logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(64) باب المساقاة- من قوله: “وهي دفع شجرٍ لمن يقوم بمصالحه ..”

(64) باب المساقاة- من قوله: “وهي دفع شجرٍ لمن يقوم بمصالحه ..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

باب المُساقاة

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

باب المُساقاة.

نحن قد وصلنا في شرحنا في “دليل الطالب” إلى “باب المُساقاة”.

المُساقاة والمُزارعة هي من جملة الأعمال التي يُزاولها الناس من قديم الزمان؛ لحاجتهم إليها، فإنه قد يكون في مِلْك الإنسان شجرٌ لا يستطيع القيام عليه ولا استثماره، أو تكون له أرضٌ لا يستطيع العمل عليها، وعند آخر القُدرة على العمل، لكنه لا يملك الأرض، أو لا يملك الشجر الذي يغرسه، ومن هنا شُرِعَت المُزارعة والمُساقاة، ففيها مصلحةٌ للطرفين.

ما معنى المُساقاة؟ وما معنى المُزارعة؟ وما معنى ما يذكره بعض الفقهاء من مصطلح “المُغَارَسَة”؟

تعريف المُساقاة

المُساقاة عرَّفها المؤلف بقوله:

وهي دفع شجرٍ لمَن يقوم بمصالحه بجزءٍ من ثمره.

هذا هو تعريف المُساقاة.

“دفع شجرٍ”، ولم يقل المؤلف: مغروسًا، أو غير مغروسٍ؛ ليشمل الأمرين جميعًا.

“لمَن يقوم بمصالحه” يعني: يقوم على هذا الشجر، يقوم بسقيه وما يحتاج إليه حتى يُثْمِرَ.

“بجزءٍ من ثمره” يعني: يكون ذلك بجزءٍ من الثمرة، وهو باقٍ لمالكه، لكن يقوم عليه بجزءٍ من الثمر، وأصوله باقيةٌ للمالك.

وبعض الفقهاء يُسمِّي هذا “مُغَارَسَة”، يُسمِّي دفع الأرض أو الشجر لمَن يغرسه بجزءٍ معلومٍ من الشجر أو من الثمر يُسمِّيه: مُغَارَسَة، ومنهم مَن يُسمِّيه: مُنَاصَبَة.

لكن المعنى المشهور هو: أن المُساقاة تشمل معنى المُغَارَسَة.

شروط صحة المُساقاة

ثم ذكر المؤلف شروط صحة المُساقاة فقال:

بشرط: كون الشجر معلومًا.

فلا بد أن يكون الشجر معلومًا للمالك وللعامل: إما برؤيةٍ، أو بصفةٍ؛ لأن هذا شرطٌ في المُعاوضات عمومًا: في البيع، وفي الإجارة، وهنا المُساقاة والمُزارعة هي نوعٌ منها، فهي من عقود المُعاوضات، فلا بد فيها من العلم بالشجر برؤيةٍ أو صفةٍ.

وأن يكون له ثمرٌ يُؤكل.

وذلك لأنه سيتفق مع العامل بجزءٍ من الثمر، فلا بد أن يكون لهذا الشجر ثمرٌ يُؤكل، وهذا هو الشرط الثاني.

والشرط الثالث قال:

وأن يَشْتَرط للعامل.

أو “أن يُشْتَرط للعامل” يصح الوجهان.

وأن يُشْتَرط للعامل جزءٌ مشاعٌ معلومٌ من ثمره.

هذا هو الشرط الثالث: أنه لا بد أن يُشترط للعامل جزءٌ مشاعٌ من الثمر، فلا بد من تقدير نصيب العامل، ونصيب العامل تقديره يكون بجزءٍ مشاعٍ.

وهذا المصطلح “مشاع” مَرَّ معنا كثيرًا في دروسٍ سابقةٍ، فما معنى “مشاع”؟

المشاع يعني: بالنسبة، كالثلث، والربع، والنصف، أو بالنسبة المئوية، إن شئتَ جعلتَه بالنسبة المئوية: 5%، 10%، 20%، هذا معنى “مشاع”.

إذن لا بد من اشتراط جزءٍ مشاعٍ معلومٍ من الثمر للعامل؛ لأنه مع عدم وجود ذلك الشرط يكون الأمر فيه جهالة، ولا يجوز ذلك مع الجهالة؛ ولهذا قال رافع بن خَدِيج : “كنا أكثر أهل المدينة حَقْلًا، وكان أحدنا يُكْرِي أرضه فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذِهِ، ولم تُخْرج ذِهِ، فنهاهم النبي [1].

وقد وردتْ رواياتٌ تنهى عن الكِرَاء، والمقصود به: أن يكون للعامل جزءٌ معينٌ، فهذا لا يجوز، وهذا هو الذي نهى عنه النبي ؛ ولهذا قال رافع بن خَدِيج -كما في “صحيح مسلم”-: “كان الناس يُؤاجرون على عهد النبي على المَاذِيَانات”، المَاذيانات -بالذال- أي: مَسَايل المياه، “وأَقْبَال الجداول” أي: أوائلها ورؤوسها، “وأشياء من الزرع، فَيَهْلك هذا ويَسْلَم هذا، ويَسْلَم هذا ويَهْلك هذا، فلم يكن للناس كِرَاءٌ إلا هذا؛ فلذلك زَجَر عنه” النبي  “فأما شيءٌ معلومٌ مضمونٌ فلا بأس به” [2].

إذن اشتراط جزءٍ مُعينٍ من الثمر أو من الأرض هذا لا يجوز، فلا بد أن يكون مشاعًا، فلا يقل: لي ثمرة هذه الشجرة؛ لأنها قد لا تُثْمِر، أو لي زرع هذا المكان، فقد لا ينبت الزرع؛ ولهذا قال: فَيُنْبِت هذا، ويهلك هذا. فلا بد أن يكون بشيءٍ مشاعٍ.

ولذلك عندما تقرأ في كتب السُّنة تجد النَّهي عن الكِرَاء، وعن بعض صور المُساقاة والمُزارعة، والمقصود بها هو هذا المعنى، المقصود بها: أن يُشترط للعامل جزءٌ معينٌ من الأرض أو من الزرع، فإن هذا فيه جهالةٌ، وفيه غَرَرٌ، لكن إذا اشترط له جزءًا مشاعًا لم تكن فيه جهالةٌ ولا غَرَرٌ.

إذا قيل: لك الربع، لك السدس، لك النصف. لم يكن فيه غَرَرٌ.

وهذا أيضًا كما مَرَّ معنا في المُضاربة، ففي المُضاربة اشتراط دراهم معلومة لا يجوز، بل لا بد أن يكون الربح الذي للمُضارب مشاعًا: الربع، النصف، الثلث، 5%، 10%.

فهذه قاعدةٌ في المعاملات كلها: لا بد أن تكون النسبة مشاعةً، ولا يصح أن تكون مُعينةً، اللهم إلا في بعض العقود: كالإجارة -وستأتي هذه- فلا بأس أن تكون مُعينةً؛ لأنها على المنفعة، العقد على المنفعة، لكن في مثل المُضاربة، وفي مثل المُساقاة والمُزارعة، هذه لا بد أن تكون بنسبةٍ مشاعةٍ.

إذن أن يشترط للعامل جزءًا مشاعًا معلومًا من الثمر؛ ولذلك نجد أن النبي لما عامل أهل خيبر عاملهم بِشَطْر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: عاملهم بِشَطْر -يعني: بنصف- ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ، وذلك أن المسلمين لما فتحوا خيبر، قال اليهود: يا محمد، نحن أهل زرعٍ وحَرْثٍ، ونحن أعلم منكم بما تصلح به هذه الأرض، فَعَامِلْنا عليها. فَعَامَلَهم النبي على أن يكون نصف الثمرة لليهود، ونصف الثمرة للمسلمين [3].

فهذا نوعٌ من المُساقاة والمُزارعة؛ ولذلك هذا هو الأصل في المُساقاة والمُزارعة.

وهي جائزةٌ بالسُّنة والإجماع:

بالسُّنة؛ لمُعاملة النبي عليه الصلاة والسلام لأهل خيبر بشطر ما يخرج منها.

وبالإجماع: أجمع المسلمون على مشروعية المُساقاة والمُزارعة.

تعريف المُزارعة

قال المؤلف رحمه الله:

دَفْعُ الأرض والحَبِّ لمَن يزرعه.

عرَّف المؤلف المُزارعة بأنها: دَفْع الأرض والحَبِّ لمَن يزرعه.

ويقوم بمصالحه.

فيُعطيه الأرضَ، ويقول: هذه الأرض مِلْكٌ لي، خُذْهَا وازرعها، ويكون الزرع بيننا بنسبةٍ مشاعةٍ.

شروط صحة المُزارعة

قال:

بشرط كون البَذْرِ معلومًا جنسه وقَدْره، ولو لم يُؤكل.

لا بد أن يكون البَذْر معلومًا، فلا بد من تحديده -مثلًا- بالآصع، أو في وقتنا الحاضر بالكيلوجرامات، ونحو ذلك.

قال:

كونه من رَبِّ الأرض.

هذا هو الشرط الثاني.

الشرط الأول: يكون البَذْر معلومًا جنسه وقَدْره.

والشرط الثاني: كونه من ربِّ الأرض، يعني: كون البَذْر من ربِّ الأرض.

وبناءً على كلام المؤلف: لو كان البَذْر من العامل لم تصح المُزارعة.

وقال بعض أهل العلم: إنه لا يُشترط أن يكون البذر من ربِّ الأرض، بل يصح أن يكون من العامل.

وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.

واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، وهو: أن النبي عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثَمَرٍ أو زرعٍ، قالوا: وفي قصة خيبر لم يُذْكَر أن البَذْر كان على المسلمين؛ لأن الأرض للمسلمين بعد فتح خيبر، فلم يَرِد فيها أن البَذْر كان على المسلمين، بل إنه جاء في بعض الروايات ما يدل على أن النبي جعل البَذْر عليهم [4]، وهذا هو الظاهر من القصة وظاهر السياق، فلم يكن المسلمون يحملون البَذْر إلى خيبر، ويُعطون يهود خيبر، ويقولون: خُذُوا هذا البَذْر ابْذُرُوا به الأرض. بل ظاهر الروايات وظاهر سياق القصة: أن اليهود هم الذين يأتون بالبَذْر.

فهذا يُؤكد أن القول الراجح في هذه المسألة هو: أنه لا يُشترط أن يكون البَذْر من ربِّ الأرض، وأنه يصح أن يكون من ربِّ الأرض أو من العامل، أو بحسب ما يتفقان عليه.

قال:

وأن يُشْرَط للعامل جزءٌ مُشاعٌ معلومٌ منه.

كما قلنا في المُساقاة: أن يكون للعامل جزءٌ مُشاعٌ: كالربع، والنصف، أو بالنسبة المئوية: 5%، 10%، أو أكثر، أو أقلّ.

قال:

ويصح كون الأرض والبَذْر والبقر من واحدٍ، والعمل من آخر.

قياسًا على المُضاربة، فلو أن أحدهما قال: أنا عليَّ الأرض والبَذْر والبقرة -التي كانوا في السابق يعملون عليها- وأنت فقط عليك العمل، ما عليك إلا العمل.

فهذا يصح إذا حصل التَّراضي بينهما واتَّفقا على هذا، فلا مانع منه، فيصح هذا قياسًا على المُضاربة، فإن المُضاربة يكون المال فيها من أحدهما، والعمل من الآخر.

قال:

فإن فُقِدَ شرطٌ.

أي: من الشروط السابقة.

فالمُساقاة والمُزارعة فاسدةٌ.

كأن يكون الشجر -مثلًا- غير معلومٍ، أو أن يشترط للعامل جزءًا مجهولًا، أو جزءًا مُعينًا ليس على سبيل الشيوع، فالمُساقاة والمُزارعة فاسدةٌ.

والثَّمر والزرع لربِّه؛ لأنه نماء ملكه.

لكن العامل هل يذهب عمله هباءً؟

لا، ولذلك قال:

وللعامل أجرة مثله.

لأنه بَذَلَ منافعه بِعِوَضٍ لم يُسَلَّم له، فكان له أجرة المِثْل.

عندما نقول: “أجرة المِثْل” فكيف نضبطها؟ ما الضابط فيها؟

نعم، العُرْف، أجرة المِثْل للعُرْف، ضابطها العُرْف.

قاعدة: كل ما ورد ولم يرد فيه حَدٌّ في الشرع، ولا في اللغة، فالمرجع فيه إلى العُرْف.

حكم العامل إن فسخ عقد المُساقاة أو المُزارعة أو هرب

قال:
ولا شيء له إن فسخ أو هرب قبل ظهور الثمرة.

أي: إن فسخ العامل عقد المُساقاة أو المُزارعة، أو هرب وترك العمل قبل أن تظهر الثمرة فلا شيء له؛ لإسقاطه حقَّه برضاه، وذلك كعامل المُضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح، فإنه لا شيء له.

قال:

وإن فسخ بعد ظهورها.

يعني: بعد ظهور الثمرة.

فالثمرة بينهما على ما شَرَطَا.

كما يلزم المُضارب بيع العُروض، إذا فُسِخَت المُضاربة بعد ظهور الربح فإنه يلزم المُضارب بيع العُروض، ويكون الربح بينهما على ما شَرَطَا، فكذلك هنا.

قال:

وعلى العامل تمام العمل مما فيه نموٌّ أو صلاحٌ للثمر.

يعني: عليه أن يُتمَّ العمل ويقوم به على الوجه الأكمل مما فيه نماء وصلاحٌ وإصلاحٌ للثمر من السَّقي بالماء، والحَرْث، وقطع الشوك، ونحو ذلك، وكل ما يحتاج له ذلك الشجر أو الزرع.

على مَن يكون الجَذَاذ؟

قال:
والجَذَاذ عليهما بقدر حِصَّتَيْهِما.

يعني: الجَذَاذ على العامل، وعلى ربِّ الأرض أو الشجر بقدر حِصَّتَيْهِما؛ وذلك لأنه إنما يكون الجَذَاذ بعد تكامل الثمر وانقضاء المُعاملة أشبه نقله إلى المنزل.

والقول الثاني في المسألة: أن الحصاد واللَّقاط والجَذَاذ يكون على العامل؛ وذلك لأن النبي دفع خيبر إلى يهود على أن يُعْمِلُوها من أموالهم، فيكون الجَذَاذ على العامل.

ويحتمل أن يُقال: إن كان هناك عُرْفٌ فَيُعْمَل بالعُرْف، إن كان هناك عُرْفٌ بأن الجَذَاذ على العامل، أو على ربِّ الأرض أو الشجر؛ فَيُعْمَل بالعُرْف، لكن إذا لم يكن هناك عُرْفٌ، فالأقرب أن الجَذَاذ على العامل؛ لأن هذا هو ظاهر المنقول في قصة مُعاملة النبي لأهل خيبر.

مَن يتحمل الضرائب في المُساقاة والمُزارعة؟

قال:
ويتبعان العُرْف في الكُلَف السُّلطانية ما لم يكن شَرْطٌ فَيُتَّبع.

إن كان هناك شرطٌ فعلى ما شَرَطَا، وإن لم يكن هناك شرطٌ قال: يُتَّبع العُرْف في الكُلَف السُّلطانية.

ما الكُلَف السُّلطانية؟

يعني: السلاطين في الزمن السابق كانوا يضربون ضرائب أو شبه الضرائب على أهل الحَرْث وأهل المزارع، فعلى حسب سعة المزرعة وما تُنْتِج يكون عليها خَرَاجٌ، وهو ما يُسمَّى في الوقت الحاضر بـ”الضريبة” أو “الضرائب”، يُسمَّى في الزمن السابق بـ”الخَرَاج”، فتأخذها الدولة فيما سبق من أجل تقوية خزينة الدولة ونحو ذلك.

هذا -والحمد لله- في الوقت الحاضر غير موجودٍ، لكن في الزمن السابق كان موجودًا.

فهذه الكُلَف السُّلطانية يقول: إنها يُتَّبع فيها العُرْف، فإذا كان هناك عُرْفٌ قائمٌ بأنها تكون بينهما، أو تكون على ربِّ الأرض أو الشجر، أو تكون على العامل، فيتبعان العُرْف في ذلك إلا إذا كان هناك شرطٌ فيعملان بالشرط؛ لقول النبي : المسلمون على شروطهم [5].

باب الإجارة

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب الإجارة.

قبل أن ننتقل لـ”باب الإجارة”، هنا المؤلف ذكر الغَرْس، وذكر الشجر، وذكر الزرع، وقد جاء في “صحيح مسلم” من حديث أنسٍ : أن النبي قال: ما من مسلمٍ يَغْرِس غَرْسًا، أو يزرع زَرْعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة [6].

فهذا فيه دليلٌ على فضل الغَرْس وفضل الزرع.

وجاء أيضًا في روايةٍ عند مسلمٍ: ما من مسلمٍ يَغْرِس غَرْسًا إلا كان ما أُكِلَ منه له صدقة، وما سُرِقَ منه له صدقة، وما أكل السَّبُع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يَرْزَؤُه يعني: لا ينقصه أحدٌ إلا كان له صدقة [7].

وأيضًا جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي دخل على أم مُبَشِّر الأنصارية في نخلٍ لها، فقال : مَن غَرَسَ هذا النَّخل؟ أمسلمٌ أم كافرٌ؟ قالت: بل مسلمٌ. فقال عليه الصلاة والسلام: لا يغرس المسلم غَرْسًا، ولا يزرع زَرْعًا، فيأكل منه إنسانٌ ولا دابةٌ ولا شيءٌ إلا كانت له صدقة [8].

فهذا يدل على فضل الزراعة، وعلى فضل الغَرْس والزرع؛ ولهذا نجد أن بعض أهل العلم ذهب إلى أن أفضل المكاسب الزراعة، وممن اختار هذا القول النووي رحمه الله في شرحه على “صحيح مسلم” لما ذكر أطيب المكاسب قال: “اختلف العلماء فيها، فقيل: التجارة، وقيل: الصنعة باليد، وقيل: الزراعة”، قال: “وهو الصحيح”؛ وذلك لأن مَن زرع زرعًا فلا يُؤْكَل منه إلا كان له به صدقة، سواء كان الآكل إنسانًا أو حيوانًا أو طيرًا أو بهيمةً، أو حتى لو سُرِقَ يكون له به صدقة، ما دام أن هذا الزرع قائمٌ ويُنتفع به.

فهذا فيه فضل الزراعة، وفضل الزرع، وفضل الغَرْس، وأن الإنسان ينال به أجرًا، وقد يستمر هذا الأجر له بعد وفاته.

وإن كانت أفضل المكاسب قد لا نُسلِّم للنووي رحمه الله القول بأنها الزراعة، فهي مُختلفٌ فيها، لكن ليس هذا مقام بحث هذه المسألة، لكن لا شكَّ أن هذه النصوص وما جاء في معناها تدلُّ على فضل الزراعة، وفضل الغَرْس والزرع، وهذا فيه تسليةٌ للفلاحين والمُزارعين.

ثم قال المؤلف رحمه الله:

باب الإجارة.

الإجارة من العقود العظيمة التي تتكرر في حياة الناس بتعاملاتهم اليومية والشهرية والسنوية.

والإجارة هي -في الحقيقة- نوعٌ من البيع، لكنه بيع ماذا؟

بيع منافع، الإجارة هي بيع منافع.

تعريف الإجارة

الإجارة مُشتقةٌ من الأجر، وهو العِوَض، ومنه قول الله تعالى عن موسى : قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77].

أما في اصطلاح الفقهاء فمن أحسن التعاريف للإجارة: أنها عقدٌ على منفعةٍ مُباحةٍ من عينٍ مُعيَّنةٍ أو موصوفةٍ في الذِّمة مدةً معلومةً، أو على عملٍ معلومٍ بِعِوَضٍ معلومٍ.

يعني: تعريفها المُختصر: “بيع منافع”، لكن تعريفها الذي فيه احترازاتٌ: أنها عقدٌ على منفعةٍ مُباحةٍ من عينٍ مُعيَّنةٍ أو موصوفةٍ في الذِّمة مدةً معلومةً، أو على عملٍ معلومٍ بِعِوَضٍ معلومٍ.

وهذا التعريف يشتمل على غالب شروط الإجارة:

فقولهم: “عقدٌ على منفعةٍ” يخرج به العقد على العين، فإن العقد على العين ليس بإجارةٍ، وإنما يُسمى ماذا؟

العقد على العين: بيعٌ، أما العقد على المنفعة فهو الإجارة.

“عقدٌ على منفعةٍ مُباحةٍ” يخرج به العقد على المنفعة المُحرمة، فليست إجارةً بالمعنى الشرعي.

“معلومة” يخرج به المنفعة المجهولة، فلا يصح العقد عليها.

أنواع الإجارة

“من عينٍ مُعينةٍ أو موصوفةٍ في الذمة” يُؤخذ منها أن الإجارة على نوعين:

  • النوع الأول: أن تكون الإجارة على منفعةٍ، سواء كانت هذه المنفعة من عينٍ معينةٍ أو موصوفةٍ بالذمة.
    فمثال المُعينة: آجرتُكَ هذه الدار، آجرتُكَ داري هذه.
    ومثال الموصوفة: آجرتُكَ سيارةً لونها كذا، و(موديلها) كذا، وصفتها كذا.

هذا هو النوع الأول: أن تكون الإجارة على منفعة عينٍ، سواء كانت هذه العين معينةً أو موصوفةً في الذمة، إذن الإجارة على منفعة عينٍ.

  • النوع الثاني: أن تكون الإجارة على أداء عملٍ معلومٍ، كأن يستأجر سيارة أجرة لحمله إلى مكانٍ معينٍ -مثلًا- ونحو ذلك.

وقولهم: “مدة معلومة” أي: يُشترط في النوع الأول -وهو الإجارة على المنفعة-: أن تكون مدةً مُحددةً: كيومٍ، أو شهرٍ، أو سنةٍ، إلا إذا كان هناك عُرْفٌ قائمٌ، فيُعمل بهذا العُرف.

“بِعِوَضٍ معلومٍ” أي: لا بد أن يكون مقدار الإجارة معلومًا.

شروط الإجارة

ثم ذكر المؤلف شروط الإجارة فقال:

شروطها ثلاثةٌ:
الأول: معرفة المنفعة.

وذلك لأنها هي المعقود عليها، فاشتُرط العلم بها كالبيع، فعند بناء حائطٍ -مثلًا- لا بد أن يُذكر طوله وعرضه، وعند استئجار بيتٍ -مثلًا- لا بد أن تعرف في هذا البيت مساحته وموقعه، فلا بد أن تكون منفعة هذا البيت معلومةً، ومدة الإجارة تكون معلومةً، استئجارٌ لمدة يومٍ، أو شهرٍ، أو سنةٍ.

قال:

ومعرفة الأجرة.

لا بد من معرفة الأجرة، هذا هو الشرط الثاني: أن تكون الأجرة معلومةً.

قال المُوفق ابن قدامة: “لا نعلم فيه خلافًا؛ وذلك لأنها عِوَضٌ في عقد مُعاوضةٍ، فاعتُبر علمه كالثمن”.

الأجرة في الإجارة هي كالثمن في البيع تمامًا، كما أنه من شروط صحة البيع: كون الثمن معلومًا، فكذلك في الإجارة يُشترط: كون الأجرة معلومةً.

وكما ذكرنا: الإجارة في الحقيقة نوعٌ من البيع، فهي بيع منافع، لكن لو لم تُحدِّد الأجرة، اتَّفقتَ مع عاملٍ على عملٍ معينٍ، مثلًا: سباكة، أو كهرباء، أو نحو ذلك، أو حتى سيارة أجرة، يُوصلك إلى مكانٍ معينٍ، ولم تتفق أنت وهو على أجرةٍ معينةٍ، واختلفتما، ولا شكَّ أنه ينبغي تحديد الأجرة، لكن إذا لم يحصل هذا.

طالب: …….

الشيخ: نعم، يُرجع إلى أجرة المِثْل، الصحيح أنه يُرجع إلى أجرة المِثْل، لكن على كلام المؤلف تكون إجارةً فاسدةً لا تصح، لكن على القول الصحيح يمكن تصحيحها، ويُقال: إنهما يرجعان إلى أجرة المِثْل، فَيُنْظَر: لو استأجرنا مثل هذا الشخص كم يأخذ؟ أو عمل عاملٌ مثل هذا العمل كم يأخذ؟ فيُعطى مثله.

قال:

وكون النَّفع مُباحًا.

هذا هو الشرط الثالث، فلا تجوز على المنافع المُحرمة: كالغناء أو النِّياحة، أو إجارة داره -مثلًا- لتُجعل كنيسةً، ونحو ذلك.

ومثل ذلك أيضًا: إجارة محلٍّ لتُباع فيه أشياء مُحرمة، هذا لا يجوز، مثلًا: بعض المحلات قد تبيع أشياء مُحرمة، مُتمحِّضة أنها كلها مُحرمة.

مَن يذكر لنا مثالًا؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، مثلًا: محل يبيع أشرطة أَغَانٍ، كلها أشرطة أَغَانٍ، فهذا لا يجوز تأجيره، تأجيره لا يجوز، ولا تصح الإجارة، وما يأخذه المُؤجر من الأجرة مُحرَّمٌ عليه.

طالب: …….

الشيخ: نعم، محلات الشيشة؛ لأن هذا مُتمحِّضٌ كله مُحرَّمٌ، فهذه لا تجوز.

لو كان ما يُباع بعضه يجوز بيعه، وبعضه حرامٌ يَحْرُم بيعه، هل يجوز أم لا؟

مثل: بقالة، وهذه البقالة تبيع دخانًا مثلًا.

طالب: …….

الشيخ: نقول: بالنسبة للمُؤجر، بالنسبة للبيع هذا واضحٌ حكمه، لكن بالنسبة للمُؤجر؟

طالب: …….

الشيخ: ننظر للغالب، ما دام أن الغالب أنه يُباع الشيء المُباح فلا بأس بتأجيره، لا بأس من حيث الحكم، لكن الورع مقامٌ آخر، الورع أنك لا تُؤجر إلا لمَن يبيع شيئًا حلالًا مُتمحِّضًا أنه حلالٌ، لكن من حيث الحكم: الذي يظهر أنه ما دام أن الغالب هو الحلال فلا بأس بتأجيره في هذه الحالة.

طالب: …….

الشيخ: لا شكَّ أن الورع ألا يُؤجر إلا على مَن يبيع المُتمحِّض حلالًا، لكن من حيث الحكم ننظر للعام الأغلب، فما دام أن العام الأغلب أن البضاعة مُباحةٌ، فالذي يظهر هو جواز ذلك.

طالب: …….

الشيخ: الحلاق، ننظر للغالب: هل الحلاق الغالب هو في الحرام أو في الحلال؟

الحلاقة، الواقع أن الغالب على عمل الحلاقين هو حلق اللِّحَى، الغالب أن عملهم في الحرام أكثر منه في الحلال، فلو قارنتَ نسبة حلق اللِّحى بالنسبة -مثلًا- لحلق شعر الرأس لوجدتَ نسبة اللِّحى هي الغالبة؛ ولذلك لا يجوز فتح مثل هذه المحلات ما دام أن الغالب هو هذا، ولا تأجيرهم كذلك.

عندنا الآن إذن الشرط الثالث قلنا: كون النَّفع مُباحًا.

قال في الشرط الرابع:

 يُستوفى دون الأجزاء.

أن يُستوفى النَّفع -يعني- من العين دون الأجزاء.

وبناءً على هذا: لا تصح الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به: كمطعومٍ، ومشروبٍ، ونحوه، فلا يصح أن يُؤجِّر -مثلًا- فاكهةً، أو يُؤجِّر -مثلًا- أيَّ مطعومٍ أو مشروبٍ؛ لأن هذا المشروب أو المطعوم يذهب بالانتفاع به، فلا بد أن تكون الإجارة على ما يُستوفى دون الأجزاء، يعني: ما يمكن الاستفادة من منفعته، وتبقى عينه.

قال:

فتصحُّ إجارة كل ما أمكن الانتفاع به مع بقاء عَيْنِه.

هنا وضَّح المؤلف الشرط السابق، فهذا توضيحٌ للشرط السابق: أنه تصح إجارة كل ما أمكن انتفاعه به مع بقاء عَيْنِه.

إذا قُدِّرتْ منفعته بالعمل: كركوب الدابة لِمَحَلٍّ مُعينٍ.

فهذا من باب تقدير المنفعة بالعمل، ومثلها في وقتنا الحاضر: السيارة، فيستأجر السيارة إلى محلٍّ مُعينٍ، يستأجر -مثلًا- السيارة من الرياض إلى مكة بمبلغٍ قَدْره كذا.

أو قُدِّرتْ بالأمد وإن طال، حيث كان يغلب على الظنِّ بقاء العين.

يعني: قُدِّرتْ بزمنٍ معينٍ، ومدةٍ معينةٍ، يعني: إما أن يكون التقدير بالعمل، أو يكون التقدير بالزمن، لكن إذا كان التقدير بالزمن فلا بد من غَلَبَة الظنِّ ببقاء المنفعة إلى انتهاء المدة، يعني: إلى انقضاء مدة الإجارة.

موسى عليه الصلاة والسلام لما أتى إلى الرجل الصالح شعيب، لكن ليس هو شعيب النبي ، هو رجلٌ قيل: إن اسمه شعيب: فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، فأتى فـوَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، فقام بمُساعدتهما وسقى لهما، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، فلما أتى إليه، المهم أنه اتَّفق مع موسى على أن يُزوِّجه إحدى ابنتيه، وأن يكون المهر: عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27] يعني: تُؤجِّرني نفسك لرعي الغنم ثماني حِجَجٍ؛ يعني: ثماني سنين، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27]، فأتمَّ موسى عشر سنين؛ لتحصيل مهر الزوجة، فهل هذا المهر قليلٌ أو كثيرٌ؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، العمل عشر سنين أجرته الآن في وقتنا الحاضر -مثلًا- ريع كون الإنسان يُؤجِّر نفسه عشر سنين لعملٍ من الأعمال ستكون الأجرة المُحصَّلة كبيرةً، وهذا يدلُّ على أن المُهور كانت في زمنهم كثيرةً وكبيرةً، كما قال ابن القيم: “مما يدل على أهمية النكاح: أن الله اقتطع من عمر كليمه موسى عشر سنين لأجل تحصيل مهر زوجته”.

إجارة موسى هنا: إجارة عملٍ، أو إجارة مدةٍ وزمنٍ؟

إجارة عملٍ، فقد آجَرَ نفسه للرعي لمدة عشر سنين، آجَرَ نفسه لرعي الغنم عند هذا الرجل لعشر سنين؛ لأجل تحصيل مهر زوجته.

طالب: …….

الشيخ: نعم، هو جمع بين العمل ورعي الغنم، وقَدَّر ذلك بثمانٍ أو عشرٍ، فأتمّها موسى عليه الصلاة والسلام عشر سنين.

ضَرْبَا الإجارة

قال المؤلف:
فصلٌ:
والإجارة ضربان:
الأول: على عينٍ.
والثاني: على منفعةٍ.

الأول: على عينٍ

فإن كانت موصوفةً.

يعني: كانت العين موصوفةً في الذمة.

شروط الإجارة في العين الموصوفة

اشتُرط فيها: اسْتِقْصَاء صفات السَّلَم.

وذلك لاختلاف الأغراض باختلاف الصفات، فلا بد من استقصاء الصفات ما دامت موصوفةً.

وكيفية السير.

يعني: لو كانت الإجارة لِدَابَّةٍ فلا بد من معرفة كيفية السير.

من هِمْلَاجٍ وغيره.

الهِمْلَاج: ضربٌ من سير الدواب، وهو السريع مع نوعٍ من التَّبَخْتُر ونحوه، يقولون: هذا هو الهِمْلَاج، وعندما يقولون: دابة هِمْلَاجة، فلا بد من معرفة كيفية سير الدابة.

وفي وقتنا الحاضر نقول: سير السيارة -مثلًا- فلا بد أن تكون السيارة موصوفةً: إما أن تكون مُعينةً بحيث يراها المُستأجر، أو أنها تُوصف وَصْفًا مُنضبطًا، فلو قال: السيارة نوعها كذا، أُؤجرك سيارةً نوعها كذا، (موديلها) كذا، لونها كذا. فيذكر الصفات التي يختلف بها الثمن.

قال:

لا الذكورة والأنوثة والنوع.

يعني قال: لأن هذه الأمور بالنسبة للدواب لا تُؤثِّر على مقدار الأجرة، لكن هل هذا مُسلَّمٌ؟

الذكورة والأنوثة والنوع هل هي لا تُؤثر؟

يعني: يظهر أنها كانت في زمن المؤلف لا تُؤثر، لكن بعض الفقهاء قالوا: إنها تُؤثر؛ ولذلك فإن العبرة بالتأثير، باختلاف الصفات، ما يختلف من الصفات لا بد من ذِكْره؛ ولذلك نحن نقول: نضع قاعدةً عامةً، وهي: لا بد من ذِكْر الصفات التي يختلف بها مقدار الأجرة.

كما نقول في البيع: لا بد من ذِكْر الصفات التي يختلف بها الثمن، نقول هنا: لا بد من ذِكْر الصفات التي يختلف بها مقدار الأجرة.

قال:

وإن كانت مُعيَّنةً.

يعني: وإن كانت العين المُؤجرة مُعيَّنةً.

شروط الإجارة في العين المُؤجرة

اشتُرِطَ معرفتها.

أي: معرفة العين المُؤجرة والعلم بها؛ وذلك لأن الإجارة -كما قلنا- هي نوعٌ من البيع، فهي بيع منافع، فكما أن البيع لا بد أن يكون المبيع فيه معلومًا، كذلك أيضًا لا بد أن تكون العين المُؤجرة معلومةً.

والقُدرة على تسليمها.

وهذا أيضًا مُشترطٌ في البيع، فهو من شروط صحة البيع، فيُشترط كذلك في العين المُؤجرة، فلا بد من القدرة على التسليم، وكما أنه لا يجوز بيع العبد الآبق، كذلك لا تجوز إجارة العبد الآبق، وكما أنه لا يجوز بيع الجمل الشارد، لا تجوز إجارة الجمل الشارد، وهكذا.

وكون المُؤجر يملك نفعها.

وهذا أيضًا كما قيل في البيع: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، كذلك يُقال هنا: لا بد أن تكون العين المُؤجرة يملك نفعها المُؤجر.

وهنا قلنا: يملك النَّفع، ولم نقل: يملك العين، هل بينهما فرقٌ؟

هل هناك فرقٌ بين ملك المنفعة وملك العين؟

طالب: …….

الشيخ: أحسنت؛ لأنه ربما يكون مُستأجِرًا ويُريد أن يُؤجر، استأجرتَ بيتًا، فلك أن تُؤجره، وأنت لا تملك أصلًا هذا البيت، وإنما تملك منفعته مدةً معينةً.

قال:

وصحة بيعها.

أي: إنه يُشترط في العين المُؤجرة أن تكون مما يصح بيعه، فإن كانت مما لا يصح بيعه فلا تصح إجارته: كالكلب -مثلًا- والخنزير، فإنه لا يصح بيعهما، فلا تصح إجارتهما، لكن المؤلف استثنى من قوله: “صحة بيعها” أمورًا، قال:

حكم إجارة المسلم نفسه للكافر

سوى حُرٍّ.

فالحُرُّ لا يجوز بيعه، ولكن تصح إجارته، فيصح أن يكون الحُرُّ أجيرًا: إما أجيرًا خاصًّا، أو أجيرًا مُشتركًا، لكن استثنى العلماء من ذلك: إجارة المسلم للكافر للخدمة؛ أن يُؤجر المسلمُ نفسَه لكافرٍ ليخدمه، قالوا: إن هذا لا يجوز؛ لما فيه من إذلال المسلم، وحبس المسلم عند كافرٍ، وقد قال الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، فلا يجوز أن يُذِلَّ المسلم نفسه عند كافرٍ ليخدمه.

أما إجارة المسلم للكافر لغير الخدمة -لعمل شيءٍ ما- فهذا يجوز.

قال المُوفق ابن قدامة: “بغير خلافٍ، ومما يدل لهذا ما أُثِرَ عن بعض السلف، ومن ذلك: أن عليًّا آجر نفسه من يهوديٍّ يستقي له كلَّ دَلْوٍ بتمرةٍ”.

إذن إجارة المسلم نفسه للكافر على ضربين:

  • الضرب الأول: أن تكون الإجارة للخدمة، وهذا لا يجوز؛ لما في ذلك من إذلال المسلم لكي يخدم كافرًا، وفيه من العُلوِّ للكافر على المسلم، وهذا لا يجوز.
  • الضرب الثاني: أن يُؤجر المسلمُ نفسَه لكافرٍ لغير الخدمة: للقيام بعملٍ من الأعمال ونحوه، فهذا جائزٌ باتفاق العلماء.

طالب: …….

الشيخ: الخدمة، المقصود: أن يخدمه، أن يكون عنده يقضي حاجاته، يكون خادمًا عنده، يعني: لا يجوز أن يكون المسلم خادمًا عند الكافر، والعكس: أن يكون الكافر خادمًا عند المسلم، هذا جائزٌ، الأصل فيه الجواز.

طالب: …….

الشيخ: يعني: يكون خادمًا عنده، هذا هو المقصود: يكون خادمًا عنده، يخدمه.

حكم تأجير الوقف

قال المؤلف رحمه الله:

ووقفٍ.

فإن الوقف لا يصح بيعه، ويصح تأجيره.

وأمِّ ولدٍ.

لا يصح بيعها في قول الجمهور، لكن يصح تأجيرها.

واشتمالها على النَّفع المقصود منها.

أي: يُشترط لصحة العين المُؤجَّرة: أن تشتمل على النَّفع المقصود منها؛ لأن الإجارة عقدٌ على المنفعة، ولا يمكن تسليمها من هذه العين إذا كان النَّفع غير موجودٍ.

ومثَّل المؤلف بأمثلةٍ لما هو موجودٌ في زمنه فقال:

فلا تصح في زَمِنَةٍ لحملٍ.

يعني: دابَّة زَمِنَة.

يعني: فيها عاهاتٌ ومريضةٌ، فإنها لا تصلح للحمل.

وسَبِخَةٍ لزرعٍ.

أرض سَبِخَة لزرعٍ، الأرض السَّبِخَة لا تُنْبِت، فلا يصح استئجارها للزرع.

الضرب الثاني: على منفعةٍ في الذمة

الثاني: على منفعةٍ في الذمة.

يعني: تكون الإجارة على منفعةٍ في الذمة.

شروط الإجارة على منفعةٍ في الذمة

فيُشترط ضبطها بما لا يختلف.

ومثَّل المؤلف لهذا بأمثلةٍ:

كخياطة ثوبٍ بصفة كذا.

فإذا كان سيُعطيه القماش، ويقول: خِطْ لي هذا الثوب. هذه إجارةٌ، لكن لو أن الخياط: القماش من عنده، وهو الذي يخيط، فماذا يُسمى هذا العقد؟

نعم، استصناعٌ، هذا يُسمَّى “استصناعًا”، وكلا العقدين صحيحٌ: الإجارة والاستصناع.

قال:

وبناء حائطٍ.

يعني: هذا مثالٌ للضرب الثاني: إذا استأجره لبناء حائطٍ، لكن لا بد من معرفته.

قال:

بذكر طوله وعرضه وسُمْكِه وآلته.

الجمع في الإجارة بين تقدير المدة والعمل

قال:

وألا يجمع بين تقدير المدة والعمل.

هذا هو المذهب عند الحنابلة: أنه لا يجوز ولا يصح أن يجمع بين تقدير المدة والعمل، ومثَّل المؤلف لهذا بمثالٍ فقال:

كيخيطه في يومٍ.

يعني: لو ذهب بالقماش للخياط وقال: استأجرتُك على أن تخيط لي هذا الثوب في يومٍ أو في أسبوعٍ -مثلًا- فالمذهب عند الحنابلة يقولون: إن هذا لا يصح. وقالوا: لأنه قد يَفْرُغُ منه قبل انقضاء المدة، فتكون فيه جهالةٌ وغَرَرٌ.

والقول الثاني في المسألة: أن ذلك يجوز، يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل؛ وذلك لأن الإجارة معقودةٌ على العمل أصلًا، الإجارة هنا معقودةٌ على العمل أصلًا، والمدة إنما ذُكرتْ للتَّعجيل، فلا تمنع من ذلك.

وعلى هذا إذا أدَّى العمل قبل انقضاء المدة، إذا أتمَّ العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها، أشبه ما لو قضى الدَّين قبل أجله، وهذا هو القول الراجح.

القول الراجح: أنه يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل، وهو الذي عليه عمل الناس من قديم الزمان، أشبه أن يكون إجماعًا عَمَليًّا، فالناس على هذا: الجمع بين تقدير العمل والمدة، فالقول بأنه لا يجوز  ليس عليه دليلٌ، القول بأن فيه غَرَرًا لا يُسَلَّم، بل -كما ذكر المُوفق ابن قدامة وجمعٌ من الفقهاء- إن الإجارة هي في الأصل معقودةٌ على العمل، أما ذكر المدة فهو من باب التَّحفيز والتَّعجيل؛ ولذلك فإن الصحيح أنه لا بأس بالجمع بين تقدير المدة والعمل.

قال:

وكون العمل لا يُشترط أن يكون فاعله مسلمًا.

أي: من شروط العين المُؤجرة، أو من شروط الضرب الثاني -وهو أن تكون الإجارة على منفعةٍ في الذمة-: أن يكون العمل لا يُشترط أن يكون فاعله مسلمًا، فإن هناك من الأعمال ما يُشترط أن يكون فاعلها مسلمًا.

قال:

فلا تصح الإجارة.

يعني: ذكر المؤلف قُرَبًا، أعمال القُرَب، الإجارة على أعمال القُرَب، قال:

حكم الإجارة على أعمال القُرَب

لا تصح الإجارة لأذانٍ، وإقامةٍ، وإمامةٍ، وتعليم قرآنٍ، وفقهٍ، وحديثٍ، ونيابةٍ في حجٍّ وقضاء، ولا يقع إلا قُرْبَةٌ لفاعله.

فأفادنا المؤلف بأنه لا تصح الإجارة على أعمال القُرَب.

هذه مسألةٌ مشهورةٌ عند الفقهاء: حكم الإجارة على أعمال القُرَب.

المؤلف يرى أنها لا تصح ولا تجوز، وعلى ذلك لا تجوز الإجارة على الأذان، ولا على الإقامة، ولا على الإمامة، ولا على تعليم القرآن، ولا على تعليم العلوم الدينية؛ تعليم الفقه والحديث.

بالنسبة لما يُؤخذ من الرزق من بيت المال هذا لا إشكال فيه، فالرزق من بيت المال حُكِيَ الإجماع عليه، حكى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره الإجماع على جوازه، يعني: ما يأخذه الإمام والمُؤذن من بيت المال، مثلما هو في الوقت الحاضر، أو يُؤخذ من بيت المال في القضاء، أو في تدريس العلوم الدينية لا إشكال في جوازه.

يبقى الإشكال في تدريس العلوم الشرعية في المدارس الأهلية، أو حلقات تحفيظ القرآن، مثلًا: عندما يأتي مدرسٌ ويُدرس القرآن في حلقة تحفيظٍ، على كلام المؤلف: لا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الإجارة، واستدلوا لذلك بقول النبي لعثمان بن أبي العاص : واتَّخذ مُؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا رواه أبو داود والترمذي [9].

وقال بعض أهل العلم: إنه تصح الإجارة على أعمال القُرَب.

وهو قول مالكٍ والشافعي، وروايةٌ عن أحمد، واستدلوا بقول النبي في قصة اللَّديغ: إن أحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتاب الله [10]، قالوا: فأباح أخذ الجُعْل على الرُّقية، فكذا الإجارة؛ ولأنه لا دليل يدل على المنع من ذلك.

أما حديث عثمان بن أبي العاص فهو ليس بصريح الدلالة، وإنما هو إرشادٌ من النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتَّخذ مُؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا، فهو ليس بصريحٍ، وإنما إرشادٌ منه، ولا شكَّ أن المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا أولى من المؤذن الذي يأخذ على أذانه أجرًا.

وأيضًا رُوي في ذلك أحاديث، لكن في إسنادها مقالٌ، ولعل هذا هو الأقرب -والله أعلم-: أنه تجوز الإجارة على أعمال القُرَب، وإن كان الخلاف في المسألة قويًّا، الخلاف فيها قويٌّ، لكن إذا نظرنا إلى الأدلة الواردة لا نجد دليلًا صريحًا صحيحًا يدل على المنع من الإجارة على أعمال القُرَب.

والقول بالمنع يُلحق الحرج بكثيرٍ من المسلمين، فلا نجزم بهذا القول إلا بشيءٍ واضحٍ.

لو قلنا بهذا القول لَمَنَعْنَا أخذ الأجرة على تعليم العلوم الشرعية في المدارس الأهلية، ولَمَنَعْنَا أخذ الأجرة على تعليم تحفيظ القرآن، ولَمَنَعْنَا أشياء كثيرةً من هذا النوع؛ ولذلك الأقرب هو الجواز.

حكم الجعالة على أعمال القُرَب

أما الجَعَالة فإنها تجوز؛ ولذلك قال المؤلف:

ويَحْرُم أخذ الأجرة عليه، وتجوز الجَعَالة.

الجَعَالة أوسع من الإجارة، واستدلوا لذلك بقصة اللَّديغ، لما لُدِغَ سيد قومٍ: نزل نفرٌ من الصحابة بحيٍّ من أحياء العرب، فلم يُقروهم، ولم يُضيِّفوهم لما نزلوا عليهم، والعادة عند العرب أنه إذا نزل عليك أناسٌ -حتى لو كنتَ لا تعرفهم- أن تُضيِّفهم، لكنهم لم يُضيِّفوهم، فَلُدِغَ سيدهم، فقالوا: هل فيكم من رَاقٍ؟ قال أحد الصحابة: نعم، أنا. وكان أصحابه لا يدرون أنه يرقي، فقرأ عليه فاتحة الكتاب فقط.

وهذا يدل على عظيم هذه السورة، وأنها أعظم ما يُسْتَرْقَى به، فجعل يقرأ عليه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ويَنْفُث، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، فقام كأنما نشط من عِقَالٍ، مع أنه نَفَذَ في دمه سُمُّ عقربٍ، ومع ذلك قام وشُفِيَ، شفاه الله تعالى بسبب هذه الرُّقية، وهذا يدل على عظيم تأثير القرآن.

والصحابة اشترطوا عليهم جُعْلًا، قال: لا أفعل حتى تجعلوا لنا جُعْلًا. يعني: قطيعًا من الغنم، فأعطوهم هذا القطيع من الغنم.

ثم استشكل الصحابة: هل هذا يجوز أو لا يجوز؟

فذهبوا واستفتوا النبي ، فأفتاهم في هذه المسألة، قال : خُذُوا، واضربوا لي معكم بسهمٍ [11] يعني: تأكيدًا للجواز، إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله [12]، فدلَّ ذلك على جواز الجَعَالة في الرُّقية وفي أعمال القُرَب عمومًا.

والحقيقة أنه لا فرق بين الجَعَالة والإجارة، فإذا قلنا بجواز الجَعَالة، فتجوز الإجارة في الراجح، والله أعلم.

لكن لا شكَّ أن الجَعَالة أوسع من الإجارة؛ ولذلك نجد الحنابلة والجمهور عمومًا يُجِيزون الجَعَالة على أعمال القُرَب، ولا يُجِيزون الإجارة عليها.

فصلٌ: وللمُستأجر استيفاء النَّفع بنفسه

ثم قال المؤلف رحمه الله:

فصلٌ:
وللمُستأجر استيفاء النَّفع بنفسه.

طالب: …….

الشيخ: نعم، الإجارة -كما مَرَّ- معناها: هي عقدٌ له مدةٌ معينةٌ، وعملٌ معلومٌ، وله شروطٌ مُحددةٌ، إذا اختلَّ شرطٌ منها فسدتْ.

أما الجَعَالة: أن يجعل جُعْلًا لمَن يعمل له عملًا معلومًا أو مجهولًا، مدةً معلومةً أو مجهولةً، كأن يقول: مَن رَدَّ جملي الشارد فله كذا، مَن وجد محفظتي فله كذا.

فالجعالة أوسع من الإجارة.

قال:

وللمُستأجر استيفاء النَّفع بنفسه وبمَن يقوم مقامه.

إذا استأجرتَ شيئًا فأنت قد مَلَكْتَ منفعته؛ فلك أن تستوفي المنفعة بنفسك، ولك أن تُؤجرها غيرك، ولك أيضًا أن تأذن لغيرك باستفادةٍ منها، فأنت الآن تملك المنفعة؛ ولهذا قال:

له استيفاء النَّفع بنفسه وبمَن يقوم مقامه.

وقوله: “بمَن يقوم مقامه” يعني: لا بد أن يكون مثله، فلا يكون أكثر منه في الضَّرر.

وبناءً على ذلك: مَن استأجر بيتًا -مثلًا- للسُّكْنَى، فليس له أن يُؤجره للحدادة -مثلًا- أو لورشةٍ، أو لما يحصل به الضَّرر، بل لا بد أن يُؤجره لمَن كان مثله أو أقلّ منه في الضَّرر.

لكن بشرط كونه.

أي: كون النائب.

مِثْلَه في الضَّرر أو دونه.

 أي: لا أكثر منه.

على المُؤجر والمُستأجر كل ما جرتْ به العادة والعُرْف

قال:

وعلى المُؤجر كل ما جرتْ به العادة.

هذه هي القاعدة.

يعني: الخمسة الأسطر هذه القاعدة فيها أو الضابط: أن على المُؤجر والمُستأجر كل ما جرتْ به العادة والعُرْف، على كلٍّ منهما كل ما جرتْ به العادة والعُرْف، فالمرجع في ذلك للعُرْف والعادة.

والمؤلف ذكر أمثلةً لما هو موجودٌ في زمنه فقال:

من آلة المَرْكُوب، والقَوْدِ، والسَّوقِ، والشَّيلِ، والحَطِّ، وتَرميم الدار بإصلاح المُنْكَسِر وإقامة المائل، وتَطْيين السَّطح وتنظيفه من الثَّلج ونحوه.

هذه أمثلةٌ لما هو موجودٌ في زمن المؤلف؛ وذلك لأن على المُؤجر التَّمكين من الانتفاع، ولا يحصل إلا بذلك.

وعلى المُستأجر.

ذكر المؤلف أمثلةً لما هو موجودٌ في زمنه:

المَحْمِل والمِظَلَّة.

قالوا: هي الكبير من الأَخْبِيَة.

وتفريغ البَالُوعَة والكَنِيف، وكَنْس الدار من الزِّبْل ونحوه إن حصل بفعله.

يعني: بأن تَسَلَّمها المُستأجر فارغةً، تسلَّم البالُوعَة فارغةً مثلًا.

إذن على المُؤجر والمُستأجر فعلُ ما جَرَتْ العادة بفعله.

نُريد الآن أمثلةً من واقعنا.

المؤلف ذكر أمثلةً لما هو موجودٌ في زمنه، لكن نحن نريد أمثلةً في واقعنا.

مثلًا: إنسانٌ أجَّر على آخر بيتًا، فما الذي يلزم المُؤجر؟

مثلًا: أن يُصَفِّي له فاتورة الكهرباء والماء، هذا مما يلزم المُؤجر.

أيضًا هل هناك أشياء أخرى؟

يُهيِّئ له الانتفاع بالدار، يُسلِّمه المفاتيح ونحو ذلك.

المُستأجر أيضًا يلزمه ما جَرَت العادة به، فما ذكره المؤلف -مثلًا- من تفريغ البالوعة لمَن لا يوجد لديه صرفٌ صحيٌّ، هذه مسؤولية المُستأجر أو المُؤجر؟

المُستأجر، مسؤولية المُستأجر.

طالب: …….

الشيخ: الأعطال، نعم، السباكة، والكهرباء، ونحو ذلك، هل هي مسؤولية المُستأجر أو المُؤجر؟

نعم، إذا سلَّمها المُؤجر له سليمةً، ثم حصل فيها عطلٌ أو تَلَفٌ تكون مسؤولية المُستأجر.

مثلًا: سَلَّمَه الإضاءة كلها سليمةً، ثم بعد مدةٍ احترقت بعض اللمبات -مثلًا- فهي مسؤولية المُستأجر، لكن لو حصل خللٌ في أصل الكهرباء -مثلًا- أو في السباكة أصبحتْ تتسرب المياه من المواسير ونحوها، هذه مسؤولية المُؤجر.

إذن المُستأجر يملك المنفعة فقط، والمُؤجر يملك الأصل، فإذا كان الخلل في العين نفسها -في الأصل- فتكون مسؤولية المُؤجر، وإذا كان في المنفعة، أو بسبب انتفاع المُستأجر، فتكون المسؤولية على المُستأجر.

الإجارة عقدٌ لازمٌ

قال:

فصلٌ:
والإجارة عقدٌ لازمٌ.

أفادنا المؤلف بأن نوع عقد الإجارة أنه من العقود اللازمة، وهذا المصطلح تكرر معنا كثيرًا، ووضَّح المؤلف المقصود منه فقال:

لا تنفسخ.

يعني: إلا برضا الطرفين، فهي كعقد البيع، بل هي نوعٌ من البيع، فهي بيع منافع.

قال:

لا تنفسخ بموت المُتعاقدين.

فإذا مات المُؤجر أو المُستأجر فإن الإجارة لا تنفسخ، وإنما تبقى.

ولا بتلف المحمول.

وذلك لأنه معقودٌ عليه المنفعة، فله أن يحمل ما يُماثله.

مثال ذلك: اتفقتَ مع شخصٍ على أن يُوصلك إلى مكة بألف ريالٍ، ثم إن سيارة الأجرة التي معه تَلَفَتْ، احترقتْ -مثلًا- أو خربتْ، فإن الإجارة لا تنفسخ، يأتي بسيارةٍ أخرى ويُوصلك عليها.

ولا بِوَقْفِ العين المُؤجرة.

نفترض أن هذا البيت الذي تسكنه وَقَفَه صاحبه لله -مثلًا- لا تنفسخ الإجارة، فعقد الإجارة مُستمرٌّ.

ولا بانتقال المِلْك فيها بنحو هِبَةٍ وبيعٍ.

لو بِيعَت العين المُؤجرة فإن عقد الإجارة لا ينفسخ، بل يستمر، وهكذا لو وُهِبَتْ فإن عقد الإجارة لا ينفسخ، بل يستمر.

مثال ذلك: أنت استأجرتَ بيتًا، ثم تفاجأتَ بأن صاحب البيت باع البيت، وأنت استأجرتَ هذا البيت لمدة خمس سنين لما استأجرتَه، وبعد مُضِيِّ سنةٍ صاحب البيت باع البيت، هل ينفسخ عقد الإجارة؟

لا ينفسخ، تبقى أنت على عقدك؛ لأن الإجارة عقدٌ لازمٌ.

طيب، المُشتري ما حاله؟

وضَّح هذا المؤلف، قال:

ولِمُشْتَرٍ لم يعلم الفسخ، أو الإمضاء والأجرة له.

نقول: المشتري لا يخلو أن يكون يعلم بأن العين المُباعة مُؤجرةٌ أم لا، فإن كان يعلم فإنه قد دخل على بصيرةٍ، وحينئذٍ تكون الأجرة له إلا أن يشترط ذلك البائع.

أما إذا كان المشتري لا يعلم بأن العين مُؤجرةٌ فله الفسخ أو الإمضاء “والأجرة له” يعني: هو مُخَيَّرٌ.

مثال ذلك: اشترى رجلٌ بيتًا من آخر، وبعدما أفرغ البيت باسمه تفاجأ بأن البيت مُؤجَّرٌ.

فنقول: أنت أيها المشتري بالخيار: إن شئتَ فسختَ عقد البيع، وإن شئتَ أمضيتَ العقد وتكون الأجرة لك.

متى تنفسخ الإجارة؟

قال:

وتنفسخ بتلف العين المُؤجَّرة المُعيَّنة.

كَدَارٍ انهدمتْ -مثلًا- ودابةٍ ماتت، أو دارٍ لم تنهدم، لكن تعطَّل الانتفاع بها.

مَن يُمثِّل لنا بمثالٍ؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، هذه دارٌ استأجرها إنسانٌ، ثم انقطع التيار الكهربائي عنها، وليس بسببه، فأصبحتْ ليس فيها كهرباء، أو -مثلًا- السباكة فيها كانت غير جيدةٍ، فأصبحت المياه تتسرب فيها بحيث أصبحت غير قابلةٍ للسُّكْنَى، فإذا حصل فيها عيبٌ تعذَّر معه الانتفاع بها فإن عقد الإجارة ينفسخ.

وبموت المُرْتَضِع.

لتَعَذُّر استيفاء المعقود عليه.

وهدم الدار.

ما الحكم إذا تعذر استيفاء النَّفع من العين المُؤجرة؟

قال:

ومتى تعذَّر استيفاء النَّفع -ولو بعضه- من جهة المُؤجر فلا شيء له.

من الأجرة، كما مثَّلنا في الأمثلة السابقة.

إذا تعذَّر استيفاء النَّفع فليس له شيءٌ من الأجرة المُتبقية، أما الأجرة الماضية فعلى حسب ما استوفى المُستأجر من المنفعة، لكن متى تعذَّر استيفاء النَّفع -ولو بعضه- من جهة المُؤجر فلا شيء له من الأجرة؛ لأنه لم يُسلِّم ما تناوله عقد الإجارة، فلم يستحق شيئًا.

ومن جهة المُستأجر فعليه جميع الأجرة.

لو تعذر الانتفاع من جهة المُستأجر، مثال ذلك: رجلٌ أجَّر لآخر بيتًا، ثم إن المُستأجر حصلتْ له ظروفٌ، ولم يتمكَّن من سُكْنَى هذا البيت حتى مضتْ سنةٌ كاملةٌ، فهل يستحق المُؤجر الأجرة أم لا؟

يستحقها؛ لأنه قد بَذَلَ له المنفعة، ومَكَّنه من الانتفاع بهذا البيت، والتَّعذُّر هنا من جهة المُستأجر، فيستحق المُؤجر جميع الأجرة.

قال:

وإن تعذَّر بغير فِعْلِ أحدهما.

يعني: المُؤجر والمُستأجر.

كَشُرُود المُؤجَّرة، وهدم الدار؛ انفسخت الإجارة.

يعني: تنفسخ الإجارة.

ووجب من الأجرة بِقَدْر ما استوفى.

من المنفعة قبل ذلك.

يعني: إذا حصل تعذُّر الانتفاع بفعلٍ خارجٍ عن إرادتهما، كما مثَّل المؤلف: انْهِدَام الدار، شُرُود العين المُؤجَّرة، ونحو ذلك؛ فحينئذٍ ينفسخ عقد الإجارة، وتجب الأجرة بقدر ما استوفى.

وإن هَرَبَ المُؤجِّر وترك بهائِمَه، وأنفق عليها المُستأجر بنية الرجوع، رجع؛ لأن النَّفقة على المُؤجِّر، كالمُعِير.

لقيامه عنه بواجبٍ.

هذه مسألةٌ: لو أن رجلًا أجَّر لآخر عينًا، ثم إن المُؤجِّر له بهائم، فترك هذه البهائم، والمُستأجر ينظر إلى هذه البهائم، فلو تركها بدون علفٍ وبدون سَقْيٍ ماتتْ.

فنقول للمُستأجر: أَنْفِقْ عليها، لكن بنية الرجوع على المُؤجِّر، وحينئذٍ له أن يرجع على المُؤجِّر، ويستوفي منه ما أنفق.

وعندنا قاعدةٌ: أن مَن أنفق على غيره بنية الرجوع فإنه يرجع عليه، أما مَن أنفق بغير نية الرجوع فإنه لا يرجع.

فهذا إذا أنفق بنية الرجوع فإنه يرجع على المُؤجِّر.

أقسام الأجير

قال:

فصلٌ:
والأجير قسمان: خاصٌّ ومُشتركٌ.

الأجير الخاص، قال:

هو مَن قُدِّر نفعه بالزمن.
ومُشتركٌ وهو: مَن قُدِّر نفعه بالعمل.

إذن المؤلف عرَّف لنا الأجير الخاص والأجير المُشترك، فعرَّف الأجير الخاص بأنه: مَن قُدِّر نفعه بالزمن.

مَن يُمثِّل لنا أمثلةً من واقعنا المعاصر للأجير الخاص؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، الخدم في المنازل، وأيضًا السائق الخاص، فهذا يُعتبر مقابل الأجير الخاص.

المُشترك: “مَن قُدِّر نفعه بالعمل” يعني: لا يختص به واحدٌ، بل يتقبل أعمالًا لجماعةٍ في وقتٍ واحدٍ.

مَن يُمثِّل لنا بأمثلةٍ من واقعنا؟

طالب: …….

الشيخ: مَن يغسل السيارات.

طالب: …….

الشيخ: سائق الأجرة.

طالب: …….

الشيخ: الخيَّاط، والطبَّاخ -مثلًا- الذي يطبخ للناس ليس خاصًّا، فهذا يُعتبر أجيرًا، والغَسَّال يُعتبر أجيرًا مُشتركًا.

هل يضمن الأجير الخاص ما تلف بفعله؟

قال:

فالخاصُّ لا يضمن ما تَلَفَ في يده إلا إن فَرَّط.

الأجير الخاص أمينٌ، لا يضمن ما تلف إلا إن تعدَّى أو فرَّط في قول عامة أهل العلم؛ وذلك لأن الأجير الخاص أمينٌ ونائبٌ عن المالك، فلم يضمن إلا بالتَّعدي أو التَّفريط.

وبناءً على ذلك: ما يقع من الخادم بغير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ فينكسر فلا يُضَمَّن.

أيضًا السائق -مثلًا- لو أخذ السيارة وحصل لها حادثٌ من غير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ فإنه لا يُضَمَّن.

هنا قضيةٌ حصلتْ أو كثرتْ الاستفتاءات حولها: لما أتى نظام “ساهر” رُصِدَتْ مُخالفات على بعض السائقين، فبعض الكُفَلاء ضَمَّنوا السائقين هذه المُخالفات، فهل هذا يسوغ بناءً على تقريرنا بأن السائق يُعتبر أجيرًا خاصًّا؟

طالب: …….

الشيخ: لأنه بِتَعَدٍّ، يُعتبر تَعَدِّيًا؛ لأن هذا ما رُصِدَتْ عليه مُخالفةٌ إلا بسبب تجاوزه السرعة المُحددة نظامًا، فيكون هنا قد تعدَّى، فحينئذٍ نقول: إن هذا مما يسوغ، وإن كان أمينًا إلا أنه يُضَمَّن.

لكن لو أن السيارة -مثلًا- احترقتْ بغير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ، ارتفعت الحرارة واحترقتْ بغير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ من السائق، فهل يُضَمَّن؟

لا يُضَمَّن، لا يجوز تَضْمِينُه؛ لأنه أمينٌ في قول عامة الفقهاء، فالأجير الخاصُّ أمينٌ لا يُضمَّن إلا بالتَّعدي أو التَّفريط.

أما الأجير المُشترك، قال:

يضمن ما تلف بفعله.

المؤلف فرَّق بين الأجير الخاص والمُشترك، فالخاص لا يُضَمَّن، هذا في قول عامة الفقهاء.

هل يضمن الأجير المُشترك ما تلف بفعله؟

أما المُشترك فوقع الخلاف فيه، وقع الخلاف في تضمينه، فمن أهل العلم مَن قال: إنه يُضَمَّن، وعلى ذلك مشى المؤلف رحمه الله، قال: “يضمن ما تلف بفعله” حتى لو كان ذلك التَّلف بغير تَعَدٍّ منه ولا تفريطٍ، ومثَّل المؤلف لهذا بأمثلةٍ لما هو موجودٌ في زمنه، قال:

من تَخْرِيقٍ، وغَلَطٍ في تَفْصِيلٍ، وبِزَلَقِهِ، وبِسُقُوطٍ عن دابَّتِهِ، وبانقِطَاعِ حَبْلِه، لا ما تلف بِحِرْزِه أو غير فِعْلِه إنْ لَمْ يُفَرِّطْ.

فالمؤلف فرَّق بين ما تلف بفعله، وما تلف بغير فعله، قال: ما تلف بفعله يُضَمَّن، وما تلف بغير فعله لا يُضَمَّن.

وهذا هو قول الجمهور: إن الأجير المُشترك يُضَمَّن ما تلف بفعله، واستدلوا بما رُوِيَ عن عليٍّ أنه كان يُضَمِّن الأُجراء ويقول: “لا يُصلح الناس إلا ذلك” [13].

والقول الثاني في المسألة: أن الأجير المُشترك كالأجير الخاص لا يُضَمَّن مطلقًا إلا إذا حصل منه تَعَدٍّ أو تفريطٌ.

وهذا القول هو مذهب الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، وذكره المرداوي في “الإنصاف” وقال: “والنفس تميل إليه”.

وهذا القول هو الأقرب -والله أعلم-؛ لأن الأجير سواء كان خاصًّا أو مُشتركًا هو -في الحقيقة- أمينٌ، فلا يُضَمَّن إلا بِتَعَدٍّ أو تفريطٍ.

فالقول الراجح هو القول بعدم تضمين الأجير المُشترك مطلقًا؛ لأنه أمينٌ، والأمين لا يُضَمَّن إلا بِتَعَدٍّ أو تفريطٍ.

وقد رجَّح هذا القول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في “المختارات الجلية”، قال: “والصحيح هو أن الأجير غير ضامنٍ، سواء كان خاصًّا أو مُشتركًا”، قال: “ويُحمل ما ورد عن عليٍّ في تضمينهم بما إذا كان ثَمَّةَ تَعَدٍّ أو تفريطٌ، وإلا فليسوا غاصبين حتى يُرتّب عليهم الضمان”.

إذن الأقرب للأصول والقواعد الشرعية هو: أنه لا فرق بين الأجير الخاص والأجير المُشترك.

طالب: …….

الشيخ: على تقدير صحة الأثر المروي عن عليٍّ ، وفي إسناده مقالٌ، لكن على تقدير صحته يُحْمَل على ما إذا كان هناك تَعَدٍّ أو تفريطٌ.

بناءً على ذلك: لو أنك ذهبتَ بثوبك للغَسَّال، ثم أخبرك الغَسَّال بأن هذا الثوب قد تلف بغير تَعَدٍّ منه ولا تفريطٍ، هل يُضَمَّن؟

على المذهب يُضَمَّن -مذهب الحنابلة- وعلى القول الراجح لا يُضَمَّن، لكن لو كان بِتَعَدٍّ أو تفريطٍ -في الغالب أنه لا بد أن يكون هناك تَعَدٍّ أو تفريطٌ- إذا كان هناك تَعَدٍّ أو تفريطٌ فَيُضَمَّن قولًا واحدًا، والكلام فيما إذا لم يكن منه تَعَدٍّ ولا تفريطٌ.

مثلًا: لو أن الغَسَّال أعطيتَه خمسةً من الثياب ليغسلها، فَغَسَلها وكَوَاها، ثم إن المنطقة نفسها حصل فيها حريقٌ، فاحترقت المحلات كلها، ومنها الثياب الموجودة عند الغَسَّال -ثيابك- فهنا تلفتْ بغير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ، فعلى القول الراجح أنه لا يُضَمَّن.

طالب: …….

الشيخ: على المذهب، على التفصيل الذي ذكره المؤلف؛ لأنه بغير فعله؛ لأن المؤلف خَصَّ ذلك بما إذا كان بفعله.

قال:

ولا يَضْمَن حَجَّامٌ، وخَتَّانٌ، وبَيْطَارٌ -خاصًّا كان أو مُشْتَرَكًا- إن كان حَاذِقًا، ولم تَجْنِ يَدُه، وأَذِنَ فيه مُكلَّفٌ أو وليُّه.

هذا مما يُضْعِف قول المؤلف بتضمين الأجير المُشترك ما تلف بفعله، فلماذا استثنيتم هذه المسائل؟

ولذلك ذكر بعض العلماء -ومنهم الشيخ ابن سعدي رحمه الله- أن من علامة القول المرجوح: كثرة الاستثناءات الواردة عليه وعدم اطِّرَاده.

فهنا استثنوا هؤلاء: الحَجَّام والخَتَّان والبَيْطَار -الطبيب- “إذا كان حَاذِقًا، ولم تَجْنِ يَدُه، وأَذِنَ فيه مُكلَّفٌ”، يقول: إنهم لا يُضَمَّنون، على القول الراجح لا يُضَمَّنون ما لم يحصل منهم تَعَدٍّ ولا تفريطٌ.

قال:

أو وليُّه، ولا رَاعٍ لم يَتَعَدَّ أو يُفَرِّط بنومٍ أو غَيْبَتِها عنه.

بكلِّ حالٍ هؤلاء لا يُضَمَّنون مطلقًا.

قال:

ولا يصحُّ أن يرعاها بِجُزْءٍ من نَمَائها.

يعني: لا يصح أن يرعى الماشية بجزءٍ من نَمَائها؛ للجهالة والغَرَر، ولكن يصح أن يكون ذلك بجزءٍ منها مدةً معلومةً.

متى تستقر الأجرة؟

آخر فصلٍ معنا.

قال:

وتستقرُّ الأجرة بفراغ العمل، وبانتهاء المدة.

وقد روى ابن ماجه: أن النبي قال: أعطوا الأجير أجره قبل أن يَجِفَّ عرقه لكن إسناده ضعيفٌ [14]، ولكن يُغْنِي عنه قول النبي في حديث أبي هريرة  في “صحيح البخاري”: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة، وذكر منهم: رجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يُعْطِه أجره [15].

فهذا دليلٌ على أن الأجرة تُسْتَحَقُّ وتستقرُّ باستيفائه منه، وبإكمال العمل والفراغ من العمل، وكذلك أيضًا بانتهاء المدة.

وكذا بِبَذْلِ تسليم العين.

لعملٍ في الذمة.

إذا مضتْ مدةٌ يمكن استيفاء المنفعة فيها ولم تُسْتَوفَ.

كما لو استأجر سيارةً إلى موضعٍ معينٍ وسلَّمها له، ومضى ما يمكن ذهابه إلى ذلك المكان ولم يفعل، فتستقرّ الأجرة حينئذٍ.

قال:

ويصح شَرْطُ تعجيل الأجرة وتأخيرها.

على حسب ما يتفقان عليه من التَّعجيل أو التَّأخير.

وإن اختلفا في قَدْرها تحالفا وتفاسخا.

كالبيع؛ لأنها عقد مُعاوضةٍ أشبه البيع.

وإن كان قد استوفى ما له أجرةٌ، فأجرة المِثْل.

يعني: إذا اختلفا في قَدْر الأجرة، وكان قد استوفى المنفعة، فحينئذٍ عليه أجرة المِثْل، كما مثَّلنا بمَن استأجر -مثلًا- سيارةً أجرة إلى مكانٍ معينٍ، ثم أوصله للمكان المعين، ثم اختلفا، فقال صاحب الأجرة: أعطني خمسين. وقال الراكب: لا، ما تستحق إلا ثلاثين. فنقول: له ماذا؟

أجرة المِثْل، له أجرة المِثْل.

المُستأجر أمينٌ لا يضمن إلا بالتَّفريط

قال:

المُستأجر أمينٌ لا يَضْمَن -ولو شَرَطَ على نفسه الضمان- إلا بالتَّفريط.

هذه قاعدةٌ: المُستأجر أمينٌ، والمُضارب أمينٌ، والمُودَع أمينٌ.

ومعنى كونه أمينًا: أنه لا يضمن إلا بالتَّعدي أو التَّفريط، حتى لو شَرَطَ على نفسه الضمان.

قال:

ويُقْبَل قوله في أنه لم يُفرِّط، أو أن ما استأجره أَبَقَ، أو شَرَدَ، أو مرض، أو مات.

لأنه أمينٌ، ومُقتضى قوله: إنه أمينٌ؛ أنه يُصدَّق في ذلك كله.

وإن شَرَطَ عليه ألا يسير بها، أو لا يتأخَّر بها عن القافلة، ونحو ذلك.

يعني: اشترط عليه شُرُوطًا مما له فيه غرضٌ صحيحٌ.

قال:

مما فيه غرضٌ صحيحٌ، فخالف؛ ضمن.

إذا خالف المُؤجر في أيِّ شرطٍ من الشروط فإنه يضمن.

ومتى انقضت الإجارة رفع المُستأجر يده، ولم يلزمه الرَّدُّ ولا مؤونته كالمُودَع.

لأنه عقدٌ لا يقتضي الضمان، فلا يقتضي رَدُّه.

متى انقضت الإجارة فإن المُستأجر يرفع يده عن العين المُؤجَّرة، ولا يلزمه الرَّد، هذا في الأصل إلا إذا شَرَط عليه المُؤجِّر أن يُعِيد العين المُؤجَّرة، فيلزمه ذلك بالشرط، أما إذا لم يشترط عليه فننظر: هل هناك عُرْفٌ فَيُعْمَل بالعُرف؟ أما إذا لم يكن هناك عُرْفٌ ولا شرطٌ فإن المُستأجر لا يلزمه الرَّد، وإنما يلزمه رفع يده عن العين المُؤجرة.

هذه أبرز الأحكام والمسائل المُتعلقة بعقد الإجارة.

ونكتفي بهذا القدر.

وأُذكِّر بأن الدرس سيتوقف لمدة أسبوعين، وسوف يُستأنف -إن شاء الله تعالى- في السادس عشر من شهر ذي الحجة.

الأسئلة

نُجيب عما تيسر من الأسئلة، ونبدأ أولًا بالأسئلة المكتوبة.

السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم، يقول: بعض مُلَّاك الاستراحات يشترطون في العقد: عدم تأجيرها لطرفٍ ثالثٍ، فهل هذا الشرط مُلْزِمٌ؟

الجواب: نعم، هذا الشرط مُلزمٌ.

إذا شَرَطَ المُؤجر على المُستأجر ألا يُؤجِّرها لطرفٍ ثالثٍ، فهذا شرطٌ صحيحٌ، وقد دخل المُستأجر على ذلك برضاه، وربما أن المُؤجر يثق فيك، وفي حُسن استفادتك وانتفاعك بالعين المُؤجرة، ولا يثق في غيرك، ويقول: أُؤجرك بشرط أنك تستأجرها.

وهذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء، لكن هذا الذي ذكرتُه هو القول الراجح.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مسألةً شبيهةً بهذا، يقول: إذا باع سلعةً واشتَرَطَ على المُشتري أنه إذا أراد أن يبيعها فيبيعها عليه.

يقول: إن هذا صحيحٌ، هذا الشرط شرطٌ صحيحٌ.

فمثل ذلك أيضًا: إذا شرط عليه ألا يُؤجرها لغيره، وإنما ينتفع بها هو بنفسه، فمُقتضى ذلك: أن يكون ذلك صحيحًا.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: إذا استُؤْجِرَتْ شاحنةٌ لنقل الشعير، فما الحكم إذا تلف الشَّعير أثناء المسافة؟ وما الحكم إذا تلفت الشَّاحنة أثناء المسافة؟

الجواب: على القواعد التي ذكرناها: إذا لم يكن ذلك بِتَعَدٍّ ولا تفريطٍ فإن الأجير ليس عليه شيءٌ، الأجير أمينٌ.

وهنا صاحب الشاحنة: هل هو أجيرٌ خاصٌّ أو أجيرٌ مُشتركٌ؟

أجيرٌ مُشتركٌ.

إذن لا يُضَمَّن على القول الراجح، لا يُضَمَّن ما لم يكن منه تَعَدٍّ أو تفريطٌ.

الأمثلة كثيرةٌ، والفروع كثيرةٌ، لكن المهم أن تضبط القواعد.

مثلًا: ما معنى: الأجير الخاص؟ وما معنى: الأجير المُشترك؟ وكيفية تضمين الأجير الخاص والأجير المُشترك.

بهذه القواعد إذا ضبطتَها تنتظم معك الفروع التي ذكرها الفقهاء وغيرها.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: لو زارعتُ شخصًا على أرضٍ، أو ساقيتُه على شجرٍ، ثم تفاجأتُ بعد موسم الحصاد بأنه لم يصنع شيئًا، فهل يجب لي عليه شيءٌ؟

الجواب: إذا زَارَع أو سَاقَى شخصًا، ثم إن مَن اتَّفق أو تعاقد معه لم يصنع شيئًا، فهنا لا يستحق هذا العامل شيئًا؛ لكونه لم يعمل، وينفسخ عقد المُزارعة والمُساقاة، لكن يبقى النظر في الضَّرر، إن كان لحقه ضررٌ بهذا الإهمال فالقاعدة الشرعية: “لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار”، فَيُحَمَّل العامل ما حصل من الضَّرر في هذا الزرع، أو في هذه المزرعة.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: بناءً على ترجيح جواز أخذ الأجرة على أعمال القُرَب، هل يجوز أن أستأجر شخصًا يُصلِّي معي إن لم أجد أحدًا يُصلِّي معي جماعةً؟

الجواب: كونه يستأجر شخصًا يُصلِّي معه هذا غير واردٍ، لكن لِيَؤُمَّ الناس، يتفق جماعةُ مسجدٍ مع شخصٍ لِيَؤُمَّهم -مثلًا- مدةً معينةً، فهذا بعض أهل العلم يمنع منه، والقول الصحيح هو -بناءً على القول الراجح وهو جواز الاستئجار في أعمال القُرَب- أن هذا لا بأس به، القول الراجح: أن هذا لا بأس به، وإن كان الأولى والأحسن ألا يُستأجر مَن يشترط هذا؛ ولهذا لما قيل للإمام أحمد: إن فلانًا يقول: لا أُصلِّي بكم صلاة التراويح إلا بكذا وكذا. فقال: أعوذ بالله، ومَن يُصلِّي خلف هذا؟!

لكن إذا لم يجد جماعة المسجد سبيلًا إلا الاستئجار فالأحسن أن يجعلوها جَعَالةً، يعني: لا يجعلوها إجارةً، يجعلوها جَعَالةً، يعني: بدون عقد إجارةٍ، وإنما يجعلوها جَعَالةً، يقولون: إن صليتَ بنا كذا فلك كذا وكذا.

أما أن يستأجر مَن يُصلِّي معه لأجل تحصيل الجماعة فهذا غير واردٍ، وليس له أصلٌ.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: سائقٌ خاصٌّ، العقد معه فيه سنتان، وبعد مُضيِّ ستة أشهرٍ رفض العمل، وأراد الرجوع إلى بلده، هل تجوز مُطالبته بأجور استقدامه؟ مع العلم بأنها أجورٌ باهظةٌ.

الجواب: الأجير الخاص يُتعاقد معه، يعني: عندما يكون -مثلًا- سائقًا خاصًّا يُتعاقد معه على العمل مدةً معينةً.

والإجارة عقدٌ لازمٌ، فمُقتضى القواعد أنه يُلْزَم بالمدة، لكن الواقع أن هذا الأجير ..، يعني: إذا نظرنا إلى هذه المسألة فهي تُعتبر -في الحقيقة- أشبه بالنَّازلة؛ لأن هذا الأجير يأتي من بلدٍ آخر، ومن بيئةٍ أخرى، ولا يعرف طبيعة البلد الذي يَقْدُم إليه، ثم ربما يتفاجأ بأمورٍ لم يكن يعلم بها، فعندما يرفض إكمال العقد قد يكون معذورًا في هذا؛ وذلك لأنه أيضًا من شرط صحة الإجارة: العلم، وهو لم يعلم طبيعة البيئة التي سيعمل فيها، وطبيعة العمل على وجهٍ دقيقٍ، وحينئذٍ فالقول بتحميله تكاليف السفر وتحميله بعض المبالغ التي خسرها مَن استَقْدَمَه هذا محلُّ نظرٍ، والأقرب أنه لا يُحَمَّل إذا كان قد رفض العمل لسببٍ مُعْتَبرٍ: لعدم مُلاءمة العمل له -مثلًا- أو عدم مُلاءمة البيئة له، أو نحو ذلك، فالأقرب أن هذه يتحمَّلها المُسْتَقْدِم.

أما تحميل هذا العامل ففيه إشكالٌ، وإلا لو طبَّقنا القواعد التي ذكرها الفقهاء فالإجارة عقدٌ لازمٌ، لكن عندي المسألة تختلف؛ لأن هذه الإجارة أيضًا نَقَصَتْها بعض الجوانب من جهة أن هذا العامل لا يعلم طبيعة البيئة التي يعمل فيها، وربما لا يعلم طبيعة العمل.

نعم، لو كان سبق له العمل، ثم أتى مرةً أخرى ورفض العمل؛ فيتَّجه القول بتحميله التَّكاليف؛ لأنه على علمٍ، وعلى بصيرةٍ، وعلى وضوحٍ، وهو الذي قد رفض العمل، أما إذا كان استُقْدِم لأول مرةٍ، ورأى أن البيئة لا تُلائمه، فعندي أن تحميله التَّكاليف فيه شُبهةٌ، والأقرب أنه لا يُحَمَّل التكاليف، وإنما تكون على المُسْتَقْدِم.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: لو اشترط الأجير ألا ضمان عليه مطلقًا، سواءٌ فرَّط أو تعدَّى، هل يصح هذا؟ مع العلم بأنه واقعٌ في كثيرٍ من مغاسل الملابس.

الجواب: إذا اشترط الأجير ألا ضمان عليه، فإن هذا الشرط مُنافٍ لمُقتضى العقد؛ ولذلك هذا الشرط غير صحيحٍ.

وهذا الذي ذكره السائل صحيحٌ، فبعض المغاسل يشترطون ألا ضمان عليهم إلا في حالاتٍ معينةٍ، وهذا كله لا قيمة له؛ لأن هؤلاء يُضَمَّنون عند التَّعدي والتَّفريط، ولا يُضَمَّنون عند عدم التَّعدي ولا التَّفريط.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يسأل عن حكم استقدام الخادمة الكافرة؟

الجواب: الأصل هو الجواز، لكن في جزيرة العرب نهى النبي عن أن يجتمع دينان في جزيرة العرب، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب [16].

وكان شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله يُفْتِي بأنه لا يجوز استقدام العمال غير المسلمين لجزيرة العرب استدلالًا بهذه النصوص.

ثم أيضًا أين مسألة الولاء والبراء؟ كيف يُترك المسلمون يعيشون في الفقر والجوع والمرض، ويُسْتَقْدَم الكفار ليعيش معهم الإنسان تحت سقفٍ واحدٍ؟!

ثم ربما أخذوا أموال المسلمين وحاربوا بها إخواننا المسلمين، أيضًا يُنْظَر لها من هذه الناحية، فكيف يُترك المسلمون في الجوع والفقر، ويُسْتَقْدَم الكفار؟!

فمن مُقتضى مُوالاة المؤمنين: ألا يكون العامل إلا مسلمًا، وألا يُسْتَقْدَم العامل الكافر.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ذكرتُم في درسٍ سابقٍ ما فحواه: إذا حُجِرَ على شخصٍ فإنه يُباع بيته، ويُعْطَى مقدار الأجرة. فكم مقدار الأجرة؟ هل لِسَنَةٍ أو سنتين أو أكثر؟

الجواب: أولًا: هذه المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم؛ فعند الحنابلة أنه لا يُباع البيت، إنما يعتبرون البيت من الحوائج الأصلية، يقولون: لا يُباع.

وبعض أهل العلم قال: إنه يُباع البيت ويُستأجر له؛ وذلك لأن البيت ربما يُسدِّد الديون كلها أو أكثر الدَّين، وحاجته تندفع بالاستئجار، فكيف تُتْرَك أموال الناس وحقوق العباد وهو في بيت ملكٍ وبإمكانه أن يعيش في مثله لكن بيت إيجار؟! فالأقرب أنه يُباع بيته، ويُستأجر له مثله.

السؤال: يقول: كم مدة الإيجار: سنةً أو سنتين أو أكثر؟

الجواب: جَرَت العادة أن الإيجار يكون مدة سنة، والفقهاء يقولون: يُعْطَى للفقير ما يكفيه لمدة سنة. ويُقَيِّدون ذلك بالسنة، فيُستأجر له ما يكفيه لمدة سنة، وإن اجتُهد في المسألة فالمسألة قابلةٌ للاجتهاد، فلو قيل: يُباع بيته ويُستأجر له لعددٍ من السنوات، لم يكن ذلك بعيدًا.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم تأجير المنزل على رجلٍ يُدخل الدِّشَّ في هذا البيت؟

الجواب: تأجير المنزل على مَن قد يستخدمه في معصيةٍ، عمومًا إذا كان التأجير لأجل السُّكْنَى فكون المُستأجر يرتكب معاصٍ في البيت فهذه ليست مسؤولية المُؤجر، هي مسؤولية المُستأجر، فالمُستأجر قد تقع منه غِيبةٌ، وقد تقع منه في هذا البيت نميمةٌ، وقد تقع منه أعمالٌ مُحرمةٌ؛ فقد يشرب الدخان، وقد يستعمل الدشَّ في قنواتٍ لا تجوز مُشاهدتها -مثلما ذكر الأخ السائل- أو نحو ذلك، فهذه ليست مسؤولية المُؤجر.

المهم أن المُؤجر عندما يُؤجِّر هذا البيت يُؤجِّره على مَن يستخدمه في منفعةٍ مُباحةٍ في الأصل، فهو يُريد أن يَسْكُن هذا البيت، لكن التَّصرفات والممارسات التي تقع من المُستأجر هذه ليست مسؤولية المُؤجر إلا إذا استأجره لهذا الغرض، فهنا لا يجوز، إذا استأجر هذا العقار لهذا الغرض هذا لا يجوز، كما لو استأجر -كما مثَّلنا بأمثلةٍ- محلًّا لبيع الأغاني، نقول: هذا لا يجوز.

أما إذا استأجره لأجل السُّكْنَى -أن يسكن هو وعائلته- لكن هذا المُستأجر تقع منه مُمارساتٌ مُحرمةٌ، فهذه ليست مسؤولية المُؤجر.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يسأل يقول: أين الغَرَر في قاعدة المذهب: لا يُجمع بين تقدير المدة والعمل على قول المذهب؟

الجواب: الغَرَر يقولون: إنه لو فرغ من العمل قبل انتهاء المدة يكون في ذلك غَرَرٌ؛ لأنه شَرَطَ عليه أمرين: شَرَطَ عليه عملًا، وشَرَطَ عليه مدةً، فإذا انتهى من العمل قبل المدة يكون في ذلك غَرَرٌ، أو ربما لا ينتهي من العمل إلا بعد انقضاء المدة، فلا ندري هل العمل ينتهي مع المدة أو قبلها أو بعدها؟ لكن حتى إن وُجِدَ غَرَرٌ فهو -في الحقيقة- غَرَرٌ يسيرٌ.

ثم أيضًا الكلام الذي نقلناه عن ابن قدامة: أن العقد أصلًا على المنفعة، والمدة من باب التَّعجيل والتَّحفيز فقط.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما الفرق بين قول الفقهاء: وتستقر الأجرة، وتثبت الأجرة؟

الجواب: عندما يقولون: تستقر الأجرة، يعني: لو حصلتْ وفاةٌ -مثلًا- فالأجرة تكون ثابتةً، فتكون لورثة هذا المُؤجر، وتكون في ذِمة المُستأجر، فلو مات تُؤخذ من تركته؛ لأن الأجرة أحيانًا تكون غير مُستقرةٍ، كما لو كانت -مثلًا- في ثمن مبيعٍ، وشُرِطَ فيه الخيار، فهنا الثمن غير مُستقرٍّ، الثمن هنا غير مُستقرٍّ، وقد يُفْسَخ العقد، ودَين الكتابة يقولون: هو غير مُستقرٍّ، فعندما يُقال: استقرَّ؛ احترازًا من المسائل التي يكون فيها عدم استقرارٍ.

فإذا قيل: إن الأجرة تثبت، يعني: تُستحق، معناها: تُسْتَحقّ للمُؤجر بمجرد العقد، لكن تستقر احترازًا من المسائل التي يكون فيها عدم استقرارٍ.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: هل الكُلَف السُّلطانية من المَكْس المُحرم؟

الجواب: هذه من الأمور التي تخضع للسياسة الشرعية، فقد تكون كذلك، وقد لا تكون، على حسب أوضاع الدولة الإسلامية، فلا يمكن الجواب فيها بجوابٍ عامٍّ، وإنما هذه من الأمور التي تخضع لاعتبارات السياسة الشرعية.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: تخريجًا على قولكم في الشركات المُختلطة، ألا يمكن القول بمنع التَّأجير على مَن يخلط بين الحلال والحرام في البيع؟

الجواب: لا، لا يمكن هذا، لماذا؟

لأن القول بتحريم الدخول في الشركات المُختلطة ليس المأخذ فيه هو اختلاط المال الحلال بالمال الحرام، لا، لو كان المأخذ هو اختلاط المال الحلال بالمال الحرام لقلنا: العبرة بالأكثر، لكن المأخذ فيه: أن الشركات المُختلطة يُنْسَب لمَن يدخل فيها مالٌ وعملٌ، فما تقوم به الشركة من أعمالٍ تُنْسَب للمُساهمين، فإذا دخلتَ فيها كنتَ أحدَ المُساهمين، فَيُنْسَب لك الربا -مثلًا- وتكون كأنك تعاملتَ بالربا بالوكالة.

أما مسألة اختلاط المال الحلال بالمال الحرام: فيجوز التعامل مع مَن كان ماله مُختلطًا، ويجوز تأجيره، وتجوز مُبايعته، ويجوز الشراء منه، فالنبي عليه الصلاة والسلام اشترى شعيرًا من يهوديٍّ، وتُوفي ودرعه مرهونةٌ عنده [17]، مع أن الله تعالى وصفهم بأنهم أكَّالون للسُّحْت.

فالتعامل مع مَن ماله مُختلطٌ لا بأس به، والشركات المُختلطة تختلف عن هذا كله؛ ولذلك مَن ينطلق من هذه القواعد قد أخطأ، فالذين قالوا بجواز الشركات المُختلطة بنوا على هذا، قالوا: إن اختلط المال الحلال بالحرام فالعبرة بالأكثر وهو الحلال. وهذا كالمال المُختلط، وهذا تقعيدٌ غير صحيحٍ؛ لأن في الشركات المُختلطة ليس فقط اختلاط مالٍ حلالٍ بمالٍ حرامٍ، لا، وإنما فيها مالٌ وعملٌ، والإشكال في العمل.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يقول: رجلٌ قام بمُقدمات الجِمَاع في نهار رمضان فأنزل، وبعد رمضان قام بصيام هذا اليوم، وأثناء قضائه وقع على زوجته وجامعها وأنزل، فهل يقضي شهرين كفارةً لهذا اليوم؟

الجواب: أولًا: هو لما أنزل فسد صوم ذلك اليوم، ووجب عليه قضاؤه، لكن لا تجب عليه كفارةٌ مُغلَّظةٌ؛ لكونه لم يحصل منه الوطء، فعليه أولًا التوبة إلى الله ، وعليه القضاء، ثم أيضًا لما حصل ذلك منه في القضاء هو آثمٌ، لكن أيضًا لا تجب عليه الكفارة المُغلَّظة؛ لأن الكفارة المُغلَّظة إنما تجب بالجِمَاع في نهار رمضان؛ لأنها لأجل انتهاك حُرمة الشهر، أما إذا كان بالجِمَاع في القضاء الواجب فلا تجب بذلك الكفارة المُغلَّظة، وإنما عليه التوبة إلى الله أولًا، وأن يقضي ذلك اليوم مرةً أخرى.

وبالمناسبة -يا إخوان- أُلاحظ كثرة الأسئلة عن هذا الأمر: وهو الجِماع في نهار رمضان، وفي شهر رمضان وردت الأسئلة كثيرةً، لدرجة أنني نَوَّهْتُ عنها في خطبة الجمعة في إحدى خطب شهر رمضان، وهذا -في الحقيقة- يدل على أن هناك خللًا، وهناك إشكاليةً، وأن بعض الناس عندهم جرأةٌ على محارم الله، وهذا الأمر من الأمور العظيمة التي تترتب عليها الكفارة المُغلَّظة، فإن لم يجد فصيام شهرين مُتتابعين؛ وذلك لعظيم الجُرْم وعظيم الذنب، فكيف يتجرَّأ المسلم على مثل هذا الأمر؟!

لو كان ذلك في حالاتٍ نادرةٍ ربما نقول: هذا ممكنٌ، وهذه طبيعة البشر، لكن أن يكون هذا كثيرًا، فهذا يدل على أن هناك مشكلةً في المجتمع، وهناك خللًا، وأن الالتزام والتَّدين .. بعض الناس يكون التزامه في الظاهر، لكن عندما تتأمل واقعه وحاله تجد عنده جرأةً على انتهاك حُرمات الله تعالى، وهذا من أخطر ما يكون.

وأيضًا إذا كان هذا حال الذين استفتوا وسألوا، فكيف بحال الذين لم يسألوا؟!

فمثل هذه الأمور نجد أن فيها جرأةً كبيرةً، وهذا -في الحقيقة- يُشَخِّص أن هناك إشكاليةً موجودةً في المجتمع في مسألة الوَرَع والوقوف عند حدود الله ​​​​​​​، وعدم انتهاك حُرمات الله، وإن كانت الأُمة فيها خيرٌ -ولله الحمد- لكن كثرة هذا الأمر تستدعي أيضًا أن ننظر إلى هذه المشكلة وهذا الخلل، وأن نسعى لعلاجه.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم بيع (فيزا) السائق أو الخادم؟ وما حكم شرائها؟

الجواب: إذا كان ذلك على سبيل المُتاجرة فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن أنظمة ولي الأمر تمنع من ذلك، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وهذا من المعروف الذي تجب فيه الطاعة؛ وذلك لأن المُتاجرة تترتب عليها مفاسد كبيرةٌ.

أما إذا لم يكن ذلك على سبيل المُتاجرة، وإنما شخصٌ استغنى عن هذا السائق، أو هذه الخادمة، أو نحو ذلك، استغنى عنه لسببٍ أو لآخر، فأراد أن يتنازل عنه لغيره بِعِوَضٍ، فهذا لا بأس به، والنظام لا يمنع من هذا، إذا كانت مثل هذه الصورة لا يمنع منها، إنما الممنوع هو المُتاجرة فيها.

السؤال: أحسن الله إليكم، هذا يقول: سُئلتم في الدرس السابق، قال السائل: اتَّفقتُ أنا وشخصٌ آخر على أنه يُعطيني المال، وأنا أشتري بضاعةً، ثم هو يبيعها، والربح بالنصف بيننا. فأجبتم: أن هذا من شركة المُضاربة. والإشكال: أَلَا يكون هذا عقد وكالةٍ، والعمل -وهو الشراء- هو من عمل الوكيل عادةً؟

الجواب: إذا كان المال من طرفٍ، والعمل من طرفٍ آخر؛ فهذه مُضاربةٌ.

إذا كان هناك مالٌ من طرفٍ، وعملٌ من طرفٍ آخر؛ فهذه مُضاربةٌ، إذا كان طرفٌ آخر سيعمل فيها، سيُتاجر فيها.

أما إذا كان لا يُتاجر فيها، مجرد أنه يبيعها؛ فهذه وكالةٌ، وكَّله في بيع هذه السلعة وبأجرةٍ مُعينةٍ.

فعلى حسب طبيعة المعاملة، إذا كان سوف يستثمرها -يُتاجر ويبيع ويشتري فيها- فهذه مُضاربةٌ، أما مجرد أن أُوكله في بيعها فهذه وكالةٌ.

السؤال: أحسن الله إليكم، السؤال الأخير يقول: لو أعطيتُ ثوبي للغَسَّال، فغسله وكواه، ثم أعطاه لشخصٍ آخر، فهل يضمن؟

الجواب: الغالب أن هذا يحصل بتفريطٍ، إذا أعطى ثوبك لشخصٍ آخر فهذا يكون بسبب تفريطه، وحينئذٍ يُضَمَّن؛ لأن هذا إنما كان بتفريطٍ منه، ولا يقع ذلك إلا بتفريطٍ، وبناءً على هذا فهو يُضَمَّن عند جميع العلماء، يُضَمَّن؛ لأنه إذا حصل التَّلف بتفريطٍ فَيُضَمَّن عند عامة أهل العلم.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2332.
^2 رواه مسلم: 1547.
^3 رواه البخاري: 2331، ومسلم: 1551.
^4 رواه مسلم: 1551.
^5 رواه أبو داود: 3594.
^6 رواه البخاري: 2320، ومسلم: 1553.
^7, ^8 رواه مسلم: 1552.
^9 رواه أبو داود: 531، والترمذي: 209، والنسائي: 672.
^10, ^12 رواه البخاري: 5737.
^11 رواه البخاري: 2276، ومسلم: 2201.
^13 رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”: 21051.
^14 رواه ابن ماجه: 2443.
^15 رواه البخاري: 2270.
^16 رواه البخاري: 3053، ومسلم: 1637.
^17 رواه البخاري: 2916، ومسلم: 1603.
zh