logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(53) كتاب البيع- من قوله: “فصل: ويحرم ولا يصح بيع ولا شراء..”

(53) كتاب البيع- من قوله: “فصل: ويحرم ولا يصح بيع ولا شراء..”

مشاهدة من الموقع

البيوع المحرمة مع بطلان العقد

البيع والشراء في المسجد

فصلٌ
ويَحرُم ولا يصح بيعٌ ولا شراءٌ في المسجد.

البيع والشراء في المسجد ورد النهي عنه في عدة أحاديث؛ منها: حديث أبي هريرة  أن النبي قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من يَنشد ضالةً فقولوا: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا [1]، أخرجه الترمذي وغيره.

وأيضًا جاء في “صحيح مسلمٍ” عن بُريدة أن رجلًا نشد في المسجد -يعني ضالَّة- فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال رسول الله : لا وجدت، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له [2]؛ وهذا يدل على تحريم البيع والشراء في المسجد، وهكذا ما كان في معناهما؛ من نِشدان الضالة، وكذلك أيضًا يلحق به الإعلانات التجارية والدعايات، فينبغي أن تصان المساجد عن هذه كلها.

والعلة في هذا منصوصٌ عليها في حديث أبي هريرة وفي حديث بُريدة رضي الله عنهما، العلة: فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا، إنما بُنيت لما بنيت له، يعني: أن المساجد دُورٌ للعبادة لم تُبْنَ للبيع والشراء، وإبرام الصفقات، والإعلانات التجارية والدعايات، وإنما بُنِيت للعبادة؛ للصلاة وتلاوة القرآن وحِلَق العلم ونحو ذلك، هذا هو الذي بُنِيت له المساجد؛ ولذلك فينبغي صيانتها؛ ولهذا فإن البيع والشراء ونِشدان الضالة محرمٌ، ولا يصح البيع والشراء في المسجد؛ وبذلك نعرف خطأ الذين يُوزِّعون منشوراتٍ في المساجد، ويكون فيها دعاياتٌ لمؤسساتٍ تجاريةٍ، حتى ولو كانت هذه المنشورات دعايةً لحملة حجٍّ أو عمرةٍ؛ لأن المقصود بها التجارة، وكذلك أيضًا حتى لو كانت إعلانًا عن محاضرةٍ أو دورةٍ علميةٍ، وكُتب عليها: الراعي الرسمي كذا، فهل هذه يُمنع منها؟ إعلانٌ عن دورةٍ، أو إعلانٌ عن محاضرةٍ، أو إعلانٌ المقصود أنه مَنشَطٌ علميٌّ، ووُضع: الراعي الرسمي: شركة كذا، أو مؤسسة كذا، فهل هذا يجوز أو لا يجوز؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، هذا إذنْ لا يجوز؛ لأن هذه الدعاية مقصودةٌ؛ ولذلك لولا كتابة هذه الكلمة؛ لما تبرَّع ذلك المتبرِّع، لما تبرَّعت تلك الشركة أو المؤسسة، فلو اتفق معهم على أن يكون الراعي الرسمي: شركة كذا، لكن لم يكتبوها في الإعلان؛ ما قبلت تلك الشركة أو المؤسسة، فإذا كانت الدعاية مقصودةً؛ فإن هذا لا يجوز.

طيب، إذا وقع هذا هل نتلفها؟ لا، لا نتلفها، وإنما فقط نطمس اسم الشركة أو المؤسسة، ونستفيد من الإعلان، هذا هو الأحسن، أو أننا نضع الإعلان خارج المسجد، نضعه خارج المسجد، هذا إذا كانت الدعاية مقصودةً، أما إذا كانت الدعاية غير مقصودةٍ؛ كأن يكتب مثلًا على اللاقط: صُنع في كذا، فهذه غير مقصودةٍ، هذا لا بأس به.

إذنْ نفرِّق بين الدعاية المقصودة والدعاية غير المقصودة، وهكذا لو كانت مثلًا المؤسسة غير تجاريةٍ، غير ربحيةٍ، مؤسسةً خيريةً، مكتب جالياتٍ، أو نحو ذلك؛ فهذا لا بأس به؛ لأن الممنوع هو أن يقصد به التجارة؛ بيعًا أو شراءً أو دعايةً أو نحو ذلك، هذا هو الممنوع.

بعض الإخوة سألني -أكثر من شخصٍ- سؤالًا، يقول: عندنا في المسجد مَلاحق محاطةٌ بسور المسجد، ونريد أن نجعل بعض الغرف محلًّا للعب -لعبٌ بكرةٍ أو بتنس أو من هذه الألعاب- يقول: نريد لطلاب حلقات التحفيظ أن يلعبوا في هذا المكان، نجعل هذا المحل، أو هذه الغرفة محل ألعابٍ، فهل هذا يجوز؟ نريد أن نُفرِّع على هذه المسألة.

مداخلة:

الشيخ: طيب، لو رجعنا للعلة، العلة ما هي؟ فإن المساجد بُنِيت لما بُنِيت له [3]، هل المساجد بُنِيت لأن تكون محلًّا للعب؟ ما بُنِيت، بنيت للعبادة، هي دُورٌ للعبادة؛ ولذلك لا يجوز مثل هذا العمل، المساجد ينبغي أن تصان عن هذا كله، تصان عن البيع وعن الشراء وعن الدعاية وعن اللعب، وعن أي شيءٍ متعلقٍ بأمور الدنيا.

فإن قال قائلٌ: أليس الحبشة قد لعبوا بالحِراب في مسجد رسول الله [4]؟

فالجواب عن ذلك: أن هذا إنما كان بصفةٍ عارضةٍ، وليس بصفةٍ دائمةٍ، وفرقٌ بين الشيء العارض والشيء الدائم، فلو أن هذا حصل بصفةٍ عارضةٍ؛ لا بأس، لو كان في يوم عيدٍ ونحو ذلك؛ نقول: لا بأس، لكن السؤال الذي وقع من بعض الإخوة: يريدون تخصيص غرفةٍ بصفةٍ دائمةٍ وهي داخل المسجد، فهذا يتنافى مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: فإن المساجد إنما بُنِيت لما بنيت له [5]، أما لو كان بصفةٍ عارضةٍ، في يوم عيدٍ، حتى يجوز ضرب الدُّف في يوم العيد، يعني: الشيء العارض يختلف عن الشيء الدائم المستمر، فإذنْ نستفيد جوابًا لهذا السؤال تفريعًا عن هذه المسألة.

مداخلة:

الشيخ: إذا كانت هذه الغرف خارج المسجد؛ لا إشكال، يجوز، كلامنا إذا كانت محاطةً بسور المسجد وداخل المسجد.

مداخلة:

الشيخ: انظر، لا اجتهاد مع النص، إذا ورد في المسألة نصٌّ؛ لا نجتهد، فهذا منعَ منه النبي عليه الصلاة والسلام، هذه تصان، المساجد دُورٌ للعبادة، ينبغي أن تصان للمسجد، يمكن أن يُشجَّع طلاب الحلقات، إما مثلًا بأن تقام مسابقاتٌ ثقافيةٌ فيها، ويُبحث عن مكانٍ آخر، لكن المساجد دُورُ عبادةٍ؛ فتصان للعبادة: إنما بُنِيت لما بنيت له.

مداخلة:

الشيخ: النداء الأول قلنا: زاده عثمان ، الحكمة منه لماذا زاده عثمان؟ للتنبيه على قرب دخول الخطيب.

والناس في الوقت الحاضر على طرفين:

  • فمنهم من يجعل النداء الأول قريبًا جدًّا من النداء الثاني، ما يكون الفرق بينهما أحيانًا إلا دقيقتين، أو أقل أو أكثر بيسيرٍ، مثلما هو في الحرمين، وهذا في الحقيقة يجعل هذا النداء ليس له فائدةٌ كبيرةٌ، فهذا في الحقيقة يُجرِّد هذا النداء من الغرض المقصود منه والحكمة منه؛ فإن الحكمة منه هي التنبيه على قرب دخول الخطيب.
  • والطرف الثاني من يُبكِّر بالنداء الأول، يبكرون به، يؤذَّن مثلًا قبل النداء الثاني بساعةٍ ونصفٍ أو ساعتين، كما هو موجود عندنا هنا، أيضًا هذا في الحقيقة لا يحقق الغرض والحكمة من النداء الأول؛ ولذلك ينبغي أن يكون النداء الأول قريبًا من النداء الثاني، والظاهر أنه في عهد عثمان ، لم يكن بعيدًا، يعني بحدود ربع إلى نصف ساعةٍ بالكثير، أما هذا التبكير الزائد الذي نراه في وقتنا الحاضر؛ الذي يظهر أنه لا يحقق المقصود من هذا النداء.

مداخلة:

الشيخ: لا ينعقد البيع، لا ينعقد، لا يصح ولا يجوز، ولذلك لاحظ عبارة المؤلف: “يحرُم ولا يصح”، هذه كلها، البيع في المسجد، أو البيع بعد النداء الثاني.

قال:

وكذا لو تَضايق وقت المكتوبة؛ فلا يصح البيع ولا الشراء قياسًا على الجمعة.

“لو تضايق وقت المكتوبة”؛ اثنان لم يُصليا صلاة العصر، وبقي على غروب الشمس خمس دقائق، وأرادا أن يتبايعا، نقول: لا يجوز هذا؛ لأنهما لو تبايعا؛ لأدى ذلك إلى خروج وقت صلاة العصر، وهو الوقت الضروري.

مداخلة:

الشيخ: طبعًا الكلام هنا أقيمت صلاة الجماعة وصلى الناس، لكن كلامنا عن خروج الوقت، يعني: قُبيل خروج الوقت، هنا يحرم ولا يصح البيع ممن لم يُصلِّ.

بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا

قال:

ولا بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا، ولا بيع البيض والجَوز ونحوهما للقِمَار.

قبل هذا، هل هناك أحدٌ لم يصله الكتاب؟ هنا أحد؟ يرفع يده، هناك مجموعةٌ الآن أخذت نسخًا…، طيب تفضل، من لم يستلم؛ يأت إلى هنا ليستلم.

مداخلة:

الشيخ: لا، لا هذا غير صحيحٍ، إنما فقط كما قال المؤلف: “إذا تضايق وقت الصلاة”، هذا هو الذي يحرُم.

هذه المسألة التي ذكرها المؤلف مسألةٌ مهمةٌ؛ لأنه يتفرع عنها مسائل أخرى.

ولا بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا، ولا بيع البيض والجَوز ونحوهما للقِمَار، ولا بيع السلاح في الفتنة، أو لأهل الحرب أو قُطَّاع الطريق.

هذه كلها بابها واحدٌ، فهذه البيوع تحرم ولا تصح؛ وذلك لقول الله : وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقد جاء في حديث عمران بن حصينٍ قال: “نهى رسول الله عن بيع السلاح في الفتنة” [6]، رواه البيهقي، لكنه ضعيفٌ لا يصح؛ ولأنه عقدٌ مُعِينٌ على معصية الله؛ فلم يصح.

إذنْ هذه إذا علمت بأن المشتري يريد استخدامها فيما ذكره المؤلف؛ فإن هذا لا يجوز، بيع العنب لمتخذه خمرًا، بيع البيض لمن يقامر به، بيع الجَوز لمن يقامر به، بيع السلاح وقت الفتنة، أو لأهل الحرب، أو قُطَّاع الطريق، هذا كله لا يجوز.

نستطيع أن نستنبط من هذا قاعدةً: وهي أنه لا يجوز البيع لمن يستخدم المبيع في معصية الله”، فإذا علمت بأن فلانًا سوف يستخدم هذا المبيع في معصية الله؛ فإنه لا يجوز هذا البيع.

وأيضًا نُفرِّع على هذا مسألةً أخرى: وهي أن ما يُستخدم في الخير والشر هل يجوز بيعه؛ مثل جهاز التلفاز، مثل أيضًا المسجِّل، مثل الجوَّال؟

مَن يذكر لنا أمثلةً تُستخدم في الخير والشر؟ السلاح أيضًا، السلاح ذكره المؤلف، نعم، الفيديو مثلًا، الجوَّال ذكره الإخوة، الدُّف، نعم، يمكن استخدامه في الخير والشر، مكائن الحلاقة، المقصود: أن ما يستخدم في الخير والشر؛ هذا الحكم فيه أنه الأصل جواز بيعه، إلا إذا علمت بأن المشتري سوف يستخدمه في معصية الله؛ فلا يجوز بيعه، فإذا علمت بأنه سوف يستخدمه في معصية الله؛ لا يجوز بيعه، فإذا علمت مثلًا أنه سوف يشتري منك هذا المسجِّل ويستمع الأغاني؛ لا يجوز أن تبيعه، علمت بأنه مثلًا سوف يستخدم هذا الجهاز في معصية الله، علمت بأنه سوف يستخدم هذا الجوال في معصيةٍ، علمت بأنه سوف يستخدم هذا السلاح في معصيةٍ؛ هنا لا يجوز بيعه، أما إذا لم تعلم؛ فيُبنى على الأصل وهو الجواز؛ ومن ذلك: مثلًا تأجير المحلات، فإذا كان يمكن أن يستخدم في الخير أو الشر؛ أصله الجواز، إلا إذا علمت بأنه سوف يستخدم هذا المكان في معصية الله تعالى؛ فهنا يحرم.

فهذه قاعدةٌ مفيدةٌ جدًّا لطالب العلم: “أن ما كان يستخدم في الخير والشر فالأصل هو جواز بيعه، إلا إذا علمت بأن المشتري سوف يستخدمه في الشر”.

وكما ذكر المؤلف في هذه الأمثلة، وهذه مجرد أمثلةٍ فقط: بيع العنب، الأصل فيه أنه حلالٌ، لكن إذا علمت أن المشتري -تعرف بالقرائن- أنه سوف يستخدمه خمرًا؛ لا يجوز أن تبيعه له، بيع البيض، الأصل أنه حلالٌ، لكن إذا عرفت أن هذا المشتري سوف يستخدمه في القمار؛ فيكون بيعه حرامًا، بيع السلاح حلالٌ، لكن إذا علمت بأن هذا سوف يستخدمه في قتلٍ محرَّمٍ؛ فيكون حرامًا، وهكذا.

مداخلة:

الشيخ: الأصل الجواز، إلا إذا علمت بأن هذا المشتري سوف يستخدمه في الحرام، إذا علمت أنه سوف يستخدمه في الحرام، هنا لا تبع له.

مداخلة:

الشيخ: إذا غلب على ظنه لا يجوز أن يبيعه؛ لأن غلبة الظن هنا تقوم مقام اليقين، ويمكن أن يُعرف هذا بالقرائن؛ مثل: إنسانٍ معروفٍ بشرب الخمر، ويشتري العنب بكثرةٍ، يعني هذه قرينةٌ على أنه يستخدمه في الخمر.

مداخلة:

الشيخ: نعم، إذا كان الغالب على هذا المحل بيع أشياء محرمةٍ، واستخدامها في أشياء محرمةٍ؛ هنا لا يجوز؛ لأنه يكون قد أعانه على المعصية: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

مداخلة:

الشيخ: نعم، إذا غلب على ظنك أنه سوف يستخدمه في الحرام؛ هنا لا يجوز أن تبيع له.

مداخلة:

الشيخ: لا، فقط إذا غلب على ظنك، إذا وُجد قرينةٌ، الأصل هو الجواز، إذا ما وُجد قرينةٌ فابنِ على الأصل، الأصل: هو الجواز.

القصود: أن هذه المسألة يتفرَّع عنها مسائل كثيرةٌ، وما ذكره المؤلف مجرد أمثلةٍ لهذه القاعدة العظيمة.

بيع الرقيق المسلم للكافر

قال:

ولا بيع قِنٍّ مسلمٍ لكافرٍ لا يعتق عليه.

يعني: لا يجوز بيع الرقيق المسلم للكافر؛ وذلك لأنه لا يجوز استدامة المِلك للكافر على المسلم، لا يجوز استدامة الملك لكافرٍ على مسلمٍ؛ لقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

واستثنى المؤلف قال: “لا يعتق عليه”؛ وذلك لأنه إذا كان يعتق عليه؛ فسوف يتحرَّر مباشرةً، سوف يكون حرًّا إن كان يعتق عليه؛ كأبيه وابنه وأخيه، صحَّ ذلك؛ وذلك لأنه وسيلةٌ إلى حرِّيته.

البيع على بيع المسلم

قال:

ولا بيعٌ على بيع المسلم.

يعني: لا يجوز البيع على بيع المسلم، ومثَّل المؤلف للبيع على بيع المسلم، قال:

كقوله لمن اشترى شيئًا بعشرةٍ: أُعطيك مثله بتسعةٍ.

من اشترى منك شيئًا بعشرةٍ، وجاء آخر، وقال: يا فلان، بكم اشتريت هذه السلعة؟ قلتَ: بعشرةٍ، قال: هذا كثيرٌ، أنا أبيعك مثله أو أحسن منه بتسعةٍ، فهذا لا يجوز؛ لأنه من بيع المسلم على بيع أخيه.

شراء المسلم على شراء أخيه

قال:

ولا شراؤه عليه.

يعني: لا يجوز شراء المسلم على شراء أخيه، ومثَّل المؤلف له:

كقوله لمن باع شيئًا بتسعةٍ: عندي فيه عشرةٌ.

فإذنْ يقول من باع شيئًا بتسعةٍ، قال: بكم بعت هذه السلعة؟ قال: بعتها بتسعةٍ، قال: بعتَها رخيصةً، أنا أشتريها منك بعشرةٍ، فهذا الشراء على شراء أخيه، وهذا لا يجوز.

والحكمة من النهي، أو والدليل أولًا، الدليل لتحريم بيع المسلم على بيع أخيه، وشرائه على شراء أخيه: هو قول النبي : ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ [7]، والشراء على شراء أخيه في معنى البيع على بيع أخيه.

وأما الحكمة من ذلك: فلِمَا فيه من الإضرار بأخيه المسلم والعدوان عليه، ولما يسببه ذلك من الشحناء والبغضاء بين المسلمين، ولا شك أن من باع على بيع أخيه، أو اشترى على شراء أخيه؛ أن ذلك يُحدث في الغالب ضغينةً وشحناء بينهما، وقاعدة الشريعة: “سدُّ كل ما أفضى إلى الشحناء والبغضاء بين المسلمين”؛ ولذلك لا يجوز البيع على بيع أخيه، ولا الشراء على شراء أخيه، ولا أن يخطب على خِطبة أخيه، وهذه -إن شاء الله- ستأتينا في باب النكاح.

وهكذا أيضًا ما ذكره المؤلف قال: “السَّوم على سَوم أخيه”.

البيوع المحرمة مع صحة العقد

السوم على سوم المسلم

قال المؤلف:

وأما السَّوم على سوم المسلم مع الرضا والتصريح.

أي: فحرامٌ.

“السَّوم على سَوم المسلم مع الرضا والتصريح”، السَّوم على سوم أخيه، جاء في “صحيح مسلمٍ” من حديث أبي هريرة أن النبي قال: لا يَسُم المسلم على سَوم أخيه [8]، وقسَّم الموفَّق بن قدامة السَّوم على سَوم أخيه، قسَّمه الموفَّق إلى أربعة أقسامٍ:

  • القسم الأول: أن يوجد من البائع تصريحٌ بالرضا بالبيع، فهذا يحرِّم السَّوم كما ذكر المؤلف، وهذا هو الذي يتناوله النهي، مثال ذلك: أن يُحرَّج على سلعةٍ، ثم بعد ذلك يسُومها أحد الحاضرين، فيُصرِّح البائع، يقول مثلًا: نصيبك، أو نحو ذلك، يُصرِّح برضاه بهذا السَّوم، فيأتي إنسانٌ آخر ويقول: أنا أسومها بكذا، فهذا لا يجوز.
  • الثاني: أن يظهر منه ما يدل على عدم رضاه، أو يوجد منه ما يدل على عدم الرضا، فهنا لا يَحرم السَّوم، مثال ذلك: أن يُحرَّج على سلعةٍ فيسُومها أحد الناس بمئةٍ، ولكن هذا يقول: مَن يزيد؟ مَن يزيد؟ لم يوجد منه ما يدل على الرضا، فهنا لا يحرم السَّوم، لا بأس به.
  • الثالث: ألا يوجد من البائع ما يدل على الرضا ولا على عدمه، فهنا لا يحرم السَّوم أيضًا ولا الزيادة؛ كأن يُحرَّج على سلعةٍ، فيقول أحد الحاضرين: اشتريتها بمئةٍ، ويسكت البائع، لا يقول: نصيبك، ولا يوجد منه ما يدل على الرضا ولا على الرفض أو المنع، فالحكم في هذا أنه لا يحرم السَّوم، ويدل لذلك حديث فاطمة بنت قيسٍ رضي الله عنها حين ذكَّرت النبي أنه خطبها معاوية وأبو الجهم، فأمرها النبي  أن تنكح أسامة، قال: أما معاوية فصعلوكٌ لا مال له، يعني: فقيرٌ، وهذا عيبٌ في الخاطب، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه، ما معنى: لا يضع العصا عن عاتقه؟ قيل: إنه ضرَّابٌ للنساء، وقيل: كثير الأسفار، وكلا الأمرين عيبٌ في الخاطب، فأشار عليها النبي عليه الصلاة والسلام أن تنكح أسامة، فكرهت ذلك في أول الأمر، ثم رضيت فاغتَبَطت به [9]، والشاهد من هذه القصة: أن فاطمة بنت قيسٍ رضي الله عنها لم يوجد منها ما يدل على الرضا بمعاوية ولا بأبي الجهم؛ لذلك أمرها النبي أن تنكح أسامة .
  • الرابع: أن يظهر من البائع ما يدل على الرضا من غير تصريحٍ، فاختلف العلماء في هذه الصورة؛ فقيل: لا تحرم المساومة، كما قاله القاضي أبو يعلى، وقال الموفَّق: “لو قيل بالتحريم ههنا؛ لكان وجهًا حسنًا؛ فإن النهي عامٌّ خرجت منه الصورة المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم، ولأنه وُجد منه دليل الرضا، أشبه ما لو صرَّح به”.

والأقرب هو المنع، مثال ذلك: أن يُحرَّج على السلعة، ثم يقول مثلًا: اشتريت منك بمئةٍ، فيبتسم البائع ويُفهم منه أنه قد رضي، أو يتصرف تصرفًا يُفهم منه أنه قد رضي، لكنه لم يُصرِّح، الأقرب هنا أنه يحرم السَّوم على سَوم أخيه.

بيع المصحف

قال:

وبيع المصحف.

أي: يحرم بيع المصحف، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، أنه يحرم بيع المصحف؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: “وددت أن الأيدي تقطع في بيعها”، وقال الإمام أحمد: لا أعلم رخصةً في بيع المصاحف، ولأن في بيع المصحف ابتذالًا له، هكذا علَّلوا.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز بيع المصحف إذا لم يكن في ذلك امتهانٌ وقلة احترامٍ له؛ وذلك لأن الحاجة داعيةٌ إلى ذلك، وما كان كذلك؛ لم يحرم بيعه ولا شراؤه، ولأن الأصل هو الحِل، ولأن الأصل في المعاملات الحل، ولم يرد دليلٌ يدل على المنع من بيع المصحف.

وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما: “وددت أن الأيدي تقطع في بيعها” [10]، فقد أخرجه ابن أبي شيبة، وهو ضعيفٌ من جهة الإسناد، ولا يصح عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما تعليلهم بأن في بيعه ابتذالًا له: فلا نُسلِّم بهذا؛ فإن بيعه ليس فيه ابتذالٌ له، ثم أيضًا نحن نستثني هذه الصورة، نحن عندما أجزنا بيع المصحف؛ شرطنا ألا يكون في ذلك ابتذالٌ له، وهذا هو القول الراجح.

القول الراجح: هو جواز بيع المصحف إذا لم يكن في بيعه ابتذالٌ له، ثم إن في القول بالجواز وسيلةً إلى الحصول على المصحف وانتشاره بين المسلمين؛ فإن بعض الناس لا يستطيع أن يصل إلى المصحف، أو يحصل على نُسَخٍ منه إلا عن طريق الشراء، ولهذا فالأقرب هو القول بجواز بيع المصحف.

بيع الأَمَة التي يطؤها قبل استبرائها

والأَمَة التي يطؤها قبل استبرائها.

يعني: يحرم بيع الأمة التي يطؤها قبل أن يستبرئها بحيضةٍ، وقد رُوي هذا عن عمر ، ولأن هذا فيه صيانةٌ للنَّسب، وقد جاء في حديث أبي سعيدٍ قال: “نهى رسول الله عام أَوْطَاسٍ أن تُوطأ حاملٌ حتى تضع، ولا غير حاملٍ حتى تحيض” [11]، رواه أحمد وأبو داود.

قال:

فحرامٌ، ويصح العقد.

وإنما يصح العقد؛ لأنه يجب الاستبراء على المشتري، لكن البائع يحرم عليه البيع، فإن باع؛ صحَّ البيع ويأثم بهذا؛ لأن الاستبراء يجب على المشتري، يجب عليه أن يستبرئها بحيضةٍ.

هذا طبعًا في الأمة المملوكة، المملوكة للإنسان عندما يبيعها لغيره؛ فهنا لا بد من استبرائها بحيضةٍ؛ حتى لا تختلط الأنساب، فيجب عليه قبل أن يبيعها أن يستبرئها، فإن باعها قبل الاستبراء؛ فيجب على المشتري أن يستبرئها بحيضةٍ.

حكم التصرف في المقبوض بعقدٍ فاسدٍ وحكم ضمانه

ثم قال المؤلف رحمه الله، يعني بقية هذا الفصل:

ولا يصح التصرف في المقبوض بعقدٍ فاسدٍ، ويُضمَن هو وزيادته كمغصوبٍ.

يعني: ما قُبض بعقدٍ فاسدٍ لا يصح التصرف فيه؛ وذلك لأن قبضه على وجه الضمان، وإن تصرف فيه؛ فإنه يضمن، ويُضمَن هذا المبيع مع زيادته ونمائه؛ كالمغصوب تمامًا؛ لأن الواجب هو ردُّ هذا المقبوض بعقدٍ فاسدٍ، رده وفسخ هذا العقد، وعدم الاستمرار فيه.

بقيت هناك بيوعاتٌ لم يذكرها المؤلف مع أهميتها؛ من ذلك: بيع العِينة، وهذا من أشهر البيوع المحرمة، وبيع العينة صورته: أن يبيع سلعةً بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، سُمِّيت بالعينة؛ أخذًا من العَين، والعين هو النقد الحاضر؛ لأن أحد المتبايعين إنما يقصد بهذا البيع النقد لا السلعة.

وبيع العِينة حرامٌ في قول جمهور العلماء؛ لقول النبي : إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم [12]، أخرجه أبو داود وغيره بإسنادٍ جيدٍ، وهذا يدل على تحريم بيع العِينة، وأجاز ذلك الشافعية لكنه قولٌ ضعيفٌ، القول بالجواز قولٌ ضعيفٌ.

والحكمة من تحريم بيع العِينة: أنها ذريعةٌ إلى الربا؛ ولهذا قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “أرى مئةً بخمسين بينهما حريرةٌ”، مثال ذلك: شخصٌ عنده سيارةٌ، باعها على آخر بخمسين ألف ريالٍ مؤجلةً، ثم رجع واشتراها منه بأربعين ألفًا نقدًا، فهذا البائع نُسمِّيه: زيدًا، والمشتري: محمدًا، زيدٌ سيارته ذهبت، ثم رجعت له مرةً ثانيةً، ومحمدٌ حصل على أربعين نقدًا، وثبت في ذمته خمسون، فكأنه باع أربعين بخمسين لكن أدخل بينهما هذه السيارة، هذه السيارة ذهبت، ثم رجعت مرةً أخرى، فهي في الحقيقة حيلةٌ على الربا، وهذه هي الحكمة من تحريم بيع العِينة: أن فيها حيلةً ظاهرةً على الربا.

ونجد أن الشريعة قد شدَّدت في شأن الربا، يعني: صحيح أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، إلا أن الشريعة شدَّدت في مسائل الربا، فلاحِظ أن الحِيَل، يعني: العينة قد تحصل من غير اتفاقٍ ومن غير مواطأةٍ، يعني: قد لا تُؤدِّي للربا، لكنها ذريعةٌ للربا، مثلًا: أن الإنسان يبيع سيارته بخمسين ألفًا مؤجلةً، ولا يخطر في باله أنه سوف يشتريها، ثم يندم ويذهب ويشتريها، ويبيعها ذاك بأربعين نقدًا، يعني: قد تحصل من غير مواطأةٍ، ومع ذلك هي ممنوعةٌ، سواءٌ حصلت بمواطأةٍ أو بغير مواطأةٍ، فهي لا تجوز.

عكس مسألة العِينة: إذا باع سلعةً بنقدٍ، ثم اشتراها بأكثر منه مؤجلًا، يعني: إنسانٌ باع سيارته بأربعين ألف ريالٍ نقدًا، ثم ذهب يبحث عن سيارةٍ فما وجد، والأربعون هذه تصرَّف فيها، فذهب للمشتري قال: يا فلان، أريد منك أن تبيعني سيارتي مرةً أخرى مؤجلةً، من غير تواطؤٍ ومن غير اتفاقٍ، فقال: ما أبيعك إلا بخمسين ألفًا، هذه عكس العِينة، فما حكم عكس العينة؟ هل نقول: إنها محرمةٌ كالعِينة، أو نقول: إنها جائزةٌ؟

مداخلة:

الشيخ: صورة المسألة، يعني: عكس العِينة، صورتها: أن يبيع سلعةً بنقدٍ، ثم يشتريها بأكثر منه مؤجَّلًا، عكس العِينة تمامًا، باع سيارته بأربعين ألفًا نقدًا، واشتراها بخمسين ألفًا مؤجلة، فما الحكم في هذه؟ هل تجوز أم لا؟ عكس العِينة؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، اختلف العلماء في عكس العِينة، لكن خلافهم أقل منه في العِينة، فبعض العلماء منع منها، قال: إنها لا تجوز كالعِينة، وأنها حِيلةٌ على الربا.

واختار الموفق بن قدامة رحمه الله في “المغني”: أن عكس العينة تجوز بشرط: ألا يكون بينهما مواطأةٌ واتفاقٌ، أما إذا كان بينهما مواطأةٌ واتفاقٌ؛ فلا تجوز، فإذا لم يكن بينهما مواطأةٌ ولا اتفاقٌ؛ فإن عكس مسألة العِينة جائزٌ، ولا بأس به.

مسألة التورُّق

عندنا مسألة التورُّق: مسألة التورُّق: أن تكون بين ثلاثة أطرافٍ، أن يشتري الإنسان سلعةً بثمنٍ مؤجلٍ، ثم يبيعها على طرفٍ ثالثٍ نقدًا، وهذه اختلف فيها العلماء؛ فمنهم من منع مسألة التورُّق، وهذا اشتهر عن أبي العباس ابن تيمية رحمه الله، قال ابن القيم: إنه راجعه مرارًا في هذه المسألة، إلا أنه أصرَّ على القول بالتحريم. 

والقول الثاني: هو القول بالجواز، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو الصحيح؛ لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، وهذان عقدان منفصلان، فلا وجه للقول بالمنع، مثال ذلك: إنسانٌ احتاج لسيولةٍ نقديةٍ، يُريد مثلًا بناء مسكن زواجٍ، أو أي غرضٍ، فذهب لمن يبيع سياراتٍ بالتقسيط، واشترى منه سيارةً بخمسين ألف ريالٍ، مقسَّطةً على سنتين، ثلاث سنواتٍ، ثم ذهب للحرَّاج وباعها بأربعين ألفًا نقدًا، هذه مسألة التورُّق، الأصل أنها جائزةٌ، الصحيح أنها جائزةٌ، لماذا؟ لأن هذا بيعٌ وشراءٌ، اشتراها مؤجلةً، وهذا جائزٌ بالإجماع، ثم ذهب باعها على طرفٍ ثالثٍ، ليس له علاقةٌ بمن اشتراها منه بنَقْدٍ، فلا وجه للقول بالمنع، ثم أيضًا فيها توسيعٌ، فيها تيسيرٌ على الناس وتوسيعٌ لهم؛ ولهذا فالذي يُفتي به مشايخنا: هو جواز مسألة التورُّق. 

مداخلة: 

الشيخ: المحظور أنه يقول: إنها ذريعةٌ للربا، يقول: إنها قريبةٌ من العِينة، لكن هناك فرقٌ بينه وبين العِينة، العِينة فيها كم طرفًا؟ طرفان، بينما التورُّق بين ثلاثة أطرافٍ، البنوك أخذت التورُّق هذا الذي أجازه كثيرٌ من الفقهاء -من فقهاء الحنابلة- وتوسعوا فيه، وأوجدوا ما يُسمى بالتورُّق المنظم. 

التورُّق المنظم، صورته: أنك تذهب للبنك، تقول لهم: أُريد مئة ألف ريالٍ نقدًا سيولةً، فيقولون: عندنا سلعٌ، عندنا حديدٌ، معادنٌ، أرزٌ، وصوفٌ، كل مرةٍ يُوجدون شيئًا جديدًا، ماذا أيضًا؟ مكيفاتٌ،… 

مداخلة: 

الشيخ: لا، الصابون أظن ليس هو عند البنوك، يقولون عند البنوك؟ طيب، المقصود يأتون بهذه السلع، ويقولون: نحن عندنا هذه السلع، فوكِّلنا نبيعها عليك الآن، ثم تُوكلنا في بيعها، ونبيعها لك على طرفٍ ثالثٍ، وينزل في رصيدك ما أردت من السيولة النقدية، ويثبت في ذمتك أكثر من هذا المبلغ، فما عليك إذا أردت مثلًا مئة ألف ريالٍ إلا أن تأتي لهم وتُعبئ الاستمارة أنك اشتريت هذا الحديد أو الصوف أو أي سلعةٍ، فتوقِّع على الشراء، ثم توقِّع على توكيل البنك، وبعد ساعةٍ، أو أقل أو أكثر، أحيانًا بعد نصف ساعةٍ، ينزل في رصيدك ما أردت من السيولة النقدية، ويثبت في ذمِّتك أكثر منه، ولو نظرت لهذه المعاملة منفصلةً؛ فالتورُّق هنا جائزٌ، والتوكيل جائزٌ، لكن تركيبها بهذه الطريقة جعلها في الحقيقة حِيلةٌ على الربا، تركيبها وتنظيمها، وتركيبها بهذه الطريقة جعلها حيلةً على الربا؛ ولهذا صدر قرارٌ من “مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي”، ثم أعقبه أيضًا قرار “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” بتحريم التورُّق المنظم بهذه الصورة، وأنه لا يجوز، وأن هذا في الحقيقة تحايلٌ على الربا، يعني: بدل أن تقول: أعطوني مئة ألفٍ بمئةٍ وعشرين، مئة ألف نقدًا بمئةٍ وعشرين مؤجلةً، تدخل هذا الحديد أو الصوف، والبنك يعرف أنك لا تريده أصلًا، وما يوجد أحدٌ سمعْنا أنه أخذ الحديد، هل سمعتم أن أحدًا فعلًا أخذ الحديد واستفاد منه أو باعه بنفسه؟ وإذا أراد وضعوا أمامه العقبات والعراقيل حتى يمل ويترك الحديد لهم، فهذا في الحقيقة نوعٌ من التلاعب والتحايل على الربا؛ ولهذا فإن هذا لا يجوز. 

مداخلة: 

الشيخ: هل أحدٌ منكم كان له تجربةٌ مع أحد البنوك في هذا؟ هل أحدٌ سأل البنك فعلًا؟ 

مداخلة: 

الشيخ: لكن مكَّنوه من أن يستلم الحديد؟ 

مداخلة: 

الشيخ: نعم، هم يضعون عقباتٍ وعراقيل؛ حتى يمل ويسأم ويترك هذا لهم، في الحقيقة تركيبها بهذه الطريقة هذا هو الإشكال، وإلا لو أنها أعيد ضبطها وصياغتها وضبط التملك؛ ما كان في هذا بأسٌ، ولهذا من هذه الصور صورةٌ جائزةٌ: وهي التورُّق في الأسهم المباحة، هذا جائزٌ، حتى وإن كان على سبيل التورق المنظم، لماذا؟ لأن التملك واضحٌ، والقبض واضحٌ، فتقول للبنك: اشتروا لي مثلًا ألف سهمٍ بشركة كذا من الشركات المباحة، فيشتريها البنك، وتدخل الأسهم محفظة البنك، ثم تدخل محفظتك الأسهم، ثم تدخل محفظة المشتري منك، وربما أنها إذا دخلت محفظة البنك؛ يرتفع سعرها أو ينخفض، ربما إذا دخلت محفظتك؛ يرتفع سعرها أو ينخفض، هذه جائزة، الأسهم، لماذا؟ لأن التملك فيها واضحٌ، الأسهم والقبض واضحٌ، بينما الحديد والمعادن والصوف هذه التملك فيها غير واضحٍ، والقبض غير واضحٍ، والصورية تكتنفها؛ ولذلك هي شبيهةٌ بمسائل العِينة. 

فلو أنه أُعيد صياغة التورق المنظم بطريقةٍ صحيحةٍ، يكون التملك معها واضحًا والقبض معها واضحًا؛ لكان ذلك لا بأس به، لكن بالطريقة هذه التي أشرت لكم؛ هذه لا تجوز على هذه الصفة؛ ولذلك نحن استثنينا منها مسألة التورق في الأسهم المباحة؛ لأن تملكها واضحٌ وقبضها واضحٌ. 

مداخلة: 

الشيخ: محلات الصابون؟ 

مداخلة: 

الشيخ: محلات الصابون تختلف، هناك بعض الصور ممنوعةٌ، وبعض الصور جائزةٌ، لكن أكثرها على الصورة الممنوعة، يعني يجعل هذا الصابون..، يأتي إنسانٌ ويشتري منه بالتقسيط، ثم يبيعه لطرفٍ ثالثٍ، ثم الثالث يبيعه لصاحب المحل، يبقى هذا الصابون إلى عشر سنين، وهو باقٍ في مكانه، والناس يتبايعون فيه ويشترون، وهذا في الحقيقة حِيلةٌ على الربا، ولا يجوز مثل هذا. 

وأما بالنسبة لبطاقات (سوا): فهذا لا بأس به؛ لأنه بيعٌ حقيقيٌّ، هو يبيعٌ بالتقسيط، يبيع بالتقسيط. 

نود أن نستعرض البيوع المعاصرة -ما دمنا الآن في البيوع المحرمة- قبل أن ننتقل للشروط في البيع، مَن كان عنده سؤالٌ لعله يرجئه. 

ذكرنا هذه المسألة -مسألة التورُّق- ومسألة المرابحة للآمر بالشراء أيضًا، أشرنا لها في الدرس السابق، وكذلك أيضًا هناك مسائل أخرى قد تكون غير معاصرةٍ، لكن لا بد من الإشارة لها لأهميتها؛ منها: مسألة بيع الحاضر للبادي، لم يذكرها المؤلف، فنشير لمعناها ولحكمها. 

بيع الحاضر للبادي 

بيع الحاضر للبادي: جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: لا يبع حاضرٌ لبادٍ [13]، وفي رواية مسلمٍ: وإن كان أخاه أو أباه [14].  

والحاضر: هو الحضري، يعني: المقيم في الحاضرة، والمقصود به: المقيم في البلد.  

والبادي: ساكن البادية، والمقصود به: القادم من خارج البلد، يعني: الغريب؛ ولذلك قال الموفَّق: “المراد بالبادي: هو من يدخل البلدة من غير أهلها، سواءٌ كان بدويًّا أو من قريةٍ أو من بلدةٍ أخرى“. 

والمعنى: لا يبع من كان ساكنًا مقيمًا في البلد لمن كان غريبًا على البلد، هذا هو المقصود، لكن النبي عليه الصلاة والسلام عبَّر بالغالب، فالغالب: أن الذي كان يقدم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام: هو البدوي الساكن في البادية، لكن في وقتنا الحاضر نحن نوسِّع الدلالة ونقول: البادي، أو من كان غريبًا قادمًا من بلدٍ آخر. 

معنى بيع الحاضر للبادي: قيل لابن عباسٍ رضي الله عنهما: ما معنى بيع حاضرٍ لبادٍ؟ قال: “لا يكون له سمسارًا” [15]، هذا معنى بيع الحاضر للبادي: لا يكون له سمسارًا؛ فمعنى هذا: أنه إذا أتى القادم من غير البلد؛ يتلقفه الحاضر ويقول: أنت لا تعرف أسعار البلد، وأنا أعلم منك بالأسعار، فأنا أريد أن أبيع لك هذه السلعة، فهنا نهى النبي عن هذا؛ إذنْ معنى بيع الحاضر للبادي: أن يكون الحاضر سمسارًا للبادي. 

طيب، أليس في هذا مصلحةٌ لهذا البادي؟ يقول: أنت لا تعرف الأسعار، أنا أعرف الأسعار، أنا أبيعها لك، أتى يريد أن يبيع سيارةً، يريد أن يبيع سلعةً، قال: أنت إنسانٌ غريبٌ عن البلد، أنا أريد أن أبيعها لك، لا تبع أنت، سوف يغلبك الناس إذا بعت، أليس في هذا مصلحةٌ للبادي وللحاضر؟ لهما مصلحةٌ، الحاضر يأخذ أجرة السمسرة، والبادي يستفيد من أنه لا يبيع هذه السلعة إلا بسعر البلد، هناك مصلحةٌ لهما، فلماذا إذنْ نهى النبي عن بيع الحاضر للبادي؟ 

مداخلة: 

الشيخ: أحسنت، لأن فيه إضرارًا بأهل السوق، صحيحٌ أن فيه مصلحةً للحاضر والبادي، لكن فيه إضرارٌ بأهل السوق، ومما يدل لهذا: أن النبي  قال: لا يبع حاضرٌ لبادٍ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضٍ [16]، فلو تُرك هذا الباب، هذا الغريب تُرك يبيع سلعته بنفسه، فإنه في الغالب سوف يبيعها برخصٍ، فإذا باعها برخصٍ؛ أدى ذلك إلى رخص بقية الأسعار؛ فكان في هذا توسعةٌ على الناس في الأسعار، وأدى هذا إلى رخص السلع، ورخص السلع نعمةٌ على أهل السوق، فهذه نظرةٌ عظيمةٌ، انظر لنظرة الشريعة، لا تنظر لمصلحة شخصٍ دون آخر، تنظر لمصلحة الجميع؛ ولذلك نحن نقول لهذا الغريب القادم: لا يجوز -أنت أيها الحاضر- أن تذهب وتقول له: أنا أبيع لك، اتركه هو يبيع بنفسه، طيب قد يُغلَب، نقول: إذا غُلِب هذا؛ يرزق الله الناس بعضهم من بعضٍ، دع الناس يترزقون منه، هو ليس عليه ضررٌ، هو أتى بسلعته وباعها برخصٍ، وهو مستفيدٌ، والناس مستفيدون، فإن غلَبَه الناس؛ فالله تعالى رزقهم منه، رزقهم الله منه، وهو لم يُغبَن، باع برغبته وحريته واختياره، مثل هذا لا يُصاب بغَبْنٍ؛ ولهذا نقول: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضٍ، لا تتدخل، لا تتدخل، اتركه، اتركه، اتركه يبيع، ولو أن الناس طبَّقوا هذا المبدأ؛ لرخصت الأسعار، لكن الواقع أن الناس تجدهم عندما يأتي الغريب يتلقفونه، يقولون: نحن نبيع لك، وهذا يُؤدِّي إلى غلاء الأسعار. 

لكن ماذا لو أن البادي أو الغريب كان إنسانًا فَطِنًا؟ هو الذي ذهب بنفسه للحاضر، وقال: بِعْ لي، أنا ما أعرف الأسعار، يعني العكس، هل يجوز؟ قال: والله أنا ما أعرف الأسعار، أنا غريبٌ، بِعْ لي أنت أيها الحاضر، أنت أعلم مني بالأسعار، هذا يجوز، أيضًا لا نظلمه، إذا هو الذي اختار، فهذا يجوز، لكن الذي نمنع: أن يذهب الحاضر من نفسه، ويقول للبادي: أنا أبيع لك، هذا هو الذي يُمنع منه، أما كون البادي يقول للحاضر: بِعْ لي، فهذا نص أهل العلم على أنه يجوز، وهكذا لو استنصحه؛ فلا بأس أن ينصح له؛ ولذلك جاء في بعض روايات الحديث: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضٍ، فإذا استنصح الرجلُ الرجلَ؛ فلينصح له [17]. 

وأخرج أبو داود في “سننه” من طريق سالمٍ المكي: أن أعرابيًّا حدَّثه أنه قدم بجَلُوبةٍ على طلحة بن عبيدالله ، فقال له طلحة : “إن النبي  نهى أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولكن اذهب إلى السوق فانظر مَن يبايعك فشاورني حتى آمرك أو أنهاك” [18]، فإذا طلب منه النصيحة؛ فينصح له. 

تلقي الركبان

أيضًا من البيوع التي ورد النهي عنها، مما نهى عنه النبي : تلقِّي الرُّكبان. 

 

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الترمذي: 1321، والنسائي: 10004، والدارمي: 1401، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
^2 رواه مسلم: 569.
^3, ^5 سبق تخريجه.
^4 رواه البخاري: 2901، ومسلم: 893.
^6 رواه البيهقي: 10883.
^7 رواه البخاري: 2150.
^8 رواه مسلم: 1515.
^9 رواه مسلم: 1480.
^10 رواه عبدالرزاق: 15465، وابن أبي شيبة: 20209.
^11 رواه أبو داود: 2157، وأحمد: 11228.
^12 رواه أبو داود: 3462، وأحمد: 4825، والبزار: 5887.
^13 رواه البخاري: 2723، ومسلم: 1521
^14 رواه مسلم: 1523.
^15 رواه البخاري: 2158، ومسلم: 1521
^16 رواه مسلم: 1522.
^17 رواه ابن أبي شيبة: 523، وأحمد: 18282، والطبراني: 889.
^18 رواه أبو داود: 3441.
zh