logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(50) كتاب الجهاد- من قوله: “وهو فرض كفايةٍ”

(50) كتاب الجهاد- من قوله: “وهو فرض كفايةٍ”

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى “دليل الطالب”، وكنا قد وقفنا عند كتاب “الجهاد”.

هذا الكتاب كتابٌ عظيمٌ؛ وذلك أن الجهاد هو ذِرْوَة سَنَام الإسلام، وعَدَّه بعض أهل العلم الركن السادس من أركان الإسلام.

وكون بعض الفرق قد انحرفتْ في فهم الجهاد فإن ذلك لا يمنع كونه ذا منزلةٍ عاليةٍ وعظيمةٍ في دين الإسلام.

وسيأتي الكلام عن فضل الجهاد وما ورد فيه عند قول المؤلف: “وأفضل مُتطوَّعٍ به الجهاد”.

تعريف الجهاد

تعريفه: مصدر “جَاهَدَ” الرباعي، وهو بَذْل الجُهْد في قتال العدو.

وشرعًا: هو قتال الكفار.

إذا أُطلق الجهاد في سبيل الله فالأصل أنه يُطْلَق على جهاد قتال الكفار.

أقسام الجهاد

قسَّم العلماء الجهاد إلى خمسة أقسامٍ:

  • القسم الأول: جهاد النفس، وذلك بجهادها على تعلُّم الدين والعمل به وتعليمه والصبر عليه.
    وجهاد النفس هو أصل الجهاد، فإن جهاد قتال الكفار فرعٌ عن جهاد قتال النفس؛ لأن الإنسان إذا لم يُجاهد نفسه فإنه لا يستطيع جهاد الكفار؛ ولذلك إذا قاتل الكفارَ رياءً فإن هذا لا يُعَدُّ جهادًا في سبيل الله، فإذا قاتل الكفار رياءً أو سُمْعَةً أو لغرضٍ دنيويٍّ فهنا لم ينتصر على نفسه التي بين جنبيه، فدلَّ ذلك على أن قتال الكفار فرعٌ عن جهاد النفس.
  • والقسم الثاني: جهاد الشيطان، وذلك بدفع ما يُزَيِّنه من الشهوات، وما يأتي به من الشبهات.
  • والقسم الثالث: جهاد الفُسَّاق، ويكون ذلك باليد إن استطاع الإنسان، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبقلبه.
  • القسم الرابع: جهاد المُنافقين، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، ويكون جهاد المنافقين بالعلم والحُجَّة والبيان، ولا يكون بالسيف، يعني: لا يكون جهاد المنافقين بالسلاح؛ لأنهم تحت قهر أهل الإسلام، لكن يكون بالعلم والحُجَّة والبيان.

 قال ابن القيم رحمه الله عن جهاد المنافقين: “إن جهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار”، قال: “وهو جهاد خواصِّ الأُمة وورثة الرسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركون فيه والمُعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددًا، فهم الأعظم عند الله قدرًا”.

فجهاد المنافقين من أعظم ما يكون من الجهاد؛ وذلك لأن المنافقين ضررهم عظيمٌ على الإسلام والمسلمين، وكما قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4]؛ لأنهم يَلْبَسون لِبَاس الإسلام، لكنهم يُبْطِنون الكفر، ويَكِيدون للإسلام وأهله، ويلبسون لباس الإصلاح، لكنهم يُفسدون، كما قال الله : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ۝ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة:11- 12].

وقد يَظْهَر بعض المنافقين بمظهر أهل الخير والصلاح، ويُفْسِدون في الدين أعظم مما يُفسده الكفار، وقد تكون عندهم علومٌ شرعيةٌ، لكنهم يصدون عن سبيل الله؛ ولهذا قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]، والأحبار هم علماء اليهود، والرهبان علماء النصارى، فذكر الله عنهم خَصْلَتين هما:

  • أكل أموال الناس بالباطل، فيأكلون الدنيا بالدين.
  • والأمر الثاني: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، الصدّ عن سبيل الله تعالى.

فقد يكون الصّد عن سبيل الله تعالى من علماء، قد لا يكون من عامةٍ، وإنما يكون من علماء، فذكر الله تعالى هذا عن علماء اليهود والنصارى، وفيه تحذيرٌ مما قد يقع من ذلك ممن ينتسب للعلم من المسلمين.

إذن هذا هو القسم الرابع، وهو جهاد المنافقين.

القسم الخامس: جهاد الكفار، وهو المقصود في هذا الباب.

حكم الجهاد

قال المصنف رحمه الله:

وهو.

أي: الجهاد.

فرض كفايةٍ.

الأصل في الجهاد في سبيل الله ..

طبعًا نحن إذا أطلقنا الجهاد نقصد به جهاد الكفار، هذا هو قتال الكفار، وهذا هو الذي سنسير عليه في هذا الباب.

الأصل أنه فرض كفايةٍ؛ لقول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]؛ ولقول الله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244].

ومما يدل على أنه فرض كفايةٍ، وعلى أن الأصل فيه أنه فرض كفايةٍ: قول الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، فبيَّن الله أن المؤمنين ما كان لهم لينفروا كافةً للجهاد، وإنما ينقسمون فرقتين: فرقة تذهب وتُقاتل، وفرقة تبقى وتتفقه في الدين، ثم إذا رجعت الفرقة التي تُقاتل بيَّنتْ لها الفرقة التي تَفَقَّهَتْ في الدين ما تعلمته من أحكام الدين، فدلَّ هذا على أن الأصل في الجهاد أنه فرض كفايةٍ.

ولم يذكر المؤلف الحالات التي يكون فيها فرض عينٍ، وقد ذكرها غيره من أهل العلم، ذكروا أربع حالاتٍ يجب فيها الجهاد ويُصبح فرض عينٍ:

  • الحالة الأولى: إذا حضر القتال، يعني: إذا حضر الصفّ؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ۝ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15- 16]، وقد عَدَّ النبي من السبع المُوبقات: الفرار يوم الزحف.
  • الحالة الثانية: إذا حاصر العدوُّ بلدَ المسلمين، فهنا يُصبح الجهاد فرض عينٍ؛ قياسًا على ما إذا حضر القتال؛ ولأن العدو إذا حاصر بلدًا فسيمنع أهله من الخروج منه، وسيمنع من الدخول إليه، وحينئذٍ يجب على أهل ذلك البلد القتال؛ دفاعًا عن بلادهم، وعمَّن معهم من المسلمين.
  •  الحالة الثالثة: إذا استنفره الإمام؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41].
  • الحالة الرابعة: إذا احتاج إليه المسلمون في القتال والمُدافعة، كأن يوجد -مثلًا- في وقتنا الحاضر دبابات وطائرات لا يُحْسِن قيادتها إلا هو، فهنا يتعيَّن عليه الجهاد في سبيل الله.

فهذه الأحوال الأربع يُصبح فيها الجهاد فرض عينٍ، وإلا فالأصل أنه فرض كفايةٍ.

حكم الجهاد مع قيام مَن يكفي به

قال:

ويُسَنُّ مع قيام مَن يكفي به.

فإذا قام به مَن يكفي فإنه يبقى في حقِّ الآخرين سُنةً.

والجهاد قد يكون جهادَ دَفْعٍ، وقد يكون جهاد طلبٍ.

وأما قول بعض الناس: إن الجهاد هو جهاد دَفْعٍ فقط، وليس جهاد طلبٍ. فقولٌ غير صحيحٍ، ومُخالفٌ للنصوص، فالجهاد قد يكون جهاد دَفْعٍ، وقد يكون جهاد طلبٍ.

أما جهاد الدَّفْع فعندما يُهاجم الكفارُ بلادَ المسلمين، فهنا يكون الجهادُ جهادَ دَفْعٍ.

وأما جهاد الطلب فهذا يكون عند قوة المسلمين، فواجبٌ على المسلمين أن يُبَلِّغوا دين الله إلى الناس، ومَن وقف عائقًا في سبيل تبليغ دين الإسلام وجب قتاله إلا إذا دفع الجزية للمسلمين: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

وقد ذكر بعض أهل العلم أن للمسلمين ثلاثة أحوالٍ:

  • الحال الأولى: حال القوة، وفي هذه يقوم المسلمون بالجهاد دَفْعًا وبَدْءًا، يعني: جهاد دَفْعٍ، وجهاد طلبٍ.
    مثالها: كحال النبي وأصحابه في المدينة بعد الهجرة، فإن المسلمين قد أصبحتْ لهم قوةٌ؛ ولذلك قام النبي بالجهاد، فلا تكاد سنةٌ من السنوات بعد الهجرة إلا وفيها غزوةٌ.
  • الحال الثانية: حال الضعف الشديد، كحال النبي وأصحابه في مكة، وهذه لا يجوز فيها القتال، فقد كان النبي وأصحابه ممنوعين من الجهاد في تلك الحال؛ وذلك لأن المفاسد المُترتبة على الجهاد أكبر من المصالح، فكان المسلمون يرون الأصنام تُعلَّق على الكعبة، ويستأذنون النبي في تكسيرها فيمنعهم من ذلك، وكان يأمرهم بالصبر، ويمر على آل ياسر ويقول: اصبروا آل ياسر، موعدكم الجنة [1]، ويمر على بلالٍ وهو يُعَذَّب، ويمر على المسلمين وهم يُعَذَّبون، فكان يأمرهم بالصبر، ويعدهم بالجنة، ولم يأمرهم بالجهاد، لكن لمَّا هاجروا إلى المدينة أذن لهم بالجهاد: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39].
    فهذه حال الضعف الشديد، فالجهاد ممنوعٌ.
  • الحال الثالثة: الحال الوسطى، ليست حالة القوة كحال المسلمين في المدينة، ولا حالة الضعف الشديد كحال المسلمين في مكة.
    وهذه يجب فيها جهاد الدَّفْع دون جهاد الطلب، يجب جهاد الدَّفْع، يعني: لو قاتل الكفارُ يجب علينا أن نُقاتلهم، لكن لا يلزمنا أن نبدأ بالجهاد، يجب جهاد الدَّفْع دون جهاد الطلب.
    وسمعتُ شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله يقول: “والأقرب -والله أعلم- أننا في هذا الزمن في الحالة الوسطى”.
    والحمد لله أننا لسنا في حالة الضعف الشديد، فيجب إذن علينا إذا قاتل الكفارُ أن نُقاتلهم، لكن جهاد الطلب هذا لا يكون إلا مع قوة المسلمين.

شروط وجوب الجهاد

قال المؤلف رحمه الله:

ولا يجب إلا على ذَكَرٍ.

انتقل المؤلف للكلام عن شروط وجوب الجهاد، يعني: في الأحوال التي يجب فيها، فذكر المؤلف له شروطًا:

الشرط الأول: قال: “إلا على ذَكَرٍ”، الذكورية، أما النساء فلا يجب عليهن الجهاد؛ لقول عائشة رضي الله عنها: قلتُ: يا رسول الله، هل على النساء من جهادٍ؟ قال: نعم، عليهن جهادٌ لا قتال فيه: الحج والعمرة [2]؛ ولأن المرأة ليست من أهل القتال؛ لضعفها، ولذلك لا يُسَنُّ لها كما سيأتي.

الشرط الثاني قال:

حُرٍّ.

الحرية، فلا يجب الجهاد على العبد؛ ولهذا كان النبي يُبايع الحُرَّ على الإسلام والجهاد، ويُبايع العبد على الإسلام دون الجهاد، كما جاء ذلك عند النسائي وغيره [3].

الشرط الثالث قال:

مسلمٍ.

الإسلام، فالجهاد لا يجب إلا على المسلمين؛ لأنه لقتال الكفار كما هو ظاهرٌ.

الشرط الرابع:

مُكلَّفٍ.

أي: بالغٍ، عاقلٍ، فالبلوغ شرطٌ لوجوب الجهاد، فلا يجب الجهاد على صبيٍّ دون البلوغ.

ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “عَرَضَنِي رسول الله يومَ أُحُدٍ في القتال وأنا ابنُ أربع عشرة سنةً فلم يُجِزْني، وعَرَضَنِي يومَ الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً فأجازني” [4].

فدلَّ ذلك على اشتراط البلوغ، ودلَّ أيضًا -يعني: من الفوائد- على أن من علامات البلوغ: بلوغ تمام خمس عشرة سنةً.

لكن إذا قلنا: خمس عشرة سنة، ما معناها؟

يعني: أتمّ خمس عشرة، ودخل السادسة عشرة.

وكذلك العقل؛ لأن التَّكليف يشمل البلوغ والعقل، فلا يجب القتال على المجنون؛ لأنه لا يتحقق بقتاله المقصود.

قال:

صحيحٍ.

وهذا هو الشرط الخامس:

صحيحٍ، واجدٍ.

وبعضهم يُعبِّر بـ”مُستطيع”: أن يكون مُستطيعًا، وذلك بأن يكون صحيحًا في بدنه، وأن يكون واجدًا.

واجدٍ من المال ما يكفيه ويكفي أهله في غَيْبَته، ويَجِدُ مع مسافة قصرٍ ما يحمله.

يعني: هذه كلها تدخل تحت شرط الاستطاعة.

الشرط الخامس: نستطيع أن نقول: الاستطاعة، وذلك بأن يكون -أولًا- صحيحًا في بدنه، فأما الأعمى والأعرج والمريض فلا يجب عليهم الجهاد؛ لقول الله : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61] يعني: في تَرْك الجهاد.

وأيضًا يدخل في الاستطاعة: أن يكون واجدًا من المال ما يكفيه ويكفي أهله في غَيْبَته؛ لقول الله : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91].

وأيضًا من الاستطاعة قال: “ويجد مع مسافة قصرٍ ما يحمله”؛ لقول الله تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92]، وهؤلاء نفرٌ من الصحابة الصادقين أتوا النبي في غزوة تبوك، وطلبوا منه أن يحملهم، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتأثَّروا وبَكَوا، ورجعوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.

أحدهم اسمه: عُلبة بن زيد ، قام وصلَّى من الليل وبكى، وقال: “اللهم إنك قد أمرتَ بالجهاد، ورَغَّبْتَ فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوَّى به مع رسول الله ، ولم تجعل في يد رسول الله ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلمٍ بكل مَظْلَمَةٍ أصابني بها في مالٍ أو جسدٍ أو عِرْضٍ”.

فلما أصبحوا قال النبي : أين المُتصدق هذه الليلة؟ فلم يقم أحد، فقال: أين المُتصدق؟ فَلْيَقُمْ فقام إليه فَأَخْبَرَه، فقال رسول الله : أَبْشِرْ، فوالَّذي نفس محمدٍ بيده، لقد كُتِبَتْ في الزكاة المُتقبلة [5].

إذن إذا لم يجد الإنسان ما يحمله على السير في مسافة الطريق فإنه لا يجب عليه الجهاد، ويكون معذورًا.

حكم تشييع الغازي لا تَلَقِّيه

قال:

وسُنَّ تشييع الغازي لا تَلَقِّيه.

لأن عليًّا  شَيَّع النبيَّ في غزوة تبوك حتى جاء ثَنِيَّة الوداع وهو يبكي ويقول: يا رسول الله، تُخَلِّفني في النساء والصبيان؟! فقال عليه الصلاة والسلام مقولته العظيمة: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبيَّ بعدي [6]، فكان في هذا ثناءٌ عظيمٌ على علي بن أبي طالب .

نعم، التَّشييع يعني: توديعه، كما يُشَيَّع القريب -مثلًا- أو المسافر، يعني: التَّشييع معناه: التَّوديع.

وأما قوله: “لا تَلَقِّيه” قالوا: لأنَّ عليًّا شَيَّع النبيَّ ولم يَتَلَقَّه.

ولكن قال بعض أهل العلم: إنه يُشرع تَلَقِّي الغازي؛ لأن النبي لما قدم من غزوة تبوك تَلَقَّاه الناس، كما جاء في حديث السَّائب بن يزيد قال: “لما قدم رسول الله من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، فخرجتُ مع الناس وأنا غلامٌ”، رواه أحمد والترمذي وقال: “حديثٌ حسنٌ صحيحٌ” [7]. وأصله في “البخاري” [8].

وأنشدوا النَّشيد المعروف:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع [9]

وهذا -كما حقق ابن القيم- إنما كان حين قدم النبي  من غزوة تبوك، وليس حينما هاجر.

الشائع عند كثيرٍ من الناس: أنه عندما هاجر النبي من مكة إلى المدينة أتوا بهذا النَّشيد: “طلع البدر علينا”، ولكن الصحيح أن ذلك عندما قدم من غزوة تبوك؛ لأن ثنية الوداع في طريق تبوك، وليست في طريق مكة.

على كل حالٍ، حديث السائب صحيحٌ، وأصله في “البخاري”، لكن النَّشيد الذي ذكرتُ في سنده مقالٌ، وكثيرٌ مما يُروى في السِّيَر ربما من جهة الإسناد قد لا يصح، لكن إذا كان لا يترتب عليه حكمٌ شرعيٌّ فلا بأس بذكره والاستئناس به، وإلا لو قلنا بهذا لأبطلنا كثيرًا من الروايات الواردة في كتب السِّيَر.

إذن الأقرب -والله أعلم- أنه يُسَنُّ تشييع الغازي وتَلَقِّيه.

أفضلُ مُتطوَّعٍ به: الجهاد

قال:

وأفضل مُتطوَّعٍ به: الجهاد.

أفضل مُتطوَّعٍ به: الجهاد في سبيل الله، فالجهاد في سبيل الله هو ذِرْوَة سَنَام الإسلام، وقد عَدَّه بعض أهل العلم -كما ذكرنا- ركنًا سادسًا من أركان الإسلام.

وقال الإمام أحمد: “لا أعلم شيئًا بعد الفرائض أفضل من الجهاد”.

وقال أبو العباس ابن تيمية: “اتَّفق العلماء فيما أعلمه على أنه ليس في التَّطوعات شيءٌ أفضل من الجهاد”.

وقد وردتْ في فضله نصوصٌ كثيرةٌ من الكتاب والسنة، منها قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، وآياتٌ كثيرةٌ في كتاب الله .

ومن السنة أيضًا أحاديث كثيرةٌ جدًّا، ومنها قول النبي : لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحَةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها. أخرجه البخاري في “الصحيح” [10].

وأيضًا جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: مَثَلُ المُجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم [11].

وأيضًا لمَّا سُئل النبي : أيُّ الناس أفضل؟ قال: مؤمنٌ يُجاهد في سبيل الله بنفسه وماله. متفقٌ عليه [12].

وأيضًا جاء في حديث أنسٍ : أن النبي  قال: ما من أحدٍ من أهل الجنة يَسُرُّه أن يرجع إلى الدنيا غير الشهيد، فإنه يُحب أن يرجع إلى الدنيا، يقول: حتى أُقْتَل عشر مراتٍ في سبيل الله. مما يرى مما أعطاه الله من الكرامة. رواه الترمذي [13]، وأصله في “البخاري” [14].

هذا يدل على عظيم منزلة الجهاد في سبيل الله في دين الله، وهو ذِرْوَة سَنَام الإسلام، والنصوص الواردة في فضله كثيرةٌ جدًّا، فهو أفضل مُتطوَّعٍ به.

غَزْوُ البحر أفضلُ من البَرِّ

قال:

وغَزْوُ البحر أفضلُ.

يعني: من غَزْو البَرِّ؛ وذلك لحديث: المائدُ في البحر الذي يُصيبه القَيْءُ له أجر شهيدٍ، والغَرِقُ له أجر شهيدين [15]. رواه أبو داود، وله طرقٌ مُتعددةٌ يَشُدُّ بعضها بعضًا.

وفي حديث أبي أُمامة : أن النبي قال: شهيد البحر مثل شهيدَيِ البَرِّ [16]، لكنَّ هذا الحديث ضعيفٌ من جهة الإسناد، رواه ابن ماجه، وهو ضعيفٌ؛ ولأن البحر أعظم خطرًا ومشقةً، فإن الذي يُجاهد في البحر هو بين خطر العدو وخطر الغرق، فكان غزو البحر أفضل من غزو البَرِّ.

تُكَفِّر الشهادةُ جميعَ الذنوب سوى الدَّين

قال:

وتُكفِّر الشهادةُ جميعَ الذنوب سوى الدَّين.

وذلك لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي قال: يُغْفَر للشهيد كلّ ذنبٍ إلا الدَّين. رواه مسلم [17].

ولحديث أبي قتادة : أن النبي قام فيهم فَذَكَّر بالجهاد في سبيل الله، وأنه أفضل الأعمال، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيل الله تُكَفَّر عني خطاياي؟ فقال النبي : نعم، إن قُتِلْتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غير مُدْبِرٍ، ثم قال: كيف قلتَ؟ فأعاد عليه، فقال: نعم، وأنت صابرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غير مُدْبِرٍ، إلا الدَّين؛ فإن جبريل قال لي ذلك. رواه مسلم [18].

هذه الأحاديث تدلُّ على أن الدَّين لا يُكَفَّر عن الشهيد، وإذا كان لا يُكَفَّر عن الشهيد الذي باع نفسه لله فمن باب أولى أنه لا يُكَفَّر عن غيره.

طيب، لماذا الدَّين لا يُكفَّر عن الشهيد؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، أحسنتَ؛ لأنه من حقوق العباد، وحقوقُ العباد مبناها على المُشَاحَّة، فحقوق العباد أمرها عظيمٌ جدًّا؛ ولهذا قال النبي في أعظم مجمعٍ في عرفات: أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كَحُرْمَة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [19].

إذن حقوق العباد عظيمةٌ.

طيب، هل يختص هذا بالدَّين أو يشمل جميع حقوق العباد فلا تُكفَّر للشهيد؟

نعم، يعني: ظاهر الحديث نعم، هذا هو الأقرب، الأقرب أن جميع حقوق العباد، وليس الدَّين فقط؛ ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “مظالم العباد كقتلٍ وظلمٍ ونحوها لا تُكفَّر عن الشهيد”.

إذن الذي يُكفَّر ما كان مُتعلقًا بحقوق الله ​​​​​​​، أما حقوق العباد فإنها تبقى لأصحابها يوم القيامة.

وهذا يدل على خطورة حقوق العباد، فحق الله قد يتجاوز الله عنه، قد يتوب العبد فيتوب الله عليه، لكن حقَّ العباد يبقى لهم يوم القيامة.

ولذلك ينبغي أن يحذر المسلم من التَّعدي على حقوق العباد، ينبغي أن يكون مُعَظِّمًا لشأن حقوق العباد؛ لأنه يُلاحَظ تساهل بعض الناس في هذا، فتجد بعض الناس يتعدى على عِرْض إخوانه المسلمين؛ يطعن فيهم، ويتكلم فيهم، فهؤلاء تبقى حقوقهم يوم القيامة.

وكذلك مَن يتعدى على أموالهم فيأخذ ما ليس له، ويتعدى على حقوقهم، فهؤلاء سيكونون خُصَماءه يوم القيامة ويقتصون منه، لكن يكون القصاص بالحسنات والسيئات، كما قال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما المُفلس؟ إن المُفلس من أُمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فَيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه؛ أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار [20]، والعياذ بالله.

لا يتطوع بالجهاد مَدِينٌ لا وفاء له إلا بإذن غريمه

قال:

ولا يتطوع به مَدِينٌ لا وفاء له إلا بإذن غريمه.

لا يتطوع به مَدِينٌ؛ لأن الشهيد لا يُغْفَر له الدَّين؛ ولذلك يُقَدّم الشيء الواجب عليه وهو سداد الدَّين على الشيء غير الواجب عليه وهو الجهاد، فمَن كانت عليه ديونٌ فليس له أن يتطوع بالجهاد في سبيل الله إلا إذا أذن له غريمه بذلك فلا بأس، وهذا أيضًا كالحج، فليس له أن يحج وعليه دَينٌ إلا إذا أذن الدائن بذلك.

لا يتطوع بالجهاد مَن أحدُ أبويه حرٌّ مسلمٌ إلا بإذنه

ولا مَن أَحَدُ أبويه.

يعني: لا يتطوع به، قال:

ولا مَن أَحَدُ أبويه حُرٌّ مسلمٌ إلا بإذنه.

يعني: لا يتطوع بالجهاد مَن أحدُ أبويه حرٌّ مسلمٌ إلا بإذنه، فدلَّ ذلك على أن الوالدين إذا لم يَأْذَنَا للإنسان بجهاد التَّطوع فلا يجوز له أن يذهب للجهاد؛ وذلك لما جاء في الصحيحين عن ابن مسعودٍ قال: سألتُ رسول الله : أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: ثم بِرُّ الوالدين، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله [21].

وجه الدلالة؟

قدَّم بِرَّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله.

وأيضًا جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي فاستأذنه في الجهاد، فقال: أَحَيٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد [22]، فلم يُرخِّص له النبي في الجهاد، وأمره أن يُجاهد في بِرِّ والديه.

طيب، هل يلزم استئذان الوالدين لكل تطوعٍ، أو أن هذا خاصٌّ بالجهاد؟

مَن يُجيب؟

طالب: …….

الشيخ: لو أراد أن يُصلي صلاة التطوع هل يلزم؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، هذا خاصٌّ بالجهاد، استئذان الوالدين هنا خاصٌّ بالجهاد، أما بقية التَّطوعات فلا يلزم استئذان الوالدين، فلا يلزم استئذان الوالدين -مثلًا- في الصلاة، ولا في الصيام، ولا في طلب العلم، ولا في غير ذلك من التَّطوعات.

والفرق بين الجهاد وغيره: أن الجهاد فيه خطرٌ على النفس، وسوف تتعلق أنفس الوالدين بولدهما الذاهب إلى الجهاد، ويحصل لهما قلقٌ عظيمٌ، بخلاف ما إذا أتى بشيءٍ من التَّطوعات من غير الجهاد.

وهنا قاعدةٌ فيما يلزم أو في طاعة الوالدين عمومًا: أنه تجب طاعة الوالدين فيما فيه نفعٌ لهما، ولا ضرر فيه على الولد.

هذا هو الضابط: تجب طاعة الوالدين فيما فيه نفعٌ لهما، ولا ضرر فيه على الولد.

خُذْ هذه الفائدة، فإذا لم يكن فيه نفعٌ لهما فلا تجب طاعتهما فيه.

فإذا تَعَنَّتَ أحد الوالدين -مثلًا- وقال لولده: “لا تَصُمْ أيام البيض”، أو “لا تَصُم السِّتَّ من شوال”، أو “لا تَصُم الاثنين والخميس”، بدون سببٍ، وليس لأنه لن ينفعه إذا صام، لكن تَعَنَّتَ، أو “لا تذهبْ -مثلًا- لحلقة تحفيظ القرآن”، أو نحو ذلك، فهنا لا تلزم طاعتُه، لا تجب طاعته.

أو الأم -مثلًا- قالت لولدها: “طَلِّق امرأتك” بدون سببٍ، فإنه لا تلزمه طاعتها، لا يلزمه أن يُطيعها.

وهكذا لو كان على الولد ضررٌ فيما أمره به والداه؛ فلا تلزمه طاعتهما.

إذن الضابط هو: تجب طاعة الوالدين فيما فيه منفعةٌ لهما، ولا ضرر فيه على الولد.

هذا الضابط ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو ضابطٌ مهمٌّ ويُفيد طالب العلم.

طيب، إذن قلنا: إِذْنُ الوالدين لا بد منه في جهاد التَّطوع.

طيب، إِذْنُ الإمام؟

كذلك أيضًا جهاد التَّطوع لا بد فيه من إِذْن الإمام، ونصَّ الفقهاء على ذلك.

قال المُوفق ابن قُدَامَة رحمه الله: “إن أمر الجهاد مَوكُولٌ إلى الإمام واجتهاده، ويلزم طاعته فيما يراه من ذلك”.

يُسَنُّ الرِّباط وهو لُزُومُ الثَّغْر للجهاد

قال المصنف رحمه الله:

ويُسَنُّ الرِّباط.

ثم وَضَّحَ المقصود بالرباط فقال:

وهو لُزُومُ الثَّغْر للجهاد.

“الرباط” مصدر “رَابَطَ”، وعرَّفه المؤلف بهذا التعريف: لزوم الثَّغْر للجهاد.

و”الثَّغْر” هو المكان الذي يُخْشَى منه دخول العدو، وهو الذي يُسمَّى في الوقت الحاضر بـ”الحدود بين أرض المسلمين والكفار”، فهذه هي الثُّغُور.

فَلُزُوم هذه الحدود والثُّغور سُنَّةٌ؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200]، فقوله: وَرَابِطُوا أول ما يَدْخُل في ذلك: الرِّباط على الثُّغور؛ ولحديث سلمان : أن النبي قال: رِبَاطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأُجْرِيَ عليه رزقه، وأَمِنَ الفَتَّان رواه مسلم [23].

انظر إلى الفضل العظيم: جرى عليه عملُه إلى يوم القيامة، فعمله يجري، وهذا يدل على فَضْل الرباط، فإذا كان هذا في الرباط فما بالك بالقتال في سبيل الله؟!

أقلّ الرباط وتمامه

قال:

وأقلُّه ساعة، وتمامه أربعون.

قال الإمام أحمد: يوم الرِّباط، وليلة الرِّباط، وساعة الرِّباط.

قال:

وتمامه أربعون يومًا.

لحديث أبي هريرة : أن النبي قال: تمام الرباط أربعون، أخرجه أبو الشيخ في كتابه “الثواب”، لكنه ضعيفٌ لا يصح.

لا يصح هذا الحديث: تمام الرباط أربعون؛ ولذلك فالرباط الصحيح أنه لا يتقيد بمدةٍ معينةٍ، وإنما يكون بحسب الحاجة.

فضل الرباط في سبيل الله

قال:

وهو أفضل من المُقَام بمكة.

وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إجماعًا؛ وذلك لأن المقام به أنفع، وأهله أحوج.

وأفضله ما كان أشدّ خوفًا.

لاشتداد الحاجة إليه.

قال المصنف رحمه الله:

ولا يجوز للمسلمين الفرار من مِثْلَيهم ولو واحدًا من اثنين، فإن زادوا على مِثْلَيهم جاز.

لا يجوز للمسلمين الفرار من مِثْلَيهم.

كان في أول الأمر: أن المسلم لا يجوز له الفرار من عشرة أمثاله، فإن زاد على عشرة أمثاله جاز له الفرار، ثم نُسِخَ ذلك.

فمَن يذكر لنا الآية التي تدل لهذا؟

طالب: …….

الشيخ: لا، قبلها، هذه الآية الناسخة، أما الآية المنسوخة فما هي؟

طالب: …….

الشيخ: نعم، أحسنتَ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65]، كم النسبة؟

واحد من عشرة، يعني: عشرين اضْرِبْهَا في عشرة: مئتان.

فكان في أول الأمر: المسلم لا يجوز له أن يَفِرَّ وإن كان الكفارُ أكثرَ منه مرتين وثلاثًا وأربعًا إلى عشر مراتٍ، فَشَقَّ ذلك على المسلمين، فَنُسِخَتْ هذه الآية بالآية التي بعدها، وهي؟

مَن يذكر لنا الآية؟

طالب: …….

الشيخ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66].

فدلَّ ذلك على أنه إذا كان الكفار مِثْلَيِ المسلمين فلا يجوز الفرار، فإن زادوا على مِثْلَيهم جاز الفرار.

ولهذا قال المصنف: “ولا يجوز للمسلمين الفرار من مِثْلَيهم ولو واحدًا من اثنين”؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الأنفال:16].

وعَدَّ النبي الفرارَ من الزحف من السبع المُوبِقَات [24]، لكن بهذا الشرط الذي ذكره المؤلف: “فإن زادوا على مِثْلَيهم جاز”؛ لقول الله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ.

طيب، إذا كان عدد المسلمين ألفًا، وعدد الكفار ثلاثة آلافٍ، هل يجوز الفرار؟

نعم، يجوز.

طيب، إذا كان عدد المسلمين ألفًا، وعدد الكفار ألفين لا يجوز الفرار، وإذا كان عدد المسلمين ألفًا، وعدد الكفار ألفًا وخمسمئةٍ فلا يجوز الفرار من باب أولى.

هذا هو الذي استقر عليه الأمر، وهذا تخفيفٌ من الله على عباده؛ ولهذا قال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، وفرح المسلمون بذلك لمَّا نزلتْ هذه الآية.

حكم الهجرة وشروطها

قال:

والهجرة واجبةٌ على كلِّ مَن عجز عن إظهار دينه بمحلٍّ يغلب فيه حكم الكفر والبدع المُضِلَّة.

الهجرة: هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام.

وبعضهم يُعبر بـ: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.

وتجب بشرطين:

  • الشرط الأول: أشار إليه المؤلف بقوله: “على كلِّ مَن عجز عن إظهار دينه”.
    فالشرط الأول: أن يكون عاجزًا عن إظهار شعائر دينه؛ وذلك لأن القيام بدينه أمرٌ واجبٌ، والهجرة من ضرورة الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ.
  • الشرط الثاني: أن يكون قادرًا على الهجرة، فإن كان عاجزًا عن الهجرة لم تجب عليه، ويدل لهذا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا۝ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا۝ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:97- 99].

فدلَّ ذلك على أن الأصل في الهجرة أنها واجبةٌ، وأن مَن لم يُهاجر مع توفر هذين الشرطين فإنه تتوفاه الملائكة ظالمًا لنفسه، ومأواه جهنم، وهذا يدل على ارتكابه لذنبٍ عظيمٍ؛ لأن هذا وعيدٌ شديدٌ، ولكن إذا تخلف أحد الشرطين لم تجب الهجرة؛ فإذا كان غير قادرٍ على الهجرة فإنه مَعْفُوٌّ عنه، كما قال : إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وهكذا أيضًا إذا كان في مكانٍ يستطيع فيه إظهار شعائر الدين، فإن الهجرة فيه لا تجب.

ولهذا قال المؤلف:

فإن قدر على إظهار دينه فمسنونةٌ.

يعني: فَتُسَنُّ الهجرة ولا تجب، وإنما تُسَنُّ؛ وذلك ليتمكن من تكثير المسلمين ومعونتهم والقيام بواجب الأخوة، ويتخلص من تكثير الكفار ومُخالطتهم ورؤية المُنكر بينهم.

والضابط في كونه عاجزًا عن إظهار شعائر دينه: أن يُمْنَع من فِعْل الواجبات؛ فَيُمْنَع -مثلًا- من الصلاة مع الجماعة في المسجد، أو يُمْنَع من الأذان، أو يُمْنَع من إظهار شعائر دينه فلا يتمكن منها، فهنا يجب عليه أن يُهاجر إلى بلد الإسلام إذا كان قادرًا.

والهجرة حكمها بَاقٍ إلى قيام الساعة، وقد حكى الحافظ ابن كثيرٍ الإجماعَ على ذلك.

قال المُوفق ابن قدامة رحمه الله: حكم الهجرة بَاقٍ لا ينقطع إلى يوم القيامة.

وفي وقتنا الحاضر لا يكاد يوجد أحدٌ عاجزًا عن إظهار شعائر دينه الآن، فالآن في أي مكانٍ في العالم يستطيع المسلم أن يُظْهِر شعائر دينه، لكن كان ذلك في زمنٍ مضى، لما كانت فترة الشيوعية كان بعض الناس لا يستطيع أن يُظْهِر شعائر دينه في البلاد التي تُسيطر عليها الشيوعية في ذلك الوقت.

أما في وقتنا الحاضر -ولله الحمد- فقد أصبح أيُّ مسلمٍ في أيِّ مكانٍ في العالم قادرًا على إظهار شعائر دينه.

فيُقال لهؤلاء: إن الهجرة في حقِّكم مُستحبةٌ، ولكن لو وُجِدَ مسلمٌ في بلدٍ لم يستطع فيه أن يُظْهِر شعائر دينه فيجب عليه أن يُهاجر إلى بلد الإسلام إذا كان قادرًا.

فالمُقام في بلاد المشركين وبلاد الكفر فيه خطورةٌ على دين المسلم، وقد رأينا في بعض بلاد غير المسلمين: أن الجيل الأول يبقى مُحافظًا على إسلامه، ثم تنقص المُحافظة في الجيل الثاني، ثم تضعف الهوية في الأجيال التالية حتى ربما تنعدم الهوية تمامًا في الأجيال التالية، وفي الجيل الرابع أو الخامس ربما تَنْمَحِي الهوية تمامًا.

ولذلك تجد بعض المسلمين الذين أجدادهم مسلمون في تلك البلاد يذكر أن جدَّه كان مسلمًا، لكن مع مرور الوقت انْمَحَتْ هوية هؤلاء المسلمين، فهذا يدلُّ على خطورة المُقام في بلاد الكفار.

وأيضًا من الخطورة في المُقام في بلاد الكفار: كثرة الشبهات والشهوات التي تَرِدُ على المسلم، فالشبهات كثيرةٌ؛ لأنه يُخالط غير المسلمين، فيُوردون عليه شُبَهًا عظيمةً، فهو على خطرٍ من أن ينحرف بسبب تلك الشبهات في عقيدته وفي دينه.

وكذلك أيضًا الشهوات؛ فإن كثيرًا من بلاد الكفر ليس عندهم تحفُّظٌ، وعندهم كلُّ مَن أراد الوقوع في الشهوات المُحرمة فالمجال أمامه مفتوحٌ.

ولذلك تكون على المسلم خطورةٌ في بقائه في تلك البلاد، فإن لم تكن عليه خطورةٌ، فالخطورة على أبنائه وأحفاده.

ثم أيضًا تأتي الخطورة من تعاملاته المالية، فمعظم مَن يتعامل معهم لا يتورعون عن الربا، والبنوك قائمةٌ على الربا.

ثم أيضًا الأخطر من هذا كله: أنه لا يستطيع أن يُربِّي أبناءه وبناته التربية الصحيحة؛ وذلك لأنه في بعض الدول -خاصةً الدول الغربية- عندهم أنظمةٌ تُعِيق المسلمين عن أن يُسيطروا على أبنائهم ويربوهم التربية الصالحة، فعندهم -مثلًا- أن الضرب ممنوعٌ، وأيُّ أبٍ يضرب ابنه يُلَقِّنون الابن وهو في المرحلة الابتدائية يقولون: إذا ضربك أبوك فاتصل على هذا الرقم. وتكون ثلاثة أرقامٍ سهلة الحفظ، فيتصل على الشرطة من خلال هذا الرقم فيأتون ويأخذون الابن من أبيه.

وأذكر قصةً حصلتْ في إحدى الدول -وكنتُ في دورةٍ شرعيةٍ- حدَّثني بها بعض الجالية: أن فتاةً أرادتْ أن تتبرج فمنعها أبوها، فاتصلتْ على الشرطة، فأتوا وأخذوا الفتاة من أبيها، وحبسوا الأب، قالوا: لأنه مُنْتَهِكٌ لحقوق الإنسان.

فهذه من أكبر المُشكلات التي تُواجه المسلمين المُقيمين في بلاد الغرب وبلاد الكفار عمومًا.

فالمُقام في بلاد الكفر لا شكَّ أن فيه هذه السلبيات وغيرها مما لم نذكره أكثر بكثيرٍ مما ذكرناه.

ولهذا يُسَنُّ للمسلم -ولو كان قادرًا على إظهار شعائر دينه- أن يُهاجر إلى بلاد المسلمين، وأن يعيش مع إخوانه المسلمين في بلاد المسلمين.

ومن ذلك أيضًا: الابتعاث لغير حاجةٍ فيه خطورةٌ، خاصةً إذا كان شابًّا مُراهقًا، حَدَثًا في السنِّ، فإن عليه خطرًا عظيمًا بأن ينحرف.

ولذلك فإن اندفاع كثيرٍ من الطلاب الآن إلى الابتعاث لا شكَّ أن فيه خطورةً كبيرةً على دينهم، فينبغي ألا يذهب إلى تلك البلاد إلا مَن كانت له حاجةٌ، وفي تخصصاتٍ نادرةٍ لا توجد في بلاد المسلمين، أما أن يذهب شبابٌ وشابات إلى بلاد الكفر المفتوحة على مِصْرَاعيها فهذا من أعظم ما يكون خطورةً على هؤلاء الشبان، وعلى هؤلاء الشَّابَّات.

طيب، وددنا أن نأخذ هذا الفصل حتى نُنْهِي الدرس القادم كتاب “الجهاد”، فنأخذ الفصل الثالث، وإن شاء الله تعالى الكلام فيه ليس طويلًا.

أقسام الأسرى

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ: والأُسَارَى من الكفار على قسمين:

قسمٌ يكون رقيقًا بمجرد السَّبي، وهم النساء والصبيان.

هذا هو القسم الأول: يكونون أَرِقَّاء بمجرد السَّبي، وهم النساء والصبيان، وهذا هو هَدْي النبي ، وقد سَبَى نساء وصبيان هوازن، فأتاه وَفْدُ هوازن مسلمين، وطلبوا منه أن يُرْجِعَ إليهم أموالهم وسبيهم، فَخَيَّرهم النبي فقال: إما السَّبي، وإما المال، فاختاروا السَّبي، فَرَدَّ السَّبي عليهم كما في “البخاري” وغيره [25].

وكذلك أيضًا سَبَى نساء وصبيان بني المُصْطَلِق [26]، فكان من هَدْي النبي عليه الصلاة والسلام: سبي النساء والصبيان.

القسم الثاني قال:

وقسمٌ لا.

يعني: لا يكون رقيقًا بمجرد السَّبي.

وهم الرجال البالغون المُقاتلون.

فهؤلاء:

الإمامُ مُخَيَّرٌ فيهم.

بين أربعة أمورٍ، قال:

بين قتلٍ، ورِقٍّ، ومَنٍّ، وفِدَاءٍ.

القتل لقول الله ​​​​​​​: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5]، وقد قتل النبي من بني قُريظة ما بين ستمئة إلى سبعمئة رجلٍ، فإن بني قُريظة نقضوا العهد، فسار إليهم عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وأمر بأخاديد أن تُحْفَر في المدينة؛ فَحُفِرَتْ، فأمر بهم فقتل ما بين ستمئةٍ إلى سبعمئةٍ [27].

فلا بد من الحزم مع هؤلاء، واللِّين مع هؤلاء البشر لا ينفع، فكان النبي حازمًا مع يهود بني قُريظة فقتلهم، قتل ما بين ستمئةٍ إلى سبعمئةٍ، وحكَّم فيهم سعدَ بن معاذٍ ، فحكم فيهم بهذا الحكم: أن تُقْتَل رجالهم، وتُسْبَى ذَرَاريهم، وقال عليه الصلاة والسلام لسعدٍ : لقد حكمتَ فيهم بحكم الله [28]، فكانت تُؤخذ منهم الجماعة ولا يرجعون، فيقول بعضهم لبعضٍ: ما بالهم يذهبون ولا يرجعون؟! فقال أحدهم: أَمَا إنكم لا تعقلون، أما إنهم قد ذهبوا إلى القتل.

أحد الصحابة أراد أن يشفع في أحدهم؛ لأنه كانت له يدٌ عليه، فقبل النبي شفاعته، فقال: لا، أريد أن أذهب مع الأحبة.

انظر إلى الضَّلال -نسأل الله العافية- كيف كان إصرارهم على القتل؟! يعني: لو أن هؤلاء اليهود أسلموا هل سيقتلهم النبي ؟

لا، أبدًا، لن يقتلهم، لكنهم أَصَرُّوا على الكفر حتى قتلهم عليه الصلاة والسلام، قتل منهم ما بين ستمئة إلى سبعمئة.

وقَتَل النَّضْرَ بنَ الحارث في غزوة بدرٍ، وقَتَل عقبةَ بن أبي مُعَيْطٍ، وقتل أبا عَزَّة الجُمَحِي، وأبو عَزَّة الجُمَحِي أُسِرَ يوم بدرٍ، فَذَكَر للنبي فَقْرًا وحاجةً فتركه، فَأُسِرَ يوم أحدٍ، فَذَكَر للنبي فقرًا وحاجةً، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تمسح على عارضيك بمكة تقول: قد خدعتُ محمدًا مرتين، فأمر النبي بقتله [29]، لا يُلْدَغ مؤمنٌ من جُحْرٍ مرتين، فكونك عفوتَ عنه المرة الأولى، فعاد إلى العمل مرةً ثانيةً، مع أن النبي أخذ عليه العهد ألا يُقاتل مع المشركين، لكنه أُسِرَ يوم أُحُدٍ، فقتله النبي .

وأما الرِّقُّ فلأنه يجوز إقرارهم على الجزية، فبالرِّق أولى؛ ولأنه أبلغ في صَغَارِهم.

وأما المَنُّ فلقول الله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4].

المَنُّ يعني: الإطلاق مجانًا من دون مقابلٍ.

وقد مَنَّ النبيُّ على عددٍ من الناس: فمَنَّ النبي على ثُمامة بن أُثَال [30]، وكذلك أيضًا مَنَّ على أبي عَزَّة الجُمَحي في أول الأمر، يعني: في غزوة بدرٍ، وكذلك مَنَّ على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب رضي الله عنها [31].

قال:

وفِدَاءٍ بمالٍ.

وذلك لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: جعل الرسول فداء الأُسَارى أهل الجاهلية بأربعمئةٍ. رواه أبو داود [32]، وهو صحيحٌ بمجموع الطرق.

أو بأسيرٍ مسلمٍ.

يعني: يكون الفداء بأسيرٍ مسلمٍ؛ لحديث عمران : أن النبيَّ فَدَى رجلين من أصحابه برجلٍ من المشركين من بني عقيل. رواه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ [33].

ويجب عليه فعل الأصلح.

وسبق أن ذكرنا في دروسٍ سابقةٍ قاعدة: أن التَّخيير إذا كان للإنسان فهو تخييرُ تَشَهٍّ، وإذا كان التَّخيير لغيره فهو تخيير مصلحةٍ.

فهنا الإمام: التَّخيير لنفسه أو لغيره؟

لغيره، فهو تخيير مصلحةٍ؛ ولذلك يلزمه أن يختار الأصلح من هذه الأمور الأربعة: إما القتل، وإما الرِّق، وإما المَنّ بدون شيءٍ -يعني: مجانًا- وإما الفِدَاء بمالٍ أو بأَسْرَى، فيختار الأصلح من هذه الأمور.

قال:

ولا يصح بيع مُسْتَرَقٍّ منهم لكافرٍ.

لما رُوِيَ: أن عمر كتب إلى أُمراء الأمصار ينهاهم عن ذلك؛ ولأن بقاءه رقيقًا للمسلمين فيه تعريضٌ له بالإسلام.

طيب، هنا قيل: إن أسلم الأسير صار رقيقًا في الحال.

وقيل: إنه يحرم قتله إذا أسلم، ويُخيَّر فيه الإمام بين المَنِّ والفِدَاء والاسترقاق دون القتل.

وهذان القولان روايةٌ عن الإمام أحمد، وصاحب “الإنصاف” قال: إن المذهب هو الرواية الثانية. واختاره المُوفق ابن قُدامة رحمه الله.

هذا إذا أسلم بعد أَسْرِه، أما إن أسلم قبل أَسْرِه فحرم قتله واسترقاقه والمُفاداة به.

إذن الاسترقاق إنما يكون للكافر إذا استُرِقَّ، أما إذا أسلم فلا يمكن أن يُسْتَرَقَّ مسلمٌ؛ لأن الرِّقَّ يُعَرِّفه الفقهاء بـ: عجزٍ حُكْمِيٍّ يقوم بالإنسان بسبب كفره بالله تعالى.

يُحْكَم بإسلام مَن لم يبلغ من أولاد الكفار عند وجود أحد ثلاثة أسبابٍ

طيب، آخر مسألةٍ معنا، قال:

ويُحْكَم بإسلام مَن لم يبلغ من أولاد الكفار عند وجود أحد ثلاثة أسبابٍ.

يعني: مَن لم يبلغ.

والبلوغ يكون بالعلامات المعروفة: إما بلوغ تمام خمس عشرة سنةً، وإما بنبات الشعر الخشن حول الفرج، أو بإنزال المَنِي يقظةً أو منامًا.

فمَن لم يبلغ من أولاد الكفار يُحْكَم بإسلامه عند وجود أحد هذه الأسباب الثلاثة.

الأول قال:

أحدها: أن يُسْلِم أحدُ أبويه خاصةً.

لقول الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، فيتبع الوالدَ المُسْلِمَ.

الثاني: أن يُعْدَم أحدُهما بدارنا.

والثالث: أن يَسْبِيَه مسلمٌ مُنفردًا عن أحد أبويه.

فهنا يُحْكَم له بالإسلام؛ لمفهوم قول النبي : كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسَانه [34]، وقد انقطعتْ تبعيَّتُه لأبويه بانقطاعه عن أحدهما وإخراجه من دارهما إلى دار الإسلام.

وأما إذا سُبِيَ الأطفال مُنفردين فإنهم يُحْكَم لهم بالإسلام بالإجماع، حكى هذا المُوفق، فقال: السَّبي من الأطفال مُنفردًا عن أبويه مُسْلِمٌ بالإجماع.

فإذا سَبَاه ذِمِّيٌّ فعلى دينه.

يعني: يكون على دين هذا الذمي؛ إذا كان يهوديًّا فيكون يهوديًّا، وإذا كان نصرانيًّا فيكون نصرانيًّا؛ للحديث السابق: كل مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه.

أو سُبِيَ مع أبويه فعلى دينهما.

لهذا الحديث: فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسَانه.

نعم، أن يُعْدَم أحدُهما بدارهما، أو يَسْبِيَه مسلمٌ مُنفردًا عن أبويه، فإنه يُحْكَم له بالإسلام؛ لمفهوم الحديث: كل مولودٍ يُولَد على الفطرة.

ونقف عند “أحكام الغنيمة”، ونستفتح بها -إن شاء الله تعالى- درسنا القادم.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 769.
^2 رواه ابن ماجه: 2901، وأحمد: 25322.
^3 رواه البخاري: 4307، ومسلم: 1863، والنسائي: 4160.
^4 رواه البخاري: 2664، ومسلم: 1868.
^5 “دلائل النبوة” للبيهقي: 5/ 218- 219.
^6 رواه البخاري: 4416، ومسلم: 2404.
^7 رواه الترمذي: 1718، وأحمد: 15721.
^8 رواه البخاري: 3083.
^9 رواه البيهقي في “دلائل النبوة”: 2/ 506- 507.
^10 رواه البخاري: 2792، ومسلم: 1880.
^11 رواه البخاري: 2787، ومسلم: 1878.
^12 رواه البخاري: 2786، ومسلم: 1888.
^13 رواه الترمذي: 1661.
^14 رواه البخاري: 2817، ومسلم: 1877.
^15 رواه أبو داود: 2493.
^16 رواه ابن ماجه: 2778.
^17 رواه مسلم: 1886.
^18 رواه مسلم: 1885.
^19 رواه البخاري: 67، ومسلم: 1679.
^20 رواه مسلم: 2581.
^21 رواه البخاري: 527، ومسلم: 85.
^22 رواه البخاري: 3004، ومسلم: 2549.
^23 رواه مسلم: 1913.
^24 رواه البخاري: 2766، ومسلم: 89.
^25 رواه البخاري: 2307.
^26 رواه البخاري: 2541، ومسلم: 1730.
^27 مغازي الواقدي: 2/ 518، و”الطبقات الكبرى” لابن سعد: 2/ 58.
^28 رواه البخاري: 3043، ومسلم: 1769.
^29 رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 18028.
^30 رواه البخاري: 462، ومسلم: 1764.
^31 رواه أحمد: 26362.
^32 رواه أبو داود: 2691، والنسائي في “السنن الكبرى”: 8607.
^33 رواه الترمذي: 1568، وأحمد: 19827.
^34 رواه البخاري: 1385، ومسلم: 2658.
zh