عناصر المادة
ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى:
باب الوديعة
الوديعة: معناها في اللغة: فَعِيلة، مِن “وَدَعَ الشيء” إذا تركه، ومنه قول الله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]؛ يعني: ما تركك، وَمَا قَلَى؛ يعني: وما أبغضك.
سُمِّيت بذلك؛ لأنها متروكة عند المُودَع، فمادة الواو والدال والعين تدل على الترك.
تعريفها شرعًا: “اسمٌ للمال المُودَع عند مَن يحفظه بلا عِوَض”.
والإيداع: هو توكيلٌ في الحِفظ تبرُّعًا، والاسْتِيدَاع توكُّلٌ فيه.
حكم قبول الوديعة
وقبولُ الوديعة مستحبٌّ لمَن عَلِمَ مِن نفسه أنه قادرٌ على حِفظها؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى، والنبي يقول: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه[1].
وكان النبي تُوضع عنده الودائع في مكة قبل الهجرة؛ وذلك لأمانته العظيمة، كان يُسمَّى بـ”الصادق الأمين”، وجاء في “سنن البيهقي” بسندٍ جيد: أن النبي لما أراد الهجرة إلى المدينة أقام عليُّ بن أبي طالب ثلاث ليالٍ حتى أدَّى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس، ثم لحق عليٌّ بالنبي [2].
أما مَن لم يَعلم من نفسه القدرة على حِفظها فيُكرَه له قبولها؛ لأنه يُعرِّض نفسه للإثم، كُلُّ إنسان أدرى بنفسه، إذا كان يعرف الإنسان مِن نفسه مثلًا أنه غير مُرتَّب، غير منظَّم، قد تضيع هذه الوديعة، وقد تُسرق، فهنا يُكره له أن يقبلها؛ فيعتذر. أما إذا علم مِن نفسه القدرة على الحفظ؛ فيُستحب له قبولها.
وقد كان هذا في الزمن السابق، كان الناس يحتاجون إلى هذا أكثر منه في وقتنا الحاضر، في وقتنا الحاضر مع وجود المصارف ونحوها ربما قلَّت حاجة الناس إلى الوديعة، لكن في الزمن السابق لا توجد مصارف، فكان الناس يحتاجون إلى الوديعة كثيرًا.
شروط صحة الوديعة
نعود لعبارة المؤلف، قال المؤلف رحمه الله:
يعني: المُودِع والمُودَع يُشترط فيهما أن يكونا جائِزَيِ التصرف، وهذا المصطلح “جائز التصرف” مرَّ معنا كثيرًا، فما المقصود به؟
مداخلة: ..
الشيخ: نعم، الحُرُّ المكلَّف الرشيد، إذا قيل: جائز التصرف؛ فالمقصود به: الحُرُّ المكلَّف الرشيد.
فإذن؛ يُشترط أن يكون كُلٌّ منهما حُرًّا مُكلَّفًا رشيدًا؛ لأنها نوعٌ من الوكالة، ويتفرَّع عن ذلك المسألة التي أشار لها المؤلف، قال:
لأنه مفرِّط؛ لتفريطه بذلك، فلو أتى بعشرة آلاف ريال، وأودعها عند صبيٍّ عمره سبع سنوات، ثم تلفت الوديعة؛ فهنا لا يضمن هذا الصبي؛ لأن هذا المُودِع مُفرِّط، أو أودعها مجنونًا أو أودعها سَفيهًا؛ فهنا لا ضمان.
قال:
يعني العكس، لو أن المُودِع هو الصغير أو المجنون أو السفيه.
يعني: صار المُودَع ضامنًا؛ وذلك لتعدِّيه بأخذ هذه الوديعة، فيضمنها بكُلِّ حالٍ، حتى ولو كان التلف بغير تَعَدٍّ منه ولا تفريط.
لوليِّ هذا الصغير أو السفيه أو المجنون؛ كدَيْنِه الذي عليه، مثل الدَّين، كما لو كان هذا الصبيُّ يطلبه دينًا، فإنه عندما يردُّ هذا الدين لا يُسلِّمه للصبيِّ، وإنما يُسلِّمه لوليِّه، وهكذا بالنسبة للمجنون وبالنسبة للسَّفيه.
فإذن؛ إذا أودَع الصبي أو أودَع المجنون أو أودَع السَّفيه وديعةً، فهنا المُودَع ضامن لها بكلِّ حالٍ، ولا يبرأُ إلا بردِّها، ليس إليه، وإنما إلى وليِّه.
حفظ الوديعة وضمانها
قال:
وهذا هو المقصود من الوديعة، أن يحفظها المُودَع، وأن يحفظها في حِرْزِ مثلها.
والحِرْزُ يختلف باختلاف المال، فحِرْزُ الغنم مثلًا ليس كحِرْزِ الذهب وليس كحِرْزِ الأواني، حِرْزُ كل شيء بحَسَبه؛ ولهذا قال: (في حِرْزِ مثلها) عرفًا؛ لأن الله تعالى أمر بأدائها في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ولا يمكن أداؤها بدون حِفظها.
ولأن المقصود من الإيداع الحفظ، فيلزَم المودَعَ أن يحفظ الوديعة في حِرْزِ مثلها، إما بنفسه:
يعني: الذي يحفظ ماله عادةً.
قال:
يعني: (دفعها) المودَع، دفع الوديعة لعذر، (لعذر) كمن حضره الموت، أو أراد سفرًا، فدفع الوديعة:
ويُشترط في هذا الأجنبي أن يكون ثقة.
يعني: لم يضمن المودَع.
مثال ذلك: هذا رجل عنده وديعة، أراد أن يُسافر وخشي عليها، فذهب وأودعها عند إنسان، عند جار له، وهذا الجار ثقة؛ فهنا لا يضمن لو تلفت؛ وذلك لأنه لم يتَعَدَّ ولم يُفرِّط؛ فلا يضمن.
قال:
قال: لا تُخرجها من الحِرْزِ، احفَظْها عندك في هذا الحِرْز.
يعني: طُرُوء.
لو طرأ شيءٌ الغالب منه الهلاك، مثل ماذا؟ كحريق، أو نَهْبٍ مثلًا، ونحو ذلك، فأخرجها لأجل هذا؛ فإنه لا يضمن؛ لأنه مُحسِن، ويتعيَّن نقلها في هذه الحال؛ ولأن تركها تضييعٌ لها، فهو لا يضمن في هذه الحالة.
يعني: مع طُرُوء ما الغالب معه الهلاك كحريق مثلًا؛ فإنه يضمن، لو كان هناك حريقٌ وترك هذه الوديعة ولم يخرجها؛ فإنه يضمن.
يعني: لغير خوف من حريق أو نَهْبٍ أو نحوه، فتَلِفَت؛ فإنه يضمن.
يعني: قال صاحب الوديعة: لا تُخرجها من هذا الحِرْزِ حتى وإن خِفْتَ عليها، حتى وإن أتى حريق لا تُخرجها، اتركها في مكانها. فيقول المؤلف: إذا حصل خوف، حصل مثلًا حريق وأخرجها؛ فإنه لا يضمن، أو لم يُخرجها فإنه لا يضمن.
أما إذا تركها ولم يُخرجها فهو في الحقيقة ممتثلٌ لأمر صاحبها، صاحبها يقول: لا تُخرجها؛ فلا يضمن. وأما إذا أخرجها فإنه محسنٌ، وقد زاده خيرًا في حفظها؛ فلا يضمن.
إذن؛ لا يضمن على كِلا التقديرين؛ ولهذا قال: (وأخرجها أو لا)، أو لم يُخرجها يعني، وأخرجها أو لم يُخرجها؛ فإنه لا يضمن.
طيب، لو أخرجها، أتى حريق وصاحبها لمَّا وضعها عنده قال: لا تُخرجها حتى وإن حصل حريق. لكنه أخرجها وتلفت، فقال صاحبها: مَن قال لك أخرجها؟ أنا قلت لك: لا تُخرجها؛ فتضمن. فنقول: لا، لا يضمن؛ لأنه محسن بهذا، هذا التصرف محسنٌ فيه، ولم يحصل منه تَعَدٍّ ولا تفريط.
أما قول صاحبها: لا تُخرجها وإن حصل حريق. فهذا سَفَه ما يُقَرُّ عليه.
قال:
لأن هذا هو عادة الناس بحِفظ أموالهم في مثل هذه الحالة، لو كان هناك نَهْبٌ، هذا خاصة يقع عند الحروب، وعند اختلال الأمن، يحصل النَّهْبُ والسَّلْبُ، فإن ألقاها حتى لا تتعرَّض للنَّهبِ إخفاءً لها، أخفاها في مكانٍ خشيةً عليها من النَّهْبِ؛ فإنه لا يضمن.
(لم يَعْلِفِ البهيمة حتى ماتت) جوعًا أو عطشًا؛ فإنه يضمن؛ لأن عَلْفَها وسَقْيَها هو من كمال الحفظ الذي قد التزَمَه بقبول الوديعة.
طيب، فإن قال المودَع: لم يُعطني المودِع قيمة العَلْف والسَّقْي، فأنا أتركها حتى تموت، نقول: ليس لك ذلك، أنت لما قبلت هذه الوديعة وهي حيوان، فمعنى ذلك أنك التزمت بعَلْفِها وسَقْيها، يلزمُكَ أن تعلِفَها وأن تسقِيَها؛ وإلا تضمن.
هذه التفريعات التي ذكرها المؤلف، كُلُّها فرعٌ عن مسألة واحدة: وهي أن المُودَع إذا اجتهد في حِفظ الوديعة، ولم يحصل منه تَعَدٍّ ولا تفريط؛ فإنه لا يضمن. أما إذا حصل منه تَعَدٍّ أو تفريط؛ فإنه يضمن.
إذا اجتهد في حفظ الوديعة ولم يحصل منه تَعَدٍّ ولا تفريط؛ فإنه لا يضمن، أما إذا حصل منه تَعَدٍّ أو تفريط فإنه يضمن.
ما الضابط في التعدي أو التفريط؟ العُرْف، والعُرْفُ يختلف باختلاف الزمان، وباختلاف المكان.
ولذلك؛ فهذه التفريعات التي ذكرها المؤلف إنما هي على سبيل التمثيل، لكن يُهمنا أن نضبط هذه القاعدة.
ثم قال المؤلف:
ما يفعل المُودَع بالوديعة إذا أراد السفر؟
وإن أراد المُودَع السَّفَرَ؛ رَدَّ الوديعة إلى مالكها، أو إلى مَن يحفظ ماله عادة.
أي: مَن يحفظُ مال مالكها عادة، أو إلى وكيله.
إذا أراد المودع السفر فننظر: هل يخاف على هذه الوديعة أو لا؟ فإذا كان يخاف عليها، يخاف عليها من السرقة، يخاف عليها من النَّهب، يخاف عليها من التَّلَف؛ فإنه يردُّها إما إلى مالكها، أو إلى وكيله، أو إلى مَن يحفظ ماله عادةً.
قال:
طيب، ما وجد مالِكَها، تعذَّر، وتعذَّر أن يردها إلى وكيله، وأراد أن يُسافر بها؛ ننظر: فإن كان ليس عليها خوف من السفر؛ فيُسافر بها معه.
يعني: حتى لو تلفت هنا فلا ضمان؛ لأن القصدَ الحفظُ، وهو موجود هنا.
فإن خاف عليها، هذا الرجل أراد أن يُسافر، ولو تركها يخشى عليها التلف، ولو سافر بها أيضًا يخشى عليها، وتعذَّر أن يردَّها إلى مالكها أو وكيله، فما الحكم؟
قال المؤلف:
يعني: للقاضي؛ وذلك لقيامه مقام صاحبها عند غَيبتِه؛ ولأن في السفر بها في هذه الحال مخاطرة، فإن تعذَّر ردَّها للحاكم، نفترض مثلًا القاضي رفض أن يستلمها، أو أنه كان في وقتٍ مثل إجازة، فقال:
يعني: يحفظها عند ثقة، كمن حضره الموت، فيحفظها عند ثقة. قال:
يعني: أُودِع في السفر.
لأن إيداعه في هذه الحال يقتضي الإذن بالسفر بها.
لو أتى شخص وأنت في سفر، وأعطاك وديعة، فلا بأس أن تُسافر بها إلى مكان آخر، مثلًا: أعطاك هذه الوديعة وأنت في مكة، أنت من الرياض، وأعطاك وديعة في مكة، وأنت تُريد أن تُسافر المدينة، ثم تأتي للرياض، فسافرت بها من مكة إلى المدينة، فتلفت؛ فلا ضمان؛ لأن إعطاءَك إياها في السفر هو في الحقيقة إذنٌ لك بالسفر بها.
قال:
ثم انتقل المؤلف للكلام عن التعدِّي، وذكر له أمثلة، وقلنا: يضبطه العرف، لكن المؤلف ذكر أمثلة:
أمثلة للتعدي في الوديعة
قال:
يعني: ركب الدابة المُودَعة لا لِسَقيِهَا فتلفت؛ فإنه يضمن.
إن كانت الوديعة مما يُلبس، أُودِع عنده ثوب ثم قام ولبسه فتمزَّق الثوب مثلًا وتلف؛ فإنه يضمن.
يعني: لبسه على سبيل التعدِّي، لا لخوفٍ مِن عُثٍّ. والعُثُّ: هي السُّوسة التي تُتْلِف الملابس، السُّوس الذي يُتْلِف الملابس، فهذه يقولون: إنه لا بد من تحريك اللباس حتى لا تعبث به هذه السُّوسة، وفي الوقت الحاضر وُجِد بعض المواد التي تمنع من هذا العُثِّ.
أُودِع مثلًا مبلغًا ماليًّا، ثم احتاج وأخرجها لأجل أن يُنفقها ثم يُرجعها مرة أخرى، فهنا أصبحت يَدُه ليست يَدَ أمانة؛ فلذلك يضمن بكل حال، ارتفع عنه وصف الأمانة.
يعني: كونه يُخرجها من الكيس وينظر إليها ويَعُدُّها، هذا أيضًا يجعله ضامنًا، ترتفع عنه يَدُ الأمانة، حتى وإن ردَّها؛ ولذا قال:
فهنا يرتفع عنه وصفُ الأمانة، ويُصبح ضامنًا لها.
لِتَعَدِّيه؛ وذلك لهَتْكه الحِرْزَ بتَعَدِّيه، ويرتفع عنه وصفُ الأمانة بهذه التصرفات.
قال:
ما دام أنه ارتفع عنه وصفُ الأمانة يجب عليه أن يردَّها؛ لأنها أمانة مَحْضَة، وقد زالت، زال وصفُ الأمانة بالتعدِّي.
فهل يمكن أن تعود أمانةً مرة أخرى؟ أجاب المؤلف عن هذا السؤال، قال:
يعني: إذا أراد أن تكون يَدُه يَدَ أمانة، فلا بد أن يُعيدها لصاحبها ثم يُودعها صاحبها عنده مرة أخرى. أما الإيداع الأول، فبهذه التصرفات ارتفع عنه وصفُ الأمانة، وأصبحت يَدُه ليست يَدَ أمانة، وإنما متَعَدٍّ.
قال:
يعني: هذا رجل أراد أن يُودِع عند شخصٍ وديعةً، فقال: أخشى أنني أخونك، أخشى أنني كذا، ما أثق في نفسي. فقال له المودِع: كلما خُنْتَ ثم عدتَ إلى الأمانة فأنت أمين. فيقول: هذا يصح، ولا يرتفع عنه وصفُ الأمانة، حتى لو خان فيعود له وصفُ الأمانة؛ وذلك لصحة تعليق الإيداع، كالشرط على الوكالة، فإذا أتى بهذا الشرط فيصح، وحينئذ يعود له وصفُ الأمانة، ولو بعد الخيانة.
مسائل متفرِّعة عن كون المودَع أمينًا
ثم انتقل المؤلف للكلام عن مسائل متفرِّعة عن كون المودَع أمينًا؛ قال:
وهذا الوصف تكرَّر معنا: “أمين”، قلنا: الوكيل أمين، والمضارب أمين، والمستأجر أمين، والمستعير على القول الراجح أمين مطلقًا، والمودَع هنا أمين، فما معنى “أمين” في كلام الفقهاء؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، هو الذي لا يضمن إلا بتَعَدٍّ أو تفريط، لا يضمن عند التلف إلا بتَعَدٍّ منه أو تفريط.
وضَّح هذا المؤلف؛ قال:
والدليل على أن المودَعَ أمينٌ قولُ الله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ما المقصود بالأمانات؟ الودائع، فسمَّى الله الودائع “أمانات”؛ فدلَّ ذلك على أن المودَع يُسمَّى “أمينًا”. وهذا من أظهر الأدلة على أن المودَع أمين.
وجاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي قال: ليس على المودَع ضمان[3]. وهذا الحديث أخرجه الدارقطني[4]، وفي سنده ضعف، لكن رُوي من طرقٍ متعدِّدة، لعلَّه يرتقي بمجموعها إلى درجة الحسن.
ولأن المودَع إنما يحفظها لصاحبها متبرِّعًا من غير نفعٍ يرجِعُ إليه، فلو لزمه الضمان لامتَنَع الناس من قبول الوديعة؛ فلذلك نقول: إن المودَع أمين في قول أكثر أهل العلم.
فإن تعدَّى أو فرَّط أو خان؛ فإنه يضمن.
وسبق أن ذكرنا الضابط في ذلك، وهو العرف، المرجع في ذلك العرف، إن حصل منه تعَدٍّ أو حصل منه تفريط أو حصلت منه خيانة؛ فحينئذ يكون ضامنًا ويرتفع عنه وصف الأمانة.
وأيضًا من التفريعات على هذه القاعدة: أن المودَع أمين، قول المؤلف:
يُقبَل قوله في نَفْيِ التعدِّي أو التفريط أو الخيانة.
هذا رجل أُودِع وديعةً، ثم تلفت، قال له المودِع: إنك قد فرطت في حفظها. قال: أبدًا، ما فرَّطتُ. أو قال: إنك قد تعدَّيتَ. قال: ما تعدَّيت أبدًا. أو قال: إنك خُنْتَ. قال: أبدًا ما خُنْتُ.
إن كان هناك بيِّنة، فالقولُ قولُ صاحب البيِّنة، وإن لم يكن هناك بيِّنة، فهل نُرجِّح جانب المودِع أو المودَع؟ المودَع، لماذا؟ لأنه أمين، فنُرجِّح جانبه.
فهذا معنى قول المؤلف: (ويُقبل قوله بيَمِينه في عدم ذلك)، وكذلك يُقبَل قوله بيَمِينه:
عند عدم وجود البيِّنة، عند عدم وجود البيِّنة يُرجَّح جانب المودَع بأنها تلفَت؛ لأن هذا من فروع قولنا: إنه أمين.
فيُقبل قوله عند عدم وجود البينة؛ لأنه أمين.
قال:
أي: المودَع.
فلا يُقبَل قوله إلا ببيِّنة؛ وذلك لأنه بمَطْلِه صار كالغاصب.
يعني: لو أنه قال: يا فلان، عندك وديعة، أعطنيها. قال: لاحقًا، فيما بعد أُعطيكها، إن شاء الله غدًا. وأصبح يُماطل به، ثم بعد ذلك ادَّعى الرَّدَّ، ادَّعى أنه ردَّها عليه، فهنا لا يُقبل قوله في الردِّ إلا ببيِّنة؛ لأن مَطْلَهُ إيَّاها رَفَعَ عنه وصفَ الأمانة؛ فأصبح ليس أمينًا -ولذلك- بل هو أشبه بالغاصب.
ادَّعى ورثتُه الرَّدَّ، منهم أو مِن مُورِّثهم؛ فلا يُقبل قولهم إلا ببيِّنة؛ وذلك لأنهم غير مؤتمنين عليها مِن قِبَل مالكها، وصاحب الوديعة إنما ائتمَن مورِّثهم ولم يأتمنهم هم، هم غير مؤتمنين، فإذا ادَّعَوُا الرَّدَّ لا يُقبل قولهم إلا ببيِّنة.
يعني يقول المؤلف: الحكم هذا في كُلِّ أمين.
إذا طلبها صاحبه يجب عليه أن يردَّها مباشرة، إلا إذا كان لحملها مؤونة فيُؤذَن له في أن يتأخَّر بقَدْر هذه المؤونة، أما إذا لم يكن لحملها مؤونة، وتأخَّر بعد طلب صاحبها لها؛ فإنه يضمن؛ وذلك لأنه فعل أمرًا محرمًا بإمساكِه مِلْك غيره بلا إذنه، فهو أشبه بالغاصب.
يعني: إذا طلبها صاحبها فتأخَّر في رَدِّها إليه، فيرتفع عنه وصفُ الأمانة، وحينئذٍ يكون ضامنًا لها.
إن أُكره على دفعها لم يضمن؛ لأن الإكراه عذرٌ يُبيح له دفعها إلى غير ربِّها؛ ولذلك لا يضمن.
قال: عندي ألف ريال مثلًا وديعة، ثم قال: إنك قد قبضتها أنت أيها المودِع، أو قال: إنها تلفت، أو قال: ظننتها باقية ثم علمت تلفها بعد ذلك. إن كان هناك بيِّنة فالقولُ قولُ صاحب البينة، وإن لم يكن هناك بيِّنة فيُقبَل قول المودَع بيَمِينه؛ لأنه أمين؛ ولهذا قال:
لأنه إذا ثبتت الوديعة؛ ثبتت أحكامها.
يعني: اختلفا، هذا يقول: عندك يا فلان ألف ريال. يقول: صحيح، أنا عندي ألف ريال، لكنها وديعة وتلفت. فقال صاحبها: أنا لم أُعطِك إيَّاها وديعةً، أنت أخذتها مني غَصْبًا، أو أخذتها مني عارِيَّة. فاختلفا أصلًا هل هي وديعة أو لا؟ فهنا يضمن، يضمن مَن عنده هذا المال؛ لماذا؟
لأن الأصل في قبض مال الغير الضمان، الأصل أنك إذا أخذت مالَ غيرك، الأصل أنك تضمن، فحيث لم يتحقَّق من أنها وديعة فالأصل هو الضمان؛ لأنه الآن صاحبها يقول: أنت لم تأخذها مني على سبيل الوديعة، أنت أخذتها عارِيَّة، أو أخذتها غَصْبًا.
وهذا الرجل يقول: بل وديعة، فنقول: الأصل فيمن أخذ مال غيره، الأصل فيه الضمان، فإن لم يكن هناك بيِّنة فإنه يضمن، نقول: أثبِت أنك أخذتها وديعةً، وإلا فالأصل أنك تضمن؛ لأنك أخذتَ مالَ غيرِك، والأصل فيمن أخذَ مالَ غيره الضمان.
ومن المسائل التي ذكرها الفقهاء، ونُلحِقُها بما ذَكَره المؤلف، قولهم: إنه يعمل بخط الإنسان على كيس ونحوه، أن هذه وديعة؛ يعمل بخطه.
وقد نصَّ على هذا الإمامُ أحمد، وهذا يحصل كثيرًا، تجد بعضَ الناس يكون عنده غالبًا نقود، يقول: هذه لفلان بن فلان، يكتُب عليها: أن هذا المبلغ لفلان بن فلان، فهل يلزم الورثةَ أن يُعطوا فلان بن فلان؟
نقول: نعم، فيُعمل بخطه، أو حتى لو لم تكن عنده هذه الوديعة؛ كتب عنده في ورقة بأن فلانًا يطلبني كذا، وفلانًا يطلبني كذا؛ فيلزمُ الورثةَ أن يُعطوهم حقوقهم قبل توزيع التركة.
فالخط هنا يُعمل به، وهو معتبرٌ، إلا إذا قامت القرائن على تزويره مثلًا أو نحو ذلك، وإلا فالأصل أنه يُعمل بخط الإنسان، يُعمل بخطه في أن عنده وديعة، يُعمل بخطه في أنَّ لأحدٍ من الناس عليه دَيْنًا، ونحو ذلك قبلُ.
بعض التطبيقات المعاصرة على الوديعة
قبل أن ننتهي من (باب الوديعة)، نُحب أن نَذكُرَ بعض التطبيقات المعاصرة، فمِن التطبيقات المعاصرة ما يُسمَّى بالودائع المصرفية، وتجد في المصارف: إيداعًا، واسْتِيدَاعًا، وودائع مصرفية. فما هو التكييف الفقهي لهذه الودائع المصرفية؟
عندما تذهب للبنك، وتقول: أُريد أن أُودِع عندكم عشرة آلاف ريال مثلًا، فيُعطِيك البنك إيصال إيداع، تضع عندهم عشرة آلاف ريال. فما هو التكييف الفقهي لهذه الوديعة التي تُسمِّيها المصارف “وديعة” أو “إيداعًا”؟
وهو ما يُسمَّى بـ”الحساب الجاري”، الآن يُسمُّونه “حسابًا جاريًا”، عندما توضع في البنك لا بد أن تفتح حسابًا جاريًا لديهم، وإلا ما يُمكِّنونك، فوضع المال في الحساب الجاري: هل هو وديعة بالمعنى الفقهي، أو أنه عقدٌ آخر؟ ما هو؟
مداخلة: …
الشيخ: أحسنت.
الصحيح أنه قرض، هو قرض وليس وديعة، وإن سمَّاه الناس “وديعة”، فتسميتهم له “وديعة” غير دقيق وغير صحيح؛ وذلك لأن حقيقة هذا العقد أنه قرض، فإن القرضَ تعريفه عند الفقهاء -كما مرَّ معنا-: “دفعُ مالٍ لمن ينتفع به، ويرُدُّ بَدَلَه”.
وهذا ينطبق على هذه المسألة تمامًا، فعندما يذهب هذا الذي يُريد فَتْحَ حسابٍ جارٍ ويضع مبلغًا من المال، فهو يدفع مالًا للمصرِف وينتفع المصرِف به ويرُدُّ له بَدَله، المصرف يلتزم بردِّ مبلغٍ مماثل له في أيِّ وقت، وهذه حقيقة القرض.
ولذلك؛ ربما أنك تدفع المالَ للمصرف ويأخذ هذا المال -النقد- ويُعطيه غيرَك وأنت تنظر، تُعطِيه عشرة آلاف ريال، ربما أنه يُعطيها عميلًا آخر، العشرة آلاف ريال هذه، وأنت تنظر، فهو قد التزم برَدِّ مبلغٍ مماثلٍ في أيِّ وقت تطلبه، وهذا إنما ينطبق على القرض وليس على الوديعة، لو كانت وديعة لمَا تصرَّف البنك فيها، وحَفِظ هذا المبلغ وما تصرَّف فيه.
ومما -أيضًا- يُؤيد هذا المعنى: أن المصرف ضامن لهذا المبلغ عند التلف على أيِّ تقدير، حتى ولو كان من غير تَعَدٍّ ولا تفريط، فلو افترضنا أن الحيَّ كُلَّه -مثلًا- احترق، وكان فيه مصرف، وفيه حساب، ونفترض أن حسابك -مثلًا- فيه عشرة آلاف ريال، فالبنك ملتزمٌ لك بِرَدِّ هذا المبلغ، ولا يقول: إنه احترق وضاع عليك، مع أنه بغير تَعَدٍّ ولا تفريط، وهذا إنما ينطبق على القرض، وليس على الوديعة، لو كانت وديعةً لكان إذا تلف من غير تَعَدٍّ ولا تفريط لمَا التزَمَ برَدِّ مثله.
فإذن؛ الحسابات الجاريةُ التكييفُ الفقهي لها أنها قروض وليست ودائع، أما تسمية الناس لها “وديعة”، تسمية البنوك لها “ودائع”، هذا لا يُغيِّر من الحقيقة شيئًا؛ فإنَّ العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، العبرة في العقود بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.
ولذلك -مثلًا- تسمية الخمر “مشروبًا روحيًّا” هل هذا يُغيِّر من حكمها؟ أبدًا، الخمر خمر وإن سُمِّيت “مشروبًا روحيًّا” أو سُمِّيت أيَّ اسم، فتسمية الشيء بغير اسمه لا يُغيِّر من حقيقته ولا يُغيِّر من حكمه، فتسمية المصارف لها “وديعة” فهذه الحقيقة ليست وديعة، وإنما هي قرض، ويترتب عليها ما يترتب على القروض من أحكام.
ومن تلك الأحكام -مثلًا- أنه لا يجوز للمقترض أن يُهدي للمقرض هدية.
وبناءً على ذلك؛ فهدايا البنوك لعملائها لا تجوز، محرمة؛ لأنها هدية من مقترضٍ إلى مُقرِض، ومرَّت معنا هذه المسألة، لا تجوز مطلقًا قبل الوفاء، ولا تجوز بعد الوفاء إذا كانت بشَرْط.
والوفاء هنا هو الحساب، ما دام الحساب موجودًا فهو قبل الوفاء، ما دام لم يُقفل الحساب فما تُهديه البنوك لعملائها محرم؛ لأن العلاقة بين البنك والعميل هي في الحقيقة علاقة مقترض بمقرض.
مداخلة: …
الشيخ: لا، البنوك المحافظة ما تفعل هذا، ما تُهدي هدايا.
مداخلة: …
الشيخ: إي نعم، هذا نظام البنوك، نظام البنوك أنهم يلتزمون برَدِّ مبلغٍ مماثل لك، حتى لو تلف من غير تَعَدٍّ ولا تفريط ويُعطونك مماثلًا، ما يحفظون لك رأس المال، يُعطونك مماثلًا له.
مداخلة: …
الشيخ: تَمَيُّزٌ لبعض العملاء، الذي يظهر أن هذا يجب أن يُتسامَح فيه، لا بأس به.
لو كان مثلًا عندك أناس أقرضوك قرضًا، أحدُ الناس أقرضك مائة ريال، وشخص آخر أقرضك مائة ألف، لا شك أنك تحتفي بمن أقرضك مائة ألف أكثر من حفاوتك بمن أقرضك مائة. هذا مما يُتسامح فيه، المهم ألا يكون هناك شيء حِسِّيٌّ ظاهر.
ومن ذلك مثلًا: دفتر الشيكات، والبطاقات، هذه كُلُّها مما يُتسامَح فيها، بل هي وسيلة للوفاء، وسيلة من وسائل وفاء القرض.
باب إحياء المَوَات
ثم قال المؤلف رحمه الله:
إحياء المَوَات أيضًا ليست فيه مسائل كثيرة، ونودُّ أن ننتهي منه هذا الدرس.
قال: (باب: إحياء المَوَات)؛ المَوَات مشتقٌّ من الموت، وهي الأرض الدَّارِسة التي لا مالك لها، تُسمَّى مَوَاتًا وميتة ومَوَتانًا، عرَّفها المؤلف بتعريف ونحن سنذكر تعريفًا آخر.
تعريف الأرض الموات
قال:
يعني هذا تعريفُ المؤلِّفِ اصطلاحًا.
أي: فتُمْلَك بالإحياء.
المؤلف يُعرِّف المَوَات بأنها: الأرض الخراب الدَّارِسة، التي لا مالك لها، أو أن لها مالكًا لكن أصبحت خَرِبة ولم يُعلم أن لها مالكًا، وفيما بعد وُجِد بها آثارُ مِلك ثم خَرِبَتْ واندَرَست آثارها فلم يُعلم لها مالك. فهذه تُملَك بالإحياء.
وصاحب “زاد المستقنِع” عرَّفها بتعريفٍ أجود من هذا، فقال: “المَوَات هي الأرض المُنفَكَّة عن اختصاصاتٍ ومِلْكِ معصومٍ”.
فيخرج بهذا التعريفِ شيئان:
الأول: ما جرى عليه مِلك معصوم، فهذا لا يُملَك بالإحياء، وما المقصود بالمعصوم؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، أولًا: المسلم، أو الكافر الذمِّي، أو المعاهَد، أو المستأمن، فالعصمة تحصلُ بالإسلام، وتحصلُ بالعهد والذِّمة والأمان، فما جرى عليه ملكُ معصومٍ من مسلم أو كافر؛ فإنه لا يُملَك بالإحياء.
وكذلك أيضًا لا بد أن تكون الأرض مُنْفَكَّةً عن الاختصاصات، فما تعلَّقت به مصلحة الناس كالطرق ومَسَايل المياه، أو تعلَّقت به مصلحة العامر من البلد؛ كالبقاع المهيَّأة مثلًا لصلاة العيدين والمراعي والمُحْتَطَبات، هذه تدخل في الاختصاصات، فلا تُملك بالإحياء.
فلا بد أن تكون الأرض مُنْفَكَّة عن الاختصاصات، وعن ملكِ معصومٍ، يعني: تكون أرضًا لا يملكها أحد، وأيضًا مُنْفَكَّة عن الاختصاصات، ليست فيها مصلحة للناس، من جهة إما كونها: مُحتَطًبًا، أو مرعى، أو مصلَّى عيد، أو نحو ذلك. فهذه تُملَك بالإحياء إذا انفَكَّت عن الاختصاصات وملك المعصوم.
والأصل في هذا حديث جابر[5] وسعيد بن زيد[6] وعائشة[7] أن النبي قال: مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. وفي البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: مَنْ أَعْمَر أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحقُّ. هذا في صحيح البخاري: مَنْ أَعْمَر أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحقُّ يعني: أحقُّ بها من غيره[8].
قال:
(ولو كان ذِمِّيًّا) بيَّنَّا أن الكافر في الإحياء كالمسلم، إذا كان ذِمَّيًّا أو معاهدًا أو مستأمنًا، يعني: معصومًا؛ فيملكه، إلا أن الذِّمِّي سيأتي فيه تفصيل.
هل يُشترط لمِلك المَوَات بالإحياء إذْنُ الإمام؟
- القول الأول: إنه لا يُشترط، ولا يفتقرُ إحياء المَوَات إلى إذنِ الإمام، فتُملك الأرض المَوَات بالإحياء، بلا إذْنِ الإمام؛ لعموم قول النبي مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له[9]، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو المذهب عند الحنابلة، كما نصَّ عليه المؤلف، وهو قول جمهور الفقهاء.
- القول الثاني: إنه يشترط لإحياء الموات إذنُ الإمام. وهذا هو مذهب الحنفية.
- والقول الثالث -وهو قول وسط-: إنه لا يُشترط لإحياء المَوَات إذنُ الإمام، لكن للإمام أن يمنع من إحياء المَوَات إلا بإذنه، هذا القول ذكره الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، ونَسَبَه لبعض الفقهاء.
أدلة الأقوال:
أما القول الأول، وهم الجمهور الذين قالوا: إنه لا يُشترط لإحياء المَوَات إذنُ الإمام؛ فاستدلوا بعموم الأدلة الدالة على أن المَوَات تُملَك بمجرَّد الإحياء، ومنها الأحاديث السابقة: قول النبي : مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له، مَنْ أَعْمَر أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحقُّ[10].
وقالوا: إن المَوَات عينٌ مباحة، فلا يفتقر أخذُها إلى إذن الإمام، كأخذ الحشيش والحَطَب ونحوه، فإنه لا يُشترط لذلك إذنُ الإمام، فكذلك إحياء الموات.
أما أصحاب القول الثاني، وهم الحنفية الذين اشترطوا لإحياء الموات إذنَ الإمام، فقالوا: إن قول النبي : مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له، إنما هو من قَبِيل الإذن السُّلْطاني، وليس من قَبِيل الإذن التشريعي.
ما الفرق بين الإذن السُّلْطاني والإذن التشريعي؟
الإذن السُّلْطاني: قاله النبي عليه الصلاة والسلام، بمثابة السلطان وليِّ الأمر، والتشريعي: بمثابة التشريع للأمة.
الحنفية يقولون: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له قاله من قَبِيل الإذن السُّلْطاني، فكأنه أَذِنَ عليه الصلاة والسلام لرعِيَّته بالتملُّك، فدلَّ ذلك على اشتراط إذن الإمام.
قالوا: وليس ذلك على سبيل التشريع العام للأمَّة، وقالوا: لأن للإمام مدخلًا في النظر في ذلك، بدليل: أن من حجَّر مَوَاتًا ولم يُحْيِه، فإنه يُطالبه إما بالإحياء أو بالترك.
أصحاب القول الثالث جمعوا بين أدلة القولين، فقالوا: الأصل أنه لا يُشترط إذنُ الإمام في إحياء المَوَات، لكن لو منع الإمام من الإحياء بإذنه فتجب طاعته؛ دفعًا للفوضى والتعدِّي ومنازعة وليِّ الأمر ونحو ذلك،.
وهذا هو الأقرب والله أعلم، القول الثالث: إن الأصل أن إحياء المَوَات لا يفتقر إلى إذنِ الإمام، لكن لو منع الإمام من الإحياء بإذنه فتجب طاعته في ذلك.
فمثلًا؛ عندنا في المملكة، كان قبل عام ستة وثمانين، ما كان هناك تعليمات في الإحياء؛ ولذلك عند المحاكم من أحيا مَوَاتًا قبل هذا التاريخ فتكون له، بعد هذا التاريخ أصبح لا بد من إذنٍ، فحينئذ لو أن أحدًا أحيا أرضًا مَوَاتًا من غير أن يستأذن فإنه لا يملكها. هذا الذي عليه العمل عندنا هنا في المحاكم.
ولكن قد تكون مثلًا في بعض الدول ليس هناك تنظيمات لإحياء المَوَات، فنقول: على الأصل، الأصل أن من أحيا أرضًا ميتة فهي له، هذا هو الأصل في هذا.
نعود لعبارة المؤلف، قال:
يعني: مَلَكَ ما أحياه.
وذلك لأن هذه كلها من أجزاء الأرض، فتتبعها في الملك، كما لو اشتراها.
قال:
يعني: لا خَرَاجَ على مَن أحياها.
إذا كان المُحيي ذِمِّيًّا فعليه خَرَاجُ ما أحيا من مَوَات. لكن قيَّد ذلك الفقهاء؛ قالوا: عليه خَرَاجُ ما أحيا من مَوَات أرضٍ فُتِحت عَنْوَة؛ لأنها للمسلمين، فلا تُقَرُّ في أيديهم إلا بخَرَاج.
أما غير العَنْوَة كأرض الصلح مثلًا، أو التي أسلم أهلها عليها، فالذِّمِّي في ذلك كالمسلم، والفقهاء فصَّلوا في مسألة تملُّك الذِّمِّي للمَوَات إذا أحياها.
قال:
يعني: فلا يُملَك بالإحياء.
والنِّفْطُ قال ابن منظور في “لسان العرب”: “النفط حِلابة جبل في قعْرِ بئرٍ تُوقَد به النار”. يعني يظهر أنهم يقصدون به البترول، الوصف الذي ذكره ابن منظور يقصدون به البترول، لكن ما كانوا يُسمُّونه البترول في ذلك الوقت، قال ابن منظور: “النفط حِلابة جبل في قَعْرِ بئرٍ تُوقَد به النار”.
فمِن هذا الوصف يظهر أنهم يقصدون به البترول، نعم، يقصدون به ما نُسمِّيه الآن “البترول”؛ ولذلك فالتسمية الصحيحة للبترول يقال: نَفْط أو نِفْط بكسر النون، ولا يُقال: بترول، بترول كلمة أعجمية، وإنما يقال: نفط، كما كانت العرب تُسمِّيه.
بعضهم قال: إن مقصودهم بالقار: الفحم، ليس القار المعروف عندنا الآن، وإنما هو الفحم ونحوه، فهذه لا تُملَك بالإحياء، وإنما تكون كالكَلَأِ والشجر، فتدخل في قول النبي : الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار[11].
ولأنها ليست من أجزاء الأرض، فلم تُمْلَك، لكنه يكون أحقَّ بها من غيره؛ لقول النبي من سَبَق إلى ما لم يَسبِق إليه، فهو أحقُّ به[12].
لو أن رجلًا مثلًا ظهر في أرضه بترول، ظهر نفط مثلًا، فنقول: إنه لا يملكه، ولكنه أحقُّ به من غيره؛ ولذلك فالذي عليه العمل أنه يُعوَّض عنه، يكون للدولة لكن يُعَوَّض عنه.
قال:
يعني: حفر بئرًا في طريق عام بالسَّابلة لأبناء السبيل ليرتَفِقَ بها المسافرون فيشربون منها.
فلو أن هؤلاء المسافرين أقاموا على هذه البئر.
لكنهم لا يملكونها.
على هذه البئر.
يعني: هؤلاء الذين أتوا من أبناء السبيل على هذه البئر هم أحقُّ بها ودوابُّهم من غيرهم، إذا رحلوا عنها فتكون سبيلًا لجميع المسلمين.
أمثلة لما يحصل به إحياء الموات
قال:
ويحصل إحياء الأرض الموات.
يعني انتقل المؤلف لما يحصل به إحياء المَوَات، بأيِّ شيء يحصل؟
قال:
يعني: إذا أحاط المَوَاتَ بحائط منيع، بما جرت به العادة، فيحصل بذلك إحياء المَوَات، وتُملك؛ لقول النبي : مَن أحاط حائطًا على أرض فهي له. وهذا الحديث أخرجه أبو داود في “سننه”[13]، وهو حسن بشواهده، وهذا الحديث يدل على أن التحويط على الأرض يحصل به إحياء المَوَات.
قال:
لأن نفع الأرض بذلك أكثر من الحائط، فإذا كان يحصل إحياء المَوَات بالحائط، فبإجراء الماء من باب أولى.
لأنه يُراد للبقاء؛ كبناء الحائط.
إذا حفر في الأرض الموات بئرًا، ووصل إلى مائها، فإنه قد أحياها، أما إذا لم يَصِل إلى مائها فإنه لا يملكها، وإنما يكون أحقَّ من غيره. هذا هو القول الذي مشى عليه المؤلف، يعني: ذكر هذه الأمور التي يحصل بها الإحياء.
وقال بعض أهل العلم: إن إحياء المَوَات لا يقف عند هذه الأمور، بل يُرجع فيه إلى العرف، فما عَدَّه الناس إحياءً فإنه يملك به الأرض المَوَات، وما لم يعدُّوه إحياءً فلا تُملك به الأرض المَوَات. وهذا هو القول الراجح في المسألة.
إذن؛ القول الراجح فيما يحصل بإحياء المَوَات: أن المرجع في ذلك إلى العرف، فما عدَّه الناس إحياءً فهو إحياءٌ، وما لا فلا. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقد اختار هذا القول ابن عقيل الحنبلي، واختاره كذلك الموفق ابن قدامة في “المغني”، قال: “الإحياء ما تعارفه الناس إحياء؛ لأن الشرع ورد بتعليق المِلك عليه، ولم يُبيِّنه ولا ذكر كيفيته، فيجب الرجوع فيه إلى ما كان إحياءً في العرف”. وهذه عبارة الموفق، كما أنه لمَّا ورد باعتبار القبض والحِرْزِ، لم يُبيِّن كيفيته؛ كان المرجع في ذلك إلى العرف.
وعندنا قاعدة: “أن كلَّ ما وردَ في الشرع وليس له حَدٌّ في الشرع ولا في اللغة؛ فالمرجع فيه إلى العرف”.
القول الصحيح إذن: إن إحياء المَوَات يحصل بما عَدَّه الناس في عرفهم إحياء.
فمثلًا في عُرْفِنا في وقت الحاضر: بناءُ سور على هذه الأرض يُعَدُّ إحياءً، غرسُ أشجار فيها وسَقْيها بالماء يُعَدُّ إحياءً. فكُلُّ ما عَدَّه الناس في عرفهم إحياءً فهو إحياء.
أمثلة لما لا يحصل به إحياء الموات
قال:
يعني فلا يكون إحياءً، فلا يملكه، لكنه أحق من غيره، مجرد أنه يُدير أحجارًا على قطعة أرض فهذا ليس إحياءً، كما لو أدار ترابًا أو جدارًا صغيرًا لا يمنع ما وراءه، فإن هذا لا يكون إحياءً يملكها به، لكنه يكون أحقَّ من غيره بها.
لو ذهب إنسان للبَرِّ ووضع أحجارًا، وقال: هذه الأرض أَحْيَيْتُها فهي لي، فهذا ليس إحياءً، وإنما يكون أحقَّ بها من غيره.
قال:
نحن قلنا في البئر: لا بد أن يصل إلى مائها، أما إذا لم يصل إلى مائها فلا يكون إحياءً، وإنما يكون أحقَّ بها من غيره.
فإن هذا أيضًا لا يُعَدُّ إحياءً، وإنما يكون أحقَّ به من غيره.
لأن هذا الشجر أصلًا قائم، شجر قائم، وهو مجرد سقاه فقط؛ فلا يُعَدُّ هذا إحياءً، وإنما يكون أحقَّ من غيره.
يعني: لم يُطعِّمه، التركيب المقصود به التطعيم.
التطعيم معناه: أن يصلَ نباتًا بنبات آخر، أو يصل جزءَ نباتٍ بجزءِ نباتٍ آخر؛ لأجل أن يلتحما ويعيشا، هذا معروف عند أهل الزراعة.
فيقول: إذا لم يُطعِّمه، لم يطعِّم هذا الشجر، فلا يكون إحياءً، أما إذا طعَّمه فإنه يكون إحياءً.
قال:
يعني: فيكون أحقَّ به وارُثه من غيره؛ لعموم قول النبي من ترك حقًّا أو مالًا فهو لورثته[14].
لأنه يُعتبر هِبَة؛ وَهَبَ حقَّه لغيره، وصاحب الحق آثَرَه به وأقامه مقامه.
مَن سَبَقَ إلى مباح فهو له
قال:
هذه قاعدة: “أن من سَبَق إلى مباح فهو له”، وورد هذا في حديث صحيح عند أبي داود: أن النبي قال: من سَبَق إلى ما لم يَسبِق إليه، فهو أحقُّ به[15]، حتى في المسجد، ليس فقط في إحياء المَوَات، حتى في المسجد، من سَبَق إلى مكانٍ هو أحقُّ به.
أما قول بعض الناس: إن هذا مكان فلان، وإن فلانًا اعتاد على أن يأتي هذا المكان. هذا غير صحيح، وبعض كبار السن عندما تأتي وتجلس في مكانه -مثلًا- ينزعج، وربما يَنْهَر مَن جلس في مكانه.
هذا فهمٌ غير صحيح؛ مَن سَبَق إلى مكانٍ فهو أحقُّ به، هذا الإنسان الذي أتى مبكِّرًا وجلس في هذا المكان هو أحقُّ. هذه قاعدة مطَّرِدة في كلِّ شيءٍ، ومن ذلك ما مثَّل له المؤلف، قال:
هذه كلها، من سَبَق إليها فهو أحقُّ بها.
أيضًا يكون أحقَّ به.
يعني: على ما حازَهُ، فلا يملك ما لا يحُوزه، ولا يَمنع غيرَه منه، إنما ما حازَه من هذه الأمور التي ذكرها -أو إلى أيِّ مباح- فيكون أحقَّ به من غيره إذا كان مما لا يُملَك. أما إذا كان مما يُملَك فيكون ملكًا له.
فالأمثلة التي مثَّل بها المؤلف: الصيد، والعنبر، واللؤلؤ، والمرجان، والحطب، والثمر، هذه مما تُملَك، فيكون أحقَّ بها.
مَن ذهب مثلًا واحتطب، فيكون الحطب له، أو مثلًا صاد صيدًا فيكون الصيد له، أو مثلًا ذهب للبحر واستخرج اللؤلؤ والمرجان فيكون له، لكن الملك يكون مقصورًا على القَدْر المأخوذ.
أما إذا كان مما لا يُملَك فيكون أحقَّ به من غيره؛ كما مثَّلنا لذلك بالنِّفط والقارِ، يكون أحقَّ به من غيره.
أما إذا كان مما يُملَك كهذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف؛ فإنها تكون له، لكن ملكه يكون على القَدْر الذي أخذَه وحازَه.
هذه أبرز الأحكام والمسائل المتعلقة بـ(باب إحياء المَوَات)، ونقف عند (باب الجَعالة).
الأسبوع القادم يا إخوان ليس فيه درس، الأسبوع القادم سأكون إن شاء الله في مكة؛ للمشاركة في دورة أعمال المَجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي.
الدورة العشرون، قد تكون مدةَ أسبوع، فلن يكون الأسبوع القادم درس، وإنما نستأنف الدرس إن شاء الله الأسبوع بعد القادم.
لم نُنَبِّه على هذا من أول الدرس، لكن الإخوان الذين خرجوا لعلكم تُنبِّهونهم، الأسبوع القادم ليس فيه درس، نستأنف الدرس إن شاء الله الأسبوع بعد القادم.
نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم، فضيلة الشيخ. هذا يسأل يقول: هل الأسرار بين الناس تُعتبر من الودائع؟
الشيخ: الأسرار بين الناس أمانة، هي ليست ودائع، لكنها أمانة، هي تدخل في جملة الأمانات المأمور بالوفاء بها، فالسِّرُّ يُعتبر أمانة، والنبي ذكر من خصال المنافقين: إذا اؤتمن خان[16]، هذه الأمانة تشمل الائتمان بالسِّر والائتمان بغيره.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: لو أحيا أرضًا مَوَاتًا، وصادق عليها القاضي، ثم تبين أن للأرض مالكًا، فما العمل؟
الشيخ: هنا يبطل تملُّكه لها؛ لأنه يُشترط للإحياء أن تكون منفكَّة عن ملكِ معصومٍ، هنا تبيَّن أن لها مالكًا، فيكون إحياؤه غير صحيح، وما بُنِي على باطل فهو باطل.
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا يسأل يقول: هل ما يُسمَّى بـ”عميل التميز” في البنوك يُعتبر من القرض مقابل عوض؟
الشيخ: لا يُعتبر من هذا القبيل الذي ذكره الأخ السائل؛ لأنهم لا يُعطونه شيئًا ماديًّا، هو مجرد يُحتفى به، يحتفون به أكثر من غيره، وهذا كما مثَّلت لو أن شخصًا أقرضك مائة ريال، وشخص أقرضك مائة ألف، فتحتفي بمن أقرضك مائة ألف أكثر من حفاوَتك بمَن أقرضك مائة ريال.
ولا يُقال: إن هذا أمرٌ مُحرَّم، الذي يظهر أنه ليس بالشيء المحرم، مثل الهدايا، الهدايا شيءٌ واضح في التحريم، أما مجرد الاحتفاء فيظهر أن هذا يُتسامح فيه.
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا يقول: هل هناك تحديد شرعي لمساحة الأرض التي يُراد إحياؤها؟
الشيخ: ليس هناك تحديد لهذه الأرض، لكن الإمام له نظر في أن الإنسان إذا طلب إحياءها، وأذِن له ولم يقم بإحيائها، فله أن يأخذها منه.
بعض الناس تجد أنه يُريد إحياءَ الأرض، ويُبقيها عنده ولا يُحييها، يقول: أريد هذه الأرض الزراعية، ومساحتها كبيرة. ثم يتركها، لا هو الذي أحياها، ولا هو الذي ترك غيره يُحييها؛ فهنا يتدخَّل الإمام ويأخذها منه، لكن التحديد، لا أعلم أن هناك تحديدًا.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما الفرق بين قولنا: يملكها، وقولنا: أحق بها؟
الشيخ: يملكها؛ تُصبح ملكًا له ويبيعها كسائر أملاكه، أما أحق بها فليس مالكًا لها، وإنما مجرد أنه أولى بها من غيره.
فعندما نقول: يملكها، يترتب على ذلك ما يترتب على المِلك من أحكام، كالأرض التي اشتراها تمامًا، أما إذا قلنا: أحق بها؛ فليست من جملة أملاكه، وإنما أولى بها من غيره.
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا يقول: هل يجوز التنازل بعوض عن وظيفة الإمامة أو الأذان أو غيرهما من الوظائف التي لا تتقيَّد بزمن محدَّد؟
الشيخ: الله أعلم.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: فضيلة الشيخ، لدى أمي بعض الودائع للناس، وهي تقوم بحفظها، فهل يجوز لها أن تأخذ منها شيئًا وتُنفقه ثم تردُّه فيما بعدُ؟
الشيخ: ليس لها ذلك، ما دام أنها وديعة ليس لها ذلك؛ ولذلك إذا أخذَت شيئًا على أن تردَّه أصبحت ضامنة بكُلِّ حالٍ، وارتفعت يدُها من كونها يَدَ أمانة إلى يَدٍ متعدِّية.
وهذا هو الذي ذكره الفقهاء: إذا أخذت الوديعة لتُنفقها؛ فأولًا تأثم بهذا الأخذ، ثانيًا يرتفع عنها وصفُ الأمانة وتُصبح ضامنة بكُلِّ حال.
مداخلة: …
الشيخ: إذا أذِن صاحب الوديعة فلا بأس، إذا أذِن فلا بأس؛ لأن الحق له، لكن إذا لم يأذن فالأصل ألا يتصرَّف فيها إلا بإذنه.
مداخلة: …
الشيخ: إذا حلَّلَتها خلاص، أسقَطَت حقَّها فليس عليها إثم.
مداخلة: …
الشيخ: الضمان، الأصل أنها ضامنة، لكن إذا رضي صاحب الحق بإسقاط الضمان؛ فالحق له.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا يقول: كيف يُعوَّض الذي وَجَد بئر نفط في الأرض التي أحياها، مع أنه لا يدري كمية النفط التي فيه؟
الشيخ: نعم، نحن قلنا: إن النفط ونحوه لا يُملك بالإحياء، ومثل هذا يُشبه الماء والكلأ والنار، الناس شركاء فيه؛ ولذلك يرجع لبيت مال المسلمين، أما هو فتُقدَّر قيمته، والتعويض ممكن، يعني يمكن من أهل الاختصاص والخبرة، يُقدَّر ذلك ويُعوَّض، وهذا هو الذي عليه العمل.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا يسأل يقول: هل مِن الآثار المترتبة على الاختلاف في اسم الذبيح، هل هو إسحاق أو إسماعيل ؟
الشيخ: نعم، هم اليهود يقولون: إنه من بني إسرائيل، إنه أبو الإسرائيليين، فهم يفتخرون بذلك، ونعرف أن محمدًا عليه الصلاة والسلام هو مِن نَسْلِ إسماعيل فقط، يعني مجرد هذا.
ثم أيضًا الحقيقة علمية، لماذا تُحرَّف الأمور ويقال: إنه إسحاق وهو ليس بإسحاق ، هو إسماعيل .
والعجب من بعض المفسرين الذين ذكروا أنه إسحاق ، كابن جرير الطبري! مع أن الآية صريحة، أن الله تعالى لما ذكره قال بعد ذلك: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112].
ثم أيضًا الله تعالى قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، يعقوب هو ابن إسحاق ، لو كان الذبيح إسحاقَ لما توجَّه الأمر بذبحه، كيف يُؤمر بذبحه والله تعالى أخبر بأنه سيُولد له ولد؟! فإذن؛ هو إسماعيل وليس إسحاق .
هذه فقط الآثار التي تترتب على هذا الاختلاف.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا يقول: هل لي أن أفتح الوديعة وأنظر ما بداخلها؟
الشيخ: كما قال المؤلف، إذا فتحها ونظر ما بداخلها ارتفعَ عنه وصفُ الأمانة، وأصبح ضامنًا لها بكلِّ حالٍ، إلا إذا كان ذلك بحضرة المودِع أو بإذنه؛ فلا بأس.
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا يسأل عن الحكم بقبول الوديعة مقابل عوض؟
الشيخ: الوديعة بعوض، هذه ليست وديعة، وإنما تنتقل إلى عقد آخر، مَن يذكر لنا هذا العقد؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، وكالة بأجرة، هذه تُعتبر وكالة بأجرة، تُوكِّله في حِفظ هذا المال بأجرة، إذا كانت بعوض فتُصبح وكالة بأجرة. وهذا ما تفعله بعض البنوك في حفظ -مثلًا- السبائك الذهبية، بعض البنوك عندهم مكان لحفظ السبائك الذهبية، يحفظونها لك بأجرة، هذا ليس وديعة، وإنما هو وكالة بأجرة.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا يسأل عن حكم عيد الميلاد؟
الشيخ: الاحتفال بعيد الميلاد بدعة؛ وذلك لأنه يتضمَّن تعظيمًا لزمنٍ، والتعظيم للزمنِ والاحتفال به إنما يكون لما ورد به الشارع، وهما: عيد الفطر وعيد الأضحى فقط، عيد الفطر وعيد الأضحى هذا هو الذي ورد الشارع بأنهما عيدان للمسلمين، وعيد الأسبوع هو الجمعة.
لكن، جَعْلُ عيدٍ غير هذا، هذا من البدع المحدَثة، سواءٌ كان عيدًا للإنسان أو عيدًا أو احتفالًا بمولد النبي ، أو احتفالًا بالمناسبات الإسلامية عمومًا كالإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، ورأس السنة الهجرية.
كل ذلك من البدع المحدَثة؛ ولذلك ما نشأت هذه إلا متأخِّرة، ما كانت هذه أصلًا معروفة في صدر الإسلام.
فمثلًا؛ الاحتفال بالمولد النبوي، قيل: إن أول مَن أحدَثه الفاطميون، الذين يُسمُّون أنفسهم “الفاطميين”، هم العُبَيْدِيون الفرقة الباطنية الخبيثة، هم أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي، وقلَّد المسلمون في ذلك الكفار، وصدق عليه الصلاة والسلام: لتتَّبعنَّ سَننَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه[17].
والعجب من بعض الإخوة الذين يقولون: إن الاحتفال بالمولد من قَبِيل العادات، وليس فيه شيء! هذا غير صحيح، هو فيه تعظيم لزمنٍ؛ ولذلك يُقيَّد بتاريخ معين، إذا كان من قِبَل العادات لا تجعله في تاريخ معين، كونك تجعل هذا التاريخ من كلِّ عامٍ؛ فذلك أنك جعلته عيدًا، هذا معنى العيد، وإلا ما معنى العيد؟!
العيد معناه مأخوذٌ من العَوْد، اسمٌ لما يعود ويتكرَّر، فأنت عندما تُحدِّد زمنًا معينًا تُعظِّمه وتحتفل فيه، هذا معنى العيد، هذا لا يجوز إلا فيما ورد به الشرع. ولذلك؛ فإن هذا كله من البدع المُحدَثة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ[18].
مداخلة: …
الشيخ: التهنئة بماذا؟
مداخلة: باليوم؟
الشيخ: لا، كذلك التهنئة، هذا من باب المشاركة في هذه البدعة، ينبغي إنكاره، كأن هذا نوعٌ من الإقرار، التهنئة نوع من الإقرار لهذا المنكر.
مداخلة: …
الشيخ: لا، التهنئة بالعام الهجري تختلف، التهنئة بالعام الهجري، إن هنَّأَه مثلًا بأن الله تعالى أمدَّ في عمره إلى هذا الشيء، هذا يدخل من قَبِيل العادات، لو قال: كل عام أنتم بخير، هذا منقول عن السلف أنهم لا يبتدئونه، لكن ترُدُّ التحية عندما يُهنِّئك أحدٌ ببداية العام الهجري مثلًا.
لكن، عيد الميلاد أصلًا هو بدعة، وبدعة منكرة؛ ولذلك فالتهنئة به نوعٌ من الإقرار لهذا المنكر.
مداخلة: …
الشيخ: هذا غير صحيح، العيد اسم من العَوْد كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في “اقتضاء الصراط المستقيم”، اسمٌ لما يعود ويتكرَّر كلَّ عام، ويُقصد منه تعظيم ذلك الزمن واحترام ذلك الزمن، ويحصل فيه نوع من الاحتفاء.
ولذلك مثلًا؛ عيد الفطر أو عيد الأضحى، ما هي الشعائر التي فيه؟ لو لم يُصَلِّ صلاة العيد مثلًا، أو لو لم تُقَمْ صلاة العيد في بلد، هل نقول ما يوجد عيد؟ لا، المقصود هو هذا الزمن المعيَّن، يحصل به نوعٌ من الاحتفاء، ويتكرَّر ذلك كل عام، ويُعظَّم هذا الزمن. هذا معنى كونه عيد.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا يقول: أخذنا في الدرس الماضي مِن شروطِ الشُّفْعَةِ سَبْقُ مِلْكِ الشفيع للعقار، فلا شُفْعَة لأحد اثنين اشتريا عَقَارًا معًا، ويسأل عن معنى هذا الشرط؟
الشيخ: نعم، يعني لو أن اثنين اشتريا في نفس الوقت قطعة أرض، أحدهما له النصف، والآخر له النصف الآخر، فلا يشفع أحدهما على الآخر، وإنما لا بد أن يكون أحدهما سابقًا، لا بد من السَّبْقِ.
فمثلًا: لو اشتريا قطعة الأرض هذه، هذا له نصفها وهذا نصفها، ثم إن أحدهما أراد أن يبيع، فهنا لصاحبه أن يشفع، أما أن يشفع هو على صاحبه ابتداءً وقد اشتريا في نفس الوقت فهذا لا يكون، فلا بد من السَّبْقِ، لا بد من سَبْقِ الملك لأحدهما.
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ. هذا يسأل عن حكم الإقسام على الله ؟
الشيخ: الإقسام على الله على قِسْمين أو على نوعين:
- إن كان الباعث لذلك العُجب والفخر ونحو ذلك؛ فهذا لا يجوز.
- أما إذا كان الباعث لذلك الثقة بالله وأنه على يقين وعلى ثقة بالله سبحانه بأن الله سيُحقِّق هذا الأمر؛ فهذا لا بأس به.
ويُعرف ذلك بألا يقصد الإنسان هذا الشيء ويفتخر به ويتحدث به، وإنما يأتي تلقائيًّا؛ كما حصل في قصة الرُّبَيِّعِ لما كَسَرت سِنَّ جارية، فأمر النبي بالقصاص، فقال أخوها: والله ما تُكسَر سِنُّ الرُّبَيِّعِ. فحلف بالله، فقال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! كتاب الله القصاص. قال: والله ما تُكسَر سِنُّها. فعفا أهل الجارية، فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ مِن عبادِ الله مَن لو أقسمَ على الله لأَبَرَّهُ[19].
فهذا إذا قاله ثقة بالله، يقول: والله ما يحصل هذا الأمر. مثلًا، ثقة بالله أنه ما يحصل؛ فهذا لا بأس به، لكن إذا كان يقول ذلك على سبيل الفخر والعُجب؛ هذا هو الذي لا يجوز.
السؤال: السؤال الأخير أحسن الله إليكم. هل تجوز الصلاة بين الظل والشمس؟ ولو كنتُ مأمومًا في الصف، هل أقطع الصلاة وأتجه لمكان آخر؟
الشيخ: هذا رُوي فيه حديثٌ عن النبي [20]، لكنه ضعيف لا يصح؛ ولذلك لا حرج في ذلك؛ لأن مثل هذه الأمور لا تثبُت إلا بالأحاديث الصحيحة، ولم يثبت الحديث المروي في النهي عن ذلك.
السؤال: …
الشيخ: إذا عرفتَ بأنها لفلان؛ يعني مثلًا: في حقيبته الخاصة به، ووجدت مثلًا مكتوبًا بخط كمبيوتر أو بخط يده، هنا تُعتبر، لكن لو وجدتَ ورقة ملقاة، وقيل: إن فلانًا الذي كتبها، فلا تُعتبر؛ ما ندري هل هو الذي كتبها إلا إذا عرفنا خطه، أو مثلًا وجدتَ قرينة تدل على أنه كتبها؛ كأن توجد في حقيبته الخاصة به، بحيث لا يفتحها إلا هو، فهنا تُعتبر، هنا قرائن معتبَرة.
السؤال: …
الشيخ: هذا الذي يظهر أنه يجري عليه حكم الوديعة، وديعة قد أَذِن له في التصرُّف فيها؛ ولذلك هو الأصل أنه يحفظها بعينها، وأَذِن له عند الاحتياج إليها أن يأخذ منها، فهي وديعة مأذونٌ له في التصرُّف فيها.
مداخلة: …
الشيخ: هو لا يضمن، ما دام أن صاحبها قد أَذِن فلا يضمن.
السؤال: …
الشيخ: هو على كلِّ حالٍ محل خلاف في معناه؛ هل هو القار المعروف الآن فيكون نوعًا من النفط، أو أنه الفحم، أو أنه غير ذلك؟ هناك عدة أقوال.
أما القار الآن في عرفنا ومصطلحنا فمعروف، وهو الأسفلت، لكن في كلام المؤلف: ماذا يقصد به؟ هل يقصد به الفحم، أو يقصد به نوعًا من المعادن؟ الله أعلم، هذا محتمل، فيه عدة أقوال، ولا يُهمنا كثيرًا مثل بحث من هذا.
طيب، لعله يكون السؤال الأخير.
مداخلة: …
الشيخ: أولًا لماذا يحتفل أصلًا؟ لماذا مثل هذه الاحتفالات؟ هذه -الحقيقة- نوع من الانهزامية، ونوع من التقاليد، أن يُقلِّد الإنسانُ غيرَه تقليدًا أجوف ليس له معنى، إذا أراد أن يُكرِم أهله أو أولاده يكون بغير ربطها بمثل هذه المناسبات.
ولذلك أولًا على سبيل النصيحة نقول: إنه لا يفعل هذا، لكن لو لم يُحدِّد يومًا معينًا، فالأصل في هذا أنه لا بأس به، إذا لم يُحدِّد يومًا معينًا؛ لأن الإشكال هو في تعظيم الزمن، الإشكال في تعظيم زمنٍ يتكرَّر كل سنة، هذا الذي يجعله كونه عيدًا، لكن لو لم يقصد تعظيم الزمن، وإنما قصد إكرامًا مثلًا لهذا الولد، يُكرمه كل سنة مثلًا؛ فهذا لا بأس به.
ولذلك مثلًا حلقات تحفيظ القرآن الكريم تُكرِّم الحفظة في وقت سنوي، لكنهم لا يتقيَّدون بزمن معين، لا يُعظِّمون زمنًا معينًا، تارة يتقدم وتارة يتأخر؛ فهذا لا بأس به.
لذلك مثلًا بعض الصوفية قالوا: أنتم تُنكرون علينا الاحتفال بالمولد النبوي، وأنتم عندكم حلقات التحفيظ وكذلك تحتفلون بتكريم الطلاب ونحو ذلك؟ نقول: هذا يختلف، في المولد النبوي يقصدون تعظيم زمنٍ معينٍ، أما مثلًا حفل التحفيظ لا يقصدون تعظيم زمنٍ معينٍ، لا يتقيَّدون بزمن معين، لكن يقصدون مثلًا عند نهاية هذا العام الجامعي أو العام الدراسي أو الفصل الدراسي، يُكرمون هؤلاء الطلبة من غير تعظيم لزمنٍ معينٍ، فيكون هذا لا بأس به.
مسألة تعظيم الزمن هذه ينبغي أن تُلاحظ في مثل هذه المسائل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2699. |
---|---|
^2 | رواه البيهقي في “الكبرى”: 12697. |
^3 | رواه ابن ماجه: 2401. |
^4 | رواه الدارقطني: 2961. |
^5 | رواه أحمد: 14271، والترمذي: 1379. |
^6 | رواه أبو داود: 3073، والترمذي: 1378. |
^7 | رواه البيهقي في “الكبرى”: 5727. |
^8 | رواه البخاري: 2335. |
^9, ^10, ^15 | سبق تخريجه. |
^11 | رواه أحمد: 23082، وأبو داود: 3477. |
^12 | رواه أبو داود: 3071. |
^13 | رواه أحمد: 20130، وأبو داود: 3077. |
^14 | رواه البخاري: 2298، ومسلم: 1619. |
^16 | رواه البخاري: 33، ومسلم: 59. |
^17 | رواه البخاري: 3456، ومسلم: 2669. |
^18 | رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718. |
^19 | رواه البخاري: 4500، ومسلم: 1675. |
^20 | رواه أحمد: 8976، وأبو داود: 4821. |