عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
اتفقنا في آخر درس على أننا ننتقل إلى (كتاب الحج) في هذا الدرس وما بعده؛ وذلك اغتنامًا لمناسبة الزمان، وأن نقتصر على “دليل الطالب”، لكن وعدنا أيضًا بأن يكون للدرس مقدمة حتى يتكامل الحضور.
فضل الحج
قبل أن ندخل في شرح عبارات المؤلف، أَذْكر مقدمة في فضل الحج.
الحج عبادة عظيمة من أفضل العبادات، بل ظاهر الأدلة أن الحج يُكفِّر جميع الذنوب حتى الكبائر، بينما الصلوات الخمس وصيام رمضان والجمعة إلى الجمعة تُكفِّر الصغائر، كما قال عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفِّراتٌ لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر[1].
لكنَّ الحجَّ ظاهرُ الأدلة أنه يُكفِّر حتى الكبائر، ومن هذه الأدلةِ قولُ النبي في الحديث المتفق عليه: مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[2]. والذي ولدته أمُّه: هل عليه ذنوب؟ ليس عليه ذنوب، لا صغارٌ ولا كبار، هذا دليل على أنه يُكفِّر الصغائر والكبائر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذا متفق عليه[3]، وفي قصة إسلام عمرو بن العاص لما قال للنبي : ابسُط يمينك أبايعك. فبسط النبي يمينه، فقبض عمرٌو يده، قال عليه الصلاة والسلام: لِمَ يا عمرو؟!. قال: أردت أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟. قال: أشترط أن يُغفَر لي. فقال عليه الصلاة والسلام: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله[4].
هذا موضع الشاهد؛ يعني: يهدم ما كان قبله من الذنوب والخطايا، كما أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وكما أن الهجرة تهدم ما كان قبلها.
وهناك دليل من القرآن يدل على أن الحج أيضًا يُكفر جميع الآثام والذنوب، مَن يذكر لنا هذا الدليل؟ دليلٌ من القرآن، نحن ذكرنا الأدلة من السنة واضحةً وصريحة، لكن هناك دليل من القرآن يدل على أن الحج يُكفِّر جميع الذنوب، ما هو الدليل؟
مداخلة: …
الشيخ: يعني: وقد لا يكون صريحًا في آيات الحج، آخر آيات الحج.
مداخلة: …
الشيخ: آخر آية في الحج: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة: 203].
لَا إِثْمَ عَلَيْهِ ليس معناها: لا حرج عليه، وإن كانت مُضمَّنة هذا المعنى، لكن المعنى المقصود في الأساس كما قال ابن كثير وغيره: لَا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني: أنه ينصرف وليس عليه آثام؛ لأن مَن تأخَّر لا يقال: لا إثم عليه، مَن تأخَّر أتى بالأفضل.
فلا يُقال: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لو كان المعنى: لا حرج عليه؛ لقال: “مَن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه” ولم يقل: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لكن معنى الآية: أن مَن أتى بالحج واتقى الله فيه، فسواءٌ تعجَّل أو تأخَّر؛ ينصرف من الحج ولا إثم عليه؛ أي: إنه قد حُطَّت عنه جميع الذنوب والخطايا.
لكن، هذا، هل هو لكل حاجٍّ؟ لا، لِمَنِ اتَّقَى لمن اتقى الله في حجه، وهو الذي وقع حجه مبرورًا.
ولذلك؛ فالأدلة متفقة على هذا المعنى: لِمَنِ اتَّقَى، كما في هذه الآية؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: مَن حج فلم يَرفُثْ ولم يَفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[5]، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[6]؛ فنجد أن النصوص قيَّدت الفضل بتقوى الله وعدمِ ارتكاب الفسوق والإثم، فليس كلُّ حاجٍ إذَنْ يحصل له هذا الفضل، وإنما من اتقى الله في حجه.
وهذا يدل -أيها الإخوة- على فضل هذه العبادة وعظيم ثوابها وأجرها، وأنَّ مَن اتقى الله تعالى فيها وأتى بها على الوجه الأكمل يرجع وقد حُطَّت عنه جميع ذنوبه وخطاياه، بل جاء في حديث العباس بن مِرْداس، وهو حديث عظيمٌ صَنَّف الحافظ ابن حجر رسالةً فيه، وهي رسالة مطبوعة اسمها “قوة الحِجاج في عموم المغفرة للحاج”، أنصح بقراءتها: “قوة الحِجاج في عموم المغفرة للحاج”، في شرح هذا الحديث، وخَلُص إلى أن هذا الحديث ثابت بمجموع طرقه: حسن، أو صحيح.
وفيه: أن النبي دعا عشيَّة عرفة لأُمَّته بالمغفرة، يعني: للحُجاج بالمغفرة، فأجابه الله إلا في التَّبِعات فيما بينهم؛ يعني: المظالم التي بينهم، فقال النبي : يا ربِّ، إنك قادر على أن تغفر للظالم، وتُثيب المظلوم خيرًا لمَظْلمته. فلم يُجِبْه، فلما كان صبيحةَ جمعٍ؛ يعني بمزدلفة، تبسَّم النبي ، فقالوا: ما يُضحكك أضحك الله سِنَّك؟ قال : إن اللهَ قد استجاب لي في أُمَّتي؛ فغفر للظالم وأعطى المظلومَ خيرًا مِن مظلمته، فلما علم ذلك عدوُّ الله إبليس جعل يحثو على رأسه التراب. فذلك تبسُّمي[7].
فهذا الحديث العظيم يدل على عظيم فضل الحج، وأنه -يعني الحاج- تُحط عنه ذنوبه وخطاياه حتى في هذه الأمور إذا اتقى الله في حجه.
ومنذ أن أمر الله تعالى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن يُؤذِّن في الناس بالحج، والبيتُ يُحَجُّ إلى وقتنا هذا، وسيُحَجُّ إلى قيام الساعة، فإن الله تعالى لما أمر إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت ففَرَغا من البناء، أمر الله إبراهيم أن يُؤذِّن في الناس بالحج، قال: يا رب، كيف أُنادي؟ قال: أذِّن وعلينا البلاغ. فصَعِد على أَكَمةٍ مرتفعة، وقال: يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحجَّ؛ فحُجُّوا. فأسمع اللهُ هذا النداءَ كُلَّ مَن كتب الله له أن يحج البيت. فهذا معنى قول الحُجاج: “لبيك اللهم لبيك”؛ يعني: إجابة لك بعد إجابة.
فأصبح الناس يحجون البيت، منذ ذلك الزمان والبيت يُحَجُّ، ولم يَخْلُ عامٌ من الأعوام من الحج، حتى في السنة التي قَتَل فيها القرامطةُ الحُجاجَ؛ لأنهم قد اعتدَوْا على الحُجاج يوم التروية، قتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفعلوا أمورًا عظيمة، وقلعوا الحجر الأسود، وذهبوا به إلى القَطِيف، وبقي فيه سنين، ومع ذلك لم يخلُ ذلك العام من حُجاج، وإن كانوا قليلًا جدًّا، اختُلف في عددهم، لكنهم قليل جدًّا، لكن البيت لم يزل يُحَجُّ ولله الحمد.
وفي وقتنا الحاضر تضاعف سكان الكرة الأرضية، تضاعف سكان البشر، وكان قبل مائة سنة، مائة وخمسين عامًا، وصل إلى مليار؛ يعني: ألف مليون، وخلال المائة والخمسين عامًا الماضية تضاعف سكان البشر سبع مرات، فأصبح الآن سبعة آلاف مليون إنسان.
وقد يكون هذا -والله أعلم- من أمارات الساعة؛ لأن ظاهر الأدلة يدل على كثرة البشر في آخر الزمان، كما في حديث عوف بن مالك: اعدُد ستًّا بين يدي الساعة، وذكر منها: أن الروم تغزو، الروم، وذكر أنهم يأتون تحت ثمانين رايةً، تحت كل راية اثنا عشر ألفًا[8]. يعني: قرابة مليون، وهذا عدد كبير، كون الجيش يكون بهذا العدد؛ يدل على كثرة البشر.
وهذا ما نراه في الوقت الحاضر مع كثرة البشر وكثرة الناس، أصبح يكثر الحجيج.
عدد المسلمين الآن أكثر من مليارٍ ومائتي مليون مسلم، لو حج فقط 1% كم سيكون عدد الحجاج؟ مليار ومائتا مليون؟ مع أن التقدير أكثر، يمكن مليار وخمسمائة مليون، لكن أخذنا بالتقدير الأقل أنه مليار ومائتا مليون.
يكون اثني عشر مليونًا، لو حج 1% يكون اثني عشر مليونًا.
لاحِظ، هؤلاء لا تتسع لهم المشاعر قطعًا، طيب لو حجَّ نصف واحد في المائة، كم عددهم؟ ستة ملايين. فالآن، الذين يحجون مليونان، أقل من ربع واحد في المائة.
ولهذا؛ فإجراءات تحديد الحجاجِ الدولةُ مضطرة لها، لو فُتح المجال كيف تتسع المشاعر لهذه الأعداد الهائلة الكبيرة من الحجاج؟!
ولكن أيضًا ننظر لكثرة الحجاج من الجانب الإيجابي الآخر: وهو أن كثرة الحجاج تدل على عزة الإسلام وعظمة الإسلام ورفعة الإسلام؛ لماذا؟
لأن هذا المظهر الذي نراه لا يُوجد له نظير في أيِّ دين من الأديان أو مِلَّة من الملل، يجتمع أناس من جميع دول العالم، من جميع بقاع الأرض، يأتون إلى هذا المكان في زمان واحد ومكان واحد، يجتمعون في عرفاتٍ بلِباس واحد، وقد زالت الفوارق بينهم، يأتون راغبين مختارين، بل مشتاقين متلهِّفين، يأتون لهدف واحد وهو إرضاء الله .
هذا لا يوجد له نظير، وهذا مظهر من مظاهر العزة للإسلام والمسلمين، والرفعة والقوة.
ولهذا؛ فمن أعظم ما يغيظ أعداء الإسلام هو الحج؛ ولهذا لو وُجد للمسلمين إعلام قوي؛ لكان لهذا المظهرِ الأثرُ العظيم في نفوس غير المسلمين.
فأقول: ننظر لكثرة الحجاج وللزحام، ننظر إلى أنه مظهر من مظاهر العزة والقوة للإسلام والمسلمين.
كتاب الحج
بعد هذه المقدمة، نعود لعبارة المؤلف رحمه الله تعالى، قال المؤلف رحمه الله:
مداخلة: …
الشيخ: الله أعلم.
طيب، (كتاب الحج)، الحج: معناه في اللغة: القصد. وشرعًا: “التعبُّد لله تعالى بأداء المناسك على ما جاء في السنة”. هذا من أحسن ما قيل في تعريفه: “التعبد لله تعالى بأداء المناسك على ما جاء في السنة”.
والعمرة لغة: الزيارة. وشرعًا: “زيارة البيت على وجه مخصوص”.
حكم الحج والعمرة
قال المؤلف:
(وهو واجب مع العمرة في العمر مرة). أما وجوب الحج فهذا مُجمع عليه، فهو أحد أركان الإسلام الخمسة؛ قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وقال النبي : بُني الإسلام على خمس، وذكر منها: حج بيت الله الحرام[9].
ولهذا؛ مَن أنكر وجوب الحج فإنه يكون كافرًا كفرًا أكبر مُخرِجًا عن الملة.
وهو واجب في العمر مرة واحدة؛ لقول النبي : يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحُجُّوا، فقام رجل: فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال : لو قلتُ نعم لَوَجَبتْ، الحج مرة، وما زاد فهو تطوع[10].
أقوال العلماء في حكم العمرة
وأما العمرة فقد اختُلف في حكمها، المؤلف ذهب إلى أنها واجبة، ولهذا قال: (وهو واجب مع العمرة)، وذهب إلى وجوبها الشافعية والحنابلة، وذهب إلى استحبابها الحنفية والمالكية، فهما قولان لأهل العلم.
ومَن قال بالاستحباب، قال: إنه لم يرد في الأدلة شيء صحيح صريح يدل على وجوب العمرة، وإنما ورد فيها: إما أدلة صحيحة غير صريحة، أو صريحة غير صحيحة.
وأما القائلون بالوجوب؛ فاستدلوا بما يأتي:
أولًا: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة. رواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح[11].
وأصله في البخاري، لكن في البخاري لفظ آخر، في البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل؛ أفلا نجاهد؟ قال: عليكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة [12].
ووجه الدلالة: قوله : عليهن فهو ظاهر في الوجوب؛ لأن “على” من صيغ الوجوب، كما هو مقرر عند الأصوليين، وإذا ثبت ذلك في حق النساء؛ ففي حق الرجال من بابٍ أولى.
ثانيًا: عن أبي رُزين العقيلي أنه أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعن -يعني: الركوب على الراحلة-، فقال عليه الصلاة والسلام: حُجَّ عن أبيك واعتمر. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد[13]، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فقوله: واعتمر هذا أمرٌ بالعُمرة، والأمر يقتضي الوجوب، خاصة أنه قد قَرَنه بالحج.
وقد اختار هذا القول البخاري في “صحيحه”، حيث بوَّب عليه في “صحيحه” بقوله: “باب وجوب العمرة وفضلها”، ثم قال البخاري: “قال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس أحدٌ إلا وعليه حجة وعمرة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها لَقَرينتها في كتاب الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]”.
“لَقَرِينَتُها”؛ قال الشُّراح: قول ابن عباس رضي الله عنهما: “لَقرينتها” يعني: الفريضة، أصل الكلام أن يقول: “لقرينته”، لكن المقصود الحج.
ثم ساق البخاري بسنده عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[14].
والقول الأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو وجوب العمرة، وهو أن العمرة واجبة.
الذي اعتبرناه: القول الأول، أو الثاني؟ المقصود: القول الراجح هو القول بوجوب العمرة؛ وذلك لأن أدلته أظهر وأقرب.
ثم إننا نجد أن العمرة قرينة الحج كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، لا يُذكر الحج إلا ويُذكر معه العمرة، كما أن الزكاة قرينة الصلاة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. فتجد أن العمرة تُذكر مع الحج، الحج واجبٌ، وكذلك العمرة، وإن كان وجوبها أدنى من وجوب الحج.
فالأقرب -والله أعلم- أن العمرة تجب في العمر مرة واحدة كالحج، هذا هو الأظهر في هذه المسألة، وهو الذي رجحه مشايخنا: سماحة شيخنا عبدالعزيز ابن باز، والشيخ محمد ابن عثيمين، رحمهما الله تعالى جميعًا.
وقد اعتمر النبي أربعَ عُمَرٍ كلَّهن في ذي القعدة[15].
وجاء في حديثِ ابن عمر: أنه اعتمر ثلاثَ عُمَرٍ في ذي القعدة والرابعة في رجب، ولكن ردت هذا عائشة رضي الله عنها، قالت: وَهَم أبو عبدالرحمن، ما اعتمر النبي إلا وقد كان معه، وما اعتمر في رجب قط[16].
فالصحيح أن عُمَرَ النبيِّ عليه الصلاة والسلام كانت كلُّهن في ذي القَعْدة، اعتمر عمرة القضية في سنة سبع، وعمرته مع الجِعِرَّانة، وعمرته مع حجة الوداع، وكذلك العمرة في السنة السادسة -وقد صُدَّ عن البيت- عمرة الحديبية، وفي السنة السابعة، وعمرته من الجعرانة، وعمرته في حجة الوداع؛ فهي أربعُ عُمَرٍ.
لكن يَرِد تساؤلٌ؛ أيهما أفضل: العمرة في رمضان أو العمرة في ذي القعدة؟ أو بعبارةٍ أوسع: في أشهر الحج، أيهما أفضل؟ هل الأفضل أن تعتمر في أشهر الحج أو تعتمر في رمضان؟
مداخلة: …
الشيخ: في رمضان هذا.. نعم، نعم.
مداخلة: …
الشيخ: وإذا نظرنا إلى فعل النبي ، عُمَره كلها في ذي القعدة، وإذا نظرنا إلى قوله، فقد قال : عمرة في رمضان تعدل حجة، هذا في الصحيحين[17].
ولو افترضنا تعارُضَ القولِ والفعل، فأيُّهما يُرجَّح؟ القول، دلالة القول أصرح من دلالة الفعل، مع أنه ليس هناك تعارض، لكن دلالة القول أصرح.
ولعل النبي عليه الصلاة والسلام إنما اعتمر في ذي القعدة؛ لأن قريشًا في الجاهلية كانت ترى أن العمرة في أشهر الحج مِن أفجر الفجور، يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام بهذا أن يُبطل معتقدًا موجودًا عندهم، وكان راسخًا عند الصحابة.
ولذلك؛ أمر النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بالعمرة، وتردَّدوا حتى أمرهم أمرًا لازمًا، قال : افعلوا ما آمركم به[18].
فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما اعتمر في ذي القعدة لإبطال هذا الاعتقاد، لكن قوله : عمرة في رمضان تعدل حجة، هذا من قول النبي عليه الصلاة والسلام، ومتفق عليه، فيكون القول الراجح: أن العمرة في رمضان أفضل، وإن كانت العمرة في أشهر الحج لها فضل.
مداخلة: …
الشيخ: لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعتمر، إنما هو كان قارنًا، يعني ممكن نحسبها معه، عمرته مع حجه، نعم، فإذا اعتبرت هذا، نعم تكون عمرته مع حجة الوداع، هذه ذكرناها من ضمن الأربع، الصحيح أن النبي كان قارنًا، قال الإمام أحمد: “لا أشك أن النبي كان قارنًا”.
شروط وجوب الحج
قال المؤلف رحمه الله:
يعني: خمسة شروط.
يُقسِّم بعض الفقهاء شروط الحج إلى ثلاثة أقسام:
- شروط وجوب وصحة.
- وشروط وجوب وإجزاء.
- وشرط وجوب دون إجزاء.
إذن: شروط وجوب وصحة، هذا القسم الأول. القسم الثاني: شروط وجوب وإجزاء. القسم الثالث: شرط الوجوب فقط دون الإجزاء.
شروط الوجوب والصحة
نبدأ بالقسم الأول: شروط الوجوب والصحة: وهما الإسلام والعقل. ومعنى كونهما شروط وجوب وصحة: أنه لا يجب الحج على غير المسلم وغير العاقل، ولا يصح منهما لو حجَّا، هذا معنى شروط وجوب وصحة، لا يجب ولا يصح.
أما كونه لا يجب الحج على الكافر؛ فلأن الكافر لا تصح منه العبادة؛ لقول الله : وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، وإذا لم تُقبل منهم نفقاتهم؛ لم يُقبل منهم حجهم ولا صيامهم ولا صلاتهم.
لكن، مع ذلك: الكافر هل يُعاقب على ترك الحج أو لا يعاقب؟ مرت معنا هذه المسألة مرارًا، يُعاقب، مَن يذكر لنا الدليل؟
مداخلة: …
الشيخ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46]، هذا يدل على أنهم كفار وعُوقبوا على ترك الصلاة، وإذا عُوقبوا على ترك الصلاة فيُعاقبون أيضًا على ترك الحج وترك الصيام وترك الزكاة وترك سائر العبادات.
وأما شرط العقل؛ فلأن المجنونَ مرفوعٌ عنه القلم؛ لقول النبي : رُفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يُفيق[19]، والمجنون لا يعقل النية، والحج عبادة تحتاج إلى نية وقصد.
إذن، هذا القسم الأول: شرط وجوب وصحة.
شرط الوجوب والإجزاء
القسم الثاني: شرط الوجوب والإجزاء دون الصحة، وهما شَرْطَا البلوغ وكمال الحرية؛ معنى كونهما شرطًا للوجوب والإجزاء: أنه لا يجب الحج على غير البالغ وعلى الرقيق، ولا يُجزئهما عن حجة الإسلام، لكن لو حَجَّا صحَّ منهما.
أما كون الحج لا يجب على الصبي؛ فلأنه غير مُكلَّف؛ لقول النبي : رُفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: عن الصبي حتى يبلغ[20]، والرقيق كذلك لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا مال له، والحج إنما يجب على المستطيع.
وأما كونه لا يُجزئ عنهما لو حجَّا عن حجة الإسلام؛ فلحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي قال: أيُّما صبيّ حجَّ ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيُّما عبد حج ثم عُتِقَ فعليه حجة أخرى. أخرجه الشافعي والبيهقي بسند فيه مقال[21]، لكن له طرق متعددة يشدُّ بعضها بعضًا فيرتقي إلى درجة الحسن.
وهذا الحديث صريح في أن الحج من الصبي ومن الرقيق لا يُجزئ عن حجة الإسلام.
لكن قلنا: إنه لا يجب ولا يُجزئ. لكن لو حجَّا صح، نحتاج إلى دليل لهذا؟
أما بالنسبة للصبي فيَدُلُّ لصحة الحج منه ما جاء في “صحيح مسلم” من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة رفعت للنبي صبيًّا فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال : نعم، ولك أجر[22]، وهذا دليل على صحة حج الصبي، بل حتى وإن كان الصبي غير مميِّز، عمره -مثلًا- شهر، طفل رضيع عمره شهر، هل يصح أن يحج به وليُّه؟ هل يصح الحج منه أو لا؟ طفل عمره شهر هل يصح الحج منه أم لا؟
مداخلة: …
الشيخ: يصح، حتى لو عمره يوم، حتى لو عمره ساعة؛ يصح. وهذا من الأمور التي يختص بها الحج، لا تجد هذا في سائر العبادات، العبادة لا تصح من غير مميِّز، هل تصح الصلاة من غير مميِّز؟ ما تصح، ولا الصيام، لكن الحج يختص بهذا: أنه يصح حتى من غير المميِّز، ويُحرِم عنه وليُّه، وإذا كان مميِّزًا فإنه يُحرِم عن نفسه بإذن وليِّه.
لكن في وقتنا الحاضر، هل الأفضل تحجيج الصبيان أو لا؟ نحن قلنا: الحج من الصبي يصح، لكن في وقتنا الحاضر هل نقول: الأفضل أن يحج الصبي؟
مداخلة: …
الشيخ: نقول: الأفضل ألا يحج الصبي؛ لأن مع كثرة الناس -كما ذكرنا- حجُّ الصبي فيه إلحاق للحرج به وبوليِّه وبالحُجاج، كما ذكرنا عدد المسلمين الآن يزيد على مليار ومائتي مليون، لو حج نصف واحد بالمائة؛ لحج ستة ملايين، لا تتسع لهم المشاعر، فلماذا لا يُترك الحجُّ للبالغين الذين يُريدون أن يحجوا في العمر مرة واحدة؟!
ولذلك نقول: الأولى ألا يحج هذا الصبي، لكن لو حجَّ صحَّ حجُّه، لكن حجه فيه حرج عليه وحرج على وليِّه وتضييق على الحُجاج، هذا من حيث الأفضلية، أما من حيث الحكم فإنه يصح.
وأما بالنسبة للرقيق فيصح منه الحج؛ لأنه مسلم عاقل بالغ، فيصح منه الحج، وإن كان لا يُجزئه عن حجة الإسلام. هذا هو القسم الثاني أو الصنف الثاني. والمؤلف له تفريعات على هذا القسم.
حكم حج الصغير
تكلمنا عن هذا.
إذا بلغ الصغير قبل الوقوف بعرفة، أو في أثناء الوقوف بعرفة، أو حتى بعد الوقوف بعرفة، و(عاد في وقته)؛ يعني: عاد قبل طلوع الفجر يومَ النحر، فإن ذلك الحج يُجزئه عن حجه الإسلام، وهكذا -أيضًا- بالنسبة للرقيق.
الصبي مثلًا: في وقتنا الحاضر أصبح يمكن ضبط عمر الإنسان عن طريق شهادة الميلاد، يُضبط العمر حتى بالساعة وبالدقيقة.
إذا قُدِّر أن هذا الصبي يُتِمُّ خمسة عشر عامًا في يوم عرفة؛ فمعنى ذلك بمجرد إتمامه لهذا يُجزئه عن حجة الإسلام، أو أنه احتلم -مثلًا- في ذلك اليوم، أو حتى أنه لمَّا ذهب إلى مزدلفة بلغ، ثم رجع لعرفة مرة ثانية قبل طلوع الفجر؛ أجزأه. أو أن هذا الرقيق رَقَّ له سيِّدُه أثناء الوقوف بعرفة فأعتقه؛ أجزأه ذلك.
المقصود: أنه متى ما أدرك الوقوف بعرفة -ولو لحظة- قبل طلوع فجر يوم النحر؛ أجزأ ذلك عن حجة الإسلام.
قال:
أي: فلا يُجزئه عن حجة الإسلام حتى لو وقف بعرفة، قالوا: لأن السعي لا يُشرع مجاوزةُ عددِه ولا تكرارُه، بخلاف الوقوف فاستدامتُه مشروعةٌ ولا قَدْرَ له محدد.
ولكن هذا القول قول ضعيف، فالصواب في المسألة أنه يجزئه، وهذا وجه عند الحنابلة.
وعلى هذا؛ فإنه يُعيد السعي ويُجزئه ذلك عن حجة الإسلام، ولا دليل يدلُّ على أنه لا يُجزئه.
وأما القول بأن السعي لا يُشرع تكراره؛ فلا يُسلَّم، ففي مثل هذه الحال يُشرع تكراره.
ولهذا؛ نحن نقول: إن هذا القول الذي ذكره المؤلف قول ضعيف، والصواب: أنه إذا بلغ الصبي أو عُتِق الرقيق قبل الوقوف بعرفة؛ فإن ذلك يُجزئه، ذلك الحج يُجزئه عن حجة الإسلام، حتى لو سعى بعد طواف القدوم وهو قارِنٌ أو مُفرِد.
فمِثل هذه التقييدات التي يذكرها بعض الفقهاء ليس عليها دليل، كلُّ مَن أتى بقولٍ يُطالب بالدليل، فإن أتى بالدليل وإلا لا يُسلَّم لقوله.
قال:
مداخلة: …
الشيخ: يُعيد السعي، لا بد من إعادة السعي؛ لأن السعي وقع قبل البلوغ.
إذا حصل الطواف بالنسبة للعمرة، فهو كالوقوف بعرفة بالنسبة للحج، فإذا بلغ، أو الرقيق عُتق قبل طواف العمرة؛ فتُجزئه تلك العمرة عن عمرة الإسلام. وعلى هذا؛ يطوف ويسعى بعد البلوغ وبعد العتق.
شرط الوجوب
القسم الثالث، أو الصنف الثالث: هو شرط الوجوب فقط، وهو الاستطاعة. وقد ذكر المؤلف قوله:
وهذا الشرط قد ورد منصوصًا عليه في القرآن الكريم، في قول الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]. أليست الاستطاعة شرطًا لوجوب جميع العبادات؟ بلى؛ إذن لماذا خصَّ الحج بهذا؟
مداخلة: …
الشيخ: أقول: الاستطاعة، هذا الشرطُ شرطٌ لوجوب جميع العبادات ليس الحج، لكن لماذا خصَّ الحج بذكر هذا الشرط؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم؛ لأنه يَلْحق الحاجَّ مشقةٌ كبيرة ونفقاتٌ وتعب؛ فنَبَّه على هذا الشرط، وأن غير المستطيع لا يجب عليه الحج، هذا من باب التوضيح والتأكيد؛ لأن الوجوب إنما يكون على المستطيع، لأن الحج خاصة في الزمن السابق يحتاج إلى نفقة كبيرة، يحتاج إلى جهد كبير.
وقد كان بعض الحُجاج في الأزمنة السابقة يَبْقون شهورًا حتى يَصِلوا إلى مكة، بل بعض كتب الرِّحْلات ذكرت أن بعضهم يبقى سنين، وبعضهم أكثر من سنة، حتى يصل إلى مكة، فكانوا يبقون مدة طويلة حتى يصلوا إلى مكة، ويحتاج ذلك إلى نفقات عظيمة، فنصَّ على هذا الشرط من باب التوضيح والبيان، وأن الحج إنما يجب على المستطيع، فغير المستطيع لا حرج عليه ولا إثم عليه، ولا يجب الحج عليه.
المقصود بالاستطاعة في الحج
ثم فسَّر المؤلف الاستطاعةَ بقوله:
فسَّر كثيرٌ من الفقهاء الاستطاعة بملك الزاد والراحلة، وقد جاء هذا في حديث مرفوع إلى النبي ، في حديث ابن عباس: أن النبي قيل له: أرأيت قول الله : مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة[23]. وهذا الحديث أخرجه الدارقطني والحاكم لكنه لا يصح مرفوعًا إلى النبي ، وإنما هو موقوف على بعض الصحابة؛ ولهذا قال ابن المنذر: “لا يثبت الحديث الذي فيه الزاد والراحلة”؛ ولهذا لا يُجزم بنسبته إلى النبي ؛ لكونه لا يصح، إنما هو مأثور عن بعض الصحابة.
والزاد الذي تُشترط القدرة عليه: ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة، هذا هو المقصود بالزاد.
وأما الراحلة فيُشترط أن تكون صالحةً لمثله، إما بشراءٍ أو بكِرَاءٍ في ذهابه ورجوعه، يُشترط أن تكون صالحةً لمثله، فمثلًا: في الوقت الحاضر تكون الراحلة إما بالطائرة أو بالسيارة، ولا نُلزم الناسَ -مثلًا- أن يذهبوا للحج على الدواب؛ لأنها ليست صالحةً للناس في هذا الزمان، وإن كان الناس يسيرون عليها في أزمنة سابقة.
الاستطاعة في الوقت الحاضر
في وقتنا الحاضر، الاستطاعة كيف نفسرها؟ في الوقت الحاضر -الآن- عندنا هنا في المملكة، كيف نُفسِّر الاستطاعة؟
يعني الفقهاء يقولون: مِلْكُ الزاد والراحلة، لمَّا كان الناس يذهبون، يعني: كُلٌّ يذهب مع رُفْقة، فكانوا يقولون: مِلْكُ الزاد والراحلة. لكن في الوقت الحاضر: القدرة على تحصيل أجرة الحج مع مؤسسةٍ أو شركة من شركات الحج، أو ما تُسمى: حملة من حملات الحج، فإن استطاع أن يحج مع حملةٍ من هذه الحملات أو مؤسسة؛ فإنه يكون قادرًا على الحج.
فمثلًا: إذا كانت تكلفةُ الحجِّ مع شركةٍ أو مؤسسةٍ أو حملةٍ خمسةَ آلافِ ريال، وكان يملك هذا المبلغ، نقول: وجب عليه الحج، يملك هذا المبلغ فاضلًا عما سيذكره المؤلف يكون وجب عليه الحج؛ لأن هذه المؤسسات والحملات تُوفِّر له الزاد والراحلة؛ فيكون مستطيعًا للحج.
لكن هذا الوجوب، سنُتيح فرصة للأسئلة بعدما ننتهي من المسألة، لكن هذا الوجوب مُقيَّد بما ذكره المؤلف، قال:
يعني: يكون مِلْكُ الزاد والراحلة -وفي وقتنا الحاضر: تحصيل أجرة الحج مع حملة أو مؤسسة- فاضلًا عما يحتاجه.
(من كتب) إذا كان طالِبَ علمٍ ويحتاج إلى كتب، فإن الكتاب لطالب العلم يُعتبر من الحوائج الأساسية، لا يستغني طالب العلم عن الكتاب.
ولكن، لو كان عنده مكتبة هل نقول: بِعِ المكتبةَ لأجل أن تَحُجَّ حَجَّ الفريضة؟ نقول: لا، لا يلزمه، قالوا: إلا إذا كان عنده مِن الكتاب نسختان؛ فيلزمه أن يبيع النسخة الثانية. ذكره في “المغني”.
وبعض الفقهاء قالوا: إذا كان عنده أكثر من نسخة فيبيع النسخ الزائدة، أما النسخة الواحدة فلا يلزمه بيع الكتب لأجل تحصيل أجرة الحج.
قال:
كذلك لو كان عنده مسكن، ولو كان ملكًا؛ لا يلزمه أن يبيعه لأجل أن يحج، ولا بد أن تكون الأجرة فاضلة عن تحصيل المسكن، عن تحصيل أجرة المسكن، فلو كان عنده مبلغ، لكنْ هو ما بين أن يدفعه للمؤجر أو يحج به، فنقول: قدِّم دَفْعه للمُؤجِّر على الحج به.
إذا كان يُخدَم مثله، أما إذا كان مثله لا يُخدَم فلا يُعتبر ذلك من الحوائج الأصلية، لكن لو كان مثله يُخدَم فيُعتبر ذلك من الحوائج الأصلية.
يعني: يكون فاضلًا عما يحتاج إليه من النفقة ونفقة عياله؛ لقول النبي : كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يقوت. رواه أبو داود[24]، وأصله في “صحيح مسلم”: كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قُوتَه[25].
قال:
يعني: أن يكون فاضلًا عن هذه الأمور على الدوام، وقوله: (على الدوام) فيه إشكال؛ لأن هذا القول: (أن يكون فاضلًا) عما ذكره المؤلف: (على الدوام)، يُؤدِّي إلى عدم وجوب الحج حتى على أكثر الأغنياء، فيه إشكال، أن يكون فاضلًا عن أجرة المسكن والخادم وعن مؤونته ومؤونة عياله وحوائجه الأصلية طِيلة عمره؛ هذا فيه إشكال.
ولهذا؛ فالصواب في هذه المسألة: هو أن يكون فاضلًا عما ذكره المؤلف إلى أن يعود فقط، وليس على الدوام، وهذا هو القول الراجح في المسألة.
إذن، هذه هي شروط وجوب الحج.
حكم الحج لمن عليه ديون
بقي أن نُشير إلى مسألة: إذا كان على الإنسان ديون، فيلزمه سداد الدَّين قبل أن يحج، فقضاء الدَّين مُقدَّم على وجوب الحج، لكن يُستثنى من ذلك ما إذا كان الدَّين مُؤجلًا ويغلب على ظنه سداد الدين إذا حَلَّ الأجل، فلا يمنع ذلك من وجوب الحج عليه.
وتجد هنا تساهلًا من بعض الناس، تجد عليهم ديون متراكمة ومع ذلك يحجون، وهذا خطأ؛ لأن هذا الإنسان لو مات وفي ذمته دَين لم تبرأ ذمَّته، ولو مات وهو لم يحج فإن ذمَّته بريئة لكونه غير مستطيع؛ فالله تعالى إنما أوجب الحج على المستطيع؛ ولأن هذا المَدِين ليس له الحقُّ في التصرف فيما فضل عن حوائجه الأصلية، ليس له الحق في أن يتصرف في هذه الأموال، وإنما هي للدائنين، فكأنه محجور عليه فيها، حتى لو لم يكن ذلك بحكمٍ من الحاكم.
ولذلك؛ تجد أن الدائن إذا رأى أن هذا الإنسان ذهب وحجَّ ولم يُسدِّد دينه يَحْنق عليه، يقول: انظر هذا؛ يذهب ويحج وهو يقول: إنه عاجز عن سداد الدين. ولهذا؛ فسَدَادُ الدَّيْنِ مُقدَّم على الحج.
لكن، لو أنه حج وعليه دَين؛ فحجه صحيح، يعني لا يُؤثِّر ذلك على صحة حجه.
ولو كان الإنسان لا يستطيع الحج، لكن وجد مَن يتكفَّل له ببَذْل الأجرة، كأن يقول له أبوه: أنا أُعطيك لتحج بهذا المال، أو قريب له أو صديق، فهل يجب عليه الحج؟ مثلًا: أجرة الحج أو تكلفة الحج: خمسة آلاف، وهذا ليس عنده خمسة آلاف، لكن وَجَد من يقول: خُذ هذه خمسة آلاف، أو حُج مع هذه الحملة. تُحجِّجه مجانًا، فهل يجب عليه الحج؟
مداخلة: …
الشيخ: نعم، لا يجب عليه، في قول أكثر أهل العلم لا يجب عليه، حتى لو بُذِل له أجرة الحج؛ لأنه لا يُلزم أن يكون الإنسان تحت مِنَّة غيره؛ لأن هذه الهِبة قد يلحقها مِنَّة، لكن لو أنه قَبِل هذا المال وحجَّ به؛ صح حجه.
انظر! يعني الإسلام يبني معاني العزة، لا يجب عليك أن تحج بهذا المال الذي قد دُفع لك؛ لأن بعض الناس عنده عزة نفس، يقول: ما أُريد أن أحج بمال غيري، أحج بمالي أنا، أما مال غيري فلا أقبله، حتى لو بُذل بطِيب نفْس.
ومن المعلوم أيضًا أن النفوس تتغيَّر، هذا الذي قد يكون صديقًا لك يومًا من الأيام، ربما تتغيَّر أحواله ويمتنُّ عليك بهذا المال.
وهذا أيضًا في الوضوء، لو وَجَد من يبذُل له ماءَ الوضوء مجانًا؛ لا يلزمه أن يتوضأ بالماء، وله أن يتيمَّم، وهذا من باب: أن المسلم لا يُلزَم أن يكون تحت مِنَّة غيره.
مداخلة: …
الشيخ: الأفضل إذا كان متيقنًا من أن هذا الإنسان لن يمتنَّ عليه، ويعرفه معرفة تامة؛ أن يقبله وأن يحج؛ لأن في هذا أجرًا وثوابًا، فكونه يحج وربما يقع حجًّا مبرورًا؛ يكتب الله تعالى له بسبب هذا الحج أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا.
فالأولى أن يقبل، أما إذا كان هذا الإنسان الذي بَذَل له هذا المال يخشى أن يمتنَّ عليه به؛ فالأولى ألا يقبل هذا، وأن ينتظر حتى يُيسِّر الله تعالى له مالًا يحج به. لو كان -مثلًا- باذِلَ المال أبوه، فالأولى أن يقبله، الأولى أن يقبل هذا المال وأن يحج به.
مداخلة: …
الشيخ: الحملات الخيرية لا يتصور فيها وجود المنة، إي نعم.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، هو من حيث الجواز: لا إشكال أنه يجوز، لكن هل يجب؟ هل نقول: أنت يا فلان إذا لم تحج مع هذه الحملة الخيرية، أنت آثم؟
هذا هو محل البحث، نقول: لا يجب عليه الحج، هو إنسان قال: لا، أنا ما أريد أن أحج مع هذه الحملة، أنا أنتظر حتى يُغنيني الله فأحج بمالي. فلا نقول: إنك آثم، وإنك قد تركت ركنًا من أركان الإسلام. لكن لو حج معهم فلا شك أن مثل هذه الحجة مع مثل هذه الحملة؛ أنه أولى وأفضل، لكنه لا يجب. محل البحث: هل يجب أو لا يجب؟
مداخلة: …
الشيخ: نحن كلامنا في الوجوب، لا يجب عليه حتى لو بذل له أبوه على الصحيح. وبعض أهل العلم يَستثني الأب، يقول: إنه يجب، لكن هذا محل نظر، الأقرب أنه لا يجب، ما دام أن الإنسان لم يجد مالًا يحج به؛ فلا يجب عليه الحج، والله تعالى إنما أوجب الحج على المستطيع، ونصَّ الله تعالى على هذا الشرط صراحة: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].
مداخلة: …
الشيخ: إذا كان يُعطي ماله أباه.
مداخلة: …
الشيخ: إي نعم، إذا كان يُعطي ماله أباه، وبذل له الأب مالًا يحج به، فالظاهر أنه يجب عليه الحج؛ لأن هذا من ماله، يُعتبر هذا من ماله.
مداخلة: …
هل يُشترط إذن الوالدين في الحج؟
الشيخ: مَن وجب عليه الحج، هل يُشترط إذن الوالدين؟
نقول: إذا كان ذلك في حج الفريضة فلا يُشترط إذن الوالدين، لا يُشترط إذن الوالدين مطلقًا. وأما إذا كان ذلك في حج النافلة فننظر: فإذا كان مَنْع الوالدين لهذا الابن لغرض صحيح كأن يحتاجا إليه مثلًا؛ فطاعته مقدَّمة على الحج؛ لأن النبي لما سُئل عن أحب العمل إلى الله تعالى، قال : الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال : بِرُّ الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال : الجهاد في سبيل الله[26]، وفي رواية قال : حجٌّ مبرور[27]، فَبِرُّ الوالدين مقدَّم على الجهاد، والحج نوع من الجهاد.
لكن إذا لم يكن لوالديه غرض صحيح، وإنما مجرد تَعَنَّت، قال له أبوه أو أمه: لا تحج هذه السنة، لماذا؟ لا تحج من غير سبب واضح، من غير حاجة لهذا الأب أو الأم لهذا الابن، فإنه لا يلزمه طاعتهما.
ولهذا؛ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في طاعة الولد لوالديه، قال: تجب طاعة الولد لوالديه إذا كان لهما غرض صحيح، ولم يكن عليه ضرر.
إذا كان لهما في أمرهما لولدهما غرض صحيح، ولم يكن عليه ضرر. هذا هو الضابط: أن يكون لهما مصلحة وغرض صحيح معتبر شرعًا، كأن يحتاجا إلى هذا الابن -مثلًا- ولم يكن عليه ضرر، أي: فلو كان عليه ضرر؛ لم تجب عليه طاعتهما.
بعض الوالدين -مثلًا- يمنع ابنه من الحج، وبعضهم يمنعه من صيام النافلة، وبعضهم -مثلًا- يمنع ابنَه من الذهاب للمراكز الصيفية ونحو ذلك، فيَرِد التساؤل، نقول: هل للأب غرض صحيح في هذا؟ هل له مصلحة؟
إذا كان له مصلحة وغرض صحيح، نقول لهذا الابن: أَطِع والدك أو والدتك، إذا لم يكن له غرض صحيح، وإنما مجرد تعنُّت؛ فلا تلزمه الطاعة، قد يكون الأب فاسقًا والابن صالحًا، ويُريد ألا يذهب ابنُه مع الصالحين، هنا لا تلزمه طاعة هذا الأب، أو كان على الابن ضرر، فإذا كان على الابن ضرر لا تلزمه طاعة الوالد.
مداخلة: …
الشيخ: لعله يكون آخر سؤال حتى نمشي…
مداخلة: …
الشيخ: يعني العكس، يقول: لو أمره والده بحج النافلة هل يلزمه؟ لا يلزمه، لا يلزمه ذلك؛ لأننا لو ألزمناه لأوجبنا عليه الحج في العمر أكثر من مرة، والله تعالى إنما أوجب علينا الحج مرة واحدة.
قال:
وبقي شرط، وهو وجود المحرم، وهذا سيذكره المؤلف.
هل الحج يجب على الفور أو على التراخي؟
قال:
(لزمه السعي فورًا) أشار المؤلف إلى مسألة: هل الحج يجب على الفور أو على التراخي؟ وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهي: هل الأصل في الأمر أنه يقتضي الفورية أو التراخي؟
وجمهور العلماء جمهور الأصوليين على أنه على الفورية، والشافعية على أنه على التراخي، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأدلة كثيرة، منها: أن الله تعالى أمر بالمبادرة والمسارعة للخيرات والمسابقة؛ ولقول النبي في الحج بخصوصه: تعجَّلوا إلى الفريضة يعني: الحج فإن أحدكم لا يدري ما يَعرِض له أخرجه أحمد[28].
وبناءً على ذلك؛ فيكون الحج واجبًا على الفور.
فإن قيل: كيف يكون واجبًا على الفور، والنبي أخَّر الحج ولم يحج إلا في السنة العاشرة؟ فالجواب عن ذلك: كيف نجيب عن هذا السؤال؟
مداخلة: …
الشيخ: أصلًا نُفرِّع عن هذا، أصلًا: متى فُرض الحج؟
مداخلة: …
الشيخ: لكن متى فُرض الحج؛ حتى نعرف هل فعلًا الرسول عليه الصلاة والسلام أخَّر الحج أو لا؟ متى فُرض أولًا؟
مداخلة: …
الشيخ: الجمهور على أنه في السادسة، لكن الصحيح على أنه فُرض في السنة التاسعة؛ لأنه فُرض بالآية؛ آية آل عمران: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وهذه الآية نزلت عام الوفود، وعام الوفود كان في السنة التاسعة.
وأما قول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فهذه وإن كانت نزلت في السنة السادسة، إلا أن الأمر فيها بالإتمام فقط. وقلنا: إن البيت يُحَج من بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فإذن؛ الصحيح أن الحج فُرِض في السنة التاسعة من الهجرة. ثم -أيضًا- بعيدٌ جدًّا أن يُفرض الحج قبل السنة الثامنة؛ لماذا؟ لأن مكة كانت دار كفر، لم تكن دار إسلام إلا بعد السنة الثامنة، فإن مكة إنما فُتحت في السنة الثامنة، فبعيدٌ جدًّا أن الله تعالى يفرض على المسلمين الحج، ومكة ما زالت دار كفر وبِيَد قريش.
ولهذا؛ فالحج إنما فُرض في السنة التاسعة. لكن، لم يحج النبي في السنة التاسعة لأسباب؛ منها: أنه عليه الصلاة والسلام كان منشغلًا باستقبال الوفود التي كانت تَفِد إليه من أنحاء الجزيرة العربية لإعلان إسلامهم.
ومنها: أنه ما زالت بقايا من الشرك والمشركين، فقد كان المشركون يطوفون بالبيت عُراة، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر أميرًا على الحج، ثم أرسل معه أبا هريرة، وأمرهما أن يُؤذِّنا في الناس بألا يحج بعد العام مشرك وألا يطوف عريان[29].
ثم في السنة العاشرة حج النبي ، فكان تأخير الحج لأسباب، فحج عليه الصلاة والسلام تلك الحجة العظيمة: حجة الوداع.
إذن؛ القول الصحيح: أن الحج إنما يجب على الفور وليس على التراخي، إلا إذا كان هناك سبب -كمرض ونحوه- يقتضي من الإنسان تأخير الحج فلا حرج عليه.
قال:
إن عجز عن السعي للحج لكِبَر، فإن الكِبَر ميئوس مِن أن يستطيع الحج، إذا عجز عنه لكِبَر فهو كالمرض الذي لا يُرجى بُرْؤه، وأما إذا كان مريضًا مرضًا يُرجى بُرْؤه فإنه ينتظر ولا يُقيم من يحج عنه، وإنما ينتظر حتى يُشفى ويبرأ، لكن إذا عجز عن الحج ببدنه إما لكبر أو لمرض لا يُرجى بُرْؤه وكان قادرًا على الحج بماله؛ لزمه أن يُقيم نائبًا يحج عنه، وهذا النائب قال المؤلف:
لا بد أن يكون حرًّا، فلا يكون رقيقًا.
يعني: يصح أن تحج المرأة عن الرجل، والرجل عن المرأة.
قال:
ويدل لهذا ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من خَثْعَم أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال : نعم. وذلك في حجة الوداع[30].
وفي لفظٍ لمسلم: قالت: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره؟ فقال النبي : حُجِّي عنه[31].
طيب، ما هو وجه دلالة هذا الحديث على أنَّ مَن كان مستطيعًا للحج بماله دون بَدَنِه يجب عليه أن يُقيم مَن يحج عنه؟ مَن يستنبط لنا وجه الدلالة من هذا الحديث؟ لأن هذا مجردُ سؤالٍ من هذه المرأة، وجواب مِن النبي عليه الصلاة والسلام؛ فنحتاج إلى إبراز وجه الدلالة من هذا الحديث.
مداخلة: …
الشيخ: إقراره على ماذا؟
مداخلة: …
الشيخ: على قولها: “أدرَكتْ فريضةَ الله”؛ “إن أبي شيخ كبير، عليه فريضة الله في الحج”، وفي الرواية الأخرى “أدرَكت أبي”.
فإقرار النبي عليه الصلاة والسلام إذْنٌ لهذه المرأة على قولها: “إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي”، ودليل على أن مَن كان قادرًا على الحج بماله دون بَدَنِه أنه يجب عليه أن يُحَج عنه، يجب عليه أن يُنِيب من يحج عنه، وإلا لو كان الحج لا يجب على أبيها لقال : إن أباك لا يجب عليه الحج، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أقرَّها على هذا الفهم، وأن فريضة الله على عباده أدركت أباها فوجب عليه الحج.
من أين يكون حج النائب؟
لكن المؤلف هنا قال، قيَّد أن يكون النائب مِن بلده، قال:
يعني: من المكان الذي وجب على المُستَنيب أن يحج منه، فإذا كان المستنيب من الرياض مثلًا، فعلى كلام المؤلف: يجب أن يحج النائب من الرياض، فلا يصح أن يحج النائب من جدة أو من مكة مثلًا؛ قالوا: لأن المُنيب لو أراد أن يحج لنفسه لَحَجَّ مِن مكانه، فكذا نائبه.
والقول الثاني في المسألة: إنه لا يلزم النائب أن يحج من مكان المُنيب، وإنما له أن يحج من أيِّ مكان؛ قالوا: لأن السعي إلى مكة ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مقصود لغيره.
ولهذا لو أن هذا المُنيب كان قد ذهب لمكة لغرض، ثم بَدَا له أن يحج؛ فإنه يحج من مكة، ولا يلزمه أن يرجع إلى الرياض فيحج منها، فدلَّ ذلك على أن حج المُنيب من مكانه إنما هو مقصود لغيره، وليس مقصودًا لذاته.
وهذا القول الثاني هو القول الراجح، فيكون الراجح هو خلاف ما مشى عليه المؤلف رحمه الله، الصواب: أنه لا يلزم النائبَ أن يحج من بلد المُنيب، وإنما يحج من أيِّ مكان.
ففي مثالنا السابق يصح أن يكون المنيب من الرياض والنائب من جدة أو من أيِّ مكان، وهذا الشرط ليس عليه دليلٌ ظاهر، اشتراط أن يكون النائب من بلد المُنيب؛ ليس عليه دليل ظاهر.
قال:
فإن زال العذر قبل إحرام نائبه لم يُجزئه؛ لقدرته على البدل قبل الشروع في المُبدَل.
لو كان مريضًا -مثلًا- مرضًا لا يُرجى بُرْؤه، وأقام من يحج عنه، ثم في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة بَرِئ هذا المريض، أراد الله له الشفاء بدعوةِ داعٍ مثلًا، أو رَقَاهُ رَاقٍ، أو شفاه الله بدون سبب؛ فإنه يلزمه أن يحج هو بنفسه، ولا يُجزئ أن يحج النائب عنه.
قال:
يعني: لو افترضنا أن رجلًا أو امرأةً كان قادرًا على الحج بماله دون بَدَنِه، ولم يُقِم مَن يحج عنه؛ فإنه يُحَجَّج عنه مِن تركته، ويكون الحجُّ دَينًا لله ، ويدخل في قول الله تعالى لمَّا ذَكَر قِسْمةَ المواريث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]. والدَّين إما أن يكون دينًا لله، أو دينًا للآدميين، ومِن الدَّين لله تعالى الحج.
حكم الحج عن الغير لمن لم يحج عن نفسه
قال:
يعني: أنه يُشترط لمن أراد أن يحج عن غيره أن يكون قد حج عن نفسه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبْرُمة. فقال : من شُبرمة؟. قال: أخٌ أو قريب لي. قال: أحججت عن نفسك؟. قال: لا. قال: حُجَّ عن نفسك، ثم عن شُبرمة. وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه[32]، واختُلف في رفعه ووقفه، والصحيح أنه موقوف ولا يصح مرفوعًا؛ ولهذا قال الإمام أحمد: “رفعه خطأ”. وقال الطحاوي: “الصحيح وقفه”. وقال ابن المنذر: “لا يثبت رفعه”.
فنجد أن كبار الأئمة من المحدثين يرون أن هذا الحديث موقوف؛ ولهذا فمِثل هذه الأحاديث، ومثل حديث (الزاد والراحلة) وغيره، يعني: ينبغي للخطباء والوُعَّاظ ومَن يُلْقون محاضراتٍ أن يتنبهوا لهذه الأحاديث، ولا يجزموا بنسبتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإما أن يأتي ويقول: أخرجه -مثلًا- أبو داود، أو أخرجه ابن ماجه، أو يقول: رُوي، أو أنه يُحقِّق المسألة فيقول: لقي ابنُ عباس رضي الله عنهما رجلًا فقال: أحججت عن نفسك؟
لكن الجزم بنسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه لا يصح؛ هذا فيه إشكال، قال عليه الصلاة والسلام: مَن قال عليَّ ما لم أقل فَلْيَتَبوَّأ مقعده من النار[33]، فينبغي التحرِّي عند نِسبة الحديث للنبي .
إذن؛ هذا الحديث، عند كبار الأئمة من المحدثين أنه لا يصح مرفوعًا، وإنما هو موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، لكن معناه صحيح عند الفقهاء، فإن الحج يجب على الفور، فلا يجوز لأحدٍ أن يحج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه؛ وذلك لأنه إذا فعل ذلك لم يكن قد امتثل الأمرَ بالحجِّ، والأمرُ يقتضي الفورية؛ فيكون آثمًا بتأخير الحج عن نفسه مع قدرته على ذلك.
حكم المَحْرم لحج المرأة
قال:
هذا الشرط يعتبره بعض الفقهاء شرطًا سادسًا، ويعتبره آخرون داخلًا في أيِّ شرط؟ في الاستطاعة؛ هذا هو الأقرب، الأقرب أن هذا يدخل في الاستطاعة، لكن لو اعتبرناه شرطًا سادسًا فلا مُشاحة في الاصطلاح.
لو قال المؤلف: “أن تجد محرَمًا” يشمل الزوج، فإن محرَم المرأة هو زوجها ومَن تحرُم عليه على التأبيد بنَسَبٍ أو سببٍ مباح، فمحارم المرأة حتى من الرضاع يجوز أن تحج معهم، فإن الرضاع يقتضي المَحْرَمية.
فتحج إذن المرأة مع أحد محارمها، ولا بد أن يكون المحرَم قال:
يعني: عاقلًا بالغًا، أما كونه عاقلًا فظاهر، وأما كونه بالغًا فهذا محل خلاف بين العلماء: هل يُشترط في المحرم أن يكون بالغًا؟ فذهب الجمهور إلى اشتراط البلوغ.
وانتبِه لهذه المسألة حتى في غير الحج، يعني يسأل بعض الناس: هل المَحْرَم لا بد أن يكون بالغًا؟ لو كان المحرم -مثلًا- عمره ثلاث عشرة سنة، هل يصح أن يكون مَحْرَمًا؟ لو كان الصبي عمره ثلاث عشرة سنة ولم يبلغ؟ فتَرِد مثل هذه التساؤلات.
الجمهور على اشتراط هذا الشرط، وليس على هذا دليل ظاهر إلا مجرد التعليل؛ قالوا: لأن الكفاية إنما تحصل بمن كان بالغًا.
القول الثاني في المسألة -وهو قولٌ لبعض الفقهاء-: إنه لا يُشترط البلوغ، وإنما يُشترط حصول الكفاية، فإذا كانت الكفاية تحصل بمن كان مراهقًا قريبًا من البلوغ؛ فإن ذلك يكفي في المَحْرَمية للمرأة.
وهذا هو الراجح والله أعلم، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
وأنا أذكر أن هناك رسالة علمية في أحكام المَحْرَم، وقد ناقشتُ صاحب الرسالة، ولم يجد في المسألةِ أدلةً، وكان قبل المناقشة رجَّح البلوغ، فأثَرْتُ عليه بعض التساؤلات والإشكالات، ثم رجع وبحث المسألة من جديد بعد المناقشة، وأفادني بأنه تبيَّن له رُجحان القول الثاني وهو الأقرب، وهو أنه يُشترط في المحرَم أن تحصل به الكفاية، وليس هناك دليل على اشتراط البلوغ.
فلو كان عمره- مثلًا- أربع عشرة سنة، أو ثلاث عشرة سنة، وكان نبيهًا وتحصل به الكفاية؛ أجزأ ذلك وكفى، فلا يُشترط وجود إحدى علامات البلوغ فيه؛ لأن هذا ليس مقصودًا للشارع، إنما المقصود حصول الكفاية.
مداخلة: …
الشيخ: حصول الكفاية بأن يكون قادرًا على حماية هذه المرأة؛ لأن وجود المَحْرَم مع المرأة فيه حماية، وفيه -أيضًا- هيبة، يُهاب منه؛ لأن المرأة إذا لم يكن معها محرَم وكانت في سفرٍ يُطمع فيها، تكون محلًّا لمطامع بعض الرجال، خاصة الذين في قلوبهم مرض.
بعض الناس عندهم مرض فيما يتعلَّق بالشهوات؛ لأن أمراض النفوس متنوعة، وقد يكون بعض الناس عنده مرض فيما يتعلق بجمع المال، قد يكون بعض الناس فيما يتعلق بالشهوات، قد يكون المرض فيما يتعلق بالغِيبة والكلام في أعراض الناس.
أمراض النفوس متنوعة، وذكر الله تعالى من أمراض النفوسِ مرضَ الشهوة: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].
ولهذا؛ تجد بعض الناس الذين يُعاكسون النساء، لا يُعاكس النساء من شدة الشهوة، لا؛ إنما لأنه مريض، وهكذا -أيضًا- بعض النساء، فهذا مرض يُوجد عند بعض الناس.
ولهذا؛ تأمل قول الله تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.
قال:
طيب، سنتكلم عنها بعد قليل.
أي: أنه يُشترط في هذا المحرم أن يكون مكلَّفًا، وتكلمنا عن هذا. وأن تَقدِر المرأة على أجرته، وعلى الزاد والراحلة لها وله. وفي وقتنا الحاضر تقدر على أجرة الحَمْلة أو المؤسسة في الحج، لها وله.
فإذا كانت الأجرة -مثلًا- خمسة آلاف؛ فيُشترط أن تكون هذه المرأة قادرة على بذل عشرة آلاف، خمسة عنها وخمسة عن محرَمها.
ولا يَلْزم الزوجَ أن يحج مع امرأته؛ لأننا لو أوجبنا عليه الحج لأوجبنا عليه في العمر أكثر من مرة، والله تعالى إنما أوجب الحج في العمر مرة واحدة.
ولا يجب على أبيها وأخيها أو أيِّ محرَم من محارمها الحجُّ معها؛ ولذلك لو أبى الزوج أن يحج معها مع قدرته على ذلك؛ فإنه لا يأثم، لكن الأفضل والأكمل أن يحج معها وأن يكون محرَمًا لها، هذا هو الأكمل والأفضل، ويدخل هذا في باب العشرة بالمعروف.
من المسائل المهمة هنا: أن المرأة إذا لم تجد محرَمًا، إذا لم تجد المرأة محرَمًا فهل يجب عليها الحج؟
نقول: إنه بناءً على كلام المؤلف لا يجب عليها الحج. لكن إذا وجدت رُفْقة مأمونة، إذا وجدت المرأة رفقة مأمونة فهل يجب عليها أن تحج مع هذه الرفقة ولو لم يُوجد معها محرَم، أو لا يجب؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين:
القول الأول: إن المرأة إذا لم تجد محرَمًا لم يجب عليها الحج، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة، قالوا: حتى ولو وجدت رُفْقة مأمونة.
واستدلوا لذلك بعموم الأدلة الدالة على عدم جواز سفر المرأة بغير مَحْرَم، ومنها ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول: لا تُسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجَّةً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: انطلِقْ فحُجَّ مع امرأتك[34].
وجه الدِّلالة من هذا الحديث: أن النبي أمره بترك الجهاد الذي قد أصبح فرض عين. مِن أين عرفنا أنه فرض عين؟ اكتُتبت؛ “اكتُتبت في غزوة كذا” يعني: عيَّنه الإمام، قد عيَّنه وأصبح في حقِّه فرضَ عينٍ.
فأمره بترك الجهاد الذي أصبح في حقه فرض عين؛ لأن يكون محرَمًا مع امرأته.
فدلَّ ذلك على أنه لا يجب على المرأةِ الحجُّ إلا مع وجود محرَمها، وإلا لو كان وجود المحرَم ليس واجبًا لَمَا أمره النبي عليه الصلاة والسلام بترك الجهاد الذي هو واجب في حقه.
والقول الثاني في المسألة: إن المرأة إذا وجدت رُفْقةً مأمونة؛ فلا يشترط وجود المحرَم، بل يجب عليها أن تحج مع الرُّفقة. وهذا هو مذهب المالكية والشافعية.
واستدلوا بما جاء في “صحيح البخاري”: أن أزواج النبي حججن بعد موته ولم يكن معهن محرَم، وإنما كان القائم عليهن عبدالرحمن بن عوف، وكان ذلك في خلافة عمر[35].
وأيضًا لحديث عَدِيِّ بن حاتم: أن النبي قال: يُوشك أن تَخرج الظَّعِينةُ من صنعاء إلى حضرموت لا تخاف إلا الله[36]، فقال: هذا، محل الشاهد أنها تسير من صنعاء إلى حضرموت، وهي مسافة سفر.
والأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: هو القول الأول، وهو أن المرأة لا يجب عليها أن تحج إذا لم تجد محرَمًا؛ وذلك لقوة أدلة هذا القول، فإن النبي أمر ذلك الرجل أن يترك الجهاد الذي هو واجب في حقه؛ لأمرٍ واجب، ولو لم يكن وجود المحرَم واجبًا لَمَا أمره بترك الجهاد الواجب.
وأما حج نساء النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذا خاصٌّ بِهِنَّ؛ لأنهن أمهات المؤمنين، فكأن كل واحد من المؤمنين هو محرَم بالنسبة لهن، ثم إن هذا اجتهاد منهن، وقع بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما حديث عديِّ بن حاتم فهذا إخبار عما سيقع، ولا يلزم منه الجواز؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن أمور كثيرة ستقع، بعضها جائز وبعضها مُحرَّم، فقد أخبر : ليكونن من أمتي أقوام يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف[37]، هذا إخبار عن أمر مُحرَّم، فلا يقتضي من إخباره عليه الصلاة والسلام الجواز.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، يشترطون الرُّفقة المأمونة، أما مع عدم وجود الرفقة المأمونة فلا يجب عليها الحج ولا يجوز بإجماع العلماء، بالإجماع، لكن الكلام إذا وجدتِ الرُّفقةَ المأمونة.
إذن؛ القول الراجح: إن المرأة لا يجب عليها الحج إذا لم تجد مَحرَمًا ولو وجدت رفقة مأمونة.
لكن، لو حجت؟ قال المؤلف:
حكم حج من حجت بلا محرم
إن حجت بلا محرَم أجزأها باتفاق العلماء، أجزأها الحج عن فريضة الإسلام باتفاق العلماء.
لكن، هل تأثم أو لا تأثم؟ هذه مسألة أخرى متفرعة من المسألة السابقة، والأقرب والله أعلم، يعني هما قولان في المسألة، هما كالقولين هنا: يعني الحنفية والحنابلة يقولون: إنها تأثم. والشافعية والمالكية يقولون: إنها لا تأثم.
والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: إنها إذا وجدت رفقة مأمونة وحجت فإنها لا تأثم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذكره في “مجموع الفتاوى” وفي “الاختيارات”: أنها لا تأثم لو حجت مع الرفقة المأمونة؛ وذلك لأن المقصود من المحرَم هو حفظ وصيانة هذه المرأة وأَمْنِها على نفسها وعِرْضها ومالها.
فإذا كان ذلك المقصود يتحقق مع الرفقة المأمونة؛ فإنها لا تأثم بإتيانها بتلك العبادة، وقد رُوي عن الإمام أحمد ما يدل لهذا -أيضًا- لكن بشرط أن تكون الرفقة مأمونة.
فإذن؛ يكون القول الراجح في هذه المسألة: إن مَن لم تجد محرَمًا لا يجب عليها الحج، لكنها لو حجت لم تأثم.
وعلى هذا مثلًا حجُّ كثيرٍ من الخَدَمِ في الوقت الحاضر؛ لا يجدن محارم، ولو ذهبت لبلدها تَعلم علم اليقين أنها لن تحج، أو أن احتمالية حجها بعيدة جدًّا، فتُريد أن تغتنم هذه الخادمة، تُريد أن تغتنم وجودها هنا -مثلًا- في المملكة فتحج مع رفقة مأمونة.
نقول: لا بأس بهذا على القول الراجح؛ لأنها تأتي بعمل صالح، بعمل عظيم، وقد يكون سببًا لمغفرة الذنوب والخطايا، وقد يكون -أيضًا- سببًا لدخولها الجنة: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[38]، وقد يكون سببًا لصلاحها واستقامتها وزكاء نفسها، وما دامت الرُّفقةُ مأمونةً فيُغتفر في مسألة المحرَم، لكن بهذا الشرط، بشرط أن تكون الرفقة مأمونة.
أما أن نقول: إنها تحج مع الإثم؛ فهذا فيه إشكال، خاصة أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام حججن بعد وفاته دون محرَم، ولعلهن نظرن إلى مقصود الشارع من وجود المحرَم: وهو حفظ المرأة وصيانتها، وأن ذلك متحقِّق بالنسبة لهن. والقول بالخصوصية يحتاج إلى دليل.
ولذلك؛ فما دام أن هذا وقع من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، فالذي يظهر: هو أن المرأة لا تأثم إذا وجدت الرفقة المأمونة.
لكن أيضًا لا نستطيع أن نُوجب عليها الحج وهي لم تجد محرَمًا؛ فإن المالكية والشافعية يُوجبون عليها الحج، لا شك أن إيجاب الحج عليها وهي لم تجد محرَمًا فيه حرج كبير عليها.
يعني: ذهابها للمشاعر وتنقُّلها من مَشعر إلى مَشعر وربما تحتاج إلى مَن يُعينها، تحتاج إلى محرَم يكون معها؛ فإيجاب الحج عليها فيه حرج ظاهر، لكن -أيضًا- رفع الحرج عنها.
فالذي يظهر أنها إذا حجت دون محرم فليس عليها إثم ولا حرج في هذا، لكن بشرط أن تكون الرفقة مأمونة. هذا ما ظهر في هذه المسألة الخلافية، والله تعالى أعلم.
مداخلة: …
الشيخ: نود يا إخوة أن نأخذ فقط (باب الإحرام)؛ لأننا خططنا لنأخذ (كتاب الحج) كاملًا قبل الحج إن شاء الله. طيب نأخذ سؤالين، نعم تفضل.
مداخلة: …
الشيخ: لا، لا بد أن يكون النائب ممن يجب عليه حج الفريضة، وأن يكون قد حج عن نفسه، أما كونه يُنيب رقيقًا؛ لأن الرقيق لا يُجزئه أن يحج عن نفسه، فكيف يحج عن غيره؟! لا بد أن يكون ممن يجب عليه الحج، وأن يكون قد حج عن نفسه حج الفريضة.
مداخلة: …
الشيخ: ولم يكن قد حج؟
مداخلة: لم يكن قد حج الفريضة، وغير قادر.
الشيخ: وغير قادر؟
مداخلة: …
الشيخ: تريد: يعني بماله عن غيره؟
مداخلة: …
الشيخ: يحج عنه هو أو عن غيره؟.
مداخلة: …
الشيخ: لا، ليس له أن يحج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه، ابدأ بنفسك أولًا، يحج عن نفسه ثم يحج عن غيره.
باب الإحرام
طيب، ننتقل بعد ذلك إلى (باب الإحرام)، قال المؤلف رحمه الله:
الإحرام معناه: “نية الدخول في النُّسك”، وهذا التعريف مهم جدًّا؛ وذلك لأن بعض الناس يفهم من معنى الإحرام: لُبْس ملابس الإحرام. وهذا الفهم غير صحيح؛ فالإحرام لا يتعلق باللباس، وإنما يتعلق بالنية.
ولهذا؛ لك أن تلبس ملابس الإحرام وأنت في منزلك، مثلًا: هنا في الرياض تلبس ملابس الإحرام ولا تكون قد أحرمت. لكن، إذا نويت الدخول في النُّسك، نقول: إنك قد أحرمت، خاصة من يُريد أن يُحرم في الطائرة، نقول: تغتسل وأنت في بيتك، وتلبس ملابس الإحرام وأنت في بيتك أو في المطار، لكن لا تنوِ الدخول في النُّسك إلا إذا حاذيت الميقات. قبل الميقات، هل تعتبر مُحرِمًا؟ لست مُحرِمًا؛ ولذلك لك أن تُغطِّي رأسك، لك أن تتطيَّب.
فإذن؛ حقيقة الإحرام هي نية الدخول في النُّسك، وليست لبس ملابس الإحرام.
قال:
الإحرام: هو من أركان الحج والعمرة كما سيأتي؛ ولذلك من لم يُحرِم لا يصح حجه. قال: (من الميقات)؛ يعني: يجب أن يكون الإحرام من الميقات.
المواقيت المكانية
و”الميقات” أراد المؤلف بهذا المواقيت التي حدَّدها النبي ، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله في هذا، ولو أن المؤلف ذكرها ولو على سبيل الاختصار لكان ذلك أولى، لكن ربما أن المؤلف رأى أن هذا متنٌ مختصرٌ فلم يذكرها. ونحتاج إلى أن نذكرها:
المواقيت خمسة:
- أولًا: ميقات أهل المدينة: وهو “ذو الحليفة”، ويُسمى “أبيار علي”، وهو أبعد المواقيت عن مكة، بينه وبين مكة عشر مراحل، ويقال: عشرة أيام، ويعني هذا لمَّا كانوا يسيرون بالإبل، في الوقت الحاضر أكثر من أربعمائة كيلو، والنبي عليه الصلاة والسلام بقي عشرة أيام لما أحرم، أحرم في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، ولم يصل إلى مكة إلا في الرابع من ذي الحجة، بقي عشرة أيام في الطريق.
- والميقات الثاني: ميقات أهل الشام ومصر والمغرب: “الجُحْفة”، وكان الفقهاء يقولون في السابق: الشام ومصر والمغرب، الشام واضح أنها مما تلي “الجُحْفة”، لكن مصر والمغرب!
كانوا يقولون ذلك لأن الناس كانوا يأتون من مصر ومن المغرب عن طريق البر، ولم تكن قناة السويس موجودة في ذلك الوقت، فكانوا يُحرِمون -أهل مصر والمغرب- من “الجُحْفة”.
و”الجُحْفة” قرية خَرِبة، دعا النبي عليه الصلاة والسلام بنقل الوباء في المدينة إليها، فإنه لما هاجر الصحابة من مكة إلى المدينة أُصيبوا بالحمَّى -حمَّى يثرب- وكانت يثرب مشهورة بالحمَّى، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام بأن ينقل الله تعالى حُمَّى يثرب إلى “الجُحْفة”[39].
وقيل: كان فيها يهود، فنقلها الله تعالى، استجاب الله له فانتقلت الحمَّى إلى “الجُحْفة” وخربت “الجُحْفة”، هجرها الناس، فأصبح الناس يُحرِمون من “رابغ”، لكن ذكر لي أحد الإخوة أنه قبل سنتين: أنه وُضع الميقات في “الجُحْفة” نفسها، يعني يوجد ميقات في “رابغ”، لكن وُضع ميقات في “الجُحْفة” نفسها، وأن الناس قد أصبحوا يُحرِمون منه، فسواء أحرم من “الجُحْفة” أو من “رابغ” يكون قد أحرم من الميقات.
- الثالث: ميقات أهل اليمن: “يَلَمْلَم”، والمقصود باليمن يعني: المنطقة الجنوبية كلها، تشمل اليمن المعروف الآن، وتشمل -أيضًا- المناطق التي حولها: منطقة عسير والمناطق التي حولها تدخل في هذا، فيكون ميقاتهم “يَلَمْلَم”.
و”يَلَمْلَم” وادٍ كبير يُحرِم الناس منه، وهو ليس بعيدًا، هو على مرحلتين من مكة.
- الميقات الرابع: ميقات أهل نجد: وهو “قَرْن المنازل”، ويُسمى: “السيل الكبير”، وهو وادٍ كبير متسع، وفي أعلى هذا الوادي “وادي مَحْرَم”.
و”وادي محرَم” وُضع فيه -أيضًا- مكان يُحرِم الناس منه، وهو الذي على منطقة: “الهَدَا” في الطائف، إذا أتيت منطقة “الهدا” قبل أن تنزل النَّزْلة هذه التي تسمى “كَرَا”، على يمين هذه؛ هذا هو ميقات “وادي محرَم”.
و”وادي محرَم” هو أعلى “السيل الكبير”، يعني هذه المنطقة كلها ما بين ميقات السيل إلى وادي محرم؛ كلها ميقات، فسواء أحرمت إذن من ميقات السيل أو أحرمت من وادي محرَم؛ أنت قد أحرمت من “قرْن المنازل”، فلك أن تختار: تُحرِم من “السيل”، أو تُحرِم من “وادي محرم”.
- الميقات الخامس: ميقات أهل العراق “ذات عِرْق”، وهذا قيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُوقِّته، وإنما الذي وقَّته عمر؛ لأن أهل العراق أتوا إلى عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن النبي وقَّت لأهل نجد قَرْنًا، وإنها جَوْرٌ عن طريقنا. فقال: انظروا إلى حَذْوها من طريقكم، فوجدوا أن حَذْوها “ذات عِرْق”[40].
لكن، جاء في حديث عائشة: أن النبي وقَّت لأهل العراق “ذات عِرْق”[41].
والأقرب في هذا أن يقال: إن عمر لم يبلغه توقيت النبي ؛ فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي . وهذا ليس بغريب على عمر ، فإنه قد وافق القرآن في عدة أمور، وهكذا وافق توقيت النبي عليه الصلاة والسلام في أهل العراق.
و”ذات عِرْق” كانت شِعْبًا مهجورًا لا يأتيه أحد، لكن -أيضًا- في السنوات الأخيرة وُضع فيه مسجد ومُغتَسل ووُضع طريق له -أيضًا-، وأصبح بعض الناس يُحرِمون منه، وإن كانوا قلة مقارنة بـ”السيل”، أصبح أهل العراق يُحرمون من “السيل”، لكن وُضع -أيضًا- طريق لـ”ذات عِرْق”، وإلا كان قبل سنوات مهجورًا لا يُحرِم منه أحد، لكن لما وُضع هذا الطريق وهذا المسجد؛ أصبح بعض الناس يُحرِم منه الآن.
إذن؛ هذه هي المواقيت، ولا يجوز تجاوزها دون إحرام؛ لمن أراد النُّسك مِن حج أو عمرة. ومَن مرَّ بها يُحرِم منها، سواء كان بالسيارة وهذا ظاهر، أو كان بالطائرة، فإنه إذا كان بالطائرة يُحرِم إذا حاذى أحد هذه المواقيت.
وأُنبِّه هنا إلى أن من أراد أن يُحرِم بالطائرة فعليه أن يحتاط؛ لماذا؟ لأن الطائرة تسير بسرعة كبيرة جدًّا، تسير بأكثر من ثمانمائة كيلو في الساعة، من ثمانمائة إلى تسعمائة كيلو، وأحيانًا تصل إلى ألف، هذه السرعة الكبيرة في الدقيقة الواحدة تُؤثر، لو تأخرت في الإحرام دقيقة واحدة ربما تكون الطائرة تجاوزت الميقات، فكونها تسير بسرعةِ ثمانمائة كيلو متر والميقات وادٍ ليس كبيرًا؛ تكون قد تجاوزتِ الطائرةُ الميقات، فتكون قد أحرمت بعد مُجاوزة الميقات.
ولهذا؛ فالأحسن لمن أراد أن يُحرِم بالطائرة أن يحتاط ويُحرِم قبل الميقات بدقيقة مثلًا أو بدقيقتين، خاصة -أيضًا- أن تحديد قائد الطائرة أو المُضيفين في الطائرة -بالتجربة- ليس دقيقًا، تحديدهم تقريبي ليس دقيقًا. ولذلك؛ فالاحتياط مطلوب في مثل هذا.
والإحرام قبل الميقات غايته لو وقع عن عمدٍ أنه مكروه، والكراهة تزول للحاجة، ولا شك أن الحاجة هنا قائمة، فكونك تُحرِم بعد مجاوزة الميقات؛ تكون قد أحرمت بعد الميقات؛ فيجب عليك أن ترجع للميقات وتُحرِم منه، أو يكون عليك دم؛ لأنك تركت واجبًا، وأخللت بواجبٍ من واجبات الحج أو العمرة؛ فتنوي هذه المسألة.
يوجد بعض الناس يتراخى ويتأنَّى، ثم ينتظر، ثم بعد ذلك ربما بعد الإعلان ينتظر دقيقة أو دقيقتين، وإذا هو قد جاوز الميقات.
ولذلك؛ ينبغي الاحتياط في هذه المسألة، وأرى أنك تحتاط: تُحرِم قبل الميقات بدقائق أحسنُ مِن كونك تُحرِم بعد الميقات، خاصة أن الإعلان على الطائرة ليس بالدِّقة المطلوبة في الأعم الأغلب.
مداخلة: …
الشيخ: هو يلبس الإحرام من بيته، يلبس الإحرام من بيته، لكن الكلام في النية، متى يقول: لبيك عمرة؟
مداخلة: …
الشيخ: لا، بنصف ساعة، لا داعي لهذا، يكون هذا مكروهًا، لكن قُلْ مثلًا: خمس دقائق من باب الاحتياط.
مداخلة: …
الشيخ: من بيته مكروه، عند الفقهاء: الإحرام قبل الميقات مكروه، لكن لو جعلها خمس دقائق من باب الاحتياط فهذا طيِّب؛ لأنه كما ذكرنا ضَبْطها صعب.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، يعني بالتجربة، أنا سَبَرتُهم، ليس عندهم دقة، ليس عندهم دقة في هذا. ولذلك؛ فالاحتياط طيِّب، الدقيقة تُؤثِّر، تُؤثِّر في مجاوزة الميقات.
طيب، بالنسبة لجُدة، بعض المعاصرين بدؤوا يقولون: إن جدة من الميقات، وإن مَن أحرم من جدة فقد أحرم من الميقات. وبرز هذا القول خاصة في السنوات الأخيرة، يعني نُريد أن نسمع ما رأيكم: هل جدة داخلة دون المواقيت؟ أو أن مَن أحرم من جدة أحرم من الميقات؟
مداخلة: …
الشيخ: لا، هناك كتاب اسمه: “أدلة إثبات أن جدة ميقات”، كتاب صغير، رسالة كتبها أحد طلاب العلم قبل -تقريبًا- خمسة عشر عامًا، وردَّ سماحة شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله على هذا الكتاب، ومنع من بيعه في المكتبات؛ لأن هذا قد يُسبب تشويشًا على الناس.
في الحقيقة، إنك إذا أتيت إلى جدة من أيِّ جهة ما عدا الغرب، إذا أتيت بالطائرة من أيِّ جهة فلا بد أن تُحاذي أحد المواقيت، لا بد، إذا أتيت من الشمال أو من الجنوب أو من الشرق فلا بد أن تُحاذي أحد المواقيت.
فكيف يُقال: إن جدة ميقات إلا إذا أتيت من الغرب؟! وأتيت -أيضًا- من “سَوَاكِن”، من “سَوَاكِن السودان”، فهذه نص الفقهاء على أن الإنسان يمكن أن يصل من “سَوَاكِن” إلى جدة من غير أن يُحاذي ميقاتًا، وبذلك يُحرم من جدة. هذه هي الحالة الوحيدة.
وأنا سألت بعض الإخوة من السودان، وقالوا: إن الميناء في “سَوَاكِن”، وإنهم يأتون من “سَوَاكِن” مباشرة إلى جدة، فقلت: إذ، تُحرمون من جدة ولا إشكال. لكن، ما عدا ذلك فلا بد أن تُحاذي أحد المواقيت.
فأنا أستغرب من بعض طلاب العلم الذين يقولون: جدة ميقات! كيف تكون جدة ميقاتًا وأنت لا بد أن تمُرَّ بأحد المواقيت؟! إذا أتيت من أيِّ جهة ما عدا جهة الغرب، من جهة “سَوَاكِن”؟! لا بد أن تمُرَّ بأحد المواقيت!
ولذلك؛ فالقول بأن جدة ميقات قول مرجوح، والصواب أن جدة دون المواقيت، وليست ميقاتًا إلا لأهل “سَوَاكِن” في السودان.
حكم الإحرام مع وجود الجنون أو الإغماء والسكر
قال:
وذلك لعدم وجود النية منهم.
لقول الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].
انتبهوا لهذه القاعدة في الإحرام: “الإحرام لا يَرتفض برفضه”، هذه قاعدة: “لا يَرتفض الإحرام برفضه”، يعني: إذا أحرمت فيلزمك الإتمام، ولا تقل: أرفض الإحرام وأعود لبلدي.
ويحصل من بعض العامة، تجد أن بعضهم يُحرِم ويأتي، ربما تحصل له مشكلة أو يمرض أو يحصل له عائق أو نحو ذلك؛ فتجد أنه يخلع إحرامه ويعود لبلده، ليس له ذلك إلا أن يكون مُحصَرًا، فإذا كان مُحصَرًا فإنه يأتي بعمرة ويحلق رأسه ويذبح هَدْيَه إذا لم يكن قد اشترط.
وأذكُر: تأتي استفتاءات من بعض الناس أنه أتى الحرم ووجد زحامًا فخلع إحرامه وعاد لبيته، نقول: ما زلت محرمًا؛ الإحرام لا يَرتفض برفضه.
ولذلك؛ مَن أحرم يلزمه إتمام النُّسك، إلا أن يكون مُحصَرًا ولم يستطع إتمام النُّسك، أو يكون مُشترطًا، وسيأتي الكلام على الاشتراط.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، المسألة سبقت.
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ومَن كان دون ذلك فمِن حيث أَنْشَأ[42]، وهذا بالنسبة للحج والعمرة، إلا أهل مكة فلا بد من أن يُحرموا من الحِلِّ، يعني من خارج حدود الحرم: إما من التنعيم، أو من عرفة، أو من الجِعِرَّانة، أو من أيِّ مكان من خارج حدود الحرم؛ لأمر النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة بهذا[43].
طيب، نعود لعبارة المؤلف.
مداخلة: …
الشيخ: في العمرة فقط، أما الحج فمن بيوتهم.
طيب، نعود لعبارة المؤلف.
قال:
قال ابن المنذر رحمه الله: “أجمعوا على أن الإحرام لا يفسُد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع”.
فالإحرام، قلنا: لا يَرتفض برفضه، ولا يفسُد إلا بالجماع قبل التحلُّل الأول. وسيأتي الكلام عنه عند الكلام عن محظورات الإحرام.
قال:
يعني بين الأنساك الثلاثة: التمتع والإفراد والقِران.
أفضل أنواع النسك
وقد اختلف العلماء أيَّ الأنساك الثلاثة أفضل: التمتع والإفراد والقِران؟
والقول الراجح: أن مَن ساق الهدي فالقِران في حقه أفضل؛ لأن النبي كان قارنًا، قال الإمام أحمد: “لا أشك أن النبي كان قارنًا”.
ومَن لم يَسُق الهدي فالأفضل في حقه التمتع؛ لقول النبي : لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لما سُقْتُ الهَدْيَ، ولأحللت معكم[44].
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب التمتع، وأن الإفراد والقِران قد نُسِخا إلا في حقِّ من لم يستطع التمتع؛ فله القِران خاصة، وهذا قد ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما، وابن القيم- أيضًا- انتصر لهذا القول، ومن المعاصرين: الشيخ الألباني، رحمة الله على الجميع.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يُناظر على هذا، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا كانوا يأمرون بالإفراد، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأمر بالتمتع، فقيل له: إن أبا بكر وعمر يقولان بهذا. قال: أقول لكم قال رسول الله ، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟! يُوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء.
والقول بوجوب التمتع قول قوي؛ لأن الأحاديث الواردة في هذا: فيها الأمر والتشديد على الصحابة، يعني الأمر بالتمتع. لكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن هذا خاص بالصحابة”.
فكان الصحابة واجبًا عليهم التمتع فقط؛ لما جاء في “صحيح مسلم” عن أبي ذرٍّ قال: كانت لنا خاصة، كانت المتعة لنا خاصة[45]. فالأقرب أنها كانت واجبة في حق الصحابة، وغير واجبة في حق سائر الأمة.
وعلى هذا؛ فالأقرب -والله أعلم- أن الحاج مخيَّر بين الأنساك الثلاثة، وهو قول جماهير العلماء.
ومما يدل لهذا ما جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي لما ذكر عيسى ابن مريم عندما ينزل في آخر الزمان، قال : يُوشك أن ينزل عيسى ابن مريم حاجًّا أو معتمرًا أو بهما معًا[46].
فذكر الأنساك الثلاثة؛ فدلَّ ذلك على أن الإفراد والقِران ليسا منسوخين، انتبِه لهذا الاستدلال وهذا الاستنباط: فدلَّ هذا على أن الإفراد والقِران ليسا منسوخين، وهذا هو الذي عليه أكثر الأمة.
فكيف يكون الإفراد والقِران منسوخين ويخفى ذلك على الخلفاء الراشدين؟! ويخفى ذلك على كبار الصحابة؟! ويخفى ذلك على جماهير الأمة على مرِّ أربعة عشر قرنًا؟! ولا يقول به إلا قلة؟! يعني هذا بعيد!
فالأقرب: أن الحاج مُخيَّر بين هذه الأنساك الثلاثة؛ ومما يدل لهذا قول عائشة: أهللنا مع رسول الله ؛ فمنا مَن أهلَّ بعمرة، ومنا من أهلَّ بحج، ومنا من أهلَّ بهما[47].
كيفية نسك التمتع
قال:
هذا هو تعريف التمتع: “يُحرِم بالعمرة في أشهر الحج”، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة على قول الجمهور، وذو الحجة كاملًا على قول المالكية، وهو الأقرب.
فيُحرِم إذن بالعمرة في أشهر الحج، ثم يُحرِم بالحج من عامه، يعني: من ذلك العام، لكن بشرط ألا يعود إلى بلده، فإن عاد إلى بلده انقطع تمتعه.
مثال ذلك: رجل أتى بالعمرة في شهر ذي القعدة وهو من الرياض، وبقي في مكة، ثم أحرم بالحج؛ فيكون متمتعًا.
رجل أحرم، أتى بالعمرة في شهر ذي القعدة، وهو من الرياض، ثم رجع إلى الرياض، ثم أحرم بالحج من ذلك العام، فهل يكون متمتعًا؟ لا يكون متمتعًا. إذن؛ يُشترط ألا يرجع إلى بلده، إذا رجع إلى بلده انقطع تمتعه.
لو سافر إلى غير بلده، ذهب إلى المدينة؛ لا ينقطع تمتعه، هذا هو أرجح أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
مداخلة: …
الشيخ: لا، النية هنا لا تُعتبر، المهم أنه إذا أتى بالعمرة في أشهر الحج، وبقي ولم يرجع إلى بلده، فهو متمتع شاء أم أبى، حتى لو نوى قِرانًا يكون متمتعًا.
كيفية نسك الإفراد
قال:
الإفراد: هو أن يحرم بالحج فقط، لكن المؤلف يقول: (ثم بعد فراغه منه يُحرم بالعمرة).
وهذا محل نظر؛ فإن هذه ليست هي حقيقة الإفراد، وإن كانت هذه من صور الإفراد، لكن حقيقة الإفراد: هو أن يُحرم بالحج فقط، ولو أحرم بالحج ثم بعده أحرم بالعمرة؛ فإنه أيضًا يصدُق عليه أنه مُفرِد، كما فعلت عائشة رضي الله عنها، وإن كانت عائشة قارنة وليست مُفرِدة.
ودلَّ كلام المؤلف هنا على أنه لا بأس أن يعتمر الحاج بعد الحج.
ويسأل بعض الناس -مثلًا- يقول: بعدما أفرغ من الحج، هل لي أن أعتمر أم لا؟ نقول: لا بأس، لا بأس بهذا، لكن الأفضل ألا تفعل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفعله، ولم يأمر الصحابة بهذا، وإنما رخَّص لعائشة فقط، لكن بعض الناس يُشدِّد في هذا ويقول: إنها بدعة. ليست بدعة، كونه يأتي بعمرة بعد عمرة، أو عمرة بعد حج؛ جائز، لكن الأفضل تركه.
كيفية نسك القِرَان
قال:
فيُحرم بالعمرة والحج جميعًا، أو أنه يُحرم بالعمرة ثم يُدخل الحج عليها.
أما كونه يُحرم بالعمرة والحج معًا فظاهر، يقول: لبيك عمرةً وحجًّا. وأما كونه يُحرم بالعمرة ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها؛ فمثال ذلك: امرأة أحرَمت بالعمرة على أنها متمتعة، ثم حاضت وأتاها وقت الوقوف بعرفة ولم تطهُر، فإنها تُدخِل الحج على العمرة؛ فتكون قارنة، كما فعلت عائشة رضي الله عنها.
رجل -مثلًا- أحرم بالعمرة، يُريد التمتع، ثم مَرِض أو حصل له ما يُعيقه، ثم أتاه وقت الوقوف بعرفة ولم يتمكن من الإتيان بعمرة، فيُدخل الحج على العمرة ويكون قارنًا.
هذه إذن من صور القِران.
قال:
يعني: إذا أدخل العمرة على الحج؛ لأجل أن يكون قارنًا؛ لم يصح، يعني بتعبير آخر أوضح: إذا أراد أن ينتقل من الإفراد إلى القِران لا يصح على رأي المؤلف وعلى قول الجمهور، وذهب الحنفية إلى أنه يصح، وأنه يكون قارنًا والله تعالى أعلم؛ لأن هذه المسألة فيها أدلة متكافئة، ولم يظهر لي رجحان أيٍّ من القولين.
لو أراد أن ينتقل من التمتع إلى الإفراد ليس له ذلك؛ لأنه يُريد أن ينتقل من أفضل إلى مفضول. ولو أراد أن ينتقل من الإفراد إلى التمتع فله ذلك، بل يُستحب له ذلك.
إنسان -مثلًا- أحرم بالحج مُفرِدًا، فقيل له: إن الأفضل أن تكون متمتعًا؛ فله أن يقلب الحج إلى عمرة، ويأتي بعمرة ويتحلَّل منها، ويُحرم بالحج، يعني: انتقل من الإفراد إلى التمتع، أو انتقل من القِران إلى التمتع؛ لا بأس. أما أن ينتقل من التمتع إلى الإفراد؛ فإنه ليس له ذلك.
حكم من أحرم ولم يحدد نسكًا
قال:
(من أحرَم وأطلَق)؛ كإنسان أتى عند الميقات، وقال: لبيك اللهم لبيك. سألناه: يا فلان، بِمَ أحرمت؟ هل أنت متمتع أو قارِن أو مُفرِد؟ قال: والله ما نويت شيئًا. يقول المؤلف: إنه يصح.
وهكذا -أيضًا- لو قال: أحرمت بما أحرم به فلان. كإنسان أتى عند الميقات، وقال: لبيك اللهم لبيك بما لبَّى به الشيخ فلان. يعرف أن الشيخ فلان عنده تَحَرٍّ وحرص على السُّنة. فقال: اللهم لبيك بما لبَّى به فلان من الناس؛ فيصح ذلك.
والدليل لهذا ما جاء في الصحيحين عن أنس قال: قدم عليٌّ من اليمن، فقال رسول الله : بِمَ أهلَلْتَ؟. قال : أهلَلْتُ بما أهلَّ به رسول الله . فقال عليه الصلاة والسلام: لولا أن معي الهَدي لأحْلَلْتُ. متفق عليه[48].
وجه الدلالة: أن النبي أقرَّه على هذا، وهذا يدل على فقه عليٍّ ، وعلى -أيضًا- جودة رأيه ، قال : “أهلَلْتُ بما أهلَّ به رسول الله “، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذا.
فدلَّ ذلك على أن من أحرم وأطلَق صح، سواءٌ قال: لبيك حجًّا أو لبيك عمرة، وأطلق ولم ينوِ إفرادًا ولا تمتعًا ولا قِرانًا، أو أنه قال: لبيك بما لبَّى به فلان من الناس؛ فذلك يصح.
قال:
“أن يُعيِّنه” يعني: يتلفظ فيقول: “اللهم لبيك عمرة”، إن كان يُريد التمتع، أو “لبيك حجًّا” إن كان يُريد إفرادًا، أو “لبيك عمرة وحجًّا” إن كان يُريد قِرانًا.
لكن، إذا أراد التمتع هل يقول: اللهم لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج؟ الأفضل أن يقتصر على قول: لبيك عمرة، ولا يقول: متمتعًا بها إلى الحج؛ لأن النية تكفي في هذا، فيقول: اللهم لبيك عمرة فقط.
الاشتراط عند الإحرام
قال المؤلف:
يعني: التمتع أو الإفراد أو القِران.
قوله: (أن يقول: اللهم إني أُريد النُّسك الفلاني، فيَسِّره لي، وتقبَّله مني) هذا محل نظر؛ لأن هذا يحتاج إلى دليل، ولم يَرِد عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عن أحد من الصحابة أنه كان يقول ذلك.
ثم ما الفرق بين أن يقول: اللهم إني أُريد النُّسك الفلاني، أو يقول عندما يُريد أن يُصلِّي: اللهم إني أُريد أن أُصلِّي صلاة العشاء أو صلاة الفجر أو صلاة الظهر. فإذا أجزنا هذا نُجيز هذا، ولا فرق بين الحج وبين الصلاة.
لهذا؛ فالصواب أن هذا لا يُشرع، وأنه إنما يقتصر فقط على الإهلال بقوله: لبيك عمرة، أو لبيك حجًّا، أو لبيك عمرة وحجًّا.
بل بعض أهل العلم يُشدِّد في هذا، فيقول: إن قوله: اللهم إني أُريد النُّسك الفلاني؛ أنه بدعة، ذكر هذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وجماعة من أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين أن يقول: اللهم إني أُريد النُّسك الفلاني في الحج، وبين أن يقول: اللهم إني أُريد أن أُصلِّي صلاة العصر أربع ركعات؛ فإن التلفُّظ بالنية بدعة.
فلهذا؛ نقول: إن السُّنة أن يقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجًّا، أو لبيك عمرة وحجًّا.
والسنة أن يكون إهلاله عندما تستوي به الراحلة؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أهلَّ بعدما استوى على راحلته، والراحلة في الوقت الحاضر مثل السيارة، فإذا ركب السيارة استقبل القبلة، والأفضل أن يُسبِّح ويُكبِّر الله ، يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. وقد جاء هذا في “صحيح البخاري”.
هذه الفائدة لا تجدها في كتب الفقه، إنما في كتب الحديث، قال البخاري: “باب التسبيح والتحميد والتكبير عند الإهلال”، ثم ساق بسنده: أن النبي كان إذا أراد أن يُهلَّ سبَّح الله تعالى وحَمِده وكبَّر[49].
فإذن؛ السُّنة أن تقول: “سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر”، قبل أن تُهِلَّ، ثم تقول مستقبلًا القبلة: اللهم لبيك عمرة، أو اللهم لبيك حجًّا، أو اللهم لبيك عمرة وحجًّا.
وهل هناك ركعتان للإحرام؟ جمهور العلماء على أنه يُستحب له أن يُصلِّي ركعتين للإحرام.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه ليس للإحرام ركعتان تخصه، وإنما السنة أن يكون إحرامه عقب صلاة. وقد اختار هذا القول: أبو العباس ابن تيمية، وابن القيم، وشيخنا عبدالعزيز ابن باز، والشيخ محمد ابن عثيمين. رحمة الله على الجميع.
وهذا هو القول الصحيح: أنه ليس للإحرام ركعتان تخصه، ليس هناك شيء اسمه ركعتا إحرام، وإنما السنة أن يكون الإحرام عقب صلاة، والنبي عليه الصلاة والسلام أحرم عقب صلاة الفجر أو الظهر[50]، عقب فريضة.
وحينئذٍ نقول: إن كان وقت الفريضة قريبًا؛ فانتظِر حتى تُصلِّي الفريضة ثم تُحرم، وإن كان وقت الفريضة ليس قريبًا، كأن يكون -مثلًا- وصولك مع طلوع الشمس، أو أول النهار، فتأتي بسُنةٍ من السُّنن المشروعة: كركعتي الضحى -مثلًا-، أو تحية المسجد، أو صلاة الوتر، ثم تُحرم بعد ذلك.
أما القول بأن للإحرام ركعتين تخصه، فليس على ذلك دليل ظاهر.
قال:
هذا يُسميه الفقهاء: الاشتراط، الاشتراط عند الإحرام، والاشتراط عند الإحرام اختلف العلماء في مشروعيته على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أنه لا يُشرع مطلقًا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشترط.
- والقول الثاني: أنه مشروع مطلقًا؛ لأن النبي أمر ضُباعة بنت الزبير رضي الله عنها بأن تشترط لمَّا حجت وهي شاكية، يعني: مريضة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: حُجِّي واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني[51]، وجاء في رواية النَّسائي: فإن لكِ على ربِّكِ ما استثنيتِ[52].
- والقول الثالث في المسألة: أن الاشتراط مشروع في حقِّ من احتاج إليه، كالمريض مثلًا، أو امرأة تخشى من أن يأتيها الحيض أو نحو ذلك، أو إنسان يخشى من عائق يُعيقه ونحو ذلك. أما من كان لا يحتاج إليه؛ فإنه لا يُشرع في حقه الاشتراط، وهذا هو القول الراجح في المسألة.
أما كونه يُشرع الاشتراط في حقِّ من احتاج إليه؛ فلأن النبي أمر به ضُباعة بنت الزبير رضي الله عنها[53]، وهذا دليل على مشروعيته.
وأما كونه لا يُشرع في حقِّ من لم يحتَجْ إليه؛ فلأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشترط، ولم يأمر به أحدًا من الصحابة غير ضُباعة رضي الله عنها، وقد حج معه قُرابة مائة ألف، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: “حسْبُكم سُنة نبيكم “[54]؛ لكنه إنما أمر ضُباعة به رضي الله عنها لأنها كانت مريضة.
ولهذا نقول: إن الإنسان إذا لم يحتج إليه؛ لا حاجة أن يشترط. لكن، إنسان مريض ما يدري هل يستطيع أن يُكمل حجه أم لا؟ نقول: اشترِط. امرأة تخشى أن يأتيها الحيض ولا تنتظرها الرُّفقة، نقول لها أن تشترط.
وأيضًا مع وجود التصاريح والإشكالات يَخشى أنه يُرَدُّ، أحرم -مثلًا- من الميقات ويخشى أن أمامه نقطة تفتيش وأنه يُرَدُّ ولا يتمكن من الحج؛ يشترط. فإذن؛ إذا كان يخشى من عائق يُعيقه فله أن يشترط.
طيب، ما فائدة الاشتراط؟ هل له فائدة أو ليس له فائدة؟
مداخلة: …
الشيخ: أحسنت، فائدة الاشتراط أنه إذا حصل عائق يُعيقه يتحلَّل من إحرامه وليس عليه شيء، بينما لو لم يشترط فليس له أن يتحلَّل حتى لو أعاقه عائق، يعتذر إذا استطاع أن يعتذر، فإذا لم يستطع حلق رأسه ونَحَر هَدْيَه، لكن إن اشترط فيتحلَّل وليس عليه شيء. هذه هي فائدة الاشتراط، لكنه إنما يشرع في حقِّ من احتاج إليه.
طيب، إن قال قائل: يعني في الوقت الحاضر تحصل حوادث السيارات، لو أراد الإنسان أن يشترط باعتبار أنه يخشى أن يقع له حادث سيارة، فهل يُعتبر هذا حاجة تجعلنا نقول: إنه يُشرع للإنسان أن يشترط لأجل خشية حوادث السيارات؟
مداخلة: …
الشيخ: كلها مستقبلية، كل العوائق مستقبلية.
مداخلة: …
الشيخ: طيب، نسبة حوادث السيارات بالنسبة للحُجاج، هل هي نسبة قليلة أم كثيرة؟ قليلة جدًّا، الحجاج الآن أكثر من مليونين، كم حوادث السيارات؟
نسبتها قليلة جدًّا كنسبة -أيضًا- حوادث الدواب في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أليس في يوم عرفة، رجلٌ وَقَصَته راحلته فمات[55]؟
فكانت -أيضًا- عندهم حوادث دواب أيضًا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
فإذن؛ نقول: إنه لا يُشرع خشيةَ حوادث السيارات، إنما لا بد -حتى الزحام أيضًا- لا يُشرع لأجل الزحام، إنما يكون هناك شيء معتبر، كما ذكرنا: إنسان مريض يخشى أنه ما يُكمل، كإنسان -مثلًا- ما عنده تصريح ويخشى أنه يُرَدُّ. امرأة تخشى أن يأتيها الحيض؛ فهنا يشرع الاشتراط.
إذن؛ نكتفي بهذا القدر، ونقف عند: (باب: محظورات الإحرام)، ونكمل الدرس القادم إن شاء الله.
نُجيب عما تيسر من أسئلة.
السؤال: …
الشيخ: هذه من المسائل المشكلة أيضًا، اختلفت الأقوال… والتغيير من نُسُكٍ إلى نُسُكٍ فيها اختلاف كثير، في الحقيقةِ الأدلةُ شحيحة في هذه المسائل.
مداخلة: …
الشيخ: قصدك: إدخال الحج على العمرة من غير حاجة؟ إي نعم، الله أعلم، ما ظهر لي شيء في هذه المسألة.
السؤال: …
الشيخ: الحِكمة أنهم حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]، فيقولون: الحاضِرُ الشيءَ هو مِن أهله، من أهل البلد، فكأن الهَدْي من الإنسان الضيف على البيت، ضيوف الرحمن، أو يأتي من مكان بعيد؛ لأنه يُهدي للبيت، كأنه يُهدي للبيت. أما مَن كان في مكة فلا يُقال: يُهدي للبيت، إنما يُشرع الإهداء للبيت لمن كان بعيدًا؛ قَدِم من غير مكة، هو الذي يُهدي للبيت.
يعني هكذا وجَّه بعضهم، والله أعلم، قد يكون هناك حِكَم أخرى.
طيب، نبدأ بالمكتوبة.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، نأخذ سؤالًا من هنا، وسؤالًا من هنا نعم.
السؤال: …
الشيخ: أولًا: وجود هذا الوباء مبالغ فيه، هو موجود، لكن قد بُولغ فيه، والأمراض المُعْدية والأوبئة موجودة في كل زمان، وربما أن “الإنفلونزا العادية يقولون: هي كإنفلونزا الخنازير أيضًا في العدوى بها وسرعة انتقالها، والأمراض المعدية الأخرى كذلك.
ولهذا؛ مَن كان قادرًا على الحج أرى أن هذا ليس عذرًا له، ليس مبررًا لأن يتركه.
وأرى -أيضًا- هلعًا وخوفًا شديدًا من بعض الناس؛ اتصل بي أحد الناس في رمضان وقال: إنه لا يُصلِّي مع الجماعة خشية هذا المرض.
يعني نقول: هذا دليل على ضعف التوكل على الله ، لهذه الدرجة؟! هذا دليل على ضعف التوكل على الله سبحانه، فإن الإنسان يكون عنده قوة توكل على الله ، والله تعالى يقول في شأن السحر والسحرة: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102].
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا عدوى ولا طِيَرة[56].
صحيح أن الإنسان لا بأس بأن يأخذ بالأسباب، يأخذ -مثلًا- كمامة أو نحو ذلك، لكن لا يكون عنده الهلع والخوف لهذه الدرجة.
ويُستشكل هذا من طالب العلم، طالب علم يكون عنده هذا الخوف الشديد وهذا الهلع لهذه الدرجة؟! هذا يدل على أنه ليس عنده عناية بأعمال القلوب، ليس عنده عناية بالتوكل على الله .
فنقول: أَخْذ الأسباب لا بأس به، لكن لا يُبالغ في ذلك، ولم يَصِل هذا المرض لحد الوباء الخطير حتى نقول: إنه لا يجب الحج، يعني على مَن كان يخشى هذا، وإنما هو ما زال محصورًا ومُسَيطَرًا عليه، ومعظم الحالات -أيضًا- يُشفى منها بإذن الله ، وحالات الوفيات ما زالت نسبتها قليلة جدًّا.
ولذلك؛ فالذي يظهر: أنه ليس عذرًا في ترك الحج في حقِّ مَن كان قادرًا عليه.
نأخذ سؤالًا، مَن…
السؤال: ….
الشيخ: لا بد، لا بد من الإهلال بالنُّسك، لا بد من الإهلال بالنُّسك، لا بد أن يقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجًّا، أو لبيك عمرة وحجًّا، حتى يُحدِّد النُّسك الذي يُريد.
نأخذ سؤالًا شفويًّا، ونأخذ مكتوبًا.
السؤال: أحسن الله إليكم، ما رأيكم فيمن نهاه والداه عن حج النافلة أو الفريضة خوفًا من إنفلونزا الخنازير؟ فهل يُطيعهما أو يحج؟
الشيخ: أما في حج النافلة فيُطيعهما جبرًا لخواطرهما؛ لأنه كما ذكرنا برُّ الوالدين أفضل من حج النافلة.
لكن، في حج الفريضة لا يُطيعهما في هذا؛ لأنه لا يضمن الإنسان أن يعيش إلى العام المقبل لكي يحج، إذا كان قادرًا على الحج فإنه يحج ولا تجب الطاعة في هذا، طاعة البشر للبشر -غير النبي عليه الصلاة والسلام- بالمعروف: إنما الطاعة في المعروف[57].
طاعة الولد لوالده في المعروف، طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف، طاعة ولي الأمر بالمعروف؛ كلها بالمعروف، ضابطها بالمعروف، ليست طاعة مطلقة، وإنما بالمعروف.
هنا بعض الإخوة يقول: نرجو تأخير بداية الدرس، نحن ذكرنا مُقدِّمةً حتى يتكامل الحضور، لكن تأخير الدرس ربما يترتب عليه تأخير -أيضًا- الانتهاء من الدرس، والآن الساعة التاسعة والنصف، ولا نُريد التأخُّر أكثر من هذا، فنرجو من الأخ أنه يحتاط أيضًا، والرأي للأغلبية، إذا رَأَى الأغلبية رأيًا فنسير عليه.
هذا يقول: نُريد ألا يكون في أثناء الدرس أسئلة، وإلا فعلى هذا جلسنا في الكتاب سنين!
يعني نحن نُتيح فرصة للأسئلة لأجل إزالة الملل، فلو كان يُلقَى الدرس كله إلقاءً؛ ربما يحصل الملل والسآمة، فنُتيح من حينٍ لآخر فرصةً للأسئلة من باب التنويع وإزالة الملل، فهو شيء مقصود، لكن يعني كما ذكرنا ربما لا نتوسع في الأسئلة، لكن ما بين مسألة وأخرى نُتيح سؤالين، ثلاثة، من باب التنويع ودفع السآمة والملل.
طيب، نأخذ سؤالًا شفهيًّا.
السؤال: ما حكم مَن تجاوز الميقات إلى ميقات بلده أو العكس؟
الشيخ: نعم، إذا تجاوز الميقات إلى ميقات بلده، يعني مثلًا: ميقاته “السيل”، فذهب إلى المدينة وأحرم من ميقات “ذي الحُليفة”؛ لا بأس، ولو كان العكس -أيضًا- أنه مرَّ من “ذي الحُليفة” ولم يُحرم منه، وأحرم من “السيل”، فهذه فيها خلاف بين العلماء، والصحيح -أيضًا- أنه لا بأس.
ويا إخوان، الحج فيه مسائل مشكلة وعويصة، وأذكر أن مشايخ التوعية عرضوا على سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله قُرابة عشرين مسألة، يقولون: أكثرها لم يُجِب فيها، أكثر من النصف توقف فيها.
ومن يتعرَّض لاستفتاءات الحجيج، كل سنة تظهر مسائل جديدة، ومسائل مشكلة، ومسائل عويصة.
فالمسائل المشكلة والعويصة في الحج كثيرة جدًّا، خاصة عندما يأتي الحاج، ويأتي بأعمال ويُدخل بعضَها في بعض، يعني تكون مشكلة جدًّا، وربما لا تجد أحدًا تكلم عنها من المتقدمين، ولا حتى من المعاصرين.
فالمسائل المشكلة في الحج كثيرة جدًّا وعويصة؛ ولذلك -أيضًا- أنا أرى أن باب الحج من الأبواب التي تحتاج إلى مزيد من البحوث والدراسات والرسائل العلمية، يعني لم يُخدم بالقدر المطلوب والكافي.
السؤال: …
الشيخ: نعم لا بأس؛ لقول الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]؛ يعني: في الحج، هذا بنصِّ الآية أنه لا بأس به ولا حرج فيه إن شاء الله.
السؤال: …
الشيخ: نعم، السؤال يقول: لو أن غير المحتاج للاشتراط اشترط، فهل ينفعه الاشتراط؟
الجواب: نعم ينفعه، لكن هذا خلاف السُّنة، لكن لو أراد إنسان، يقول: والله أنا أُريد أن أشترط، فهذا هو المذهب عند الحنابلة، حتى المذهب عند الحنابلة: أنه يُشرع الاشتراط، سواء احتاج أو لم يحتج.
لكن، السنة ألا يفعل إلا من يحتاج، فإن فعل نفعه الاشتراط، إن فعل نفعه، نعم.
السؤال: …
الشيخ: أما حج الفريضة فلا بأس؛ لأنه -أصلًا- ليس ممنوعًا نظامًا من ذلك، لكن ربما يكون قد قصَّر في أخذ التصريح.
وهذه أمور إجرائية لا تمنع من وجوب الحج، وحتى -أيضًا- رجال الأمن عند نقاط التفتيش، إذا أبلغهم أنه حجُّ فريضة ووثقوا بقوله؛ لا يصدونه ولا يمنعونه.
أما حج النافلة فالذي ينبغي هو ألا يحج إلا بعد أخذ التصريح، لكن باتفاق العلماء أنه لو حج دون تصريح فحجه صحيح، لكن تبقى مسألة: هل يأثم بهذا أو لا يأثم؟ هذه محل اجتهاد ونظر.
السؤال: …
الشيخ: خذها قاعدة: الانتقال من المفضول إلى الأفضل لا بأس به، من الأفضل إلى المفضول: قد يكون ممنوعًا وقد يكون جائزًا.
السؤال: …
الشيخ: إذا كان أقام في الرياض، أقام إقامة بحيث استأجر بيتًا واستقر، فيُعتبر هذا بلدَه، فإذا رجع إلى الرياض انقطع تمتعه. أما لو لم يُقم في الرياض، وإنما جلس عند أحد أقاربه شهرًا أو شهرين؛ ما يُعتبر مقيمًا في البلد نفسه، فلا ينقطع تمتعه.
مداخلة: …
الشيخ: إذا رجع إلى بلده الأصلي، أو ما كان في حكم بلده، لو أنه أتى الرياض واستأجر بيتًا بقي فيه مدةً، أشهرًا، يُعتبر هذا في حكم بلده فيكون رجع إلى بلده وانقطع تمتعه.
مداخلة: …
الشيخ: ما يُعتبر بلده، ما دام أنه لم يستقر، لم يستقر في بيت له، يستأجر -مثلًا- بيتًا، لا يُعتبر هذا بلده، وإنما يُعتبر ضيفًا على قريب له، ما يُعتبر هذا، يعني لا ينقطع تمتعه بهذا.
السؤال: …
الشيخ: هو إذا مرَّ بميقاته وهو يُريد النُّسك، لا بد أن يُحرم، هذه القاعدة.
السؤال: أحسن الله إليكم، ما حكم الاستنابة في الطواف والسعي؟
الشيخ: أما بالنسبة للقادر فليس له أن يستنيب، وأما غير القادر فجمهور العلماء -أيضًا- على أن الطواف والسعي لا يدخلهما النيابة، وأن العاجز يُطاف به محمولًا، ويُسعى به كذلك، هذا هو الذي عليه جماهير أهل العلم.
السؤال: أحسن الله إليكم، هل يلزم المرأة… محرم، المستطيعة ماديًّا أن تستنيب من يحج عنها؟
الشيخ: نعم، إذا أيست من المحرم في المستقبل؛ فيلزمها ذلك، وذكرنا قاعدة: وهي أن المستطيع بماله دون بدنه يلزمه أن يُنيب من يحج عنه. أما لو كانت ترجو وجود محرم لها في المستقبل فإنها تنتظر، لو تُوفيت وهي تنتظر فيُحج عنها من تركتها.
ولذلك؛ ينبغي أن تكتب هذا في وصيتها: أن يُحج عنها من تركتها.
السؤال: …
الشيخ: الشيء المعتاد لا يُعتبر حاجة تمنع الاشتراط، أما الشيء الطارئ فنعم، الشيء الطارئ نعم.
لو -مثلًا- طرأ شيء في ذلك العام، لو افترضنا وباء الخنازير -مثلًا- انتشر بين الحجاج بسرعة، فخشي أن يُصيبه هذا وأراد أن يشترط، نقول: لا حرج. أما الأشياء المعتادة؛ فلا.
مداخلة: …
الشيخ: لا، الزحام كل سنة، ما فيه؟ الزحام ما يعتبر، لكن الأشياء الطارئة، الطارئة، خاصة به أو بالحجاج عمومًا.
السؤال: أحسن الله إليكم، إذا مات المَحْرم في أثناء الطريق أو أثناء الحج، فما الحكم بالنسبة للمرأة؟
الشيخ: هذه المسألة ذكرها الفقهاء، وأنها تُكمل الحج ما دامت مع الرفقة المأمونة، تُكمل الحج وتُعتبر هذه حال ضرورة؛ لأنها لو رجعت لرجعت دون محرم، فتُكمل حجها ولو كان بدون محرم، خاصة أن القول بالحج مع الرفقة المأمونة قولٌ لجماعة من الفقهاء، وهو قول قوي أيضًا.
السؤال: أحسن الله إليكم، إذا منع الزوج زوجته من الحج فهل يأثم؟
الشيخ: إذا كان حجَّ فريضةٍ فإنه يأثم، ولا يجب عليها طاعته، أما إذا كان حج نافلة فننظر: إذا كان في المنع مصلحة له أو غرض صحيح فلا يأثم، أما إذا كان مجرد تحكم وليس له غرض صحيح؛ فإنه قد يأثم بهذا.
السؤال: أحسن الله إليكم، مَن كان يقدر على الحج وهو قد حج عدة مرات، فهل الأفضل أن يُعطي مَن لم يحج هذا المبلغ ليحج به؟ وهل له مثل الأجر؟
الشيخ: نعم، هذا السؤال جيد، تجد بعض الناس يقول: أعطِ المال ليحُجَّ به غيرك، ويكون لك مثل أجره أو أفضل.
هل يستوي الإنسان الذي يذهب في المشاعر ويُعاني المشقة والزحام، ويتنقل بين المشاعر، ويبذل جهدًا كبيرًا ومالًا ونفقات، مثل إنسان مجرد أنه يُخرج مِن جيبه دراهم ويُعطيها إنسانًا آخر؟
ما يستويان، هذا القول محل نظر ظاهر، لا شك أن الذي يذهب ويحج أنه أفضل بكثير من هذا، وإن كان هذا مأجورًا، لكن الذي يحج لا شك أنه أفضل، وأنه مظنَّة لحصول الأجر العظيم، وأن يرجع وقد حُطَّت عنه ذنوبه وخطاياه كيوم ولدته أمه، وأن يكون حجه مبرورًا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
أما هذا، فغاية ما فيه أنه أنفق نفقة يحتسبها وهو مأجور ومُثاب عليها، لكن تجد بعض الإخوان يقول: أعطِ هذا المالَ غيرَكَ وسيكون لك مثل أجره. هذا ليس بصحيح، ليس على إطلاقه، فلا شك أن الذي يحج أنه أفضل، وأنه أعظم أجرًا وثوابًا.
وقصة ابن المبارك التي يستدلون بها، قصة ابن المبارك في أناس مضطرين للمال، يعني وَجَد عائلة مضطرة للمال اضطرارًا، فأعطاهم هذا المال لأجل سدِّ ضرورتهم، فهي حالة خاصة، فهذا اجتهاد منه رحمه الله.
لكن الأصل أن كون الإنسان يحج أفضل من أن يُنفقه في المال الذي يحج به للفقراء والمساكين.
السؤال: أحسن الله إليكم، هل ثبت عن النبي أنه أخبر أنه مع رمي كل حجر تسقط كبيرة من كبائر الذنوب؟ حيث إني سمعت بعض طلبة العلم نَسَب هذا القول إلى النبي .
الشيخ: لا أعرف أن هذا ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان ثابتًا لاشتهر ولَتَناقله العلماء، فالأقرب أنه غير محفوظ وغير ثابت، ويُغني عن ذلك ما صح وثبت في فضل الحج، التي أوردها الشيخان البخاري ومسلم، وغيرها -أيضًا- مما ورد في كتب السُّنن.
السؤال: أحسن الله إليكم، مَن كان في الطائرة وقد لبس ملابس الإحرام، ثم نام في الطائرة ولم يستيقظ إلا بعد أن تجاوزت الطائرة الميقات، فهل يلزم أن يعود إلى الميقات؟
الشيخ: إذا كان لم ينوِ النُّسك فيلزمه أن يعود للميقات، فإن لم يَعُد فعليه دم، أما إن كان نوى، نوى وهو في الرياض -مثلًا- فيكون قد أحرم قبل الميقات وليس عليه شيء.
هذه مسألة كثيرًا ما تقع، تجد بعض الناس يلبس لباس الإحرام في الرياض مثلًا، في بلده، ثم يركب الطائرة وينام، ولا يستيقظ إلا في جدة، فيكون قد تجاوز الميقات دون إحرام، ثم تجد أنه يُحرم -مثلًا- من جدة، نقول: عليك دم.
إذن؛ ما الواجب عليه؟ الواجب عليه أن يرجع للميقات ليُحرِم، وإلا كان ينبغي له أن يحتاط ويتنبَّه، يعني هو أتى للحج، كان ينبغي أن يهتم، وأن يعتني بمسألة محاذاة الميقات، والمرور بين الميقات، لكن إذا فرَّط ولم يستيقظ إلا بعد مجاوزة الميقات؛ فيلزمه أن يرجع، فإن لم يرجع فعليه دم.
السؤال: أحسن الله إليكم، ما حكم التلفُّظ بالتلبية؟
الشيخ: التلفظ بالتلبية سُنة، بل الجهر بها ورفع الصوت بها سُنة، وقد جاء عند الترمذي وغيره بسند صحيح أن النبي قال: ما من مسلم يُلبِّي إلا لبَّى مَن عن يمينه وشماله مِن مَلَك وشجر وحجر ومَدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا[58].
وقد كان أصحاب النبي يرفعون أصواتهم بالتلبية، حتى إنهم لا يبلغون الرَّوْحاء إلا وقد بُحَّت حلوقهم.
فإذن؛ السنة رفع الصوت بالتلبية والجهر بها، إلا المرأة إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب، فلا ترفع صوتها، وإنما بقدر ما تُسمع رفيقتها.
فقط ننتهي من الأسئلة المكتوبة.
السؤال: أحسن الله إليكم، إذا كان المَحْرَم بالغًا ولا تحصل به الكفاية، فهل يُعَدُّ محرَمًا؟
الشيخ: نعم، هذا يَرِد على من اشترط البلوغ، من اشترط البلوغ يَرِد عليه هذا الإشكال: إذا كان المحرم لا تحصل به الكفاية وكان بالغًا، هم يقولون: إنه يُجزئ ويكفي. لكن، الذي يظهر أنه إذا لم تحصل به الكفاية فإنه لا يكفي؛ لأن المقصود من المحرَم حماية المرأة، فإذا كان لا تحصل به الكفاية ووجوده كعدمه، حتى لو كان بالغًا هو لا تحصل به الكفاية، كأن يكون معتوهًا -مثلًا- فهذا لا تحصل به الكفاية.
إذن؛ مقصود الشارع من المحرَم هو حصول الكفاية به.
السؤال: أحسن الله إليكم، مَن أقسم على الله ولم يُجِبه الله على قسمه، فهل يحنث بها الإنسان؟
الشيخ: أولًا: الإقسام على الله تعالى على قسمين كما ذكرنا في درس سابق:
أن يُقسم على الله تعالى ثقة بالله؛ لأن الله تعالى يَبَرُّ بقسمه، وإحسانًا للظن بالله ، هذا لا بأس به.
القسم الثاني: أن يُقسم غرورًا وتكبرًا وإعجابًا بنفسه؛ فهذا لا يجوز.
فإذا أقسم أن الله تعالى يَبَرُّ بقسمه ولم يحصل، فهل يكون قد حنث وعليه كفارة يمين؟ الله أعلم.
السؤال:أحسن الله إليكم، أنا شخص عندي كلب صيد… فهل ينقص من حسناتي قيراطان؟
الشيخ: إذا كان كلب الصيد فإنه مرخص فيه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: من اقتنى كلبًا غير كلب صيد أو حرث أو ماشية، فإنه ينقُصُ من أجره كل يوم قيراطان متفق عليه[59].
فاستثنى النبي عليه الصلاة والسلام كلب الصيد والحرث والماشية، فهذه مرخص فيها، فإذا كان سؤال الأخ عن كلب الصيد، فإنه لا بأس به، ولا حرج فيه إن شاء الله.
السؤال: …
الشيخ: يُقاس عليها كل ما يحتاج الناس إليه، مثل: الكلاب البوليسية، لا بأس باقتنائها، كلاب الحراسة لا بأس بها عمومًا، الحراسة عمومًا.
السؤال: أحسن الله إليك، هل يجوز أن يحج إنسان عن غيره ويأخذ مالًا على هذا الحج؟
الشيخ: لا بأس بهذا، لكن يجعل نيته ليس الحصول على المال، وإنما الحج والوصول للمشاعر، وشيخ الإسلام ابن تيمية له قاعدة مشهورة في هذا، يقول: “من أخذ ليحج فلا بأس، ومن حج ليأخذ فما له في الآخرة من خلاق”.
ولهذا؛ إذا صحت النية فإنه لا بأس بهذا.
السؤال: أحسن الله إليكم، هل التقدُّم على الإمام في الصلاة جائز إذا كان المكان مزدحمًا مثل عرفة؟
الشيخ: نعم جائز ولا بأس به؛ لأن غاية ما في التأخُّر خلف الإمام أن يكون واجبًا، والواجبات بل حتى الأركان والشروط تسقط بالعجز عنها، فحينئذ إذا كان المكان مزدحمًا كما في عرفة وفي منى وفي مزدلفة، فلا حرج بالتقدم على الإمام في مثل هذه الأماكن مع الزحام.
السؤال: السؤال الأخير أحسن الله إليكم، رجل نَذَر على شيء ألا يفعله ثم فعله، ولكنه نسي الشيء الذي نَذَرَه، فماذا يصنع؟
الشيخ: عليه كفارة يمين، خذوها قاعدة يا إخوان: مَن نَذَر نَذْرًا، إذا لم يفعله؛ فعليه كفارة يمين مطلقًا، يعني: مَن نَذَر نَذْرًا، لا يمكن أن يخرج دون شيء: إما أن يفعل ما نَذَرَ عليه، وإما أن يُكفِّر كفارة يمين، فالأخ ما دام أنه نسي فعليه أن يُكفِّر كفارة يمين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 233. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1820، ومسلم: 1350. |
^3, ^38 | رواه البخاري: 1773، ومسلم: 1349. |
^4 | رواه مسلم: 121. |
^5, ^6, ^53 | سبق تخريجه. |
^7 | رواه أحمد: 16207، وابن ماجه: 3013. |
^8 | رواه البخاري: 3176. |
^9 | رواه البخاري: 8، ومسلم: 16. |
^10 | رواه مسلم: 1337. |
^11 | رواه أحمد: 25322، وابن ماجه: 2901. |
^12 | رواه البخاري: 1520. |
^13 | رواه أحمد: 16184، وأبو داود: 1810، والترمذي: 930، والنسائي: 2621، وابن ماجه: 2906. |
^14 | رواه البخاري: 1773، ومسلم: 1349. |
^15 | رواه البخاري: 1780، ومسلم: 1253. |
^16 | رواه البخاري: 1776، ومسلم: 1255. |
^17 | رواه البخاري: 1782، ومسلم: 1256. |
^18 | رواه البخاري: 1568، ومسلم: 1216. |
^19, ^20 | رواه أحمد: 1183، وأبو داود: 4399، والترمذي: 1423. |
^21 | رواه الشافعي في “مسنده”: 940، والطبراني: 2731، والبيهقي: 8875. |
^22 | رواه مسلم: 1336. |
^23 | رواه ابن ماجه: 2897. |
^24 | رواه أحمد: 6495، وأبو داود: 1692. |
^25 | رواه مسلم: 996. |
^26 | رواه البخاري: 527، ومسلم: 85. |
^27 | رواه البخاري: 26، ومسلم: 83 |
^28 | رواه أحمد: 2867. |
^29 | رواه البخاري: 369، ومسلم: 1347. |
^30 | رواه البخاري: 1855، ومسلم: 1334. |
^31 | رواه مسلم: 1335. |
^32 | رواه أبو داود: 1811، وابن ماجه: 2903. |
^33 | رواه البخاري: 108، ومسلم: 2. |
^34 | رواه البخاري: 1862، ومسلم: 1341. |
^35 | رواه البخاري: 1860. |
^36 | رواه البخاري: 3595. |
^37 | رواه البخاري: 5590. |
^39 | رواه البخاري: 1889، ومسلم: 1376. |
^40 | رواه البخاري: 1531. |
^41 | رواه أبو داود: 1739، والنسائي: 2653. |
^42 | رواه البخاري: 1524، ومسلم: 1181. |
^43 | رواه البخاري: 1560، ومسلم: 1211. |
^44 | رواه البخاري: 1651، ومسلم: 1216. |
^45 | رواه مسلم: 1224. |
^46 | رواه مسلم: 1252. |
^47 | رواه البخاري: 1556، ومسلم: 1211. |
^48 | رواه البخاري: 1558 ومسلم: 1250. |
^49 | رواه البخاري: 1551. |
^50 | رواه البخاري: 1551، ومسلم: 1243. |
^51 | رواه البخاري: 5089، ومسلم: 1207. |
^52 | رواه النسائي: 2766، والدارمي: 1852. |
^54 | رواه البخاري: 1810. |
^55 | رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206. |
^56 | رواه البخاري: 5753، ومسلم: 2225. |
^57 | رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840. |
^58 | رواه الترمذي: 828، وابن ماجه: 2921. |
^59 | رواه البخاري 5481، ومسلم: 1574. |