عناصر المادة
تعريف الحجر
والحَجْر -بإسكان الجيم- معناه في اللغة: المنع والتضييق، ومنه سمي الحرام حِجْرًا، ومنه قول الله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22]، يعني: يوم يرى هؤلاء الكفار الملائكة لا بُشرى يومئذٍ للمجرمين، وتقول لهم الملائكة: حِجْرًا مَحْجُورًا، يعني: حرامٌ محرَّمٌ عليكم الفلاح هذا اليوم، يعني: يوم القيامة، معنى: حِجْرًا مَحْجُورًا: حرامٌ محرَّمٌ، ومنه سمي العقل حِجْرًا، من يذكر لنا الدليل من القرآن لهذا؟ نعم، أحسنت، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5]، يعني: لذي عقلٍ، ومنه هذه الآية الكريمة: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، وسمي العقل حِجْرًا؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب القبائح، ومنه سمي الحِجْر عند البيت عند الكعبة؛ لأنه يمنع الطائفين من أن يطوفوا به، وإنما يطوفوا من ورائه، يقال: “حِجْرُ الكعبة”، وبعض الناس يسميه “حِجْر إسماعيل”، فهل هذه التسمية صحيحةٌ؟
مداخلة:…
الشيخ: أحسنت، تسميته بـ”حِجر إسماعيل” لا أصل لها، هذه التسمية غير صحيحةٍ، هذه مبنيةٌ على خرافةٍ موجودةٍ عند بعض الجهال، يعتقدون أن إسماعيل مدفونٌ في هذا المكان، يسمونه “حِجر إسماعيل”، هذا غير صحيحٍ، هذا لا أصل له، ولا وجه لتسميته بـ”حِجر إسماعيل”، ولا علاقة لهذا الحِجر بإسماعيل ، أصلًا هو جزءٌ من الكعبة، كان جزءًا من الكعبة، لكن لما تهدَّم البيت، وأرادت قريشٌ أن تعيد بناءه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة؛ اشترطوا ألا يُدخِلوا في بناء الكعبة إلا ما تمحَّض حلالًا، يعني: يستبعدون الأموال المحرَّمة، فقصَّرت بهم النفقة، فبنوا الكعبة وأحاطوا هذا بجدارٍ قصيرٍ، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعيده على قواعد إبراهيم ويُدخل الحِجْر، لكنه عليه الصلاة والسلام خَشِي من الفتنة، قال لعائشة رضي الله عنها: لولا أن قومك حديثُ عهد بكفرٍ؛ لهدَمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم، وأدخلت الحِجر، وجعلت لها بابين: بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرج الناس منه [1]، وهذا يدل على مراعاة أحوال الناس، أن الشيء الذي يُخشى أن يسبب بلبلةً وتشويشًا وفتنةً ينبغي تجنبه ما أمكن؛ ولهذا لم يُعِد النبي عليه الصلاة والسلام بناء الكعبة على قواعد إبراهيم .
لما أتى في عهد عبدالله بن الزبير ؛ هَدَم الكعبة وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم ؛ ليحقق ما تمناه النبي ، ثم بعد ذلك لما أتى الحجاج بن يوسف؛ قَتَل عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، قتله وصلبه، وبقي أيامًا مصلوبًا، ورمى الكعبة بالمنجنيق، هدم الكعبة الحجاج وبناها على وضعها السابق، فلما بلغ عبدالملك بن مروان حديث عائشة رضي الله عنها؛ قال: وددنا أنا لو تركنا ابن الزبير وما فعل.
ثم بعد ذلك استشار أبو جعفرٍ المنصور الإمام مالكًا أن يعيدها على قواعد إبراهيم ، فرفض الإمام مالكٌ؛ قال: حتى لا تكون الكعبة ألعوبةً بأيدي الملوك، هذا يهدمها وهذا يبنيها، فرفض الإمام مالكٌ، وبقيت على ما كانت عليه، ويعاد بناؤها من حينٍ لآخر، وكان آخر إعادةٍ لبنائها قريبًا، أدركتموه جميعًا، عام كم؟
مداخلة:…
الشيخ: قريبًا، ليس بعيدًا، (1417)، هُدمت الكعبة كلها، ما بقي إلا الحجر الأسود، ثم أعيد بناؤها، وأنتم أدركتم هذا جميعًا، لكن على وضعها السابق، ومن حكمة الله أنها كانت كذلك، وإلا لو أنها جُعل لها بابان: بابٌ يدخل الناس منه، وبابٌ يخرجون منه؛ لربما في وقتنا الحاضر تعذَّر الطواف، أصبح أعظم من الجمرات، سيحصل ازدحامٌ عظيمٌ على دخول الكعبة، ربما يتعذَّر الطواف.
لكن من حكمة الله أن بقي الوضع على ما هو عليه، وما تمناه النبي حقيقةً أنه تحقق، الحِجر له بابان الآن: بابٌ يدخل الناس منه، وبابٌ يخرج الناس منه، بكل سهولةٍ ويسرٍ، ومن أراد أن يصلي في الكعبة؛ يصلي في الحِجر، من صلَّى في الحِجر صلَّى في الكعبة؛ لأن الحِجر جزءٌ من الكعبة، فما تمناه النبي عليه الصلاة والسلام تحقق ولله الحمد، فهذا من حكمة الله أن الكعبة بقيت هكذا، فلله تعالى الحكمة في هذا.
إذنْ هذه مادةُ (الحاء والجيم والراء)، تدور حول معنى: المنع.
معنى الحَجْر اصطلاحًا، عرفه المؤلف قال:
هذا تعريفٌ جيدٌ: “منع المالك من التصرف في ماله”، فيُمنع هذا الإنسان من أن يتصرف في ماله ببيعٍ أو شراءٍ أو هبةٍ أو نحو ذلك.
أقسام الحجر
يُقسِّم الفقهاء الحَجْر إلى قسمين، والمؤلف اعتبرهما نوعان، ولا مُشاحة في الاصطلاح.
القسم الأول: حَجْر على الإنسان لِحَظِّ غيره، أو لِحَقِّ غيره.
والقسم الثاني: حَجْرُ على الإنسان لِحَظِّ نفسه أو لِحَقِّ نفسه، بعضهم يُعبِّر بحقٍّ أو حظٍّ.
القسم الأول: الحجر لحق الغير
نبدأ بالقسم الأول أو النوع الأول.
قال:
مثَّل له المؤلف بأمثلة الحجر على الإنسان لحق غيره مثَّل له المؤلف بأمثلةٍ:
وهذا سيأتي الكلام عنه بالتفصيل.
يعني: يُحجَر على الراهن في العين المرهونة في حقِّ المرتهن.
المقصود بالمريض: المريض مرض الموت المَخُوف، فلا بد من هذا القيد، يعني: كإنسانٍ مثلًا مصابٍ بسرطانٍ قد انتشر، لكن لو كان المرض ليس مرضًا مخوفًا منه؛ فلا يكون محجورًا عليه، إذا كان مرضًا مخوفًا منه، والحجر عليه فيما زاد على الثلث فقط، فيما زاد عن الثلث، أما الثلث فله الحق في التصرف فيه، وهذا الحق للورثة.
هو محجورٌ على القِنِّ والمكاتب في ماله؛ لحقِّ سيده، لحقِّ السيد.
المرتد محجورٌ عليه في ماله؛ لحقِّ المسلمين؛ لأن تَرِكة المرتد هي في الحقيقة فَيءٌ، وتكون في بيت المال، وتُصرف في مصالح المسلمين، فإذا علم المرتد بذلك؛ ربما أنه يتصرف في ماله تصرفًا بقصد إتلافها؛ ليُفوِّتها على المسلمين فيُحجر عليه في ماله؛ لحقِّ المسلمين.
وذلك لحقِّ الشفيع، الشُّفعاء عندما يشتري المشتري الشِّقص، فيشفع عليه الشفيع، فيُحجَر على المشتري التصرف في هذا الشِّقص لحقِّ الشفيع، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- الكلام عن تفاصيل وأحكام الشُّفعة.
إذنْ هذا هو القسم الأول: الحجر على الإنسان لحظِّ غيره.
القسم الثاني: حجرٌ على الإنسان لحظِّ نفسه
القسم الثاني أو النوع:
ومثَّل له المؤلف، قال:
يعني: الصغير الذي لم يبلغ محجورٌ عليه في ماله لحظِّ نفسه.
كذلك المجنون محجورٌ عليه، لا يتصرف في أمواله لحظِّ نفسه.
كذلك السفيه محجورٌ عليه، فلا يتصرف في أمواله، وسيتكلم الكلام عنه بالتفصيل.
قال:
المدين إذا كانت الديون التي عليه مؤجَّلةً، إذا كانت غير حالَّةٍ؛ فإنه لا يُطالب بها، ولا يُحجَر عليه ولو طلب الغرماء، حتى لو كانت القرائن تدل على أنه ربما هو متجهٌ للإفلاس أو نحو ذلك، ما دام أن الدين لم يَحل؛ لا يُحجَر عليه، لا بد أن يكون الدين حالًّا، لكن لو أراد سفرًا طويلًا فلغريمه منعه حتى يوثِّقه برهنٍ يُحرَز أو كفيلٍ مليءٍ.
لو أراد هذا المدين دينًا مؤجَّلًا أن يسافر سفرًا طويلًا، فللدائن الغريم أن يمنعه من السفر حتى يُوثِّق هذا الدين إما برهنٍ يُحرَز، يعني: يُقبض، أو كفيلٍ مليءٍ؛ وذلك لأن هذا المدين ليس له تأخير الحق بعد حلوله.
فلو افترضنا مثلًا أنك تطلب زيدًا من الناس، تطلُب مئة ألف ريالٍ تَحِل بعد ستة أشهرٍ، ثم علمت بأن زيدًا من الناس سوف يسافر في بعثةٍ مثلًا لمدة سنتين أو ثلاث سنين؛ فلك الحق في أن تطالب بمنعه من السفر حتى يسدد الدين، أو يُوثِّقه برهنٍ أو كفيلٍ، ولك الحق أن ترفع أمره للحاكم (القاضي) ويمنعه من السفر حتى يُوثِّق هذا الدين أو يُسدِّده.
قال:
يعني: برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ.
مداخلة:…
الشيخ: إي نعم، أيُّ سفرٍ طويلٍ.
مداخلة:…
الشيخ: نعم، ربما يُقاس عليه لو كان مثلًا في معركةٍ ويُخشى عليه كذلك.
حكم من مات وعليه ديونٌ مؤجلةٌ
قال:
هذه مسألةٌ مهمةٌ: الديون المؤجلة، إذا مات المدين فهل يحل الدين؟
مثال ذلك: أنت تطلب زيدًا من الناس مئة ألف ريالٍ تحِلُّ بعد سنتين، ثم إن زيدًا مات، هل نقول: خربت ذمته ويحل هذا الدين؟ أو نقول: انتظر سنتين؟
ربما إذا انتظرت سنتين؛ قُسِّمت التركة، وأخذ الورثة التركة، ما بقي لك شيءٌ، ماذا نقول؟ هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء:
فذهب الجمهور إلى أن الدين المؤجل يحل بموت المدين؛ وعللوا ذلك بأن ذمة المدين قد خربت بموته فحل الدين، ولأن مال المدين قد أصبح تركةً، ولو بقي الدائن على أجله؛ لربما قسَّم الورثة التركة وضاع حق الدائن، فقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنفية: إن الدين المؤجل يحل بموت المدين.
والقول الثاني في المسألة، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو الذي قد نص عليه المؤلف: وهو أن الدين المؤجل لا يحل، بشرط: أن يوثِّق الورثة هذا الدين إما برهنٍ يحرز، أو كفيلٍ مليءٍ؛ فمعنى ذلك: أن الدائن يأتي لورثة المدين، يقول: أنا أطلب مورِّثكم هذا، أطلبه دينًا مؤجلًا، فإما أن تسددوا لي الآن هذا الدين من التركة، وإما أن أبقى على الأجل، لكن تُوثِّقون هذا الدين إما بكفيلٍ مليءٍ، أو برهنٍ يُحرَز، فلا بد من هذا، وهذا هو القول الراجح، القول الراجح هو مذهب الحنابلة في هذه المسألة: وهو أن الدين المؤجل لا يحل بموت المدين إذا وثَّق الورثة هذا الدين برهنٍ يُحرَز أو كفيلٍ مليءٍ.
فإن أبى الورثة التوثيق فإنه يحل، إذا رفض الورثة قالوا: لا ليس عندنا رهنٌ ولا كفيلٌ، فإنه يحل ويملك مطالبتهم مباشرةً، ويُلزمهم القاضي بأن يعطوه دَيْنه ولو كان مؤجلًا، يعطونه دَينه حالًّا.
فمذهب الحنابلة هو أقرب للعدل والإنصاف؛ لأن هذا الدائن إنما يطلب المدين دينًا مؤجلًا، ومعلوم أن الدين المؤجل يختلف عن الدين الحالِّ، الدين المؤجل يُزاد في قدره نظير الأجل من الأصل، يعني: ثمن السيارة التي تبيعها بأجلٍ، ليس كثمن السيارة التي تبيعها بثمنٍ حالٍّ، يختلف، والقول أيضًا بأن المدين يبقى على أجله بدون كفيلٍ وبدون رهنٍ فيه ضررٌ على هذا المدين؛ لأن الورثة سيُقسِّمون هذه التركة ويضيع حقه، وحين ذلك فالقول بأن الدين المؤجل يَحل إلا إذا وثَّق الورثة هذا الدين برهنٍ يُحرَز أو كفيلٍ مليءٍ، هو الأقرب إلى العدل والإنصاف.
فيكون إذنْ الصواب: هو ما ذهب إليه المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات.
حكم السداد على المدين القادر المليء
قال:
المدين القادر على السداد يجب عليه أن يسدد الدين الحال بطلب ربه، يعني: بطلب الغريم، وحتى لو لم يطلب الغريم؛ يجب عليه أن يسدد الدين؛ لقول النبي : مَطْل الغنيِّ ظلمٌ [2]، يعني: مَطْل القادر على الوفاء ظلمٌ، وإذا كان ظلمًا؛ فهو معصيةٌ، فيجب عليه أن يسدد هذا الدين.
إذا ماطل هذا المدين الذي حل عليه الدين؛ فإن الحاكم يُجبره على سداد هذا الدين، وهو آثمٌ -كما ذكرنا- لمماطلته.
أي: المدين أن يسدد.
ولاحِظ أنه قادرٌ على الوفاء، فهو يستحق الحبس والتعزير؛ لقول النبي : لَيُّ الواجد يُحِلُّ عِرضه وعقوبته [3]، ليُّ الواجد يعني: مماطلته، يُحِلُّ عِرْضَه وعقوبته. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث حسن. وقوله: يُحِلُّ عِرضه يعني: شكواه، وعقوبته يعني: حبسه.
قال:
فإما أن يسدِّد، وإما أن يبقى في الحبس، وإما أن يُعزِّره القاضي بما يراه مناسبًا؛ لأن هذا على سبيل التعزير؛ لأن قوله : عقوبته، مطلقٌ يشمل الحبس ويشمل غيره.
فإن أبى هذا الرجل مستميتًا، رفض أن يسدد؛ حُبِسَ، رفض، فإن أبى؛ قال أهل العلم، قال الفقهاء: إن الحاكم يتدخل ويبيع من ماله ما يسدِّد به دينه؛ دفعًا للضرر عن الدائنين.
وفي وقتنا الحاضر يُخاطِب القاضي مؤسسة النقد، وهي تُخاطِب البنك الذي فيه حساب هذا المدين، ويُقتطع من حسابه مباشرةً لصالح الدائن، وهذا هو الذي عليه العمل الآن، أصبح القضاة يعملون بهذا، يعني يُؤخذ منه جبرًا.
إذا كان إنسانٌ مدينٌ قادرٌ ويماطل؛ حُبس، ما نفع معه الحبس، فهنا أصبح من الإجراءات المعمول بها: أن القاضي يُخاطِب مؤسسة النقد، وهي تُخاطِب المَصرِف، ويُقتطع من حسابه مباشرةً لصالح ذلك الدائن، وهذا إجراءٌ سهلٌ، وربما مع هذا الإجراء قد لا نحتاج إلى حبسه، حدثني أحد الناس أنه قد حصل معه هذا، أن أحد المدينين رفض أن يسدد، وأن القاضي خاطب مؤسسة النقد، وأنه قد اقتطع من حساب هذا المدين له مباشرةً.
حكم مطالبة المعسر والحجر عليه
قال:
إن كان المدين معسرًا.
المدين المعسِر: هو الذي لا يقدر على وفاء شيءٍ من دينه، فهذا لا يطالب بالدين، بل يجب إنظاره، يجب وجوبًا؛ لقول الله : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].
قد يقول قائلٌ: إنهم عندهم سوء تدبيرٍ، نقول: أصلًا التجارة المشروعة مبناها على المغامرة والمخاطرة، لو كان الربح مضمونًا؛ ما أصبحت تجارةً مشروعةً، فمن يدخل في تجارةٍ عُرضةٌ للخسارة؛ ولهذا فحبسهم محرمٌ ولا يجوز، بل ظاهر الأدلة أنه من كبائر الذنوب، كونك تحبس هذا الإنسان الفقير الضعيف المسكين، تقطعه عن أسرته وعن أهله وعن عمله، ربما يبقى مدةً طويلةً في السجن، فقد يكون سببًا لمَحق بركة هذا الدائن الذي شكاه، ربما محقُ بركة ماله، أو محقُ بركة صحته أو ولده أو نحو ذلك.
والإسلام ينظر للعلاقة بين المسلمين على أن مبناها على التكافل والتراحم، ليست نظرةً ماديةً بحتةً، فهذا إنسانٌ قد ابتُلي بالفقر والإعسار، واجبٌ عليك أن تُنظره، لا أن ترفع فيه شكايةً.
وأذكر أن أحد الناس رفع شكايةً في أحد المعسرين، فاتصلت به وقلت: كل يومٍ، كل ساعةٍ تمضي؛ أنت آثمٌ، فقال: إنه حقِّي، وإنه أَكَل حقِّي، وكذا، قلت: هذا معسِرٌ، إنسانٌ معسِرٌ، ما دام معسِرًا؛ لا يجوز لك التعرُّض له أصلًا، لا تجوز مطالبته فضلًا عن شكايته، لكن بشرط: أن يكون معسِرًا، ويجب على القاضي أيضًا ألا يحكم بسجنه ما دام أنه معسِرٌ، ولكن بسبب كثرة المتلاعبين ومدَّعي الإعسار؛ أصبح بعض القضاة لا يفرِّق، كلُّ من رُفع فيه شكايةٌ؛ يُرمى في السجن، والمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الدائن، ينبغي توعية الناس، يقال للدائنين: لا يجوز لك أن تطالب، فضلًا عن أن ترفع شكايةً في المعسر، لا يجوز، إلا إذا علمت بأنه ليس معسرًا، وأن عنده أموالًا، هذا -كما ذكرنا- يأمر الحاكم بحبسه حتى يسدد، أما إذا كان معسرًا؛ فإنه لا يجوز التعرض له مطلقًا.
وإنظاره على وجه الوجوب، ليس على وجه الاستحباب، ليس له مِنَّةٌ في إنظاره، وقد وردت النصوص في فضل إسقاط الدين عنه؛ كما في قول الله : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، فسمَّاها الله “صدقةً”، يعني: طرحُ وإسقاط الدين عن هذا المعسر صدقةٌ.
وفي “صحيح مسلم” عن أبي قتادة أن رسول الله قال: من سرَّه أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة؛ فليُنفِّس عن معسرٍ أو يضع عنه [4].
وأيضًا جاء في “الصحيحين” عن حذيفة أن النبي قال: تَلَقَّت الملائكة روحَ رجلٍ ممن كان قبلكم، قالوا: عملت من الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تذكَّرْ، قال: كنت أُداين الناس، فآمر فتياني أن يُنظِروا المعسر، وأن يتجوَّزوا عن الموسر، قال الله تعالى: تجاوزوا عن عبدي، نحن أحق بذلك منك [5]، الله أكبر! يعني الجزاء من جنس العمل؛ فهذا يدل على فضل إنظار المعسر والتجاوز عن الموسر، ينبغي للإنسان أيضًا حتى الموسر أن يتجاوز عنه، وأن يكون سمحًا، لا يكون شديد المطالبة، رحم الله امرأً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى [6]، والأحاديث في فضل إنظار المعسر كثيرةٌ.
مداخلة:…
الشيخ: هذا السؤال جيدٌ، يقول: أسجنه حتى يسدد عنه جماعته، هذا أيضًا صحيحٌ؛ لأنه هو المتضرر، وما تدري يسدد عنه جماعته أو لا يسددون عنه، وأنت أصلًا لمَّا كان معسرًا؛ وجب عليك وجوبًا أن تُنظره، وليس لك مِنَّةٌ في هذا، هذا هو شرع الله ، يجب وجوبًا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فالتأوُّل هذا غير صحيحٍ، هو يأثم بهذه الشِّكاية.
مداخلة:…
الشيخ: إذا كان معسرًا، حتى لو طالت سنين، إذا كان معسرًا، هذا كما ابتُلي بالإعسار، هو أيضًا ابتُلي بأن دينه عند معسرٍ، فكلاهما مبتلًى، فيصبر، ولا يجوز شكاية المعسر ومطالبته مطلقًا.
وهذه -يا إخوان- مسألةٌ ينبغي تنبيه العامة لها، أذكر أنه قبل أكثر من خمسة عشر عامًا في هذا الدرس أحد الإخوة كان يحضر معنا، وحصل أن أحد الناس رفع فيه شِكايةً، وحُبِس وتضرر ضررًا عظيمًا، يحصل أذًى كبيرٌ بسبب هذا الحبس، وهو قد ابتُلي بهذا، فكما ابتُلي هو بالإعسار، أنت أيضًا ابتُليت به، قد يكون ابتلاءً واختبارًا من الله لك، كما ذكرت، ينبغي تنبيه الناس على هذا؛ لأن العامة كثيرٌ منهم لا يفهمون، لك دينٌ على إنسانٍ؛ ارفع فيه شِكايةً، ويُرمى في السجن، هذا غير صحيحٍ، لا بد أن نفرق بين المعسر وبين غير المعسر.
مداخلة:…
الشيخ: لا بد من بيِّنةٍ، والصحيح..، طيب نتكلم عن هذه المسألة ما دام سأل عنها الأخ، يعني المسائل كثيرةٌ، لكن هذه مسألةٌ مهمةٌ: بم يثبت الإعسار؟
البينة التي يثبت بها الإعسار
الإعسار لا يثبت إلا ببينةٍ تخبر عن باطن حاله، وتشهد بإعساره، واختلف العلماء في البينة التي يثبت بها الإعسار، فقال بعضهم: إنه يثبت بشاهدين، وقال آخرون: إنه يثبت بثلاثةٍ، وهذا هو القول الراجح: إن الإعسار لا يثبت إلا بثلاثة شهودٍ؛ لحديث قَبِيصة بن مخارقٍ أن النبي قال: إن المسألة لا تَحل إلا لأحد ثلاثةٍ..، وذكر منهم رجلًا أصابته فاقةٌ، حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيشٍ [7]، وقد رجح هذا ابن القيم، بل قال: “إنه الصواب الذي يتعين القول به”؛ وعلَّل ذلك من جهة النظر قال: “لأن الإعسار من الأمور الخفية التي تقوى فيها التهمة، فرُوعي الزيادة في البيِّنة”، وهذا نراه في الواقع، يعني: بعض الناس يدَّعي الإعسار وهو ليس بمعسرٍ، فلا بد من التحقق، لا بد من ثلاثة شهودٍ على الأقل، يُخبرون عن باطن حاله، وأنه فعلًا معسرٌ، فيتأكد ويتحقق من وضعه؛ لأن الناس في الأموال مظنة التهمة؛ ولذلك لا بد من التحقق من دعوى الإعسار.
مداخلة:…
الشيخ: نعم، هذا من الحيل، صحيحٌ أن يكتب أملاكه بأسماء آخرين؛ حتى يقول: إنه معسرٌ، لكن لو استطاع الدائن أن يُثبِت ذلك؛ فيُعتبر هذا قادرًا على الوفاء، وإذا لم يستطع فيبوء بالإثم، هذا يبوء بالإثم ما دام أنها أمواله وكتبها باسم غيره؛ حتى يتخلص من العقوبة.
الأحكام المتعلقة بالحجر على المفلس
قال:
“وإن سأل غرماءُ مَن له مالٌ لا يفي بدَينه”، من له مالٌ لا يفي بدينه، هذا هو الذي يسميه الفقهاء “المفلس”.
وتعريف المفلس: “من له مالٌ لا يفي بدينه”، كما عرَّفه المؤلف.
وبعضهم يعرفه بتعريفٍ قريبٍ من هذا: “مَن دَينه أكثر من ماله”.
تعريفٌ آخر للمفلس: “هو مَن دَيْنُه أكثر من ماله”، يعني: عنده مالٌ لكن الدَّين أكثر.
وسُمِّي “مفلسًا” وإن كان ذا مالٍ؛ لأن ماله مستحِقُّ للصرف في جهة دَينه؛ فكأنه معدومٌ، وهذا هو مفلس الدنيا.
أما مفلس الآخرة: فإن النبي لما قال للصحابة : أتدرون مَن المفلس؟، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه الصلاة والسلام: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، وقد ضرب هذا، وسفك دم هذا، وشتم هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته؛ أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار [8]، هذا هو المفلس حقيقة، أن الإنسان يأتي بحسناتٍ وتُوزَّع حسناته على الناس، هذا يأخذ حسنةً لكونه ضربه، وهذا يأخذ حسنةً لكونه أخذ ماله، وهذا يأخذ حسنةً لكونه شتمه، وهذا يأخذ حسنةً، فيُوزِّع حسناته على الناس، هذا هو المفلس حقيقةً، تجد بعض الناس أصبح يُوزِّع حسناته، يُصلِّي ويصوم وله أعمالٌ، لكن يبدأ بتوزيع حسناته، يُوزِّع على الآخرين، يغتاب ويسخر ويقع في أعراض الناس، هذا في الحقيقة هو المفلس، لكن هذا مفلس الآخرة، أما مفلس الدنيا كما عرَّفناه بأنه: من دَيْنه أكثر من ماله.
فإذا سأل غرماءُ المفلس الحاكم، إذنْ مصطلح “الحاكم” عند الفقهاء مَرَّ معنا كثيرًا، والمقصود به: القاضي، إذا قال الفقهاء: “الحاكم”، يُقصَد به: القاضي، وإذا قالوا: “الإمام” يعني: مَن له السلطة الأعلى في الدولة.
إذا سأل الغرماءُ الحاكم الحجر على المفلس؛ يجب عليه أن يحجر عليه، ويُفهم من كلام المؤلف: أنه لو لم يسأل الغُرماءُ الحاكمَ الحجر عليه؛ فلا يُحجر عليه، لا يُحجر عليه إذا لم يطلبوا الحجر عليه، ربما يتسامحون، ما يطلبون الحجر عليه، فلا يُحجر عليه في هذه الحال.
هل يجوز للمفلس أن يتصدق؟
لكن هل له أن يتصدق وهو في هذه الحال؟ هل له أن يُكرِم الضيف في هذه الحال؟
هذه المسألة تكلم عنها الفقهاء، وقالوا: إن الإنسان إذا حُجر عليه؛ فإنه ليس له أن يتصدق من ماله ولو بالشيء القليل؛ لأن ماله أصلًا مستَحَقٌّ للغرماء.
ذهب بعض أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، إلى أن المفلس ليس له أن يتصرف في ماله قبل الحجر، يعني إذا حُجر عليه؛ ليس له التصرف، لكن يقول: بعض أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: ليس للمفلس أن يتصرف في ماله قبل الحجر تصرفًا يضر بالغرماء.
قال ابن القيم: “إذا استغرقت الديون ماله لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواءٌ حَجر عليه الحاكم أو لم يحجر، وهذا مذهب مالكٍ، وهو اختيار شيخنا” -يقصد ابن تيمية- قال: “وهو الصحيح”.
وبناءً على ذلك: المفلس حتى قبل الحجر عليه، ليس له أن يتصرف تصرفًا يضر بالغرماء، لا بهبةٍ ولا بصدقةٍ، ولا بتبرعٍ، ولا بغير ذلك، ونجد مِن المفلسين مَن يتبرعون، تجد أنه يتبرع للجمعيات الخيرية، يتبرع في بعض وجوه الخير وهو مفلسٌ، التبرع هذا لا يجوز، نقول: بدل أن تتبرع؛ أعط الغرماء حقهم، فهذا التبرع لا يجوز.
طيب، هل له أن يتصدق؟ ليس له أن يتصدق، حتى الإنسان الذي دينه أكثر من ماله، لا يجوز له أن يتصدق؛ لأن حقه أصلًا مستحَقٌّ للغرماء، فكيف يتصدق بحقوق الناس؟! وليس له أن يهب هبةً، ولا أن يُهدي هديةً، ممنوعٌ من هذا كله، سواءٌ حُجر عليه أو لم يُحجر عليه، واستثنى بعض العلماء الشيء اليسير، فأجازوا التبرع به، سئل الإمام أحمد: هل المدين يتصدق أو لا؟ قال: يتصدق بالشيء اليسير؛ كالخبزة وشبهها.
وقال آخرون: إنه لا يتصدق حتى بالشيء اليسير، رجح هذا الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله؛ وقالوا: إن القليل مع القليل يكون كثيرًا، ولأننا إذا منعناه من التصدق ولو بالشيء اليسير؛ يكون هذا حافزًا لكي يسدد للغرماء، وهذه أيضًا من المسائل المهمة التي ينبغي تنبيه العامة لها، تجد بعض الناس عليه ديونٌ، غارقٌ في الديون، ومع ذلك تجد أنه يُقِيم الولائم الكبيرة للضيوف، ويتصدق ويتبرع ويتصرف تصرف الأغنياء في ماله، وهذا لا يحل له؛ لأن أمواله مستحَقَّةٌ للغرماء، ما عدا ما تقوم به حاجته فقط وحاجة من تلزمه نفقته، فتجد بعض الناس يكون كريمًا من مال غيره، والحقيقة: أن هذه الأموال هي أموال غيره، مستحَقَّةٌ للغرماء، فكيف يكون كريمًا من مال غيره؟!
ولهذا مَن هو غارقٌ في الديون، عليه الديون أكثر من ماله، نقول: لا يجوز لك أن تتصدق، إذا رأيت فقيرًا؛ لا تتصدق عليه، لماذا؟ سدد للغرماء، الغرماء أحق، ابدأ بالشيء الواجب قبل الأمر المستحب، أما أن تتصدق على هذا وهذا وعليك ديونٌ؛ فليس هذا من العقل ولا من الحكمة، هذا من السَّفَه.
أيضًا هذه المسألة ينبغي إشاعتها بين العامة؛ لأن العامة تجد أنهم يتوسعون في هذا، وتجد أنهم يقيمون الولائم الكبيرة، ويتبرعون وعليهم ديونٌ، وهم غارقون في الديون، وهذا لا يحل لهم.
إظهار الحجر على المفلس
قال:
وهكذا أيضًا الحجر لسَفَهٍ؛ وذلك ليعلم الناس بحالهما، فلا يعاملونهما إلا على بصيرةٍ، فينبغي أن يُشَهَّر بالحجر على المفلس وعلى السفيه؛ حتى يتبين أمرهما للناس، ولا ينخدع بهما الناس.
فائدة الحجر على المفلس
قال:
المقصود بالحجر هنا: الحجر على المفلس، مقصود المؤلف بالحجر على المفلس، يعني: هذا الفصل عَقَده لبيان أحكام الحجر على المفلس.
تعلق حق الغرماء بالمال
أربعة أحكامٍ:
الحكم الأول:
يعني: بالمال الموجود قبل الحجر، وبماله الحادث أيضًا بعد الحجر، فلا يصح تصرفه فيه بشيءٍ مطلقًا، لا ببيعٍ ولا بهبةٍ ولا بغير ذلك.
قال:
“ولو”: إشارةٌ للخلاف، ويُفهم من هذا: أن في المسألة خلافًا بالنسبة للعتق، فإن بعض الفقهاء أجازوا تصرف المفلس بالعتق، ولكن الصواب ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ليس له التصرف حتى بالعتق، ولا فرق بين العتق وبين غيره من أنواع التصرفات.
طيب، هل يشمل هذا تصرفه في الذمة؟
قال المؤلف:
تصرفه في الذمة يصح؛ لأنه أهل للتصرف، والحجر متعلقٌ بماله لا بذمته، ويُطالب بما لَزِمه من ثمن مبيعٍ ونحوه بعد فك الحجر عنه.
مثال ذلك: رجل حُجر عليه في ماله، واحتاج هو مثلًا أو ابنه لسيارةٍ، فذهب واشترى سيارةً بدَينٍ في ذمته، لا من عين ماله الذي حُجِر عليه فيه، فهل يصح أو لا يصح؟ يصح؛ لأن هذا تصرفٌ في الذمة، وليس في عين المال، لكنه لا يطالَب بثمن السيارة إلا بعد فك الحجر عنه.
ولهذا قال المؤلف:
حكم من وجد عين ماله عند رجلٍ قد أفلس
الثاني من الأحكام المتعلقة بالحجر على المفلس:
من وجد عين ماله عند رجلٍ قد أفلس؛ فهو أحق به، سواءٌ كان هذا المال ثمنَ مبيعٍ، أو كان قرضًا، أو غير ذلك، ويدل لهذا قول النبي : من أدرك ماله بعينه عند إنسانٍ قد أفلس؛ فهو أحق به [9]، متفقٌ عليه.
من أدرك ماله بعينه عند إنسانٍ قد أفلس؛ فهو أحق به، هذا نصٌّ في المسألة، وذكر المؤلف لهذا الحكم ثمانية شروطٍ:
الشرط الأول:
قال:
هذا الشرط الأول، فإن كان يعلم بالحجر؛ فيكون قد دخل على بصيرةٍ، ولا يكون أحق بماله.
الشرط الثاني:
ويدل لهذا: أنه قد جاء عند أبي داود زيادةٌ في الحديث السابق: فإن مات؛ فصاحب المتاع أسوة الغرماء [10].
الشرط الثالث:
قال:
يعني: أن يبقى الثمن كلُّه في ذمة المفلس، فإن قبض شيئًا من الثمن؛ لم يستحق الرجوع به.
الشرط الرابع:
يعني: بقاء العين كلها في ملك المفلس؛ لأن النبي قال: بعينه، فإن وجد بعضها فقط؛ لم يرجع به؛ لأنه لم يجد عين ماله، وإنما وجد بعضه.
الشرط الخامس:
قال:
كون السلعة بحالها، لم يتغير شيءٌ من صفاتها؛ لقوله : من أدرك ماله بعينه [11]،
وقال: من أدرك متاعه بعينه، لم يتغير شيءٌ من صفاتها.
الشرط السادس:
قال:
كون السلعة لم تَزد زيادةً متصلةً؛ لأنها إذا زادت زيادةً متصلةً لا يكون قد أدرك ماله بعينه.
الشرط السابع:
فإن خُلِطت بغير متميزٍ، ولا يمكن تمييزها عن غيره؛ فلا يكون أحق به؛ لأنه لم يُدرك متاعه بعينه، وإنما أدركه مع غيره.
الشرط الثامن:
فإن تعلَّق بها حقٌّ للغير؛ بأن يكون المفلس مثلًا قد رهنها؛ فليس لصاحب السلعة الرجوع.
فلا بد إذنْ من هذه الشروط الثمانية، وهذه يتحقق منها القاضي (الحاكم)، إذا أتى أحد الغرماء وطالب بعين ماله عند رجلٍ قد أفلس، فيتحقق القاضي من تحقق هذه الشروط الثمانية.
قال:
يعني: إذا لم يتحقق أي شرطٍ من هذه الشروط الثمانية، فيمتنع الرجوع في هذه الحالة، ويكون أسوةً للغرماء، لا يكون أحق بماله من غيره.
تقسيم مال المفلس الذي من جنس الدين، وبيع الباقي
الحكم الثالث من الأحكام المتعلقة بالحجر على المفلس:
قال:
يعني: هذا هو الغرض من الحجر.
الغرض من الحجر: هو أن يقسم ماله الذي يمكن قسمته.
ويباع ما ليس من جنس الدين.
وإن رأى القاضي أيضًا مصلحةً في أن يبيع الجميع؛ فعل، يبيع جميع ماله ثم يُقسِّم على الغرماء بقدر ديونهم، بحسب الحصص؛ من له مثلًا نصف الدين؛ يُعطى بحصته، من له الربع؛ يُعطى بحصته، كل واحدٍ بحسب حصته، بقدره من الدين.
قال:
يعني: ما يلزم أن يُثبتوا أنه ليس هناك غُرَماء آخرون، فإذا طالبه أناسٌ؛ مطالبتهم تكفي، لكن إن ظهر؛ قال:
لأنه لو كان حاضرًا؛ قاسمهم، فكذلك إذا ظهر، إذا ظهر غريمٌ جديدٌ؛ يرجع على الغرماء، يقول: أنتم استلمتم، استلمت -أنت يا فلان- مثلًا دينًا بمئة ألفٍ، وأنت لو كنت أنا موجودًا؛ لربما كان دينك سبعين ألفًا؛ فتعطيني جزءًا من الدين، يبدأ يطالب الغرماء إذا ظهر هذا الغريم الجديد.
حكم حضور المفلس بيع ماله
قال الموفق بن قدامة: ويُستحب عند بيع ماله إحضار المفلس، يَحضُر مالَه وهو يُباع، قال: لمعانٍ أربعةٍ:
- الأول: إحصاء ثمنه وضبطه؛ لأن أحسن من يستطيع أن يضبط ذلك: هو هذا المفلس.
- الثاني: أنه أعرَفُ بثمن متاعه وجيده ورديئه، فحضوره فيه فائدةٌ.
- الثالث: أن الرغبة تكثر فيه، فإن شراءه من صاحبه أحب إلى المشترين، وهذا نجده في الواقع عندما مثلًا تجد أحدًا يبيع سيارة، والسيارة له، تكون رغبتك أكثر مما لو كان وكيلًا عن البائع، فحضور صاحب السلعة مما يزيد الرغبة في السلعة.
- الرابع: أنه أطيب لقلبه وأجبر لخاطره، كونه يحضر وماله يُباع، ربما يكون أطيب لقلبه، لكن هل هذا على إطلاقه؟ بعض الناس ربما يكون العكس، كونه لا يحضر أحسن، لكن على كل حالٍ: إذا رأى القاضي، القاضي يدرس المسألة، إذا رأى أن في حضوره مصلحةً؛ يحضر، وإذا رأى أن المصلحة في عدم حضوره؛ فلا يحضر.
هذه تعليلاتٌ ذكرها الموفق، وبعضها ربما ينطبق على بعض الغرماء، وبعضها قد لا ينطبق، قد يكون كل شيءٍ مضبوطًا عن طريق المحكمة، ولا يحتاج إلى حضور هذا المفلس، وربما عدم حضوره أطيب لقلبه وأجبر لخاطره، فإذنْ هذا يتبع المصلحة.
المال الذي يتركه الحاكم للمفلس
قال:
“أن يترك” يعني: الحاكم.
يعني: للمفلس.
يعني: من حوائجه الأساسية.
فلا تباع داره، يعني: إذا كان عنده بيتٌ ملكٌ، هل يباع؟
المؤلف يقول: إنه لا يباع، ومعلومٌ: أن البيوت في الوقت الحاضر أقيامها كبيرةٌ، ربما أنه لو بِيع؛ سدَّد جميع الدين.
وقال مالكٌ: إنه تباع داره ويُستأجر له بدلها، واختار هذا القول ابن المنذر؛ لقول النبي : خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك [12]، وهذا قاله عليه الصلاة والسلام في رجلٍ قد أفلس، أصيب في ثمارٍ ابتاعها، فحجر عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك، قوله : ما وجدتم يعني: يشمل كل شيءٍ عند المفلس، لكن يبقى النظر: هل التملك للمنزل من الحوائج الأساسية؟ أو أننا نقول: إن بإمكانه أن يستأجر ويَسُد حاجته؛ وعلى ذلك: هل يباع بيت المفلس ويُسدَّد دينه ويُستأجَر له؟
يعني: إذا كان بيته مثلًا قيمته: سبعمئة ألفٍ، وعليه دينٌ مقداره: مليونٌ، بحثوا، ما وجدوا عنده إلا هذا البيت، هل نقول: يباع البيت ويُخصم مثلًا من المبلغ هذا ما يُستأجَر له به؟ أو نقول: إن التملك من الحوائج الأساسية؛ فلا يباع بيته؟ قد سمعتم أن في المسألة قولين:
- فمن قال: إنه يباع؛ كالإمام مالكٍ، قال: التملك ليس ضروريًّا، وإنما تُسد حاجته بالاستئجار، إذا استأجر؛ سُدت حاجته.
- وأما الحنابلة فقالوا: لا، ما دام أن المسكن يملكه؛ فهذا من الحوائج الأساسية، تملُّك المسكن.
فأي القولين أقرب؟
مداخلة:…
الشيخ: الأجرة نوفرها له، إذا بعنا البيت؛ نأخذ مقدار الأجرة ونستأجر له.
مداخلة:…
الشيخ: بعد سنةٍ ربما تتيسر أحواله.
مداخلة:…
الشيخ: لا يُباع، طيب.
مداخلة:…
الشيخ: طيب، نستأجر له بيتًا يليق بمثله، لا بأس، إذا كان مثلًا يُستأجر بخمسين ألفًا؛ نقول: هذه خمسون ألفًا، استأجر بها.
مداخلة:…
الشيخ: عندما يباع البيت؛ يُخصم من ثمن البيت، يخصم، ويقال: هذه قيمة الإيجار، لكن مثلًا قلنا: سبعمئة ألفٍ، وستمئةٍ وخمسون للغرماء، وخمسون ألفًا للاستئجار، هذه وجهة من قال بأنه يباع.
مداخلة:…
الشيخ: هو الغالب على العقارات أن أقيامها تكون لها قيمةٌ في الغالب.
مداخلة:…
الشيخ: هو على كل حالٍ: الأقرب -والله أعلم- هو قول الإمام مالك: أنه يباع ويُستأجر له بدله مما يليق بمثله؛ لأن أيضًا كونه يتملك بيتًا ويَضيع حق الغرماء، هذا لا يتفق مع الأصول والقواعد الشرعية.
وأما قول الحنابلة: إنه من حاجاته الأساسية، نقول: حاجاته الأساسية تُدفع بالاستئجار، ويُستأجر له بيتٌ يليق بمثله، فنحن الآن وفَّرنا له حاجته الأساسية، فهذا هو الأقرب، والله أعلم.
ويُشبه هذه المسألة من بعض الوجوه: مسألة: “هل يجوز دفع الزكاة لمن يريد أن يشتري بيتًا”، هذا أيضًا محل خلافٍ بين العلماء، وعندي أن الأقرب: أنه لا يُعطى من الزكاة، وإنما يُستأجر له، إذا كان فقيرًا؛ نستأجر له، أما أن يُعطى مبلغًا كبيرًا لكي يشتري به بيتًا؛ فالتملك كمالٌ، وليس حاجةً أساسيةً، هذا هو الأقرب، وإن كان بعض العلماء يفتي بالأول، بعض العلماء يفتي بأنه يجوز أن يُعطى من الزكاة؛ يقول: لأن هذا فيه سد حاجته للأبد، وأما هذا فلا، لكن الآن البيوت أقيامها مرتفعةٌ، ربما أقل بيتٍ يُشترى الآن بنصف مليونٍ، نصف مليونٍ لو وزعتها على عددٍ من الفقراء؛ ستكفي عددًا كثيرًا من الفقراء، لو سدَّدت بها إيجارًا مثلًا لِسَكَنِ بعض الفقراء والمساكين، كم ستكفي؟ عددًا كبيرًا، فكيف نترك هؤلاء الفقراء ونعطي هذا المبلغ الكبير لأجل أمرٍ كماليٍّ؟! في الحقيقة التملك أمرٌ كماليٌّ؛ لأن حاجته يمكن أن تُسد بالاستئجار، هذا هو الأقرب، والخلاف في هذه المسألة خلافٌ قويٌّ أيضًا، يعني: وجهة القائلين بأنه لا يباع، لها وجهٌ، والقول قويٌّ، قول الحنابلة قولٌ قويٌّ، ليس قولًا ضعيفًا، لكن إذا نظرنا للأصول والقواعد الشرعية؛ نجد أن في بيع البيت مصلحةً عظيمةً، مصلحةً أولًا للغرماء، ومصلحةً أيضًا في تبرئة ذمته، وأيضًا حاجته تُسَد بالاستئجار.
مداخلة:…
الشيخ: ربما نعم، هذا أيضًا قولٌ له وجهٌ، أنها ترجع لاجتهاد القاضي، أنه مثلًا إذا كان في مكانٍ وثمن البيت زهيدٌ، ولو باعه؛ ما سدد كثيرًا من الدين، وربما أضرَّ بهذا المفلس، أنه لا يرى بيعه، لكن لو كانت قيمة البيت مرتفعةً وستسدِّد ربما جزءًا كبيرًا من حق الغرماء؛ فيبيعه ويُستأجر له بدله، هذا أيضًا قولٌ متجهٌ، والمسألة محل خلافٍ، والقاضي أصلًا سيجتهد فيها عندما يريد أن يحكم.
قال:
أيضًا إذا كان مثله يُخدَم؛ فيُترك له ما يعطي به أجرة الخادم، أما إذا كان مثله لا يُخدم فلا؛ لأن الناس على قسمين:
قسم مثله يُخدَم، فهذا يعتبر الخادم في حقه من حوائجه الأساسية؛ ولهذا لو تزوج الإنسان امرأةً مثلها يُخدَم؛ يجب عليه أن يوفر لها خادمًا.
إذا كان له مثلًا سيارة أجرة يكتسب بها كل يومٍ، فلا يجب على الحاكم أن يبيعها، وإنما تُترك؛ لأنها تُعتبر في حكم الحوائج الأساسية.
قال:
إذا كان محترِفًا، مثلًا: يصيد السمك، أو نحو ذلك؛ لا تُباع آلات الحرفة.
قوله: “أدنى نفقة مثلهم”، هذا مما يؤكد رجحان القول بأن البيت يباع ويُستأجر له بدله؛ لأنهم الآن في النفقة قالوا: يُترك له أدنى نفقة مثلهم؛ معنى ذلك: أنه لا يُترك له إلا بقدر الحاجة.
حكم من باع أو أقرض المحجور عليه
قال:
من الأحكام المتعلقة بالحجر على المفلس.
يعني: إذا حُجر عليه؛ أصبح حكمه حكم المعسر، والله تعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك [13].
فحينئذٍ لا يطالَب بشيءٍ إذا حُجر عليه، نقول للغرماء: ليس لكم إلا ذلك، لا تبقوا تطالبونه، وإنما ليس لكم إلا هذا، فينقطع الطلب عنه، ولا يجوز مطالبته، فيكون حكمه حكم المعسر، “فمن باعه أو أقرضه شيئًا عالمًا بحَجْره؛ لم يملك طَلَبَه حتى ينفك حجره”، من باعه أو أقرضه على بصيرةٍ، ويعلم بأنه محجورٌ؛ فإنه يتحمَّل تَبِعة تصرفه، وبالتالي لا يملك مطالبته حتى ينفك الحَجر عنه.
الحجر على الصغير والسفيه والمجنون
ثم قال المؤلف:
انتقل المؤلف للكلام عن الحجر على الصغير والسفيه والمجنون، “من دفع ماله إلى صغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ“؛ وذلك لأنه سلَّطه عليه برضاه، فمن أعطى مثلًا صغيرًا سيارةً، إنسانٌ مثلًا عمره عشر سنين، قال لآخر: أعطني سيارتك، أريد أن أذهب بها لحاجةٍ، فصدم بها، فإنه لا يتحمل؛ لأنه هو الذي سلَّطه على هذا المال، وهكذا لو أعطى مجنونًا، أو أعطى سفيهًا وهو عالم بحاله.
يعني: لو أخذ مالًا من هذا الصغير أو السفيه أو المجنون؛ فإنه يضمنه؛ لتعديه بقبضه؛ لأنه يُفترض أن يأخذ هذا المال من وليِّه وليس منه، وبذلك يكون ضامنًا حتى يأخذه وليُّه، يعني: إذا أراد أن يصحِّح وضعه، أخذ من أحدهم مالًا؛ فلا بد أن يعيد هذا المال، ليس له، وإنما لوليِّه.
إنسانٌ مثلًا وجد عشرة آلاف ريالٍ مع مجنونٍ، أو وجدها مع طفلٍ، فأخذها ليحفظها، أخذها منه ليحفظها، فلا يضمن، حتى إن تلفت من غير تعدٍّ ولا تفريطٍ فإنه لا يضمن؛ لأنه محسنٌ، والله تعالى يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91].
فإنه لا يضمنه؛ لأنه محسنٌ بذلك.
إذا بلغ سفيهًا أو بلغ مجنونًا؛ فإنه يكون محجورًا عليه، لكن إذا عقل إن كان مجنونًا، ورَشَد إن كان سفيهًا؛ فإنه يزول الحجر عنه.
يعني: يُدفع له ماله بعد رشده.
والرشد: سيُبيِّنه المؤلف، سيُبيِّن ما المقصود به.
لكن نكمل الآن عبارة المؤلف:
علامات البلوغ
قال:
لأنه بالبلوغ مع الرشد ينفَكُّ الحجر عن الصغير، فانتقل المؤلف للكلام عن علامات البلوغ، والفقهاء يتكلمون عن علامات البلوغ في هذا الموضع:
العلامة الأولى: الإمناء
العلامة الأولى:
يعني: خروج المني يقظةً أو منامًا من الذكر أو الأنثى، وهذا محل إجماعٍ بين أهل العلم؛ لقول الله : وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [النور:59]، ولقول النبي : رفع القلم عن ثلاثةٍ..، وذكر منهم: عن الصبي حتى يحتلم [14].
العلامة الثانية: بتمام خمس عشرة سنةً
وهذه العلامة محل خلافٍ بين الفقهاء:
فعند الحنفية: بلوغ ثماني عشرة سنةً.
أما الحنابلة: فخمس عشرة سنةً، والقوانين الوضعية على مذهب الحنفية، عندهم ثماني عشرة سنةً، عندهم أقل من ثماني عشرة سنةً يسمونه “قاصرًا”؛ ولذلك تجد كثيرًا من الأنظمة على هذا، وبكل حالٍ: هو مذهبٌ من مذاهب العلماء: هو مذهب الحنفية؛ ولذلك الرخصة لا تُعطى إلا لمن بلغ ثماني عشرة سنةً؛ أخذًا بهذا الرأي، لكن بكلِّ حالٍ: هو ليس فقط الذي عليه القوانين أو الأنظمة، هو أحد المذهب الأربعة: مذهب الحنفية، ولكن التحقيق من جهة الدليل، الأقرب والله أعلم: أن البلوغ يتحقق ببلوغ تمام خمس عشرة سنةً، هذا هو القول الصحيح، وهو المذهب عند الحنابلة، ويدلُّ لهذا ما جاء في “الصحيحين” عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “عُرضتُ على النبي يوم أحدٍ وأنا ابن أربع عشرة سنةً فلم يُجِزْني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً فأجازني”، “أجازني” يعني: أمضاني للقتال، قال نافع: قدمت على عمر بن عبدالعزيز وهو خليفةٌ، وحدثته بهذا الحديث، فقال: هذا هو حد البلوغ، وكتب إلى عماله بذلك [15].
فهذا نصٌّ في المسألة، كون النبي عليه الصلاة والسلام أجاز ابن عمر رضي الله عنهما لما بلغ خمس عشرة سنةً؛ دليلٌ على أن البلوغ يكون بتمام خمس عشرة سنةً.
لكن إذا أردنا أن نحسبها، ما معنى خمس عشرة سنةً؟ هل معناها إذا أتم أربع عشرة سنةً، ودخل في السنة الخامسة عشرة؟ أو إذا أتم خمس عشرة سنةً، ودخل في السادسة عشرة؟
نعم، الثاني..، لاحٍظوا: الفقهاء عندما يُعبِّرون يقولون: “بتمام” يعني: إذا أتم خمس عشرة سنةً ودخل في السنة السادسة عشرة، هذا هو المقصود، كثيرٌ من العامة يفهم: أنه إذا أتم أربع عشرة سنةً، ودخل في الخامسة عشرة، هذا غير صحيحٍ.
ومثل ذلك قول النبي : مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ، معناها: أتمَّ سبع سنين ودخل في الثامنة، واضربوهم عليها لعشرٍ [16]، يعني أتم عشر سنين ودخل في الحادية عشرة؛ ولذلك تجد بعض الناس عندما يُسأل: كم عمرك؟ فمثلًا: عندما يقول: عمري ثلاثون، وهو قد أتمَّ تسعًا وعشرين ودخل في الثلاثين، فهذا ليس بصحيحٍ، وإنما لا يقول: ثلاثون إلا إذا أتمَّ ثلاثين، ودخل في السنة الحادية والثلاثين، والناس يعتبرون في الطفل..، الطفل إذا لم يُتم سنةً ما يقولون: عمره سنةٌ، أليس كذلك؟ يقولون: عمره شهران، عشرة أشهرٍ، أحد عشر شهرًا، ما يقولون: سنةٌ، إلا إذا أتم سنةً، هكذا أيضًا في بقية السنين، فلا تقل: عمره خمس عشرة، إلا إذا أتم خمس عشرة ودخل في السادسة عشرة.
إذنْ هذه العلامة الثانية.
العلامة الثالثة: نبات شعرٍ خشنٍ حول قُبُله
“حول قُبُله”: وهذه العلامة تشمل الذكر والأنثى.
وقول المؤلف: “خَشِنٍ”، احترازًا من الشعر الخفيف؛ لأنه قد يحصل لبعض الأطفال وبعض الصغار، فلا يُعتبر، والدليل لهذه العلامة: ما جاء في “الصحيحين” عن أبي سعيدٍ أن النبي لما حكَّم سعد بن معاذٍ في بني قريظة، حكَم سعدٌ بأن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواتٍ [17].
ثم بعد ذلك لم يعرفوا من الذي بَلَغ ومن الذي لم يَبلغ، وهم اليهود لا يُؤتمنون، كَذَبَةٌ، يعني: هذا بلغ خمس عشرة سنةً أو لم يبلغ، ولا يمكن التحقق من العلامة الأولى ولا الثانية، إذنْ ما بقي إلا العلامة هذه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يُكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت قُتل؛ فهو من المُقاتلة، ومن لم يُنبِت ألحقوه بالذرية، قال عطية القرظي: عُرضتُ على رسول الله فشكُّوا في أمري، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن ينظروا إليَّ، فنظروا فلم يجدوني أنبَتُّ فالحقوني بالذرِّية [18]؛ وهذا يدل على أنه يجوز كشف العورة عند الضرورة وعند الحاجة، ومن ذلك كشف الطبيب على العورة هذا يجوز، إذنْ هذا هو الأصل في هذا.
كم قتل النبي عليه الصلاة والسلام من بني قريظة؟ قرابة ستمئةٍ، وأمر بهم فدُفِنوا في أخاديد في المدينة [19].
انظر، أحيانًا ما ينفع إلا الحزم، انظر كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام حازمًا معهم، ولما حكم سعد بن معاذٍ فيهم؛ قال : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواتٍ [20]، قتل ستمئة، ودُفنوا في أخاديد في المدينة، وكانوا يذهبون بهم أفواجًا أفواجًا، فكان يقول بعضهم لبعضهم: ما بال هؤلاء إذا ذهبوا أفواجًا لا يرجعون؟! فقال واحدٌ منهم: أما إنكم قومٌ لا تعقلون، إذا ذهبوا يذهبون للقتل.
كان بإمكانهم أن ينجوا من القتل بأي شيءٍ؟ بالإسلام، لو أشهروا إسلامهم؛ ما قتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن انظر -نسأل الله العافية من الضلال- يستميتون على الكفر إلى أن يُقتلوا، حتى إن أحد الصحابة قال: “يا رسول الله، إن فلانًا له عليَّ معروفٌ”، هذا ذكره ابن القيم في “زاد المعاد”، يعني: شفع فيه، وقَبِل النبي عليه الصلاة والسلام شفاعته، فقال: لا، دعني أموت مع الأحبة! [21]، نسأل الله العافية!
إذنْ هذه علامات البلوغ.
بلوغ الأنثى
قال:
وهي العلامة الرابعة التي تختص بها الأنثى، والغالب، أيهما أسرع بلوغًا: الذكر أم الأنثى؟ الأنثى أسرع بلوغًا من الذكر في الغالب.
قال:
هذا هو الرُّشد، الرشد معناه: “الصلاح في المال”، وهو المذكور في قول الله : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6].
فإذنْ لا ينفكُّ الحَجْر، ولا يزول الحجر عن الصبي إلا بالبلوغ وبالرشد، فلو كان يتيمًا؛ لا يُسلَّم له ماله إلا إذا بلغ وإذا رشد، إذا بلغ بإحدى علامات البلوغ التي ذكرنا: ثلاثة يشترك فيها الذكر والأنثى، والرابعة تزيد بها الأنثى.
والرُّشد كما قلنا: الصلاح في المال، والصلاح في المال يُعرف بأن يُمتحن هذا الصبي إذا بلغ، فإذا وُجد أنه يُحسن البيع والشراء، ولا يُغبن غبنًا فاحشًا، ولا يَبذل ماله في حرامٍ أو فيما لا فائدة فيه، فيكون هذا علامةً على رشده، فالمرجع في ذلك إلى العرف، والناس تُفرِّق بين: فلان راشد في تعامله، وفلان سفيه.
أما إذا لم يرشد؛ فإنه لا ينفكُّ الحَجْر عنه ولو صار شيخًا، وقد رُوي أن القاسم بن محمدٍ كان يَلِي أمر شيخٍ من قريشٍ ذي أهلٍ ومالٍ لضعف عقله، قال ابن اسحاق: رأيته شيخًا يخضب لحيته، وقد جاء إلى القاسم، وقال له: يا أبا محمد، ادفع إليَّ مالي؛ فإنه لا يُولَّى على مثلي، فقال له القاسم: إنك فاسدٌ -يعني يقصد في مالك- فقال: امرأته طالقٌ البتة، وعبيده كلهم أحرارٌ إن لم تدفع إليَّ مالي، فقال القاسم: لا يحل لنا أن ندفع مالك إليك، فرفض القاسم أن يدفع إليه ماله، قال ابن إسحاق: وما كان يُعاب على الرجل إلا سفهه.
فقد يكون الإنسان سفيهًا في المال، لكن الإنسان صالحٌ، إنسانٌ عابدٌ متقٍ، يصلي ويصوم ويقرأ القرآن، لكن فيما يتعلق بالمال سفيهٌ، فهذا يُحجَر عليه، ولا يُترك يُضيِّع ماله.
فإذنْ الصبي إذا تحقق فيه هذان الشرطان.
يزول الحجر عن المجنون بأمرين: بزوال الجنون، وأن يكون رشيدًا، يزول عن السفيه بزوال السفه، واتصافه بصفة الرشد، يعني: لو أن أحدًا مثلًا سفيهًا لما حُجِر عليه؛ كان درسًا قاسيًا له فأصبح رشيدًا؛ فيزول عنه الحَجْر.
الولاية على المملوك والصغير والبالغ بسفهٍ أو جنونٍ
ثم بيَّن المؤلف الولاية على هؤلاء، قال:
الرقيق ولايته لسيده، حتى وإن كان السيد فاسقًا؛ لأن هذا المملوك ماله، ولأن العدالة ليست شرطًا لصحة تصرف الإنسان في ماله.
يكون أحق الناس بالولاية على هؤلاء: أبوهم الرشيد العدل؛ كولاية النكاح.
يعني: إن لم يكن له أبٌ.
لأنه نائبه، وقائمٌ مقامه، أشبه وكيله في الحياة.
أي: القاضي.
إذنْ: أبوه، ثم وصيُّه، ثم الحاكم.
يختارون إنسانًا من الأمناء، إنسانًا قويًّا أمينًا يكون هو الوصي.
لأن غير الرشيد محجورٌ عليه.
فلا يحتاج الحاكم إلى تعديله، يعني: لا يحتاج أن يقول: ائتِ بمزكِّين، تكفي العدالة في الظاهر، ولثبوت ولاية الأب على هؤلاء، وكذلك وصيُّه يقوم مقامه.
وذلك لأن هؤلاء ليسوا في الشفقة كالأب، فقصور شفقتهم هي التي جعلت الفقهاء يقولون هذا: إنه لا ولاية لهم إلا بالوصية، والمال محل خيانةٍ وتُهمةٍ؛ فلا يُؤمَنون عليه إلا بوصيةٍ أو بتوجيهٍ من الحاكم.
لقول الله : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، فلا يقرب ماله إلا بما فيه حظٌّ ومصلحةٌ.
بناءً على ذلك: هل يجوز لولي اليتيم أن يقرض ماله قرضًا؟ هل يجوز؟
ننظر؛ هل القرض من التصرف بالتي هي أحسن؟ أقصد بالقرض: السلف، ليس كما يسميه بعض العامة: البيع بأجلٍ، السلف هل هو من التصرف بالتي هي أحسن؟
لا، إذنْ لا يملك قرضه، لا يملك إقراضه مطلقًا، تجد بعض أولياء اليتامى يتجاوزون في هذا، يقترض أحيانًا عندما يحتاج، أو يُقرض غيره، هذا لا يجوز.
هل له أن يتصدق منه؟
ننظر؛ هل هذا من التصرف بالتي هي أحسن؟ لا، ليس له أن يتصدق منه.
فإذنْ لا يقربه إلا بالتي هي أحسن، وبما له فيه حظٌّ ومصلحةٌ؛ ولذلك الذي عليه عمل في المحاكم: أنه إذا أراد الولي أن يبيع مال واحدٍ من هؤلاء: صغيرٍ أو سفيهٍ أو يتيمٍ أو مجنونٍ، فتُرسَل اللجنة لتنظر الغِبطة في بيعه، وهل له في هذا البيع مصلحةٌ أم لا؟ فإن كان فيه مصلحةٌ؛ أمضَوا البيع، وإلا تَمنع المحكمة من بيع ماله.
تصرف الصغير والمجنون والسفيه
قال:
يعني: الصغير والمجنون والسفيه.
لقول الله : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، ولأن هؤلاء محجورٌ عليهم لحظِّ أنفسهم، فبيعهم وشراؤهم وعتقهم ووقفهم، كل هذه تصرفاتٌ غير صحيحةٍ.
ولكن السَّفيه، قال:
إقرار السفيه بهذه الأمور يُؤخذ به؛ لأنه غير متَّهمٍ في نفسه، والحجر إنما يتعلق بماله، وكما ذكرنا السفه متعلقٌ بالمال، قد يكون الإنسان صالحًا تقيًّا عابدًا، قد يكون طالب علمٍ، قد يكون السَّفيه طالب علمٍ، لكن في أمور المال لا يحسن التصرف، فلا علاقة بين مسألة التدين، ومسألة السَّفه في المال؛ فإذنْ الحجر متعلقٌ بماله، فهو غير متهمٍ بنفسه؛ ولذلك يُقبل إقراره ويؤخذ به، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك.
إن أقر هذا السفيه بمالٍ؛ فيؤخذ بإقراره، لكن بعد فكِّ الحجر؛ لأنه حُجر عليه لِحَظِّه، ولأن قبول إقراره يُبطل معنى الحجر عليه، فقد يُدايِن الناس، ويُقر لهم؛ ولذلك هو يؤخذ بإقراره لكن بعد فكِّ الحجر عنه.
آخر فصلٍ معنا:
المسائل المتعلقة بالولي
قال:
تكلم عن المسائل المتعلقة بالولي.
“وللولي” يعني: ولي اليتيم، أو ولي المجنون، أو ولي السفيه.
أيضًا لا يُلزم الولي بأن يقوم بالولاية مجانًا، لو قال: أنا أريد أجرةً على قيامي على شؤون هذا اليتيم أو هذا المجنون، أنا أريد أجرةً، فله ذلك.
طيب، ما هو الضابط في هذه الأجرة؟
قال:
لأنه يُستحق بالعمل والحاجة جميعًا، فننظر؛ ما هو الأقل؟ إن كانت حاجته أو كفايته تتحقق بالأقل من أجرة مثله؛ مثلًا أجرة مثله: أنه يأخذ ألف ريالٍ على الشهر، وحاجته يكفيه ثمانمئة ريالٍ؛ إذنْ يأخذ ثمانمئةٍ، لو كانت حاجته مثلًا ألفًا وخمسمئةٍ، لكن أجرة مثله ألفٌ؛ يأخذ ألفًا.
فإذنْ يأخذ الأقلَّ من أجرة مثله أو كفايته.
طيب، ما المرجع في ذلك؟ في أجرة المثل؟ كيف نعرف أجرة المثل؟ العُرف، نرجع للعرف، وكذلك كفايته، تقدير كفايته المرجع في ذلك للعرف.
نفترض أنه غير محتاجٍ، إنسانٌ غنيٌّ، لكن يقول: والله مال هؤلاء اليتامى أموالٌ كثيرةٌ، عقاراتٌ، وتحتاج لمتابعةٍ، وتحتاج لوقتٍ وجهدٍ، أنا ما عندي استعدادٌ أن أقوم عليها مجانًا، أريد أجرةً، فللحاكم أن يفرض له أجرةً مقابل جهده، ومقابل عمله، وهذا بغير خلافٍ، يعني باتفاق العلماء.
هذه المسألة ذكرها المؤلف استطرادًا، ختم بها هذا الباب.
إذا كان صاحب البيت لا يمنع من هذا، ويُعرف عنه أنه لو علم لرضي؛ فهنا لا يحتاج إلى أن يستأذن، سواءٌ من الزوجة أو الخادم أو نحو ذلك، أو مِن أحد أبنائه، فله أن يتصدق من البيت بلا إذن رب البيت، ويدل لهذا ما جاء في “الصحيحين” عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدةٍ؛ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره ما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعضٍ شيئًا [22]، متفقٌ عليه، فهي مأجورةٌ، وزوجها مأجورٌ، والخادم كذلك مأجورٌ، كلهم مأجورون.
وقوله : وللخازن مثل ذلك، هذا يدل -يا إخوان- على أن مَن توكَّل عن غيره في دفع صدقةٍ أو زكاةٍ أو نحوها، يكون له مثل أجر المزكِّي أو المتصدق، وقد ورد هذا صريحًا في قول النبي : الخازن الأمين الذي يُعطِي ما أُمر به، أحد المتصدقَين [23]، فلو أعطاك إنسانٌ مثلًا عشرة آلاف ريالٍ، قال: وزِّعها على الفقراء والمساكين زكاةً أو قال: صدقةً، فلك مثل أجره تمامًا، وهذا من فضل الله ؛ ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم على هذا، إذا أُعطيتَ مبلغًا لكي توزعه على الفقراء والمساكين؛ فلك مثل أجر الباذل من غير أن ينقص من أجر الباذل شيءٌ.
قال:
إذا رفض، قال: لا تعطوا أحدًا شيئًا، لا تتصدقوا من البيت؛ فحينئذ لا يحل للزوجة ولا لغيرها أن يفعلوا ذلك.
يُعرف عنه أنه بخيلٌ، وأنه لو علم؛ لما رضي، فلا يحل للزوجة ولا لغيرها أن يتصدقوا من بيته إلا بإذنه؛ ولهذا قال:
يعني: يحرم عليهم التصرف في ذلك بالصدقة أو الهبة أو نحوها إلا بإذنه.
وبهذا نكون قد انتهينا من باب الحجر.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 1586، ومسلم: 1333، بنحوه. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2400، ومسلم: 1564. |
^3 | رواه أبو داود: 3628، والنسائي: 4689، وابن ماجه: 2427. |
^4 | رواه مسلم: 1563. |
^5 | رواه البخاري: 2077، ومسلم: 1560، بنحوه. |
^6 | رواه البخاري: 2076، بنحوه. |
^7 | رواه مسلم: 1044. |
^8 | رواه مسلم: 2581، بنحوه. |
^9 | رواه البخاري: 2402، ومسلم: 1559. |
^10 | رواه أبو داود: 3520، بنحوه. |
^11, ^13, ^20 | سبق تخريجه. |
^12 | رواه مسلم: 1556. |
^14 | رواه أبو داود: 4398 والنسائي: 2432، وابن ماجه: 2041، وأحمد: 24738. |
^15 | رواه البخاري: 4097، ومسلم: 1868. |
^16 | رواه أبو داود: 495، وأحمد: 6756. |
^17 | رواه البخاري: 4122، ومسلم: 1769. |
^18 | رواه أبو داود: 4404-4405، والترمذي: 1584، وقال: حسن صحيح. |
^19 | ينظر بهجة المحافل وبغية الأماثل للحَرَضي: 1/ 275. |
^21 | ينظر: سيرة ابن هشام: 2/ 243، ودلائل النبوة للبيهقي: 4/ 23-24. |
^22 | رواه البخاري: 1437، ومسلم: 1024. |
^23 | رواه البخاري: 2319، ومسلم: 1023، بنحوه. |