عناصر المادة
باب المسابقة
قال المؤلف رحمه الله:
تعريف المسابقة
“المسابقة” من “السَّبْق” بإسكان الباء: وهو المسابقة والسِّباق، وبفتح الباء “السَّبَق”: العِوض الذي يُسابَق عليه.
وهذا الباب هو في وقتنا الحاضر، وإن كان هو من الأبواب المهمة -أبواب الفقه المهمة- إلا أنه في وقتنا الحاضر هو من أهم الأبواب؛ نظرًا لكثرة المسابقات والمُغالبات والألعاب التي تكون على عوضٍ، بل إنها أصبحت وسيلةً من وسائل الربح والاستثمار لدى بعض المؤسسات والشركات.
حكم المسابقة
قال المؤلف:
“وهي” يعني: الأصل فيها الجواز.
أقسام المسابقات
وقسَّم أهل العلم المسابقات والمغالبات من جهة بذل العوض إلى ثلاثة أقسامٍ:
- القسم الأول: ما يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ: وهو المسابقة في الإبل والخيل والسهام؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة أن النبي قال: لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافرٍ [1].
لا سَبَق يعني: لا عوض إلا في خُفِّ، المقصود بالخف: الإبل، أو نَصْلٍ يعني: السهام، أو حافرٍ يعني: الخيل، هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ. - والقسم الثاني: ما لا تجوز فيه المسابقة مطلقًا، سواءٌ بعوضٍ أو بغير عوضٍ: وهو كل ما أَدخَل في محرَّمٍ أو أَلهَى عن واجبٍ.
- القسم الثالث: ما تجوز فيه المسابقة بدون عوضٍ: وهو كل ما كان فيه منفعةٌ مباحةٌ وليس فيه مضرَّةٌ، وذكر المؤلف أمثلةً له.
طيب، نعود لعبارة المؤلف، بدأ المؤلف بالقسم الثالث: وهو ما تجوز فيه المسابقة بدون عوضٍ، ومثَّل له المؤلف بأمثلةٍ، قال:
بعض أهل العلم قال: ينبغي أن تُقيَّد السفن بـ”السفن الحربية”، لكن إذا كان بدون عوضٍ؛ فالأمر سهلٌ.
قال:
“المَزَاريق”: هي رماحٌ قصيرةٌ يتسابقون بها في الطعن ونحوه.
كذلك المسابقة في الطيور دون عوضٍ، هذا من القسم الجائز.
طيب، هل يمكن أن نُدخل في ذلك الكرة في وقتنا الحاضر؟ كرة القدم، أو أي نوعٍ من أنواع الكرة؟
نعم، إذا كانت بدون عوضٍ؛ تدخل في هذا، إذا كانت بدون عوضٍ؛ تدخل في القسم الثالث الذي يجوز بدون عوضٍ، فلو أن الكرة انضبطت بالضوابط الشرعية: لم يكن فيها عوضٌ، لم يكن فيها إلهاءٌ عن واجبٍ، إلهاءٌ عن الصلاة مثلًا، ولا تشتمل على سِبابٍ أو على كشف العورات؛ فالأصل فيها الجواز.
قال:
كذلك المسابقة على الأقدام تجوز بدون عوضٍ، هي من القسم الثالث، النبي كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، سابقها مرتين، قالت: “سابقته فسبقته، ثم سابقته لما حملت اللحم فسبقني” [2]، يعني: في الأول كانت خفيفةً؛ فسبقت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم في آخر الأمر كأنها سمنت، وقالت رضي الله عنها: حملت اللحم، فسبقها النبي .
فهذه المسابقة التي تكون بدون عوضٍ، لا بأس بها، المسابقة على الأقدام.
قال:
إذا كانت بغير عوضٍ فالأمر فيها واسعٌ.
قال:
انتقل المؤلف للكلام عن القسم الأول: وهو ما يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ.
هذا هو القسم الأول، فأصبحت الأقسام عندنا ثلاثةً:
- قسمٌ يجوز بعِوَضٍ وبدون عوضٍ: وهي الإبل والخيل والسهام.
- قسمٌ لا يجوز، لا بعوضٍ ولا بدون عوضٍ: وهو كل ما ألهى عن واجبٍ، أو أدخل في محرمٍ.
- قسمٌ يجوز بدون عوضٍ، ولا يجوز بعوضٍ: وهو ما عدا هذين القسمين، كما في الأمثلة التي مثَّلها المؤلف.
طيب، بالنسبة لهذه القسمة: قسمةٌ ثلاثيةٌ، بعض أهل العلم أضاف قسمًا رابعًا، إن شئت جعلته قسمًا رابعًا، وإن شئت ألحقته بالقسم الأول، لا مشاحة في الاصطلاح، فقالوا: إنه يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ، يعني: إلحاقه بالقسم الأول أوجَه أو أقرب، بعض أهل العلم إذنْ ألحقه بالقسم الأول، وهو يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ: ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه؛ ومن ذلك مثلًا: المناظرات، المناظرات الآن أصبحت ظاهرةً في بعض القنوات والوسائل الإعلامية، المناظرة مثلًا بين المسلمين والكفار، المناظرة مثلًا بين سُنةٍ ومبتدعةٍ، ونحو ذلك، ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، فقالوا: إنها تجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ، وممن ذهب إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.
واستدل لذلك أصحاب هذا القول بقصة مراهنة أبي بكرٍ الصديق للمشركين، القصة أخرجها الترمذي في “سننه”، وهي صحيحةٌ من جهة الإسناد، فإنه لما نزل قول الله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ [الروم:1-4]، كانت فارس قاهرين للروم، فغُلبت الروم، وكان المسلمون يحبون أن تنتصر الروم على فارس، والمشركون -كفار قريشٍ- يحبون انتصار فارس على الروم، لماذا؟ من يُبيِّن لنا السبب؟ مع أن كلهم كفارٌ، فارس والروم كلهم كفارٌ؟! لكنْ المسلمون يحبون انتصار الروم على فارس، وكفار قريشٍ يحبون انتصار فارس على الروم؟
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، أحسنت؛ لأن الروم أهل كتابٍ، يعني: أقرب للمسلمين بشيءٍ يسيرٍ؛ هذا يدل على أيضًا أن هذا ينبغي أن يكون منهجًا للمسلم، يعني أخوك المسلم مهما كان عليه من تقصيرٍ، مهما كان عليه من انحرافٍ؛ يبقى مسلمًا، يبقى له حق الأخوة وحق الإسلام، فبعض الناس إذا عادى مسلمًا بسبب تقصيره أو انحرافه أو نحو ذلك، بعضهم يجعله في البغض والعداوة كالكافر، هذا منهجٌ خاطئٌ، إذا كان المسلمون يحبون انتصار الروم على فارس، مع أن الروم وفارس كلهم كفارٌ، لكن الروم أقرب بشيءٍ يسيرٍ؛ لأنهم أهل كتابٍ، وفارس ليسوا بأهل كتابٍ، فما بالك بالمسلمين؟! موالاة المسلم واجبةٌ مهما كان عليه المسلم، لكن إذا كان ملتزمًا مستقيمًا؛ يُحَب ويوالى أكثر، لكن يبقى له حتى وإن قصَّر وإن انحرَف، يبقى له حق الإسلام ما دام باقيًا في دائرة الإسلام.
فلما غُلبت الروم وأنزل الله هذه الآيات: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ: في مكانٍ في الأردن، يقال: إنه أكثر نقطةٍ انخفاضًا في الكرة الأرضية، فِي أَدْنَى الْأَرْضِوَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ [الروم: 2-4]، حدَّد الله أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، بضع سنين، كم “البِضع” عند العرب؟ من ثلاثةٍ إلى تسعةٍ، فقام أبو بكرٍ يصيح بهذه الآيات، فقالوا: واعجبًا لك! أتزعم أن فارس ستغلب الروم؟! الروم غُلِبت، وفارس أقوى في ذلك الوقت، ولها قوةٌ، فقال : أبدًا، ستغلب الروم فارس في بضع سنين، فقالوا: أفلا نراهنك؟ قال: نعم، قالوا: اجعل بيننا وبينك أمدًا، فجعل بينه وبينهم ست سنين، وجعل هناك رهانًا، فقال: لا بد أن تغلب الروم فارس خلال هذه الست السنين، فقالوا: وإن لم تغلب؟ قال: تأخذون هذا الرهان، قالوا: وإن غَلبت؛ تأخذ أنت هذا الرهان.
فذهب للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: هلا أخفضت، وفي روايةٍ: هلا احتطت، والاحتياط: أن يجعل البِضع تسع سنين، مضت ست سنين، ولم تغلب الروم فارس، فأخذوا من أبي بكرٍ الرهان، وأبو بكرٍ على يقينٍ بأن ما قاله الله تعالى حقٌّ، وأن وعد الله حقٌّ، فقال أبو بكرٍ : أُراهنكم مرةً أخرى، على أن الروم ستغلب فارس خلال ثلاث سنين، الأول: ستٌّ، الآن: ثلاثٌ، لا بد، فطمعوا، لمَّا أخذوا الرهان في المرة الأولى؛ ظنوا أنهم سيأخذون الرهان في المرة الثانية، راهنوه في المرة الثانية، فلما كانت السنة السابعة؛ غَلبت الرومُ فارس، فاسترد أبو بكرٍ منهم الرهان [3]، فهذه القصة أخرجها الترمذي، وسندها جيدٌ.
واستدل بها بعض أهل العلم على أنه يجوز أن تكون المسابقة بعوضٍ وبدون عوضٍ، فيما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه؛ لأن أبا بكرٍ فعل ذلك وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الفعل، وهذا هو ظاهر الأدلة؛ ولذلك نحن نضيف الإبل والخيل والسهام، نضيف لها ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، ومثَّلنا لها في الوقت الحاضر، أوضح مثالٍ: المناظرات، المناظرات التي تكون بين المسلمين والكفار، وبين المسلمين والمبتدعة، هذه المناظرات فيها نفعٌ عظيمٌ، وفيها فائدةٌ كبيرةٌ، بشرط: أن يكون المناظر متمكِّنًا في مناظراته، فهذه لو جُعل فيها رهانٌ؛ فلا بأس، لو جُعل فيها عوضٌ؛ فلا بأس، يعني: جُعل مثلًا فيها جهة تحكيمٍ، وجُعل فيها عوضٌ، ومن انتصر في هذه المناظرة فيأخذ هذا العوض؛ فهذا لا بأس به.
حكم الرِّهان على العلوم الشرعية
هل يقاس على ذلك العلوم الشرعية؟
نقول: هي كالإبل والخيل والسهام؟ بعض أهل العلم أجاز ذلك، وقال: إن الإسلام قام بالسيف، وكذلك بالدعوة، فيجوز أن يكون الرهان في العلوم الشرعية.
والمذهب عند الحنابلة: أنه لا يجوز، وأنها فقط تقتصر على الأمور الثلاثة.
الحقيقة كثيرٌ من أهل العلم يَنسبون هذا الرأي لشيخ الإسلام، أنا لم أجد هذا في كتب شيخ الإسلام، الذي وجدته هو ما ذكرته لكم، وكذلك نقله ابن القيم في “الفروسية”: “وكان فيه إظهارٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه“، لكن في “الإنصاف” أشار إلى أن هذا قول شيخ الإسلام، كذلك الشيخ محمد بن عثيمين في “الشرح الممتع” أشار لهذا، لكن لم أقف عليه من كلامه.
ضابط العلوم الشرعية
لكن يَرِد إشكالٌ، وهو: ما ضابط العلوم الشرعية؟ يعني: مسابقةٌ ثقافيةٌ، هل ندخلها أو لا ندخلها؟
أنا أذكر أن قناةً من القنوات وضعت مسابقةً على رقم (700) في القرآن، فأنكر عليهم بعض العلماء، فقالوا: نحن على رأي شيخ الإسلام، فهذه الحقيقةَ ما تنضبط، وإذا فُتح هذا الباب؛ كلٌّ سيقول: هذا علمٌ، يأتون بمسابقاتٍ ثقافيةٍ، يأتون بمسابقةٍ في الطب، بمسابقةٍ في الكيمياء، مسابقةٍ في الفيزياء؛ وبالتالي ينفتح الباب؛ ولهذا فالذي أرى: أن نقصرها على الأمور المنصوص عليها؛ على الإبل والخيل والسهام، وكذلك أيضًا على ما كان فيه إظهارٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، هذا هو الأظهر، أما الثلاثة الأولى فهو المذهب عند الحنابلة، أما ما كان فيه إظهارٌ لأدلة الإسلام وبراهينه، فهذا قصة أبي بكرٍ فيه واضحةٌ جدًّا.
يَرِد أيضًا إشكالٌ آخر: الإبل والخيل والسهام في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، على الأقل الإبل والخيل كانت هي آلة الحرب؛ ولذلك جازت المسابقة فيها بعوضٍ وبدون عوضٍ؛ تشجيعًا للناس على تعلُّم آلة الجهاد في سبيل الله، لكن هل الآن الإبل والخيل هي آلة الجهاد في سبيل الله في وقتنا الحاضر؟ هل هي آلة الجهاد؟ الحروب التي تقع بين الدول الآن هل يتحاربون على الإبل والخيل؟
لا، ما يتحاربون، فليست هي آلة الجهاد، فهل يتغيَّر الحكم، ونقول: لا تجوز المسابقة فيها بعوضٍ؛ باعتبار أنها الآن ليست هي آلة الجهاد في سبيل الله، ونقصر محل الجواز على آلات الجهاد؛ وهي مثلًا: الطائرات الحربية، والسفن الحربية، والدبابات، ونحو ذلك؟
المسألة عندي محل توقُّفٍ، القول بأنه يجوز يَرِد عليه هذا الإشكال، الآن ليست آلة جهادٍ، الآن أصبحت المسابقة -في الخيل على وجه الخصوص، وكذلك الإبل- أصبحت للمباهاة في كثيرٍ من الأحيان، والمتاجرة، متاجرةً ومباهاةً، أليس كذلك؟ أليس هذا هو الواقع في سباق الخيل والإبل؟ فكيف نقول: إنها تجوز المسابقة عليها بعوضٍ وبدون عوضٍ؟ فهذا الحقيقةَ إشكالٌ كبيرٌ، وأطرحه بين أيديكم، ولم يتحرَّر لي فيه شيءٌ، لكن المسألة عندي محل توقفٍ.
أما ما كان فيه آلات الجهاد في الوقت الحاضر: فلا إشكال في جواز المسابقة عليها كما ذكرت؛ كالطائرات الحربية، الدبابات، السفن الحربية، ونحو ذلك، هذه لا بأس بالمسابقة عليها بعوضٍ وبدون عوضٍ، لكن الإبل والخيل على وجه الخصوص هي التي في الوقت الحاضر أصبحت ليست من آلات الجهاد في سبيل الله.
مداخلة: …..
الشيخ: سيأتي الكلام عنه، سيأتي الكلام عن المُحلِّل، وما يتعلق به، وسنُفَصِّل هذا.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، هو المقصود منها: أنها آلات الجهاد.
مداخلة: …..
الشيخ: إذنْ تطرد هذا، كل ما أدى لتقوية البدن يجوز.
مداخلة: …..
الشيخ: هذا يفتح علينا الباب؛ فمعنى ذلك: تجوز في كرة القدم، تجوز في المشي…
مداخلة: …..
الشيخ: هل الواقع الآن: أن الناس يتسابقون على الإبل والخيل لأجل التقوية؟ لا، لأجل المتاجرة؛ ليفوز، أو المباهاة، هذا هو الواقع، ولذلك لا يُسابِق عليها إلا الأثرياء، لا يُسابِق على الإبل والخيل إلا الأثرياء، هذا في الحقيقة محل إشكالٍ.
مداخلة: …..
الشيخ: هذا ورد في النصوص: أن تكون على الخيل، ورد ذكرها في الخيل في آخر الزمان، لكن هل المقصود أيضًا أنه فعلًا يعود الناس للخيل والإبل، ولِما كانوا عليه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن النبي إنما ذكر ذلك من باب التمثيل والتقريب للأذهان؟ فلو ذكر للناس في عهد الصحابة الطائرات أو السيارات ما استوعبت عقولهم مثل هذه التقنية الموجودة الآن؛ فالقول الثاني أقرب: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ذكر ما تستوعب عقولهم، لكن لا يمنع هذا من وجود تقنيةٍ أخرى تقوم مقام ما هو موجودٌ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام من الخيل والإبل.
طيب، نود أن ننتهي مع عبارة المؤلف، ثم نتيح فرصةً للأسئلة.
شروط جواز أخذ العوض في مسابقة الخيل والإبل والسهام
قال:
فلا بد من تعيين المركوبين؛ بأن يقول: أُسابقك على هذا الجمل، تسابقني على هذا الجمل، أسابقك على هذه الفرس، تسابقني على هذه الفرس، وكذلك الراميين، وهنا المؤلف لم يقل: “تعيين الراكبين”، وظاهر كلامه: أنه لا يُشترط تعيين الراكبين، وذهب الشافعية إلى أنه يشترط تعيين الراكبين؛ قالوا: كما أنه يشترط تعيين المركوبين؛ فيشترط تعيين الراكبين؛ قالوا: لأن السبق يكون من جودة الفرس أو الجمل، ويكون كذلك من حذق الراكب، يكون من الأمرين جميعًا، فكما أننا اشترطنا تعيين مركوبين؛ فلا بد من تعيين الراكبين، وهذا هو القول الأقرب: أنه لا بد من تعيين الراكبين، فيضاف إذنْ لهذا الشرط تعيين المركوبين والراكبين.
الشرط الثاني:
قال:
فلا بد من اتحادهما بالنوع، فيكون مثلًا فرسًا عربيًّا وفرسًا عربيًّا، ولا يكون فرسًا عربيًّا وهجينًا، يكون مثلًا: فرسًا وفرسًا، لا يكون فرسًا وبغلًا، يكون جملًا عرابًا مع جملٍ عرابٍ، لا يكون جملًا عرابًا مع جملٍ بخاتي [4]، وهكذا، فلا بد من اتحادهما في النوع.
لا بد من تحديد المسافة في السباق، وكذلك أيضًا في الرمي، وقد وقع السباق في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في “الصحيحين” عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي سابق بين الخيل المُضَمَّرة، المُضَمَّرة معناها: التي تُجوَّع ولا تُعطى من العلف إلا قليلًا؛ حتى تكون خفيفةً وسريعةً، سابق بين الخيل المُضمَّرة من الحَفْياءِ إلى ثَنيَّة الوداع -مكانان في المدينة- وبين التي لم تُضَمَّر من ثَنيَّة الوداع إلى مسجد بني زُرَيْقٍ [5]، وهذا الحديث في “الصحيحين”.
فإذنْ وقعَ السباق بالإبل في عهد النبي ، ولاحِظ أن النبي عليه الصلاة والسلام حدَّد المسافة؛ فلا بد إذنْ من تحديد المسافة، وكذلك أيضًا تحديد مسافة الرمي إذا كان الرمي بالسهام، “بما جرت به العادة”، قالوا: فلو جُعلت مسافة تتعذَّر معها الإصابة؛ لم يصح، قالوا مثلًا: إنسانٌ إذا رَمى بيده سهمًا؛ فأكثرُ ما يمكن أن يصل إليه: ثلاثمئة ذراعٍ، مهما كان عنده من قوةٍ، أكثر ما يمكن أن يصل إليه: ثلاثمئة ذراعٍ، ثلاثمئة ذراعٍ كم تُعادل بالمتر؟ مئةً وخمسين مترًا تقريبًا، فلو أنه مثلًا جعل المسافة خمسمئة ذراعٍ؛ يقولون: لم يصح هذا، طبعًا من الزمن السابق، أما في الوقت الحاضر بالنسبة للأسلحة الموجودة فالمسافة التي تصل إليها شيءٌ كبيرٌ جدًّا.
لا بد من العلم بالعوض الذي يسابَق عليه، وأن يكون هذا العوض مباحًا، فلا يكون محرمًا؛ لا يكون خمرًا ولا خنزيرًا ولا شيئًا من الأشياء المحرمة.
يعني: لا بد أن يكون العوض من واحدٍ؛ خروجًا من شُبهة القمار، أما إن أخرج كل واحدٍ منهما عوضًا؛ فهنا لا بد من محلِّلٍ لا يُخرِج شيئًا.
وهذا المُحلِّل، قال:
لا بد أن يكون واحدًا.
هذه شروط المُحلِّل.
ولا بد أيضًا أنه:
إن سبق هذان الاثنان ولم يسبق المُحلِّل؛ أحرزا سبقيهما.
واستدلوا بحديث أبي هريرة أن النبي قال: من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يَسبق؛ فلا بأس، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمنٌ أن يَسبق؛ فهو قمارٌ [6]، يعني تلاحظ: الحديث ليس عليه نور النبوة، من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يَسبق؛ فلا بأس، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمنٌ أن يَسبق؛ فهو قمارٌ، هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وهو حديثٌ ضعيفٌ لا يصح عن النبي .
بل قال ابن القيم رحمه الله: “إن القول بالمحلل مذهبٌ تلقَّاه الناس أول ما تلقوه عن سعيد بن المسيب، أما الصحابة فلا يُحفظ عنهم حرفٌ واحدٌ، لا يحفظ عن أحدٍ منهم حرفٌ واحدٌ قط أنه اشترط المحلل، ولا راهن به، مع كثرة تناضلهم ورهانهم، بل المحفوظ عنهم خلافه”؛ ولهذا قال الشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ما علمت بين الصحابة خلافًا في عدم اشتراط المحلل”، أولًا الحديث ضعيفٌ، والمحلل لم يكن معروفًا عند الصحابة، ولا يُعرف عنهم في حرفٍ واحدٍ فقط، وإنما أول من قال به سعيد بن المسيب، فتبعه على ذلك بعض الفقهاء، أو كثيرٌ من الفقهاء، وهو قول الجمهور.
ولذلك الصواب: عدم اشتراط المحلل، وأن هذا الحديث الذي اعتمدوا عليه حديثٌ ضعيفٌ لا يصح، وهذه الشروط شروطٌ أيضًا ما أنزل الله بها من سلطانٍ، ثم أيضًا هي محل نظرٍ هذه الشروط، كيف إن سَبَق أحرز سبقيهما؟! إن سَبق أحدهما أو سَبق المحلل؛ أخذ السبقين المحلل؟! الآن سيشاركهم في المسابقة، ومع ذلك هو غانمٌ على كل حالٍ أو سالمٌ؛ لكونه شاركهما في الفعل وخالفهما في الحكم والنتيجة، وهذا ليس من العدل، لماذا يدخل المحلل ولا يخسر؟! لماذا لا يكون مثلهم؟! هذا أيضًا حتى من جهة النظر لا يستقيم، ليس هذا من العدالة، أن نُدخل المحلل، إن فاز أحرز السَّبق، وإن لم يفز ما عليه شيء! هذا ليس من العدالة في شيءٍ؛ ولهذا فالقول بالمحلل قولٌ ضعيفٌ، والصواب عدم اشتراط المحلل مطلقًا، وبذلك لا نحتاج لهذه الشروط كلها التي ذكروها، وقد بسط ابن القيم رحمه الله القول عن هذه المسألة في كتابه القيم “الفروسية”، تكلم عن اشتراط هذا الشرط كلامًا طويلًا، وخلص إلى ترجيح القول بعدم اشتراط المحلل.
قال:
اعتبر المؤلف المسابقة من قَبيل الجَعالة -يقال: جُعالة، وجَعالة، وجِعالة، فهي مثلثة الجيم- لأن الجُعْل في نظير عمله وسبقه؛ ولهذا قال: “لا يؤخذ بعِوَضها” -يعني بالسَّبق- “رهن ولا كفيل”؛ لأنه عقدٌ على ما لم تُعلم القدرة على تسليمه، أشبه الجُعْل في رد الآبق، فيه جهالةٌ وغررٌ، وأشبه بالجعل، هما يتسابقان على جعلٍ معينٍ، ولا يدري هل يفوز أو لا يفوز بهذا الجعل وبهذه الجائزة وبهذا العوض، فهو غير مقدورٍ على تسليمه؛ ولذلك لا يجوز أن يؤخذ به رهنٌ ولا كفيلٌ.
نوع عقد المسابقة
طيب، نوع عقد المسابقة هل هو جائزٌ أم لازمٌ؟ أفادنا المؤلف، قال:
فأفادنا بأنه ماذا؟ جائزٌ، لكن استثنى مسألةً واحدةً:
فإن ظهر الفضل لصاحبه؛ فللفاضل الفسخ، وليس للمفضول الفسخ؛ لأننا لو قلنا: لكلٍّ منهما الفسخ؛ فإن هذا يُفوِّت غرض المسابقة، متى ما بان للإنسان أنه مسبوقٌ؛ فسَخ المسابقة؛ وبالتالي هذا يَفُوت به غرض المسابقة؛ فنقول إذنْ: إذا ظهر الفضل لصاحبه؛ فيجوز الفسخ للفاضل دون المفضول، المفضول بالنسبة له أصبح عقدًا لازمًا، وبالنسبة للفاضل عقدٌ جائزٌ، إن أراد الفاضل أن يتنازل ويفسخ مثلًا عقد المسابقة؛ لا بأس، أما المفضول نقول: ما دام أنه قد ظهر الفضل لصاحبك؛ فقد لزمك هذا العوض الذي بذلته وهذا العقد (عقد المسابقة).
تطبيقاتٌ معاصرةٌ على المسابقة في الوقت الحاضر
لو أردنا أن نأخذ تطبيقاتٍ معاصرةً على المسابقة في الوقت الحاضر؛ نجد أن المسابقات قد كثرت وتنوَّعت، بل تفنَّن القائمون عليها؛ ولذلك نضع فيها قواعد مهمةً لهذه المسابقة:
فمن أبرز القواعد في هذا: أن كل مسابقةٍ يدخل فيها الإنسان ويبذل عوضًا، كل مسابقةٍ تجاريةٍ طبعًا غير الإبل والسهام والخيل يدخل فيها الإنسان ويبذل عوضًا وهو مترددٌ بين الربح والخسارة؛ فإنها تدخل في الميسر، كل مسابقةٍ تجارية يدخل فيها الإنسان وهو مترددٌ بين أن يربح أو يخسر؛ تدخل في الميسر؛ وبناءً على ذلك: المسابقات التي لا يستطيع الإنسان الدخول فيها إلا ببذل المال فإنها لا تجوز؛ ومن ذلك:
المسابقات التي يكون فيها كوبونات، مثلًا قيمة الكوبون عشرة ريالاتٍ، أو أكثر أو أقل، هذه من الميسر لا تجوز، أيضًا من صور ذلك: ما تفعله بعض المحلات التجارية، وبعض المهرجانات، من إقامة مسابقاتٍ تجاريةٍ، ويشترط فيها شراء قسائم كوبوناتٍ معينةٍ، فكما قلنا: هذا يدخل في الميسر.
كذلك أيضًا: لو اشترط أن من يدخل في هذه المسابقة لا بد أن يبذل عوضًا، خمسين ريالًا مثلًا؛ فتكون من الميسر، فيقولون: تبذل خمسين ريالًا، والجائزة ألف ريالٍ، ربما تربح، وربما تخسر، هذه إذنْ من الميسر.
من ذلك أيضًا: المسابقات عن طريق الرقم: (700)، تكلفة الدقيقة عن طريق الرقم: (700) كم؟ من 7-10 ريالاتٍ، هذه تدخل في الميسر، لماذا؟ لأن الداخل مترددٌ بين الربح والخسارة، وأظن أنه الآن يوجد مسابقاتٌ تبدأ بالرقم: (900)، يعني: المسابقات هذه التي لها كلفةٌ تدخل في الميسر.
مسابقات الصحف، هل تدخل في الميسر؟ بعض الصحف والجرائد تضع مسابقةً، وتشترط أن تكتب الاسم في كوبون، والإجابة في كوبون، تكون الإجابة غالبًا سهلةً، أو موجودةً في الجريدة نفسها، لكن يريدون تشجيع الناس على الشراء؟
مداخلة: …..
الشيخ: هذا الصحيح، فيها تفصيلٌ، إذا كان الإنسان يشتري الصحيفة لأجل المسابقة؛ فهذا لا يجوز، لا يجوز دخول المسابقة؛ لأنه إما غانمٌ وإما غارمٌ، أما إذا كان من عادته أنه يشتريها ليس لأجل المسابقة، أو أنها تُهدى له من دائرةٍ حكوميةٍ مثلًا أو نحو ذلك؛ فلا بأس؛ لأنه لم يشتر الجريدة لأجل المسابقة، وقد ذكر أحد محرِّري إحدى الصحف، يقول: إنهم كانوا يطبعون أربعين ألفًا في سنةٍ من السنوات، وكان يسترجع منها عددًا كبيرًا يصل للنصف، يقول: فلما وضعنا مسابقةً، وضعنا عليها جائزةً قيمةً؛ كانوا يطبعون مئتي ألفٍ، ولا يُسترجع منها شيءٌ؛ معنى ذلك: أن هناك أعدادًا، يعني كثيرٌ من الناس يشترون أعدادًا كثيرةً من الجرائد؛ لأجل المسابقة، ليس لأجل الاستفادة، يشتري مئة عددٍ مثلًا، مئتي عددٍ؛ حتى يفوز، هذه حينئذٍ تدخل في الميسر.
حكم مسابقات القرآن والسنة
مسابقات تحفيظ القرآن، مسابقات السُّنة التي تكون في المساجد، ما حكمها إذا كان فيها جوائز وفيها عوضٌ؟
نقول: هل هذه أصلًا مسابقةٌ أو أنها جَعالةٌ؟ هي في الحقيقة جَعالةٌ، تكييفها جَعالةً؛ لأن الذي يبذل الجوائز جهةٌ خارجيةٌ، ليس من هؤلاء الذين يتنافسون على حفظ القرآن أو على حفظ السنة؛ فهي جَعالة، فالذي يضع هذه الجوائز يقول: من حفظ مثلًا جزءًا؛ فله كذا، من حفظ القرآن؛ فله كذا، من حفظ كذا حديثًا؛ فله كذا، هذه من قبيل الجَعالة، فنُكيِّفها على أنها من قبيل الجَعالة، ولا بأس بها بذلك، ولا تدخل في المسألة التي ذكرناها: “هل يُستثنى العلم أو لا يستثنى؟”، لا، هي نقول: من قبيل الجَعالة؛ لأن الجَعالة: أن يجعل الإنسان شيئًا معلومًا أو مجهولًا لمن يعمل عملًا معلومًا أو مجهولًا، فإذا قال: مَن رد عبدي الآبق؛ فله كذا، من وجد محفظتي؛ فله كذا، هكذا أيضًا لو قال: من حفظ القرآن؛ فله كذا، من حفظ جزءًا من القرآن؛ فله كذا، من ارتبط بحلقة تحفيظ القرآن؛ أتبرع له بكذا، فهذا يدخل في الجَعالة؛ ولذلك لا بأس به.
مداخلة: …..
الشيخ: كذلك الاختبارات.
مداخلة: …..
الشيخ: لا بأس، لا بأس، كل هذه تدخل في الجعَالة، والجَعالة بابها واسعٌ، الذي يظهر أن هذه كلها جائزةٌ ولا بأس بها.
بعض المسابقات يُشترط للدخول فيها شراءُ كتيبٍ للمسابقة، هذه لا تجوز؛ لأن الذي يدخل فيها إما غانمٌ وإما غارمٌ.
القاعدة: “إذا كنت إما غانمًا وإما غارمًا؛ فهي من الميسر، أما إذا كنت إما غانمًا وإما سالمًا؛ فليست من الميسر”.
المناديل والهدايا التي تضعها بعض محطات الوقود، إذا عبَّئت منهم مثلًا وقودًا؛ يعطونك مثلًا علبة مناديل أو كذا، هل هذه تدخل في الميسر؟
نُطبِّق القاعدة: هل أنت عندما تعبئ البنزين غانمٌ أو غارمٌ؟
لا، أنت غانمٌ أو سالمٌ، والبنزين مسعَّرٌ، سعر اللتر في هذه المحطة، هو نفس سعر اللتر في المحطة الأخرى؛ ولذلك لا بأس بها، ومن منعها من أهل العلم فقوله ضعيفٌ، لا وجه للمنع؛ لأنه إما غانمٌ وإما سالمٌ، هي في الحقيقة تخفيضٌ بطريقٍ غير مباشرٍ، بدل أن يُخفِّض يقول: سعر اللتر مثلًا أخفضه من كذا إلى كذا، جعل التخفيض على شكل هدايا، وكون مثلًا صاحب المحل يُهدِي هدايا للعملاء، لا بأس بذلك، ومن ذلك: الهدايا التي توجد في المحلات التجارية، هذه لا بأس بها لكن بشرطين:
- الشرط الأول: أن يبيع بسعر السوق، فلا يجعل لهذه الهدية عوضًا.
- الشرط الثاني: أن المشتري يشتري لحاجته، فلا يشتري لغير حاجته، يشتري لحاجته.
فمثلًا: لو ذهبت تريد أن تشتري من سوقٍ تجاريٍّ، تشتري سلعةً معينةً، وجدت سلعةً معها هديةٌ، وسلعةً أخرى ليس معها هديةٌ؛ فلا بأس أن تختار السلعة التي معها هديةٌ، لا بأس بذلك، ولا مانع من هذا؛ لأن هذه السلعة التي معها هديةٌ أشبه بالسلعة المخفَّضة، لكن بطريقٍ غير مباشرٍ، فإذنْ أنت خذها قاعدةً: إذا كنت إما غانمًا وإما غارمًا، إما رابحًا وإما خاسرًا؛ هذه من الميسر، أما إذا كنت إما غانمًا وإما سالمًا؛ فهذه ليست من الميسر، والفروع في هذا كثيرةٌ.
لعب (البَلُّوت) هل يدخل في الميسر؟
أما إذا كان بمالٍ؛ فلا شك في دخوله في الميسر، لعبة الورق أو (البلوت) إذا كان بمالٍ؛ لا شك في دخوله في الميسر، إذا كان بدون مالٍ؛ فمن أهل العلم..، العلماء المعاصرون لهم ثلاثة أقوالٍ:
- فمنهم من قال بالتحريم.
- ومنهم من قال بالكراهة.
- ومنهم من قال بالجواز بضوابط.
فمن قال بالتحريم أدخلها في الميسر، ولكن الحقيقة إذا كانت بدون عوضٍ؛ فلا وجه لإدخالها في الميسر، لكن يبقى النظر بين القول بالكراهة والقول بالجواز بضوابط، يعني: هنا القول بالكراهة قولٌ قويٌّ، وكذلك القول بالجواز بضوابط أيضًا قولٌ قويٌّ.
فمن الضوابط: ألا تُدخِل في ترك واجبٍ، فلا تتسبب مثلًا في إضاعة الصلاة، ولا في محرمٍ، لا يكون مثلًا بينهم سبابٌ أو شتمٌ، أو نحو ذلك.
وأيضًا من الضوابط: ألا تأخذ وقتًا كثيرًا من الإنسان، فإن كانت تستهلك وقتًا كثيرًا؛ فلا تجوز؛ لأنه إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الشِّعر الذي أصله مباحٌ، ومع ذلك يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: لَأَنْ يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يَرِيه خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا [7]، متفقٌ عليه، يعني: من يُكثر من الشِّعر، هذا مذمومٌ الإكثار من الشعر، فإذا كان هذا في الشعر الذي أصله مباحٌ؛ فما بالك بلعبة (البلوت)؟! فإذا كان لا يُكثِر منها، ولا تلهيه عن واجبٍ، ولا تُدخله في محرمٍ؛ الأقرب أنه لا بأس بها، ونقل لي أحد المشايخ عن الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله أنه في آخر حياته أنه أفتى بالجواز، وقال: إني سمعته مباشرةً، وأنه في آخر حياته أفتى بالجواز، لكن -كما ذكرنا- تكون بهذه الضوابط.
والقول بالكراهة أيضًا قولٌ قويٌّ، أما القول بالتحريم مع عدم وجود العوض فلا يظهر له وجهٌ.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، إذا كان تأخذ الوقت الكثير؛ نقول: لا، ما تجوز، إذا كان…
مداخلة: …..
الشيخ: كذلك، نعم، إذا لم تنضبط بهذه الضوابط؛ فنقول بالتحريم، ليس حتى بالكراهة، بالتحريم، لكن لو افترضنا مثلًا: شباب التزموا بهذه الضوابط، خرجوا في رحلةٍ بريةٍ أو في سفرٍ، والتزموا بهذه الضوابط، فيصعب أن نجزم بالتحريم.
طيب، نريد أيضًا أن نذكر صورًا أخرى للمسابقات التجارية، فنريد طرح صورٍ أولًا؛ حتى نُتيح فرصةً للأسئلة، هل هناك صورٌ أخرى لم نذكرها؟
مداخلة: …..
الشيخ: لا، الأسئلة سنتيح لها فرصةً، دعنا ننتهي أول شيءٍ من الصور، هل هناك صورٌ معاصرةٌ في المسابقات التجارية لم نذكرها؟
مداخلة: …..
الشيخ: جمعُ الأغطية للمشروبات الغازية، طيب، نُطبِّق القاعدة عليها، هل من يفعل ذلك غانمٌ أو غارمٌ، أو أنه غانمٌ أو سالمٌ؟
مداخلة: …..
الشيخ: غانمٌ أو سالمٌ، هذا هو سعرها في السوق، لا تزيد لأجل هذا؛ ولذلك لا بأس بها.
مداخلة: …..
الشيخ: كيف طرف ثالث؟
مداخلة: …..
الشيخ: يعني قصدك: تتضرر الشركات التي لم تضع هذه الهدايا؟
مداخلة: …..
الشيخ: أمور التجارة أصلًا منذ أن خلق الله الدنيا قائمةٌ على المنافسة، أمور التجارة قائمةٌ على المنافسة، حتى لو لم يفعل هذا، فكون هذا مثلًا يخفض السعر بهذه الطريقة، أو يضع هديةً، هذا لمصلحة الناس؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الحاضر للبادي [8]، لماذا؟ حتى يبيع البادي برخصٍ؛ فيستفيد الناس منه: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضٍ [9].
كذلك أيضًا لعل هذا إذا وضع هذه الهدية؛ غيره يضع هديةً، أو يخفض السعر فيستفيد الناس، أمور التجارة قائمةٌ على المنافسة بين التجار، فليس فيها ضررٌ؛ لأن التجارة قائمةٌ على هذا، حتى في غير المسابقات، التجارة قائمةٌ على هذا، ولا نستطيع أن نمنع أحدًا من أن يبيع بسعرٍ مخفضٍ؛ ولهذا لما غلا السعر في عهد النبي ؛ قالوا: يا رسول الله سعِّر، يعني: سعِّر السِّلَع، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحدٌ مظلمةً في دمٍ ولا مالٍ [10]، فالنبي عليه الصلاة والسلام امتنع عن التسعير؛ لأن ارتفاع الأسعار في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لأجل جشع التجار، وإنما بسبب قلة العرض وكثرة الطلب؛ فلهذا لا يتدخل ولي الأمر، لكن لو كان غلاء الأسعار بسبب جشع التجار -كما في وقتنا الحاضر- فلا بد أن يتدخل ولي الأمر ويُسعِّر، كما حقَّق ذلك شيخ الإسلام تيمية وابن القيم، بل قالوا: إنه قد يجب عليه ألا يترك التجار يلعبون على الناس، يرفعون السِّلع، ويضرون المستهلكين، فهنا يتدخل ولي الأمر ويمنعهم من هذا الجشع والطمع ويسعر.
فأمور التجارة قائمةٌ في الأصل على هذا، على المنافسة بين التجار.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، لا يوجد غررٌ، هو الآن إما غانمٌ وإما سالمٌ.
مداخلة: …..
الشيخ: ولذلك اشترطنا شرطًا: وهو أن يشتري الشيء لحاجته، لا يشتري مثلًا علبة (بيبسي) ويسكبها على الأرض لأجل الفوز، هذه ما تجوز، لكن اشتراها لأجل شربها، فهنا لا بأس، وبالمناسبة: أول ما ظهر الـ(بيبسي)، بعض علماء الأزهر أفتوا بتحريمه؛ قالوا: لأن فيه ضررًا كبيرًا، ثم أصبح بعد ذلك قول أكثر أهل العلم: الجواز، لكن لا شك أن فيه ضررًا كبيرًا، لكن يبقى الأمر على الأصل وهو الإباحة، ما لم يثبت الضرر الفعلي، لكن من جمع هذه الأغطية؛ هو في الحقيقة إما غانمٌ وإما سالمٌ؛ فلا يدخل تحت قاعدة الميسر أصلًا.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، يسأل عن بعض من يلعبون في الحواري، يضعون بينهم الدوري، ويضعون جوائز للفريق الفائز، هذا لا يجوز، هذا من الميسر، لماذا؟ لأنه يدخل تحت القاعدة، فهؤلاء اللاعبون إما غانمون وإما غارمون، وهذا لا يجوز، لكن لو أن جهةً خارجيةً تبرعت؛ فهذا يجوز؛ لأن هذا من قبيل الجَعالة.
نكتفي بهذا القدر ونجيب، نبدأ بالإجابة على الأسئلة المكتوبة، ثم نتيح فرصةً للأسئلة الشفهية.
الأسئلة
طيب، نأخذ سؤالًا حتى يُصلح الميكرفون.
السؤال: …..؟
الجواب: لا، لا، ما تجوز، ما دام أنه غانمٌ أو غارمٌ؛ ما تجوز، هذه قاعدةٌ.
مداخلة: …..
الشيخ: حتى ولو كان، التبريرات ما تُقبل.
السؤال: …..؟
الجواب: اشتراط بعض المحلات مبلغًا معينًا، بعض العلماء المعاصرين منع من هذا، قال: معنى ذلك: أن المسابقة لها ثمنٌ، كونه يشترط أنه ما يدخل المسابقة إلا بعدما يشتري مثلًا بمئتي ريالٍ؛ فمعنى ذلك: أن صاحب هذا المحل يريد أن يربح من هذا المتسوق مبلغًا قدره كذا، فأصبحت المسابقة لها عوضٌ مبذولٌ، فهي للمنع أقرب.
مداخلة: …..
الشيخ: لكن إذا قصد الدخول في المسابقة مع هذا الشرط؛ هذا محل نظرٍ إذا قصد، أما إذا لم يقصد، ثم فاجؤوه، وقالوا: أنت اشتريت، وتدخل معنا في السحب، ثم فاز، الذي يظهر أنه لا بأس به.
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم، هذا يقول: أمَا نقول: إن (البلوت) محرمةٌ؛ لوجود الصور، ولتعلُّقها بأساطير وعقائد معينةٍ؟
الشيخ: هذا أيضًا من الضوابط التي نسينا أن نذكرها، لا بد من طمس الصور، فإذنْ تكون الضوابط: ألا تُدخِل في محرمٍ، وألا تُلهي عن واجبٍ، وألا تَستهلك وقتًا كثيرًا من الإنسان، وأيضًا: إذا كان فيها صورٌ؛ فيجب طمسها، فيكون هذا من الضوابط.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: هل يجوز إذا كان الجُعل من أحد المتسابقين فقط؟
الشيخ: لا يجوز، سواءٌ من المتسابقين أو من أحدهما؛ لأن هذا المتسابق إما غانمٌ وإما غارمٌ، إلا في الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث: لا سبق إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ [11].
السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يقول: في المسألة التي توقَّفتم فيها، ما رأيكم بهذا القول: إنه لا دليل على خَصِّها بالجهاد، والعلة مستنبطةٌ، ولماذا يكون لا دخل للجهاد فيها؟
الشيخ: لا، الشريعة مبناها على العِلل، وما من حُكمٍ إلا وله حكمةٌ، كما يقول ابن القيم، يقول: ما يوجد شيءٌ اسمه “علة تعبديُّة”، لكن تخفى على بعض العلماء، تخفى على بعض الناس.
فما الذي يجمع هذه الأمور الثلاثة: الإبل والخيل والسهام في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ ما الذي يجمعها؟
واضحٌ أنها آلات جهادٍ، واضحٌ وضوحًا ظاهرًا أنها آلات جهادٍ، فلماذا جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين هذه الأمور الثلاثة؟
لأنها آلات جهادٍ، فلو لم يكن الأمر واضحًا، أو كان فيه غموضٌ، صحيحٌ يتجِّه قول الأخ السائل، لكن الأمر واضحٌ وظاهرٌ؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام سابَق بين الخيل المُضَمَّرة والخيل غير المُضَمَّرة؛ من باب تشجيع الناس على أن يكون عندهم خيولٌ، وأن يتدربوا عليها.
السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يسأل عن حكم لعب الشطرنج؟
الشيخ: اللعب بالشطرنج تكلم عنه ابن القيم في كتابه “الفروسية” كلامًا طويلًا، وخلص إلى القول بتحريمه، وذكر آثارًا عن الصحابة ، وعن عليٍّ أنه مر على قومٍ يلعبون الشطرنج، وقال : ما هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون؟ وأيضًا رد على من قال: إن مذهب الشافعي هو القول بالجواز أو الكراهة، وقال: إن هذا ليس بالصحيح، ولا يستقيم، لكن أيضًا النَّرْد ورد فيه حديثٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام في “صحيح مسلمٍ”، يقول عليه الصلاة والسلام: من لعب بالنَّردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه [12]، وهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في تحريم النَّرْد، فما هو النَّرْد؟
مداخلة: …..
الشيخ: يقول الأخ: مكعباتٌ فيها ستة أرقامٍ، هل هذا صحيحٌ؟ هي تسمى في الوقت الحاضر “النَّرْد”، لكن هل هي المقصودة في الحديث؟ الواقع أنها ليست هي المقصودة في الحديث، النَّرْد أو النَّرْدَشير لعبةٌ موجودةٌ، كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، كانت معروفةً عند الفرس، وهي أشبه ما يسمى بلعبة (الطاولة)، وفي رسالة ماجستير في القمار وأحكامه، بحث هذه المسألة باحثٌ، وخلص إلى أنها لعبةٌ خاصةٌ، أشبه بما يسمى بلعبة (الطاولة)، ما أدري، أنا ما أعرف لعبة (الطاولة)، لكن هو ذكر هذا، لكن ليس المقصود بها، ما يسمى في وقت الحاضر بالنَّرْد، المكعبات هذه ليست هي المقصودة في الحديث، وبعض الناس يفهمها بناءً على العُرف القائم عندنا، لا، نفهمها على مقصود النبي عليه الصلاة والسلام بها، المقصود: هو لعبةٌ موجودةٌ في زمن النبي عليه السلام، نُقلت عن الأعاجم، وهي أقرب ما تكون للعبة (الطاولة).
مداخلة: …..
الشيخ: يعني تعتمد على الحظ؟
مداخلة: نعم.
الشيخ: محتملٌ، أقول: الجزم بأنها أيضًا هي لعبة (الطاولة) محل نظرٍ، يعني من الصعب الجزم أيضًا أنها هي لعبة (الطاولة)، لكن على وصف بعض الشُّراح يقول: هي تشبه لُعبة (الطاولة)، لكن هل هي لعبة (الطاولة) نفسها؟ أو أنها لعبةٌ اندثرت الآن في الوقت الحاضر؟ الله أعلم، لم أجد حقيقةً من تكلم عنها، كلام الفقهاء -يا إخوان- في باب المسابقات شحيحٌ جدًّا، يتكلمون عن مسابقة الإبل والخيل كما رأيتم في كلام المؤلف، لكن المسابقات الأخرى والألعاب الأخرى، الكلام فيها شحيحٌ، قليلٌ جدًّا، لكن بعض شراح الحديث وصفوها بأوصافٍ، قالوا: إنها تشبه إلى حدٍّ ما لعبة (الطاولة)، لكن بكُلِّ حالٍ ليست هي لعبة المكعبات.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: في قصة رهان أبي بكرٍ ، من الذي يدفع العوض؟
الشيخ: يظهر أنهم اشتركوا، هذا الذي يظهر؛ لأنهم أخذوا الرهان أولًا، ثم راهنهم أبو بكرٍ فأخذه منهم.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: هل اللعب بالزَّهر جائزٌ؟
الشيخ: الزَّهر: هو الذي ذكرنا، الذي هو المكعبات، هذه -كما ذكرنا- ليست هي المقصودة في الحديث، فيكون حكمها حكم لعبة (البلوت) تمامًا على الخلاف الذي ذكرنا.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: إذا كانت المسابقة فيها رسمُ اشتراكٍ، والجائزة تُبذل من غير رسم اشتراكٍ، فما الحكم؟ وإن بُذلت من رسم الاشتراك؛ فما الحكم؟
الشيخ: لم يتضح! كيف تكون الجائزة فيها رسمُ اشتراكٍ والجائزة تُبذل من غير رسم اشتراكٍ؟ يعني لماذا إذنْ رسمُ الاشتراك للدخول في اللعبة، هذا السؤال غير واضحٍ، لعل الأخ يوضح..
مداخلة: …..
الشيخ: لا، هذه واضحةٌ، ليس فيها إشكالٌ، إذا كنت تشتري حاجتك بسعر السوق، ليس فيه إشكالٌ.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم من حج حجة الإسلام مع الحملات الحكومية؛ كحملة وزارة الدفاع؟
الشيخ: لا بأس بذلك، وإن كان الأولى أن الإنسان يحج من ماله، لكن هذه الجهات عندهم قسم ضيافةٍ يستضيفون به الحجاج من غير منسوبي القطاعات؛ مثل “وزارة الدفاع”، ومثل “الحرس الوطني”، هذه نظمتها تلك الجهات، والمصروفات تكون من بيت المال، فهذا لا بأس به إن شاء الله، وإن كان الأولى أن الإنسان يحج من ماله.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم، يقول: من بنى وقفًا في حياته ثم مات، فهل الورثة لهم فيه شيءٌ؟
الشيخ: الوقف، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، إذا بنى وقفًا فلا يورث، وليس للورثة شيءٌ، إلا أن يجعل الوقف على الورثة، الوقف قد يكون وقفًا خيريًّا، أو وقفًا يسمونه “وقفًا ذُرِّيًّا”، “الوقف الذُّرِّيٌّ” يعني: على الذرية، “الوقف الخيري” يعني: في طرق الخير، يُقسِّمون، خاصةً العلماء المعاصرين، يُقسِّمون الوقف إلى قسمين: “خيريٍّ”، و”ذُرِّيٍّ”.
والوقف -يا إخوان- هو سر ازدهار الحضارة الإسلامية باختصارٍ، الحضارة الإسلامية على مدار ثلاثة عشر قرنًا، دَعْكَ من القرن الأخير، ثلاثة أو أربعة عشر قرنًا تعتمد اعتمادًا كاملًا على الوقف، التعليم على الوقف، الصحة على الوقف، بناء الطرق على الوقف، جميع الخدمات على الوقف، فكانت الدولة الإسلامية فقط تُعنى بحفظ الأمن الداخلي والخارجي، ولذلك ازدهرت الحضارة الإسلامية؛ ولذلك تنظر: بعض العلماء له مؤلفاتٌ كبيرةٌ؛ مثل مثلًا: “المغني” للموفق بن قدامة، انظر لهذه المؤلفات الكبيرة الضخمة: “المغني” و”الكافي” و”الروضة”، هذا يدل على وجود بيئةٍ تُساعد على التأليف والتصنيف، هذه البيئة هي بيئة الوقف، التي هيَّأت له المجال، بحيث فُرِّغ للعلم، ولا يُضطر لأن ينفق وقتًا لكسب لقمة العيش، مُفَرَّغٌ للعلم، للتأليف، مفرغٌ لتعليم طلابه؛ ولذلك نجد أن العلماء وطلابهم يَبقون في المسجد، ويتنقَّلون من فَنٍّ إلى فَنٍّ؛ ولذلك عندهم وسائل التدرُّج، ومعيشتهم مكفولةٌ بالأوقاف، حتى وُجدت أوقافٌ لغسيل ثياب طلاب العلم، وجدت، موجودةٌ الآن في بعض الأماكن، وُجد لها آثارٌ.
فالوقف هو سِرُّ ازدهار الحضارة الإسلامية؛ ولذلك لما أتى الاستعمار يريد أن يستعمر بلاد المسلمين؛ أرسلوا المستشرقين فدرسوا أحوال المسلمين، وجدوا أن هذا هو السِّر؛ فَشَلُّوا الوقف، فبدءوا بمصر وشَلُّوا الوقف فيها، خاصةً “الوقف الذُّرِّيَّ” أُلغي بقانونٍ، كذلك في بلاد الشام والعراق أُلغي فيها “الوقف الذُّرِّيُّ”، ثم بعد ذلك لما أُلغي الوقف ضعفت الحضارة الإسلامية، فسهل دخول المستعمر، هم يُسمُّونه “مستعمرًا”، وهو في الحقيقة محتلٌّ، فكانوا لما أرادوا أن يحتلُّوا بلاد المسلمين شَلُّوا الوقف أولًا، فسهُل بعد ذلك سيطرتهم على بلاد المسلمين، ولذلك لله الحمد في الآونة الأخيرة، هناك صحوةٌ وتفهُّم لدور الوقف، وأصبح هناك أوقافٌ الآن كثيرةٌ، حتى إنك في عرفاتٍ عندما تأتي لا تكاد تجد من يبيع شيئًا، معظمها أوقافٌ وسبيلٌ على المحتاجين، وهذا -لله الحمد- أمرٌ يَسُرُّ ويُبشِّر بالخير.
الأخ السائل يقول: إن هذا وَقَفَ وقفًا، نقول: يكون على ما وقَفَ فيه، لكن الورثة ليس لهم فيه شيءٌ، إلا أن يكون وَقَفَ عليهم، ولذلك ينبغي للمُوقِف أن يُحرِّر وَقْفَه، الآن -يا إخوان- من عهد النبي عليه السلام إلى وقتنا الحاضر، المسلمون في كل عصرٍ ومصرٍ يُوقِفون، أين أوقافهم؟ أين أوقافهم؟ ضاعت كثيرٌ من الأوقاف، لماذا؟ بسبب عدم ضبطها؛ لذلك ينبغي للمُوقِف أن يُحرِّر عبارة الوقف، وأن يضع ناظرًا، ويكون الناظر بأجرةٍ، ويُرتب أيضًا وضع الوقف بعد هذا الناظر، كيف يكون حال الوقف، وكيف يكون حالة هذا الوقف.
فالوقف من الأمور العظيمة، لكن لا بد للمُوقِف أن يُحرِّر العبارة فيها، ويُرتب مسألة النِّظَارة حتى تبقى هذه الأوقاف.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 2574، والترمذي: 1700، والنسائي: 3585، وأحمد: 10138. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 2578، وابن ماجه: 1979، وأحمد: 24118. |
^3 | رواه الترمذي: 3193-3194، وأحمد: 2495-2496. |
^4 | البَخَاتيُّ: جمع بُخْتِىٍّ، وهي الإبل الخُرَاسانية، ويقال: جمل بُختيٌّ وناقة بُختيَّة، وجمعه بخاتيَّ -غير مصروف- لأنه بزنة جمع الجمع، ولك أن تخفف الياء فتقول: البخاتِي والأثافي، والإبل العِراب: هي العربية، خلاف البَخاتي. ينظر: الصحاح للجوهري: 1/ 179، 243، ومقاييس اللغة لابن فارس: 4/ 300. |
^5 | رواه البخاري: 420، ومسلم: 1870. |
^6 | رواه أبو داود: 2579، وابن ماجه: 2876، وأحمد: 10557. |
^7 | رواه البخاري: 6154، ومسلم: 2258. |
^8 | رواه البخاري: 2140، ومسلم: 1413. |
^9 | رواه مسلم: 1522. |
^10 | رواه أبو داود: 3451، والترمذي: 1314، وابن ماجه: 2200، وقال الترمذي: حسن صحيح. |
^11 | سبق تخريجه. |
^12 | رواه مسلم: 2260. |