ أسبوعًا. فمن باب التحفيز جعلها جعالة، قال: مَن بنى لي هذا الحائط فله ألفَا ريال. فأتى إنسان وبنى هذا الحائط، فلما شرع في البناء، انتصف في بناء الحائط، قال الجاعِل: فَسَخْتُ الجعالة. فلو أخذنا بكلام المؤلف أن له أجرة المِثْل، هو بنى نصف الحائط، وقلنا: الأجرة ألف ريال، فكم يكون للعامل؟ خمسمائة.

وعلى القول الثاني، قول الشيخ ابن سعدي، يقول: له حصته مِن المُسَمَّى، المُسَمَّى كم؟ ألفَا ريال، وهو قد بنى النصف، فيكون له كم؟ ألف ريال، لاحِظ الفرق.

وأيهما أقرب إلى تحقيق العدالة، القول الأول أو الثاني؟ لا شك أن القول الثاني أقرب، أن له حصة من المُسَمَّى.

ويوجد الآن في المحاكم، كما حدثني بذلك بعض المحامين، يقول: إن بعض الناس يتفق مع المحامي بمبلغ كبير، ثم إذا قارب النطق بالحكم، وعرف صاحب القضية أن القاضي ربما ينطق بالحكم في الجلسة القادمة أو التي بعدها؛ فَسَخَ الجعالة، وقال: له أجرة المِثْل.

فيقول: أتفق -مثلًا- معه على مائة ألف ريال، وتكون مثلًا عشر جلسات، أنا ما دخلت معه إلا لأنه أعطاني مائة ألف ريال على القضية. فهو، إذا بقي جَلْسةٌ قال: فسخت الجعالة.

فلو أخذنا بالمذهب، لو يقدرون الجلسة مثلًا بثلاثة آلاف ريال؛ فسيأخذ سبعًا وعشرين ألفًا على تسع جلسات، لكن إذا أخذنا بالقول الراجح نقول: لا، له قِسْطُه من المُسَمَّى. فنقسم مائة ألف على عشرة، معنى ذلك أنه يستحقُّ تسعين ألفًا، لاحظوا الفرق بين تسعين ألفًا، وبين سبعة وعشرين ألفًا.

فلا شك أن القول الثاني، قول الشيخ ابن سعدي، أنه أقرب إلى العدل من المذهب.

مداخلة:

الشيخ: عقد جائز، لا إشكال، وليس بالضرورة أن تكون الجعالة أكثر، قد تكون أكثر وقد تكون أقل من الإجارة، لكن الغالب أنها تكون أكثر.

مداخلة:

الشيخ: له الفسخ، لكن أيضًا لا ضرر ولا ضِرار، محكومٌ بقواعد أخرى. حتى الحنابلة أنفسهم يقولون: إذا فسخ الجاعِلُ فلا بد من تعويض العامل. لكنهم يقولون: تعويضه بأجرة المِثْل.

نحن قلنا: بقِسطه من المُسَمَّى، أما أن هذا العامل يتعب فإذا قارب على التمام قال الجاعل: فسَخَتُ الجعالة. ونقول: تذهب ما ولك شيء! هذا ليس من العدل.

حكم من عمل عملًا لغيره بإذنه دون تحديد أجرة وجعالة

قال:

ومن عمل لغيره عملًا بإذنه، من غير أجرةٍ وجَعَالةٍ، فله أجرة المِثْل.

إذا عمل لغيره عملًا بإذنه، مِن غير أن يتفق معه على شيء، لا أجرة، ولا جعالة، هذه تحصل كثيرًا، فله أجرة المِثْل.

مثال ذلك: أتيت بعامل، كهربائي، أو سباك، وقلت له: أصلِح هذا الخلل في السباكة، أو في الكهرباء. ولم تتفق معه على شيء معين، ثم إنه طلب منك مبلغًا كبيرًا، قال: أعطني ألف ريال. فقلت له: ما تستحق إلا مائة ريال، لاحِظ الفرق! فقال: أنا لا أُبيحك ولا أُحلِّلك، وأنت ظالم، وكذا. هل تعطيه ألف ريال؟

نقول: نرجع لماذا؟ لأجرة المِثْلِ، نرجع لأهل السباكة إذا كانت سباكة، أو لأهل الكهرباء، كم أجرة المِثْلِ في عرفكم في إصلاح مثل هذا الخلل؟ إذا قالوا: أجرة المِثْلِ -مثلًا- مائة، نقول: ليس له إلا مائة ريال، إذا قالوا: له خمسمائة ريال، فليس له إلا خمسمائة ريال.

إذن؛ المرجع لأجرة المِثْل.

مثالٌ آخر: لو أنك ركبت مع سيارة أجرة، وما اتفقتَ معه على شيء، قلت: أريد أن تُوصلني للمطار. فأوصلك المطار، وقال: أريد منك مائة ريال. فقلت له: مائة ريال كثيرة، أنا لن أعطيك إلا خمسين ريالًا. واختلفت أنت وإيَّاه، فقال: إنني لن أُبيحك.

فإذا أردنا لتأصيل القضية، هذا الأمر من الناحية الفقهية، فنقول: المرجع في ذلك إلى أجرة المِثْل، فلا يُؤخذ بقول صاحب الأجرة، ولا بقولك، وإنما نرجع لأجرة المِثْل، فنقول لأصحاب سيارات الأجرة: كم أجرة المِثْل من الحي الفلاني إلى المطار؟ إذا قالوا: خمسون ريالًا، نقول: أعطه خمسين، وإذا قالوا: سبعون، نقول: أعطه سبعين، وإذا قالوا: مائة، نقول: أعطه مائة.

فهذا الضابط مفيد جدًّا لطالب العلم، ويكثر السؤال عنه.

فنقول إذن: المرجع في ذلك لأجرة المِثْل. 

حكم من عمل لغيره عملًا بغير إذنه

لكن، إذا كان العمل لغيره بدون إذنه، قال المؤلف:

ومن عمل لغيره عملًا.

قال المؤلف:

وبغَيرِ إذنِه؛ فلا شَيءَ له..

وقال الموفق ابن قدامة: “لا نعلم فيه خلافًا”.

يعني: إنسان عمل لك عملًا بدون إذْنٍ، لم تأذَن له بذلك، ولم تأمره بذلك، فليس له شيء.

مثال ذلك: أنت كنت -مثلًا- في السوق، فأتى إنسان وحمل بضاعتك، ووضعها في سيارتك، ثم قال: أعطني. فلا يلزمك أن تُعطيه، أو ساعدك مثلًا، أو المقصود أنه عمل لك عملًا بغير إذنك، فهنا لا يستحق شيئًا.

لكن استثنى العلماء من ذلك مسألتين، وربما نضيف لهما مسألة ثالثة:

المسألة الأولى، قال:

 أن يُخلِّصَ متاعَ غيره من مَهْلَكَةٍ؛ فله أجرة المِثْل.

إذا خَلَّصَ متاع غيره من مَهْلَكَة؛: كغرق أو حرق أو نحو ذلك، كأن يجد شخصٌ بيتًا يحترق، فيقوم بتخليص الأمتعة والحوائج من ذلك البيت، فهنا عمل لغيره عملًا بغير إذنه، فبمقتضى القاعدة التي ذكرناها لا يستحق شيئًا، لكن العلماء استثنوا هذه المسألة، فقالوا: إن له أجرة المِثْلِ، حتى وإن لم يأذن له صاحب البيت؛ لأن في هذا حثًّا وترغيبًا في إنقاذ الأموال من الهَلَكة.

ولهذا قال شيخ الإسلام: إنه يستحق أجرةَ المِثْلِ، ولو بغير شرط. وهذا منصوصُ أحمد وغيره.

طيب، فإن قال صاحب البيت، يعني لمَّا وجد هذا البيت يحترق، قام وأنقذ المتاع من البيت، وخلَّص هذا المتاع من البيت، ثم بعدما أُطفئ الحريق، أتى هذا لصاحب البيت وقال: يا فلان، أنا ساعدتك في إنقاذ هذا المتاع من الحريق، وإلا كان سيحترق، فأريد أن تُعطيني أجرة المِثْل. فقال: مَن قال لك -أصلًا- أَخْرِج هذا المتاع من البيت؟ اتركه يحترق، أنا ما أمرتك، ولا أذنت لك بهذا، فلا أُعطيك شيئًا. فكيف نُجيب عن هذا؟

نقول: إن قوله: من قال لك تُخلِّص هذا المتاع من الحرق، هذا سَفَهٌ لا يُطاوع عليه، ويُقال: يلزمه أجرة المِثْل، حتى وإن قال: أنا ما أمرتك، ولا أذنت لك؛ لأن هذا تخليص لمال محترم من هَلَكة.

فاستثنى العلماء إذن هذه المسألة.

المسألة الثانية التي ذكرها العلماء، قال المؤلف:

أن يَرُدَّ رَقيقًا آبِقًا لسيِّده، فله ما قدَّره الشارعُ، وهو دينار أو اثنا عشر درهمًا.

رَدُّ العبد الآبِق، أي: الهارب، سواءٌ ردَّه من داخل البلد أو من خارجه، يستحقُّ عليه دينارًا أو اثني عشر درهمًا، رُوي في ذلك حديثٌ عن النبي ، رواه البيهقي في “السنن الكبرى” عن ابن أبي مُلَيْكة وعمرو بن دينار: أن النبي جعل رَدَّ الآبِق إذا جاء به خارجًا من الحرم دينارًا[3].

كما ترون في هذا الحديث، أن فيه إرسالًا؛ ولذلك هو ضعيف لا يصح من جهة الإسناد، لكنه مأثور عن عددٍ من الصحابة ، فقد رُوي عن عمر وعلي وابن مسعود .

قال ابن قدامة: وهو قول مَن سمَّينا من الصحابة  ، ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفًا؛ فكان إجماعًا.

فالعمدة على الآثار من الصحابة ، وليس على الحديث، الحديث ضعيف، لكن على الآثار من الصحابة.

طيب، دينار واثنا عشر درهمًا، كان الدينار يُساوي في عهد النبي اثني عشر درهمًا؛ ولذلك فنصاب السرقة ربع دينار، ربع اثني عشر كم؟ ثلاثة دراهم، فنصاب السرقة يقولون: ربع دينار، أو ثلاثة دراهم؛ لأن الدينار في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان يُساوي اثني عشر درهمًا، ثم بعد ذلك اختلف التقدير فيما بعد.

الحكمة أيضًا في استثناء هذه المسألة: أن إباق العبد ليس بالأمر الهين؛ لأنه إذا أبقَ، وكان أصله كافرًا، ربما رجع إلى أصله في بلاد الكفر وكان حربًا على المسلمين، أو إذا تُرِك وساح في الأرض ربما يحتاج ويُفسد في الأرض بالسرقات والتعدِّي ونحو ذلك.

فكانت الحكمة أن نُشجِّع مَن يردُّه إلى سيده، ونُعطيه عوضًا، حتى وإن لم يأذن سيده بذلك، هذه المسألة الثانية مستثناة من هذه القاعدة.

أضاف بعض العلماء مسألة ثالثة: وهي إذا أعدَّ الإنسان نفسه لعمل، فجاء شخص وطلب منه ذلك العمل، فإنه يستحقُّ أجرة المِثْل. أعدَّ الإنسان نفسه لعمل، مَن يُمثِّل لنا بمثال؟ إذا أعدَّ الإنسان نفسه لعمل، فطُلِب منه أن يعمل ذلك العمل؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، سيارة أجرة، أتيت ووجدت سيارة أجرة، وركبت مع صاحب السيارة، قلت: أوصلني للمكان الفلاني، أنت لم تتفق معه، أو هو أوقف سيارته، أوقف سيارته وفتح لك الباب، قال: تفضل، وهي سيارة أجرة، فلا تقُل: أنا لم آذن لك، ولم آمرك، أنت الذي عرضت عليَّ. لا، نقول: هذا أعدَّ نفسه لهذا العمل، فله أجرة المِثْل.

ومثل ذلك: الحَمَّال، مثلًا إنسان معروف، حمَّال ومعه عربته، فقام وحمل المتاع وأنت تنظر، ووضعه في سيارتك؛ يستحقُّ أجرة المِثْلِ، وليس لك أن تأخذ بالقاعدة وتقول: أنت عملت لي عملًا بغير إذني، ولم آمرك بهذا، فلا تستحقُّ شيئًا. نقول: هو أعدَّ نفسه لهذا العمل، فنُفَرِّق بين من أعَدَّ نفسه لهذا العمل، وبين من لم يُعد نفسه لهذا العمل.

من أعَدَّ نفسه للعمل يستحق أجرة المثل، أما من لم يُعِد نفسه لهذا العمل فإنه يكون متبرعًا ولا يستحق شيئًا.

إذن؛ هذه القاعدة التي ذكرها أهل العلم يُستثنى منها هذه المسائل الثلاث.

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب اللقطة

باب: اللُّقَطَة.

وننتهي، ونقف عند (الوقف).

تعريف اللقطة

اللقطة: تعريفها لغة: هي بضم اللام وفتح القاف: لَقَطَة. ويُقال: لُقَاطة ولُقَطة، وهي اسم للمُلْتَقَط؛ لأن ما جاء على وزن فُعَلَة فهو اسم للفاعل؛ كالصُرَعَة، ويقال: لُقْطَة، وهي المال الملقوط، واللُّقَطَة أشهر.

ومعنى اللُّقَطَة في اصطلاح الفقهاء: “مالٌ أو مختَصٌّ ضَلَّ عن ربِّه”.

فقولنا: “مال” لما يصح تملُّكه ويجوز بيعه. “أو مختصٌّ” هو ما لا يصح تملُّكه ولا يجوز بيعه، ككلب الصيد والسِّرجين النجس، يقولون: هذا مختص. “ضلَّ عن صاحبه”؛ يعني: ضاع وفقده صاحبه.

قال الموفق ابن قدامة: “الضَّالَّة اسم للحيوان خاصة دون سائر اللُّقَطة، ويقال لها: الهَوَامِي والهَوَامِل”.

والأصل في اللُّقَطَة هو حديث زيد بن خالد الجُهَني ، أن النبي سُئل عن لُقَطة الذهب والوَرِق، قال : اعْرِفْ وِكَاءَها وعِفَاصَها، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تَعْرِفْ فاسْتَنْفِقْهَا، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه[4].

وسُئل عن ضالَّة الإبل، قال : ما لك ولها، دَعْها، إن معها سقاءها وحذاءها، تَرِدُ الماءَ وتأكل الشجر حتى يَجِدَها ربُّها[5].

وسُئل عن ضالة الغنم، قال : خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. وهذا الحديث متفق عليه[6].

والأصل معنا في (باب اللُّقَطَة) حديث زيد بن خالد الجُهَني، وسنستشهد بهذا الحديث كثيرًا.

أقسام اللقطة

قسَّم المؤلف اللُّقَطَة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما لا تتبعه همة أوساط الناس

قال:

أحدها: ما لا تَتْبعُه هِمَّة أوْساط الناس: كسَوطٍ ورغيفٍ ونحوهما، فهذا يُملك بالالتِقَاطِ.

(ما لا تَتْبعُه هِمَّة أوْساط الناس) إذا قلنا: “أوْساط الناس”، ما المقصود بأوْساط الناس؟ لأن مِن الناس مَن يكون غنيًّا لكنه شحيح جدًّا لدرجة أن هِمَّته تتبع الأشياء الحقيرة، ومن الناس من يكون فقيرًا ولا تُهِمُّه الأشياء، لا يلتفت لهذه الأشياء الحقيرة مع كونه فقيرًا.

فما المقصود بأَوْساط الناس؟ هل أوساط الناس مالًا، أو أوساط الناس خُلُقًا؟

الأحسن أن نقول: مالًا وخُلُقًا، أوساط الناس مالًا وخُلُقًا، لا تَتْبعُه هِمَّة أوساط الناس مالًا وخُلُقًا. فهذا الشيء الحقير الذي لا تتبعه هِمَّة أوْساط الناس يجوز أخذه بدون تعريف؛ ولهذا قال:

يُملك بالالْتِقَاطِ، ولا يلزَمُ تعريفه.

مثَّل المؤلف لذلك بالسوط والرغيف، ونُريد أمثلة من الواقع.

مداخلة:

الشيخ: نعم، مثلًا الريال، إن وجدت ريالًا في الطريق؛ فيجوز أن تأخذه بدون تعريف وتملكه أيضًا. مثال آخر؟ خلِّنا في الريالات، الآن الريال لا تتبعه هِمَّة أوساط الناس.

طيب، خمسة ريالات؟ لا تتبعها همة أوساط الناس. عشرة؟ لا تتبعها. خمسون ريالًا، خمسون تتبعها همة أوساط الناس، ما بين العشرة والخمسين -يعني- محل اجتهاد ونظر، لكن من عشرة فأقل لو وجدتها في الطريق تأخذها بدون تعريف.

لو وجدت قلمًا بنصف ريال، أو بريال، أو ريالين، أو نحوها، كذلك من هذا القبيل.

الدليل لهذا حديث جابر رضي الله عنهما قال: رخَّص رسول الله في العصا والسوط وأشباهه يَلتقطه الرجل ينتفع به. هذا الحديث أخرجه أبو داود[7]، والبيهقي لكن إسناده ضعيف[8]. لكنه مُؤيَّد بما جاء في الصحيحين عن أنس  أن النبي مرَّ بتمرة في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها[9].

وجه الدلالة: أن النبي بيَّن أنه لولا أنه يخشى أن تكون هذه التمرة من الصدقة لأكلها، فما منعه مِن أكلها إلا خشية أن تكون من الصدقة؛ لأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، فلولا هذا المانع لأكلها. وهذا دليل على أن التمرة ونحوها أنها لا يُشترط تعريفها، وإنما يملكها آخِذُها بمجرد الالْتِقاط.

وهنا قال المؤلف:

لكن إن وجد ربه، دفعه له.

لأنه عين ماله، حتى وإن كان ريالًا، حتى وإن كان شيئًا يسيرًا.

إن كان باقيًا، وإلا لم يلزمْهُ شيءٌ.

يعني: لو أنه مثلًا وجد خمسة ريالات ثم أنفقها، ثم أتى صاحبها فقال: إني قبل يومين أضعت هنا خمسة ريالات. فقال: إني أخذتها ولكني أنفقتها، ما معي شيء الآن. فهل نقول: تبقى دَينًا في الذِّمة؟

لا، نقول: لا يلزمه شيء؛ لأنه لما التقطها ملَكَها بإذن الشارع، وليس عليه شيء؛ ولذلك قال المؤلف: (وإلا لم يلزمْهُ شيءٌ)؛ لأنه مَلَكه بأخذه، وقد رخَّص النبي في الْتِقاطه، ولم يذكر فيه ضمانًا.

وهذه المسألة محل اتفاق بين أهل العلم، ليس فيها خلاف، كما حكى الاتفاق على ذلك الموفق ابن قدامة وجمعٌ من أهل العلم.

لكن نُنَبِّه هنا إلى مسألة: وهي أن الشيء اليسير إذا كان صاحبه معروفًا لا يجوز أخذه، بعض الناس يفهم أن كل شيءٍ يسيرٍ يُتسامح فيه؛ هذا غير صحيح، الشيء اليسير الذي يُتسامح فيه إذا كان ضائعًا ووجدته، أما إذا كان صاحبه معروفًا أو يمكن التوصُّل إليه؛ فما يجوز أخذه.

فلو وجدتَ قلمًا بنصف ريالٍ وصاحبُه معروف، لا تأخذه وتقول: إن هذا شيء يسير ولا تتبعه هِمَّة أوساط الناس.

ولهذا؛ فالنبي قال: من اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان[10]، وفي رواية: حرم الله عليه الجنة. قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك[11].

القضيب من الأراك، أليس من الأشياء التي لا تتبعها هِمَّة أوساط الناس؟ ومع ذلك توعَّد النبي عليه الصلاة والسلام مَن أخذ مال أخيه بغير حقٍّ وإن كان شيئًا يسيرًا لا تلتفت له همة أوساط الناس.

فينبغي التنبُّه لهذه المسألة؛ لأن بعض الناس يخلط بينهما، إذا كان صاحبه معروفًا لا بد من ردِّه إليه وإن كان شيئا يسيرًا، كلامنا إذن إذا وجدت شيئًا ضائعًا.

طيب، لو وجدت مثلًا في المدرسة ريالًا، أو شيئًا لا تلتفت له همة أوساط الناس، هل يُلتَقط؟ هل يدخل في هذا القسمِ المدرسةُ؟ هو لا تلتفت له همة أوساط الناس، لكن وجدته في محيط المدرسة.

مداخلة:

الشيخ: أحسنت.

لا يلتقطه؛ لأنه بالإمكان أن يصل إلى صاحبه، أفراد المدرسة معروفون ومحدودون، فيمكن أن يُسلِّمه لإدارة المدرسة، وهي تُعرِّف به؛ فإذن ليس له أن يلتقطه. أو وجد في دائرة حكومية مثلًا أفرادها معروفون ومحدودون ومعلومون.

الكلام إذا وجده في طريق عابر لا يمكن أن يهتدي إلى صاحبه إلا بالتعريف؛ فهذه هي اللُّقطة.

ينبغي ألا نخلط بين هذه المسائل، إذا كان صاحبه يمكن أن يُهتدى إليه؛ فهنا أيضًا لا يجوز الْتِقَاطه.

طيب، بعض الناس يقيس على ذلك مسألة شحن الجوال في المسجد، خاصة للمعتكفين، معلوم أن شحن الجوال في كهرباء المسجد شيء يسير وتكلفته يسيرة، هي أشبه بما لا تلتفت له هِمَّة أوساط الناس، فهل يصح القياس هنا؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، ما يصح، إذا أردنا أن نقيس لا يصح؛ لأنها ليست لُقَطَة، لكن إذا نظرنا إلى المساجد، وأن الكهرباء -مثلًا- تكون من بيت مال المسلمين، وهذا شيء يسير، وقد أباح الشارع، أو تسامح الشارع في اللُّقَطَة إذا كانت شيئًا يسيرًا لا تلتفت له همة أوساط الناس.

فكذلك أيضًا إذا كان هذا الشيء يسيرًا من بيت مال المسلمين، وقد جُعِل لمصلحة المسلمين أصلًا، كهرباء المسجد أصلًا لمصلحة مَن كان في المسجد.

فالذي يظهر أنه يُتسامح في ذلك، ليس من باب القياس، لكن من باب الاستئناس بهذه المسألة؛ لأنه من بيت المال، أما لو كان -مثلًا- ليس من بيت مال المسلمين، فإنه لا بد من إذن صاحبه.

لكن ما دام أنه من بيت مال المسلمين، وقد وُضِع أصلًا لمصلحة مَن في المسجد، فيكون مَن في المسجد مِن المعتكفين لهم أن يستخدموا هذا، شحن الجوال بكهرباء المسجد؛ لأنه أصلًا وُضِع لمصلحة مَن في المسجد، وهو شيء يسير.

وقاعدة الشريعة التسامح في الشيء اليسير إذا كان لُقَطَة، وكذلك أيضًا إذا كان من جهةٍ يكون الإنسان فيها له نوعُ حقٍّ أو تعلُّق؛ كبيت مال المسلمين.

فالذي يظهر أنه لا بأس بذلك، الذي يظهر بناءً على هذا التأصيل: أنه لا بأس باستخدام كهرباء المسجد في شحن الهاتف الجوال.

مداخلة: ويُؤخذ على هذا القياسِ السرقةُ من بيت مال المسلمين؟

الشيخ: لا، السرقة من بيت المال لا تجوز ومحرمة، وفيها التعزير، فلا تجوز.

كلامنا في الشيء اليسير جدًّا الذي وُضع لمصلحة المسلمين، أما السرقة والأخذ من بيت المال فهذا حكمه حكم الغُلُول من الغنيمة، وقد قال الله : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، فهو محرم، بل بعض أهل العلم يقول: إن السرقة من بيت المال أشد من السرقة من غيره؛ لأنه سيكون خصماؤك المسلمين كلهم، فهي لا تجوز بأيِّ حال من الأحوال.

لكن كلامنا فيما وُضِع لمصلحة المسلمين، كهرباء المسجد وُضِعت لمصلحة أهل المسجد كلهم، فيدخل في ذلك المعتكفون، لكن المعتكف يُريد أن يستخدم هذه الكهرباء لمصلحة خاصة له، فإذا كانت هذه المصلحة شيئًا يسيرًا، فالذي يظهر تفريعًا على ما سبق أنه لا بأس به، أما إذا كان شيئًا كبيرًا يضرُّ بالمسجد، كأن يكون جارَ المسجد ويُريد -مثلًا- أن يستخدم كهرباء المسجد في إضاءة بيته، نقول: هذا لا يجوز. أما الشيء اليسير، فتفريعًا على ما سبق يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس به.

قال:

مَن تَرَك دابته تَرْكَ إياسٍ بمَهلَكة أو فلاةٍ؛ لانقطاعها، أو لعجْزِه عن عَلَفِها؛ مَلَكها آخِذُها.

إنسان سيَّب دابته، تركها وسيَّبها، وهذا أمر معروف عند أرباب الإبل، أحيانًا لا يستطيع الإنسان أن يقوم بعَلَفها، أو يملُّ منها، أو نحو ذلك، فيُسَيِّبها وتكون هَمَلًا، كما أراد جابر رضي الله عنهما أن يُسَيِّب جَمَله، فأتاه النبي ، وكان عليه الصلاة والسلام يتفقد الجيش، فوجده في مؤخَّرة الجيش، وجَمَلُه آخِرُ الجيش، فقال : ما شأنك يا جابر؟. قال: أردت أن أُسَيِّبه. فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام عصا، وضرب هذا الجمل، فأصبح في مقدمة الجيش، فقال عليه الصلاة والسلام: تبيعني جملك؟. قال: نعم. فباعه على أن له ظهره إلى المدينة، يعني: على أن يركبه جابر رضي الله عنهما إلى المدينة، فلما وصل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد نَقَده الثمن، ثم أهدى له الجمل، قال هو لك يا جابر[12].

انظر إلى هذه الأخلاق العظيمة! كيف سيكون أثره على جابر رضي الله عنهما.

فالشاهد من هذا أن جابرًا أراد أن يُسَيِّب جمله، وكان تَسْيِيب الجمال موجودًا، فلو فرضنا أن شخصًا سيَّب دابته، تركها إما تَرْكَ إياس بمَهَلَكة، أو لأيِّ سبب من الأسباب، فهنا مَن وجدها فإنه يملكها ويأخذها ولا شيء عليه.

لكن قول المؤلف: (أو لعجْزِه عن عَلَفِها) هنا يملكها آخذها، لكن إذا كان لعجزه عنها، كأن يكون هذا الجمل نَفَرَ منه ولم يستطع أن يُسيطر عليه فنفر منه وذهب للصحراء، فهنا ظاهر كلام المؤلف أنَّ مَن وجده أن له الحق أن يأخذه وأن يتملَّكه. وقال بعض أهل العلم: إنه إذا تركه صاحبه عجزًا عنه، وليس لانقطاعه، فإنه لا يملكه آخذه، وإنما هو لصاحبه، لكن لآخذه أجرة المِثْل.

وهذا هو القول الراجح، ورجحه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله وجمع من أهل العلم. هذا هو القول الراجح: أنه يُفرَّق بين ما تُرِك رغبة عنه وما تُرِك عجزًا عنه؛ فما تُرك رغبة عنه يملكه آخذه؛ لأن صاحبه -أصلًا- ما يُريده، أما ما تُرِك عجزًا عنه فالأصل أنه مال محترم معصوم، فلا يملكه آخذه، لكن آخذه يكون له أجرة المِثْل. هذا هو القول الصحيح في هذه المسألة.

قال:

وكذا ما يُلقى في البحر خوفًا من الغرق. 

يكون لآخذه؛ أي: يملكه آخذه.

القاعدة في هذا: أن ما تركه صاحبه رغبة عنه فيملكه آخذه، أما إذا تركه صاحبه ليس رغبة عنه وإنما عجزًا عنه؛ فلا يملكه آخذه.

القسم الثاني، وهنا ورد في “سنن أبي داود” مرفوعًا: أن النبي قال: مَن وجد دابة قد عجز عنها أهلها فسَيَّبوها، فأَخَذها فأحياها، فهي له. هذا حديث أخرجه أبو داود في “سننه”[13]، وحسَّنه بعض أهل العلم.

القسم الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع

النوع الثاني من اللُّقَطة، قال:

الضَّوَالُّ التي تمتنِعُ من صغار السباع: كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والظِّباء.

إذن؛ القسم الثاني: أن يكون مما يمتنع من صغار السِّباع، إما لضخامتها كالإبل والخيل والبقر، وإما لطيرانها كالطيور عمومًا، وإما لسرعة عَدْوِها كالظِّباء، وإما لدفعها عن نفسها بنابها كالفهود. فهذه التي تمتنع من صغار السباع، هذه يحرم التقاطها.

ولهذا؛ قال المؤلف:

فيحرُم التقاطها.

لقول النبي لما سئل عن ضالَّة الإبل: ما لك ولها، دعها، إن معها سقاءها وحذاءها، تَرِدُ الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها[14]، وفي رواية عند مسلم: أن النبي لما سُئل عن ضالَّة الإبل غضب حتى احمرَّت وجنتاه، واحمر وجهه، ثم قال: ما لك ولها[15].

وأيضًا جاء في “صحيح مسلم” من حديث زيد بن خالد: أن النبي قال: من آوى ضالة، فهو ضَالٌّ ما لم يُعرِّفها[16].

وأيضًا يلحق بهذا القسمِ الآلاتُ الثقيلة، الآلات والأدوات الكبيرة، والمعدات الثقيلة، وبالجملة ما يحتفظ بنفسه ولا يخشى عليه من الضياع، هذا يحرم أخذه والْتِقاطه كالإبلِ ونحوها، بل من باب أولى.

من يُمثِّل لنا بمثال للآلات والمعدات الثقيلة التي تحتفظ بنفسها، مثل ماذا؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، مثل الشاحنة في الطريق، ما يأتي إنسان يقول: هي لُقَطة، ويأخذها، حتى لو وجدها في الصحراء، ما يأتي ويقول: هي لُقَطة، هي تحتفظ بنفسها، بمكانها، ولا يُخشى عليها من الضياع.

الحرَّاثة مثلًا، مثلًا الحديد، وجدت مثلًا طنَّ حديدٍ موجودًا أمامك، ألقاه صاحبه وسيعود له، ما يُقال: إن هذه لُقَطَة، يحتفظ بنفسه، بمكانه. أكياس الإسمنت مثلًا، الأخشاب. فالأشياء والمعدات الثقيلة التي تحتفظ بنفسها هذه لا يجوز الْتقاطها.

قال المؤلف:

وتُضمن كالغصب.

يعني: لو التقطها فيُعتبَر مُلْتَقِطُها كالغاصب؛ وذلك للتعدِّي، ولا تُملك بالتعريف؛ لعدم إذْنِ الشارع، والمالِكُ فيه أشْبَهَ الغاصب.

قال:

ولا يزول الضمان إلا بدفعها للإمام أو نائبه.

يعني: نفترض أنه أخذ جملًا، الْتَقَطه مثلًا، أو نحو ذلك، فيَدُه يدُ غاصب، وهو ضامن.

طيب، لو قال: أنا أريد أن أُصحِّح عملي، أنا أخطأت. نقول: تُسلِّمها للإمام أو نائبه؛ وذلك لأن للإمام أو نائبه نظرًا في حفظ المال الغائب.

قال:

أو بردِّها إلى مكانها بإذنه.

يعني: بإذن الإمام، تذهب للإمام وتُخبره، فإذا قال: رُدَّها إلى مكانها؛ فهنا يزول الضمان، لا تكون يدُك يدَ غاصب، أو أن الإمام هو الذي يحفظها أو نائبه.

قال:

ومن كتم شيئًا منها فتلف؛ لزمته قيمته مرتين.

من كتم شيئًا -يعني: مما يحرم الْتِقاطه- فتلف لزمته قيمته مرتين، وقد رُوي في ذلك حديث عن النبي ، وهو حديث أبي هريرة: ضالَّة الإبل المكتومة غرامتُها ومثلها معها. وهذا الحديث أخرجه أبو داود في “سننه”[17]، وكذا البيهقي[18] ولكن سنده ضعيف. لكن، قضى به عمر ، وقال به الإمام أحمد، وكذلك إسحاق بن راهويه، قال إسحاق: إنه سنة مسنونة.

ولذلك؛ فالمعوَّل عليه -أيضًا- هو الآثار عن الصحابة، خاصة قضاء عمر ، وإلا فالحديث ضعيف.

فنقول: من كتم شيئًا مما يحرم الْتِقَاطه فإنه يُغَرَّم بقيمته مرتين.

مثلًا؛ هذا الجمل قام والْتَقَطه، وقلنا: إنه لا يجوز الْتِقَاط الجمل، ثم إنه تلف، قيمة هذا الجمل مثلًا خمسة آلاف ريال، فيُغَرَّم عشرة آلاف ريال، وهذا من قَبِيل التعزير بأخذ المال، والتعزيرُ بأخذ المال وردت به السنة، ومن أدلته هذا الحديث، وإن كان كما ذكرنا في سنده مقال.

مداخلة: هذا إذا تلف؟

الشيخ: إذا تلف، نعم، يعني: هو يدُه يدُ غاصب.

قال:

وإن تَبِع شيءٌ منها دوابَّه فطَرَدَه، أو دخل داره فأخرجه؛ لم يضمنْهُ حيثُ لم يأخذْه.

يعني: ولم تثبت يدُه عليه.

 مثال ذلك: هذا إنسان عنده إبل، وتَبِع إبلَه جملٌ أو ناقة، فطَرَده، فلما طَرَده هَلَك مثلًا؛ فإنه لا يضمن. وهكذا أيضًا إذا دخل داره، دخل حوشه، فأخرجه؛ فإنه لا يضمن. أما لو أدخله مع إبله فيضمن، لكن إذا طرده فإنه لا يضمن؛ لأنه لم يأخذه.

القسم الثالث: الذهب والفضة والمتاع، وما لا يمتنع من صغار السباع

القسم الثالث، قال:

كالذهب، والفضة، والمتاع، وما لا يمتنع من صغار السِّباع.

الحالة الثالثة: أن يكون المال الضَّالُّ من سائر الأموال، كما مثَّل المؤلف: الذهب والفضة، وكذلك الأوراق النقدية، والمتاع، ونحو ذلك، وما لا يمتنع من صغار السباع. ومثَّل المؤلف، قال:

كالغنم والفُصْلانِ.

الفُصْلانِ جمع فصيل: وهو ولد الناقة إذا فُصِل عن أمه.

والعَجَاجِيلِ.

جمع “عجل”.

والإِوَزِّ والدَّجَاجِ.

ونحوه، فهذه قال:

يجوز الْتِقَاطها لمن وثق من نفسه الأمانة.

هذا القسم يجوز الْتِقَاطه، لكن مع وجوب التعريف لمدة سنة.

قال: (يجوز الْتِقَاطه لمن وثق من نفسه الأمانة):

والقدرة على تعريفها، والأفضل مع ذلك تركها، فإن أخذها ثم ردَّها إلى موضعها؛ ضمن.

حكم الالتقاط

هذا يقودنا إلى مسألة: هل الأفضل في هذا القسم تَرْكُ الالتقاط، أو الأفضل الالتقاط؟

وجدتَ مثلًا شاة، وجدت نقدًا، مبلغًا نقدًا، وجدت خمسمائة ريال أو ألف ريال ملقاة في الطريق، وجدت ذهبًا، وجدت فضة، هل الأفضل أن تُلْتَقط وتُعرَّف مدة سنة، أو الأفضل أنك تتركها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة:

فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الالتقاط؛ لما فيه من حفظه مال أخيه المسلم.

والقول الثاني في المسألة: إن الأفضل ترك الالتقاط، وهو المذهب عند الحنابلة، كما قرَّر ذلك المؤلف، وهو من المفردات، هذا المصطلح مرَّ معنا كثيرًا، يعني: انفرد به الحنابلة عن بقية المذاهب، كما قال صاحب “الإنصاف”.

الجمهور قالوا: إن في الالتقاط حفظًا لمالِ صاحبه، لأخيه المسلم، وهو من باب التعاون على البر والتقوى.

أما الحنابلة فقالوا: إن الأفضل ترك الالتقاط؛ لأن الآخذ لِلُّقَطَة يُعرِّض نفسه لأكل الحرام، ويُعرِّض نفسه لتضييع واجب التعريف وأداء الأمانة، فكان ترك الالتقاط أسلَمَ وأبرَأَ للذِّمة، والسلامة لا يعدلها شيء.

وذهب بعض أهل العلم إلى التفصيل في المسألة، فقالوا: إن كان هذا الشيء يُخشى ضياعه لو لم يُلتقط، فالأفضل هو الالتقاط، أما إذا كان لا يُخشى ضياعه فالأفضل ترك الالتقاط. وهذا هو القول الراجح والله أعلم.

إذا كان هذا الشيء يُخشى ضياعه أو هلاكه؛ كَشَاةٍ وجدها في فَلَاةٍ من الأرض، ويخشى أن تأكلها السباع، فالأفضل هو الالتقاط؛ لأن في هذا حفظًا لمال أخيه المسلم. أما إذا كان لا يخشى عليه من الضياع لو لم يُلتَقَط، إذا لم يلتقطها هو ربما يجدها صاحبها، وربما يلتقطها غيره ممن يقوم بواجب التعريف.

فالأفضل هو ترك الالتقاط؛ لأن في هذا إبراءً لذِمَّته، هذا القول بالتفصيل، وهو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم.

قال:

فإن أخذها ثم ردَّها إلى موضعها؛ ضمن.

يعني: إن أخذ اللُّقَطَة، ثم قيل: يا فلان، ترى تعرفها سنة كاملة؟ قال: إذن أردها لموضعها. فنقول: إنه يضمن؛ لأنه لما أخذها أصبحت يَدُه يَدَ أمانة، فيلزمُه حفظها كسائر الأمانات، فإذا ردَّها يُعتبر قد فرَّط في هذه الأمانة؛ فيضمن.

لقطة الحيوان

ثم فرَّع المؤلف على هذا القسم الأخير، قال:

وهذا القسم الأخير ثلاثة أنواع:
أحدها: ما الْتَقَطه من حيوان.

يعني: كَشَاة مثلًا، هذا رجلٌ وجَدَ شاةً في البر، فالْتَقَطها، قلنا: يجب عليك أن تُعرِّفها سنة كاملة، قال: أنا أُعرِّفها سنة كاملة، لكن ماذا عن عَلْفها وسَقْيها؟

أنا لو اشتريت لها عَلَفًا، قيمة هذه الشاة -مثلًا- نفترض قيمتها خمسمائة ريال، لو افترضنا أنه يشتري لها عَلَفًا كل يوم بريالين، افتراض أنه يشتري لها عَلَفًا كل يوم بريالين، فمعنى ذلك أنه مع نهاية السنة يكون قد أنفق عليها حدود سبعمائة ريال، يعني أكثر من ثمنها.

فإذا أتى صاحبها بعد مرور سنة وسأله عن الشاة، قال: شاتك عندي، لكن لن أسلمك الشاة حتى تُعطيني ما أنفقت. قال: كم أنفقت عليها؟ قال: سبعمائة ريال. قال: الشاة كلها أصلًا ما تساوي خمسمائة ريال، كيف أُعطيك سبعمائة ريال؟

فهذا إشكال، والعلماء أجابوا عن هذا الإشكال، وكان من أوائل مَن ذكره أبو محمد ابن قدامة، الموفق ابن قدامة ذكره في “المغني” وأجاب عنه، وأثنى ابن القيم على اختياره وقال: لقد أحسن أبو محمد في هذه المسألة غاية الإحسان؛ لأنه حَلَّ لنا إشكالًا قائمًا.

طيب، ما هو حَلُّ هذا الإشكال؟  كما ذكره المؤلف هنا، قال: يُخيَّر بين ثلاثة أمور:

فيلزَمُهُ خَيرُ ثلاثة أمور:

الأمر الأول:

أكلُهُ بقيمته.

أكله بقيمته، فنقول تذبح هذه الشاة وتأكلها، وتحفظ قيمتها لصاحبها.

الأمر الثاني، قال:

أو بيعُهُ وحفظ ثمنه.

تبيع هذه الشاة، وتحفظ ثمنها لصاحبها.

الأمر الثالث:

حفظُه، ويُنفِق عليه من ماله.

يجعلها مع أغنامه، ويُنفِق عليها من ماله.

طيب، هل هو مُخيَّر بين هذه الأمور الثلاثة تخيير تَشَهٍّ أو تخيير مصلحة؟

تخيير مصلحة، كُلُّ مَن خُيِّر لغيره فهو تخيير مصلحة. وهذه قاعدة هنا؛ ولذلك فالمؤلف قال: (يلزَمُهُ خَيرُ) يعني: تخيير مصلحة.

طيب، مثلًا: لو كان في مثالنا السابق الخيار الأمثل: إما أن يأكلها بقيمتها أو يبيعها ويحفظ ثمنها، ولكن ليس له أن يُنفق عليها كل يوم ريالين، حتى يكون مع نهاية السنة ما أنفق عليها أكثر من قيمتها.

لكن -مثلًا- لو كانت أغنامه في البَرِّ ولا يُنفق عليها، تذهب وتسرح مع أغنامه وترعى وترجع، ولا يُنفق عليها ولا ريالًا واحدًا، فربما يكون الأفضل والأصلح أن يحفظها مع أغنامه لمدة سنة.

فإذن؛ يلزمه أن يفعل ما هو الأصلح.

قال:

وله الرجوع بما أنفَقَ إِن نواه.

يعني: إن نوى الرجوع على صاحبها بما أنفق فله الرجوع، إن كان هذا هو الأصلح، لكن إن لم ينوِ الرجوع فليس له الرجوع، إن كان متبرعًا فليس له الرجوع.

قال:

فإن استوت الثلاثة خُيِّر.

يعني إن قلنا: ما هو الأصلح من هذه الأمور الثلاثة؟ قال: هي سواءٌ في المصلحة. فنقول: اخْتَرْ ما هو الأيسر لك.

لقطة ما يخشى فساده

قال:

الثاني: ما يُخشى فساده.

يعني: فساده ببقائه: كالفواكه والخضراوات، وجدت في الطريق مثلًا كرتون برتقال أو موز مثلًا أو عنب أو خضراوات، فأخذتها والْتَقطتها، هل تُبقيها سنة تُعرِّفها؟ لو أبقيتها سنة تَلِفت، فماذا تفعل؟

قال:

يلزمه فعل الأصلح مِن بيعه.

يعني: وحفظ ثمنه.

أو أكله بقيمته.

كالشاة.

أو تجفيف ما يُجفَّف.

كالعنب والرُّطَب.

ونقيس على كلام المؤلف في التجفيف في وقتنا الحاضر، ما هو؟ التبريد، إذا أمكن تبريده في ثلاجة فيُبَرَّد، لو وجد رُطَبًا، الرُّطَب يمكن أن يُبَرَّد مثلًا، أو عنبًا أو نحو ذلك مما يمكن تبريده؛ فيلزمه أن يفعل الأصلح من هذه الأمور الثلاثة: إما بيعه، أو أكله بقيمته، أو تجفيفه، أو تبريده، إن أمكن ذلك.

فإن استوت هذه الأمور الثلاثة فإنه يُخيَّر.

لكن لاحظ هنا، إذا قلنا: إنه يأكل الشاة بقيمتها، أو الفاكهة بقيمتها، لا بد من تعريفها، ليس معنى ذلك أنه يأكلها ويحفظ ثمنها فقط، يحفظ ثمنها ويُعرِّفها مدة سنة، كذلك لو باعها يُعرِّفها، التعريف لا بد منه في جميع الأحوال.

لقطة باقي الأموال

القسم:

الثالث.

قال:

باقي الأموال، ويلزمُه التعريف في الجميع.

يعني: باقي الأموال يُعرِّفها، ليس فيها إشكال في الاحتفاظ بها لمدة سنة؛ مثل الأوراق النقدية، وكذهب، وكفضة ومتاع ونحو ذلك.

كيفية التعريف باللقطة

ثم بيَّن المؤلف كيفية التعريف، قال:

التعريف في الجميع فورًا.

يعني: لا بد أن يكون التعريف فورًا لا يتأخر.

نهارًا، أول كُلِّ يوم، مدةَ أسبوع، ثم عادةً مدةَ حولٍ.

 هذا قال به بعض أهل العلم، وقال بعضهم: إنه يُعرِّفها أولَ أسبوعٍ كلَّ يوم، ثم يُعرِّفها كلَّ أسبوعٍ لمدة شهر، ثم يُعرِّفها في الشهر مرة واحدة.

لكن، كل هذا ليس عليه دليل، لا القول الذي ذكره المؤلف، ولا القول الذي ذكرناه أيضًا. ولذلك؛ فالصحيح أن المرجع في التعريف إلى العرف؛ ما عَدَّه الناس تعريفًا فهو تعريف.

في وقتنا الحاضر يمكن كتابة لافتة، ويوضع رقم الجوال: عُثِر مثلًا في هذا المكان على محفظة، فيُرجى من صاحبها الاتصال على هذا الرقم. ويبقى هذا الإعلان لمدة سنة، هذا بحَدِّ ذاته كافٍ في التعريف، أليس كذلك؟ يكفي مع وجود الجوالات الآن ووسائل الاتصالات. والإعلان في الصحف يُعتبر تعريفًا.

فإذن؛ التعريف يختلف بحسب الأزمان وبحسب الأماكن، لكن مع وجود الجوالات في الوقت الحاضر فبالإمكان أن نقول: إن التعريف يكفي فيه وضع لافتة، ويُكتب فيها رقم الجوال لمدة سنة، هذا بحَدِّ ذاته كافٍ في التعريف.

قال:

وتعريفها بأن يُنادي عليها في الأسواق وأبواب المساجد: من ضاعَ منه شيء أو نَفَقَة.

يعني: يُنادي عليها في أماكن اجتماع الناس، في المكان الذي وجدها فيه، وقريبًا من المكان الذي وجدها فيه.

لكن، لاحِظ هنا أن المؤلف قال: (أبواب المساجد)، ولم يقل: في المساجد؛ لأنه لا يجوز نُشْدان الضالة في المسجد، ولا تعريف اللُّقَطة في المسجد، فإن النبي نهى عن ذلك بل أمر بالدعاء على مَن فعل ذلك: من وجدتموه يبيع ويشتري في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك[19]، ومن وجدتموه ينشُد ضالَّة، فقولوا: لا ردَّها الله عليك؛  فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا[20]، وقال  للرجل الذي كان ينشد على الجمل الأحمر: لا ردَّه الله عليك[21]، فأمر النبي بالدعاء عليه، وهذا من باب التعزير.

نظير ذلك: أن النبي لم يُشمِّت الذي لم يحمد الله من باب التعزير، إذا عطس الإنسان ولم يقل: الحمد لله، فيُكرَه تَشْمِيته، كما نص على ذلك النووي وجمعٌ من أهل العلم؛ وذلك لأن خير الهَدْي هَدي النبي ، وقد عطس عنده رجلان -كما في “صحيح مسلم”- فشمَّت أحدهما ولم يُشمِّت الآخر، فقال له الذي لم يُشمِّته: لماذا لم تُشمِّتني يا رسول الله وقد شَمَّتَّ فلانًا؟ قال : إنه حمد الله، وأنت لم تحمد الله[22].

بل جاء ما هو أصرَح من ذلك في “صحيح مسلم” أيضًا: مَن عطس فحمد الله فشمِّتوه، ومن عطس فلم يحمد الله فلا تُشمِّتوه[23].

هذا نهي، وأقل ما يُفيده النهي الكراهة؛ من عطس ولم يحمد الله فيُكرَه تَشْمِيته من باب التعزير له: لماذا لم يحمد الله؟

وهكذا أيضًا مَن نَشَد ضالَّة في المسجد؛ يُدعى عليه: لا ردَّها الله عليك، ومن باع واشترى؛ يقال: لا أربح الله تجارتك.

إذن؛ مراد المؤلف بـ(أبواب المساجد): مِن الخارج، فيكون يقف عند باب المسجد، يقول مثلًا: وجدتُ محفظة أو كذا، أو في السوق.

وفي وقتنا الحاضر قلنا: يكفي وَضْع لافتة يُكتب فيها إنه عثر على كذا، ويُوضع رقم الهاتف الجوال.

لكن عندما -أيضًا- يُكتب لافتة أو تُعرَّف، فيُعرَّف جنسها فقط، لا يُذكر التفاصيل، لا يقول مثلًا: عُثِر على خمسمائة ريال، سيأتي ويدَّعيها من ليست له.

لكن يُقال: عُثر على مبلغ نقدي. ولو أتى الإنسان وادَّعاه يُقال: كم المبلغ -مثلًا-؟

فيُذكر إذن الجنس ولا تُذكر التفاصيل، لا يصفها وصفًا مفصَّلًا؛ لأنه لو وصفها وصفًا مفصَّلًا لربما ادَّعاها مَن ليست له.

قال:

وأجرة المنادي على المُلْتَقِطِ.

لو افترضنا أن النداء أو التعريف له أجرة، كإعلانٍ في الصحف، نفترض أن المبلغ كبير، الذي عثر على اللُّقَطة أعلن عنها في الصحف والإعلان له أجرة، فيقول: الأجرة على الملتقط؛ وذلك لأن التعريف واجب عليه، فكانت أجرته واجبة عليه؛ ولأن الملتقط متطوِّع بِحفظها، فلا يرجع من ذلك بشيء على صاحب اللُّقَطة. هذا هو المذهب عند الحنابلة في هذه المسألة: أن الأجرة على المُلْتَقِطِ.

والقول الثاني في المسألة: إن الأجرة تكون من اللُّقَطَة، يعني: على صاحبها. وهذا هو مذهب المالكية؛ وذلك لأن المُلْتَقِطَ محسن بالْتِقَاطِها، وهو محسن بالتعريف بها، فلا تكون مؤونة التعريف عليه؛ ولأن التعريف إنما هو لمصلحة صاحبها، فهو وسيلة لإيصالها إلى صاحبها.

وأيُّ القولين أرجح؟

الثاني أقرب للأصول والقواعد الشرعية، فالقول الراجح هو قول المالكية، وهو أن أجرة المنادي تكون من اللُّقَطَة، يعني تكون على صاحب اللُّقَطَة، وليست على المُلْتَقِطِ.

وعمومًا -كما ذكرنا- مذهب المالكية هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية هو في الجملة أجود المذاهب الأربعة في أبواب المعاملات، فإن الراجح والله أعلم هو مذهب المالكية في هذه المسألة.

قال:

فإذا عرَّفَها حَولًا ولم تُعرَفْ؛ دخلت في ملكه قهرًا عليه، فيتصرَّفُ فيها بما شاء، بشرط ضمانها.

إذا عرَّفها سنة كاملة، نفترض أنه وضع لافتة، وكتب: عُثِر على كذا، من كانت له فليتصل على هذا الرقم. وبقيت هذه اللافتة سنةً كاملة ولم تُعرَف هذه اللُّقَطَة، فإنها تكون لواجدها ومُلْتَقِطِها.

(ويملكها قهرًا عليه)؛ يعني: كالميراث، يعني: يملكها رغمًا عنه، لو قال: لا، ما أريدها. نقول: لا، هي ملكٌ لك.

فلو أنها لما دخلت في ملكه مات؛ وُرِثت عنه، فتدخل في ملكه قهرًا كالميراث؛ ولذلك قال: (يتصرف فيها كما يشاء) لكن (بشرط ضمانها) لصاحبها؛ يعني: إن أتى صاحبها يومًا من الدهر فيضمنها له؛ لحديث زيد بن خالد السابق[24]، وفيه: فإذا جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه.

حكم التصرف في اللقطة

قال:

فصل:
ويحرُمُ تصرُّفُهُ فيها حتى يَعرِفَ وِعَاءها ووِكَاءَها وعِفَاصَها.

وفسَّر المؤلف الوِكَاء، قال:

وهو ما شُدَّ به الوِعَاء.

الوكاء: هو الخيط الذي تُشَدُّ به.

والعِفَاص، قال:

وهو صفة الشَّدِّ.

ولكن الصحيح: أن العِفَاصَ هو الوعاء من جلد، أو خرقة، أو نحو ذلك.

يعني: الوعاء الذي تكون فيه النَّفَقة، الجلد أو الكيس الذي تكون فيه النفقة. هذا هو الوعاء.

وأما الوِكاء فهو الخيط الذي تُربط به؛ لأن الدنانير أو الدراهم سابقًا توجد في كيسٍ يكون مربوطًا، هذا الكيس يُسمَّى “عِفَاصًا”، والخيط الذي يُربط به يُسمَّى “وِكاء”.

يعرف قدرها وجنسها وصفتها

والمقصود: أنه يَعرف جنسها؛ يعني: يَعرف هذه اللُّقَطَة؛ ولذلك قال المؤلف:

ويَعرف قدْرَها، وجنسها، وصفتها.

يعني: يعرفها معرفة دقيقة، والأفضل أن يكتبها حتى لا ينسى، ويُشهد عليها.

متى وصفها طالبها يومًا من الدهر؛ لزم دفعها إليه

قال:

ومتى وصفها طالبها يومًا من الدهر؛ لزم دفعها إليه.

إذا وصفها طالبها؛ يجب دفعها إليه إذا غَلَب على الظن صِدْقه، إذا ذكر أوصافها وغَلَب على الظن صِدْقه؛ وجب دفعها إليه.

فهل يُطالب بالبيِّنة؟ لا، يُطالب بالبيِّنة؛ لأن النبي لم يأمر بمطالبة البيِّنة، وإنما قال : فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فادفعها إليه، قال: اعْرِف وِكاءَها وعِفَاصها ثم عرِّفها سنة، فإن لم تَعْرف فاستَنْفِقْها، وإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه[25]. فإذن؛ ذِكْرُ صفاتها، فيكفي ذلك.

وبعض أهل العلم يقول: إن ذِكْر صفاتها هو في الحقيقة بيِّنة، هو البيِّنة بالنسبة له، يقول: إذا أتى مدِّعيها ووصفها وصفًا مطابقًا للواقع، فهذا في حقيقة الأمر بيِّنة، وقالوا: إن البيِّنة في عُرْف الشارع: “هي اسمٌ لكُلِّ ما أَبَان الحقَّ”، كما قرَّر ذلك ابن القيم، فيقول: مجرد هذا الوصف الدقيقِ بيِّنةٌ.

ولهذا؛ قال ابن قدامة: جعل النبي بيِّنة مدَّعِي اللُّقَطَة وَصْفَها، فإذا وَصَفها فقد أقام بيِّنَته.

وبكلِّ حالٍ، سواءٌ قلنا: إنه غير مطالب بالبيِّنة، أو قلنا: إن هذه بيِّنة، يعني: لا ثمرة لهذا الخلاف؛ النتيجة أن نقول له: ادفعها لطالبها إذا وَصَفَها وَصْفًا صحيحًا وغلب على الظن صدقه.

قال:

بنمائها المتصل.

لزم دفعها إليه.

بنمائها المتصل، وأما المنفصل بعد حَوْلِ التعريف؛ فلواجِدِها.

لأنها نَمَاء مِلكه.

ولكن هذا محل نظر، والمذهب عند الحنابلة دائمًا يُفرِّقون بين النماء المتصل والمنفصل، والصحيح: أنه لا فرق بينهما في جميع الأبواب، في جميع الأبواب لا فرق بين النماء المتصل والمنفصل.

ولهذا؛ فالصواب: أن النماء المتصل والمنفصل بعد الحَوْل يكون للمُلْتَقِط، وما في أثناء الحَوْل فيكون لصاحبها. هذا هو الصحيح في المسألة.

اللقطة في الحول أمانة في يد الملتقط

قال:

وإن تلفت أو نقصت في حَوْلِ التعريف ولم يُفرِّط؛ لم يضمن.

يَدُ الملتقط ماذا نصفها؟ يَدُ ماذا؟

يَدُ أمانة، المُلْتَقِط أمين، وهو كالمودَع، وكالمضارب، فيَدُه يَدُ أمانة، فإذا تلفت من غير تَعَدٍّ ولا تفريط فإنه لا يضمن؛ لأنها أمانة في يَدِه كالوديعة.

وبعد الحَوْلِ يضمن مطلقًا.

لدخولها في ملكه، فتلفها مِن ماله، بعد الحَوْل أصبحت من ماله، كما قلنا: تدخل ماله قهرًا؛ ولذلك يضمنها بعد الحَوْل، أما في أثناء الحَوْل فهي أمانة، فلا يضمنها.

قال:

وإن أدركها ربُّها بعد الحَوْل مَبيعَةً أو مَوهُوبَةً، لم يكن له إلا البَدَل.

يعني مثلًا: هذه اللُّقَطَة عرَّفها مُلْتَقِطُها سنةً ولم تُعرَف، فقام وباعها، ثم أتى صاحبها وقال له: أنا بعت اللُّقَطَة هذه على فلان. هل نُفسِد هذا البيع ونُبْطِله؟ نقول: لا، التصرف صحيح.

إذن؛ ماذا يكون لصاحبها؟ يكون له البَدَل، يكون له قيمتها؛ وذلك لصحة تصرُّف المُلْتَقِطِ فيها؛ لدخولها في ملكه، ولم يكن لصاحبها إلا البدل، يعني: القيمة.

حكم من وجد في حيوانٍ نقدًا

ومن وجد في حيوان نقدًا، أو دُرَّة، فلُقَطَةٌ لوَاجِده؛ يلزمه تعريفه.

إذا وجد في حيوان نقدًا، أو وجد دُرَّة، أو جوهرة، أو نحو ذلك، فالأصل أنه يرجع على البائع ويسأله؛ لاحتمال أن تكون له، مِن ماله، فإذا قال البائع: إنها ليست من مالي. ولا يدري عنها، فإنها تكون لُقَطَة، وحكمها حكم اللُّقَطَة، ويلزمه التعريف.

حكم مَن استيقظ فوجد في ثوبه مالًا لا يدري من صَرَّه

ومن استيقظ فوجد في ثوبه مالًا لا يدري مَن صَرَّه فهو له.

بلا تعريف؛ وذلك لأن قرينة الحال تقتضي تمليكه، فكونه يُوضع مثلًا في جيبه هذا المبلغ من المال، أو يجد في محفظته هذا المبلغ من المال، هذا دليل على أن صاحب هذا المال أراد أن يَهَبَهُ أو يتصدَّق عليه بهذا المال؛ فلذلك يقول الفقهاء: إنه له، ولا يلزم رده أو تعريفه.

ولا يبرأ مَن أخذ مِن نائم شيئًا، إلا بتسليمه له بعد انتباهه.

مَن أخذ مِن نائم شيئًا لا بد من أن يُسلِّمَه له بعد استيقاظه؛ وذلك لتعدِّيه؛ لأنه إما سارق أو غاصب، فلا بد من أن يُعِيد له ما أخذ بعد استيقاظه.

طيب، نوَدُّ أيضًا أن نأخذ (اللَّقِيط)؛ حتى نقف عند (كتاب الوقف).

باب اللقيط

قال المؤلف رحمه الله:

باب اللَّقِيط.

تعريف اللقيط

اللَّقِيط بمعنى المَلْقُوط، وعرفه المؤلف قال:

هو طفلٌ لا يُعرف نَسَبُه ولا رِقُّهُ.

وعرفه صاحب “المقنع” بأنه: “الطفل المنبوذ”، فهو طفل إذن نُبِذَ ولا يُعرف نَسَبُه ولا رِقُّه.

حكم التقاط اللقيط والإنفاق عليه

قال المؤلف:

والْتِقَاطُه والإنفاق عليه فرضُ كفاية.

هو من فروض الكفاية، فيجب على المسلمين ألا يتركوا اللُّقَطَاء، وإنما أن يتولوا أمرهم، والمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الإمام، وليِّ الأمر، وفي بلدان العالم الإسلامي وُضِعت دور الرعاية الاجتماعية، وهي تقوم بهذه المهمة.

وأذكر أنني كنت في دورة شرعية، وذهبنا لإحدى الدول، كانت دولة غير إسلامية، وفي تلك المدينة الْتَفَّ علينا عدد كثير من الأطفال، وهؤلاء الأطفال، قالوا: كلهم أولاد زنا، كلهم من اللُّقَطَاء، والدولة فقيرة عاجزة عن إيوائهم، فيقولون: في تلك المدينة عشرون ألفًا يبيتون في الشارع. ورأيتهم يبيتون في الشارع، ويَقْتَاتون من القمامة، ومما يشحذون من الناس، ورأيتهم قد الْتَفَّ بي عددٌ كبيرٌ منهم، ذكورًا وإناثًا.

ويقولون: إن المَزْنيَّ بها تضعه، فإذا بلغ ثلاث سنين أو أربعًا تركته في الشارع، ويعيش بهذه الطريقة، إن كان ذكرًا بعدما يكبر يلتحق بعصابات السرقة، وإن كانت أنثى تلتحق ببيوت الدعارة، فأصبح الواحد منهم يرتكب جناية حتى يُحبس؛ لأنه إذا حُبِس وجد حياة كريمة، على الأقل يجد طعامًا وشرابًا ومأوى، فأصبحوا يعرفون ذلك.

فأصبحت الآن الشرطة في ذلك البلد، إذا ارتكب منهم أيُّ واحد أدنى جناية قتلوه بالرصاص، ولذلك في ذلك اليوم أكثر من واحد كان مرميًّا بالرصاص، ويُرمى في الزبالة، فانظر إلى حالهم! أنا رأيتها بنفسي! فانظر إلى الحال كيف بلغت بهم!

فقلت: سبحان الله! انظر كيف كرَّم الله تعالى المسلمين! الْتِقَاط اللَّقِيط فرضُ كفاية، يجب أولًا على الإمام، وعلى وليِّ الأمر، فإن عَجَزَا فيجب على المسلمين. لكن، يُتركون هكذا! يُتركون هكذا! مثل الحيوانات أو أقل من الحيوانات!

مداخلة: لو كان كافرًا؟

الشيخ: الكافر سيأتي الكلام عنه.

على كلِّ حالٍ، إذن الالْتِقاط هنا فرض كفاية، الالْتِقاط قلنا: فرض كفاية، والإنفاق عليه.

يحكم بإسلام اللقيط وحريته

طيب، هل يُحكم بإسلامه أو لا يحكم؟ إذا وُجِد في دار إسلام فيُحكم بإسلامه؛ ولهذا قال المؤلف:

يُحكَم بإسلامه.

هذا إذا وُجِد بدار إسلام، ولاحِظ أنه يترتب على هذا مسألة: وهي إذا مات قبل بلوغه، فإذا حكمنا بإسلامه، فمعنى ذلك: أنه يُغَسَّل ويُكَفَّن ويُصلَّى عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين. وإذا لم يُحكم بإسلامه فإنه لا يُغَسَّل ولا يُكفَّن ولا يُدفن في مقابر مسلمين.

فإذا وُجد في دار إسلامٍ فيحكم بإسلامه، أما إذا وُجِد في دار كفر لا مسلمَ فيه فيُحكم بكفره، وأما إذا كان في دار كُفْرٍ فيها مسلمون، وهذا هو الغالب الآن في وقتنا الحاضر، فقولان لأهل العلم، والأقرب والله أعلم: أنه يُحكم بإسلامه؛ لاحتمال أن يكون لمسلمٍ، وتغليبًا للإسلام؛ لأنه دين الفطرة.

وقال:

وحُرِّيتِه.

يحكم بحريته؛ لأن الحرية هي الأصل، والرِّقَّ عارض.

النفقة على اللقيط

ويُنفَق عليه مما معه إن كان.

إن كان معه مال، فيُنفق عليه من ماله.

فإن لم يكن.

وهو الغالب.

فمِن بيت المال.

من بيت مال المسلمين، وكما ذكرنا دور الرعاية الاجتماعية تُمثِّل بيت المال في هذا.

فإن تعذَّر، اقترض عليه الحاكم.

يعني: اقترض الحاكم على بيت المال.

فإن تعذَّر.

يعني تعذَّر بيت المال، وتعذَّر الاقتراض على بيت المال.

فعلى مَن علم بحاله.

أي: من المسلمين.

الأحق بحضانة اللقيط

والأحقُّ بحضانته واجدُه.

هو الأولى بحضانته.

إن كان حُرًّا، مُكلَّفًا، رشيدًا، أمينًا، عدلًا، ولو ظاهرًا.

يُكتفى بالعدالة الظاهرة، لكن لا بد أن يكون حُرًّا، ولا بد أن يكون مكلَّفًا، ولا بد أن يكون رشيدًا، وأمينًا؛ وذلك لأن عمر أقَرَّ اللقيطَ في يَدِ أبي جميلة، فإن أبا جميلة أتى بِلَقِيطٍ، فعمر لم يعرفه، فأتى بمُعرِّف له وزكَّاه، وقال: إنه رجل صالح. فقال عمر : خذه فلك حضانته، وعلينا نفقته. فأقرَّه عمر في يَدِه.

ميراث اللقيط وديته

قال:

فصل
وميراثُ اللَّقِيط ودِيتُه إن قُتل لبيت المال.

يعني: إن لم يُخلِّف وارثًا، وإلا قد يُخلِّف وارثًا، قد يتزوج هذا اللَّقِيط ويكون له أولاد، فيكونون هم ورثته، لكن إن لم يُخلِّف وارثًا، فيكون ميراثه لبيت المال، وهكذا دِيَته إن قُتِل كغير اللَّقِيط.

فإن كان له زوجة، فكيف تكون قسمة ميراثه؟ الزوجة لها الربع، والباقي لبيت المال. هل يُرَدُّ على الزوجة؟ لا يُرَدُّ، لا يُرَدُّ على الزوجين، الصحيح: لا يُرَدُّ على الزوجين، محل إجماع، لا أعرف أن أحدًا خالف في الرَّدِّ على الزوجين، إلا بعض المتأخرين كالشيخ عبدالرحمن ابن سعدي رحمه الله، ذكر أنه يُرَدُّ على الزوجين، لكن لا أعلم سلفًا قال بهذا القول.

ولهذا؛ فالمسألة محل إجماع: لا يُرَدُّ على الزوجين.

طيب، قال: 

وإن ادَّعاهُ مَن يمكن كونُه منه مِن ذكرٍ أو أنثى؛ أُلحِقَ به.

لأن الشريعة لها تشوُّفٌ لحفظ الأنساب؛ فيُلحق به.

قال:

ولو مَيِّتًا.

يعني: ولو كان اللَّقِيط ميتًا.

وثبت نسبه وإرثه.

لمن ادَّعاه، لكن اشترط بعض العلماء شرطًا: ألا يكون هناك تهمة.

فمثلًا؛ لو أن هذا اللَّقيط عمل بالتجارة وأصبح غنيًّا ثم مات، فأتى إنسان وقال: هذا اللَّقِيط ابني. يُريد أن يرثه، فهل نقبل دعواه؟ لا، هنا نقول: لا بد من بيِّنة، التُّهمة قائمة، أما لو لم يكن ثَمَّ تُهمة فيُلحَق به.

حكم استلحاق ولد الزنا

وعلى ذلك؛ مسألة اسْتِلْحاق أولاد الزنا، وهي مسألة قد عُرضت على المجمع الفقهي الإسلامي، وكتبتُ فيها بحثًا، وهو موجود في موقع الفقه الإسلامي، بحوث المجمع كلها موجودة، وخلصتُ إلى التفصيل:

  • فإذا كان هناك فراش فأجمع العلماء على أن ولد المَزْنيِّ بها لا يُلحَق بالزاني، وإنما يُلحَق بصاحب الفراش بالإجماع.
  • أما إذا لم تكن المَزْنيُّ بها فراشًا لزوج ولا سيد: فالجمهور يرون أن ولد الزنا لا يُلحَق بالزاني، والقول الثاني في المسألة هو قول عدد من التابعين واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أن ولد الزنا يُلحَق بالزاني إذا استلحقه؛ وذلك لأنه لا دليل يدل على عدم الاستلحاق.

وأما حديث: الولد للفراش[26]، فهذا كما قال ابن القيم: نحن أول القائلين به، لكن إذا كان ثَمَّة فراش. بل إن ابن القيم استدل باستدلال لطيف في قصة جُرَيج، لما أتى جُرَيج وطَعَن في بطن الغلام، وقال: يا فلان، مَن أبوك؟ قال: فلان الراعي. قال: فأنطقه الله تعالى[27]. وهذا إنطاقٌ من الله لا يجوز فيه الكذب، فقال: أبوه فلان الراعي الزاني. قال: إنطاق الله لا يجوز فيه الكذب.

وأيضًا عمر كان يُلحِق أولاد الجاهلية بآبائهم، وذكرتُ ثمانية أو تسعة أدلة لهذا، ورجَّحت هذا القول، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو أن ولد المزني بها يُلحَق بالزاني إذا استلحقه.

وابن القيم يقول: ويا للعجب! كيف يُلحَق بأُمِّه ولا يُلحَق بأبيه، وهو قد خُلِق من مائهما جميعًا؟! فإن قيل: كيف يُلحَق بالزاني؟ فيُقال أيضًا: كيف يُلحَق بأمِّه وهي زانية، فيُلحَق بأُمِّه بالإجماع، فلماذا لا يُلحَق بأبيه؟!

ورجحتُ هذا القول، لكن المجمع لم يخلُص في ذلك بشيء، هناك من فقهاء المجمع مَن أخذ برأي الجمهور؛ ولذلك رُؤي تأجيل اتخاذ القرار في هذه المسألة. لكن البحث، وبحوث المجمع موجودة في موقع الفقه الإسلامي.

إن ادعاه اثنان فأكثر معًا

قال:

وإن ادَّعاه اثنان فأكثر معًا قُدِّم مَن له بيِّنة.

وهذا ظاهر، إذا ادَّعاه أكثر من شخص يُقدَّم مَن له بيِّنة.

فإن لم تكن عُرِض على القَافَة.

“القَافَة” أناس يعرفون الأنساب بالشَّبَه.

فإن ألْحَقَته بواحدٍ لَحِقَه، وإن ألْحَقَته بالجميع لَحِقهم.

يعني: إذا ألْحَقَته القَافَة باثنين، فعلى كلام المؤلف يُلحَق بهما جميعًا، فيقال: فلان بن فلان آل فلان، وابن فلان آل فلان.

بل جاء في رواية مُهَنَّأ عن الإمام أحمد: أن القافة لو ألْحَقَته بثلاثة أُلْحِق بهم، يُقال: فلان بن فلان آل فلان، وابن فلان آل فلان، وابن فلان آل فلان.

وهذا قول الجمهور؛ لما رُوي عن عمر في امرأةٍ وطِئها رجلان في طُهْرٍ، فقال القائف: اشتركَا فيه جميعًا، فجعله عمر بينهما. وهذا الأثر أخرجه البيهقي، قال ابن القيم: بإسناد في غاية الصحة، ورُوي عن عليٍّ   نحوه.

والقول الثاني في المسألة: إنه لا يمكن أن يُلحَق إنسان بأكثر من أب، هذا لا يمكن، وهذا مستحيل؛ فإن إلحاق طفل بأكثر من أب لا يمكن ولا يتحقَّق أصلًا.

وهذا ما يُؤيِّده الطب الحديث؛ وذلك لأنَّ خَلْق الإنسان ينعقد بتلقيح الحيوان المنوي للبويضة، وهو حيوان منوي واحد، يكون من أكثر من عشرين مليون حيوان منوي.

إذا كان الإنسان عدد الحيوانات المنوية عنده أقل من عشرين مليونًا، يكون غير قادر على الإنجاب. فهو حيوان منوي واحد من أكثر من عشرين مليونًا يُلقِّح البويضة، فينعقد الولد.

وهم يقولون -أي الشافعية-: إنه لا يمكن أن يُلحَق بأكثر من أب.

وهذا هو الأقرب، قول الشافعية أقرب من قول الجمهور: أنه لا يمكن أن يُلحَق بأكثر من أب، وقول عمر اجتهاد منه، أو قضاء عمر .

في وقتنا الحاضر، قد لا نحتاج لهذه المسألة، ويمكن أن نستفيد من الطب الحديث، ما يُسمَّى بـ”الحمض النووي” أو “البصمة الوراثية”، فهذه تُحدِّد بدرجة قريبة من القطع من يُلْحَق به.

ولذلك؛ إذا تنازع أكثر من شخص، يُحلِّلون كلهم الحمض النووي، والحمض النووي سوف يُلحِقه بواحد منهم قطعًا. فهذه المسألة ذكرها الفقهاء السابقون.

أما في الوقت الحاضر فلا نحتاج لها، وإنما نستعين بالطب الحديث في تحديد من هو الأب لهذا الطفل.

قال:

وإن أشكَلَ أمرُه ضاع نَسَبُه.

يعني: إن أشكَلَ أمره على القافة، لم يعرفوه، فإنه يضيع نَسَبُه؛ لأنه عند التنازع لا يُلحَق بأحد، إنما يُلحَق بمن ادَّعاه إذا لم يُنازعه منازع.

ويكفي قائِفٌ واحِدٌ.

أي: في إلحاق النَّسَب.

وهو كالحاكم.

أي: كالقاضي.

 فيكفي مجرَّدُ خبره.

لأنه ينفذ.

قوله (كالحاكم)، بخلاف الشاهد، فلا يكفي مجرد خبره.

قال:

بشرط أن يكون القائِفُ مكلَّفًا، ذكرًا، عَدْلًا.

فهو كما قلنا: القيافة كالقضاء، فلا بد أن يكون مكلَّفًا، يعني: عاقلًا بالغًا، وأن يكون ذكرًا، وأن يكون عَدْلًا أيضًا، وأن يكون حرًّا.

ومُجرَّبًا بالإصابة.

يعني: مشهورًا ومعروفًا بالإصابة.

وفي الوقت الحاضر -كما قلت- قد لا نحتاج لهذا الأمر، بسبب وجود التقنية الحديثة في الطب الحديث، عن طريق ما يُسمَّى بـ”الحمض النووي”، فقد لا نحتاج لهذه الأمور التي ذكرها الفقهاء.

بهذا نكون قد انتهينا من أبرز أحكام ومسائل (اللَّقيط).

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند (كتاب الوقف)، كما ذكرنا يتوقف الدرس إن شاء الله تعالى، ويُستأنف في الحادي عشر من شهر ربيع الأول، إن شاء الله تعالى نفتتح به (كتاب الوقف).

الأسئلة

طيب، نأخذ ما تيسر من الأسئلة.

السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا يسأل عن لُقَطَةِ الحرم؟

الشيخ: لُقَطَةِ الحرم لم يذكرها المؤلف، لكن نشكر الأخ السائل؛ لأنها تختص بحُكمٍ تختلف عن لُقَطَة غير الحرم.

لُقَطَة الحرم قال فيها النبي : ولا تَحِلُّ ساقِطَتُها إلَّا لِمُنْشِدٍ[28]؛ ولذلك لا يجوز الْتِقَاط لُقَطَة الحرم إلا لِمُنْشِدٍ أبَدَ الدهر، أو يُسلِّمها للأمانات -مثلًا- التي عند الحرم.

ويكفي في هذا والأفضل أن يتركها، لا يلتقطها، ولو أنَّ مَن يأتي الحرم حصل عندهم توعية بهذا لكان من ضاع له شيء في الحرم يتركه الناس حتى يجده صاحبه؛ لأن هذا البلد بلدٌ آمنٌ، يأمَنُ فيه الإنسان، ويأمَنُ فيه حتى الحيوان والنبات والطير.

فينبغي أنَّ مَن ضاع منه شيء يجده، ولا أحد يتعرَّض له، ولا يأخذه، لكن إذا خشيت عليه الضياع فيمكن أن تأخذه وتُسلِّمه للأمانات، والأبرأُ للذِّمة والأسلَم أن تترك اللُّقَطة في الحرم ولا تأخذها إطلاقًا.

مداخلة:

الشيخ: نعم، قيمتها وقت أكلها، وقت أكلها يُقيِّمها قبلُ، ويكتب قيمتها كذا وكذا، ويُغرَّم هذه القيمة لصاحبها متى ما جاء يومًا من الدهر.

مداخلة:

الشيخ: أولًا: هذا يحتاج إلى تأكُّد من صحة السَّنَد، لا بد  لطالب العلم أن يتأكد، ليس كُلُّ أثرٍ أو حديث يُقبل حتى يتأكد من صحة السَّنَد.

ثانيًا: حتى لو صحت، فيُحتمل أن يكون مما لا تلتفت له هِمَّة أوساط الناس.

ثالثًا: حتى لو كان مما تلتفت له هِمَّة أوساط الناس، يبقى اجتهادًا من عائشة رضي الله عنها، وأما ما تدل عليه النصوص الصحيحة فذكرناه.

السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هناك أثر يقول: “كاد القرآن أن يكون كُلُّه للنساء”، فهل هذا الأثر صحيح؟

الشيخ: لا أعلم لهذا الأثر أصلًا، وفي مَتْنِه نَكَارة أيضًا.

السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا فسخ الجاعِل قبل تمام العمل، وكان العمل رَدَّ ضالَّة، فكيف يتم حساب الجُعْل ونحن لا نعلم؟

الشيخ: نعم، هنا إذا قال: مَن رَدَّ ضالَّتي فله كذا، ثم ذهب هذا يبحث عن الضالَّة، وفي أثناء ذلك فسخ الجاعِل الجُعْل، فهنا لا يستحق شيئًا، وليس هذا من الأشياء التي يمكن أن تُقدَّر بالأجزاء، فهو  لم يعمل شيئًا مفيدًا بالنسبة للجاعِل.

إنما كلام الفقهاء أنه يأخذ حصته من أجرة المِثْل، أو حصته من المُسَمَّى إذا قام العامل بعمل شيء مفيد بالنسبة للجاعِل، أما إذا لم يقم بأيِّ عمل فإنه لا يستحق شيئًا.

السؤال: أحسن الله إليكم. ذكرتم أن من لم يحمد الله على العطاس فلا يُشَمَّت تعزيرًا، السؤال: أليس الأولى تذكيره؟

الشيخ: النبي قال: فإذا لم يحمد الله فلا تُشَمِّتوه[29]، هذا نهي، وهذا في “صحيح مسلم”، وأقل ما يُفيده النهي الكراهة.

واختلف العلماء: هل الأفضل أن يُذَكَّر أو لا؟ فقال بعض أهل العلم: إن الأفضل أن يُذَكَّر؛ لأن المسلم أخو المسلم، ومن النُّصح له أن يُذَكَّر.

وقال آخرون: إن الأفضل ألا يُذَكَّر؛ لأن أكمَل الهَدْي هَدْي النبي ، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يُذكِّره.

والأظهر في هذا أن يقال: إذا كان مثله جاهلًا أو ناسيًا، فالأفضل أن يُذكَّر، أما إذا كان متساهلًا فلا يُذكَّر؛ لأن الذي عند النبي كان عالمًا؛ لأن هذا عطس عند رجل فحمد الله فشَمَّتَه، وعطس ولم يحمد الله فلم يكن جاهلًا ولم يكن ناسيًا وإنما كان متساهلًا؛ ولذلك لم يُشَمِّتُه النبي .

فالقول بالتفصيل لعلَّه هو الأقرب.

السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هل اللَّدِيغ الذي في الحديث كان كافرًا؟ وهل الرُّقية تنفع الكافر؟

الشيخ: نعم، اللَّدِيغ كان كافرًا؛ واستدل به العلماء على أنه يجوز رُقية الكافر وتنفعه، تنفع الكافرَ الرقيةُ، كما تنفع المسلم تنفع الكافر؛ لأن هذا القرآن شفاءٌ.

السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: إذا استثمر المُلْتَقِط اللُّقَطة بعد الحَوْل، ثم جاء صاحبها وطلب؟

الشيخ: سبق أن قرَّرنا أن النماء المتصل والمنفصل بعد تمام الحَوْل إنما هو للمُلْتَقِط، فهذا الاستثمار وهذه الأرباح تكون للملتقط؛ لأنها دخلت ملكه قهرًا، فليس لصاحبها إلا اللُّقَطة فقط، وأما الاستثمار والنتاج والنماء، فإنه يكون للمُلْتَقِط.

السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: مَن فَقَد نعله في المسجد ووجد شبهها؟

الشيخ: أما إذا وجد شبهها، يعني أتى للمسجد وصلَّى فيه، ثم خرج ولم يجد نَعْلَيه ووجد ما يُشبهها، فإن كان ما يُشبهها أغلى ثمنًا مِن نِعاله، أغلى قيمة من نِعاله وأحسن؛ فليس له أن يأخذها، أما إذا كانت أقل من نِعاله وهي تشبهها؛ فلا بأس أن يأخذها.

هذا القول بالتفصيل هو الأقرب في هذه المسألة، أنها إذا كانت أقل من نِعاله وتشبهها فأولًا يبحث عن صاحبها، فإن لم يهتدِ له فإذا كانت أقل يأخذها، أما إذا كانت أكثر فليس له أن يأخذها.

السؤال: أحسن الله إليكم. يسأل عن استعمال كهرباء العمل في شحن الجوال؟

الشيخ: أما الأشياء اليسيرة، وكان العمل حكوميًّا، بحيث يكون لبيت مال المسلمين، والكهرباء من ضمن مصالح المسلمين، وكان الشيء يسيرًا لا يُجْحِف ببيت المال، فلا بأس به كما قرَّرنا في شحن الهاتف الجوال من كهرباء المسجد.

لكن الأشياء التي تكون مؤثرة، بحيث تلتفت لتكلفتها هِمَّة أوساط الناس، هذه ليس له ذلك. أما الأشياء اليسيرة فكما ذكرنا: قاعدة الشارع هي التسامح في ذلك، إذا كانت على سبيل اللُّقَطَة، أو كانت على سبيل ما كان من بيت المال، وكان هو أحد المنتفعين بتلك المصلحة، فهذا إذا نظرنا إلى قاعدة الشريعة نجد التسامح في مثل هذا.

السؤال: أجهزة الحاسوب -عفا الله عنك- في بعض الحلقات؟

الشيخ: شحنها يعني؟

مداخلة: إي نعم.

الشيخ: شحنها كذلك، يعني تُكلِّف تكلفة يسيرة، يسيرة جدًّا، ما تكلف ريالًا أو أقل من ريال حتى، في المساجد لا بأس بها، أما القطاع الخاص فلا، لا بد من استئذان صاحبه، القطاع الخاص ليس له ذلك.

الفرق بينهما: أن بيت المال هو يُنفق في مصالح المسلمين، وأنت واحد من المسلمين، وهذه كهرباء للمسجد، وهو شيء يسير. أما القطاع الخاص فلا، على القاعدة التي قرَّرنا: أنه حتى الشيء اليسير إذا كان صاحبه معروفًا فلا يجوز استخدامه إلا بإذن صاحبه.

السؤال: السؤال الأخير، أحسن الله إليكم. يقول: ما هي آخر التوصيات والقرارات في المجمع الفقهي الماضي؟ وبارك الله فيكم.

الشيخ: نحن أرسلنا رسالة عن طريق “جوال فوائد” بأهم القرارات.

كان الأول عن التحاكم إلى غير الشريعة في العقود التجارية، هذا تحتاج إليه المصارف الإسلامية كثيرًا، كثير من التعاملات الخارجية يشترطون التحاكم إلى قانون وضعي، خاصة القانون البريطاني، أكثر التحاكمات تكون إليه، فالمجمع منع ذلك إلا عند الضرورة.

وكان الثاني حول الأحكام المتعلِّقة بفصل التوائم السِّيامية، كل ما يتعلق بالتوائم السِّيامية، كان القرار ذكر أبرز أحكامه.

والثالث عن التغرير والتلاعب في الأسواق المالية، فأكد على التحريم، وذكر أيضًا حُلولًا، ومن ضمن ذلك: سَنُّ أنظمة تَبطل فيها الصفقات التي ثبت فيها التلاعب والتغرير، وتُعاد الأسهم لمَحافظ أصحابها.

هذا لو طُبِّق -الحقيقة- لكان في ذلك ردعٌ لأولئك المتلاعبين، وفيه تحقيق العدالة؛ لأن هؤلاء غُرِّر بهم، هؤلاء الذين دخلوا السوق غُرِّر بهم، مثلًا: إذا كان التغرير في خمس شركات، وثبت التلاعب أو التغرير؛ تبطل هذه الصفقات كلها، يبطل البيع، وتُعاد الأسهم لأصحابها، وأولئك يُعزَّرون أيضًا، هؤلاء المتلاعبون.

وكان هناك أيضًا قرار عن السيولة المالية وأُرجِئ، وكذلك عن أحكام الأولاد الناتجين عن الزنا كذلك كما ذكرت لكم وأُرجِئ، وكذلك أيضًا عن وقت الزوال وما يتعلَّق به، وهذا أيضًا أُرجِئ.

نصف القرارات أُرْجِئت، وكان هناك بيان عن تحريم تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة ، وأيضًا التأكيد على أحكام الشريعة فيما يتعلق بالمرأة، وأنه لا يجوز مساواة المرأة بالرجل في الميراث، ونحو ذلك.

وعمومًا، هي ستكون قرارات موجودة على موقع المجمع، على موقع رابطة العالم الإسلامي.

مداخلة:

الشيخ: لا، ممكن، ممكن: من يبني هذا الجدار في هذا المكان أو في كذا فلَهُ كذا. الجَعَالة بابها واسع.

السؤال: أحسن الله إليك. إذا فسخ العامل عملًا لا يستطيع غيره أن يتمه، فهل يلزم بالإتمام؟

الشيخ: لا، ما يُلزَم بالإتمام، إذا كان على سبيل الجَعَالة فلا يلزم؛ لأنها عقد.

مداخلة:

الشيخ: حتى ولو كان، إذن يتعاقد معه على سبيل الأجرة، يعني الجاعِل له مخرج، يُقال: تعاقد معه على سبيل الأجرة، فتكون الأجرة ملزِمة، أما الجَعَالة فليس فيها إلزام.

السؤال: النهي عن نَشْد الضالَّة في المسجد، هل المقصود النَّشْد العام، أو يدخل في ذلك النَّشْد الخاص؟ مثلًا لو نَشَد شخص…

الشيخ: يشمل الجميع؛ لأن العلة، ما هي العلة؟ فإن المساجد إنما بُنِيَت لما بُنِيَت له[30]؛ يعني: المساجد دُور عبادة ينبغي أن تُنَزَّه عن نُشْدَان الضالَّة، عن البيع والشراء، عن التجارة، عن الدعاية، هذا يشمل ما لو كان عامًّا أو كان خاصًّا.

مداخلة: لكن عفا الله عنك. لو نسي مثلًا جوَّاله في المسجد، كيف يستطيع أن يبحث عنه؟

الشيخ: هو يبحث عنه، لكن مِن غير أن يسأل، مِن غير أن يسأل الناس، يعني: من غير أن يقول: مَن وجد جوالي أو كذا. هو يبحث عنه، وربما في هذه المسألة إذا لم يكن له وسيلة إلا أن يسأل مَن في المسجد، فربما يُقال بالجواز في مثل هذا، إذا لم يكن له وسيلة إلا ذلك.

مداخلة:

الشيخ: داخل المسجد؟

مداخلة:

الشيخ: إذا كان مجرد الحفظ ما يضر.

مداخلة:

الشيخ: إذا كان مجرد الحفظ ما يضر، لكن لا تُحوَّل إلى نُشْدَان الضالة.

مداخلة:

الشيخ: نعم؛ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، يحرص الإنسان على ألا يَنْشُد ولا يسأل داخل المسجد قدر المستطاع.

مداخلة:

الشيخ: يقولون: إنه يضمن؛ لأنه لمَّا أخذها أصبحت يَدُه يَدَ غاصب، إذا كان بإذن الإمام يقولون: لا بأس، يعني: تعود، يرتفع عنها الضمان، لكن إذا كان بغير إذن الإمام فحينئذ هو يَدُه يَدُ غاصب؛ فيكون عليه الضمان.

مداخلة:

الشيخ: حتى لو ردَّها؛ لأنه لما أخذها أصبحت يدُه يَدَ غاصب، ما يرتفع هذا الوصف، ما يرتفع عنه، فهو يضمن بكُلِّ حالٍ، يُفترض أنه ما أخذها أصلًا.

مداخلة:

الشيخ: إي نعم، المطالبة بأجرةِ الإعلان فقط.

مداخلة:

الشيخ: يعني صاحب الجُعْل هو الذي وضع هذا؟

لا بأس إذا كان صاحبه هو الذي وضعه، الذي سيُعلِن عنه هو صاحبه الذي فُقِد منه، فهو الآن سيجعل جزءًا منه جائزةً لمن وجده؛ فلمن وجده.

وكذلك الوسيلة الإعلانية، هنا قلنا: الصحيح أنها -أيضًا- على صاحب اللُّقَطَة نفسها، وليست على المُعلِن، فالذي يظهر أنه لو جُعل من اللُّقطة نفسها فلا بأس، ولو أعطيت أيضًا تلك الجهة لا بأس.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2276.
^2 رواه البخاري: 2276، ومسلم: 2201.
^3 رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”: 21938، والبيهقي في “الكبرى”: 12123.
^4 رواه البخاري: 2427، ومسلم: 1722.
^5 رواه البخاري: 2372، ومسلم: 1722.
^6 رواه البخاري: 2428، ومسلم: 1722.
^7 رواه أبو داود: 1717.
^8 رواه البيهقي: 12475.
^9 رواه البخاري: 2431، ومسلم: 1071.
^10 رواه البخاري: 7445، ومسلم: 139.
^11 رواه مسلم: 137.
^12 رواه البخاري: 2097، ومسلم 715.
^13 رواه أبو داود 3524.
^14, ^24, ^25, ^29 سبق تخريجه.
^15 رواه مسلم: 1722.
^16 رواه مسلم: 1725.
^17 رواه أبو داود: 1718.
^18 رواه البيهقي في “الكبرى”: 12077.
^19 رواه الترمذي: 1321.
^20 رواه مسلم: 568.
^21 رواه مسلم: 569.
^22 رواه البخاري: 6225، ومسلم: 2991.
^23 رواه مسلم: 2992.
^26 رواه البخاري: 6818، ومسلم: 1458.
^27 رواه البخاري: 2482، ومسلم: 2550.
^28 رواه البخاري: 2434، ومسلم: 1355.
^30 رواه مسلم: 569.
zh