logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(60) باب الصُّلح- من قوله: “يصح ممن يصح تبرعه ..”

(60) باب الصُّلح- من قوله: “يصح ممن يصح تبرعه ..”

مشاهدة من الموقع

باب الصُّلح

ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى “باب الصلح”، ونبدأ أولًا بالتعريف.

الصُّلح معناه في اللغة: قطع المُنازعة.

واصطلاحًا: مُعاقدةٌ يُتوصَّل بها إلى إصلاحٍ بين مُتخاصمين.

وقد وعد الله مَن سعى في الإصلاح بين الناس بأن يُؤتيه أجرًا عظيمًا.

فمَن يذكر لنا الآية في سورة النساء؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، أحسنتَ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

وتأمل الآية: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ دليلٌ على أن هذه الأمور الثلاثة كلها خير، حتى لو كانت لغير ابتغاء مرضاة الله هي خيرٌ، لكن إذا وقعتْ ابتغاء مرضاة الله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا؛ لأن الإصلاح كله خيرٌ، الإصلاح بين المُتخاصمين كله خيرٌ لأيِّ غرضٍ كان، لكن إذا كان المُصلح يبتغي بذلك مرضاة الله فهو موعودٌ بالأجر العظيم: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.

وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البَين، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يسعى للإصلاح بنفسه كما في قصة إصلاحه بين بني عمرو بن عوف [1].

وأجاز النبي الكذب لأجل الإصلاح، كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله يقول: ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا، أو يقول خيرًا أخرجه البخاري في “صحيحه” [2].

فدلَّ ذلك على أنه يجوز الكذب بغرض الإصلاح بين المُتخاصمين؛ لأن الكذب إنما حُرِّم لما يترتب عليه من المفسدة، فإذا كان تترتب عليه مصلحةٌ: وهي الإصلاح بين المُتخاصمين؛ كان ذلك جائزًا؛ ولهذا أيضًا يجوز بين الزوجين فيما يخصُّهما، ويجوز كذلك في الحرب.

والصُّلح إنما يكون في حقوق الآدميين مما يقبل الإسقاط أو المُعاوضة، أما حقوق الله فإنها لا تقبل الصُّلح، حقوق الله لا مدخل للصُّلح فيها: كالزكاة، والحدود؛ لأن الصُّلح هو أداؤها كاملةً، الإصلاح فيها أداؤها كاملةً.

أقسام الصُّلح بين الناس

قسَّم أهل العلم الصُّلح بين الناس إلى خمسة أقسامٍ:

  • الأول: الصُّلح بين المسلمين وأهل الحرب، وهذا له أحكامٌ وتفاصيل ذكرها الفقهاء في “كتاب الجهاد”.
  • الثاني: الصُّلح بين أهل العدل وأهل البَغْي من المسلمين، البُغاة الذين ذكرهم الله في سورة الحجرات.
    ما تعريف البُغاة؟
    “قومٌ لهم شَوكةٌ ومَنَعَةٌ خرجوا على السلطان بتأويلٍ سائغٍ”، هذا تعريفهم عند الفقهاء، فلا بد أن تكون لهم شَوكَةٌ ومَنَعَةٌ، ويخرجون بتأويلٍ.

هذه -إن شاء الله- سيأتينا كلامٌ عنها في “باب قتال أهل البَغْي”: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

  • الثالث: الصُّلح بين الزوجين إذا خِيفَ الشِّقاق بينهما: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، يعني: إذا كانت امرأةٌ تخشى أن يُطَلِّقها زوجها: إما لِكِبَر سنِّها، أو مرضها، أو رغبته عنها، أو نحو ذلك، فاصطلحتْ معه على أن تُسقط -مثلًا- ليلتها، وتبقى في عصمته، فهذا لا بأس به، وقد فعل النبي ذلك مع سودة رضي الله عنها، فإنه لما كبر سنُّها خشيتْ أن يُطلِّقها النبي فوهبتْ ليلتها لعائشة رضي الله عنها [3]، لكن النفوس مجبولةٌ على الشُّحِّ؛ ولهذا قال تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النساء:128].
  • الرابع: الصُّلح بين المُتخاصمين في غير المال، كأن تكون بينهما شحناء أو هجران أو نحو ذلك، وهذا مندوبٌ إليه.
  • الخامس: الصُّلح بين المُتخاصمين في المال، وهو المقصود في هذا الباب، وهو الذي يتكلم عنه الفقهاء في “باب الصلح”.

إذن مقصود المؤلف بقوله:

باب الصُّلح.

يعني: الصُّلح بين المتخاصمين في الأموال.

أقسام الصُّلح بين المُتخاصمين في الأموال

يُقسم الفقهاء هذا القسم أو هذا النوع من الصُّلح إلى قسمين:

  1. صُلحٌ على إقرارٍ.
  2. وصُلحٌ على إنكارٍ.

ابتدأ المؤلف بالقسم الأول وهو الصُّلح على إقرارٍ.

قبل هذا قال:

يصحُّ ممن يصحُّ تبرُّعه مع الإقرار والإنكار.

فأشار إلى قسمي الصُّلح:

  • الصُّلح على إقرارٍ.
  • والصُّلح على إنكارٍ.

لكن قوله: “يصحُّ ممن يصحُّ تبرُّعه” الذي يصح تبرعه هو الحُرُّ المُكلَّف الرشيد، فلا يصح الصُّلح على الأموال سواء كان صلح إقرارٍ أو إنكارٍ إلا ممن يصح تبرعه.

وبناءً على ذلك: مَن لا يصح تبرعه: كوليِّ اليتيم والمجنون، إذا كان لهذا الولي دَينٌ على شخصٍ فليس له أن يُصالح المَدِين بإسقاط بعضه؛ لأن هذا الإسقاط يُعتبر تبرعًا، ووليُّ اليتيم لا يملك التَّبرع من ماله، وهكذا وليُّ المجنون.

فمثلًا: لو كان هذا اليتيم له مالٌ، واشتريتَ سيارةً بهذا المال، وقسطتَها على فلانٍ من الناس، ثم إن فلانًا هذا -المُشتري- رفض أن يُسدِّد، فليس لك أنت أيها الوليُّ أن تقول: أعطني نصف المبلغ وأُسامحك في البقية. لا تملك هذا، وإنما يجب أن ترفع أمره للمحكمة، وأن ترفع فيه شكايةً، وأن يُجْبَر على السداد، بينما لو كانت السيارة لك أنت فتملك الصُّلح.

والفرق بين المسألتين: أن وليَّ اليتيم لا يصح تبرعه، والصُّلح إنما يكون ممن يصح تبرعه، فيجب أن يرفع فيه شكايةً، ويُجْبِره الحاكم على أن يُسدِّد.

واستثنى الفقهاء من هذا مسألةً هي: أن يكون لليتيم أو المجنون أو نحوه حقٌّ يُنْكِره مَن عليه الحق، ولا بيِّنة لهذا اليتيم أو وليِّه على المُدَّعَى عليه، فتجوز للوليِّ المُصالحة عن ذلك الحقِّ بإسقاط بعضه؛ وذلك لأن استيفاء بعض حقِّه عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه كله.

فمثلًا: لو أن هذا جَحَدَ وقال: أبدًا، أنت لم تَبِعْنِي سيارةً. وليست لهذا الوليِّ بيِّنةٌ، ثم بعد ذلك صالحه وقال: أُعطيك -مثلًا- عشرة آلاف، أو أُعطيك أقلّ أو أكثر. فله أن يُصالح في هذه الحالة؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لذهب الحقُّ كله، فكونه يستوفي بعض الحقِّ خيرًا من أن يتركه كله.

أما إذا كانت له بيِّنةٌ فإنه ليس له أن يُصالحه، بل يلزمه أن يرفع أمره إلى الحاكم، وأن يُجْبَر المَدِين على السَّداد.

إذن استفدنا هذا من قول المؤلف: “ممن يصحُّ تبرُّعه”، فمَن لا يصح تبرعه لا يصح الصُّلح منه.

قال:

مع الإقرار والإنكار.

أفادنا المؤلف بأن الصُّلح ينقسم إلى قسمين:

  • صلحٌ على إقرارٍ.
  • وصلحٌ على إنكارٍ.

القسم الأول: صلحٌ على إقرارٍ

فسَّره المؤلف بقوله:

فإذا أقرَّ للمُدَّعي بِدَيْنٍ أو عينٍ، ثم صالحه على بعض الدَّيْن أو بعض العين المُدَّعاة.

يعني: فيصح الصُّلح، ويكون هبةً؛ ولهذا قال:

فهو هبةٌ يصح بلفظها.

أو بما كان في معناه.

مثال ذلك: رجلٌ يُطالب آخر بِدَيْنٍ مقداره عشرة آلاف ريالٍ، فأقرَّ له، قال: أنا أُقِرُّ بأنك تُطالبني بعشرة آلاف ريالٍ، لكن أريد أن أُعطيك ثمانيةً، وتُسامحني في ألفين. فَقَبِلَ، فلا بأس بأن يكون هذا صُلحًا، ولا بأس به، ويكون هذا القدر الذي أسقط عنه ماذا نُسمِّيه؟

هبة، يكون هبةً.

قال:

لا بلفظ الصُّلح.

يعني: لا بد أن يكون بلفظ الهبة، ولا يصح أن يكون بلفظ الصُّلح، لا يصح أن يقول: صالحتُك على عشرة آلاف بثمانية؛ لأنه لا يمكن أن يُصالحه عن ماله ببعضه.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أنه لا يصح بلفظ الصُّلح، وإنما يصح بلفظ الهبة.

والقول الثاني في المسألة: أنه يصح بلفظ الصُّلح، وأن العبرة بالمعنى والمقصود، وهو إسقاط بعض الدَّين، فسواء سُمِّي: هبةً، أو سُمِّي: صُلْحًا، أو سُمِّي بأيِّ اسمٍ فإنه لا يضير، فالمعنى واحدٌ.

وهذا هو القول الراجح: أنه يصح بأيِّ لفظٍ كان، سواء كان بلفظ الصلح، أو بلفظ الهبة، أو بأيِّ لفظٍ آخر.

إذا قال: أُطالبك بعشرة آلاف ريالٍ. وقال: أنا أُقِرُّ لك بأنك تُطالبني بعشرة آلاف ريالٍ، فأسقط عني، أو صالحني، أو هَبْ لي ألفين -مثلًا- كل ذلك يصح، ولا بأس به في أرجح قولي العلماء، والقول بأنه لا يصح لا وجهَ له في الحقيقة.

وأما قولهم: “إنه صالحه عن ماله ببعضه”، فنقول: وما الذي يمنع من ذلك؟! هو إسقاطٌ، أسقط عنه بعض ماله، فكأنه وَهَبَه هذا الذي قد أسقطه عنه.

الصلح على عينٍ غير المُدَّعاة

قال:

وإن صالحه على عينٍ غير المُدَّعاة فهو بيعٌ.

يعني: إن كان الصُّلح على عينٍ أخرى غير العين المُدَّعاة فإنه يكون بيعًا، ويكون حكمه حكم البيع.

يصح بلفظ الصُّلح.

يعني: في هذه الحال يصح بلفظ الصُّلح، وهذا يُسمِّيه الفقهاء بـ”المُصالحة عن الحقِّ بغير جنسه”.

فمثال ذلك: اعترف له بِدَيْنٍ أو بِعَيْنٍ، ثم تصالحا على أن يأخذ عن ذلك عِوَضًا من غير جنسه، قال: أنت تُطالبني -مثلًا- بخمسين ألفًا، وأنا أُعطيك سيارةً. فيكون هذا بيعًا، وتجري عليه أحكام البيع.

وإن صالحه على أن يُؤجر له بيته لمدة شهرٍ، تكون ماذا؟

إجارة، تكون إجارةً، وتجري عليها أحكام الإجارة.

قال:

فلو صالحه عن الدَّين بعينٍ.

يعني: مما يتفرع على هذا التَّأصيل: أنه لو صالحه عن الدَّين بعينٍ.

واتَّفقا في عِلة الربا؛ اشتُرِطَ قَبْض العِوَض في المجلس.

يعني: هو أقرَّ له بِدَيْنٍ، ثم صالحه عن ذلك، قال: أُعطيك ذهبًا، أُعطيك بدل عشرة آلاف ريالٍ ذهبًا. فحينئذٍ يُشترط التَّقابض؛ لأننا قلنا: إنه بيعٌ، وعند بيع الذهب بِوَرَقٍ نقديٍّ لا بد من التَّقابض.

وبشيءٍ في الذِّمة.

لو اصطلحا على أن يُعطيه شيئًا في الذِّمة، قال:

يبطل بالتَّفرُّق قبل القبض.

لأن المسألة تُصبح حينئذٍ من قبيل بيع الدَّين بالدَّين.

هذا كله تفريعٌ على قول المؤلف: إنه يكون بيعًا، وتَثْبُت فيه أحكام البيع.

إذن نُجري عليه أحكام البيع، فإذا اتَّفقا على أن تكون العين في شيءٍ رِبَويٍّ ويُشترط له التَّقابض لا بد من التَّقابض في المجلس، وإذا كان بشيءٍ في الذمة فإنه يبطل بالتَّفرُّق قبل التَّقابض؛ لأنه يُصبح من قبيل بيع الدَّين بالدَّين.

المقصود أن نعتبر هذا بيعًا، وتجري عليه أحكام البيع.

الصُّلح عن عيبٍ في المبيع

قال:

وإن صالح عن عيبٍ في المبيع صحَّ.

لأنه يجوز أخذ العِوَض عنه.

مثال ذلك: رجلٌ اشترى سيارةً، ثم وجد فيها عيبًا وأراد أن يردَّها، فقال له البائع: أنا أُعوِّضك عن هذا العيب، كم تُقدِّر هذا العيب؟

ألف، ألفان، ثلاثة، أنا أُعوِّضك. فوافق، هل يصح هذا؟

نعم يصح، ولا مانع من هذا، ويكون هذا من قبيل الصُّلح.

فلو زال العيب سريعًا أو لم يكن؛ رجع بما دفعه.

يعني: لو كان يظن أنه عيبٌ، ثم بعد ذلك زال بسرعةٍ، فلم يكن هذا العيب مُستمرًّا ولا دائمًا، أو أنه لم يكن عيبًا، توهَّم أنه عيبٌ، وهو ليس عيبًا، فإنه يرجع هذا الآخذ على البَاذِل بما دفعه.

وإنما قلنا: يرجع؛ لأنه تبين عدم استحقاقه.

الصُّلح عن المجهول

قال:

ويصح الصُّلح عما تعذَّر علمه من دَينٍ أو عينٍ.

وهذا يُسميه الفقهاء بـ”الصُّلح عن المجهول” الذي عبَّر عنه المؤلف بقوله:

الصُّلح عما تعذَّر علمه من دَينٍ أو عينٍ.

وذلك كشركةٍ بين اثنين، يعني: مؤسسةً -مثلًا- أو محلًّا أو نحو ذلك، ثم اختلفا في الحسابات، وحاولا أن يُدَقِّقا وأن يعرف كل واحدٍ منهما ما له وما عليه، ولم يستطيعا ذلك، فما الحل؟

الحل هو الصُّلح، يُسمِّيه الفقهاء بـ”الصُّلح عن المجهول”، فيصطلحان ويُحلِّل كلٌّ منهما صاحبه؛ لأنه ليس هناك حلٌّ غير هذا، هل هناك خيارٌ غير هذا؟

ما يوجد، يعني: اثنين دخلا في أمورٍ ماليةٍ، ثم لم يعرف كلُّ واحدٍ منهما ما له وما عليه، فيصطلحان ويُحلِّل كلُّ واحدٍ منهما صاحبه.

والأصل في هذا حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله في مواريث دَرَسَتْ بينهما، وليس بينهما بيِّنةٌ، فقال رسول الله : إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشرٌ، ولعلَّ بعضكم أَلْحَنُ بِحُجَّته من بعضٍ، فأقضي على نحو ما أسمع، فمَن قضيتُ له بحقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعةً من النار يأتي بها في عنقه يوم القيامة [4].

انظر إلى هذه الكلمات العظيمة المُؤثرة، فبكى الرجلان، وقال كلُّ واحدٍ منهما: حقِّي لأخي. فقال رسول الله : أما إِذْ قُلْتُما فاذهبا فَاقْتَسِمَا، ثم تَوَخَّيا الحقَّ، ثم اسْتَهِمَا، ثم ليُحلل كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه [5].

وجاء في بعض ألفاظ الحديث: فَاقْتَسِمَا نصفين، يعني: إذا لم يتيسر التَّحري يقتسمان نصفين، أما إذا تيسر التَّحري يَتَحَرَّيان، ثم ليُحلل كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه لا بد من التَّحليل؛ لأن أحدهما قد يكون أخذ شيئًا ليس له.

ولهذا قال المُوفق ابن قدامة في صفة التَّحليل: “يقول القابض: إن كان لي عليك حقٌّ فأنت منه في حِلٍّ. ويقول الدافع: إن كنتَ أخذتَ أكثر من حقِّك فأنت منه في حِلٍّ”.

وإنما أمر النبي بأن يُحلل كلٌّ منهما صاحبه؛ لأن حقوق العباد -يا إخوان- أمرها عظيمٌ، حقوق العباد مبناها على المُشاحة، بينما حقوق الله مبناها على المُسامحة، فالله قد يعفو عن حقِّه، لكن حقوق العباد باقيةٌ؛ ولهذا عظَّم النبي شأن حقوق العباد فقال في أعظم مجمعٍ في عهده عليه الصلاة والسلام: أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [6].

هل هناك أعظم من حُرمة اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام؟

هكذا حُرمة دم المسلم وماله وعِرْضه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ لَقِيَ الله وهو عليه غضبان -كما في الصحيحين- فقال رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قَضِيبًا من أراكٍ.

وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنه يُغْفَر للشهيد كل شيءٍ إلا الدَّين [7]، فالشهيد الذي باع نفسه لله يُغْفَر له كل شيءٍ إلا ما كان مُتعلقًا بحقوق العباد.

فينبغي إذن أن نُعظِّم هذه المسألة، يعني: يجعلها المسلم مبدأً له في الحياة: تعظيم شأن حقوق العباد، فلا يجعل لأحدٍ عليه حقًّا: لا في عِرْضٍ، ولا في مالٍ، ولا في دمٍ؛ لأننا نجد -في الحقيقة- التَّساهل في هذا؛ التَّساهل في شأن حقوق العباد!

وسبحان الله! تجد بعض الناس عندهم وَرَعٌ في هذا.

قبل أيامٍ أتى إليَّ رجلٌ يستفتي في هذا المسجد، يقول: إنه اشترى تمرًا، وإنه ذهب ليصرف خمسمئةٍ، ثم بعد ذلك ما يدري أين البائع؟ قد أخذ التمر.

يقول: إنه ذهب مرتين إلى مكانه، وكان المكان يبعد عن الرياض مئة كيلو، وسافر مرتين يبحث عنه ولم يجده؛ لأجل أن يُوصل له في حدود عشرين ريالًا تقريبًا، أو قريبٌ من هذا المبلغ، وسافر مرتين من الرياض إلى هذا المكان -مئة كيلو أو تزيد- حتى يبحث عنه فيُعطيه حقَّه.

فتجد بعض الناس عندهم عنايةٌ كبيرةٌ بهذه المسألة: مسألة تعظيم شأن حقوق العباد وعدم التَّساهل بها.

إذن الصُّلح على المجهول، إذا تصالحا على المجهول من عينٍ أو دَينٍ يُحَلِّل كلٌّ منهما صاحبه.

قال:

وأَقِرَّ لي بِدَيني وأُعطيك منه كذا. فَأَقَرَّ.

يعني: لو قال: أَقِرَّ لي بِدَيني وأُعطيك منه كذا.

فَأَقَرَّ؛ لَزِمَه الدَّين، ولم يَلْزَمه أن يُعْطِيه.

يعني: هذه من الحِيَل الصحيحة: إنسانٌ جَحَدَ دَيْنَك، فقلتَ له: “أَقِرَّ لي بالدَّين وأُعطيك”، فإذا أَقَرَّ لزمه، لكن لا يلزمك أن تُعطيه، وإنما يلزمه إذا أقرَّ؛ لأنه لا عُذر لمَن أقرَّ.

هذه قاعدةٌ من القواعد الفقهية: “لا عُذر لمَن أَقَرَّ”، وكما يُقال: “الإقرار هو سيد الأدلة”، سيد الأدلة الإقرار، يعني: الإنسان العاقل لا يُمكن أن يُقِرَّ على نفسه إلا بشيءٍ صحيحٍ.

إذن يلزمه الدَّين؛ لأنه قد أقرَّ بحقٍّ يَحْرُم عليه إنكاره.

“ولم يلزمه أن يُعطيه”؛ لأن المَدِين يجب عليه الإقرار بما عليه من الحقِّ، فلم يَحِلَّ له أخذ العِوَض عما يجب عليه.

فنقول له: الإقرار أمرٌ واجبٌ عليك، فيجب عليك أن تُقِرَّ، ولا يلزم هذا أن يُعطيه، وتكون هذه من الحِيَل الصحيحة لكي يحصل هذا الدائن على حقِّه، يقول: “أَقِرَّ لي وأُعطيك”، ثم إذا أَقَرَّ له يُشْهِد شاهدين عليه، ولا يلزمه أن يُعطيه.

القسم الثاني: الصُّلح على إنكارٍ

ثم قال المؤلف رحمه الله:

فصلٌ:
وإذا أنكر دعوى المُدَّعي.

انتقل المؤلف إلى الكلام عن القسم الثاني وهو: الصُّلح على إنكارٍ، وفسَّره المؤلف بقوله:

وإذا أنكر دعوى المُدَّعي أو سكت وهو يجهل، ثم صالحه؛ صحَّ الصُّلح.

الصُّلح على إنكارٍ معناه: أن يدَّعي شخصٌ على آخر بِدَيْنٍ له في ذمته أو بعينٍ، فيسكت المُدَّعى عليه، أو وهو يجهل المُدَّعى به، أو لا يجهله.

المؤلف قال: “أو سكت وهو يجهل، ثم صالحه” يعني: يُنْكِر أو يسكت وهو يجهل، فيُصالحه عن دعواه بمالٍ.

مثال ذلك: رجلٌ ادَّعى على آخر أنه يُطالبه بعشرة آلاف ريالٍ، فقال المُدَّعى عليه: أنا لا أتذكر أنك تُطالبني بعشرة آلاف ريالٍ، ولا أعرف أن لك حقًّا عندي. فقال المُدَّعي: بلى، أُطالبك بعشرة آلاف ريالٍ، فهل تُسدِّد أو أرفع فيك شكايةً؟ فقال: أُعطيك ألفين وتسحب شَكْوَاك. قال: نعم. فهذا يُسمَّى: صلحًا على إنكارٍ.

قال: “ثم صالحه؛ صحَّ الصُّلح”، والقول بصحة الصُّلح على إنكارٍ هو قول الجمهور.

وخالف في ذلك الشافعية فقالوا: إنه لا يصح الصُّلح على إنكارٍ؛ ولأن هذا الذي يأخذ مالًا قد يأخذه بغير حقٍّ.

والصحيح هو قول الجمهور، وهو صحة الصُّلح على إنكارٍ.

طيب، ما فائدة الصُّلح على إنكارٍ؟ هل فيه فائدةٌ؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، فيه قطع الخُصومة؛ لأن فيه قطعًا للخُصومة، وافتداءً لِيَمِينه، وصيانةً لنفسه عن التَّبذل والمُخاصمات؛ لأن بعض ذوي النفوس الشريفة يأنفون من المُرافعة في مجلس الحكم، ويصعب عليهم ذلك، فيدفعون المال للإبراء من ذلك، ففيه فائدةٌ عظيمةٌ.

يعني: إنسانًا تسلَّط عليك، قال: أنا أُطالبك بمالٍ. وأنت قلتَ: لا أتذكر أنك تُطالبني بمالٍ. لكن تسلَّط وذهب ورفع فيك شكايةً، ثم أُعطيتَ ورقةً بأنك لا بد أن تحضر في مجلس القضاء في اليوم الفلاني، فأنت تُريد أن تقطع الخُصومة، وأيضًا لا تُريد أن تُبْتَذل، وكل يومٍ يُجَرْجِرُك إلى المحكمة ومواعيد، فتقول: أُعطيك مبلغًا من المال وتسحب شكايتك. فهذا لا بأس به، هذا يُسمَّى: الصُّلح على إنكارٍ، ففيه فائدةٌ عظيمةٌ، يعني: القول بصحته فيه فائدةٌ عظيمةٌ.

ثم أيضًا لو ذهبتَ لمجلس الحكم فالبينة على المُدَّعي، واليمين على مَن أنكر، يعني: قد لا تكون للمُدَّعي بينةٌ، لكن سيطلب منك القاضي اليمين -أن تحلف- وبعض الناس يصعب عليه الحلف ولو كان صادقًا.

إذن في هذا الصُّلح افتداء ليمينه.

طالب: …….

الشيخ: هذه وجهة الشافعية، يقولون: لا تفتحوا الباب للمُتلاعبين، لكن في الحقيقة ليس فيه فتح بابٍ، وأيضًا فيه تخلُّصٌ، فهذا إنسانٌ تسلَّط ورفع فيك شكايةً، وكل يومٍ يُتعبك ويُجَرْجِرُك للمحكمة، وأنت تُريد أن تتخلص منه، فتُعطيه مبلغًا من المال وتُسكته.

وهذا يقودنا أيضًا لمسألة -وعلى كل حالٍ سيُشير لها المؤلف-: هل يَحِلُّ له أخذ المال أم لا؟

طيب، إذن القول الراجح هو صحة الصُّلح على إنكاره، وهو قول الجمهور؛ ولهذا قال المؤلف:

صحَّ الصُّلح، وكان إبراءً في حقِّه، وبيعًا في حقِّ المُدَّعي.

طالب: …….

الشيخ: دقيقة فقط ننتهي من هذه المسألة.

حكم الصُّلح في حقِّ مَن علم بكذب نفسه

ومَن علم بكذب نفسه فالصلح باطلٌ في حقِّه، وما أخذ فحرامٌ عليه.

يعني: مَن علم بكذب نفسه -سواء كان المُدَّعي أو المُدَّعى عليه- فإن الصُّلح في حقِّه باطلٌ باطنًا، أما ظاهرًا فصحيحٌ.

يعني: أخذ ثلاثة آلافٍ، أو أربعة آلافٍ، أو أقلّ، أو أكثر، لكن باطنًا فيما بينه وبين الله إن كان يعلم كذب نفسه؛ فإن الصُّلح في حقِّه باطلٌ، فإذا قال: أُطالبك بعشرة آلاف ريالٍ. وهو كاذبٌ يُريد أن يُعطيه ألفًا أو ألفين، فهو حرامٌ عليه، وما يأخذه -بناءً على هذا- مالٌ مُحرَّمٌ.

وهكذا لو كان الكذب من المُدَّعى عليه، فلو كان المُدَّعي صادقًا فيما يطلبه، لكن المُدَّعى عليه أنكر وأراد أن يُعطيه مالًا لأجل ألا يأخذ منه المبلغ كاملًا، فهو حرامٌ عليه المال المُتبقي؛ لأن هذا من أكل المال بالباطل، وقد قال الله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].

ولهذا قال المؤلف:

ومَن علم بكذب نفسه فالصلح باطلٌ في حقِّه.

يعني: باطنًا.

وما أخذ فحرامٌ.

ما الفرق بين المصطلحين: باطنًا وظاهرًا؟

دائمًا يتكرر هذا في كتب الفقه: باطنًا وظاهرًا.

يعني: باطنًا فيما بينه وبين الله، أما ظاهرًا ففيما بينه وبين الناس وأمام القاضي، فهو صُلحٌ صحيحٌ.

أعطاه -مثلًا- ألفي ريالٍ، وقال: اسحب الشِّكاية. فذهب وسحب الشِّكاية وتنازل عن رفع الدَّعوى، لكن فيما بينه وبين الله لا تبرأ ذِمَّته، هذا معنى: باطنًا.

طالب: …….

الشيخ: نعم، إذا ادُّعِيَ عليه ينوي إبراء ذمَّته وقطع الخُصومة والافتداء ليمينه، ينوي هذه النية.

طالب: …….

الشيخ: لا، إذا كان كاذبًا لا يجوز، أما إذا كان صادقًا ..

طالب: …….

الشيخ: نعم، المهم أنه لا يعلم بأنه كاذبٌ في دعواه، سواء كان مُدَّعِيًا أو مُدَّعًى عليه، إذا كان لا يعلم واصْطَلَحا لا بأس، لا حرج، وإذا كان يجهل أو يَشُكُّ يطلب منه أن يُحَلِّله كما ذكرنا.

قال:

ومَن قال: صالحني عن المِلْك الذي تدَّعيه، لم يكن مُقِرًّا.

“لم يكن مُقِرًّا” يعني: لم يكن مُقِرًّا له بالمِلْك؛ لاحتمال إرادة صيانة نفسه عن التَّبذل وحضور مجلس الحكم بذلك.

يعني: إنسانًا ادَّعى على آخر عقارًا أو نحو ذلك، فأكثر عليه، قال: طيب، صالحني عن هذا العقار الذي تدَّعيه. هل معنى هذا أنه أَقَرَّ له به؟

لا يُعتبر هذا إقرارًا له، وإنما أراد قطع الدعوة، وقطع المُنازعة، وقطع الخُصومة، والافتداء لِيَمِينه.

إذن لا يكون بهذه الكلمات أو بهذه العبارة مُقِرًّا له.

حكم الإذن في الصُّلح عن مُنكر الدعوى

وإن صالح أجنبيٌّ عن مُنْكِرٍ للدعوى صحَّ الصُّلح، أَذِنَ له أو لا.

مَن يُصوِّر لنا هذه المسألة؟

أُريد -يا إخواني- أن تُشاركوا في الاستنباط والتصوير؛ لأن هذه هي التي تُنَمِّي المَلَكَة.

أُعيد العبارة مرةً أخرى: وإن صالح أجنبيٌّ عن مُنْكِرٍ للدعوى صحَّ الصُّلح، أَذِنَ له أو لا.

طالب: …….

الشيخ: نعم، أحسنتَ.

يعني: هذا الرجل رفع شكايةً في آخر يُطالبه بعشرة آلاف ريالٍ، فأتى رجلٌ من المُحسنين وقال: يا فلان، أُعطيك ثمانية آلافٍ وتسحب دعواك. رجلٌ أجنبيٌّ، فَقَبِلَ، فيكون قد صالحه أجنبيٌّ، فيصح هذا الصُّلح.

هذا معنى قوله: “وإن صالح أجنبيٌّ عن مُنْكِرٍ للدعوى”، يعني: المُدَّعى عليه هو المُنكر، يقول: ليس له عندي شيءٌ. لكن أتى إنسانٌ مُحسنٌ -طرفٌ ثالثٌ أجنبيٌّ- وقال: أُعطيك ثمانية آلاف ريالٍ وتسحب دعواك. فهذا يصح.

“أَذِنَ له أو لا” يعني: حتى لو لم يأذن له المُدَّعى عليه، لو قال المُدَّعى عليه: لا، لا تُعطه شيئًا، ليس له عندي شيءٌ أبدًا، ولا تُعْطِه شيئًا، ولا أسمح لك أن تُعطيه شيئًا. فهل يملك هذا؟

ما يملك، حتى لو لم يأذن له؛ وذلك لجواز قضائه عن غيره بإذنه وبغير إذنه؛ لقضاء أبي قتادة الدَّين عن الميت من غير الرجوع إلى ورثته، فإن النبي كان إذا أراد أن يُصلِّي على جنازةٍ سأل: هل عليه دَينٌ؟ فإن قالوا: “عليه دَينٌ” لم يُصَلِّ عليه [8]، وأُتِيَ ذات مرةٍ بجنازةٍ، فقال : أعليه دَينٌ؟ قالوا: نعم، عليه ديناران. فرجع عليه الصلاة والسلام، فقال أبو قتادة : هما عليَّ يا رسول الله. فصلَّى عليه رسول الله [9].

الشاهد: أن أبا قتادة قضى الدَّين عن الميت ولم يرجع للورثة، لم يستأذن من الورثة، فدلَّ ذلك على أنه لو أراد إنسانٌ أن يُصلح بين اثنين لا يُشترط إذن المُدَّعى عليه، أو المُنْكِر للدعوى، لكن هل يرجع عليه أم لا؟ هل يرجع عليه بالدَّين أم لا؟

قال:

لكن لا يرجع عليه بدون إذنه.

إذا كان بدون إذنه، لم يأذن له، قال: لا أسمح لك أن تُسدِّد. فإنه لا يرجع عليه؛ لأنه أدَّى عنه ما لا يلزمه، فكان مُتبرعًا.

أما إن كان قضاؤه للدَّين بإذنه فهل يرجع عليه؟

يعني: إنسانًا يطلب من آخر عشرة آلاف ريالٍ، والمُدَّعى عليه مُنْكِرٌ، وأتى إنسانًا -طرفًا ثالثًا- وقال: يا فلان، ما رأيك أن تُعطيه ثمانية آلاف ريالٍ ويسحب شكايته؟ فقبل هذا الطرف الثالث، فهل يرجع على المُدَّعى عليه؟

نعم، يرجع إذا نوى الرجوع، أما إذا لم يَنْوِ الرجوع فيكون مُتبرعًا، فيرجع عليه إذا نوى الرجوع؛ لأنه وكيله، في هذه الحالة يُعتبر وكيله، ويُعتبر قائمًا مقامه، لكن لا بد أن يكون قد نوى الرجوع ولم يَنْوِ التَّبرع.

كيف نعرف أنه نوى الرجوع أو لم يَنْوِ؟

بإقراره، فإن أنكر فاليمين، يحلف: هل نويتَ الرجوع أو لم تَنْوِ الرجوع؟

حكم مَن صالح عن شيءٍ فَبَانَ العِوَض مُستحقًّا

قال:

ومَن صالح عن دارٍ أو نحوها، فَبَانَ العِوَض مُستحَقًّا؛ رجع بالدار مع الإقرار، وبالدعوى مع الإنكار.

يعني: هذا إنسانٌ صالح عن دارٍ بِعِوَضٍ، ثم إن هذا العِوَض تبيَّن أنه مُستحَقٌّ لغير المُصَالِح، كأن كان -مثلًا- العِوَض قِنًّا أو رقيقًا، فَبَانَ حُرًّا، أو نحو ذلك، فإن هذا الذي قد صالحه يرجع بالدار، يعني: يأخذها؛ لأنه قد صالح عن هذه الدار بهذا العِوَض، ثم تبيَّن أن هذا العِوَض مُستحَقٌّ لغير المُصَالِح؛ فيرجع بالدار.

أما إذا كان الصُّلح على إنكارٍ فإنه يرجع بالدعوى قبل الصُّلح، فيقع الأمر كما كان من قبل الصُّلح، يعني: ترجع الدعوى كما كانت، وكأن شيئًا لم يكن.

حكم الصُّلح عن خِيَارٍ، أو شُفْعَةٍ، أو حَدِّ قذفٍ

قال:

ولا يصح الصُّلح عن خِيَارٍ، أو شُفْعَةٍ، أو حَدِّ قذفٍ، وتسقط جميعها.

“الصُّلح عن خِيَارٍ أو شُفْعَةٍ أو حَدِّ قذفٍ” يعني: إنسانًا له حقُّ الخيار، فيأتي إنسانٌ ويقول: يا فلان، أسقط حقَّ الخيار وأُعطيك ألف ريالٍ. أو حقّ شُفْعَةٍ -وستأتي إن شاء الله تفاصيل الكلام عن الشُّفْعَة- فيأتي مُشْتَرٍ ويقول: يا فلان، أنت لك حقّ الشُّفْعَة، فأُعطيك خمسة آلاف ريالٍ وتُسقط حقَّك في الشُّفْعَة.

“أو حَدِّ قذفٍ” إنسانٌ قذف آخر، ثم إنه رفع فيه شكايةً، فحكم القاضي بأن يُجْلَد القاذف ثمانين جلدةً، فأتى إليه -أتى القاذف للمقذوف- وطلب منه أن يعفو عنه، وقال: خُذْ عشرين ألف ريالٍ مقابل أنك تعفو عني. يقول المؤلف: إن هذا لا يصح، إنه لا يصح الصُّلح في هذه الأمور الثلاثة.

وعللوا لذلك قالوا: لأنها لم تُشْرَع لاستفادة مالٍ، بل الخيار للنظر في الأَحَظِّ، والشُّفْعَة لإزالة ضرر الشركة، وحَدُّ القذف للزَّجر عن الوقوع في أعراض الناس.

“وتسقط جميعها” يعني: إذا صالح في هذه الأمور الثلاثة تسقط، فإذا قال: صالحني عن الخيار؛ سقط الخيار، وإذا قال: صالحني عن الشُّفْعَة؛ سقط حقُّه في الشُّفْعَة، وإذا قال: صالحني عن حقِّك في حَدِّ القذف؛ سقط حقُّه في حَدِّ القذف.

هذا -في الحقيقة- مما يُضعف هذا القول، قالوا: لأنه لما صالح عنها فمعنى ذلك: أنه قد رضي بتركها.

والقول الثاني في المسألة: أنه يصح الصُّلح فيها كلها؛ يصح الصُّلح عن الخيار، ويصح الصُّلح عن الشُّفْعَة، ويصح الصُّلح عن حَدِّ القذف؛ وذلك لعموم قول النبي : الصُّلح جائزٌ بين المسلمين إلا صُلحًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا [10]، والصُّلح في هذه الأمور الثلاثة لم يُحِلَّ حرامًا، ولم يُحرِّم حلالًا.

ثم إن له حقًّا في الخيار، وله حقًّا كذلك في الشُّفْعَة، وله حَقًّا كذلك في المُطالبة بحقِّه في القذف، وهو قد رضي بإسقاط حقِّه مقابل عِوَضٍ ماليٍّ، فأيُّ شيءٍ يمنع من هذا؟

هذه من جنس حقوق الآدميين التي تجوز المُعاوضة عنها.

وأما قولهم: إنها لم تُشْرَع للاستفادة من مالٍ. فهذا هو الأصل: أنها لم تُشْرَع للاستفادة من مالٍ، لكن لو أراد مَن له الحقُّ فيها المُعاوضة عنها بمالٍ فلا مانع يمنع من ذلك.

وهذا القول الثاني هو القول الراجح: أنه يصح الصُّلح عن الخيار، وعن الشُّفْعَة، وعن حَدِّ القذف على قول الجمهور بأنه حقٌّ لآدميٍّ.

وقد اختار هذا القول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في كتابه “المختارات الجلية من المسائل الفقهية”، وهذا كتابٌ لطيفٌ، وهو استدراكٌ على “الروض”، يعني: أخذ “الروض” كله من أول بابٍ من “الطهارة” إلى “الإقرار”، أخذ المسائل التي استدرك فيها على البُهوتي: والصحيح كذا، والصحيح كذا، والصحيح كذا.

فهو كتابٌ لطيفٌ اسمه “المختارات الجلية من المسائل الفقهية”، كتابٌ مفيدٌ جدًّا أنصح بقراءته، يقول: والصحيح كذا. يعني: استدراكًا على صاحب “الروض”، ويذكر الدليل، بدأ -مثلًا- باب “الطهارة” فقال: الصحيح كذا. وفي الصُّلح -مثلًا- قال: والصحيح أنه يجوز الصُّلح عن الخيار والشُّفْعَة وحَدِّ القذف. ثم يذكر التَّوجيه، ويذكر الدليل.

وأيضًا اختار هذا القول ورجَّحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهو الأقرب والأظهر: أنه ليس هناك مانعٌ يمنع من الصُّلح عن هذه الأمور الثلاثة، فهي حقوقٌ لآدميين، وما دامتْ حقوقًا لآدميين فتجوز المُعاوضة عنها.

طالب: …….

الشيخ: لكنه حقٌّ لآدميٍّ، صحيحٌ أنه حَدٌّ، لكن الآدمي يملك أن يعفو عنه.

افترض أن القاضي حكم بأن يُجْلَد فلانٌ ثمانين جلدةً، فقال المقذوف: أنا سامحتُه، عفوتُ عنه.

طالب: …….

الشيخ: هذا خاصٌّ بِحَدِّ القذف؛ لأنه حقُّ آدميٍّ، أما الحدود الأخرى فلا، إذا بلغت السلطان فلا تقبل العفو.

هذا على قول الجمهور بأن حَدَّ القذف حقٌّ لآدميٍّ، وهو الصحيح.

أما على قول الحنفية بأن حَدَّ القذف حقٌّ لله، فيقولون: إنه لا يصح الصُّلح فيه، ولا يملك المقذوف العفو.

لكن الصحيح هو قول الجمهور: أنه حقٌّ لآدميٍّ، وإن كان قول الحنفية قولًا قويًّا في الحقيقة، لكن الذي عليه أكثر أهل العلم أنه حقٌّ لآدميٍّ، وإذا كان حقًّا لآدميٍّ فإنه يجوز الصُّلح والمُعاوضة عليه، وهذا هو الذي عليه العمل.

يعني: تجد أنه عندما يقذف إنسانٌ آخر، ويُحْكَم عليه أو نحو ذلك، تجد -في الغالب- أن القاذف يُعْطِي المقذوف عِوَضًا، ويقبل المقذوف إذا أعطاه عِوَضًا، يعني: لو قلنا بعدم جواز ذلك لربما لَحِقَه الحرج.

فما دام أن هذا فيه مصلحةٌ للطرفين؛ هذا المقذوف يأخذ مالًا، والقاذف يَدْرَأ عنه حَدَّ القذف، ففيه مصلحةٌ للطرفين، فالذي يظهر أن مثل هذا يجوز -والله أعلم- باعتبار أنه حقٌّ لآدميٍّ.

طالب: …….

الشيخ: لا، السرقة حقٌّ لله ، وإذا كانت بلغت السلطان فلا تجوز الشفاعة فيها، ويجب إقامة الحَدِّ، وإن كان فيها جانبٌ لآدميٍّ، فيها حقٌّ لآدميٍّ، والمال المسروق يُعاد لهذا الآدمي، لكنها في الأصل حقٌّ لله ، الحدود كلها حقوقٌ لله ما عدا حَدَّ القذف.

طالب: …….

الشيخ: نعم، لو انتشر -مثلًا- القذف في بلدٍ، ورأى الحاكم أن يأخذ بقول الحنفية فهذا يدخل في باب السياسة الشرعية، ويمكن أن يأخذ به حتى يَحُدَّ من انتشار القذف في ذلك البلد.

حكم أخذ العِوَض من أجل إطلاق شارب الخمر أو السارق

طيب، قال:

ولا شاربًا أو سارقًا لِيُطْلِقَهُ.

يعني: لا يجوز الصُّلح، لا يجوز أن يُصَالِح شارب الخمر مَن قَبَضَ عليه لأجل أن يُطْلِقَه، وهكذا السارق لا يجوز أن يُعطيه مالًا لأجل أن يُطْلِقَه؛ لأنه لا يجوز أخذ العِوَض في مُقابلة ذلك، فليس بحقٍّ له أصلًا.

لو أن إنسانًا قبض على سارقٍ، فقال السارق: أُعطيك ألف ريالٍ واتركني. لا يجوز أن يأخذ منه هذا المبلغ، أو قبض على شارب خمرٍ، فقال: أُعطيك هذه ألف ريالٍ، خُذْها واتركني. لا يجوز هذا.

لكن هل يَسْتُر عليه أو يُبَلِّغ عنه؟

هذه مسألةٌ أخرى: إذا كانت المصلحة تقتضي السَّتر سَتَرَ عليه، وإذا كانت تقتضي الإبلاغ عنه أبلغ عنه، بحسب ما تقتضيه المصلحة.

حكم أخذ العِوَض على كتم الشهادة

أو شاهدًا لِيَكْتُمَ شهادته.

يعني: لا يجوز أن يأخذ عِوَضًا هذا الشاهد لأجل كتم الشهادة؛ وذلك لتحريم كتمان الشهادة أصلًا، فلا يجوز أخذ العِوَض على ذلك.

وهكذا لو صالحه على ألا يشهد عليه بالزور، يقولون: لا يجوز ذلك.

يعني: إنسانًا ادَّعى على آخر، وهذا المُدَّعي مُبْطِلٌ، وعنده شهود زُورٍ جاهزون، فأتى المُدَّعى عليه بشاهد الزُّور، وقال: أُعطيك ألف ريالٍ ولا تشهد عليَّ.

يقولون: لا يجوز هذا؛ لأنه لا يجوز أن يأخذ هذا المال، وما دام أنه لا يجوز أخذه فلا يجوز بذله؛ ولأنه يجب على الشاهد أصلًا ترك ذلك، ويَحْرُم فعله، فلم يَجُزْ أخذ العِوَض عليه.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن أحكام الجوار.

مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”

قبل أن ننتقل للكلام عن أحكام الجوار هناك مسألةٌ مهمةٌ لم يذكرها المؤلف مع أهميتها، وهي مسألة “الحَطِيطة”، وتُسمَّى بمسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”، وتُسمَّى مسألة “المُصالحة عن الدَّين المُؤجَّل ببعضه حالًّا”.

صورة المسألة: أنت تُطالب زيدًا من الناس بعشرة آلاف ريالٍ، ويَحُلُّ هذا الدَّين بعد سنةٍ، ثم إنك بعد مُضي ستة أشهرٍ أتيتَ إليه وقلتَ له: أنا أُطالبك بعشرة آلاف ريالٍ تَحُلُّ بعد ستة أشهرٍ، فأعطني الآن ثمانية آلاف وأُسْقِط عنك ألفين، عَجِّل لي الدَّين وأُسْقِط عنك بعضه.

هذه المسألة تُسمَّى “ضَعْ وتَعَجَّل”، وتُسمَّى “الحَطِيطة” و”المُصالحة عن الدَّين المُؤجل ببعضه حالًّا”.

وقد اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين:

  • القول الأول: أنه لا تجوز مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”، ورُوِيَ هذا عن عددٍ من الصحابة والتابعين، وهو قول الأئمة الأربعة، أو مذهب الأئمة الأربعة: مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، المذاهب الأربعة على تحريم مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”.
  • والقول الثاني في المسألة: جواز التَّعامل بمسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”، ورُوِيَ هذا القول عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وهو قولٌ لبعض الحنفية، وروايةٌ عند الحنابلة.

استدلَّ الجمهور -أصحاب القول الأول- لقولهم بعدم جواز مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”:

أولًا: بما جاء في سُنن البيهقي عن المقداد بن الأسود قال: أسلفتُ رجلًا مئة دينارٍ، ثم خرج سهمي في بَعْثٍ بعثه رسول الله ، فقلتُ له: عَجِّل لي تسعين دينارًا وأَحُطُّ عشرة دنانير. فقال: نعم. فذكر ذلك لرسول الله فقال: أكلتَ ربًا يا مقداد وأَطْعَمْتَه [11].

وهذا الحديث لو كان صحيحًا لكان صريحًا في المسألة، لكنه ضعيفٌ، من جهة الإسناد لا يصح.

واستدلوا من جهة النظر قالوا: لأنه إذا تَعَجَّل البعضَ وأَسْقَط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه، فهو كما لو أجَّل وزاد؛ لو أجَّل الدَّين وزاد في مقداره، فإنه ربا بالإجماع.

قالوا: وأيُّ فرقٍ بين أن يقول: عَجِّل لي وأضع عنك، أو أجِّل لي وأزيد عليك؟

هذه وجهة الجمهور.

واستدلَّ أصحاب القول الثاني -القائلون بالجواز- بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: لما أراد رسول الله أن يُخْرِج بني النَّضير قالوا: يا محمد، إنك أمرتَ بإخراجنا، وإن لنا ديونًا لم تَحُلّ؛ لأنهم كان خروجهم مُفاجئًا، أتاهم من حيث لم يحتسبوا، فقال عليه الصلاة والسلام: ضَعُوا وتَعَجَّلوا، هذا الحديث أخرجه الطحاوي والبيهقي والدارقطني والحاكم [12].

وقال عنه ابن القيم في “تهذيب السنن”: “إنه على شرط السُّنن“، قال: “قد ضعَّفه البيهقي، وإسناده ثقاتٌ، وإنما ضُعِّف بمسلم بن خالد الزنجي، وهو ثقةٌ فقيهٌ، روى عنه الشافعي واحتجَّ به”.

وصححه كذلك الحاكم، وله شاهدٌ عند البيهقي، فلعله بشاهده يرتقي لدرجة الحَسَن، لا سيما وأن ضعف مسلم بن خالد إنما هو من جهة الحفظ، والراوي إذا كان ضعيفًا من جهة الحفظ ووُجِدَ للحديث الشاهد فإنه يتقوَّى به.

وهذا الحديث صريح الدلالة في جواز مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”: ضَعُوا وتَعَجَّلوا.

وابن القيم أيضًا قال استدلالًا لهذا القول من جهة النَّظر: “إن مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل” ضد الربا صورةً ومعنًى، فإن الربا يتضمن الزيادة في الأجل والدَّين، وذلك إضرارٌ مَحْضٌ بالغريم، أما مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل” فإنها تتضمن براءة ذِمة الغريم من الدَّين، وانتفاع صاحبه بما يتعجَّله، فكلاهما مُنتفعٌ من غير ضررٍ، بخلاف الربا المُجْمَع على تحريمه، فإن ضرره لاحِقٌ بالمدين، ونفعه مُختصٌّ بِرَبِّ الدَّين؛ ولأن للشارع تطلُّعًا إلى براءة الذِّمم من الديون”، وهذه المسألة هي ضد الربا صورةً ومعنًى.

وهذا القول هو القول الراجح، وهو جواز مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”، اختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم: اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وهو الذي يُفتي به مشايخنا، عامة مشايخنا يُفتون بهذا الرأي: الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، وعامة علماء مشايخنا يُفتون بهذا القول، وهو جواز مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”.

وأما استدلال الجمهور:

أما حديث المقداد بن الأسود فكما قلنا: ضعيفٌ.

وأما قولهم: إنها تُقاس على زيادة الدَّين مع زيادة الأجل. فهذا قياسٌ مع الفارق؛ لأن الربا في الأصل هو الزيادة، فزيادة الدَّين مقابل الأجل فيها إضرارٌ مَحْضٌ بالمدين، أما مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل” فليست فيها زيادةٌ، وإنما إسقاطٌ، فيها إسقاطٌ لبعض الدَّين مقابل إسقاط بعض الأجل، فأين الزيادة؟ الربا في الأصل هو الزيادة.

ولهذا قال ابن القيم -أنقل لكم عبارة ابن القيم-: “إن الذين حرَّموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: “إما أن تُرْبِي، وإما أن تقضي”، وقوله: “عَجِّل لي وأَهَبُ لك مئةً”، فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نصَّ في تحريم ذلك، ولا إجماع، ولا قياس صحيح”.

إذن الصواب هو جواز مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”.

والعجب: كيف أن القول الأول هو الذي عليه المذاهب الأربعة كلها؟!

هذا فيه رَدٌّ على مَن يَحْصُر الحقَّ في المذاهب الأربعة، ويقول: لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة. هذا قولٌ ضعيفٌ، والحق يكون في أقوالٍ أخرى غير ما عليه المذاهب الأربعة، وهذه المسألة خير مثالٍ، فإن الصواب هو جواز مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”.

أحكام الجوار

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن أحكام الجوار، قال:

فصلٌ.

عَقَدَه في بيان أحكام الجوار، وإنما يذكر الفقهاء أحكام الجوار بعد ذكر أحكام الصُّلح؛ لأن الجوار مظنَّةٌ لحصول المُنازعات، وهذه المُنازعات يُمكن حلُّها عن طريق الصُّلح.

والجار قد أوصى الإسلام به، فالله يقول: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36]، فذكر الله الجار ذا القُربى، وهو الجار القريب الذي بينك وبينه قرابةٌ، فله حقُّ الإسلام، وحقُّ الجوار، وحقُّ القرابة.

وَالْجَارِ الْجُنُبِ يعني: الجار البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابةٌ، فله حقُّ الإسلام وحقُّ الجوار.

لو كان الجار غير مسلمٍ فله حقُّ الجوار، قال عليه الصلاة والسلام: ما زال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُورِّثه [13].

حكم إجراء الماء في أرض الغير بغير إذنه

قال:

يَحْرُم على الشخص أن يُجْرِي ماءً في أرض غيره أو سَطْحِه بلا إذنه.

وذلك لأن فيه تصرُّفًا في أرض غيره بغير إذنه فلم يَجُزْ، كما لو زرع فيها بغير إذنه.

ويصح الصُّلح على ذلك بِعِوَضٍ.

يعني: إذا احتاج الجار إلى إجراء الماء على أرض جاره، وتصالحا على ذلك بِعِوَضٍ؛ صحَّ ذلك، والصُّلح جائزٌ بين المسلمين إلا صُلحًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا [14].

فإن كان ذلك الصُّلح مع بقاء مِلْك صاحب الأرض فهذا الصُّلح يُعتبر إجارةً، أما إذا كان مع زوال مِلْك صاحب الأرض في ذلك الجدول أو المكان الذي يمرُّ فيه الماء -كان مع زوال مِلْكه- فيكون بيعًا.

طيب، إن رفض صاحب الأرض أن يُجْرِي جارُه ماءَه على أرضه، قال: يا فلان، أنا أحتاج إلى أن أُجْرِي الماء على أرضك. هذا ربما يحتاج له الناس في الأماكن التي يستقون فيها من الأنهار ونحوها أو العيون، فإذا احتاج إلى أن يُجْرِي ماءَه على أرضِ جاره، فرفض صاحب الأرض، فإن لم تكن للجار حاجةٌ ولا ضرورةٌ فليس له أن يُجْرِي ماءَه على أرض جاره إلا بإذنه، لكن إذا اضطرَّ ولم يكن له طريقٌ إلا طريق أرض جاره، ولو لم يَسْقِ مزرعته عن طريق أرض جاره لَهَلَك زرعُه، فرفض جاره، قال: أبدًا، هذه أرضي، ولا أسمح لك أن تُمِرَّ الماء عن طريق مزرعتي. فما الحكم؟

هو ليس عليه ضررٌ، لكن يقول: أنا حُرٌّ، هذه مزرعتي، ما أسمح لفلانٍ أن يُمِرَّ الماء على أرضي.

طالب: …….

الشيخ: طيب، رفض، ما يُريد عِوَضًا، ولا يُريد شيئًا.

طالب: يُجْبَر.

الشيخ: يُجْبَر، نعم، إذا رفض فإنه يُجْبَر، ويُجْبِره الحاكم، وإن كان بعض الفقهاء قال: إنه لا يُجْبَر. لكن القول بأنه لا يُجْبَر قولٌ ضعيفٌ، والصواب الذي تدل له القواعد والأصول: أنه يُجْبَر، كما هو قول الإمام أحمد رحمه الله، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويُجْبِره الحاكم في حال امتناعه من ذلك مع حاجة جاره إلى إجراء الماء على أرضه.

ويدل لهذا ما رواه مالكٌ في “الموطأ” بسندٍ صحيحٍ في قصة الضحاك بن خليفة لما ساق خليجًا لأرضه من العُرَيْضِ -العُرَيْضِ: وادٍ بالمدينة- فأراد أن يَمُرَّ به في أرض محمد بن مسلمة ، فأبى محمدٌ ، فكلَّم فيه عمر ، فدعا محمدًا وقال: لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافعٌ؛ تسقي به أولًا وآخرًا، وهو لا يضرُّك؟! فقال محمدٌ : لا والله. فقال عمر : والله لَيَمُرَّنَّ به ولو على بطنك. فأمر عمر أن يَمُرَّ به، ففعل [15].

هذه القصة رواها الإمام مالك في “الموطأ” بسندٍ صحيحٍ.

فهذا يدل على أنه إذا رفض جاره، ولم يكن يلحقه ضررٌ، وجاره مُحتاجٌ لهذا الماء، فإنه يُجْبَر على ذلك؛ يُجْبِره الحاكم على ذلك.

حكم تعلية مجرى الماء لمنعه عن الجار

قال:

ومَن له حقُّ ماءٍ يجري على سَطْحِ جاره لم يَجُزْ لجاره تعلية سَطْحِه؛ ليمنع جري الماء.

“مَن له حقُّ ماءٍ” يعني: من نهرٍ -مثلًا- أو حتى من السيول -من السَّيل- فليس له أن يقوم بتعلية سطح هذا المجرى أو الجدول؛ لأجل إنقاص الماء، أو منع جري الماء عليه، لا يجوز له ذلك، وذلك لما فيه من الضَّرر؛ لأنه إذا قام بتعلية سطحه قلَّ الماء الذي يجري.

وحرم على الجار أن يُحْدِث بملكه ما يَضُرُّ بجاره.

يحرم على الجار أن يُحْدِث في مِلْكِه ما يَضُرُّ بجاره، وليس له أن يقول: هذا مِلْكِي، وأنا حُرٌّ فيه.

نقول: إذا كان يَضُرُّ بجارك فلستَ حُرًّا فيه، ولا يجوز لك أن تُحْدِث في مِلْكِك ما يَضُرُّ بجارك.

طبعًا الدليل لهذا قول النبي : لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار [16].

المؤلف ذكر أمثلةً لما هو موجودٌ في زمنه، قال:

كحمَّامٍ.

الحمَّام هل هو دورة المياه؟

ليس دورة المياه المعروفة عندنا.

الحمَّام مُغْتَسَلٌ، يعني: معروفًا في البلاد الباردة كبلاد الشام -وما زالت آثاره باقيةً إلى الآن- يغتسل فيه الناس.

طالب: …….

الشيخ: موجودٌ إلى الآن؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، وكره العلماء دخول الحمام؛ لما فيه من كشف العورات والاختلاط بين الرجال والنساء ونحو ذلك، فهذا لا شكَّ أن فيه ضررًا، فكونه يفتح حمامًا في مِلْكِه، يعني: سيتوافد الناس، ويكون هناك اختلاطٌ وكشف عوراتٍ أمام بيته، فيكون فيه ضررٌ.

وكَنِيفٍ.

 يعني: يجعل كَنِيفًا مفتوحًا للناس، كُلٌّ يأتي ويدخل.

ورَحًى، وتَنُّورٍ.

ونحو ذلك.

يعني: هذه أمثلةٌ موجودةٌ في زمن المؤلف، لكن نُريد أمثلةً لما هو موجودٌ في زمننا.

مَن يذكر لنا مثالًا؟

يعني: يُحْدِث الإنسان في مِلْكِه ما يَضُرُّ بجاره.

طالب: …….

الشيخ: نعم، نقول: يضع -مثلًا- ماشيةً في بيته، يضع مَوَاشٍ في بيته تكون لها روائح كريهةٌ، فليس له ذلك، ولا يقول: إن هذا مِلْكِي، وأنا حُرٌّ فيه. إذا كان فيه ضررٌ على الجيران فإنه يُمْنَع.

طالب: …….

الشيخ: نعم، لو وضع ورشة حدادةٍ في بيته، ولها أصواتٌ مُزعجةٌ يُمْنَع.

طالب: …….

الشيخ: الحيوانات عمومًا، ذكرنا هذا.

طالب: أبراج الاتصالات.

الشيخ: أبراج الاتصالات، لكن هل فيها ضررٌ؟

طالب: …….

الشيخ: هذه محل اجتهادٍ، بعضهم ينفي أن فيها ضررًا، وإلا فهذه فعلًا حصلتْ فيها مُنازعاتٌ، وحصلتْ فيها شكاياتٌ، لكن لم يثبت الضَّرر فعليًّا، لكن لو ثبت أن فيها ضررًا يُمْنَع، وإلا فهذه موجودةٌ في جميع الأحياء.

طالب: …….

الشيخ: يقول: لو جعل بيته مكانًا للرُّقية، هل هذا ضررٌ؟

طالب: …….

الشيخ: على كل حالٍ مسألة تقدير الضَّرر ترجع للعُرْف.

طالب: …….

الشيخ: يفتح نوافذ، نعم، صحيحٌ، لو فتح نوافذ تطَّلعُ على جاره فإنه يُمْنَع من ذلك؛ لما فيه من الضَّرر.

طالب: …….

الشيخ: نعم، يقول: إنه يضع ماتورًا يسحب الماء من الشبكة.

على كُلٍّ حيث كان يحصل الضَّرر، العبرة بحصول الضَّرر.

طالب: …….

الشيخ: نعم، ممكن.

طيب، لو أجَّر بيته -مثلًا- لِعُزَّابٍ، هل يُعتبر هذا من الضَّرر؟

في عمارةٍ -مثلًا- كلها شققٌ، وإحدى الشقق -مثلًا- يملكها أحد الناس، وأجَّرها لِعُزَّابٍ، وبقية الشقق عوائل.

نعم، يُعتبر ضررًا، في عُرْف الناس أنه ضررٌ، خاصةً عندنا في المجتمعات الإسلامية عمومًا يُعتبر ضررًا مثل هذا؛ ولذلك الذي عليه العمل في المحاكم هو منع هذا، فلو رفعوا شكايةً يُمْنَعون.

المقصود: أن هذا يرجع للعُرْف.

حكم التَّصرف في جدار جارٍ مُشتركٍ

طيب، قال:

ويَحْرُم التَّصرف في جدار جارٍ مُشتركٍ.

الجدار إذا كان مُشتركًا .. يعني: كان الناس قديمًا جدرانهم مُشتركة، ولا تزال بعض الأحياء الجدران فيها مُشتركة، فيحرم التَّصرف في جدار جارٍ مُشتركٍ.

وذكر المؤلف أمثلةً لما هو موجودٌ في زمنه.

بفتح رَوزَنَةٍ، أو طَاقٍ، أو ضرب وَتَدٍ ونحوه إلا بإذنه.

ما دام أن هذا الجدار مُشتركٌ فإنه ليس له التَّصرف فيه إلا بإذنه.

وكذا وضع الخشب إلا ألا يمكن تَسْقِيفٌ إلا به، ويُجْبَر الجار إن أبى.

وضع الخشب في جدار جاره إذا احتاج جاره لذلك، أما إذا لم يحتج لذلك فليس له ذلك إلا بإذنه، وهكذا لو كان على جاره ضررٌ ليس له أن يضع هذا الخشب، لكن إذا كان جاره لا يتضرر بوضع الخشب على جداره، وهو مُحتاجٌ إلى وضع الخشب على جداره، فإنه يجوز ذلك، فإن أبى فإنه يُجْبَر.

ويدل لهذا ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: لا يَمْنَع جارٌ جارَه أن يغرز خشبه في جداره، ثم يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها مُعرضين؟! والله لَأَرْمِيَنَّ بها بين أكتافكم [17].

وهذا الحديث صريحٌ في هذه المسألة.

أما قول أبي هريرة : “والله لَأَرْمِيَنَّ بها بين أكتافكم”، قيل: المعنى: ما لي أراكم مُعرضين عن هذه السُّنة؟! ولَأَرْمِيَنَّ بها بين أكتافكم. وخصَّ الأكتاف بالذكر؛ لأنها موضوع التَّحمُّل.

والقول الثاني: “لَأَرْمِيَنَّ بها” يعني: لَأُلْزِمَنَّكم بها. وكان أميرًا على المدينة لما قال هذه المقولة، وهذا هو الأقرب.

إذن يجوز أن يضع الخشب على جدار جاره بشرطين:

  • الشرط الأول: ألا يَضُرَّ ذلك بجدار جاره.
  • والشرط الثاني: أن يكون مُحتاجًا إلى ذلك.

فإن أبى جاره هذا فإنه يُجْبَر عليه.

يتفرَّع عن هذا مسألةٌ معاصرةٌ يكثر السؤال عنها: وهي الاستفادة من الشبكة اللاسلكية (للإنترنت)، فبعض الناس يسأل: هل يجوز لي أن أستفيد من (الإنترنت) الخاص بجاري إذا لم يضع رقمًا سِريًّا، وكان مفتوحًا؟ هل يجوز لي أن أستخدم (الإنترنت) من الجيران؟

بعض الناس على هذا ليس عنده (إنترنت)، ويستخدم (الإنترنت) من الجيران، فيكثر السؤال عن هذه المسألة، وهي فرعٌ عن مسألتنا هذه: هل يجوز أو لا يجوز؟

إذا أردنا أن نُفرِّع عن هذه المسألة.

طالب: …….

الشيخ: نعم، أحسنتَ، يجوز بالشرطين المذكورين:

  • عدم الضَّرر، فإن كان جاره يتضرر فليس له ذلك.
  • والأمر الثاني: أن يكون مُحتاجًا.

أما لو كان عنده -مثلًا- (إنترنت) ويترك الشيء الخاص، ويستخدم (إنترنت) جيرانه، فليس له ذلك، لكن لو كان مُحتاجًا، ما عنده شيءٌ، أو الذي عنده مُنقطعٌ، أو نحو ذلك، وجاره لا يتضرر بذلك، فإنه يجوز تفريعًا عن هذه المسألة.

ثم أيضًا كون جاره لم يُشَفِّر هذه الشبكة، وجعلها مفتوحةً بدون رقمٍ سِريٍّ هذا يُعتبر إذنًا للجيران باستخدامها؛ لأنه لو أراد لَشَفَّرها ومنع من استخدامها إلا بأرقامٍ سِريةٍ، فكونه يتركها مفتوحةً هذا يُعتبر إذنًا لهم باستخدامها.

طالب: …….

الشيخ: لا، ما يوجد أحدٌ ما يعلم، الذي يستخدم (الإنترنت) يعلم هذا في الأعم الأغلب، الأصل أنه يعلم.

طالب: …….

الشيخ: نعم، على كل حالٍ حتى النَّظر لضوء السراج مُتفرِّعٌ عن هذه المسألة.

طالب: …….

الشيخ: لا، قد لا يلحقه الضَّرر، خاصةً إذا كان الاستخدام محدودًا فقد لا يلحقه الضَّرر.

ثم أيضًا إذا كان يجوز وضع الخشب فأيّهما أعظم ضررًا: وضع الخشب على الجدار، أو استخدام (الإنترنت)؟

إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ألزم الجار بأن يسمح للجار بوضع الخشب في جداره، فما بالك بمجرد استخدام (الإنترنت)؟

حقُّ الجار على الجار عظيمٌ؛ لذلك ينبغي أن يشيع المعروف بين الجيران، حتى لو كان الضَّرر ضررًا يسيرًا هذا يُغْتَفر، لكن وضع الخشب على الجدار مهما كان لا بد من ضررٍ، لكن إذا كان الضَّرر يسيرًا فيُتسامح فيه، أما إذا كان ضررًا كبيرًا فهذا هو الذي يُمْنَع منه.

فالجيران يُفترض أن يكون بينهم من التعاون والمحبة والأُلْفَة شيءٌ كبيرٌ؛ ولذلك مثل هذه الأمور ينبغي التَّسامح فيها بين الجيران إلا إذا كان يلحقه ضررٌ كبيرٌ؛ أن يكون جاره -مثلًا- يُسيء استخدامه، ويُحْسَب عليه، أو نحو ذلك.

قال:

وله أن يُسْنِدَ قماشه، ويجلس في ظلِّ حائط غيره، وينظر في ضوء سِرَاجه من غير إذنه.

وذلك لأنه لا ضرر عليه في ذلك، يعني: كونه يُسْنِد القماش على جدار جاره، أو يجلس في ظلِّ حائط جاره، أو ينظر في ضوء سِرَاجه، كل ذلك لا حرج عليه فيه.

يتفرَّع عن هذه المسألة -نُحاول أن نربط كلام المؤلف بمسائل معاصرةٍ-: هل له أن يُوقِف سيارته في ظلِّ جدار جاره؟

تجد بعض الناس يأتي -خاصةً في أيام الصيف- ويُوقِف سيارته في ظلِّ جدار جاره.

نعم، إذا أردنا أن نُفرِّع على هذه المسألة يصح، نعم؛ لأنه لا ضرر عليه، فالحقيقة أنه لا ضرر عليه، يعني: هي تتفرع على قول الفقهاء: إن له أن يجلس في ظلِّ حائطه، وكذلك له أن يُوقِف سيارته في ظلِّ جدار بيت جاره، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في هذا.

طالب: …….

الشيخ: لا، إذا سَدَّ عليه فهنا ضررٌ، لكن إذا كان ما سَدَّ عليه، مجرد أنه فقط استفاد من ظلِّ جدار بيته فلا حرج عليه.

حكم التَّصرف في الطريق بما فيه ضررٌ

قال:

وحَرُمَ أن يتصرف في طريقٍ نافِذٍ بما يضرُّ المَارَّ.

الطريق النَّافِذ يعني: الطريق السالك، ومعظم الطرق الآن نَافِذَةٌ، فَيَحْرُم أن يتصرف فيه بما فيه ضررٌ.

كل هذا تفريعٌ على مسألة: لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار [18]، والتي هي من القواعد الكلية الكبرى، والتي هي حديثٌ عن النبي .

مثَّل المؤلف بأمثلةٍ لما هو موجودٌ في زمنه، قال:

كإخراج دكانٍ.

الدكان معروفٌ.

ودَكَّةٍ.

الدَّكَّة قالوا: هي بناءٌ يُسَطَّح أعلاه للجلوس، وهي المعروفة الآن، وما زالت تُسمَّى الآن بهذا المُسمَّى: دَكَّة.

وجَنَاحٍ.

الجناح يقولون: هو الرَّوْشَن على أطراف خشبٍ أو حجرٍ مدفونة في الحائط، يعني: من جهةٍ واحدةٍ، أما إذا كانت من جهتين فتكون سَابَاطًا، والسَّابَاط المُستوفي للطريق على الجدارين.

ومِيزَابٍ، ويضمن ما تلف به.

يعني: ليس له أن يتصرف في هذا الطريق؛ لأن هذا الطريق مُشتركٌ للجيران، فليس له أن يتصرف به هذه التَّصرفات.

لكن بالنسبة للمِيزَاب خاصةً قال بعض الفقهاء: إنه يجوز إخراج المِيزَاب إلى الطريق الأعظم، والطريق الأعظم الذي يُسمَّى في وقتنا الحاضر: الطريق العام، يُسمُّونه: شارعًا عامًّا، أو طريقًا عامًّا، الفقهاء يُسمُّونه: الطريق الأعظم، فقالوا: يجوز إخراج المِيزَاب إلى الطريق الأعظم.

وهذا قول مالك والشافعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ورُوِيَتْ في ذلك قصةٌ، وهي: أن عمر مَرَّ بمِيزَابٍ كان قد وضعه العباس فقلعه، يعني: أصاب عمرَ ماءُ هذا المِيزَاب فقلعه، فأتى إليه العباس وقال: والله إنه للموضع الذي وضعه النبي . فقال عمر: “وأنا أعزم عليك لما صعدتَ على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله [19].

لكن هذه القصة من جهة الإسناد ضعيفةٌ، ضعيف إسنادها، ولا تصح من جهة الإسناد، وهي في سنن البيهقي “السنن الكبرى”، لكنها لا تصح بأيِّ حالٍ، وفيها نَكَارةٌ أيضًا، لكن علَّلوا لذلك قالوا: إن هناك إجماعًا عمليًّا من المسلمين، فالمسلمون يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من قديم الزمان من غير نَكِيرٍ، فَدَلَّ ذلك على أنه يجوز إخراج المِيزَاب في الطريق العام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إخراج المَيَازيب إلى الدَّرْب هو السُّنة”، واختار هذا القول.

إذن المِيزَاب نستثنيه مما ذكر المؤلف، لكن يمكن أن نذكر أمثلةً لما هو موجودٌ في وقتنا الحاضر.

مَن يُمثِّل لنا بأمثلةٍ لأشياء يكون فيها الضَّرر في الطرق العامة؟

طالب: …….

الشيخ: وضع الأرصفة؟ كيف وضع الأرصفة يعني؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، إذا كان حجم الرصيف كبيرًا فيُضيِّق الطريق، مع أن هذا تمنع منه البلدية، لكن لو افترضنا أن هذا وقع.

طالب: …….

الشيخ: لكن هل هذا فيه ضررٌ؟

طالب: …….

الشيخ: ممكن، لو كان المَطَبُّ مُرتفعًا، ويُحْدِث ضررًا للسيارات، فيُمكن أن يُمثَّل بهذا.

طالب: …….

الشيخ: لا، دعونا ننتهي من المسألة أولًا، ننتهي من مسألتنا.

أمثلةٌ الآن لما يحدث في الطرق من أضرارٍ.

المؤلف ذكر أمثلةً لما وُجِدَ في زمنه، نُريد أمثلةً معاصرةً في وقتنا الحاضر.

طالب: …….

الشيخ: وضع مظلَّةٍ للسيارة إذا كان فيه ضررٌ، أما إذا كان ما يوجد ضررٌ لا يضر، لكن لو كان يوجد ضررٌ تختلف من طريقٍ إلى طريقٍ.

طالب: …….

الشيخ: نعم، ممكنٌ، بعض الناس ربما يتصرف بوضع حُفَرٍ -مثلًا- في الطريق أو نحو ذلك، أو مُخلفات البناء يضعونها في الطريق.

المقصود: أن هذا يرجع للعُرْف، فما عَدَّه الناس في عُرْفهم إضرارًا فإنه لا يجوز وضعه في الطريق.

قال:

ويَحْرُم التَّصرف بذلك في مِلْكِ غيره، أو هوائه، أو دَرْبٍ غير نافِذٍ.

وقبل هذا نقول: إذا كان سطح أحد الجيران أعلى من الآخر فليس لصاحب السطح الأعلى الصعود إلى سطحه على وجهٍ يُشْرِف على سطح جاره إلا أن يبني سُترةً.

فإنا نقول: إما أن تبني سُترةً تستره، وإما ألا تصعد للأعلى، وليس له أن يفتح النوافذ من بيته على وجهٍ يكشف به جاره؛ لما في ذلك من الضَّرر؛ ولهذا يقول النبي : لو أن رجلًا اطلع عليك بغير إذنٍ فَحَذَفْتَه بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عينه لم يكن عليك جناحٌ [20].

إذا كان يَحْرُم التَّصرف بهذا في مِلْكِه بما يضرُّ جاره؛ فَيَحْرُم التَّصرف كذلك في مِلْك غيره من باب أولى.

“أو هوائه، أو دَرْبٍ غير نافِذٍ” يعني: في طريقٍ غير نافِذٍ، وما يُسمَّى بالطريق السَّدِّ مثلًا.

إلا بإذن أهله.

لو أذن أهله بهذا فلا بأس؛ لأن المنع إنما كان لأهل الطريق، فإذا رضوا بإسقاطه سقط.

إجبار الشَّريك على العمارة مع شريكه

قال:

ويُجْبَر الشَّريك على العمارة مع شريكه في الملك والوقف.

إذا انهدم العقار، وكان المالك شُركاء، فَيُجْبَر الشَّريك على العمارة.

إذا انهدم جدار أحدهما وكان مُشتركًا، أو سقفهما، أو حتى خِيفَ ضرره بسقوطه؛ فَيُجْبَر الشَّريك على العمارة مع شريكه.

مثال ذلك: عقارٌ مُشتركٌ لاثنين، ثم انهدم، أو خِيفَ من سقوطه، فقال أحد الشريكين: لا بد أن نقوم بعمارة هذا العقار. وقال الثاني: لا، أبدًا، أنا لن أُساهم معك في عمارة هذا العقار. وحاول معه فرفض، وهذا العقار انهدم، فما الحل؟

يُجْبَر، يرفع أمره للمحكمة، والقاضي يُجْبِره على أن يقوم بعمارة هذا العقار المُشترك.

قال:

وإن هَدَمَ الشريك البناء، وكان لخوف سقوطه؛ فلا شيء عليه.

لو هدم البناء لأجل خوف السقوط فلا شيء عليه؛ لأنه مُحسنٌ بهذا؛ لوجوب هَدْمِه ما دام أنه يُخاف سقوطه.

وإلا لزمه إعادته.

يعني: لو هدم الشريك البناء لأجل التَّحسين والتَّزويق، وما يُسمَّى الآن بـ”الترميم”، لكنه ليس فيه ضررٌ أصلًا، ولا يُخاف من سقوطه؛ فإنه إما أن يتحمل التكاليف، يعني: تكاليف تحسينه يتحملها هو، وإن أحدث ضررًا بهذا التَّرميم فيلزمه إعادته كما كان.

وإن أهمل شريكٌ بناءَ حائطِ بُستانٍ اتَّفقا عليه، فما تلف من ثمرته بسبب إهماله ضمن حصة شريكه.

يعني: لو كان اثنان شريكين في بناء هذا الحائط بينهما -حائط بُستانٍ- فاتَّفقا على أن يبني أحدهما جهةً، والآخر يبني الجهة الأخرى، ثم إن أحدهما أهمل فلم يَبْنِ هذه الجهة، فتسبب ذلك في تلف ثمرته، أتتْ -مثلًا- دوابٌّ ونحو ذلك، فتسبب في تلف ثمرته، فإنه يضمن ما تلف؛ لأجل إهماله وتفريطه.

هذه أبرز المسائل المتعلقة بالجوار، وهي ترجع لمسألة: لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار، يعني: لا يجوز للإنسان أن يُحْدِث في ملكه ولا في ملك غيره ما يضر بصاحبه.

ونكتفي بهذا القدر في درس الفقه، ونُجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: أحسن الله إليكم، ما المراد بالمِيزَاب؟

الجواب: المِيزَاب هو ما يُسمَّى بـ”المِرْزَام” الذي يتسرب منه ماء المطر عند نزوله ونحو ذلك، هذا هو المِيزَاب.

هل له مُصطلحاتٌ أخرى؟

يُسمَّى: المِرْزَام والمِيزَاب.

طالب: …….

الشيخ: ثعاب، طيب، على كل حالٍ إذا قيل: مِيزَاب يُقْصَد به هذا، يُقْصَد به ما يُسمَّى بـ”المِرْزَام”، أو المَنْفَذ الذي يَنْفُذُ منه ماء الأمطار والسيول.

السؤال: أحسن الله إليكم، هل يجوز إعطاء الشاهد أجرة السيارة إلى المحكمة؟

الجواب: نعم، إذا أُعْطِيَ أجرة السيارة إلى المحكمة لا بأس، لكن لا يزيد؛ لأن الشهادة تجب عليه، لكن لو قال -مثلًا-: أنا ما معي سيارة، وسوف آخذ سيارة أجرة، وسيارة الأجرة -مثلًا- بخمسين ريالًا ذهابًا ورجوعًا. فلا بأس بإعطائه قيمة الأجرة.

السؤال: أحسن الله إليكم، مقابل مكتب الجوازات مكتب …..، من أعماله أنه يُسدِّد الرسوم بمبالغ ….. بل تختلف باختلاف الرسوم …..؟

الجواب: نعم، هذه المسألة يكثر السؤال عنها، يعني: عند الجوازات وغيرها، أو عند المرور يأتي أناسٌ ويقولون: نحن نُسدِّد عنك الرسم لكن تُعطينا مقابلًا. هل يجوز هذا أو لا يجوز؟ هل نعتبر هذا من قبيل القرض الذي جَرَّ نفعًا أم لا؟

الواقع أنهم يأخذون على كل عمليةٍ رسمًا، فهل هذا يجوز أم لا؟

بعض العلماء منع من هذا، وبعضهم أجاز، وبعضهم فَصَّل، والأقرب عندي هو التَّفصيل، فنقول: إذا أعطاه المبلغ مُقدَّمًا فإنه يجوز، كما لو قال: خُذْ هذا المبلغ مئتي ريالٍ واذهب بها لبنك الراجحي وسدِّد عني، ولك عشر ريالات أجرةً على ذهابك. هذه الصورة جائزةٌ بالاتفاق.

هكذا أيضًا لو أعطاه المبلغ مُقدَّمًا، وأعطاه عشر ريالات مقابل أتعابه.

أما إذا قال: سَدِّد عني وأُعطيك. فالتَّكييف الفقهي لها أنها قرضٌ، كأنه يقول: أقرضني وسوف أُعطيك. فتكون من قبيل القرض الذي جرَّ نفعًا؛ فلا تجوز.

هذا هو الذي ظهر لي في هذه المسألة بعد التَّأمل والمُباحثة مع بعض أهل العلم، الذي ظهر لي هو هذا التَّفصيل.

فإن قال قائلٌ: يعني: المسألة صوريَّة، فما الفرق بين أن يُقدِّم أو يُؤخِّر؟

نقول: الصورية مُؤثرةٌ في الأحكام، أرأيتَ قصة بلالٍ لما أتى النبيَّ بتمرٍ بَرْنِيٍّ -بتمرٍ جيدٍ- فقال : من أين هذا؟ قال: كان عندنا تمرٌ رديءٌ، فبعتُ منه صاعين بصاعٍ؛ لنُطعم النبي . فقال النبي : أوَّه! عين الربا [21]، وأرشد إلى المخرج، فما المخرج؟

قال : بِعِ الجَمْعَ يعني: التمر الرديء بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا [22]، مع أن النتيجة واحدةٌ، لكن صورة هذه تختلف عن صورة هذه.

فالصُّورية مُؤثرةٌ في المعاملات، فالصورة الأولى سمَّاها النبي عليه الصلاة والسلام: عين الربا، إذا كان صاعان بصاعٍ، وفي الصورة الثانية تبيع الصاعين بدراهم، ثم الدراهم تشتري بها تمرًا جيدًا، فهي صورةٌ صحيحةٌ، مخرجٌ، فالصُّورية مُؤثرةٌ؛ ولهذا فالذي يظهر هو هذا التَّفصيل.

السؤال: أحسن الله إليكم، هل سيخرج درس الفقه في إذاعة القرآن الكريم في كتابٍ؟

الجواب: إن شاء الله تعالى، هناك برنامجان: برنامج فقه العبادات، ثم فقه المعاملات، ونرجو أيضًا أن يكون هناك برنامج -إن شاء الله- العام القادم في فقه الأسرة، فنمشي على أبواب الفقه كلها -إن شاء الله تعالى- وتخرج موسوعةٌ في الفقه، ولعلها -إن شاء الله تعالى- تخرج، بإذن الله .

السؤال: أحسن الله إليكم، والدي -هداه الله- يتعامل بالربا في مالي، فهل يجوز لي أن آخذ نفقته لي؟ وهل يجوز أخذ الورث؟

الجواب: أولًا: ما دام أنه والدك فيجب عليك أن تقوم بواجب النَّصيحة والإنكار عليه، والاستمرار على ذلك، والصبر على ما قد تُلاقيه من أذًى؛ لأن الربا أمره عظيمٌ، الربا من كبائر الذنوب، وملعونٌ فاعله، ملعونٌ آكل الربا ومُوكله وكاتبه وشاهداه، فيجب عليك أن تقوم بواجب النَّصيحة، ثم إذا كان يُمكنك أن تأخذ مالك فلا تُمَكِّنه من المُرَاباة به لزمك هذا أيضًا.

أما بالنسبة لما ذكر من النَّفقة فلا حرج عليه أن يأخذ نفقةً؛ لأن الربا يكون في قَدْرٍ يسيرٍ، يعني: رأس المال يكون هو القدر الأكبر، فعندما -مثلًا- يُرابي عشرة آلاف بأحد عشر، يعني: عشرة آلاف كلها رأس مالٍ، والزيادة -الألف ريال- هي التي فيها الإشكال، هي الربا، فينوي أن تكون النَّفقة من رأس المال، فلا حرج عليه إذن أن يأخذ من ماله، وهكذا أيضًا لو مات، فالإثم يكون على والدهم، وأما بالنسبة للورثة فإن المال يكون حلالًا بالنسبة لهم.

السؤال: أحسن الله إليكم، إذا اشترى الرجل سلعةً وأعطى البائع دراهم، ثم ذهب البائع ليصرفها؛ لِيُرْجِع له الباقي، فما حكم ذلك؟ وهل يلزمه أن يتبع البائع؟

الجواب: إذا أعطاه المبلغ فهو وكيله في الصرف، يقول: اذهب واصرف هذه. فيذهب ويصرفها، ثم يأتي بعد ذلك ويأخذ حقَّه منها.

فالحقيقة إذا أعطاه هذا المبلغ -أعطاه خمسمئة ريالٍ- وذهب البائع، نقول: أنت وكَّلتَه في الصرف، فهو وكيلٌ عنك في الصرف، ولا يلزمك أن تتبعه، فالشريعة لا تأتي بمثل هذا؛ أن نقول لك: اتبع هذا البائع واذهب معه، وكلما ذهب إلى مكانٍ تذهب معه وتُلاحقه! الشريعة لا تأتي بمثل هذا، لكن تنوي أنه وكيلك في الصرف، فإذا نويتَ أنه وكيلك في الصرف حصل المقصود، فهو يصرف وكالةً عنك ونيابةً عنك.

السؤال: أحسن الله إليكم، هناك نصٌّ آخر في “ضَعْ وتَعَجَّل” يحضرني معناه: أن رجلين اختصما في دَينٍ، فقال النبي لصاحب الدَّين: ضَعِ الشّطر، وقال للآخر: قُمْ فَاقْضِهِ.

الجواب: نعم، هذا في قصة كعب بن مالك ، لما أراد أن يتقاضى كعبٌ  رجلًا من الناس، فارتفعتْ أصواتهما في مسجد رسول الله ، فدعا رسول الله كعبًا، وأشار إليه أن ضَعِ الشّطر، فقال كعبٌ : قد فعلتُ [23].

لكن هذه ليست من مسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”، هذه من مسألة “الصُّلح”، فالنبي عليه الصلاة والسلام أشار على كعبٍ  أن يتنازل عن نصف الدَّين، يعني: كأن النبي عليه الصلاة والسلام فهم القضية، وفهم المشكلة بينهما، فأشار على كعبٍ  أن يتنازل ويُسْقِط نصف دَينه، ففعل كعبٌ ، لكن ليس له علاقةٌ بمسألة “ضَعْ وتَعَجَّل”.

السؤال: هذا سؤال ….. أحسن الله إليكم، ما التَّصرف الأمثل مع جارٍ يقوم بمُراقبتك عند دخولك وخروجك؟

الجواب: هذا من أذى الجار، هذا يُعتبر من الأذى، ولا يجوز للإنسان أن يُلْحِقَ الأذى بجاره، سواء كان أذًى حسيًّا أو أذًى معنويًّا، وكون الإنسان يُراقب جاره وينظر في مدخله ومخرجه ويتبعه بنظراته هذا من الأذى.

وينبغي للجار أن يَغُضَّ الطرف عن جاره إذا رآه وعن أهله، حتى في الجاهلية كانوا يرون أن هذا من مكارم الأخلاق، كما في قول عنترة: “وأَغُضّ طرفي حتى يُواري جارتي مثواها”.

فهذا من مكارم الأخلاق الموجودة في الجاهلية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: والله لا يُؤمن، والله لا يُؤمن، والله لا يُؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بَوَائِقَه [24]، فأذى الجار من كبائر الذنوب؛ لأن المعصية التي فيها نفي إيمانٍ هي من كبائر الذنوب.

السؤال: أحسن الله إليكم، ما حكم غِيبة المجهول؟

الجواب: لا غِيبة لمجهولٍ، إذا كان غير معروفٍ للحاضرين فإنه لا غِيبة لمجهولٍ، فإذا كان إنسانٌ -مثلًا- يُريد أن يذكر قصةً لمجهولٍ؛ لأجل أخذ العبرة والعِظَة منها، لا حرج في ذلك، ولا يُعتبر هذا غِيبةً.

السؤال: أحسن الله إليكم، هل يجوز استبدال أجهزة المساجد وأغراضها بما هو أفيد وأحوج دون إذن الواقف؛ للأغراض السابقة؟

الجواب: يجوز ذلك، لكن فيما هو من جنسها لمصلحة المسجد، أما المُوقِف فهو قد أوقف وخرجتْ من ذِمَّته لله ، فليس له سلطةٌ، والنبي جعل إمام المسجد سلطانًا في مسجده: ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه [25]، فإمام المسجد في مسجده كالسلطان في مملكته، هو الذي له الأمر والنَّهي وله الكلمة.

أما الإنسان المُتبرع فقد تبرَّع وانتهى دوره، وليس له أن يَمْتَنَّ على جماعة المسجد أو أهل المسجد بأنه قد دفع كذا، وأنه لا بد أن يُستأذن، ليس له ذلك، هذا ربما يُبْطِل أجره، فقد خرج هذا الشيء من ملكه لله وانتهى، والمسؤول عن هذا الوقف هو إمام المسجد، فإمام المسجد هو الذي يتصرف، ولا حاجة لأن يستأذن منه؛ لأنه خرج من ملكه، فليس مالكًا لهذه الأشياء، وإلا ما كان وقفًا، فما معنى الوقف؟

أن تخرج هذه الأشياء المُوقَفَة من ملكه لله .

طيب، مَن المسؤول عن الأشياء الموجودة في المسجد؟

إمام المسجد، جعله النبي سلطانًا: ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه.

السؤال: أحسن الله إليكم، هل تُعتبر كثرة ….. بعض الطلاب في الدرس مما يُشْغِل الذهن ويحجب الرؤية …..؟

الجواب: ربما الأخ عنده مزيد تحسُّسٍ، يعني: تعرفون أن الدرس طويلٌ، فهو قُرابة ساعتين، وربما بعض الإخوة يحتاج لمثل هذه الحركة؛ لذلك لعلنا نعذرهم ويتحمل بعضنا بعضًا.

السؤال الأخير: سؤالٌ من الشبكة: أحسن الله إليكم، رجلٌ مُقيمٌ في إيطاليا، وفي نهار رمضان شَقَّ عليه الصوم فشرب الماء وتناول سيجارةً، ثم أمسك عن الأكل والشرب ظانًّا أن ذلك لا يُوجب عليه كفَّارةً، وأن عليه فقط قضاء اليوم، فماذا يترتب على ذلك؟

الجواب: أولًا: عليه التوبة إلى الله من هذا العمل، فهذا العمل الذي عمله مُنكرٌ، ولا يجوز للإنسان أن يُفْطِر لأجل العطش، أو لأجل الجوع ما لم يلحقه الضَّرر، ويلحقه الضَّرر بكلام الأطباء، فليس هو الذي يُقرِّر، فيُعتبر حكمه حكم المريض.

أما إذا كان لا يلحقه الضَّرر، وإنما شدة جوعٍ وعطشٍ، فقد كان الصحابة يلحقهم جوعٌ عظيمٌ وعطشٌ شديدٌ، حتى إن بعضهم ليذهب يَصُبُّ الماء على رأسه من شدة العطش، فليس له أن يُفْطِر بناءً على هذا، ومَن فعل ذلك فهو آثمٌ، وعليه التوبة إلى الله .

والصحيح أنه ليس عليه كفَّارة، الصحيح أن الكفارة إنما تكون في الجِمَاع في نهار رمضان فقط، ولا تكون في تعمُّد الأكل والشرب؛ لأن الدليل إنما ورد في الجِماع في نهار رمضان فقط، ولا يصح قياس الأكل والشرب على الجِماع.

فنقول للأخ: عليك أولًا: التوبة إلى الله  من هذا العمل.

ثانيًا: يجب عليك قضاء هذا اليوم، ولا تلزمك كفَّارة.

طيب، هل توجد أسئلةٌ؟

السؤال: أخذ العِوَض مقابل السكوت عن السارق أو السكران؟

الجواب: لا يجوز، هذا نصَّ عليه المؤلف أنه لا يجوز أخذ العِوَض مقابل إطلاق السكران أو السارق، لكن لو أراد أن يُطْلِقَه إن كان في إطلاقه مصلحةٌ شرعيةٌ جاز، يستر عليه، لكن من غير أن يأخذ عِوَضًا، أما إذا لم تكن فيه مصلحةٌ لم يَجُزْ أيضًا، لكن أخذ المال ليس له وجهٌ؛ لأن أخذ المال لا بد أن يكون له مُبرِّرٌ، وليس هناك مُبرِّرٌ لأخذ المال، فليس له حقٌّ أصلًا حتى يأخذ المال مقابل حقٍّ تركه.

طالب: …….

الشيخ: لكن لا يربطها بهذه المسألة.

السؤال: …….

الجواب: على كل حالٍ، مَن اشترى من محلٍّ شيئًا وبقي مبلغٌ من المال لا حرج عليه، فأنت لو ذهبتَ لصاحب البقالة وقلتَ له: أعطني وسوف آتي لك بالمبلغ غدًا. هل في هذا إشكالٌ؟

ليس فيه إشكالٌ، ولو كان العكس؛ لو أعطيتَه -مثلًا- خمسمئة ريالٍ، وما وجد صَرْفًا، فقال: تأخذ الصَّرْفَ غدًا. ليس في هذا إشكالٌ؛ لأن المسألة ليست صَرْفًا.

الإشكال الذي استشكله بعض العلماء هو الصرف؛ صرف خمسمئةٍ بأربعمئةٍ، مع أني وجدتُ أن الحنابلة نَصُّوا على أن هذه المسألة تجوز، وقالوا: إن الصَّرف يقع بين أربعمئةٍ وأربعمئةٍ، أما المئة الزائدة هذه فإنها تبقى وديعةً. وجدتُ أن فقهاء الحنابلة ذكروا هذه المسألة ونَصُّوا على جوازها.

طالب: …….

الشيخ: ما يَضُرُّ، ما يَضُرُّ مثل هذا.

نعم، يكون السؤال الأخير، تفضل.

السؤال: أحسن الله إليكم …….

الجواب: لا، هناك فرقٌ بينهما؛ لأن عقوبة السرقة لِحَقِّ الله ، بينما إقامة حَدِّ القذف لِحَقِّ المقذوف؛ ولذلك في قصة صفوان بن أُمية لما سُرِقَ رداؤه وأمسك بالسارق ورفعه للنبي عليه الصلاة والسلام، فأمر بقطع يده، قال صفوان: يا رسول الله، لم أُرِدْ هذا، ردائي عليه صدقةٌ. فقال عليه الصلاة والسلام: هَلَّا كان هذا قبل أن تأتيني به [26].

فدلَّ هذا على أن السرقة العقوبة فيها حقٌّ لله ، وأنها لا يجوز العفو فيها إذا بلغت السلطان، بينما حَدّ القذف على قول الجمهور أنه حقٌّ للمقذوف؛ فله أن يعفو عنه، وما دام أن له أن يعفو عنه فله أن يأخذ عنه عِوَضًا في أظهر أقوال أهل العلم.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 684، ومسلم: 421.
^2 رواه البخاري: 2692، ومسلم: 2605.
^3 رواه البخاري: 2593، ومسلم: 1463.
^4 رواه البخاري: 7169، ومسلم: 1713.
^5 رواه أحمد: 26717.
^6 رواه البخاري: 1739، ومسلم: 1679.
^7 رواه مسلم: 1886.
^8 رواه البخاري: 2289.
^9 رواه أبو داود: 3343، والنسائي: 1962.
^10, ^14 رواه الترمذي: 1352 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 2353.
^11 رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 11141.
^12 رواه الطحاوي في “شرح مشكل الآثار”: 4277، والدارقطني في “السنن”: 2983، والحاكم في “المستدرك”: 2325، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 11137.
^13 رواه البخاري: 6015، ومسلم: 2625.
^15 رواه مالك في “الموطأ” رواية يحيى: 33.
^16, ^18 رواه ابن ماجه: 2341، وأحمد: 2867.
^17 رواه البخاري: 2463، ومسلم: 1609.
^19 رواه أحمد: 1790، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 11363.
^20 رواه البخاري: 6902، ومسلم: 2158.
^21 رواه البخاري: 2312، ومسلم: 1594.
^22 رواه البخاري: 2201، ومسلم: 1593.
^23 رواه البخاري: 471، ومسلم: 1558.
^24 رواه البخاري: 6016.
^25 رواه مسلم: 673.
^26 رواه أبو داود: 4394، والنسائي: 4883، وابن ماجه: 2595.
zh