عناصر المادة
- باب الوكالة
- حكم الوكالة
- الإيجاب والقبول في الوكالة
- أمثلةٌ لما يصح فيه التوكيل
- أمثلةٌ لما لا تصح فيه الوكالة
- بِمَ تنعقد الوكالة؟
- تعيين الوكيل وعلمه بالوكالة
- الوكالة في المعاملات المالية
- حكم المُحاماة
- حكم الوكالة المُفَوَّضَة
- حكم توكيل الوكيل غيره فيما وُكِّلَ فيه
- نوع عقد الوكالة
- مُبطلات الوكالة
- حكم إبطال الوكالة بدون علم الوكيل
- التزام الوكيل بالوكالة
- الوكيل أمينٌ
- حكم الوكيل إن ادَّعى الردَّ للمُوكِّل أو لورثته
- حكم بيع الوكيل من نفسه لنفسه
باب الوكالة
هذا المصطلح مَرَّ معنا كثيرًا، فما المقصود بجائز التَّصرف؟
إذا قال الفقهاء: “جائز التَّصرف” فماذا يقصدون بهذا المصطلح؟
نعم، الحُرُّ، المُكلَّف، الرشيد.
إذا قال الفقهاء: “جائز التَّصرف” يقصدون به: الحُرّ، المُكلَّف، الرشيد.
الحُرّ: فالرقيق ليس بجائز التَّصرف.
المُكلَّف: فالمجنون والصغير ليسا بجائزي التَّصرف.
الرشيد: فالسَّفيه ليس بجائز التَّصرف.
قال:
يعني: يستنيب جائزُ التَّصرف مِثْلَه، يعني: جائزَ تصرفٍ آخر، يكون المُوكِّل والوكيل كلاهما جائز التَّصرف.
أي: من حقوق الله، ومن حقوق الآدميين على ما يأتي بيانه، إن شاء الله.
حكم الوكالة
الوكالة جائزةٌ بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، فَجَوَّز العمل على الصدقات نيابةً عن المُستحقين، فالعاملون عليها يأخذون الزكاة من أرباب الأموال، ويدفعونها لأهلها.
ويدلُّ لذلك أيضًا قول الله عن أصحاب الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [الكهف:19]، وهذا وكالةٌ، وكَّلوا أحدهم ليشتري لهم طعامًا.
والسُّنة فيها أحاديث كثيرةٌ، منها -مثلًا-: ما جاء في “صحيح البخاري” عن عروة بن الجعد البارقي : أن النبي أعطاه دينارًا ليشتري له به شاةً، فاشترى له شاتين، ثم باع إحدى الشاتين بدينارٍ، يعني: كم نسبة الربح؟ 100%، فدعا له النبي بالبركة، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه. وهذا الحديث في “صحيح البخاري” [1].
الشاهد منه: أن النبي وكَّله، وفيه إشارةٌ لما ذكرناه سابقًا في مسائل البيوع من أن الغَبْن المَرْجِع فيه للعُرْف، يعني: هنا ربح 100%، وكَّله ليشتري له شاةً، فاشترى شاتين، ثم باع إحدى الشاتين بدينارٍ، يعني: اشترى شاةً بنصف دينارٍ، ثم باعها بدينارٍ، فربح نسبة 100%، وما اعتبر النبي عليه الصلاة والسلام هذا غَبْنًا، بل أقرَّه ودعا له بالبركة.
ويظهر أن هذا كان سائغًا عند الناس في عهد النبي ؛ ولذلك فإن المرجع في هذا إلى العُرْف، فما عَدَّه الناس في العُرْف غَبْنًا كان غَبْنًا، وما لا فلا، ولو كان هذا غير جائزٍ ما أقرَّ النبي عليه الصلاة والسلام عروة بن الجعد عليه، ولأنكر عليه وقال: إنك قد غَبنتَ هذا المُشتري، وغَبنتَ البائع، وهذا لا يجوز. لكن النبي عليه الصلاة والسلام أقرَّه، بل دعا له بالبركة.
وأيضًا وكَّل النبي بعض أصحابه في القيام بأعمالٍ متنوعةٍ، وفي أحاديث كثيرةٍ كان عليه الصلاة والسلام يُوكِّل بعض أصحابه في القيام بتلك الأعمال: قبض الصدقات، وخرص التمر، ونحو ذلك.
والإجماع: أجمع العلماء على جواز الوكالة في الجملة، كما حكى الإجماع غير واحدٍ من أهل العلم.
الإيجاب والقبول في الوكالة
الإيجاب: هو كل لفظٍ يدلُّ على التوكيل وعلى الإذن: وكَّلتُك، فوَّضتُ إليك، ونحو ذلك.
القبول: كل لفظٍ يدلُّ على قبول هذه الوكالة: قبلتُ، أو نحو ذلك.
وفي وقتنا الحاضر يكفي إصدار صَكّ وكالة من كتابة العدل، يكفي هذا، يُعتبر هذا نوعًا من الإيجاب، وتوقيع الوكيل كافٍ في انعقاد الوكالة، توقيع الوكيل في كتابة العدل يكفي في انعقاد الوكالة، يعني: طلب المُوكِّل الوكالة من كتابة العدل يكفي في الإيجاب، وتوقيع الوكيل بالقبول يكفي في انعقاد الوكالة.
هل يُشترط أن يتوالى الإيجاب والقبول في الوكالة؟
نقول: لا يُشترط أن يَلِيَ القبول الإيجاب، ولا يُشترط حضور الوكيل ولا علمه، لكن لا تنعقد الوكالة إلا بعد قبول الوكيل، ولو بعد مدةٍ.
إذن لا يُشترط أن تكون الوكالة على الفور، بل يصح أن تكون على التَّراخي؛ لأن قبول وُكَلاء النبي كان بفعلهم، وكان مُتراخيًا عن توكيله عليه الصلاة والسلام.
وبناءً على ذلك: مَن أراد أن يُوكِّل غيره في شيءٍ، وأراد أن يذهب لكتابة العدل، هل يُشترط حضور الوكيل معه؟
ما يُشترط، فيذهب إلى كتابة العدل ويقول: أريد أن أُوَكِّل فلان ابن فلان في كذا. وهذا هو الذي عليه العمل، فكُتَّاب العدل لا يطلبون حضور الوكيل، فعندما تذهب -مثلًا- لكتابة العدل وتقول: أُريد أن أُوَكِّل فلان ابن فلان في بيع سيارتي، أو في تزويج مُوَلِّيَتي، أو نحو ذلك. فنجد أن كُتَّاب العدل بناءً على هذا القول لا يطلبون حضور الوكيل، يكتبون الوكالة، وربما أن الوكيل لا يعلم بالوكالة، ولم يأذن بها، لكن نقول: لا تنعقد إلا بعد علمه وإذنه وقبوله.
فلو أنك ذهبتَ وكتبتَ صَكَّ وكالة، فلما علم الوكيل بذلك قال: مَن قال لك أن تُوكِّلني؟ ما أقبل. ما تنعقد، لكن لو أنه قَبِلَ تنعقد ولو مع التَّراخي، فلا يُشترط أن تكون على الفور.
وهذا هو الذي عليه العمل في كتابات العدل: أنهم لا يشترطون حضور الوكيل ولا إذنه، إنما مجرد قول أي شخصٍ: أريد أن أُوكِّل فلانًا. يُوكَّل مباشرةً من غير أن يُطْلَب حضور الوكيل؛ وأخذًا من هذا المعنى الذي ذكره الفقهاء.
أمثلةٌ لما يصح فيه التوكيل
نعود لعبارة المؤلف.
مثَّل المؤلف لما تدخله النيابة فقال:
يعني: كعقد بيعٍ أو هبةٍ أو نكاحٍ، فالبيع يصح التوكيل فيه، وكذلك الهبة، وكذلك أيضًا النكاح يصح التوكيل فيه، فيجوز للوكيل أن يُوكِّل غيره في أن يَلِيَ العقد: من ابنٍ، أو أخٍ، أو شخصٍ أجنبيٍّ.
فمثلًا: امرأة هنا في المملكة، ووليُّها خارج المملكة في بلدٍ آخر، ويُراد تزويج هذه المرأة، فيُوكِّل الوليُّ أحدَ الناس لكي يَعْقِدَ وكالةً عنه، هذا يجوز، بل حتى لو كان الوليُّ حاضرًا، حتى لو كان الوليُّ -مثلًا- هنا ووكَّل ابنه، أو وكَّل أيَّ أحدٍ، فإن هذا يصح في قول عامة أهل العلم.
وهكذا أيضًا يصح أن يُوكِّل الزوجُ مَن يقبل عنه النكاح، يعني مثلًا: طالبٌ مُبْتَعَثٌ، وأراد أن يَعْقِد عقدَ النكاح لكنه بعيدٌ، فَوَكَّل أباه أو أخاه في قبول عقد النكاح، يصح أو ما يصح؟
يصح في قول عامة أهل العلم.
إذن يصح أن يكون التوكيل من الوليِّ، ويصح أن يكون التوكيل من الزوج.
وهذا سواءٌ كان الوليُّ حاضرًا أم غائبًا، وسواءٌ كان الزوج حاضرًا أم غائبًا، حتى لو كان الزوج حاضرًا -مثلًا- وقال: إنه مشغولٌ، أو نحو ذلك، مع أن هذا يَنْدُر أن يحصل، لكن لو افترضنا أن الزوج قال: أُريد أن أُوكِّل غيري في قبول النكاح. يصح هذا.
الوكالة بابها واسعٌ جدًّا، وقد رُوِيَ أن النبي وكَّل عمرو بن أُمية في قبول نكاح أم حبيبة رضي الله عنها [2]، فأم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها تُوفي زوجها وهي في الحبشة، وقيل: إن زوجها تَنَصَّر. لكن لم يثبت أنه تَنَصَّر، وكثيرٌ من أهل العلم أنكر قصة: أن عبيدالله بن جحش تَنَصَّر في الحبشة، والصحيح أن القصة لا يثبت فيها أنه تَنَصَّر، وأن الرواية المروية في ذلك ضعيفةٌ، وأنه مات فبقيتْ أرملةً، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يَجْبُر قلب هذه المرأة التي مات زوجها وهي مُهاجرةٌ إلى الله ورسوله فتزوَّجها، ووكَّل عليه الصلاة والسلام مَن يقبل عنه النكاح، قيل: إنه وكَّل عمرو بن أُمية .
وكذلك أيضًا رُوِيَ أنه وكَّل أبا رافع في قبول النكاح [3]، لكن إسناد ذلك ضعيفٌ، والصواب أن النبي في نكاح ميمونة رضي الله عنها عَقَدَ لنفسه عليه الصلاة والسلام.
إذن التوكيل في النكاح قلنا: جائزٌ في قول عامة أهل العلم، سواءٌ كانت الوكالة للولي أو للزوج.
يجوز التَّوكيل في النكاح مُطلقًا ومُقيدًا.
فالمُقيد: أن يُوكّل تزويج رجلٍ مُعينٍ.
والمُطلق: التوكيل في تزويج مَن يرضاه.
إنسانٌ -مثلًا- يُريد أن يُسافر، وعنده بنات، فأتى إلى رجلٍ صالحٍ يثقُ فيه، وقال: يا فلان، وكَّلتُك في تزويج بناتي مَن تراه كُفْأً. يصح أو لا يصح؟
يصح، لا بأس به.
وقد رُوي أن رجلًا من العرب ترك ابنته عند عمر بن الخطاب ، يعني: وكَّله في تزويجها، وقال له: إذا وجدتَ لها كُفْأً فزوِّجه ولو بِشِرَاك نعله. واختار رجلًا قويًّا أمينًا؛ اختار عمر بن الخطاب ، فزوَّجها عمر بن الخطاب مَن؟
زوَّجها عثمان بن عفان .
انظر إلى ثمرة اختيار القوي الأمين، فهي أم عمر بن عثمان.
إذن قلنا: النكاح يصح التوكيل فيه.
قال:
يصح أن تكون الوكالة في الفسخ: كالخلع والإقالة.
أيضًا يصح أن تكون الوكالة في الطلاق، فللزوج أن يُوكِّل مَن يُطلِّق عنه، وله أن يُوكِّل رجلًا أو امرأةً، فلو أراد أن يُوكِّل أُمَّه في تطليق زوجته يصح أو لا يصح؟
يصح.
لو أراد أن يُوكِّل أخته، أو أراد أن يُوكِّل المرأة نفسها في تطليق نفسها، مثلًا: أشغلته زوجته؛ تطلب الطلاق، كل حينٍ تطلب منه أن يُطلق، فقال: وكَّلتُكِ في تطليق نفسكِ متى أردتِ. فهذا يصح، فإذا طلَّقتْ نفسها يقع الطلاق، تقول: طلَّقتُ نفسي وكالةً عن فلانٍ. أو عبارة تُؤدِّي هذا المعنى.
ولكن الوكيل ليس له أن يُطلِّق أكثر من واحدةٍ إلا أن يُوكِّل ذلك المُوكِّل إليه، لكن إذا قال: وكَّلتُكَ في الطلاق. فليس له أن يُطلق أكثر من واحدةٍ.
قال المُوفق ابن قُدامة رحمه الله: “إذا قال لامرأته: طلِّقي نفسك. فلها ذلك كالوكيل، فإن نوى عددًا فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نيةٍ لم تملك إلا واحدة”.
إذن -كما ترون- الوكالة بابها واسعٌ، فله أن يُوكِّل رجلًا أو امرأةً، وله أن يُوكِّل المرأة في تطليق نفسها.
طيب، قال:
يعني: له أن يُوكِّل في مُراجعة امرأته.
مثال ذلك: رجلٌ طلَّق امرأته، وهي في العِدَّة، ويُريد أن يُسافر، ويخشى ألا يضبط العِدَّة فتخرج المرأة من العِدَّة، فيُوكِّل مَن يُراجعها، هذا لا بأس به.
إذن يدخل التوكيل حتى في الرَّجْعَة؛ وذلك لأنه يملك التوكيل بالأقوى: وهو إنشاء النكاح، فبالأضعف: وهو تلافيه بالرَّجْعَة من باب أولى.
قال:
لأنه عقدٌ على مالٍ أشبه البيع.
كذلك يدخله التوكيل.
لأن النبي كان يبعث عُمَّاله لقبض الزَّكوات ولتفريقها، فلو وكَّلتَ شخصًا يُوزِّع زكاةَ مالك، أو يُوزِّع الصدقات، أو كفارةً -مثلًا- هذا لا بأس به، ومن ذلك: توكيل الجمعيات الخيرية في توزيع الكفارة، أو في الإطعام، أو نحو ذلك، هذا كله من باب التوكيل.
وهنا لا بأس أن تُعطيهم نقدًا، وهم يشترون طعامًا ويُوزِّعونه على الفقراء والمساكين.
قال:
لما انتهى المؤلف من بيان ما تدخله النِّيابة من حقوق الآدميين، انتقل لبيان ما تدخله النِّيابة من حقوق الله تعالى، فالذي تدخله النِّيابة هو توزيع الكفَّارات والصدقات والنذور، وكذلك أيضًا فعل الحجِّ والعمرة، فيجوز أن يُوكِّل الإنسان غيره في الحجِّ عن المُتوفى، وكذلك المَعْضُوب، والمَعْضُوب المقصود به: العاجز عن الحجِّ والعمرة، فالمُتوفى والمَعْضُوب يجوز أن يتوكَّل في الحجِّ عنهما.
ويجوز أن يتوكَّل الإنسان في الحج عن أبيه وعن أمه إذا كانا بهذا الوصف، يعني: مُتوفًّى أو مَعْضُوبًا، أما القادر فمحل خلافٍ، والصحيح: أنه لا يصح الحج والعمرة عن الإنسان القادر مطلقًا.
وعند الحنابلة أنه في الفرض لا يصح، وفي النَّفل يصح، لكن الأظهر -والله أعلم- والأقرب أنه لا يصح التوكُّل عن القادر، وإنما يكون ذلك عن المُتوفى وعن المَعْضُوب، يعني: العاجز.
أمثلةٌ لما لا تصح فيه الوكالة
قال:
يعني: لا يصح التوكيل فيها من حقوق الله ؛ لتعلُّقها بِبَدَنِ مَن هي عليه.
انتقل المؤلف لبيان ما لا تدخله الوكالة، أو ما لا تصح فيه الوكالة، والذي لا تصح فيه الوكالة، قال:
لأن هذه الأمور يُراد فعلها من ذلك الإنسان مباشرةً وتتعلَّق ببدنه، فلا يصح التوكيل فيها.
كأن يقول: أنت وكيلٌ الآن، أو وكَّلتُكَ من غير قيدٍ.
كأن يقول: إذا دخل شهر رمضان فَبِعْ سيارتي -مثلًا- علَّق ذلك بدخول الشهر، أو نحو ذلك.
وكَّلتُكَ لمدة سنة، أو شهر، أو أقلّ، أو أكثر.
بِمَ تنعقد الوكالة؟
في بعض النُّسخ: “تُعقد”، والأقرب هو نسخة:
سبق أن ذكرنا قاعدةً في المعاملات، وهي: تنعقد العقود بكلِّ ما دلَّ عليها من قولٍ أو فعلٍ.
نقلنا هذا عن أبي العباس ابن تيمية رحمه الله: أنه لا تُشترط في ذلك ألفاظٌ معينةٌ.
البيع ينعقد بكلِّ ما دلَّ عليه من قولٍ وفعلٍ: الإجارة، الوكالة، العقود كلها، فلا نُلزم الناس بمُصطلحاتٍ مُعينةٍ، فكلّ ما دلَّ على ذلك العقد من قولٍ أو فعلٍ فإنه ينعقد به.
تعيين الوكيل وعلمه بالوكالة
يعني: لا بد أن يكون الوكيل مُعيَّنًا، فلا يصح أن يكون مُبْهَمًا، لا يصح أن يقول: وكَّلتُ أحد هذين الرجلين، أو أحد هؤلاء. لكن لا يُشترط علمه بالوكالة.
وأشرنا لهذه المسألة، لكن قلنا: لا يُشترط علمه، لكنها لا تنعقد إلا بعد علمه وإذنه.
وبناءً على ذلك: لو باع سلعةً لزيدٍ على أنه فضولي، ثم تبيَّن أن زيدًا قد وكَّله في بيعها، فإنه يصح البيع اعتبارًا بما في نفس الأمر، حتى على المذهب، وإن كان القول الصحيح في بيع الفضولي -أشرنا لهذا لما شرحنا كتاب “البيع”- القول الصحيح في بيع الفضولي وشرائه ما هو؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، أحسنتَ.
يصح إذا أجازه المالك، وذكرنا أدلة هذا القول، لكن حتى على المذهب يقولون: لو باع سلعةً لزيدٍ على أنه فضولي، ثم تبين أنه وكَّله فإنه يصح.
الوكالة في المعاملات المالية
قال:
لأننا قلنا: إنها تصح في حقوق الآدميين المعاملات المالية عمومًا.
“بالمطالبة بحقوقه كلها” يعني: ما يُسمَّى بـ”تحصيل الدَّين”، تُوكِّل إنسانًا في تحصيل ديونك.
وهكذا أيضًا تصح الوكالة في الخصومة، وقد أُثِرَ ذلك عن الصحابة ، فقد رُوِيَ أن عليَّ بن أبي طالبٍ وَكَّل أخاه عقيلًا عند أبي بكرٍ ، وقال: “ما قُضِيَ له فَلِي، وما قُضِيَ عليه فَعَلَيَّ”.
وجاء في “السنن الكبرى” للبيهقي عن عبدالله بن جعفر: “كان علي بن أبي طالب يكره الخصومة، فكان إذا كانت له خصومةٌ وكَّل فيها عقيل بن أبي طالب -يعني: أخاه- فلما كَبُرَ عقيل وَكَّلَني”. هكذا قال عبدالله بن جعفر [4].
وكان علي بن أبي طالب يقول: “إن للخصومة قَحْمًا -يعني: مهالك- وإن الشيطان يحضرها، وإني أكره أن أحضرها”.
يعني: بعض الناس ربما يَأْنَفُ من حضور الخصومة، ويترفَّع عن حضور مجالس الحكم: إما تَوَرُّعًا، وإما لأنه يرى أنه يترفَّع عن ذلك، أو لغير ذلك من الأسباب، أو لضعف حُجَّته.
وقد أشرنا إلى هذا في الصلح على إنكار، وقلنا: يجوز الصلح على إنكارٍ، وذكرنا فائدة الصُّلح على إنكارٍ، وقلنا: إن الجمهور أجازوا الصُّلح على إنكارٍ، وخالف في ذلك مَن؟
مَن الذين أنكروا الصُّلح على إنكارٍ، وقالوا: إنه ما يصح؟
طالب: …….
الشيخ: الشافعية، أحسنتَ.
الشافعية قالوا: إنه يتضمن أكل المال بالباطل.
قلنا جوابًا عن ذلك: ليس في هذا أكل المال بالباطل، بل فيه فائدةٌ عظيمةٌ.
ما فائدة الصلح على إنكارٍ؟
قطع الخُصُومة.
وأيضًا التَّرفُّع، فبعض الناس يترفَّع عن حضور مجالس الحكم، ويُريد أن يبذل مالًا، ولا يحضر مجالس الحكم.
وأيضًا الافتداء لليمين، فبعض الناس ما يُريد أن يحلف ولو كان صادقًا.
فمثل هؤلاء يُمَكَّنون، فإذا تسلَّط على الإنسان آخر وقال: أنا أُطالبك بمالٍ. قال: يا أخ فلان، ما أذكر أنك تُطالبني بمالٍ. قال: أُطالبك بمالٍ. ورفع فيه شكايةً للمحكمة، وأُعْطِيَ ورقةً بالحضور، فقال: كم يُرضيك؟ أُعطيك خمسة آلافٍ، خُذْ هذه خمسة آلافٍ واسحب شكايتك.
هذا صُلحٌ على إنكارٍ، وقلنا: إنه يصح في الظاهر.
لكن لهذا الإنسان مخرجٌ آخر بدلًا عن أن يصطلح معه الصُّلح على إنكارٍ، وقد يكون المبلغ كبيرًا، فقد يقول: أُطالبك بمئة ألفٍ -مثلًا- أو أكثر. فهنا جُعِلَ له مخرجٌ وهو: التوكيل، فما يلزمك أن تذهب أنت لمجلس الحكم، أنت تقول: إني أترفَّع عن حضور مجلس الحكم. إذن وَكِّل مَن يُخاصم عنك.
وهذا هو الذي عليه العمل الآن، والمحامون يقومون بهذا، فالمحامي هو -في الحقيقة- وكيلٌ في خصومةٍ.
وهذا يقودنا إلى بيان حكم المُحاماة.
حكم المُحاماة
المُحاماة إذا كانت دفاعًا عن حقٍّ فلا بأس بها.
أما إذا كان يُحامي عن الحقِّ والباطل فلا يجوز، لا يجوز للإنسان أن يتوكَّل في الدفاع عن باطلٍ؛ ولذلك المحامي إذا عُرضتْ عليه قضيةٌ ورأى أن لهذا حقًّا فيتوكَّل عنه، ويُخاصِم عنه، أما إذا كان دفاعًا عن باطلٍ، ورأى أن هذا مُبْطِلٌ ينصحه ويُذَكِّره بالله، ولا يجوز أن يتوكل عنه.
طالب: …….
الشيخ: لا، إذا طُلِبَ الحلفُ الذي عليه العمل أنه يأتي صاحب الشأن، ولا يحلف الوكيل، يأتي المُوكِّل، فهو يتوكَّل عنه في كل شيءٍ، لكن إذا وصلت المسألة إلى الحلف يحضُر المُوكِّل ويحلف.
ولا بأس أن يأخذ الوكيل أجرةً، يعني: المحامي لا بأس أن يأخذ أجرةً على هذا، فالوكالة بأجرةٍ جائزةٌ في قول عامة أهل العلم.
إذن يجوز التوكيل في المُطالبة بالحقوق، يجوز التوكيل في الخصومة.
كل هذا يدل على عظمة هذه الشريعة، وإلا لو أُلزم الإنسان بأن يحضر مجلس الحكم بنفسه لكان في هذا حرجٌ عظيمٌ، لكن له مخارج:
- له -إن أراد- أن يصطلح معه -الصلح على إنكارٍ- وقلنا: يجوز على القول الراجح.
- وله أن يُوكِّل غيره في التَّرافع عنه.
هذا يدلُّ على عظمة هذه الشريعة، وعلى حفظها لحقوق المُكلَّفين.
حكم الوكالة المُفَوَّضَة
قال:
يعني: إن قال: وكَّلتُكَ وكالةً مُطلقةً في كل شيءٍ.
هذا إنسانٌ يثق في رجلٍ عنده، وربما نقول -مثلًا-: يتولَّى أعماله، فجعله وكيلًا على جميع أعماله: وكَّلتُكَ في كل شيءٍ: في البيع، وفي الشراء، وفي كل شيءٍ.
فيقول المؤلف: إنه لا يصح، لماذا؟
قالوا: لأنه يدخل فيه كل شيءٍ من هبة ماله، وطلاق نسائه، وإعتاق رقيقه، فيعظم الغَرَر والضَّرر؛ ولأن التَّوكيل شرطه أن يكون في تصرُّفٍ معلومٍ، وهذا مجهولٌ إذا قال: وكَّلتُكَ في كل شيءٍ.
والقول الثاني في المسألة: أنه يصح توكيله في كل شيءٍ -هذه مسألة المُفَوَّضَة هنا-؛ وذلك لعدم الدليل الدَّال على المنع.
وأما قولهم: إنه يَعْظُم الضَّرر والغَرَر.
فقالوا: إن هذا لا يُسلَّم، فإن الإنسان العاقل لا يُوكِّل في كل شيءٍ إلا مَن رضي به، ووثق به، واطمأنَّ إليه، ويفعل ذلك باختياره، فلا مانع من ذلك، ولا محظور، بل قد تكون فيه مصلحةٌ كبيرةٌ، ومَن ادَّعى المنع فهو مُطالبٌ بالدليل، ولا دليل يدلُّ على ذلك.
وهذا القول رجَّحه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في “المختارات الجلية”، رجَّح هذا القول، وقال: إن هذا القول هو الصحيح.
هذا هو الأقرب: أنه يصح؛ لعدم الدليل.
أما قولهم: يَعْظُم الضَّرر والغَرَر. فهذا لا يُسَلَّم، فالإنسان العاقل لا يُوكِّل إلا مَن يثق فيه.
حكم توكيل الوكيل غيره فيما وُكِّلَ فيه
قال:
“توكيل الوكيل” يعني: هل يجوز للوكيل أن يُوكِّل غيره فيما وُكِّلَ فيه؟
نقول: لا يخلو الأمر من ثلاثة أحوالٍ:
- الحال الأولى: أن يَنْهَى المُوكِّل وَكِيلَه عن التوكيل، فلا يجوز للوكيل أن يُوكِّل، ولا يصح باتِّفاق العلماء.
- الحال الثانية: أن يأذن المُوكِّل للوكيل في التوكيل، فيصح ذلك بالاتفاق.
- الحال الثالثة: أن يُطلق المُوكِّل الوكالة، فلم يأذن له بالتوكيل، ولم يَنْهَهُ عن التوكيل.
فنقول: ليس للوكيل أن يُوكِّل إلا في مسائل معدودةٍ نصَّ عليها الفقهاء.
ذكر المؤلف من هذه المسائل:
يعني: يعجز عن العمل الذي وُكِّل فيه، فَوَكَّله بأمرٍ مُعيَّنٍ فَعَجَز عنه، فله أن يُوَكِّل غيره.
ومن المسائل التي يجوز فيها التوكيل أيضًا: أن يكون العمل المُوَكَّل فيه لا يتولاه مثله.
مثال ذلك: وكَّلتُك في بناء عمارةٍ لي. ومعلومٌ أن مثلك لا يبني، فمعلومٌ أن المقصود: أنك تأتي بعمالٍ يبنون هذه العمارة، فمعنى ذلك: أنه يجوز لك أن تُوكِّل غيرك.
أيضًا من المسائل التي يصح فيها توكيل الوكيل: إذا كان الوكيل لا يُحْسِن العمل الذي وُكِّلَ فيه، فيجوز له أن يُوكِّل، لكن لا بد أن يكون وكيلُ الوكيلِ أمينًا؛ لأنه لم يُؤْذَن له في توكيل مَن ليس بأمينٍ.
قال:
وذلك لأنه تغريرٌ بالمال، فكونه يَعْقِدُ مع إنسانٍ فقيرٍ مُعْسِرٍ يبيع السلعة، أو مع قاطع طريقٍ -إنسان معروف بأكل أموال الناس بالباطل- فيكون حينئذٍ قد خالف مُقتضى الوكالة.
يعني: ليس للوكيل أن يبيع مُؤجَّلًا إلا بإذن مُوَكِّله؛ لأن الإطلاق ينصرف إلى الحُلُول، فليس له أن يبيع مُؤجَّلًا، فإن فعل ذلك فإنه يضمن.
يعني: ليس للوكيل أن يبيع بمنفعةٍ، أو عَرَضٍ.
“بمنفعةٍ” مثل: استئجار البيت مدةً معينةً.
“أو عَرَضٍ” كسلعةٍ أخرى.
إذا وكَّله أن يبيع سيارةً، فقال المُشتري: أشتري السيارة بأن أُؤجِّر على مُوكِّلك بيتي لمدة سنة -مثلًا- فليس له ذلك.
أو قال: أبيعك السيارة بسيارةٍ أخرى. فليس له ذلك إلا بإذن مُوكِّله؛ وذلك لأن الإطلاق محمولٌ على العُرْف، والعُرْف هو كون الثمن نَقْدًا.
لأن عقد الوكالة يقتضيه، وفي عُرْف الناس: أن البيع والشراء يكونان بنقد البلد.
إذا أَذِنَ له مُوكِّله في ذلك يصح.
نوع عقد الوكالة
ثم قال المؤلف رحمه الله:
والوكالة، والشركة، والمُضَاربة، والمُسَاقاة، والمُزارعة، والوديعة، والجَعَالة: عقودٌ جائزةٌ من الطرفين.
وهذه العقود سيأتي الكلام عنها، والذي يهمُّنا هنا: الوكالة، فنوع عقد الوكالة أنه عقدٌ جائزٌ من الطرفين.
ومَرَّ معنا أيضًا هذا المصطلح كثيرًا، فإذا قيل: عقدٌ جائزٌ، وعقدٌ لازمٌ، فما معنى: عقد جائز؟
طالب: …….
الشيخ: لكلٍّ من الطرفين، “عقدٌ جائزٌ” يعني: يجوز لكلٍّ من الطرفين الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر.
إذا قيل: “عقدٌ لازمٌ” ليس لأحدٍ من الطرفين الفسخ إلا برضا الطرف الآخر.
على دراستنا السابقة، مَن يُمثِّل لنا بعقدٍ لازمٍ؟
مثل: البيع، ومثل: الإجارة، فهذه عقودٌ لازمةٌ، فإذا حصل التَّفرق من مكان العقد بالأَبْدَان لَزِمَ البيع، ولزمت الإجارة.
الوكالة عقدٌ جائزٌ، لكلٍّ من الطرفين الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر؛ ولهذا قال المؤلف:
مُبطلات الوكالة
ثم تكلم المؤلف عن مُبطلات الوكالة فقال:
يعني: كل ما ذُكِرَ.
يعني: إذا مات المُوكِّل أو الوكيل بطلت الوكالة، فعند موت أحدهما تبطل؛ لأنها عقدٌ جائزٌ، فالموت مُبْطِلٌ للوكالة؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة، فإذا انْتَفَتِ الحياةُ انْتَفَتْ صِحَّتُها.
كذلك أيضًا لو جُنَّ المُوكِّل أو الوكيل بطلت الوكالة للمعنى السابق؛ لأن الوكالة يقولون: تعتمد الحياة والعقل، وإذا انْتَفَيَا انْتَفَتْ صِحَّتُها.
كذلك الحَجْر على السَّفيه، فتبطل الوكالة، سواء كان الحَجْر على المُوكِّل، أو على الوكيل؛ تبطل الوكالة، فهذا المُوكِّل أو الوكيل أصبح سفيهًا.
إنسانٌ وكَّلتَه في بيعٍ، أو في شراءٍ، ثم بعد ذلك حُجِرَ عليه، تفاجأتَ بأن سمعتَ أنه حُجِرَ عليه، سَفِيهٌ؛ تبطل الوكالة مباشرةً.
قال:
يعني: المقصود ببطلان الوكالة بالحَجْر عليه لِسَفَهٍ في التَّصرفات المالية، أما إذا وُكِّل في غير التَّصرفات المالية: كأن يُوكِّله في طلاقٍ، أو في نكاحٍ، أو في رَجْعَةٍ؛ لا تبطل بالسَّفَه.
يعني -مثلًا-: وكَّلتَ زيدًا من الناس في تطليق امرأتك، أو في نكاحٍ، ثم إنه حُجِرَ عليه لِسَفَهٍ، هل يُؤثِّر هذا الحَجْر على الوكالة؟
لا يُؤثر؛ لأنه حُجِرَ عليه لِسَفَهٍ مُتعلِّقٍ بالأمور المالية فقط، وكما ذكرنا في الدرس السابق: أن الحَجْر على السَّفيه ليس له علاقةٌ بالتَّدين والاستقامة، فقد يكون الإنسان مُستقيمًا، وقد يكون طالب علمٍ، لكن السَّفه فيما يتعلَّق بالتَّصرفات المالية، فليست هناك مُلازمةٌ.
مثلًا: إنسانٌ طالب علمٍ معروف -مثل: شيخ فاضل- لكن في البيع والشراء ما يُحْسِن البيع، ولا الشراء، ولا التَّصرفات المالية، فهذا يمكن أن يُحْجَر عليه لِسَفَهِهِ في البيع والشراء، لكن في بقية أموره لا نَحْجُر عليه، فلو وُكِّل في طلاقٍ، أو وُكِّل في نكاحٍ تبقى الوكالة، ولا تبطل.
أيضًا قال:
يعني: إذا طرأ الفِسْقُ على المُوكِّل أو على الوكيل تبطل الوكالة؛ وذلك لخروجه بالفِسْقِ عن أهلية التَّصرف.
ومثَّل المؤلف لذلك فقال:
يعني: وكَّل إنسانًا في أن يعقد، الوليُّ وَكَّلَ رجلًا في أن يعقد -وكالة العقد- ثم إن هذا الوكيل طَرَأَ عليه فِسْقٌ، قبضتْ عليه -مثلًا- الهيئة في كبيرةٍ: كشُرب خمرٍ، أو نحو ذلك، فهنا تبطل الوكالة.
قال:
يعني: هنا تبطل الوكالة إذا حُجِرَ على الإنسان لِفَلَسِه، وتبطل الوكالة فيما حُجِرَ عليه فيه فقط؛ وذلك لانقطاع تصرُّفه بالحَجْر عليه.
مثال ذلك: إنسانٌ وكَّل زيدًا من الناس في أن يبيع سيارته، وقبل أن يبيع حُكِمَ بالحَجْر عليه، فهنا الوكالة باطلةٌ، تبطل مُباشرةً.
يعني: بِرِدَّة المُوكِّل؛ وذلك لأن المُرتَدَّ -نسأل الله العافية- ممنوعٌ من التَّصرف في ماله، وماله يكون لبيت مال المسلمين، ويكون حكمه حكم الفَيْء.
ما معنى: التَّدبير؟
التَّدبير، والعبد المُدَبَّر، ما معنى: التدبير؟
طالب: …….
الشيخ: تعليق عِتْقِ العبد بالموت، يقول: إذا مِتُّ فأنت حُرٌّ.
والكتابة: أن يتفق الرَّقيق مع سيده على أن يدفع له أقساطًا، فإذا دفعها كلها أصبح حُرًّا.
فإذا كان قد دَبَّر هذا العبد أو كاتَبَه، ووكَّل في عتقه -يعني: هو وكَّل في عِتْقِه ثم دَبَّره، أو وكَّل في عتقه ثم كاتَبَه- فتبطل الوكالة؛ لدلالة ذلك على رجوع المُوكِّل عن الوكالة في العتق.
إذا وكَّل ثم دبَّر، معنى ذلك: أنه أَبْطَلَ الوكالة.
وَكَّل ثم كاتب؛ أبطل الوكالة.
فأيّ شيءٍ يدل على بطلان الوكالة تبطل به، والمثال الذي ذكره المؤلف بعد هذا قد يكون أوضح.
قال:
يعني: هذا الرجل قال لزيدٍ من الناس: وكَّلتُك في تطليق زوجتي. ثم ذهب ووطأها -وطأ هذا الزوج مُطلقته الرجعية- فمعنى ذلك: أنه قد أبطل هذه الوكالة بأيِّ شيءٍ؟
بفعله، يعني: وَطْؤه لها دليلٌ على رغبته فيها واختياره إمساكها، فتبطل الوكالة مباشرةً.
فإبطال الوكالة قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل أو بدلالة الحال، كما في هذه الأمثلة.
أيُّ شيءٍ يدل على الرجوع -رجوع المُوكِّل أو الوكيل- تبطل به الوكالة.
يعني: إذا مات المُوكِّل مباشرةً تنفسخ الوكالة، وإذا انفسخت الوكالة انْعَزَل الوكيل.
إذا فسخ المُوكِّل الوكالة انْعَزَلَ الوكيل، أو قال: عزلتُكَ. لكن أراد المؤلف بهذا قوله:
حكم إبطال الوكالة بدون علم الوكيل
يعني: حتى لو لم يعلم الوكيل بعزله فإنه ينعزل؛ لأنه عقدٌ لا يفتقر إلى الرضا من صاحبه، فصحَّ بغير علمه كالطلاق.
يقولون: عقد الوكالة لا يفتقر إلى الرضا.
الطلاق: هل يُشترط أن ترضى المرأة بالطلاق؟
لا يُشترط.
هل يُشترط أن يكون الطلاق بحضرتها؟
ما يُشترط.
هكذا أيضًا بالنسبة للوكيل، فيقولون: الوكيل لا يُشترط حضوره، ولا علمه، ولا رضاه، فبمجرد أن يعزله ينعزل ولو بغير علمه.
وقال بعض أهل العلم: إن الوكالة لا تنفسخ إلا بعد علم الوكيل بعزله، وأن تصرُّفه قبل علمه صحيحٌ، نافذٌ.
وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ورجَّحه الشيخ ابن سعدي في “المختارات الجلية”.
قالوا: لأن العزل هو منعه مع إعلامه، وكونه ينعزل قبل علمه قد يلحقه الضَّرر في هذا؛ ولهذا قال ابن سعدي رحمه الله: “تضمين الوكيل في هذه الحال قبل علمه من أبعد الأشياء عن الأصول والقواعد الشرعية”.
فمثلًا: وكَّلتَ رجلًا في بيع بيتك، ثم عزلتَه، ثم إن هذا الرجل ذهب وباع البيت، فهل نُضَمِّن هذا الوكيل؟
نقول: الصحيح أنه لا ينعزل الوكيل إلا بعد علمه؛ وذلك لأنه قد يلحقه الضَّرر بذلك.
أما أن هذا الوكيل يذهب ويجتهد ويتصرف، ثم يتفاجأ بأنه قد عُزِلَ قبل مدةٍ، ثم يضمن هذه التَّصرفات، هذا لا يتوافق مع الأصول والقواعد الشرعية.
ينبغي عند فسخ الوكالة عدم التَّشهير بالوكيل
نُلاحظ أن بعض الناس إذا فسخ الوكالة قام يُعْلِن في الصحف، ويُشَهِّر بالوكيل، ويُسِيءُ له، وهذا من أذية المؤمنين.
إذا فسختَ الوكالة فافسخها من غير تشهيرٍ، ومن غير أذيةٍ، وكما قال الله في شأن المُطلَّقة: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] في شأن المرأة، كذلك بالنسبة للوكيل أيضًا.
قال المؤلف رحمه الله:
وهذا الفصل هو الأخير.
طالب: …….
الشيخ: لا، الأحكام الظاهرة من حين الردة مباشرةً، أما حبوط العمل فهذا هو الذي يُشترط له الموت.
إنسانٌ ارتَدَّ -كما يحصل في بعض الدول- أعلن -مثلًا- تَنَصُّرَه، أعلن انتقاله لدينٍ آخر، هنا نحكم بردَّته، وأمواله تُؤخذ منه، ليس له التَّصرف فيها مباشرةً -أي: في حياته- تُؤخذ منه، وتكون فَيْئًا، حكمها حكم الفَيْء لبيت مال المسلمين.
التزام الوكيل بالوكالة
قال:
وإن باع الوكيلُ بِأَنْقَصَ عن ثمن المِثْل، أو عما قدَّره له مُوكِّله، أو اشترى بأزيد.
يعني: من ثمن المِثْل.
يعني: لا بد أن يلتزم الوكيل بالوكالة، فليس له أن يزيد أو ينقص.
وأيضًا لا بد أن يفعل الأحظَّ لمُوكِّله؛ لأن تصرف الإنسان لغيره ليس كتصرفه لنفسه، فتصرف الإنسان لغيره مطلوبٌ منه أن يفعل الأحظَّ، أما تصرفه لنفسه فهو حُرٌّ في ماله، فله أن يبيع بأقلّ من ثمن المِثْل، وله أن يشتري بأكثر من الثمن، لكن تصرفه لغيره مطالبٌ فيه بأن يتصرف بالأحظِّ، فإن فرَّط فإنه يضمن، كما في هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف.
إذا باع “بأَنْقَصَ عن ثمن المِثْل” إنسانٌ وكَّل زيدًا من الناس في أن يبيع سيارته في السوق، وهذه السيارة سعرها في السوق عشرون ألفًا، فذهب وباعها بخمسة عشر ألفًا، فالبيع صحيحٌ، لكنه يضمن خمسة آلاف ريالٍ، يقول: لأنك مُفَرِّطٌ.
“أو عما قدَّره له مُوكِّله”، قال المُوكِّل: لا تَبِعْ بأقلّ من عشرين. فذهب وباع بسبعة عشر ألفًا، يضمن.
“أو اشترى بأزيد” يعني: من ثمن المِثْل.
هذه السيارة عادةً تُباع في السوق بعشرين ألفًا، فذهب واشتراها بثلاثين، فهنا يضمن.
“أو بأكثر مما قدَّره له” يعني: قال له المُوكِّل: لا تَشْتَرِ بأكثر من عشرين. فذهب واشترى بأكثر، فيضمن الزائد.
“وضمن في البيع كلَّ النَّقص، وفي الشراء كلَّ الزائد” وذلك لتفريطه في طلب الأحظِّ لمُوكِّله.
وأيضًا من أمثلة التَّفريط:
قال: خُذْ هذه السيارة بِعْهَا لزيدٍ من الناس. فذهب وباعها لعمرٍو، أو باعها لمحمدٍ، ما باعها لزيدٍ، فهنا البيع لا يصح أصلًا.
لاحظ الفرق بينها وبين المسألة السابقة: لا يصح.
قال المُوفق ابن قدامة في “المغني”: “بغير خلافٍ علمناه؛ وذلك لأنه إنما قصد نَفْعَ زيدٍ دون غيره”.
يعني: إنسانًا أُمِرَ بدفع ثوبٍ إلى خياطٍ.
أعطيتَ إنسانًا قماشَ ثوبٍ، وقلتَ: اذهب به للخياط الفلاني لِيَخِيطه. فذهب به وسلَّمه للخياط، ثم إن المُوكِّل نَسِي الثوب فضاع أو نحو ذلك، فهل الوكيل يضمن؟
لا يضمن، فالوكيل لم يُفرِّط، أنت قلتَ: خُذْ هذا الثوب واذهب به للخياط. ففعلتُ ما أُمرتُ به.
فما دام أنه لم يحصل من الوكيل تَعَدٍّ ولا تفريطٌ فإنه لا يضمن.
قال: ادفعه إلى خياطٍ. يعني: لم يُعيِّن، لم يقل: الخياط الفلاني.
دفع إلى إنسانٍ في الشارع لا يعرفه، ليس المحل معروفًا، وإنما دفع إلى إنسانٍ في الشارع ليخيط له هذا الثوب، أو ليغسل له هذا الثوب، أو نحو ذلك، هنا يضمن؛ لأنه مُفَرِّطٌ.
هذا الكلام الذي ذكره المؤلف كله يمكن أن نرجع فيه لقاعدةٍ واحدةٍ، مَن يُمكن أن يَصِيغ لنا هذه القاعدة؟
هذا الكلام الذي ذكره المؤلف كله، هذه التَّفريعات يمكن أن نُرجعها لقاعدةٍ.
طالب: …….
الشيخ: وإن فرَّط أو تعدَّى ضمن، أحسنت.
هذه التَّفريعات التي ذكرها المؤلف كلها -وربما نُضيف لها أيضًا أمثلةً أخرى- يمكن أن نُرجعها لهذه القاعدة: أن تصرفات الوكيل إذا كانت بغير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ فإنه لا يضمن، أما إذا كانت بِتَعَدٍّ منه أو تفريطٍ يضمن، سواء في الأمثلة التي ذكرها المؤلف أو في غيرها، فإذا تعدَّى الوكيل أو فرَّط ضَمِنَ.
طيب، ما الضابط في التَّعدي والتَّفريط؟
أردنا أن نعرف: ما الضابط؟ كيف نضبط التَّعدي والتَّفريط؟
تقولون الآن: نُرجع هذه الفروع وغيرها إلى هذه القاعدة، فما الضابط؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، العُرْف، أحسنتَ.
ما عَدَّه الناس في عُرْفهم تفريطًا فهو تفريطٌ، وما عدُّوه تَعَدِّيًا فهو تَعَدٍّ، والناس تُفَرِّق بين المُفرِّط وغير المُفرِّط.
طيب، مَن يذكر لنا مثالًا غير الأمثلة التي ذكرها المؤلف؟
نُريد أيضًا أن نأخذ أمثلةً من واقعنا.
مثالٌ لتفريط وكيلٍ.
طالب: …….
الشيخ: يقول: إنه وُكِّلَ في بيع بضاعةٍ في شاحنةٍ، وأنه أخذ الثمن ووضعه في السيارة، وترك السيارة وبابها مفتوحٌ، فَسُرِقَ المبلغ، فهذا لا شكَّ أنه تفريطٌ؛ فيضمن.
ومثل ذلك أيضًا: لو ترك السيارة تعمل ونزل في محلٍّ فَسُرِقَتْ.
وَكَّلَه في بيع السيارة، وفي الطريق نزل لبقالةٍ، وترك السيارة وفيها المفتاح، فَسُرِقَتْ؛ فإنه يضمن.
لو أسرع بالسيارة فحصل له حادثٌ يضمن، هذا مثالٌ للتَّعدي.
إذن القاعدة: أن تصرفات الوكيل إذا كانت بِتَعَدٍّ أو تفريطٍ يضمن، أما إذا كانت بغير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ فإنه لا يضمن.
الوكيل أمينٌ
قال:
هذه هي القاعدة.
القاعدة: أن الوكيل أمينٌ.
إذا قلنا: “أمين” هذا المصطلح أيضًا يمرُّ معنا في أبواب الفقه: الأجير أمينٌ، الوكيل أمينٌ، المُضارب أمينٌ، المُودَع أمينٌ، المُسْتَعِير -على قول بعض الفقهاء- أمينٌ، فما معنى هذا المصطلح؟ ما معنى: أمين؟ إذا قال الفقهاء: “أمين” ماذا يقصدون بهذا الوصف؟
يا إخوة، فهم مُصطلحات العلماء مهمٌّ جدًّا.
طالب: …….
الشيخ: أحسنت.
إذا قيل: “أمين”، فمعنى ذلك: أنه لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط.
خُذْ هذا المصطلح في أيِّ بابٍ من أبواب الفقه، إذا قيل: “أمين” لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط.
ولذلك المُضارب لما حصل -مثلًا- في أزمة الأسهم، لما انهارت الأسهم بعض الناس أعطى غيره مالًا، قال: ضارب لي به في الأسهم. ثم خسر، هل يضمن المُضارب؟
ما يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط، هو أمينٌ، أنت ائْتَمَنْتَه على هذا المال، قلتَ: خُذْ بِعْ وَاشْتَرِ به في الأسهم.
ولذلك نجد أن كثيرًا من أرباب الأموال أقاموا دعاوى على وُكلائهم، أو على المُضاربين، قالوا: نحن أعطيناهم مبالغ كبيرةً وخسروا في الأسهم.
فنقول: لا يضمنون، ويُصدَّق هذا المُضارب إذا قال: إني خسرتُ. يُصدَّق، وسيأتينا هذا بالتفصيل عندما نتكلم عن المُضاربة.
إذن هو أمينٌ، وإذا كان أمينًا فإنه لا يضمن إلا بالتَّعدي أو التَّفريط إلا إذا أَثْبَتَّ أنه قد فرَّط أو تعدَّى فَنُضَمِّنُه، أما إذا لم تُثْبِت فالتجارة مبناها على الربح والخسارة.
وبعض الناس اشترط على المُضارب عدم الخسارة، فهل هذا الشرط صحيحٌ؟
هذا غير صحيحٍ، هذا شرطٌ فاسدٌ؛ ولذلك نقول: هذا المُضارب لا يضمن، وليس عليه شيءٌ إلا إذا أَثْبَتَّ أنت يا ربَّ المال أنه قد فرَّط أو تعدَّى، ومثل ذلك أيضًا بالنسبة للوكالة.
ولهذا قال المؤلف:
إذا وكَّلتَ إنسانًا في بيع سيارتك، ثم في الطريق احترقت السيارة، ارتفعت الحرارة واحترقت -مثلًا- أو صُدِمَتْ، حادثٌ -مثلًا- أو انفجر الإطار -مثلًا- وتلفتْ، وقال الوكيل: أنا لم أتعدَّ ولم أُفرِّط. فهل يُصَدَّق؟
نعم يُصَدَّق، لكن قال المؤلف: “بِيَمِينِه”، احلف أنك لم تَعْتَدِ ولم تُفَرِّط، ونُصَدِّقه، ولا نُطالبه بالبينة؛ لأنه أمينٌ.
هذا إنسانٌ ذهب وباع السيارة بستين ألف ريالٍ مُؤجَّلة، ثم لما أتى لصاحب السيارة المُوكِّل، قال المُوكِّل: مَن قال لك تبيعها مُؤجَّلةً؟! أنا قلتُ لك: بِعْهَا بنقدٍ حاضرٍ. قال: أبدًا، أنت قلتَ لي: بِعْها مُؤجَّلةً. وتخاصما، ولا بينة.
إذا كانت هناك بيِّنةٌ فالقول قول صاحب البينة، لكن لا بينة، والمُوكِّل يقول: أنا لم آذن لك في البيع مُؤجَّلًا. والوكيل يقول: بل أَذِنْتَ لي، وقلتَ لي: بِعْ مُؤجَّلًا. فهنا القول قول مَن: المُوكِّل أم الوكيل؟
نعم، الوكيل، لماذا؟
لأنه أمينٌ، أنت وثقتَ في هذا الإنسان، فينبغي أن تقبل قوله، وإلا ما وكَّلتَه أصلًا، وإلا إذا كنت لا تثق فيه لماذا تُوكِّله؟
وهكذا أيضًا لو ادَّعى الوكيل أن المُوكِّل قد وكَّله أن يبيع بغير نقد البلد، فأتى له بدولاراتٍ، قال: أنا ما وكَّلتُك. قال: بل قلتَ لي: بِعْ بالدولار. فهنا يُصَدَّق الوكيل بِيَمِينه، والقول قوله.
حكم الوكيل إن ادَّعى الردَّ للمُوكِّل أو لورثته
لم يُقْبَل قوله في هذا، إذا ادَّعى الردَّ قال: أنا رددتُ البضاعة، رددتُ السلعة، سواء له أو لورثة المُوكِّل، أما إذا كان لورثة المُوكِّل، قال: “مطلقًا” يعني: بِجُعْلٍ وبدون جُعْلٍ. وله إذا كان بِجُعْلٍ، يقول: لم يُقْبَل.
ويُفْهَم من كلام المؤلف: أنه إذا ادَّعى الردَّ للمُوكِّل، وكان بغير جُعْلٍ؛ فإن قوله يُقْبَل.
المؤلف الآن فصَّل في هذا، وعلَّلوا لذلك قالوا: لأن الأصل عدم الردِّ؛ ولأنه إذا كان بِجُعْلٍ فقد قَبَضَ المال لنفع نفسه، فلم يُقْبَل قوله في الردِّ.
والقول الثاني في المسألة: أنه يُقْبَل قوله مُطلقًا بِيَمِينِه؛ وذلك لأنه أمينٌ، وإذا كان أمينًا فيُقبل قوله في الردِّ، كما يُقْبَل قوله في التَّلَف، كما يُقْبَل قوله في عدم التَّفريط، فما الذي يجعلنا نُفرِّق بين هذه المسألة والمسائل السابقة؟
وهذا هو الأقرب، والله أعلم.
إذن إذا ادَّعى الردَّ سواء لورثة المُوكِّل أو للمُوكِّل، سواء بِجُعْلٍ أو بغير جُعْلٍ، نقول: إذا كانت هناك بيِّنةٌ فالقول قول صاحب البيِّنة، سواء المُوكِّل أو الوكيل.
أما إذا لم تكن هناك بيِّنةٌ فالمؤلف على التفصيل الذي ذُكِرَ، والراجح -والله أعلم- أنه يُقْبَل قول الوكيل بِيَمِينِه؛ وذلك لأنه أمينٌ، وما دام أمينًا فيُرجَّح جانبه، فلماذا نقبل قول المُوكِّل ولا نقبل قول الوكيل في هذه الحالة؟
وما الذي يجعلنا نقبل قول المُوكِّل في هذه الحالة مع أن الوكيل أمينٌ، والتفريق بين هذه المسألة والمسائل السابقة ليس له وجهٌ ظاهرٌ؟
ولهذا فالأقرب أن هذه المسائل كلها على نَسَقٍ واحدٍ، وأن نقول: إن الوكيل أمينٌ في هذه المسائل كلها، ويُرجَّح جانبه، لكن عند عدم وجود البيِّنة، يُرجَّح جانبه عند عدم وجود البينة.
قال:
إنسانٌ عليه دَينٌ، فأتى شخصٌ وقال: يا فلان، أنا وكيل فلان ابن فلان، وقد طلب مني أن تدفع إليَّ هذا الدَّين الذي له. لا يلزمه أن يدفع المال إليه؛ وذلك لجواز أن يُنْكِر المُوكِّل الوكالة، فيستحقّ الرجوع عليه.
وفي وقتنا الحاضر من السهل أن يتصل الوكيل بالمُوكِّل بالهاتف، يقول: أتاني فلان ابن فلان. يعني: هذه المسألة مُفترضةٌ في زمن المؤلف، أما في وقتنا الحاضر فمن السهل أن يتصل الوكيل على المُوكِّل، يقول: أتاني فلان ابن فلان، هل أنت طلبتَ منه أن يقبض هذا المال أم لا؟ ويأخذ منه الجواب مباشرةً، لكن في زمن المؤلف لم تكن هناك وسائل اتصالات ومواصلات كما في وقتنا الحاضر؛ ولهذا يفرضون هذه المسائل، فهذه المسائل قد لا نحتاج لها في وقتنا الحاضر كثيرًا.
يعني: إن صَدَّقه.
إنسانٌ أتى إلى آخر وقال: يا فلان ابن فلان، مُوكِّلك الذي وَكَّلك في هذا الشيء، هذا الرجل -زيدٌ من الناس- قد وَكَّلَني في أن أقبض هذا الدَّين الذي له في ذِمَّتك. فَصَدَّقَه في هذا، وادَّعى أنه وارِثُه، قال: يا فلان ابن فلان، إن زيدًا من الناس الذي يُطالبك بمئة ألف ريالٍ قد مات، وأنا وَارِثُه. فَصَدَّقه في هذا، فهنا لزمه أن يدفع هذا الحقَّ إليه، أو أخبره أنه قد مات، وأنه سيُوصل هذا المال لورثته.
طبعًا هذه المسألة -كما ذكرنا- في زمن المؤلف، وفي وقتنا الحاضر يُمكن التَّحقق ببطاقة الأحوال الشخصية، ونحو ذلك من وسائل الإثبات.
فإذا أتى إنسانٌ وادَّعى أن فلانًا قد مات، وأنه وَارِثُه، يقول: أعطني البطاقة. لكن في زمن المؤلف لم تكن هناك بطاقات، فيأتون بمثل هذه المسائل: أتى فلانٌ وقال: أنا فلان ابن فلان، أنا وارث فلان الذي يُطالبك بمئة ألفٍ.
فهنا أورد المؤلف هذه المسألة؛ لأنهم كانوا مُحتاجين إليها، لكن في وقتنا الحاضر إذا أتى إنسانٌ وادَّعى أنه وريث فلان ابن فلان -أنه يرثه- وأنه -مثلًا- ابنه، أو قريبٌ له، إذا كان ابنه يقول: أعطني البطاقة الشخصية. وإذا كان -مثلًا- قريبًا له وأنه هو الوارث له يقول: تأتي بِصَكِّ حَصْرِ ورثة.
يعني: في الوقت الحاضر ربما لا نحتاج لمثل هذه المسائل، لكن هذه المسائل ذكرها المؤلف؛ لأنهم كانوا يحتاجون إليها في زمن المؤلف.
قال:
يعني: قال: أنا ما أُصَدِّقك، مَن الذي يضمن أنك فلان ابن فلان؟
في زمن المؤلف ما كانت هناك بطاقات أحوال شخصية، فإذا أتى وقال: أنا ابنه، وإنه قد مات، ويُطالبك بمئة ألفٍ، أريد منك أن تُعطيني مئة ألفٍ. فإن كذَّبه لم يلزمه أن يدفعها إليه، لكن يحلف، يقول: والله لا أعلم أنك وارِثُه. ولا يُلزم بدفعها إليه.
كما ذكرتُ هذه المسائل التي ذكرها المؤلف لما هو موجودٌ في زمنه، أما في وقتنا الحاضر فالتَّحقق من كونه وارثًا له أو ليس بوارثٍ من السهل جدًّا؛ ولذلك قد لا نحتاج لمثل هذه المسائل الأخيرة التي ذكرها المؤلف في وقتنا الحاضر.
حكم بيع الوكيل من نفسه لنفسه
بقيتْ مسألةٌ لم يذكرها المؤلف، وهي مسألةٌ مهمةٌ: هل يجوز للوكيل وللوصيِّ ولوليِّ اليتيم أن يبيع من نفسه لنفسه، ويشتري من نفسه لنفسه؟
نقول: جمهور الفقهاء على أنه لا يجوز للوكيل، ولا للوصيِّ، ولا لوليِّ اليتيم، ولا لناظر الوقف، ولا لغيرهم، لا يجوز البيع لنفسه، ولا أن يشتري من نفسه، لا يجوز أن يبيع لنفسه، ولا أن يشتري لنفسه.
هذا هو المذهب عند الحنابلة، وعند الحنفية والشافعية، وعلَّلوا ذلك بأنه مُتَّهمٌ في ترك الاستقصاء في الثمن، فإذا وكَّلك إنسانٌ في أن تبيع هذه السيارة، ما تقول: أبيعها على نفسي. أو مال يتيمٍ تقول: أشتري هذا المال لليتيم لنفسي.
والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز ذلك مطلقًا. وهذا هو المذهب عند المالكية، قالوا: لأن الأصل هو الجواز، وإحسان الظنِّ بالناس.
والقول الثالث: هو التَّفصيل، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد: أن ذلك يجوز بشرطين:
- الشرط الأول: أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، يعني: إذا حُرِّج على السلعة يزيد على الثمن ويشتري.
- الثاني: أن يتولَّى النِّداء غيره، ويكون هو أحد المُشْتَرين.
لعل هذا القول هو الأقرب -والله أعلم- لعل هذا القول هو الأقرب، أو أنه يستأذن المُوكِّل في أن يشتري هذه السلعة لنفسه، فإذا قال: أُريد أن أُوكِّلك في بيع هذه السيارة. يقول: أنا أريد أن أشتريها.
أما إذا لم يُرِد إعلام المُوكِّل بذلك فلا بد من هذين الشرطين: لا بد أن يزيد على مبلغ ثمنه في النِّداء، فعندما يُحَرَّج عليها وتقف -مثلًا- عند سعرٍ معينٍ، يزيد على هذا الثمن، ويكون أحد المُشترين.
وأيضًا يتولَّى النِّداء غيره، فلا يكون هو الذي يُنادي؛ لأنه قد لا يستقصي في هذا.
فإذا تولَّى النِّداء غيره، وكان هو أحد المُشترين، وزاد على مبلغ الثمن في النداء؛ جاز ذلك، حتى لو كان مال يتيمٍ، أو كان مال وَقْفٍ عند جواز بيعه، فمال الوقف يجوز بيعه إذا أُريد نقله -مثلًا- لمكانٍ أصلح ونحو ذلك.
فإذا تحقق هذان الشرطان فالأقرب -والله أعلم- أنه يجوز حينئذٍ أن يبيع لنفسه، وأن يشتري من نفسه لنفسه.
هذه أبرز المسائل والأحكام المُتعلقة بـ”كتاب الوكالة”.