عناصر المادة
كتاب العاريَّة
ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى (كتاب العاريَّة)، نبدأ أولًا بالتعريف.
العارية في اللغة بتشديد الياء، يقال: عاريَّة، وقد تخفف فيقال: عارِيَة، والتشديد أشهر وأفصح. وهي مأخوذة من عَارَ الشيءُ إذا ذهب وجاء؛ وسُمِّيت العاريَّة بذلك لأنها تذهب للمستعير ثم ترجع للمُعِير. ومنه قيل للبطَّال: عيَّار؛ لتردُّده في بطالته، فكلمة “عيَّار” فصيحة، تُستخدم عند العامة، وهي فصيحة.
وقيل: إنها مأخوذة من العُرْي: وهو التجرُّد؛ وسُمِّيت بذلك لتجرُّدها عن العوض. وقال الجوهري صاحب “الصحاح”: هي مشتقة من العار؛ لأن طلبها عارٌ وعيب.
ولكن هذا محل نظر؛ لأن النبي فعلها[1]، ولو كان طلب الاستعارة عارًا وعيبًا؛ لكان النبي أبعدَ الناس عنه.
لكن ذكر هذا الجوهري في كتاب “الصحاح”، والجوهري له هذا الكتاب المشهور، وهو متقدِّم من أهل اللغة المتقدمين، ويُقال: إنه لما صنَّف كتاب “الصحاح”، واحتفى به الناس احتفاءً كبيرًا، قال: إني ألَّفت كتابًا لم يُؤلِّف أحدٌ مثله، وسأصنع عملًا لم يصنع أحد قبلي مثله. فحاول الطيران، ووضع له أجنحة كي يطير، ويظهر أنه في البداية نجح، لكن لما دعا الناس عند مكان مرتفع، يبدو أنه اختلَّ عنده شيء فسقط ومات. هذا هو الجوهري صاحب “الصحاح”.
بكُلِّ حالٍ، قوله: إنها مشتقة من العار؛ لا نُسلِّم بهذا، وقلنا: إن هذا محل نظر؛ لأنها لو كان طَلَبُها عارًا لكان النبي عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عنها.
أما تعريفها اصطلاحًا، فأحسن ما قيل: إباحةُ نفعِ عَيْنِ يَحِلُّ الانتفاع بها مع بقاء عَيْنها.
فالمُعِير يأذنُ للمستعير في أن ينتفع بمنفعة هذه العين، مع بقاء هذه العين.
والفرق بينها وبين الإجارة: المستأجر يملك المنفعة، لكن المستعير هل يملك المنفعة؟ لا، يملكها، ولكنه مأذونٌ له بالتصرف فيها فقط، هذا هو الفرق بينهما.
حكم العارية
وقد أجمع المسلمون على جواز العاريَّة؛ قال:
قال المؤلف: (وهي مستحبة) هي بالنسبة للمُعير مستحبة في قول جمهور أهل العلم؛ وذلك لأنها من الإحسان، وقد قال الله تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، تدخل هي في جملة الإحسان.
وهذه يا إخوة –إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ– تكرَّرت في القرآن أربع أو خمس مرات؛ وهذا يدل على عظيم قَدْر الإحسان، وأن المسلم إذا اتَّصف بصفة الإحسان فيكون هذا سببًا لنيل محبة الله : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، تكررت في القرآن أربع أو خمس مرات. فهي إذن داخلة في الإحسان.
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب العاريَّة مع غَناء المالك وحاجة المستعير، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ واستدلوا بقول الله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7]، وقد فُسِّر منع الماعون بمنع الزكاة، وفُسِّر بمنع العاريَّة، والصحيح أنه يشمل الأمرين جميعًا؛ كما رجح ذلك الحافظ ابن كثير في “تفسيره”، فهو يشمل منع الزكاة ويشمل منع العاريَّة.
واستدلوا -أيضًا- بما جاء في “صحيح مسلم” عن جابر رضي الله عنهما: أن النبي قال: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يُؤدِّي حقَّها، إلا أُقْعِدَ لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقَرٍ يعني: مستوٍ واسعٍ تطؤه ذات الظِّلْفِ بظِلْفِها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جَمَّاءُ ولا مكسورة القرن. قلنا: يا رسول الله -وهذا موضع الشاهد- قلنا: يا رسول الله، وما حقُّها؟ قال : إطراقُ فَحْلِها، وإعارة دلوها، ومَنِيحَتُها يومَ وِرْدها[2].
وهذا الحديث ظاهر في إثبات الوعيد في حقِّ مَن منع العاريَّة، لاحِظ: أول الحديث وعيد شديد: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يُؤدِّي منها حقَّها، إلا أُقعِدَ لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقَرٍ، فتطؤه ذات الظِّلْفِ بظِلْفِها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ثم فسَّر المقصود بحقها؛ قال: إطراق فحلها، وإعارة دَلْوها.
فهنا وَرَد وعيد شديد على منع العاريَّة، والوعيد لا يكون على تركِ مستحبٍّ، وإنما يكون على ترك واجب. وهذا هو القول الراجح والله أعلم: أن العارية تجب مع غَناء المالك وحاجة المستعير.
يعني: لو أردنا أن نوضح هذا بمثال؛ مثلًا: لو افترضنا عندك سيارة، جارك اضطر لتوصيل أحد أبنائه أو أهله للمستشفى، مضطر، ضرورة، ما عنده سيارة، فطرق عليك الباب، وقال: أنا أريد أن أستعير منك هذه السيارة، وأنت مستغنٍ عنها، لن تحتاجها الآن، أو عندك أكثر من سيارة، وجارك ما عنده شيء، وهو الآن مضطر.
هنا، يجب عليك أن تُعطيه سيارتك، وإلا فإنك تأثم، على القول الراجح تأثم، مع غَناء المالك وحاجة المستعير. هذا هو القول الراجح، وهو الذي يدل له ظاهر الأدلة: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7]، وحديث جابر رضي الله عنهما صريح، وهو في “صحيح مسلم”[3]، صريح في وجوب العاريَّة مع غَناء المالك وحاجة المستعير.
بم تنعقد العارية؟
نعود لعبارة المؤلف، قال:
سبق أن نقلنا عن أبي العباس ابن تيمية رحمه الله في أول (كتاب المعاملات): أن القول الصحيح: أن العقود تنعقد بكُلِّ ما دَلَّ عليها من قول أو فعل. العقود كلها تنعقد بكُلِّ ما دَلَّ عليها من قول أو فعل، ومن ذلك العاريَّة، كأن يقول: أعرتُك هذه السيارة، أو يقول: ارْكَبْها، أو اشتغِل عليها، أو اذهَبْ بها إلى حاجتك، أو نحو ذلك.
شروط صحة العارية
قال:
ذكر المؤلف شروط صحتها.
يعني: مع بقاء عينها، فإن كانت العين لا يُنتفع بها إلا بإتلافها، هل هذه عاريَّة؟ ماذا تُسمَّى هذه؟ هِبَة أو صدقة، والصدقة أقرب.
فإذا كنا -مثلًا- نُعطيه الطعام، ويأكل هذا الطعام، ما نقول: أن هذا عاريَّة. هذا يُعتبر صدقة، أو هِبَة، إذا كانت -مثلًا- على إنسان غني.
الشرط الثاني:
لأن الإعارة لا تُبيح له إلا ما أباحه الشرع، فلا تصح الإعارة لغناء ونحو ذلك.
لا تلازم بين عدم جواز البيع وبين الإعارة، فقد تجوز الإعارة مع عدم جواز البيع.
ومن أمثلة ذلك: الكلب، الكلب لا يجوز بيعه وتصح إعارته، كلب الصيد أو الحرث أو الماشية تجوز إعارته، مع أنه لا يجوز بيعه في قول جمهور أهل العلم.
وكذلك أيضًا: الفحل للضِّرَاب؛ يجوز إعارته ولا يجوز أخذ عوض عليه.
قال المؤلف:
لأنها نوعُ تبرُّعٍ، فهي إباحة منفعة، وهذا نوعُ تبرُّعٍ، فلا بد أن يكون المُعير أهلًا للتبرع، بأن يكون حُرًّا عاقلًا بالغًا رشيدًا.
قال:
وذلك لأن المنافع المستقبلية لم تحصل في يَدِ المستعير، فجاز له الرجوع قياسًا على ماذا؟ لأن المنافع المستقبلية لم تحصل في يَدِ المستعير؛ فجاز له الرجوع؛ قياسًا؟ مَن يذكر؟
مداخلة: …
الشيخ: أحسنت.
على الهِبَة قبل القبض؛ قياسًا على الهِبَة قبل القبض. الهبة قبل القبض، هل يجوز لك أن ترجع فيها؟ يجوز، لو وهبت لإنسان هِبَة، قلت: وهبتُكَ مثلًا عشرة آلاف ريال، ولم يقبضها؛ فيجوز لك أن ترجع فيها، لكن إذا قبضها لا يجوز.
فالعاريَّة هنا، للمُعير الرجوع في عارِيَّتِه في أيِّ وقتٍ؛ لأن المنافع المستقبلية لم تُقبض، لم تحصل في يَدِ المستعير، فهي أشبه بالهِبَة قبل القبض.
لكن المؤلف استثنى من هذا مسألة، قال:
لقول النبي : لا ضَرَر ولا ضِرَار[4]، فلو أنه أعاره سيارته ليذهب بها مثلًا إلى مكة ثم يرجع، ولما ذهب بها إلى مكة قال: والله أنا رجعتُ في العاريَّة. هذا يلحقه الضرر.
فإذن؛ لا بد أن يُقيَّد ذلك بما إذا لم يضرَّ ذلك بالمستعير؛ لعموم حديث: لا ضَرَر ولا ضِرَار.
المؤلف ذكر أمثلة لحصول الضرر، ذكر ثلاثة أمثلة، قال:
يعني: مَن أعار سفينة للحمل.
وبالنسبة لإعارة الأرض للدفن؛ حتى:
وإعارة الأرض للزرع حتى:
وذلك لأنه يلحق المستعيرَ الضررُ في حال الرجوع، ويكون للمالك أجرة المِثل من حين رجوعه إلى حصاد الزرع، في مسألة الحصاد.
قال:
يعني: في مسألة الزرع، يكون للمالك أجرة المِثل من رجوعه إلى الحصاد، فاستثنوا هذه المسألة.
المستعير في استيفاء المنفعة كالمستأجر
ثم قال المؤلف:
والمستعيرُ -في استيفاء النفعِ- كالمستأجِر.
وسبق أن ذُكر الفرق بين الإجارة وبين العارية، وأن المستأجر يملك المنفعة، بينما المستعير مأذونٌ له في المنفعة.
فإذن، المستعير في استيفاء المنفعة كالمستأجِر، فله أن ينتفع بنفسه وبمن يقوم مقامه؛ لملكه التصرف فيها بإذنِ مالكها.
يعني: المستعير.
وذلك لعدم ملكه المنافع، بخلاف المستأجر؛ مَن استأجر منك بيتًا، هل يجوز له أن يُؤجر هذا البيت أو لا؟ مرَّت معنا هذه المسألة في (كتاب الإجارة)، إنسان استأجر منك بيتًا، هل يجوز له أن يُؤجِّره؟
نعم، يجوز أن يُؤجِّر لمَن هو مثله أو أقل منه في الضرر، لكن المُستعير ليس له أن يُعِير وليس له أن يُؤجِّر إلا بإذن المالك.
لماذا فرَّقنا بينهما؟ لأن المستأجِر يملك المنفعة ويتصرَّف فيها، هي مِلْكُه، منفعة هذه الدار ملكٌ له، هو حُرٌّ فيها، يستوفي المنفعة بنفسه أو يستوفي المنفعة بغيره، بينما المستعير لا يملك المنفعة، وإنما هو مأذون فقط له بالتصرف فيها، فلا بد من الرجوع حينئذ إلى المالك إذا أراد أن يُعِير أو أراد أن يُؤجِّر.
فإن أعار المستعير بدون إذنِ المالك فتَلِفَت؛ فللمالك مطالبة أيهما شاء، يعني: المستعير أو المستعير منه، ويستقر الضمان على الثاني؛ لأنه قبضه على أنه ضامن.
ضمان العارية
قال:
هذا يقود إلى مسألة، وهي ضمان العاريَّة، العاريَّة أمانة في يَدِ صاحبها، يجب عليه المحافظة عليها ليَرُدَّها سليمة؛ لقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فأمر الله تعالى بِرَدِّ الأمانات، ومنها: العاريَّة.
فإذا تلفت العاريَّة بتَعَدٍّ أو تفريط من المستعير؛ فيضمنها بإجماع العلماء. أما إذا تلفت العاريَّة من غير تَعَدٍّ ولا تفريط من المستعير، هل يضمنها أو لا؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فالمذهب عند الحنابلة أنها مضمونة على المستعير، إلا في أربع مسائل؛ ولهذا قال المؤلف:
“المِثْلِي” وسيأتينا أيضًا في (الغَصْبِ)، المِثْلِي عند الحنابلة، يقولون: هو كُلُّ مكيل أو موزون يصح فيه السَّلَم، وليس فيه صناعة مباحة. هذا تعريف المِثِلي عند الحنابلة.
المثلي: هو كُلُّ مكيل أو موزون يصح فيه السَّلَم، وليس فيه صناعة مباحة.
إذن؛ نطاقه ضيق: كُلُّ مكيل أو موزون يصح فيه السَّلَم، وليس فيه صناعة مباحة؛ فمعنى ذلك: أن نطاق المِثْلِي عندهم ضيق جدًّا.
والقول الراجح كما رجح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأكثر المحققين من أهل العلم: أن المِثْلِيَّ: ما له مِثْلٌ أو شبيه، سواءٌ كان مكيلًا أو موزونًا، مصنوعًا أو غير مصنوع، كُلُّ ما كان له مثيل أو شبيه فهو مِثْلِي.
ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ[5]، لمَّا كان النبي عليه الصلاة والسلام في بيت عائشة رضي الله عنها، فأهدت إحدى نسائه رضي الله عنهن للنبي عليه الصلاة والسلام طعامًا، فأخذت عائشةَ رضي الله عنها الغَيْرَةُ؛ كيف تُهدي للنبي عليه الصلاة والسلام طعامًا وهو في بيتِها واليومُ يومُها! فأخذت الطعام من الغلام ورمته في الأرض وكسرت الإناء. انظر الغَيْرة الشديدة كيف تفعل بالنساء!
النبي عليه الصلاة والسلام قال: طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ، غارت أمكم، قال: غارت أمكم، طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ[6].
انظر لحسن خُلُقه عليه الصلاة والسلام، تعامل مع الموقف بحكمة وبرفق ولِين؛ لأنه قدَّر أيضًا مشاعر هذه المرأة لما غارت غَيْرةً شديدة؛ لأن الإنسان عند الغَيْرة الشديدة كالغضبان غضبًا شديدًا، يتصرَّف تصرُّفات يندم عليها فيما بعد.
فقوله : طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ يدل على أن المِثْلِيَّ لا يختص بالمكيل والموزون، الصحيح: أن المِثْلِي كُلُّ ما له مِثْلٌ أو شبيه؛ قال: (فهي مضمونةٌ عليه بمِثلِ مِثِليٍّ، وقِيمة مُتقَوَّمٍ يوم تَلَفٍ، فرَّطَ أو لا).
متى تكون العارية غير مضمونة؟
وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أنها مضمونة مطلقًا إلا في أربع مسائل؛ قال:
المسألة الأولى:
فيقول: هذه، لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط، لماذا؟ قالوا: لأنه يُعتبر من جملة المستحقين لهذا الوَقْف.
المسألة الثانية:
فلا ضمان؛ لماذا؟ لقيام المستأجِر مقامَه في استيفاء المنفعة، فحكمُهُ حكمُهُ في عدم الضمان، كما أن المستأجر لا يضمن فكذلك أيضًا المستعير لا يضمن، المستعير من المستأجر لا يضمن.
المسألة الثالثة، قال:
أو بَلِيتْ فيما أُعِيرَت له.
لأن الإذن في الاستعمال تضمَّن الإذنَ في الإتلاف.
المسألة الرابعة:
(أركَب دابَّتَهُ منقطعًا… فتلفت تحته)؛ لأنها بِيَد صاحبها فلا يضمن.
فإذن؛ المذهب عند الحنابلة: أن العاريَّة مضمونة، إلا في هذه الأربع المسائل.
والقول الثاني في المسألة: أنها مضمونة مطلقًا، وهذا هو مذهب الشافعية.
والقول الثالث: أنها لا تُضمن إلا بالتعدِّي أو التفريط، أنها لا تُضمن؛ لأنها أمانة فلا تُضمن إلا بالتعدِّي أو التفريط. وهذا مذهب الحنفية، وهو قول عند المالكية.
فالمسألة إذن فيها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: القول الذي أقرَّه المؤلف: مضمونة إلا في أربع مسائل.
- القول الثاني: مضمونة مطلقًا، وهو مذهب الشافعية.
- القول الثالث: أنها لا تُضمن إلا بالتعدِّي أو التفريط، وهذا مذهب الحنفية، وقولٌ عند المالكية.
نأتي للأدلة، نأتي أولًا للأدلة، قبل ذِكر الراجح:
مَن قال بأنها مضمونة مطلقًا، وكذلك الحنابلة قالوا: مضمونة إلا في أربع مسائل؛ استدلوا بحديث صفوان بن أمية لما استعار النبي منه أدْرُعًا يوم حُنَين، فقال : أغصْبًا يا محمد؟ قال : لا، بل عارِيَّةٌ مضمونة[7].
وصفوان هو ممن تألَّفهم النبي عليه الصلاة والسلام بالمال، هناك مُسْلِمَةُ الفتح، ومَن أسلَم بعدهم تألَّفهم النبي عليه الصلاة والسلام بغنائم حُنَين وأعطاهم غنائم عظيمة، وصفوان قال: ما زال النبي عليه الصلاة والسلام يُعطيني ثم يُعطيني ثم يُعطيني، حتى شرح الله صدري للإسلام.
ولاحِظ أن المال له أَثَرٌ في الحب والكره، وفي قَلْبِ المشاعر، المال له وَقْعٌ؛ ولذلك جعل الله تعالى في الزكاة صِنْفًا من الأصناف الثمانية: (المُؤلَّفة قلوبهم)، كما يقال في المَثَل: “الفلوس تُغَيِّر النفوس”. المال له أثر، يُؤثِّر يا إخوان، المال يُؤثِّر؛ ولذلك تُشرى به الذِّمم، تُشرى به ذِمَمُ بعض الناس.
فالنبي عليه الصلاة والسلام استخدم هذا الأسلوب مع بعض الناس، ومنهم كان صفوان ، حتى أسلم وشرح الله صدره للإسلام، لكن قبل ذلك، قبل أن يُسلِم، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يستعير منه أدْرعًا، قال: أغصْبًا يا محمد؟ قال : لا، ولكن عاريَّةٌ مضمونة.
وهذا الحديث من جهة الإسناد حديث صحيح، فجعلوا قوله : عارية مضمونة صفةً كاشفةً لحقيقةِ العاريَّة؛ قالوا: كأن النبي يقول: بل عاريَّة، ومن شأن العاريَّة الضمان. هذا معنى “كاشفةٌ”، بل عاريَّة، ومن شأن العاريَّةِ الضمانُ.
واستدلوا أيضًا بحديث سَمُرة : على اليد ما أخذتْ حتى تُؤدِّيَه. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد[8]، وفي سنده مقال فيه ضعف.
أما أصحاب القول الثالث، الذين قالوا بعدم الضمان؛ فاستدلوا بحديث صفوان نفسه، قالوا: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام: بل عارِيَّة مضمونة ليست صفةً كاشفةً، بل صفةٌ مقيِّدة، يعني: أستعيرُ منك هذه العاريَّة متَّصِفةً بكونها مضمونة. وإلا، فالأصل أن العارِيَّة غير مضمونة.
لاحِظ أن الدليل واحد، استدل به الفريقان، هذا من أسباب اختلاف العلماء، مختلفون في فهم دلالات الحديث، فجعلوا إذن قوله : مضمونة صفة مقيِّدة، وليست صفة كاشفة.
وأيضًا؛ استدلوا بقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، مع حديث: على اليد ما أخذتْ حتى تُؤدِّيَه. قلنا: الحديث في سنده مقال، لكن قالوا: إن العاريَّة أمانة تُؤدَّى كسائر الأمانات، فلا تُضمن إلا بالتعدِّي أو التفريط.
والقول الراجح والله أعلم هو القول الثاني، وهو أن العارِيَّة لا تُضمن إلا بالتعدِّي أو التفريط؛ وذلك لدخولها في جملة الأمانات؛ ولأن أسباب الضمان: إما تَعَدٍّ، وإما تقصير عن الواجب، وإما تصرُّفٌ لم يُؤذَن له فيه وهذا غير وارد في العارِيَّة.
والقاعدة الشرعية: أن ما ترتَّب على المأذونِ فإنه غير مضمون.
فهذا المستعير قد أُذِنَ له في الانتفاع بهذه العارِيَّة، فالأصل أنها أمانة في يده. هذا هو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية: أنها أمانة في يده؛ لأنه أخذها من صاحبها بإذنه، فهي كالوديعة، وهي كالعين المؤجرة، وهي كسائر الأمانات، فما الذي يُخرجها عن ذلك؟
ومما يُؤيد هذا المعنى: أن الحنابلة لمَّا قالوا: إنها غير مضمونة، رجعوا واستثنوا مسائل، أربع مسائل، قالوا: إنها مضمونة فيها.
وسبق أن ذكرنا أن من علامات القول المرجوح: كثرة الاستثناءات الواردة عليه، وعدم اطِّرَادِه.
فالأقرب إذن للأصول والقواعد الشرعية: هو أن العارية أمانة كسائر الأمانات، وأنها لا تُضمن إلا بالتعدِّي أو التفريط، وليس هناك دليل ظاهر يدل على ضمان العارِيَّة بدون تَعَدٍّ ولا تفريط.
وحديث: “أغصْبًا يا محمد؟” أجبنا عنه وقلنا: هو دليل على أنها غير مضمونة، وليس دليلًا على أنها مضمونة، ومما يُؤيد هذا أن صفوانًا لم يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن تلفها، وإنما سأله: هل تأخذها أخْذَ غَصْبٍ أو أخْذَ رَدٍّ؟ فقال : بل عارِيَّة مضمونة؛ يعني: أؤدِّيها إليك وأردُّها لك، وأشترط على نفسي الضمان، أشترط على نفسي ضمانها.
فهذا إذن هو القول الراجح في المسألة.
إذن؛ خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن العلماء اختلفوا في ضمان العارية على ثلاثة أقوال:
- قول بأنها مضمونة مطلقًا.
- وقول بأنها مضمونة إلا في أربع مسائل.
- وقول بأنها غير مضمونة.
وهذا كله عند عدم التعدِّي أو التفريط. والراجح أنها غير مضمونة، وأنها أمانة كسائر الأمانات.
نود أن نأخذ أيضًا ما تيسَّر من (كتاب الغَصْب). قال:
(ومَن استعار ليرهَنَ) استعار عارية ليَرْهَنَها، فإن المُرْتَهِن -يعني: الذي تكون عنده العين المرهونة- أمينٌ، والذي يضمن عند التلف المُستعير، سواءٌ تَلِفَتْ تحت يده أو تحت يَدِ المرتهن.
يعني: لم يضمن في هذه الصورة، أضافوها كذلك في هذه الصورة فيما إذا سلَّم لشريكه الدابَّة ولم يستعملها، سلَّم له سيارة ولم يستعملها، أو استعمل هذه الدابَّة في مقابلة عَلَفها، فتلفت من غير تَعَدٍّ ولا تفريط؛ لم يضمن على القول الراجح. ولا نحتاج لهذه المسألة.
على القول الراجح نقول: العارية أصلًا غير مضمونة إلا بِتَعَدٍّ أو تفريط، ولا نحتاج لهذه التفريعات كلها على القول الراجح، لا الأربع المسائل التي ذكرها المؤلف، ولا هذه المسألة.
نقول: القول الصحيح أن العارية أمانة في يَدِ المستعير، فهي غير مضمونة إلا بالتعدِّي أو التفريط.
كتاب الغصب
ثم قال المؤلف رحمه الله:
الغصب لغة: أَخْذ الشيء ظلمًا. ومعناه اصطلاحًا: الاستيلاء على حق غيره قهرًا بغير حق.
وعرَّفه المؤلف تعريفًا قريبًا من هذا، قال:
ولا مُشاحة في الاصطلاح.
والغصب محرم بإجماع المسلمين؛ قال الله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، ولا شك أن الغصب من أعظم ما يكون به أكل المال بالباطل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا[9]، وقوله عليه الصلاة والسلام: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه[10].
وأيضًا في “صحيح مسلم” عن أبي أُمامة : أن النبي قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. قالوا: يا رسول الله، وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال : وإن كان قضيبًا من أَراك[11].
قوله : من اقتطع حقَّ امرئٍ مسلم بيمينه هذا يدل على أن هذا في مجلس القضاء؛ لأن الأَيْمَانَ تكون عند القاضي؛ يعني: خاصَمَ وحلفَ كاذبًا، وأخذ حقَّ غيره بدعوى كاذبة، هذا ذنبه عظيم، والغالب أن عقوبته مُعَجَّلة في الدنيا قبل الآخرة.
حدثني أحد القضاة يقول: إن رجلًا من رجال الأعمال، يقول: ادَّعى عليَّ رجل بدعوى، ولم يكن لهذا الرجل بيِّنة. ويظهر أنه صادق، لكن ليس عنده بيِّنة، وفي مبلغ كبير. يقول: فقلت: البيِّنة على المدِّعي، وليس عنده بيِّنة. فقلت: اليمين على من أنكر، فطلبتُ منه اليمين فحلف كاذبًا، فما هي إلا أيام ومات في حادث سيارة. يقول: وحصل لأخيه قضية مشابهة، فخاف ولم يحلف، اتَّعَظَ واعتبرَ بحال أخيه.
وهذا كثير لو تأملتم في هذا، القصص في هذا كثيرة ومتواترة، أن من يحلف كاذبًا تُعَجَّل له العقوبة غالبًا في الدنيا قبل الآخرة.
ولهذا؛ في حديث القَسَامة، حديث ابن عباس رضي الله عنهما، الذين حلفوا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فما مَرَّ عليهم الحَوْل وفيهم عين تَطْرِف[12]؛ لأنهم حلفوا كاذبين، ما مرَّت عليهم سنة وفيهم عين تَطْرِف، كُلُّهم هَلَكوا.
وهذا من أخطر ما يكون، أن الإنسان يحلف ويقتطع حقَّ أخيه المسلم بِيَمِينٍ فاجرة، هذا في الغالب أن عقوبته مُعَجَّلة في الدنيا قبل الآخرة، وقد يُؤَجِّل الله تعالى العقوبة، يعني: ليس بالضرورة التعجيل، قد يُؤَجِّل الله تعالى العقوبة في الآخرة لحكمة يُريدها الله .
حكم رد الغاصب ما غصبه
قال المؤلف رحمه الله:
يجب على الغاصب أن يَرُدَّ ما غَصَبَه على مَن غَصَبَه منه، وأن يردَّه عليه بنمائه، يعني: بزيادته المتصلة والمنفصلة، حتى ولو أدَّى ذلك إلى أن يَغْرَمَ على ردِّه أضعاف قيمته.
كما لو غصب حجرًا مثلًا وبنى عليه، واحتاج إلى أجرة لاستخراج هذا الحجر، أو نحو ذلك، واحتاجَ إلى ضعف قيمته؛ فيلزمه ذلك. المهم أنه يجب عليه أن يَرُدَّ ما غَصَبَه، ولا تَتِمُّ ولا تصح توبته إلا بذلك.
وسيأتينا أيضًا أنه يلزمه رَدُّ الأرش، ويلزمه أيضًا الأجرة، ستأتي في الفصل التالي.
قال:
وإن (سَمَرَ بالمسامير)؛ أي: المغصوبة.
يعني: قَلَع المسامير وردَّها إلى صاحبها.
إن زرع الأرض وحصد الزرع، فيُلْزَم الغاصب بالأجرة.
نفترض أن هذا الغاصب أراد أن يرُدَّها قبل حَصْدِ الزرع، فيقال:
نقول: أنت يا من غُصِب منه، غُصِبتْ منه هذه الأرض، الآن هذا الزرع موجود، فأنت مخيَّر بين أمرين: إما أن تتركه ولك الأجرة إلى أن يحصد هذا الغاصب زرعه، وإما أن تأخذه لكن نخصم عليك أو تدفع نفقته التي بذلها الغاصب.
قال:
يعني: كُلُّ الخسائر التي خسرها الغاصب، فنقول: أنت مخيَّر بين هذين الأمرين: إما أن تتركه ولك أجرة هذا الزرع، وإما أن تأخذ هذا الزرع، لكن يخصم عليك الخسائر التي تكبَّدها الغاصب.
قال:
وذلك لقول النبي كما في حديث رافع بن خَديج : مَن زَرَع في أرضِ قومٍ بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته[13].
الحديث مرة أخرى: مَن زَرَع في أرض قومٍ بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته. رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن غريب.
ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: ليسَ لعِرْقِ ظالمٍ حقٌّ. أخرجه أبو داود[14] وأخرجه البخاري لكن مُعلَّقًا بصيغة التمريض، وفي سنده مقال، هو والحديث الذي قبله، لكن يُقوِّي بعضها بعضًا.
فإذن؛ يُلْزَم بقَلْعِ الغرس، وكذلك هدم البناء.
يعني: حتى لو كان أحد الشريكين هو الذي غَرَسَ الغَرْسَ أو بنى بناءً، وفَعَلَه بغيرِ إذنِ شريكه، فيُلْزَم بقلع الغرس وإزالة البناء؛ لتَعَدِّيه.
فإن كان بطريق الخطأ؛ إنسان بنى في أرض غيره بطريق الخطأ، وهذا يحصل كثيرًا، فما الحكم؟ لمَّا قامت العمارة تبيَّن أنه قد أخطأ، وأن الأرض ليست له؟
مداخلة: …
الشيخ: لكن هل يُلْزَم مَن بنى بهدمها؟ لا يُلزَم مَن بنى بهدمها؛ لأن هذا ضرر، إضاعة للمال.
وقد حصلت قضية عند أحد القضاة، وطالب هذا بهدمها، قال: أنا أُريد أن تُرجعوا لي أرضي، هذه أرضي، وهذا صَكُّ الأرض، أرجعوها لي كما كانت، أنا أُريد أن تُهدَم هذه العمارة.
لكن، ما دام هذا بطريق الخطأ، وليس بطريق الغصب، وثبت بالأدلة والقرائن أنها بطريق الخطأ، فإنه لا يُلْزَم بهدمها، هذا لو كان غاصبًا صحيحٌ، أما إذا لم يكن غاصبًا فيُخيَّر، يقال: إما أن تأخذ هذه الأرض ببنائها بقيمتها، أو أن تُثَمَّن لك الأرض بقيمتها في السوق، تُعوَّض.
أما أن تُهدَم فهذا إضاعة للمال، ولا يُجاب إلى طلبه، أما لو كان غاصبًا فهذا صحيح، لو كان غاصبًا -إنسانًا غَصَبَ- فكلام الفقهاء أنه يُهدَم البناء ويُقلَع الغرس.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، هذا صحيح، هذا قد يَرِدُ، خاصة إذا كان البُنيان مثلًا مُكَلِّفًا، فالقول أيضًا بهدم البناء يَرِد عليه أن هذا فيه نوعُ إضاعةٍ للمال، فقد يُحتمل أن يقال: إنه يُعوَّض، يُقال: كما لو أخطأ في بناء الأرض.
ماذا يلزم الغاصب؟
قال:
وعلى الغَاصِب أَرْشُ نقص المغصُوب وأجرته مدة مُقَامِه بيده.
نحن قلنا: الغاصب يجب عليه رَدُّ العين المغصوبة. أولًا.
ثانيًا: عليه الأَرْشُ؛ أَرْشُ نقص المغصوب.
لو افترضنا أنه لمَّا زرع في هذه الأرض نَقَصت قيمتها، أو بنى فيها نَقَصَت قيمتها؛ فيلزمه الأَرْشُ، أرش النقص، ويلزمُهُ كذلك الأجرة إن كان لمثلِه أجرة، سواءٌ استوفى المنافع أو تركها. فلو أنه غصب بيتًا ولم يُؤجره فيُلْزَم بأجرته حتى لو لم يُؤجِّره.
فإذن؛ يلزَمُ الغاصبَ أمورٌ:
- الأمر الأول: أن يَرُدَّ العين المغصوبة.
- الأمر الثاني: أَرْشُ النقص، عند نقص قيمتها.
- الأمر الثالث: أجرة المثل، إذا كان مثلها يُؤجَّر.
فيلزمه هذه الأمور الثلاثة، وأيضًا عند الرَّدِّ يردُّها بنمائها المتصل والمنفصل.
وإذن؛ مرة أخرى: الغاصب يَرُدُّ العين المغصوبة بنمائها المتصل والمنفصل، وكذلك أيضًا لو نقصت قيمتها لَزِمَهُ أَرْشُ النقص، وكذلك إذا كانت العين المغصوبة مما يُؤجَّر؛ يلزمه أجرتها.
قال:
سبق أن تكلمنا عن المِثليِّ، وذكرنا تعريفه عند الحنابلة. مَن يُذكِّرنا بالتعريف عند الحنابلة؟ كُلُّ مكيلٍ أو موزونٍ يصح السَّلَم فيه، وليس فيه صناعة مباحة.
وقلنا: القول الراجح في المِثْلِيِّ: ما له مثيل أو شبيه. هذا القول الراجح.
حكم العين المغصوبة إذا تلفت
يقول:
إن تلفت العين المغصوبة فإنه يضمنها، يضمن المِثْلِيَّ بمثله، وعلى القول الراجح يعني: المثلي بابه واسع، وعلى المذهب ضيِّق، نطاقه ضيِّق.
وأما إذا لم يكن له مِثْلِيٌّ، يعني مثلًا نفترض أنها بضاعة، ثم نَفِدَت من السوق، وتعذَّر أن يوجد لها مِثْل، فهنا بقيمتها، يضمنها بقيمتها، بقيمتها يوم التلف في بلد الغصب.
قال:
هنا يتكلم المؤلف في الزمن السابق، فإلى وقت قريب كان الناس يتعاملون بالدنانير والدراهم، الدنانير من أيِّ شيء؟ من الذهب، والدراهم من الفضة، الأوراق النقدية ما أتت إلا متأخرة؛ يقول: (ويضمَنُ مُصَاغًا مباحًا من ذهب أو فضة، بالأكثر من قيمته أو وزنه).
فهذا المُصاغ المباح إذا كان مغصوبًا من الذهب أو الفضة، فننظر أيهما أكثر: قيمته أو وزنه، ويُقوَّم بغير جنسه؛ لئلا يؤدِّي إلى الربا. فإذا كان مصاغًا من الذهب، يُقوَّم مثلًا بالفضة بالدراهم من الفضة، وإذا كان من الفضة يُقوَّم بالدنانير من الذهب.
قال:
كما لو كانت أواني ذهبٍ أو فضة فتُقَوَّم بوزنها؛ لأن صناعتها مُحرَّمة، وحينئذ فليس لها قيمة معتبرة، فتكون بوزنها.
طبعًا هذا كما ذكرت بناءً على وجود الدراهم والدنانير، أما في وقتنا الحاضر فكما ذكرنا يُضمن المِثْلِيُّ بمِثْلِه إن كان له مِثْلٌ، فإن لم يكن له مِثْلٌ فبقيمته يوم التلف.
قال:
إذا لم يكن هناك بيِّنة، أما إذا كان هناك بيِّنة فالقول قول صاحب البيِّنة.
أما إذا لم يكن هناك بيِّنة فيُرَجَّح جانب الغاصب، يُقبل قوله في قدْره بيَمِينه؛ وذلك لأنه مُنكِر، والأصل براءة ذمَّته من الزائد؛ ولأنه غارم، والأصل أنه يُقبل قول الغارم بيَمِينه.
ضمان جناية المغصوب
قال:
أي: الغاصب.
يعني: جناية المغصوب.
كما لو كان المغصوب عبدًا وكان له جناية، جنى هذا العبدُ؛ فيَضمنُ جنايته، وكذلك إتلافَه، لو أتلف شيئًا يضمنه بالأقلِّ من الأَرْشِ، من أَرْشِ هذا العبد أو قيمته، هو الذي يتحمَّل الضمان، ضمان الجناية وضمان التلف؛ لأنه غاصب ومتَعَدٍّ.
قال:
في بعض النسخ: (حتى ولو لِمَالِكِه).
يعني: إنسان أتى بطعام مغصوب، وأطعم رجلًا فأكله، حتى وإن كان الذي أطعَمَه المطعومَ مالكًا له، ولم يعلم بأنه مغصوب؛ لم يَبْرأ الغاصب؛ لأن الظاهر أن الإنسان يتصرَّف فيما يملك، وقد أكله؛ فاستقر الضمان على الغاصب.
إن كان الآكِلُ يعلم بأن هذا المأكول مغصوب، فيستقر الضمان عليه؛ لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه.
حكم من اشترى أرضًا ثم تبين أنها مستحقة للغير
(اشترى أرضًا، فغرسَ أو بنى فيها)، ثم بعد ذلك تبيَّن أن هذه الأرض (مستحقَّة للغير)، فإذا قُلِع الغرس والبناء فإن هذا المشتري يرجع على البائع؛ لأن البائع قد غَرَّه؛ لأنه قد غَرَّه يرجع عليه بجميع ما غَرِمه من ثمنٍ أو أجرة ونحو ذلك؛ لأنه قد غَرَّه ببَيْعِه وأَوْهَمه بأنها ملكه.
مثال ذلك: اشترى إنسان أرضًا بصَكٍّ ثم بنى عليها، فلما بنى نزل في أول البناء، وأتى صاحب الأرض الحقيقي، وتبيَّن أن الصكَّ الثاني أنه مُزَوَّر مثلًا، وأتى وهدم البناء، فيرجع المشتري على مَن؟ على البائع؛ لأن البائع قد غَّره بهذا البيع؛ لأنه تبيَّن أنها مستحقة للغير.
إذن؛ القاعدة في الغصب: أن الغاصب يلزمه رَدُّ العين المغصوبة بنمائها، ويلزمه رَدُّ أَرْش قيمتها، ويلزمه رَدُّ أجرتها إن كان لها أجرة.
هذه خلاصة الكلام في هذه المسألة، وباقي ما ذكره المؤلف تفريعات على هذه القاعدة وبقية مسائل الغصب، نُكمل الحديث عنها إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
والآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم. هذا يقول: فضيلة الشيخ، تكرَّر كلام الناس حول استضافة قطر لكأس العالم، يقول: وتكاثرت التهاني والتبريكات، وبعضهم يقول: إن هذا نصر للمسلمين وللعرب، نرجو منكم التعليق، وجزاكم الله خيرًا.
الشيخ: هذا ليس له مجال في التعليق هنا، هذا ليس له مجال، على كل حال مثل هذه الأمور -أقول- من الأمور التي تخضع لاعتبارات معينة؛ ولذلك فالتعليق من الناحية الشرعية ليس له -الحقيقة- مجال.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما معنى حديث: ليس لعِرْق ظالم حَقٌّ؟
الشيخ: يعني: الظالم ليس له حقٌّ في بقاء ما غرسه، فعِرْق الشجر ونحوه الذي قد غَرَسَه في أرض غيره بغير حقٍّ؛ يلزمه إزالته. هذا هو المقصود
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: ما الفرق بين إعارة العاريَّة، وبين جَعْل غيره يقوم مقامه في الانتفاع بالعاريَّة؟
الشيخ: إعارة العاريَّة يعني: أن المستعير يُعير هذه العاريَّة، قلنا: هذا لا يجوز إلا بإذن المالك. وجَعْلُ غيره يقوم مقامه في الانتفاع بالعاريَّة هو بمعنى إعارة العاريَّة. ولذلك قلنا: إن القول الصحيح أنها أمانة، وأنها غير مضمونة.
وهذه التفريعات التي ذُكِرت يَرِدُ عليها ما يَرِدُ، والصواب القول الذي لا يَرِد عليه أيُّ إشكال: أنها أمانة لا تُضمَن إلا بالتعدِّي أو التفريط.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: لو اشترط المُعِير الضمان مطلقًا، فهل له ذلك؟
الشيخ: نعم، لو اشترط المُعِير الضمان، فهل يصح هذا الشرط أو لا؟ هذا السؤال جيد.
هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم؛ فمن العلماء من قال: إن هذا الشرط لا يصح؛ وذلك لأن هذا الشرط يُنافي مقتضى عقد العارية.
والقول الثاني: إنه يصح، وعليه يدل ظاهر حديث صفوان ، فإن النبي شَرَط على نفسه الضمان لما قال: أغَصْبًا يا محمد؟ قال : لا، بل عاريَّة مضمونة[15].
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: قد يكون الشيء الواحد مِثْلِيًّا ومتقوَّمًا، فبأيِّ اعتبار نعمل؟ وكيف نُفَرِّق بين المِثْلِي والمتقوَّم؟
الشيخ: الإشكال يَرِد على المذهب، المذهب عند الحنابلة: أن المِثْلِي نطاقه ضيِّق: المكيل والموزون الذي يصح فيه السَّلَم وليس في صناعة مباحة.
أما على القول الراجح فالمِثْلِي واسع: كُلُّ ما له مثيل أو شبيه يُعتبر مِثْلِيًّا، وإذا انعدم في السوق، أصبح لا مثيل ولا شبيه فنرجع للقيمة.
فعلى القول الراجح: المسألة سهلة جدًّا وما فيها أيُّ إشكال، لكن يَرِدُ الإشكال على المذهب، الذي هو نطاق المِثْلي فيه ضيق.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هل يجوز بيع القرض الصادر بصندوق التنمية العقارية؟ ولماذا؟
الشيخ: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للعلماء المعاصرين:
- منهم من أجاز بإطلاق، وقال: إنه حقٌّ، ويجوز المعاوضة عن هذا الحق.
- القول الثاني: إنه لا يجوز مطلقًا؛ لكونه يُؤدِّي إلى الربا؛ لكونها مبادلة نقد بنقد مع التفاضل؛ ولما فيه من المخالفة لولي الأمر.
- والقول الثالث: التفصيل؛ إذا كانت المعاوضة بغير نقد جازت، وإلا فلا. وهذا القول الأخير هو الراجح.
فإذا كان يُريد الاعتياض عن قرضِ صندوق التنمية العقاري بغير نقدٍ؛ كسيارة مثلُا أو أرض أو نحو ذلك؛ جاز ذلك، وإلا فلا. وإنما اشترطنا هذا الشرط؛ لأنه لو عاوض عن النقد بنقدٍ مِثْلِه فإن ذلك يؤول إلى مبادلة نقد بنقد مع التفاضل.
مثلًا؛ قرض بثلاثمائة ألف مثلًا، فإذا قال: أعطِني خمسين ألفًا فكأنه عاوضه ثلاثمائة بثلاثمائة وخمسين، يعني المسألة تؤول إلى هذا، عاوَضَه ثلاثمائة بثلاثمائة وخمسين. لكن، إذا قلنا: بغير نقدٍ، كي يكون مثلًا بسيارات، أو أراضٍ، أو نحو ذلك؛ فإن هذا لا بأس به، لا تَرِد مسألة الربا.
وأما مسألة المخالفة لولي الأمر، فالتعليمات ليس فيها شيء صريح يمنع من هذا، والتنازل عن القرض له -أيضًا- ضوابط، يعني: بعد كذا قسطًا يسمحون بالتنازل، يعني يُجيزون التنازل في صورٍ معينة، فدَلَّ هذا على أن مبدأ التنازل أنه وارد، لكن الإشكال هو كونها تؤول إلى معاوضةِ نقدٍ بنقد مع التفاضل، حتى وإن قلنا: إنها معاوضة عن حقٍّ، فهي في الحقيقة تؤول إلى معاوضة نقد بنقد مع التفاضل.
ولذلك؛ فهو يأخذ ثلاثمائة، ويُعطي هذا ثلاثمائة وخمسين؛ فتؤول المسألة في النهاية إلى مبادلة ثلاثمائة بثلاثمائة وخمسين مثلًا، وهذا لا يجوز، فإذا جُعل غير نقد؛ جعلها على أرض أو سيارة؛ بذلك زال الإشكال.
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا يقول: كيف الجمع بين حديث: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شرٌّ منه، وحديث: أمتي كالغيث[16]، وحديث نزول عيسى [17].
الشيخ: هو جاء في “صحيح البخاري” عن أنس : أن النبي قال: لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقوا ربكم[18]. وهذا في الجملة، هذا في الجملة أن أول هذه الأمَّة خيرٌ من آخرها.
ولذلك؛ فالصحيح في تفسير الآية: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]، قال: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:13-14]، الصحيح أن المقصود: ثُلَّة من أول الأمَّة وقليل من آخرها من السابقين.
ولذلك؛ لما أتى أصحاب اليمين قال: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:39-40]؛ فأوَّل الأمَّة أفضل من آخرها. لكن هذا على سبيل الإجمال، في الجملة، وقد يأتي في بعض الأماكن وفي بعض الأزمان من هم أفضل ممن سبقهم.
فمثلًا؛ هنا الناس بعد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أصبحوا في أمور الدعوة والصلاح والاستقامة، أفضل مما كانوا قبل الدعوة، كانت منتشرة البدع والشركيات والخرافات، لكن هذا كان في نطاق هذا البلد، فقد يكون في بعض البلدان وفي بعض الأزمان يكون اللَّاحق خيرًا من السابق، لكن في الجملة، من حيث العموم، أول هذه الأمَّة أفضل من آخرها.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: هل يدخل في أحكام العارِيَّة إعارة الكتب؟ وهل هذا من منعِ العارِيَّة؟ إذا خِفْتُ من المستعير أن يتأخر في رَدِّ المُعار وأنا أحتاجه بعد ذلك، وأستحي من مطالبته؟
الشيخ: نعم، إعارة الكتب تدخل في هذا، فلو -مثلًا- اضطر صاحبٌ لك أو صديقٌ لك لكتابٍ وأنت مستغنٍ عنه وهو مضطر إليه، وما وجد نسخة من هذا الكتاب إلا عندك، فيجب عليك أن تُعيره.
وفي الوقت الحاضر، يمكن أن تقول له: صَوِّره، أو صور ما تحتاج إليه، فالتصوير يُزيل الإشكال، بدل أن يبقى عنده أيامًا أو مدة طويلة، وتخشى على هذا الكتاب، ممكن أن تُعيره إياه للتصوير، ويُعيده لك في نفس اليوم، وبذلك يزول الإشكال الذي أشار إليه الأخ السائل.
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا يقول: عندما أهلَك الله قوم نوح بالطوفان، هل بقي على الأرض كائنات حية؟ أو هلَكَ كُلُّ شيءٍ؟ وإن كان لم يبقَ شيءٌ فمتى وُجدت هذه الكائنات؟
الشيخ: ظاهر النصوص أنه لم يبقَ شيءٌ: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود:40]، فسخَّرها الله تعالى، أتته كلها، الحيوانات كلها، زوجين اثنين، فحملها معه في السفينة، وما عداها غَرِق.
هذا هو ظاهر الآيات، وحينئذٍ تكون هذه من نَسْل ما بقي مع نوح ، ويُحتمل أيضًا أن الله تعالى أوجد حيوانات بعد نوح ، الله على كل شيء قدير.
السؤال: أحسن الله إليكم. هذا يقول: فضيلة الشيخ، إذا احتجتُ إلى الكلب، ولم أجد من يُهدي لي إيَّاه، فما العمل؟ وهل ثمن الكلب خبيثٌ على الإطلاق؟
الشيخ: النصوص قد وردت بتحريم بيع الكلب، والرواية التي فيها استثناء: إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية[19] ضعيفة لا تصح، وحينئذ يستطيع الحصول على كلب الصيد إما باستعارة، أو مثلًا بهبة، أو هدية، أو نحو ذلك، أما بيعه أو شراؤه فالأصل في هذا أنه لا يجوز.
السؤال: أحسن الله إليكم. يقول: حبَّذا لو أعدتم القاعدة في (باب العارية) فيما يلزمُ ردُّه والرجوع به؟
الشيخ: نعم، قلنا: يلزمُ رَدُّ العين المغصوبة بنمائها المتصل والمنفصل، ويلزمُ رَدُّ أَرْشِ النقص عند نقصها، ويلزم رَدُّ أجرتها إن كان مثلها يُؤجَّر.
السؤال: أحسن الله إليكم. السؤال الأخير يقول: كيف نُفرِّق بين التدرُّج في الدعوة، والتدرُّج في التزام أوامر الشرع؟
الشيخ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، المسلم يجب عليه السمع والطاعة وامتثال الأوامر مباشرةً من غير تدرُّج، التدرُّج كان في بداية التشريع، مثلًا: عند تحريم الخمر أتى بتدرُّج، عند فرض الصيام أتى بتدرُّج، أما الإنسان في الوقت الحاضر فيجب عليه الالتزام بجميع أحكام الإسلام، ولا يقول: أتدرَّج فيها.
فأما بالنسبة للتدرُّج في الدعوة، فهذا يمكن أن يُسلَك بحسب حال المدعو، إنسان مثلًا لا يُصلِّي ويقع في بعض أمور الفسق، لا تأتي به مباشرة إلى درس من الدروس، لا، تتدرَّج معه شيئًا فشيئًا، فهذا من التدرُّج في الدعوة، يعني: تتدرَّج معه بما يُناسب حاله، بما يُناسب حال المدعو.
أما بالنسبة للالتزام بالأوامر؛ فهذا ليس فيه تدرُّج، الالتزام بالأوامر يجب على المسلم أن يلتزم بها كلها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]،وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
طيب، نأخذ أسئلة شفهية.
السؤال: …
الشيخ: نعم، من كان حديث عهد بالإسلام فيُمكن أن تُؤخَّر له بعض الأحكام الشرعية حتى ينشرح صدره للإسلام، هذا يمكن أن يُفعل.
مثلًا: الختان؛ لا يُقال له الختان في بداية إسلامه؛ حتى لا ينفر من الإسلام، وحتى يستقر الإسلام في قلبه، ثم بعد ذلك يُؤمر بالختان. فيمكن أن يُؤخَّر له بيان بعض التكاليف الشرعية حتى يرسخ إسلامه ويقوى إيمانه.
السؤال: …
الشيخ: هنا لا يجب إذا كان يخشى المُعير من أن يلحقه الضرر بإعارته؛ لكون المستعير معروفًا -مثلًا- بالإهمال، فهنا لا يجب عليه أن يُعِيره، لا يلزمه ذلك؛ ولأن هذا الحكم محكوم بالقاعدة العظيمة: لا ضَرَر ولا ضِرَار، إذا كان يغلب على ظنِّه أن هذا مهمل، وأنه سوف يُتلف مالَهُ؛ فلا يلزمه أن يُعِيره إيَّاه.
الكلام هنا في إنسان ليس معروفًا بذلك، إنسان معروف بأنه سوف يردُّها، الأصل أنه يردُّها، يردُّ هذه العارِيَّة، ويحتاج أيضًا، لا بد من حاجته، ولا بد أيضًا من غَناء المالك؛ فهنا يأتي القول بوجوب العارِيَّة في هذه الحالة.
السؤال: …
الشيخ: نعم، هو إذا كان في رجوع المُعِير، إذا كان في رجوعه ضرر على المستعير، فعند الحنابلة يقولون: له المطالبة في مسألة حصاد الزرع، استثنوا هذه المسألة. والقول بأن له المطالبة مطلقًا مُتَّجَهٌ؛ لأنه ما الفرق بين مسألة حصاد الزرع وغيرها؟ فالقول بأن له المطالبة مطلقًا هذا أقرب إلى تحقيق العدالة بينهما، بين المُعِير والمستعير.
السؤال: …
الشيخ: نعم، القيمة، قيمة العين المغصوبة، يعني: عند تعذُّر رد المِثْل، قصدك عند تعذُّر رد المِثْل.
السؤال: …
الشيخ: نعم، عند تعذُّر رد المِثْل يقولون: تُقَوَّم بقيمة التَّلَف، قيمتها يوم تَلَفِها، في بلد غاصبها، ينصُّون على هذا، فتُقَوَّم بقيمتها يوم التَّلَف.
السؤال: …
الشيخ: لا يجوز، إذا قبض الموهوب الهِبَة لا يجوز للواهب الرجوع فيها؛ لقول النبي : العائدُ في هِبَتِه؛ كالكلب يَقِيءُ ثم يعود في قَيْئِه[20]. قبل القبض يجوز، أما بعد القبض فلا يجوز.
مداخلة: …
الشيخ: حتى لو… ما دام قَبَضَ العين الموهوبة، أصبحت ملكًا له، ولا يملك الواهب الرجوع فيها إطلاقًا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 15302، وأبو داود: 3562. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 988. |
^3 | سبق تخريجه. |
^4 | رواه مالك: 31، وأحمد: 22778، وابن ماجه: 2341. |
^5 | رواه الترمذي: 1359. |
^6 | رواه البخاري: 5225. |
^7 | رواه أحمد: 15337، وأبو داود: 3562، والنسائي: 5779. |
^8 | رواه أحمد: 20086، وأبو داود: 3561، والترمذي: 1266، وابن ماجه: 2400. |
^9 | رواه البخاري: 1739، ومسلم: 1679. |
^10 | رواه أحمد: 20695. |
^11 | رواه مسلم: 137. |
^12 | رواه البخاري: 3845. |
^13 | رواه أحمد: 17269، وأبو داود: 3403، والترمذي: 1366، وابن ماجه: 2466. |
^14 | رواه مالك: 26، وأحمد: 22778، وأبو داود: 3073. |
^15 | سبق تخريجه |
^16 | رواه أحمد: 12327. |
^17 | رواه البخاري: 2476. |
^18 | رواه البخاري: 7068. |
^19 | رواه مسلم: 1571. |
^20 | رواه البخاري: 2589، ومسلم: 1622. |