logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(38) فصل: وإذا اختلط اثنان فأكثر من أهل الزكاة

(38) فصل: وإذا اختلط اثنان فأكثر من أهل الزكاة

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد تكلمنا عن زكاة السائمة، وأنصباء الإبل والبقر والغنم، ووقفنا عند الخُلطة.

الخُلطة في الأموال

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ

إذا اختلط اثنان.

الخُلطة: هي اشتراك شخصين فأكثر من أهل الزكاة في نصابٍ من الماشية حولًا فأكثر.

أقسام الخلطة في الأموال

ويقسمها الفقهاء إلى قسمين: خلطة أعيانٍ، وخلطة أوصافٍ.

  • خُلطة الأعيان: هي أن يكون المال مشتركًا بين اثنين في المِلك؛ مثال ذلك: رجلٌ مات عن ابنين، وخلَّف ثمانين شاةً، فإن هذه الثمانين مُشترَكةٌ بينهما شركة أعيانٍ، هذه الثمانون من الغنم نِصفها لأحد الابنين، والنصف الآخر للابن الثاني، أو اشترى رجلان مثلًا مئةً من الغنم، لكلٍّ منهما نصفها، فهذه تسمى خُلطة أعيانٍ، فخلطة الأعيان تكون بالإرث، وتكون بالشراء وغير ذلك، وخُلطة الأعيان تُصيِّر المالين كالمال الواحد؛ فمثلًا في المثال السابق: هذا رجلٌ توفِّي عن ابنين، وخلَّف ثمانين من الغنم، فالواجب فيها كم؟ شاةٌ واحدةٌ، ما دام أنهما لم يقسما الأغنام، لكن لو قَسَما الأغنام، أو استقل كلُّ واحدٍ منهما فأخذ هذا أربعين وهذا أربعين؛ فالواجب فيها شاتان، في الأربعين هذه شاةٌ، وفي الأربعين الأخرى شاةٌ.

إذنْ هذا هو القسم الأول: خُلطة الأعيان، خُلطة الأعيان ليس فيها إشكالٌ، هي تكاد تكون محل اتفاقٍ، فهي تُصيِّر المالين مالًا واحدًا، ويدل لهذا قول النبي عليه الصلاة والسلام في كتاب أبي بكرٍ  الذي كتبه لأنسٍ : “وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية” [1]، هذا يستفاد منه: أن الخُلطة تُصيِّر المالين كالمال الواحد.

  • القسم الثاني: خُلطة أوصافٍ؛ وهي أن يتميز مال كل واحدٍ منهما عن الآخر، ولكن يشتركان في أمورٍ، وهذه الأمور سنأخذها من كلام المؤلف، يعني مثلًا: هذا له عشرون من الغنم، وهذا له عشرون، لكن يشتركان في أمورٍ.

قال المصنف رحمه الله: “إذا اختلط اثنان”، يقصد خلطة الأوصاف.

فأكثر من أهل الزكاة في نصاب ماشيةٍ لهم جميعَ الحول واشتركا.

المؤلف يتكلم عن خُلطة الأوصاف، فاشتركا في أمورٍ، ما هي هذه الأمور؟

الأمر الأول:

قال:

في المبيت.

ويُعبر بعض الفقهاء عن ذلك بـ”المُرَاح”، فالمبيت هو المراح، وهو مكان المبيت للماشية، فيكون مراحهما واحدًا.

والمَسْرح.

والمراد: أن تسرح جميعًا وترجع جميعًا، فلا يُسرِّح أحدٌ غنمَه يوم السبت والآخر مثلًا يوم الأحد، وإنما تُسرَّح الأغنام جميعًا وترجع جميعًا.

والمَحْلب.

أي: يكون مكان الحلب واحدًا، فلا تُحلب غنم هذا هنا وغنم ذاك هناك.

والفحل.

أي: أن يكون لهذه الأغنام فحلٌ واحدٌ مُشترَكٌ.

والمَرعى.

أي: أن يكون المرعى: لهذه الأغنام جميعًا، فليس لغنم هذا مرعًى خاصٌّ ولغنم ذاك مرعًى خاصٌّ.

هذه الأمور الخمسة إذا اشتركا فيها.

قال:

زَكَّيَا كالواحد.

أي: أنها تُصيِّر الخلطةُ مالَيْهما كالمال الواحد، تُصيِّره كالمال الواحد، واستدلوا لذلك بحديث سعدٍ أن النبي قال: الخَلِيطانِ ما اجتمع على الحوض والفحل والراعي [2]، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني في “سننه”، لكنه ضعيفٌ من جهة الإسناد، ضعفه الإمام أحمد ولم يره حديثًا.

ولهذا، القول الثاني في المسألة: أن المرجع في ذلك إلى العُرف، فما عده الناس خلطةً؛ فهو كذلك، وما لم يعدوه خلطةً فليس بخلطةٍ، وهذا القول قد رجَّحه صاحب “الفروع” من الحنابلة، مَن هو صاحب “الفروع”؟ ابن مُفلِحٍ، شمسُ الدين، أحدُ تلاميذ، بل أبرز تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، رجَّح هذا القول، ولعل هذا القول هو الراجح؛ لأن الحديث الذي ذكرنا حديثٌ ضعيفٌ، والتحديد بهذه الأمور الخمسة يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ ثابتٌ يدل لهذا؛ ولهذا فالأقرب -والله أعلم- هو أن المرجع في ذلك إلى العُرف.

فإذنْ إذا عَدَّ الناس هذه الماشية خلطةً؛ فتكون كالمال الواحد، وإذا لم يعدوها خُلْطةً، وأن مال هذا مستقلٌّ عن مال هذا؛ فلا تكون خلطةً، هذا هو القول الراجح في المسألة -والله أعلم- من غير تحديدٍ بهذه الأمور التي ذكرها المؤلف.

الأمور التي لا تشترط في الخلطة

قال:

ولا تُشترط نية الخُلطة.

قالوا: الخُلطة، والخِلطة، وبعضُهم يقول: إن الخِلطة بالكسر أفصح، مِن: خَلَط يختلط خِلطةً.

ولا تُشترط النية؛ يعني: متى ما حصل هذا الاختلاط، وكان في عُرف الناس أنه خُلطةٌ، فهذه الخُلطة تُصيِّر المالين كالمال الواحد.

قال:

ولا اتحاد المَشْرب والراعي، ولا اتحاد الفحل إن اختلف النوع؛ كالبقر والجاموس، والضأن والمَعْز.

يعني: مع اختلاف النوع لا يُشترط اتحاد المشرب ولا الراعي.

المَشرب: يعني الحوض، والمكان الذي تشرب منه الماشية، ولا الراعي: لا يُشترط أن يكون الراعي واحدًا مع اختلاف النوع، ولا الفحل، وهذا تفريعٌ على قولهم بأن الخلطة في الأمور الخمسة، لكن على القول الراجح لا نحتاج لهذا، نقول: المرجع في ذلك إلى العُرف.

وقد تُفيد الخُلطة تغليظًا؛ كاثنين اختلطا بأربعين شاةً لكلِّ واحدٍ عشرون، فيلزمهما شاةٌ.

قد تُفيد تغليظًا وقد تُفيد تخفيفًا؛ ففي المثال الذي ذكره المؤلف: اثنان لكلِّ واحدٍ منهما عشرون من الغنم، فلما خَلَطاها أصبحت أربعين.

فهنا، الخُلطة أفادَتْ تغليظًا أم تخفيفًا؟ تغليظًا، لولا هذه الخُلطة؛ لم يجب عليهما شيءٌ، فهذه الخلطة إذنْ كانت سببًا لأنْ يجب عليهما شاةٌ من الغنم.

وقد تُفيد العكس:

تخفيفًا.

كثلاثةٍ اختلطوا بمئةٍ وعشرين شاةً.

لكلِّ واحدٍ: أربعون، فيلزمهم شاةٌ.

ثلاثةٌ خَلَطوا ما عندهم مِن المواشي: أربعون، وأربعون، وأربعون: مئةٌ وعشرون من الغنم، الواجب فيها شاةٌ واحدةٌ لولا هذه الخُلطة؛ لهذا يُخرِج هذا شاةً، وهذا شاةً، وهذا شاةً: ثلاث شياهٍ؛ فإذنْ أفادت الخُلطة هنا تخفيفًا، لكن إذا كان هذا مِن غيرِ قَصْدِ الاحتيال والفِرَارِ من الزكاة، أما إذا كان بقَصْدِ الحِيلة؛ فإن هذا لا يجوز؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ولا يُجمَع بين متفرقٍ، ولا يُفرَّق بين مجتمِعٍ خشيةَ الصدقة [3].

الجمع بين المتفرق؛ كأن يكون لكلِّ واحدٍ أربعون من الغنم، وهم ثلاثةٌ، فالساعي عندما يأتي ويأخذ من كل واحدٍ شاةً، فيجمع هذه الشِّيَاهَ: أربعين وأربعين وأربعين، حتى تصبح مئةً وعشرين، فلا يأخذ منهم إلا شاةً واحدةً، فإذا كان هذا بقصد الحيلة والفرار من الزكاة؛ فإن هذا لا يجوز، هذا إذنْ هو الجمع بين متفرقٍ.

والتفريق بين مجتمِعٍ؛ كأن يكون مثلًا عندهم أربعون من الغنم، فإذا أتى الساعي فرَّقوها؛ فأخذ هذا عشرين وهذا عشرين، وعندما أتى الساعي ورأى أن هذا عنده عشرون؛ فلا يأخذ منه شيئًا، والآخر لا يأخذ منه شيئًا، فبدلًا من أن يأخذ منهما شاةً واحدةً؛ فرَّق هذه الأغنام فلم يأخذ منهما شيئًا.

فإذا كان هذا بقصد الحيلة والفرار من الزكاة؛ فإنه لا يجوز، أما إذا لم يقصد من ذلك الحيلة ولا الفرار من الزكاة؛ فإن الخلطة تُصيِّر المالين كالمال الواحد، وتفيد إما تخفيفًا وإما تغليظًا.

قال:

ولا أثر لتفرقة المال، ما لم يكن سائمةً.

“ولا أثر لتفرقة المال” ولا خلطته، “ما لم يكن سائمةً”، يُشير المؤلف في هذه إلى مسألةٍ، وهي: هل الخلطة خاصةٌ بالسائمة من بهيمة الأنعام، أو أنها تشمل جميع الأموال؟ المؤلف يقول: إنها خاصةٌ ببهيمة الأنعام، ما عدا السائمة، فلا تؤثر الخلطة فيها، فلو خلطتُ مالي ومالك؛ فلا تُصيِّر هذه الخلطة المالين كالمال الواحد؛ يعني الخلطة في مثلًا الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، أو في الذهب والفضة، أو في الأوراق النقدية، أو في عروض التجارة، لا تُصيِّر المالين كالمال الواحد، وإنما تؤثر الخلطة فقط في السائمة من بهيمة الأنعام، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم، بل عدَّه بعضهم إجماعًا، أما تأثير الخلطة، إنما هو في السائمة فقط.

قال:

فإن كانتْ سائمةً بمَحَلَّين بينهما مسافة قصرٍ؛ فلكلٍّ حُكمٌ بنفسه.

“سائمة بمَحَلَّين”، يعني نفترض مثلًا: رجلٌ عنده أغنامٌ في الرياض، وعنده أغنامٌ سائمةٌ في مكة، بينهما مسافة قصرٍ لا شك، فيقول: لكلٍّ حُكمٌ بنفسه؛ فمعنى ذلك: لو كان عنده في الرياض عشرون من الغنم، وعنده في مكة عشرون، هل تجب عليه الزكاة على رأي المؤلف؟ لا تجب، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: لا يُفرَّق بين مجتمِعٍ، ولا يجمع بين متفرِّقٍ خشيةَ الصدقة [4]، وقالوا: إن هذا مالُه مُتفرِّق، فلكلٍّ حُكْمٌ مستقلٌّ.

والقول الثاني في المسألة: أنهما كالمال الواحد، وأنه إذا كان للإنسان سائمةٌ بمحلين أو بمَحَالَّ، فهي كالمال الواحد، وهذا هو قول أكثر العلماء، وهو الذي عليه المالكية والشافعية والحنفية، وروايةٌ عند الحنابلة، والقول الأول من المفردات.

وقد اختار هذا القول الموفق بن قدامة رحمه الله في “المغني”، وقال: هو الصحيح إن شاء الله، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لعموم الأدلة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: في كل أربعين شاةً شاةٌ [5]، فهذا الرجل يملك أربعين، فكيف نُسقط عنه الزكاة؟!

أما كون مثلًا عشرين منها في مكانٍ، وعشرين منها في مكانٍ آخر، فهذا غير مؤثرٍ، فيصدق عليه أن عنده أربعين من الغنم؛ فتجب عليه الزكاة.

فالأقرب والله أعلم: هو ما عليه جماهير العلماء، ولأنه مِلكٌ واحدٌ، فهو كغير السائمة، أرأيت لو كان عندك مالٌ مثلًا في الرياض، ومالٌ في مكة، ومالٌ في المدينة، فيجب عليك أن تُزكِّي هذه الأموال كلها، تعتبرها مالًا واحدًا وتُزكيها، وهكذا أيضًا إذا كانت سائمةً، فالمذهب في هذه المسألة ضعيفٌ، فالصواب: ما عليه أكثر أهل العلم، بل إن ابن المنذر رحمه الله يقول: لا أعلم أنه قال بهذا القول سوى الإمام أحمد، وعَدُّوه من المفردات.

إذنْ الصواب: ما عليه جماهير أهل العلم من أنها كالمال الواحد.

قال:

فإذا كان له شياهٌ بمَحالَّ متباعدةٍ، في كلِّ محلٍّ أربعون؛ فعليه شياهٌ بعدد المحالِّ، ولا شيء عليه إن لم يجتمع في كل محلٍّ أربعون، ما لم يكن خُلطةٌ.

وهذا تفريعٌ على المذهب: أنه إذا كان له شياهٌ بمَحالَّ متباعدةٍ، في كل محلٍّ أربعون؛ فعليه شياهٌ بعدد المحال.

يعني: عنده مثلًا في الرياض أربعون، وفي مكة أربعون، وفي المدينة أربعون، فهنا عليه كم شاةً؟ ثلاث شياهٍ، وعلى قول الجمهور، عليه كم؟ شاةٌ واحدةٌ، وقلنا: الراجح هو قول الجمهور.

قال:

ولا شيء عليه إن لم يجتمع في كل محلٍّ أربعون.

لو كان عنده في الرياض عشرون، وفي مكة عشرون؛ فعلى المذهب: لا شيء عليه، وعلى قول الجمهور: عليه شاةٌ واحدةٌ.

وقلنا: إن القول الراجح هو ما عليه جماهير العلماء، وأن قول الحنابلة في هذه المسألة ضعيفٌ.

هذه أبرز المسائل المتعلقة بالخلطة.

باب زكاة الخارج من الأرض

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب زكاة الخارج من الأرض

 والأصل فيها قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ [البقرة:267]، وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]. وحقه: الزكاة المفروضة.

والأدلة لهذا كثيرة؛ من السنة: قول النبي عليه الصلاة والسلام: فيما سَقَتِ السماء والعيون: العُشر، وما سُقي بالنَّضْح: نصف العُشر [6].

هل تجب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض؟

لكن هل تجب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض، أو في قَدرٍ مخصوصٍ منها؟

الحنفية ذهبوا إلى أن الزكاة تجب في كل ما يخرج من الأرض، وذهب الجمهور إلى أنها تجب في قدرٍ ونوعٍ مخصوصٍ.

والصواب: هو ما عليه جماهير أهل العلم؛ إذ إن هناك أنواعًا تخرج من الأرض لم تكن تُؤدَّى الزكاة فيها على عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ كالخضراوات والفواكه ونحو ذلك؛ فدل ذلك على أن الزكاة إنما تجب في نوعٍ وقدرٍ خاصٍّ.

الضابط فيما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار

ثم اختلف الجمهور في هذا القدر والنوع على أقوالٍ كثيرةٍ، والأقرب -والله أعلم- ما ذهب إليه الحنابلة؛ من أن الزكاة تجب في الحبوب كلها، في كل حبٍّ، وفيما يكال ويدخر من الثمار، هذا هو الضابط فيما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار؛ فعلى هذا: تجب الزكاة في الحبوب كلها، وفيما يكال ويدخر من الثمار، ومعنى الادخار: أنه يمكن أن يَيْبَس، وأن يبقى فترةً من الزمن دون أن يفسد.

والدليل لهذا القول: حديث أبي سعيدٍ  أن النبي قال: ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ [7]، متفقٌ عليه.

قوله : خمسة أوسقٍ، فيه دلالةٌ على اعتبار التوسيق، فما لا توسيق فيه لا زكاة فيه.

والتوسيق: التحميل من الوَسْق، والوَسْق: الحِمْل، وهو ستون صاعًا، وهو مَكِيلٌ؛ فدل ذلك على اعتبار الكيل فيما تجب فيه الزكاة؛ فما لا كيل فيه لا زكاة فيه، والحبوب كلها مكيلةٌ، جميع الحبوب مكيلةٌ؛ فإذنْ تجب الزكاة فيها كلها.

الثمار: ما لا يكال منها ولا يدخر، لا تجب فيه الزكاة، أما ما يكال ويدخر فتجب فيه الزكاة، فالثمار: تجب الزكاة فيما يكال منها ويدخر، ولا تجب الزكاة فيما لا يكال ولا يدخر منها، فما يكال يجب فيه الزكاة؛ باعتبار التوسيق والكيل؛ وكذلك ما يدخر؛ لأنه تَكمُل به النعمة، أما ما لا يدخر فلا تكمل فيه النعمة؛ لعدم الانتفاع به مآلًا.

إذنْ هذا هو القول الراجح والله أعلم، تجب الزكاة إذنْ في الحبوب كلها، وفيما يكال ويدخر من الثمار، وفي الحبوب كلها.

قال المصنف رحمه الله:

تجب في كل مكيلٍ مدخرٍ من الحبِّ.

ومثَّل المؤلف لهذا:

كالقمح والشعير والذرة والأرز والحِمَّص.

و”الحِمَّص”، هكذا ضبطه، بكسر الحاء وفتح الميم، وبعضهم يكسر الميم.

والعَدَسِ والباقِلَاءِ والكِرْسَنَّةِ.

هذا نوعٌ من الحبوب لا أعرفه، ما أدري، ربما أنه معروفٌ في بيئة المؤلف.

والسِّمْسِمِ والدُّخْنِ والكَرَاوِيَا والكُزْبَرَة وبِزْر القطن والكَتَّان والبِطِّيخ، ونحوه.

يعني الحبوب كلها، جميع الحبوب تجب فيها الزكاة؛ ولذلك نُضيف لهذا مثلًا: الحبة السوداء أيضًا، فتدخل في الحبوب، والقهوة كذلك.

قال:

ومن الثمر.

يعني ما يُكَال ويُدَّخر.

كالتمر.

التمر من أبرز الثمار التي تجب فيها الزكاة.

والزبيب واللوز والفستق والبندق والسُّمَّاق.

والقاعدة: أنه كل ما يكال ويدخر من الثمار.

حكم زكاة العنب

ولا زكاة في عُنَّابٍ.

وفي بعض النُّسخ -نسخ “دليل الطالب”- عنبٌ، ونسخة “منار السبيل”: عنبٌ، وهذا اختلف فيه العلماء، هل تجب الزكاة في العنب، أم لا؟

أما الزبيب فتجب، الزبيب تجب فيه، لكن في العنب، فالمؤلف -وهو المذهب- يرى أنه لا تجب الزكاة فيه.

والقول الثاني: أنه تجب الزكاة في العنب، وهذا هو القول الراجح، القول الراجح: أنه تجب الزكاة في العنب؛ لأنه مَكِيلٌ ومُدَّخرٌ، وإذا كانت تجب في الزبيب وهو العنب المجفف، فكذلك أيضًا في العنب.

حكم زكاة الزيتون

وزيتونٍ.

يعني لا تجب الزكاة في الزيتون، وهذا هو المذهب، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، في حكم وجوب الزكاة في الزيتون:

فالقول الأول: أنه ما مشى عليه المؤلف: أن الزكاة لا تجب في الزيتون؛ قالوا: لأنه لا يدخر يابسًا، والزكاة إنما تجب فيما يدخر.

وذهب جمهور العلماء إلى وجوب الزكاة في الزيتون، وإليه ذهب الحنفية والمالكية، وهو قولٌ عند الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، وهذه الرواية عن الإمام أحمد نقلها ابنه صالحٌ، واختار هذا القول المجد ابن تيمية رحمه الله، وهو القول الراجح: أن الزكاة تجب في الزيتون، ويدل لهذا القول: قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فذكر الله تعالى في هذه الآية الزيتون، قال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، ولأنه يمكن ادخار غَلَّته، أشبه التمر والزبيب، بل في وقتنا الحاضر يمكن ادخار الزيتون نفسه بوضعه في سائلٍ ذي مواصفاتٍ معينةٍ.

إذنْ القول الراجح: هو وجوب الزكاة في الزيتون.

حكم زكاة التين والجوز والمشمش

قال:

وجَوْزٍ وتِينٍ ومشمشٍ.

يعني لا تجب الزكاة فيها، وهذا أيضًا مما اختلف فيه العلماء، هل تجب الزكاة في التين وفيما ذكره المؤلف أم لا؟

  • المؤلف يرى أنه لا تجب الزكاة في التين.
  • والقول الثاني في المسألة: أنه تجب الزكاة فيه، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقد رجَّح هذا القول الحافظ ابن عبدالبر، وكذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمة الله على الجميع؛ وذلك لأن الزيتون يمكن ادخاره، والأصل أن ما أمكن ادخاره من الثمار تجب فيه الزكاة، وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم: أنه تجب الزكاة في التين، وكذلك ما ذكره المؤلف أيضًا من الجوز والمشمش؛ فهذه يمكن ادخارها، خاصةً الجوز، والمشمش في الوقت الحاضر أيضًا يمكن ادخاره بطريقةٍ معينةٍ، فالأقرب -والله أعلم- أنه تجب الزكاة فيه.

إذنْ فالقول الراجح: وجوب الزكاة في التين والزيتون، هذا هو القول الراجح، خلافًا لما ذهب إليه المؤلف.

حكم زكاة الرمان

ورمانٍ.

المعروف عند جماهير العلماء: أنها لا تجب الزكاة في الرمان، وعَدُّوه من الفواكه، لكن يُشكِل على ذلك الآيةُ الكريمة: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ[الأنعام:141].

نحن قلنا: إن الزيتون تجب فيه الزكاة، لكن الرمان عند أكثر العلماء لا تجب فيه الزكاة، ويشكل عليها الآية الكريمة؛ ولذلك نطرح هذه المسألة للبحث: “زكاة الرمان” من جهة:

  •  أولًا: الخلاف فيها.
  •  من قال من العلماء بوجوب الزكاة فيه.
  •  وكيفية أيضًا توجيه الجمهور للآية؛ فإن الله تعالى قد ذكر فيها الرمان، وهو معدودٌ عند الجمهور من الفواكه التي لا تجب فيها الزكاة.

فنطرح هذه المسألة للبحث: من رغب أن يبحث لنا هذه المسألة؟

نعم، الاسم: الأخ عبدالله، يبحث لنا هذه المسألة، من جهة:

  • أولًا: هل قال أحد من العلماء بوجوب الزكاة في الرمان.
  • ثم ما جواب الجمهور عن الاستدلال بالآية، آية الأنعام؟

نعم، في الوقت الحاضر يُجفَّف، لكن في السابق كانوا يعتبرونه من الفواكه.

وعلى كل حالٍ: هو عند عامة العلماء لا تجب فيه الزكاة، لكن أيضًا نبحث: هل المسألة فيها خلافٌ؟ لأن الإشكال أنه مذكورٌ في الآية.

الطالب:

الشيخ: لا يجفف؛ ولذلك عامة العلماء قالوا: لا تجب فيه الزكاة.

الطالب:

الشيخ: على كل حالٍ: نبحث المسألة، عامة العلماء على أنه من الفواكه التي لا تجب فيها الزكاة، لكن يُشكِل على هذا ما ذكره في الآية.

الطالب:

الشيخ: على كل حالٍ: هذا أحد الأجوبة، لكن لعل الأخ عبدالله يبحث لنا المسألة أكثر.

الطالب:

الشيخ: لا، على كل حالٍ: الفواكه عمومًا، الفواكه والخضراوات لا تجب فيها الزكاة، هذه سأتكلم عنها الآن: أن الفواكه والخضراوات لا تجب فيها الزكاة، وهو قول أكثر العلماء؛ كالباذنجان والخيار والجزر والبطيخ والبقوليات؛ من البصل والثوم والكُرَّاث ونحوها، فهذه لا تجب فيها الزكاة، ولا تجب كذلك في الفواكه؛ كالبرتقال والتفاح والموز والكمثرى ونحو ذلك.

وقد رُوي في ذلك أحاديث، لكنها ضعيفةٌ: حديث عليٍّ  أن النبي قال: ليس في الخضراوات صدقةٌ [8]، وأيضًا حديث موسى بن طلحة عن أبيه أن النبي قال: ليس في الخضراوات صدقةٌ [9]، وحديث معاذٍ  أنه كتب للنبي يسأله عن الخضراوات، قال: ليس فيها شيءٌ [10]، هذه الأحاديث جميع طرقها ضعيفةٌ، لكن قال الدارقطني بعد ذكر الروايات: أصحها المرسل، وقال الترمذي: لم يصح في هذا الباب شيءٌ عن النبي .

الطالب:

الشيخ: لكن الصحيح أنه لا يصح، إذا قال الترمذي، وإذا ضعف، فالترمذي في التضعيف جيدٌ، في التضعيف، فإذا ضعَّف؛ فالغالب أنك لا تجد فيها شيئًا.

قال الترمذي: لم يصح في هذا الباب شيءٌ عن النبي ، لكنها وردت من طرقٍ متعددةٍ يقوي بعضها بعضًا؛ ولهذا قال البيهقي: يشد بعضها بعضًا، هذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا، ومع أقوال الصحابة ، ولهذا قال ابن القيم في “زاد المعاد”: لم يكن من هدي النبي أخذ الزكاة من الخضراوات ولا الفواكه التي لا تُكال ولا تُدَّخر، وقد كانت لا تُؤدَّى زكاتها في عهد النبي وخلفائه من بعده، مع أنها كانت تُزرع بجوارهم، وهذا يدل على عدم وجوب الزكاة فيها.

لكن يُشكل على هذا: أن من الفواكه ما يمكن أن يُدَّخر؛ كالتين والمشمش، وقلنا: إن القول الراجح هو وجوب الزكاة فيها.

إذنْ فليست الفواكه بإطلاقٍ، وأنها لا تجب الزكاة فيها، بل ما أمكن ادخاره تجب الزكاة فيه.

سؤالك عن البِطِّيخ؟ البطيخ، المؤلف ذكره على أنه تجب فيه الزكاة، لكن يشكل على هذا: أنه لا يُدَّخر، هذه أيضًا مسألةٌ نطرحها للبحث أيضًا.

الطالب:

الشيخ: يعني المقصود بِزْر البِطِّيخ، نعم محتملٌ؛ لأن البطيخ لا يُدَّخر ولا يمكن ادخاره، هذا مُشكِلٌ: اعتباره مما تجب فيه الزكاة، فإذا كان المقصود بُزُورَ البِطِّيخ؛ فنعم؛ وعلى هذا فيكون المقصود بذر القطن والكتان والبطيخ، يعني البذور فقط، وأما البطيخ نفسه فعلى القاعدة التي ذكرناها لا تنطبق عليه؛ لأن القاعدة: أن الزكاة إنما تجب في ماذا؟ في الحبوب، وهو ليس حبًّا، وفيما يكال ويدخر من الثمار، وهو لا يكال ولا يدخر؛ ولذلك فالبطيخ نفسه لا ينطبق عليه هذا الضابط، لكن إذا قلنا بِزْرُه فنعم، كما ذكر ذلك المؤلف: وبزر القطن والكَتَّان والبطيخ ونحوها، على أنه بزر، أما البطيخ نفسه فمعلومٌ أنه لا يمكن ادخاره، فلا ينطبق عليه الضابط.

شروط وجوب الزكاة في الحبوب والثمار

قال:

وإنما تجب فيما تجب بشرطين:

يعني تجب الزكاة في الحبوب والثمار بشرطين:

الشرط الأول: بلوغ النصاب

الأول: أن يبلغ نصابًا وقدره.

يعني قدر النصاب.

بعد تصفية الحَبِّ وجفاف الثمر: خمسةُ أوسقٍ.

وقوله: “بعد تصفية الحب وجفاف الثمر”، هذا قيدٌ لا بد منه، باعتبار النصاب بعد التصفية والجفاف؛ وبناء على ذلك: فلو كان عنده عشرة أوسقٍ عِنَبًا، لا يجيء منها خمسةٌ زَبِيَبًا؛ لم يجب عليه شيءٌ؛ لأنه حالَ وجوب الإخراج لم يبلغ نصابًا، فاعتبر النصاب بحاله حينئذٍ.

والنصاب قال: “خمسة أوسقٍ”.

وهي: ثلاثمئة صاعٍ.

لأن الوَسْقَ ستون صاعًا.

ثم ذكر المؤلف بعض التقديرات الموجودة في زمنه:

وبالأرادِبِّ: ستةٌ وربعٌ، وبالرِّطل العراقي: ألفٌ وستمئةٍ، وبالقُدْسي: مئتان وسبعةٌ وخمسون وسُبُع رِطلٍ.

الناس في الوقت الحاضر يتعاملون بـ(الكيلوجراماتٍ)، وهذا يقودنا إلى مسألةٍ: وهي تحويل الصاع إلى وزنٍ، فالصاع مكيلٌ، فإذا أردنا أن نحولها إلى وزنٍ، كم مقدار الصاع بالجرامات؟

فهذه الحقيقةَ من المسائل المُشكِلة، الصاع نحتاج له هنا في هذه المسألة، ونحتاج له في مسألة زكاة الفطر.

فالصاع: هو أربعة أمدادٍ، والمُدُّ -كما قد ذكر صاحب “القاموس”- ملء كفَّيِ المعتدِلِ الخِلقة إذا مَدَّهما، هذا يقال له: مُدٌّ.

لكن الصاع مكيلٌ، والفرق بين الكيل والوزن، ما هو الفرق بين الكيل والوزن؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت، الكيل: تقدير الشيء بالحجم، بينما الوزن: تقدير الشيء بالثقل.

تقدير الشيء بالحجم، أقول مثلًا: هذا الكوب، مقدار هذا الكوب، مقدار هذا الشيء؛ يعني مقدار هذا الصاع، أملؤه تمرًا فيكون صاعًا، التمر هذا: قد يكون ثقيلًا، وقد يكون خفيفًا، وقد يكون حَشَفًا، وهو الصاع، أملؤه بُرًّا، والبر يختلف؛ بعضه من النوع الثقيل، وبعضه من النوع الخفيف، وبعضه من المتوسط، ومع ذلك هو صاعٌ، إذنْ الكيل ليس دقيقًا، بينما الوزن دقيقٌ؛ ولذلك ترك الناس في الوقت الحاضر الكيل وأصبحوا يتعاملون بالوزن، يتعاملون بالوزن في كل شيءٍ الآن.

فإذنْ: عندما نريد أن نعرف مقدار الصاع؛ نُحوِّله إلى الوزن، فإذا أردنا تحويل الصاع إلى الوزن؛ يَرِد علينا إشكالٌ: وهو أنك كيف تَحسب مقدار ما في هذا الصاع؟ فإن حسبتَ مثلًا بالتمر من النوع الثقيل؛ يخرج لك تقديرٌ، ومن النوع الخفيف؛ يخرج لك تقديرٌ، ومن المتوسط؛ يخرج لك تقديرٌ؛ ولذلك نجد أن الآراء في هذا متباينةٌ تباينًا كبيرًا، فأقلُّ ما قيل: إنه كيلوان وعشرون جرامًا، وأكثر ما قيل: إنه ثلاثة كيلوجراماتٍ، وبينهما فرقٌ كبيرٌ كما ترون، لكن المسألة في حاجةٍ إلى مزيد تحريرٍ؛ بأن يؤخذ مثلًا من المتوسط، متوسط ما يملأ هذا الصاع، لكن الأقوال -كما ترون- متباينةٌ، فالمسألة تحتاج إلى مزيد تحريرٍ؛ ولهذا حتى تُحرَّر هذه المسألة؛ يُؤخَذ بالأحوط، والأحوط في زكاة الفطر أن نقدر الصاع بكم كيلو؟ بثلاثة كيلوجراماتٍ، والأحوط في النصاب في زكاة الحبوب والثمار: أن نأخذ بالأقل أو بالأكثر؟ بالأقل، وأقل ما قيل: إنه ستمئةٍ واثنا عشر كيلوجرامًا.

فنأخذ بهذا القدر إلى أن تُحرَّر مسألة: كم يعادل الصاعُ بالجرامات؟ لأن القول بأنه ثلاثة كيلوجراماتٍ محل نظرٍ ظاهرٌ، والقول أيضًا بكيلوين وعشرين جرامًا كذلك، فالمسألة بحاجةٍ إلى مزيد تحريرٍ ونظرٍ.

ولذلك، وحتى تُحرَّر المسألة؛ نأخذ بالأحوط، لكن الأحوط ليس دائمًا أنه ثلاثة كيلوجراماتٍ، لا، الأحوط ثلاثة كيلوجراماتٍ في زكاة الفطر، والأقل في زكاة الحبوب والثمار وهو ستمئةٍ واثنا عشر كيلوجرامًا.

إذنْ هذا هو الشرط الأول.

الشرط الثاني: أن يكون مالكًا للنصاب وقت وجوبها

الثاني: أن يكون مالكًا للنصاب وقت وجوبها، فوقت الوجوب في الحب إذا اشتد، وفى الثمرة إذا بدا صلاحها.

“في الحب إذا اشتد”: بحيث إذا غُمِزَتْ؛ لم تنغمز، بل تكون مشتدةً.

“وفي الثمرة إذا بدا صلاحها”: وهو يختلف بحسب نوع الثمرة؛ فمثلًا: في ثمر النخيل أن تحمر أو تصفر مثلًا.

فإذنْ لا بد من أن يكون الحب أو الثمر مملوكًا في هذا الوقت؛ وبناءً على ذلك: لو باعه قبل ذلك؛ فلا زكاة فيه، ولو ملكه بعد ذلك؛ فلا زكاة عليه.

فلو أن رجلًا اشترى مزرعةً بعد أن بدا الصلاح في ثمارها؛ فلا يجب عليه زكاتها، إنما تجب الزكاة على مَن؟ على البائع؛ لأنه هو المالك لهذه الثمار وقت وجوب الزكاة.

مسألة استقرار وجوب الزكاة

ويذكر الفقهاء مسألةً هنا لم يُشِرْ لها المؤلف، وهي استقرار وجوب الزكاة، يقولون: لا يستقر وجوب الزكاة إلا بجعل الحبوب والثمار في موضع تجفيفها وتيبيسها، وموضع التجفيف والتيبيس يسمى بالبَيْدَر، والمِرْبَد، والجَرِين، كل هذه أسماءٌ له.

حكم الزكاة في الحبوب والثمار إذا تلفت بعد بُدو الصلاح

وبناءً على هذا: فلو تلفت الحبوب والثمار بعد بدو الصلاح وقبل جعلها في البيدر؛ فلا تجب عليه الزكاة، ما لم يكن ذلك التلف بتَعَدٍّ أو تفريطٍ منه، وإذا تلفت بعد وضعها في البيدر، فإن الزكاة تجب عليه، حتى ولو كان التلف بغير تعدٍّ منه ولا تفريطٍ؛ قالوا: لأنه قد استقر الوجوب في ذمته، فصارت الزكاة دَينًا عليه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

وقال بعض العلماء: إذا تلفت بعد وضعها في البيدر بغير تَعَدٍّ منه ولا تفريطٍ؛ فإنه لا تجب عليه الزكاة؛ وذلك لأنه قد اجتهد في حفظها، ولم يحصل منه تعدٍّ ولا تفريطٌ، فهو كالأمين الذي يحفظ المال لصاحبه، وهذا القول هو الأقرب والله أعلم.

وبناءً على ذلك: يكون لتلف الثمار والزروع ثلاث حالاتٍ:

  • الحالة الأولى: أن يَتلف قبل وجوب الزكاة؛ يعني قبل اشتداد الحب وبُدو الصلاح في الثمر؛ فلا شيء على المالك مطلقًا، سواءٌ كان التلف بتعدٍّ وتفريطٍ، أو بدون تعدٍّ ولا تفريطٍ.
  • والحالة الثانية: أن يتلف بعد وجوب الزكاة وقبل جعلها في البيدر، فإذا كان بتعدٍّ أو تفريط وجب عليه إخراج الزكاة، وإن كان بدون تعدٍّ ولا تفريطٍ؛ لم يضمن.
  • الثالثة: أن يتلف الحب أو الثمر بعد جعله في البيدر، فسبق أن أشرنا للخلاف، وقلنا: المذهب عند الحنابلة أنه تجب عليه الزكاة مطلقًا؛ لأنها قد استقرت في ذمته، والقول الراجح: أن هذه الحالة كالحالة الثانية: إن كان التلف بتعدٍّ أو تفريطٍ؛ وجب عليه الزكاة، وإن كان بغير تعدٍّ ولا تفريطٍ؛ لم تجب عليه الزكاة.

مقدار الزكاة في الحبوب والثمار

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ

ويجب فيما يُسقى بلا كلفةٍ العُشر.

“يجب فيما يُسقى بلا كلفةٍ” يعني: بلا مؤونةٍ؛ وذلك كالذي يُسقى بمياه الأمطار والأنهار والعيون، وكذلك إذا كان يَشرب بعروقه، وهو ما ورد تسميته في بعض الأحاديث عَثَرِيًّا: فيما سَقَتِ السماء والعيون أو كان عَثَريًّا: العُشر [11].

والعَثَريُّ: هو الذي يَشرب بعروقه من غير سقيٍ، فهذه يجب فيها العُشر؛ يعني: (10%)؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا: العُشر، وفيما سُقي بالنضح: نصف العشر.

وفيما يسقى بكلفةٍ نصف العُشر.

كالذي يُسقى في الزمن السابق بالنواضح والسَّوَاني [12] ونحوها، وفي وقتنا الحاضر بالمكائن الرافعة للماء، وهذه تكون فيما يُسقَى بمؤونةٍ؛ فالواجب فيها نصف العشر، نصف العشر بالنسبة المئوية كم تساوي؟ (5%)، يعني: الواجب فيها: (5%).

وتفريق الشارع بينهما -بين ما يُسقى بمؤونةٍ وبين ما يسقى بلا مؤونةٍ- فيه حكمةٌ ظاهرةٌ، وهي أن ما يُسقى بلا مؤونةٍ لم يتعب فيه الإنسان؛ فكان الواجب فيه أكثر، بينما ما سُقي بمؤونةٍ تَكَلَّفَ فيه وتَعِبَ؛ فراعى الشارع التخفيف على المكلَّف في هذا.

ونظيرُ ذلك: أن الشارع أوجب الزكاة في السائمة، ولم يوجبها في غير السائمة من بهيمة الأنعام، فما يُسقَى بمؤونةٍ وبغير مؤونةٍ، يقول الفقهاء: فيه ثلاثة أرباع العُشر.

فإذا كان يُسقى نصفَ العام بمؤونةٍ، ونصفَها بغير مؤونةٍ؛ ففيه ثلاثة أرباع العُشر، لماذا؟ لأن الواجب في النصف الأول: نصف نصف العشر، يعني ربع العشر، وفي النصف الثاني نصف العشر، فإذا أضفت نصف العشر إلى ربع العشر؛ أصبحت ثلاثة أرباع العشر.

فإن تفاوتا، ولم يمكن ضبط المدة، يعني: إنسانٌ يقول: إنه تارةً يُسقَى بمياه الأمطار، وتارةً يُسقَى بمؤونةٍ، قلنا: ما الأكثر؟ قال: لا أدري، فالعبرة بأكثرها نفعًا للزرع والشجر إن أمكن تحديده، فالأكثر نفعًا للزرع والشجر هو المعتمد.

فإن جهل إنسانٌ، قال: والله ما أدري، لا أدري أيهما أكثر نفعًا؟ قال الموفق بن قدامة: وإن جهل المقدار؛ وجب العُشر احتياطًا، نص عليه أحمد في رواية ابنه عبدالله؛ لأن الأصل هو وجوب العُشر، وإنما يسقط بوجود الكلفة، فما لم يتحقق المُسقِط؛ يبقى على الأصل.

قال الموفق بن قدامة -أنقل هذه من اللطائف- قال في كتابه “المغني”: ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر، فلا يثبت وجودها مع الشك فيه.

يعني المؤلف يقول: الأصل في الزروع والثمار عدم الكلفة، لكن هذا في زمن الموفق؛ يعني الأصل فيما يُسقَى من الزروع والثمار في زمن الموفق بن قدامة أنها مما يُسقَى بلا كُلفةٍ، يعني بمياه ماذا؟ الأمطار والأنهار والعيون.

الموفق بن قدامة توفي سنة (620)، من أين؟ يعني موطنه؟ في الشام، فيظهر أنها في تلك الفترة، وفي ذلك الزمن، كانت مياه الأمطار كثيرةً وغزيرةً، وكذلك الأنهار في بلاد الشام أيضًا والعيون، فيظهر أن الموفق بن قدامة يتكلم عن بيئته وعن زمنه، لكن في وقتنا الحاضر، أصبح الغالب في الحبوب والثمار: أنها تُسقَى بمؤونةٍ وبكلفةٍ، فالموفق يتكلم عما هو موجودٌ في بيئته، وما هو موجودٌ في زمنه.

قال:

ويجب إخراج زكاة الحب مُصفًّى، والثمر يابسًا.

فلا بد من هذا الشرط؛ لِمَا رَوى عَتَّاب بن أَسِيدٍ  أن النبي أمره أن يَخرُص العنب زبيبًا كما يخرص التمر [13]، رواه أبو داود والترمذي والدارقطني، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريبٌ.

إذا قال الترمذي: غريبٌ؛ يشير إلى ضعفه، وهو كذلك حديثٌ ضعيفٌ لا يثبت، ولكن معناه عليه العمل عند أهل العلم.

فإذنْ يُخرَج الحب مصفًّى، والثمر يابسًا.

قال:

فلو خالف وأخرج رُطَبًا؛ لم يُجْزِه، ووقع نفلًا.

فلا بد إذنْ من إخراجه يابسًا، ولا بد من إخراج الحب مصفًّى.

وسُنَّ للإمام بَعْثُ خارصٍ لثمرة النخل والكَرْم.

يعني: العنب.

إذا بدا صلاحُها، ويكفي واحدٌ.

سُن للإمام أن يبعث من يَخرُص الثمرة إذا بدا الصلاح.

والخَرْص معناه: التقدير، وقال البخاري في “صحيحه”: باب خَرْص التمر، ثم ساق بسنده عن أبي حُمَيدٍ الساعدي  قال: غزونا مع النبي غزوة تبوك، فلما جاء وادي القُرى؛ إذا امرأةٌ في حَدِيقةٍ لها، فقال النبي لأصحابه: اخرُصوا، وخرص رسول الله عشرة أوسقٍ، فقال لها: أَحصِي ما يخرج منها.. الحديث [14].

فالخرص إذنْ معناه: التقدير وحَزْر ما على النخل من الرطب تمرًا، وهذا يكون من صاحب خبرةٍ؛ يعني ليس أي إنسانٍ أن يَخرُص، وإنما يكون من ذوي الخبرة.

وفائدة الخرص: هي التوسعة على أرباب الأموال في التناول منها والبيع منها؛ وذلك لأن في منعهم من التصرف فيها حتى تخرج منها الزكاة تضييقًا.

والقول بالخرص قال به جماهير الفقهاء، وخالف في ذلك الحنفية، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن هذا عمل به النبي عليه الصلاة والسلام، وعمل به الخلفاء الراشدون من بعده.

شروط الخارص

هنا يقول المصنف: إنه يجزئ خارصٌ واحدٌ، “يكفي واحدٌ”، ويشترط فيه أن يكون:

مسلمًا، أمينًا، خبيرًا.

ولا بد من الخبرة في هذا.

وأجرته على رب الثمرة.

إلا إذا رأى الإمام أن يعطيه أجرته من عنده، وهذا هو الذي عليه العمل: أن الأجرة الآن على الإمام، وليس على رب الثمرة، لكن عند المُشَاحَّة تكون على رب الثمرة، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يبعث عبدالله بن رواحة يَخرُص تمر خيبر [15].

وجاء في حديث سهل بن أبي حَثْمة  أن رسول الله قال: إذا خرصتم؛ فخذوا أو دعوا الثلث، فإن لم تَدَعوا الثلث؛ فدعوا الربع [16]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وابن خزيمة، وهو حديثٌ صحيحٌ، إسناده صحيحٌ.

ما معنى تَرْك الثلث أو الربع؟

ما معنى أن الخارص إذا خرص؛ يترك الثلث أو يترك الربع؟ ما معنى هذا الكلام؟

الطالب:

الشيخ: نعم، يعني تقصد أنه يُسقِط الزكاة في الثلث أو الربع، يعني في هذا القَدْر، فإذا قدَّرها مثلًا بألف كيلوجرامٍ، إذا أسقطنا الآن الربع، كم؟

الطالب:

الشيخ: سبعمئة وخمسين، أو الثلث؟

الطالب:… ستمئة..

الشيخ: نعم، هذا هو المعنى الأول، لكن هذا فيه إشكالٌ؛ الثلث أو الربع قدرٌ كثيرٌ.

الطالب:

الشيخ: إذنْ، اختلف العلماء في المقصود بهذا الحديث على قولين:

  • القول الأول: أن المراد: إسقاط الزكاة في هذا القَدْر من التمر؛ يعني المعنى الذي سمعناه من الأخ: أن يترك الثلث أو الربع قبل أن يُعشَّر، فإذا خَرَص وقدر؛ فيُسقِط الثلث أو الربع من هذا التقدير.
  • والقول الثاني في المسألة: أن المعنى: أن يجعل الثلث من الزكاة للمالك؛ كي يتصرف فيه، فلا يأخذ الساعي، لا يأخذ الزكاة كلها، وإنما يترك للمالك الثلث أو الربع؛ لكي يتصرف فيه في توزيعه، وهذا هو القول الراجح والله أعلم: أن تَرْك الثلث أو الربع للمالك ليس من باب إسقاط الزكاة، وإنما من باب جعل التصرف فيه إلى المالك؛ لأن المالك قد يكون له أقارب وأصحابٌ، فيحب أن يعطيهم بنفسه من الزكاة؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث: أن يَدَع ثلث الزكاة أو ربعها؛ لكي يُفرِّقها بنفسه على أقاربه وجيرانه.

الطالب:

الشيخ: معناه: تُحسَب مِن الزكاة، والقول بأن هذا من باب إسقاط الزكاة، هذا فيه إشكالٌ، ثلث الزكاة نسقطها، وهذا لا يتفق مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: فيما سقت السماء: العُشر، وفيما سُقي بالنضح: نصف العشر [17].

فما أصبح الآن عُشْرًا، أسقطنا الآن قدرًا كبيرًا، وأسقطنا الثلث أو الربع، هذا قدرٌ كبيرٌ، وقد رجَّح هذا القول الأخير الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، هذا القول إذنْ هو القول الراجح.

ليس المعنى: أن الخارص يُقدِّر، ثم بعد ذلك يُسقط الثلث أو الربع، لا، ولكن المقصود: أن الزكاة لا تؤخذ من المالك كلها، وإنما يُترَك له الربع، أو يترك له الثلث، مثلًا ربع العشر أو ثلث العشر، يُترَك له؛ لكي يُفرِّقه بنفسه، فقد يكون له أقارب، وقد يكون له جيرانٌ.

أما القول بأنه يُسقِط عنه هذا القدر الكبير، ثلث العشر أو ربع العشر، فهذا لا يتفق مع عموم النصوص، فهذا هو الأقرب -والله أعلم- في معنى هذا الحديث، كما قال الإمام الشافعي.

قال:

ويجب عليه بعث السُّعاة قُربَ الوجوب؛ لقبض زكاة المال الظاهر.

“يجب عليه” يعني: على الإمام، أن يبعث السعاة، وهذا هو الذي عليه العمل عندنا هنا في المملكة: أنه يبعث السعاة لقبض زكوات الأموال الظاهرة؛ كالسائمة من بهيمة الأنعام، زكاة السائمة، وزكاة الحبوب والثمار.

ثم ذكر المؤلف مسألةً هي في وقتنا الحاضر نظريةٌ أكثر من كونها عمليةً، قال:

ويجتمع العُشر والخَرَاج في الأرض الخراجية، وهي ما فتحت عَنْوةً ولم تُقسَم بين الغانمين؛ كمصر والشام والعراق.

الأرض إما أن تكون فُتحت صُلحًا أو عَنْوةً؛ فإن كانت فتحت صلحًا؛ فيُضرب عليها الخراج حتى يُسلِم أهلها فيُرفع عنهم الخراج، أما إذا فُتحت عَنْوةً -كما مثَّل المؤلف بأرض مصر والشام والعراق- فهذه عمر أوقفها على المسلمين، وضرب عليها الخراج، فيقول المؤلف: إنه يجتمع العُشر والخراج فيها؛ العشر في غلتها، والخراج في رقبتها، فيجتمع فيها إذنْ عُشْران، وهذا -كما ذكرت- في وقتنا الحاضر هو نظريٌّ وليس عمليًّا.

الطالب:… رقبتها.

الشيخ: يعني في رقبة هذه الأرض، يعني في عَيْنها، هذا هو المقصود.

قال:

وتضمين أموال العُشر والأرض الخراجية باطلٌ.

وعللوا لذلك بأنه يقتضي الاختصار عليه في تملُّك ما زاد وغُرْم ما نَقَص، وهذا منافٍ لموضوع العمالة وحكم الأمانة، وهنا يتكلم المؤلف -كما ذكرت- عن أمرٍ موجودٍ في زمنه، فكان بعضهم يُضَمِّن أموال العشر والأرض الخراجية من غير تقديرٍ، فيكون في هذا نوعٌ من عدم الدقة، وتغريمُ أيضًا أصحاب هذه الأراضي ما نقص فيما إذا حصل النقص.

زكاة العسل

ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن زكاة العسل، قال:

وفي العسل العُشر، ونصابُه: مئةٌ وستون رطلًا عراقية.

حكم الزكاة في العسل

أولًا: هل تجب الزكاة في العسل، أو لا تجب؟

هذه المسألة اختلف فيها العلماء، والمؤلف يرى أن الزكاة تجب في العسل، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وقد رُوي فيه عدة أحاديث عن النبي ؛ منها: ما رواه ابن ماجه عنٍ عن أبيه عن جده أن النبي أخذ في العسل العُشر [18]، وأيضًا حديث أبي سيارة المُتَعيِّ  قال: قلت: يا رسول الله، إن لي نحلًا، قال: أَدِّ العُشر، قال: فاحم إذنْ جَبَلَها، فحماه له [19]، رواه أبو عبيدٍ وابن ماجه، ولكن هذه الأحاديث كلها ضعيفةٌ؛ ولهذا قال البخاري رحمه الله -كما في “العلل” للترمذي- قال: ليس في زكاة العسل شيءٌ يصح، وقال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل حديثٌ يثبت ولا إجماعٌ؛ فلا زكاة فيه، وقال البخاري في “صحيحه”: ولم يَرَ عمر بن عبدالعزيز في العسل شيئًا، وقال الحافظ ابن حجرٍ في “الفتح”: أخرج ابن أبي شيبة وعبدالرزاق بإسنادٍ صحيحٍ إلى نافعٍ مولى ابن عمر، قال: بعثني عمر بن عبدالعزيز على اليمن، فأردت أن آخذ من العسل العشر، فقال مغيرة بن حكيمٍ الصنعاني: ليس فيه شيءٌ، فكتبت إلى عمر بن عبدالعزيز، فقال: صدق، ليس فيه شيءٌ.

والقول بعدم وجوب الزكاة في العسل هو الذي عليه أكثر العلماء، وهو قول جماهير الفقهاء، وقد اختار هذا القول ابن مفلحٍ صاحب “الفروع” من الحنابلة، وهو الذي رجَّحه سماحة شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ والشيخ محمد بن عثيمين، وهو القول الراجح في المسألة: أن العسل ليس فيه زكاةٌ؛ وذلك لعدم ثبوت ما يدل على وجوب الزكاة فيه، والأحاديث التي ذُكِرت كلها ضعيفةٌ كما ذكر البخاري، والأصل براءة ذمة المكلف.

والقول بوجوب الزكاة في العسل -كما ذكرنا- هو مذهب الحنابلة، وهو من المفردات، وسبق معنا هذا المصطلح مرارًا، إذا قلنا: “من المفردات”، فنعني بذلك ماذا؟ انفرد به الحنابلة، معنى ذلك: أن المذاهب الأخرى على خلافه، القول بوجوب زكاة العسل -كما ذكرنا- قولٌ مرجوحٌ، لكن نصابه عندهم، عند الحنابلة: مئة وستون رطلًا عراقيةً؛ أي ما يعادل (62 كيلوجرامًا) تقريبًا، والواجب فيه عندهم: هو العُشر، كما ذَكَر المُؤلِّف: “وفي العسل العُشر”.

والأقرب -والله أعلم- ما عليه أكثر العلماء من عدم وجوب الزكاة في العسل.

ولكن نُنبِّه هنا إلى أن العسل إذا قُصد به التجارة؛ فيجب أن يُزكَّى زكاة عُروض التجارة.

حكم الزكاة على محلات العسل

وبناءً على ذلك: فأصحاب محلات العسل عليهم زكاة أم لا؟ عليهم زكاةٌ؛ لأنهم يقصدون به التجارة، فيزكون زكاة عُروض التجارة، لكن أصحاب المزارع التي فيها عسلٌ، والتي فيها مناحل: فهذه لا زكاة فيها، على القول الراجح أنه لا تجب فيها الزكاة.

زكاة الرِّكاز

قال المؤلف:

وفي الركاز -وهو الكنز ولو قليلًا- الخُمس، ولا يَمنع من وجوبه الدَّين.

الرِّكاز: هو ما وُجد مِن دفن الجاهلية؛ يعني قبل الإسلام؛ كأن يجد رجلٌ كنزًا مدفونًا، وعليه علاماتٌ تدل على أنه قبل الإسلام، وهذا في الوقت الحاضر معدومٌ، أو نادرٌ جدًّا، والغالب: أن ما يجده الإنسان من كنزٍ توجد عليه علامات الإسلام، أو لا توجد عليه علاماتٌ، لكن توجد عليه علامات الجاهلية؛ فهذا من الأمور النادرة جدًّا.

الركاز فيه الخُمس؛ لقول النبي : وفي الركاز الخُمس [20]، متفقٌ عليه، لكن يَرِد تساؤلٌ هنا:

هل إخراج الخُمس في الركاز، هل هو على سبيل الزكاة، أو على سبيل الفَيء؟

القول بأنه على سبيل الزكاة فيه إشكالاتٌ؛ لأنه لا يُشترط له حَوَلانُ الحول؛ ولأن الركاز لا يُشترط فيه النصاب؛ ولهذا فالمؤلف يقول: “ولو قليلًا”، ومن المعلوم أن الزكاة يُشترط فيها النصاب، ويُشترط فيها حَوَلان الحول، ثم أيضًا الخُمس قدرٌ كبيرٌ لا نظير له في باب الزكاة، وأكثر ما ورد في أنصباء الزكاة؛ يعني: في القدر المُخرَج من الزكاة، كم؟ العُشر، لكن الخمس قدرٌ كبيرٌ.

ولهذا فالقول الراجح والله أعلم: أن إخراجَ الخمس من الركاز: أنه على سبيل الفيء، وليس على سبيل الزكاة، وأن مَصرفه مصرف خمس الغنيمة الذي يُصرف في مصالح المسلمين العامة، هذا هو القول الراجح والله أعلم؛ لأنه لا دليل يدل على أن إخراج الخمس على سبيل الزكاة، ولأن ذلك يخالف المعهود في باب الزكاة؛ من اشتراط النصاب، واشتراط حَوَلان الحول، وأن يكون القدر المُخرَج ليس كبيرًا.

فإذنْ: القول الراجح والله أعلم: هو أن إخراجه على سبيل الفيء، وهذا أيضًا رجَّحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهو الأقرب والله أعلم: أن إخراج الخمس على سبيل الفيء، وليس على سبيل الزكاة، وعلى ذلك يكون مصرفه مصرف الفيء.

هل يمنع الدَّين وجوب الزكاة؟

قال: ولا يمنع من وجوبه الدَّين”، وسبق أن أشرنا في الدرس السابق إلى أن الدَّين لا يمنع من الزكاة -في أرجح قولي العلماء- عمومًا، وأن من كان عنده مالٌ وحال عليه الحول؛ فيجب عليه أن يزكيه، بغض النظر عما في ذمته من الديون، وقلنا: إن هذا هو القول الراجح، وإن كانت المسألة محل خلافٍ، وذكرنا وِجهة هذا القول: وهو أن النبي كان يبعث عُماله لقبض الزكوات من أرباب الأموال [21]، ولم يأمر عماله أن يسألوا أرباب الأموال هل عليهم زكاة أم لا؟ مع أن الغالب في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أن عليهم ديونًا، فلم يأمر عماله أن يسألوا أرباب الأموال هل عليهم ديون أم لا؟ مع أن الغالب أن عليهم ديونًا، وقد كان أرباب المزارع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يُسلِفُون بالثمار السنة والسنتين [22]، فكانت الديون في ذِمَمهم، فلو كان الدَّين يمنع من الزكاة؛ لأمر النبي عماله أن يسألوا أرباب الأموال هل عليهم ديون أم لا؟ حتى يسقطوها من الزكاة، ولأن الجهة منفكةٌ، فتجب الزكاة في الأموال إذا حال عليها الحول في الحَبِّ والثمر إذا بدا صلاحه، وأما بالنسبة للدَّين فإنه متعلقٌ بالذمة، فالزكاة متعلقةٌ بعين المال، والدَّين متعلقٌ بالذمة؛ فالجهة حينئذٍ منفكةٌ.

ولذلك فالقول الراجح: أن الدَّين لا يمنع من وجوب الزكاة.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب “زكاة الأثمان”.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2487.
^2 رواه الدارقطني: 1943.
^3 رواه البخاري: 1450.
^4, ^11, ^17 سبق تخريجه.
^5 رواه أبو داود: 1568.
^6 رواه البخاري: 1483.
^7 رواه البخاري: 1405، ومسلم: 979.
^8 رواه الدارقطني: 1907.
^9 رواه الدارقطني: 1911.
^10 رواه الترمذي: 638.
^12 السواني: هي الدلاء الكبيرة التي يستقى بها، وسميت بها الداوب التي يستقى بها، ينظر مشارق الأنوار للقاضي عياض: 2/ 223 (س ن و).
^13 رواه أبو داود: 1603، والترمذي: 644، والدارقطني: 2045.
^14 رواه البخاري: 1481.
^15 رواه مالك: 1، وأحمد: 25305، وأبو داود: 1606.
^16 رواه أحمد: 15713، وأبو داود: 1605، والترمذي: 643، والنسائي: 2491.
^18 رواه ابن ماجه: 1824.
^19 رواه أبو عبيد في كتاب الأموال: 1488، وابن ماجه: 1823.
^20 رواه البخاري: 1499، ومسلم: 1710.
^21 رواه مسلم: 983.
^22 رواه الترمذي: 644، وابن ماجه: 1819.
zh