logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(33) باب صلاة الجمعة- من قوله: “تجب على كل ذكر مسلم مكلف..”

(33) باب صلاة الجمعة- من قوله: “تجب على كل ذكر مسلم مكلف..”

مشاهدة من الموقع

باب صلاة الجمعة

على بركة الله نبدأ بــ:

باب صلاة الجمعة

سبب تسمية يوم الجمعة بهذا الاسم

نبدأ أولًا بالكلام عن يوم الجمعة، كان يسمى يوم الجمعة في الجاهلية بــ”العَرُوبة”، واختلف في سبب تسميته بــ”الجمعة” على أقوال؛ ومن أحسنها: أنه سمي بذلك؛ لأن خلقَ آدم جُمِع فيه، وقد اختار هذا القول الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله في “فتح الباري”، وقال: إنه قد ورد في ذلك حديث سلمان، أخرجه أحمد وابن خزيمة [1].

فضل يوم الجمعة

وهو أفضل أيام الأسبوع؛ كما يدل لذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: خير يومٍ طلعت فيه الشمس: يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة [2].

هذا اليوم هدى الله تعالى إليه هذه الأمة، وقد ضلت عنه الأمم السابقة، فاختلفت اليهود فيه، فكانت جمعتهم السبت إلى الآن، واختلف النصارى في الجمعة، فكانت جمعتهم الأحد؛ كما يدل لذلك حديث أبي هريرة في “الصحيحين” أن النبي قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فُرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تَبَعٌ؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غدٍ [3]، وقوله : نحن الآخرون السابقون، يعني: الآخرون زمانًا، السابقون: الأولون منزلةً.

وهذا اليوم هو عيد الأسبوع، قد وردت تسميته عيدًا في بعض الأحاديث [4]؛ ولذلك لا بأس أن يقال: إن الأعياد ثلاثةٌ: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع: الذي هو الجمعة.

صلاة الجمعة صلاة مستقلة

وصلاة الجمعة هي صلاةٌ مستقلةٌ، ليست بدلًا عن الظهر؛ لقول عمر : “صلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ، على لسان نبيكم محمدٍ [5]، رواه أحمد والنسائي، ولخصائصها التي تفارق فيها الظهر؛ منها: أنه لا تجوز الزيادة فيها على ركعتين، ولو كانت بدلًا عن الظهر؛ لجاز، ولا تُجمع مع العصر في قول جمهور العلماء، ولا تنعقد بنية الظهر ممن لا تجب عليه، ولكن صلاة الظهر بدلٌ عنها إذا فاتت؛ ولهذا قال صاحب “الإفصاح”: اتفقوا على أنه إذا فاتت صلاة الجمعة؛ تصلى ظهرًا.

والجمعة لها خصائص تكلم عنها أهل العلم، ومن أحسن من تكلم عنها: ابن القيم رحمه الله، في الهَدي النبوي في “زاد المعاد”، ومن العلماء من أفردها بمصنَّفٍ مستقلٍّ؛ كالسيوطي، أفردها في مصنف اسمه: “اللُّمعة في خصائص الجمعة”، وهو مطبوعٌ، وسيأتي الإشارة لبعض هذه الخصائص.

حكم صلاة الجمعة

وصلاة الجمعة فرضٌ بإجماع المسلمين، بل هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين؛ ولهذا من تركها تهاونًا بها؛ طبع الله على قلبه، ويدل لذلك حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، قال: سمعنا رسول الله يقول على أعواد منبره: لينتهين قومٌ عن وَدْعِهم -يعني: عن تركهم- الجمعات؛ أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين [6]، رواه مسلمٌ.

وجاء في حديث أبي الجَعْد الضَّمْري  أن النبي قال: من ترك ثلاث جُمَعٍ تهاونًا بها؛ طبع الله على قلبه [7]، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وهذا يُبيِّن خطورة التساهل بصلاة الجمعة؛ ولهذا قال المؤلف:

تجب.

يعني: أنها فرضٌ، بل من آكد فروض الإسلام.

على من تجب صلاة الجمعة؟

ثم قال:

على كل ذكرٍ مسلمٍ مكلفٍ حرٍّ لا عذر له.

أفادنا المؤلف بأن الجمعة تجب على هؤلاء، تجب على من اتصف بهذه الأوصاف:

  • الوصف الأول: أن يكون ذكرًا، وأن يكون حرًّا، والذكورية والحرية شرطٌ لوجوب الجمعة وانعقادها، فلا تجب الجمعة على المرأة، ولا على العبد.
  • كذلك أيضًا: أن يكون مسلمًا؛ لأنها عبادةٌ، والعبادة تفتقر إلى نيةٍ، والنية لا تصح من كافرٍ، وتَقدَّم هذا الشرط مرارًا معنا.
  • وكذلك أيضًا: أن يكون مكلفًا، فالصبي الذي لم يبلغ، لا تجب عليه الجمعة، ولكن المرأة والعبد والصبي إذا صلوها؛ صحت منهم.

ويدل لذلك حديث طارق بن شهابٍ أن النبي قال: الجمعة حقٌّ واجبٌ على كل مسلمٍ، إلا أربعةً: عبدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صبيٌّ، أو مريضٌ [8]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود في “سننه”، وقال: طارق بن شهابٍ قد رأى النبي ولم يسمع منه، كان صغيرًا، وقال النووي: هذا غير قادحٍ في صحته؛ فإنه يكون مرسل صحابيٍّ، وهو حجةٌ، وهذا الحديث على شرط الشيخين؛ فإذنْ طارق بن شهابٍ ينطبق عليه ضابط الصحابي: كل من رأى النبي مؤمنًا به؛ وهو قد رآه مؤمنًا به لكن لم يسمع منه؛ لكونه صغيرًا، فيكون مرسل صحابيٍّ، ومرسل الصحابي حجةٌ؛ فيكون هذا الحديث إذنْ ثابتًا.

من الذي لا تجب عليه الجمعة؟

وهذا الحديث صريحٌ في عدم وجوب الجمعة على هؤلاء الأربعة: الرقيق، والمرأة، والصبي، والمريض، ومن أهل العلم من قال: إنها تجب على الرقيق، وممن ذهب إلى هذا: الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله، لكن هذا قولٌ مرجوحٌ؛ لأن هذا الحديث ما دام أنه ثابتٌ، فهو حجةٌ في محل النزاع.

قال:

وكذا على مسافرٍ لا يُباح له القصر.

المسافر الذي لا يباح له القصر: هو المسافر سفر معصيةٍ، فإن هذا لا يُباح له القصر، فيقول: إنها تجب عليه الجمعة، وأما المسافر الذي يُباح له القصر، الذي يُباح له الترخُّص برُخَصِ السفر، فهذا لا جمعة عليه في قول أكثر أهل العلم.

وحُكي عن الزُّهري وعن النخعي: أنه تجب عليه الجمعة؛ قالوا: لأن الجماعة تجب عليه، فالجمعة أولى، ولكن الصحيح ما عليه أكثر العلماء؛ ولأن هذا هو هدي النبي وأصحابه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام كان يسافر الأسفار ولم يُنقل عنه أنه صلى الجمعة في سَفْرةٍ من أسفاره، وهكذا خلفاؤه الراشدون كانوا يسافرون، ولم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه صلى الجمعة، بل إن المسافر لا يُشرع له إقامة الجمعة، وإقامة المسافر للجمعة بدعة، فلو أن مجموعةً من المسافرين قالوا: نُريد أن نُقيم الجمعة، يخطب بنا أحدنا؛ فإن هذا من البدع، ولا يجوز مثل هذا.

لكن الكلام: لو أراد أن يُصلِّي مع الناس، هل نلزمه بهذا، أو له أن يُصلِّيها ظهرًا؟

أما إذا كان له الترخُّص؛ فلا تجب عليه الجمعة في قول أكثر أهل العلم، أما المسافر الذي ليس له الترخص برخص السفر؛ فتلزمه الجمعة عند بعض أهل العلم، وقال آخرون: إنها لا تلزمه، ولكن الصحيح أنها تلزمه؛ لأنه ما دام أنه ليس له الترخص برخص السفر، فإنه تلزمه الجمعة، وسيأتي الإشارة أيضًا لهذه المسألة.

قال:

وعلى مقيمٍ خارج البلد، إذا كان بينهما وبين الجمعة وقتَ فعلِها فرسَخٌ فأقل.

يعني: إذا كان هذا المقيم خارج البلد، أولًا: يُفهم من كلام المؤلف: أن المقيم داخل البلد له حكمٌ آخر، المقيم داخل البلد تجب عليه الجمعة بكل حالٍ، تلزمه الجمعة بكل حالٍ، سواءً سمع النداء أو لم يسمع النداء؛ وذلك لأن البلد الواحد يُبنى للجمعة؛ لأن الأصل أن البلد الواحد يُبنى للجمعة، فلا فرق فيه بين القريب والبعيد، ولأن المدينة في عهد النبي كانت محالًّا متفرقةً، ومع ذلك كان جميع أهل المدينة مأمورين بشهود الجمعة مع النبي ؛ إذنْ مَن كان داخل المصر وداخل البلد تجب عليه الجمعة بكل حالٍ، سواءً سمع النداء أو لم يسمع النداء.

أما إذا كان يقيم خارج البلد، إنسانٌ منزله خارج المدينة، هل تجب عليه الجمعة؟

يقول المؤلف: إنها تجب عليه، “إذا كان بينه وبين الجمعة وقتَ فعلِها فرسخٌ فأقل”، والفرسخ، تحديده بالفرسخ، الفرسخ يُعادل (5 كيلومتراتٍ) تقريبًا، وقالوا: وجه التحديد بالفرسخ؛ قالوا: لأن الموضع الذي يُسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيِّتًا بموضعٍ عالٍ، والرياح ساكنةٌ، والأصوات هادئةٌ، والعوارض منتفيةٌ، يكون فرسخًا، لا يزيد على فرسخٍ.

فقالوا: إذا كان بينه وبين الجمعة فرسخٌ فأقل؛ فتجب عليه؛ لحديث عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما أن النبي قال: الجمعة على من سمع النداء [9]، رواه أبو داود، لكن الصحيح أنه موقوفٌ على عبدالله بن عمرٍو.

ولقصة عبدالله بن أم مكتومٍ لما أتى النبي فسأله أن يرخص له في أن يصلي في بيته، قال : أتسمع حي الصلاة، حي الفلاح؟ قال: نعم، قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصةً [10]، رواه مسلمٌ، وهذا يسمع النداء. ولأنه داخل في قول الله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9].

إذنْ الخلاصة: من كان داخل البلد: تجب عليه الجمعة؛ لأن الأصل أن البلد تقام فيه جمعةٌ واحدةٌ، فجميع أهل البلد مأمورون بالجمعة، ومشمولون بقول الله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، من كان خارج البلد إذا كان بينه وبين الجمعة فرسخٌ فأقل؛ فتلزمه الجمعة، وإلا فلا.

طيب هل هذا التحديد ينطبق على زماننا في الوقت الحاضر: فرسخٌ؟

الآن لو أذن المؤذن، في مكانٍ عالٍ، على سطح المسجد مثلًا، والرياح ساكنةٌ، والأصوات هادئةٌ، هل يصل لهذه المسافة (5 كيلومتراتٍ).

مداخلة:

الشيخ: الذي يظهر أنه في وقتنا الحاضر أن الصوت لا يصل إلى هذا الذي قدَّره الفقهاء، الفقهاء ما كان عندهم بناءٌ عالٍ، وبهذه الضخامة، ثم أيضًا في الوقت الحاضر الجو أيضًا مليءٌ بالملوثات، وكذلك بالعوازل، بينما كان في الزمن السابق الجو صافيًا، يكون الجو صافيًا، وأيضًا الأبنية ما كانت مرتفعةً، كانت مبنيةً من الطين، ودَورًا أو بالكثير دَورين فقط، لا تزيد، ثم أيضًا كانوا يؤذنون على المنائر المرتفعة.

فالذي يظهر: أن هذا التحديد في زمنهم مناسبٌ، أما في وقتنا الحاضر فيظهر أن سماع النداء أقل من هذا بكثيرٍ، وربما كيلوين أو ثلاثة بالكثير، لكن أن نقول: (5 كيلومتراتٍ)، هذا في الوقت الحاضر يظهر أنه بعيدٌ، بل ربما حتى نقول: (3 كيلومتراتٍ) قد لا يسمع النداء مع هذا، يعني هذه المسافة البعيدة.

فإذنْ العبرة بسماع النداء، يعني في هذه الحدود: من كيلوين إلى (3 كيلومتراتٍ) تقريبًا.

مداخلة:

الشيخ: نعم.. لا، المكبر لا، العبرة بسماع النداء من غير مكبرٍ.

طيب قال:

ولا تجب على من يباح له القصر.

يعني أفصح المؤلف عن هذا الحكم، وأشرنا له قبل قليلٍ، قال: إنه لا تجب على من يباح له القصر؛ لأنه يباح له الترخص برخص السفر، ومنها القصر، وذكرنا أن هذه المسألة ليست محل إجماعٍ، بل محل خلافٍ، وهذا هو قول أكثر العلماء، لكن ذهب الزهري والنخعي إلى أنها تجب عليه، والصحيح أنها لا تجب، لكن الأفضل أنه يصلي الجمعة، هذا إذا كان يباح له القصر، أما إذا كان لا يباح له القصر؛ فقلنا: الصحيح أنه تلزمه الجمعة.

مداخلة:

الشيخ: نعم، لا تجب عليه مطلقًا، نعم، هناك من قال بهذا، يعني إذا كان مسافرًا وأقام، هناك من قال: أنه لا تجب عليه مطلقًا، المسألة محل خلافٍ، وهذه من المسائل أيضًا التي هي مشكلةٌ حقيقةٌ، من المسائل الفقهية المشكلة: مسألة وجوب الجماعة على المسافر إذا أقام الجمعة، الأدلة فيها ليست ظاهرةً والله أعلم؛ ولذلك الذي يظهر: هو أن التفصيل الذي أشرت إليه هو الأقرب، إذا كان المسافر لا يترخص برخص السفر؛ فيجب عليه أن يأتي بالجمعة إذا كان يترخص، فالذي يظهر أن قول أكثر العلماء هو الأقرب.

مداخلة:….

الشيخ: نعم، وما دام أنه مقيمٌ أكثر من أربعة أيامٍ؛ فمعنى ذلك لا يترخص برخص السفر؛ فتلزمه الجمعة بناءً على هذا التأصيل، سنعود إلى هذه المسألة.

قال: ولا على عبدٍ ومُبَعَّضٍ وامرأةٍ.

وتقدم الكلام عن هذا: أن هؤلاء لا تجب عليهم، لكن تصح منهم.

ومن حضرها منهم؛ أجزأته، ولم يُحسب هو.

يعني: لو أن المرأة صلت مع الرجال صلاة الجمعة؛ فإنها تُجزئها، يجزئها ذلك، لكن لا يُحسب هو، يعني: من العدد المعتبر.

هل تصح إمامة المسافر في الجمعة؟

ولا من ليس من أهل البلد من الأربعين، ولا تصح إمامتهم فيها.

يعني: هؤلاء لا يُحسبون، ولا تصح كذلك إمامتهم فيها، لا يُحسب هؤلاء، ولا من لم يكونوا من أهل البلد، ولا تصح إمامتهم فيها، وهذا الحقيقةَ يَرِد عليه إشكالٌ كبيرٌ، بعض المشايخ وبعض الدعاة يذهبون إلى قرًى مثلًا، أو مدنٍ، فيَطلب منهم أهل القرية أن يخطبوا بالناس، يخطبون يعني: يصلون بهم صلاة الجمعة؛ فبناءً على كلام المؤلف، هل تصح صلاتهم؟ لا تصح، على المذهب أنها لا تصح، لكن المسألة فيها خلافٌ، ولذلك القول الثاني في المسألة: أنه يجوز أن يكون العبد والمسافر إمامًا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، ووافقهم مالكٌ في المسافر.

فإذنْ يجوز أن يكون المسافر إمامًا في قول الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالكٍ والشافعي؛ وذلك لأن المسافر رجلٌ تصح منه الجمعة، فلا يمتنع أن يكون إمامًا، ولأنه لا دليل يدل على عدم صحة الجمعة منه، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل لهذا، وهذا هو القول الراجح، قول الجمهور: هو القول الراجح والله أعلم.

وبناءً على ذلك: في مسألتنا -يعني: من ذهب لقريةٍ أو مدينة، وطُلب منه أن يؤم الناس للجمعة- على القول الراجح لا بأس بذلك، والصلاة صحيحةٌ، وهو الذي عليه العمل، لكن على المذهب لا تصح.

شروط صحة الجمعة

قال:

وشرط لصحة الجمعة أربعة شروطٍ:

يعني: شروط صحة الجمعة.

الشرط الأول: الوقت

قال:

أحدها: الوقت.

الشرط الأول: الوقت، وهذا الشرط هو من آكد شروط الصلاة، مر معنا الكلام عن أهمية هذا الشرط، وقلنا: هو آكد شروط الصلاة، وأنه قد تسقط جميع الشروط مراعاةً لهذا الشرط.

لو فرضنا أن رجلًا عاجزًا عن ستر العورة، عاجزًا عن استقبال القبلة، عاجزًا عن الطهارة، عاجزًا عن جميع شروط الصلاة، وخَشِي خروج الوقت، فنقول له: صلِّ على حسب حالك، لكن لا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، هذا الشرط إذنْ آكد شروط الصلاة.

وقت الجمعة

هكذا أيضًا في الجمعة: هو آكد شروط الجمعة، فما هو وقت الجمعة؟

أما آخر وقتها: فهو آخر وقت الظهر بالإجماع، يعني: ينتهي وقت الجمعة بنهاية وقت الظهر: وهو عندما يُصبح طول ظل كل شيءٍ مثله بعد ظل الزوال، عندما يصبح طول ظل كل شيءٍ مثله، بعد ظل الزوال، انتبه لهذا القيد؛ لأنه في الشتاء يُصبح طول ظل كل شيءٍ مثله وقت الزوال أحيانًا؛ ولذلك لا بد من هذا القيد: أن يصبح طول ظل كل شيءٍ مثله بعد ظل الزوال.

فإذنْ: نهاية وقت الجمعة: هو نهاية وقت الظهر بالاتفاق.

بداية وقت الجمعة

لكن بداية وقت الجمعة اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوالٍ:

  • القول الأول: وهو المذهب، وأشار إليه المؤلف بقوله:
وهو من أول وقت العيد.

يعني: من أول وقت صلاة العيد، وأول وقت صلاة العيد: هو من بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رمحٍ، يعني: من بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق، وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو من المفردات، وإذا قلنا: من المفردات -هذا المصطلح مرَّ معنا- المقصود به: انفرد به الحنابلة عن بقية المذاهب.

  • القول الثاني: أنها تصح في الساعة السادسة، قبل الزوال بساعةٍ، وإذا قال الفقهاء: بساعةٍ، كذلك ما ورد في الأحاديث من قوله عليه الصلاة والسلام: من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى؛ فكأنما قرَّب بَدَنةً.. [11]، وقوله عليه الصلاة والسلام: الجمعة اثنتا عشرة ساعةً [12].

ما المقصود بالساعة في كلام الشارع وفي كلام الفقهاء؟ هل المقصود بها: الساعة المعروفة الآن، التي هي ستون دقيقةً، أم ماذا؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، إذنْ هم يسمونها: الساعة الآفاقية، يعني: يقسم الزمن ما بين طلوع الشمس إلى غروب الشمس على اثني عشر، فكل قسمٍ يسمى: ساعةً، تنظر متى تطلع الشمس، ومتى تغرب، تقسمه على اثني عشر، قد يكون ستين دقيقةً، قد يكون سبعين دقيقةً، قد يكون خمسين دقيقةً، يعني: على حسب طول النهار وقصره.

فمثلًا: في وقتنا الحاضر لو أردنا أن نحسبها: تطلع الشمس في مدينة الرياض: الخامسة وعشر دقائق تقريبًا، وتغرب: السادسة والنصف تقريبًا؛ إذنْ كم دقيقة؟ النهار كم دقيقةً؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، ثلاثة عشر، معنى ذلك: نقسم هذا الرقم: ثلاثة عشر ونصف، على اثني عشر، فإذا قسمناها عليها، تقريبًا: ساعةٌ وربعٌ، نعم، أقل من ربعٍ.

مداخلة:

الشيخ: لا، أقل من ربعٍ، يعني في حدود ساعةٍ وعشرٍ تقريبًا، في حدود سبعين دقيقةً، تكون الساعة إذنْ في حدود سبعين دقيقةً؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرَّب بَدَنةً.. [13]، ذكر خمس ساعاتٍ فقط، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل عند الزوال، الزوال عند الساعة السادسة، إذنْ فالقول الصحيح في الساعات المذكورة في الحديث: أنها بعد طلوع الشمس بساعةٍ، لكن بساعةٍ بهذا الاعتبار، يعني: بالآفاقية، ليست الساعة الميقاتية، يعني مثلًا: في وقتنا الحاضر بعد طلوع الشمس بنحو سبعين دقيقةً، هنا تبتدئ الساعة الأولى.

إذنْ القول الثاني: أنها تصح في الساعة السادسة، قبل الزوال بساعةٍ، وهو روايةٌ عن أحمد، واختارها الخِرَقي والموفَّق بن قدامة.

واستدل أصحاب هذين القولين..، طبعًا القول الثالث: أن ابتداء وقت الجمعة من بعد زوال الشمس، وإليه ذهب أكثر العلماء: وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو الذي عليه جماهير أهل العلم.

استدل أصحاب القول الأول والثاني -أن وقتها وقت العيد، وأنها تصح في الساعة السادسة- بقول عبدالله بن سِيدان: “شهدت الجمعة مع أبي بكرٍ ، فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر ، فكانت خطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان ، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره” [14]، وهذا الأثر رجاله ثقاتٌ، إلا أن عبدالله بن سِيدان غير معروف العدالة، قال البخاري: “لا يُتابع على حديثه”، فيكون هذا الأثر ضعيفًا من جهة الإسناد.

واستدلوا كذلك أيضًا بأحاديث صحيحةٍ، لكنها غير صريحةٍ؛ فمنها: حديث سلمة بن الأكوع ، قال: “كنا نصلي مع رسول الله الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان فَيْءٌ” [15]، وهذا الحديث رواه أبو داود، وهذا قالوا: إنه دليلٌ على أن النبي كان يصلي الجمعة قبل الزوال.

وأيضًا: بقول سهل بن سعدٍ : “ما كنا نَقِيل ولا نتغدَّى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله [16]، متفقٌ عليه.

قال ابن قتيبة: لا يُسمى غداءً ولا قيلولةً إلا بعد الزوال.

وهذه الأحاديث إما أنها ضعيفةٌ؛ كحديث عبدالله سيدان، أو أنها صحيحةٌ لكنها غير صريحةٍ، فحديث سلمة بن الأكوع : “كنا نصلي مع رسول الله الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان فَيْءٌ”، المقصود: ليس في الحيطان فَيْءٌ يُستظَل به، هذا هو المقصود، وأنت لو خرجت من صلاة الجمعة؛ انظر لحيطان الجدران؛ تجد أن ظِلَّها قصيرٌ، يعني: لا يوجد الظل الذي يستظل به المار والماشي في الطريق، والصحابة  كانوا يُبكِّرون للجمعة، فكانوا يؤخِّرون الغداء والقيلولة بعد الجمعة.

ولهذا فالقول الراجح: هو القول الثالث، وهو أن ابتداء وقت صلاة الجمعة من بعد زوال الشمس، كما هو عليه أكثر العلماء، وهذا هو القول الراجح في المسألة، وقد جزم به البخاري في “صحيحه”، قال البخاري في “صحيحه”: باب الجمعة إذا زالت الشمس [17]، وكذلك يُروى من كلام البخاري، وكذلك يُروى عن عمر وعليٍّ والنعمان بن بشيرٍ وعمرو بن حُريثٍ .

قال الحافظ ابن حجر معلِّقًا على هذه الترجمة في “فتح الباري”، قال: “جزم البخاري بهذه المسألة، مع وقوع الخلاف فيها؛ لضعف دليل المخالف عنده”؛ فإن القول بأن الجمعة وقتها يبتدئ وقتَ صلاة العيد، قولٌ ضعيفٌ، يعني: لو أقاموها مثلًا بعد طلوع الشمس بعشر دقائق، فعلى المذهب أنها تصح، لا شك أن هذا القول قولٌ ضعيفٌ؛ ولهذا الموفق بن قدامة في “المغني” قال: “والصحيح أنها لا تجوز قبل الساعة السادسة”.

ثم ساق البخاري بسنده عن أنس بن مالكٍ  عن النبي أنه كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس [18]، أي: حين تزول، وهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ.

وأيضًا عن سلمة بن الأكوع قال: “كنا نُجَمِّع مع رسول الله إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبَّع الفَيْء” [19]، متفقٌ عليه، وفي قول الصحابة  : “كان، و”كنا”، قال ابن حجرٍ: “وفي هذا إشعارٌ بمواظبته على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس”.

وأخرج ابن أبي شيبة عن سُويد بن غَفَلَة أنه صلى مع أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما حين زالت الشمس، وإسناده قويٌّ[20].

وفي حديث السَّقِيفة عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس؛ خرج عمر فجلس على المنبر؛ فهذا يدل على أن هدي الخلفاء الراشدين أيضًا أنهم يُصلُّون الجمعة بعد زوال الشمس، هذا هدي النبي ، وهدي خلفائه الراشدين  من بعده.

ثم أيضًا مقتضى الدليل: كون وقتها هو وقت صلاة الظهر، فإن صلاة الظهر بدلٌ عنها إذا فاتت؛ ولهذا فالقول الصحيح، وهو ظاهر السنة: أن ابتداء وقت صلاة الجمعة من بعد الزوال، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على أن وقت الجمعة يمتد قبل الزوال.

في الحقيقة هذه المسألة يتساهل فيها بعض الخطباء، خاصةً إذا كان وقت الزوال يتأخر، في بعض أيام السنة وقت الزوال عندنا في مدينة الرياض: الثانية عشرة وعشر دقائق تقريبًا، في الثانية عشر وثمان دقائق، لكن أضف لها دقيقتين، في الثانية عشرة وعشرٍ.

فبعض الخطباء، يعني: تَرِد أسئلةٌ من بعض الناس يقول: صلَّينا مع خطيب جامعٍ سلَّم قبل هذا الوقت، يعني: صلى الجمعة قبل الزوال، وهذا على رأي أكثر العلماء: صلاتهم غير صحيحةٍ؛ لأنها وقعت قبل دخول الوقت، حتى ولو كان الخطيب يرى مذهب الحنابلة في هذه المسألة، فإن ولي الأمر قد اختار القول الثالث، ولي الأمر الذي يمثِّله في هذه الأمور الشرعية: سماحة المفتي، ووزارة الشؤون الإسلامية، قد عمم على جميع الخطباء بألا يَدخلوا إلا بعد الزوال، وأرفق فتوى من سماحة شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ أكثر من مرةٍ.

فأقول: حتى لو كان الخطيب يرى القول الأول، مع أنه قولٌ ضعيفٌ، لكن أيضًا الإمام لمَّا اختار هذا القول وأمر به؛ فينبغي أيضًا أن يكون هذا رافعًا للخلاف في المسألة على أنه هو القول الصحيح؛ ولذلك فصلاة من يصلونها قبل الزوال غير صحيحةٍ، ويعيدونها ظهرًا لو وقعت، لكن بعض الخطباء يجعل الخطبة قبل الزوال، والصلاة بعد الزوال، فما حكم هذا؟ بعضهم -خاصةً إذا تأخر وقت الزوال- يقول: لن أتأخر بالناس، ما أدخل إلا في الثانية عشرة وعشر دقائق، فيجعل الخطبة قبل، والصلاة بعد، هل يصح هذا؟

مداخلة:….

الشيخ: على قول أكثر العلماء لا تصح؛ لأن الخطبة جزءٌ من الصلاة، ولهذا سماها الله تعالى هي والصلاة ذكر الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، وذكرُ الله يشمل: الخطبة والصلاة.

وقال بعض الفقهاء: نقل صاحب “الإنصاف”، قال: “هاتان الخطبتان بدلٌ عن ركعتين”، فإذنْ الخطبة هي في الحقيقة جزءٌ من الصلاة، فلا تصح لا الخطبة ولا الصلاة إلا بعد الزوال، هذا يبين لنا خطورة المسألة.

ثم إنني أعجب، ما الداعي للعجلة؟! ما الداعي لهذه العجلة؟! بعض الناس -سبحان الله!- عندهم العجلة في كل شيءٍ، خاصةً في أمور العبادات، لكن أمور الدنيا ربما أتقنوها، لكن في أمور العبادة تجد أنهم في الصلاة يستعجلون، في أمور الحج يستعجلون، ما الداعي لهذه العجلة؟!

والخطيب مؤتمنٌ على الناس الذين يصلي بهم، فكيف يوقع الصلاة في غير وقتها؟! بل حتى الخطبة لا يوقعها في غير وقتها.

ثم أيضًا بالتجربة: التأخر هو أرفق بالناس؛ لأن غالب الناس يغلب عليهم التأخر والسهر ليلة الجمعة، في الغالب أنه هو الأرفق بالناس؛ ولهذا فالخطيب الحقيقةَ مؤتمنٌ على هذا، هذا الذي نرى: أنه ليس للخطيب أن يدخل قبل الزوال، وإذا فعل ذلك؛ فقد عرَّض صلاته وصلاة المأمومين خلفه للبطلان، أما إذا جعل الخطبة قبل الزوال، فالذي يظهر: أن الصلاة مجزئةٌ، لكنه أيضًا وقع في مخالفةٍ، على أن من العلماء من يرى أنها لا تجزئ؛ لأن الخطبة جزءٌ من الصلاة.

مداخلة:

الشيخ: لا، دقيقتان وثلاثٌ، الذي يظهر أنه يُتسامح فيه؛ لأن في عهد النبي الذي يظهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يبدأ من أول الزوال، وما كان عندهم الساعات الدقيقة التي تُحدِّد الزوال بدقةٍ، فمثل الشيء اليسير يُتسامح فيه.

مداخلة:

الشيخ: نعم، صلاة المرأة تُصلِّيها ظهرًا، الظهر إنما يبتدئ من بعد الزوال؛ ولذلك أيضًا النساء اللاتي يصلين مع الخطباء الذي يُبكِّرون، صلاتهم غير صحيحةٍ، يا إخوان، شرط الوقت آكد شروط الصلاة، لكن ينبغي العناية به، ما يصح التساهل بأمر الوقت، يعني: يُسبِّب بطلان الصلاة: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فحددها الله تعالى بالمواقيت؛ فينبغي أن نلتزم بها.

وأيضًا ينبغي بذل النصيحة للذين يتعجلون؛ لأنك قد أخطأت على كل تقديرٍ، حتى لو كنت ترى هذا؛ أنت مؤتمنٌ، يُفترض أن تأتي بالأكمل، والأكمل لا شك أنه هو ما عليه إجماع العلماء من أنها بعد الزوال، ثم أيضًا هذه -كما ذكرنا- تعليمات ولي الأمر، ولذلك ليس هناك مبرِّر للذين يتعجلون بصلاة الجمعة قبل الزوال، بل يُعرِّضون صلاتهم وصلاة المأمومين خلفهم للبطلان.

مداخلة:

الشيخ: إي نعم، إذا مثلًا رأى أنه قد بدأ قبل الزوال، يعني: خاصةً الصلاة، إذا كان سيصلي قبل الزوال لا يتابع معه، وإنما يذهب ويبحث عن مسجدٍ آخر، لكن أيضًا ينبغي أن يكون الإنسان دائمًا إذا رأى خللًا أن يكون إيجابيًّا، السلبية أنه يخرج، لكن أن يكون إيجابيًّا، يذهب ويتكلم مع الخطيب، يُبيِّن له هذه الأحكام، وأن أكثر العلماء يرون بطلان الصلاة، وأن الخلاف ضعيفٌ في هذه المسألة؛ ولهذا البخاري جزم فيها مع وقوع الخلاف؛ لضعف دليل المخالف، نعم، تفضل.

مداخلة:

الشيخ: الذي مضى، إذا كان قد صلى وهو يعتقد صحة الصلاة، ويعتقد دخول الوقت، ومضى على هذا مدةٌ، الذي يظهر: أنه لا يطالب بالإعادة؛ ولهذا لم يأمر النبي المسيء صلاته بالإعادة [21].

مداخلة:

الشيخ: على المذهب، على مذهب الحنابلة، تعرف أنه فيما سبق ما كان الناس يعرفون إلا المذهب، لكن الآن -ولله الحمد- في الوقت الحاضر أصبح هناك عنايةٌ بالدليل؛ فتَنبَّه الناس، على أن هناك أيضًا من يُنكر هذا، كان شيخنا عبدالله بن قعودٍ رحمه الله يقول: أبدًا، وقد أدركت كبار العلماء ما يدخلون إلا بعد الزوال، كبار المشايخ والعلماء، والحرمين من قديم الزمان، ما يدخل إلا بعد الزوال، ربما الذي يدخل بعض الناس، ليسوا محسوبين من أهل العلم.

طيب، قال:

وتجب بالزوال، وبعده أفضل.

الشرط الثاني: الاستيطان

قال:

الثاني: أن تكون بقريةٍ ولو من قصبٍ يستوطنها أربعون.

“أن تكون بقريةٍ” يعني: الاستيطان، فيُشترط لصحة الجمعة: أن يكونوا بقريةٍ، والمقصود بالقرية إذا أُطلقت، ليس المقصود بها القرية على المصطلح المعروف الآن، وإنما القرية تشمل القرية والمدينة.

من يذكر لنا الدليل؟ مرت معنا هذه المسألة في تفسير سورة (يس)، ما الدليل؟

مداخلة:

الشيخ: أول الآية: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13]، ثم قال بعد ذلك: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]، سمَّاها الله قريةً ومدينةً، فالقرية إذا أُطلقت في اللغة العربية تشمل المِصْرَ، سواءٌ كان في الاصطلاح المعاصر مدينةً أو قريةً، ولهذا سمى الله تعالى مكة “أم القرى”.

إذنْ هذا الشرط المقصود به الاستيطان، فالاستيطان شرطٌ لصحة الجمعة في قول أكثر أهل العلم، ومعنى الاستيطان: أن يقيم بقريةٍ مبنيةٍ بما جرت العادة البناء به، فلا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاءً، ولهذا قال المؤلف: “ولو من قصبٍ”، فتكون إقامتهم دائمة.

أما أهل الخيام وبيوت الشعر: فلا تجب عليهم الجمعة، ولا تصح منهم؛ لأن ذلك لا يُنصَبُ للاستيطان غالبًا.

هل تجب الجمعة على البدو؟

وقد كانت قبائل العرب حول المدينة فلم يُقيموا جمعةً، ولم يأمرهم النبي بإقامتها؛ فإذنْ لا بد من الاستيطان.

والبدو لا تجب عليهم صلاة الجمعة، لكن ما المقصود بالبدو؟

المقصود بالبدو والبادية: هم الذين يكونون في البريَّة، يبحثون عن العشب والكلأ ويرحلون عنه صيفًا أو شتاءً.

أما المقيم في المصر فلا يقال: إنه من البادية، هذا من الأخطاء أن يقال: فلانٌ بدويٌّ، وهو مقيمٌ في الحاضرة، فهؤلاء كلهم حَضَرٌ، لا يقال: إنهم بدوٌ، البدوي هو الذي يكون في البرية، ويتتبع العشب والكلأ، فالبدو لا تجب عليهم الجمعة؛ لعدم الاستيطان.

ولو خرج مثلًا مجموعة شبابٍ، أقاموا لهم مخيمًا مثلاً في البرية، وقالوا: نريد أن نصلي الجمعة، نحن عددنا كثيرٌ، يقوم أحدنا ويخطب بنا ونصلي الجمعة، فما رأيكم؟ هل يصح هذا؟

مداخلة:

الشيخ: لا يصح، لماذا؟ لأنهم غير مستوطنين، لا تصح منهم.

طيب، هل تجب عليهم الجمعة؟

على التفصيل الذي ذكرناه من قبل: إذا كان يباح لهم القصر؛ لا تجب عليهم الجمعة، أما إذا كان لا يباح لهم القصر، وإن كانوا داخل البلد؛ تجب عليهم، إن كانوا خارج البلد؛ فننظر؛ إذا كانت المسافة قرابة فرسخٍ بحيث يسمعون النداء؛ فتجب عليهم، وإلا فلا، على التفصيل السابق.

طيب، إذنْ لا بد من الاستيطان، هكذا أيضًا المسافرون ليس لهم أن يقيموا الجمعة، وإقامتهم -كما ذكرنا- بدعةٌ.

قال: وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء.

لكن بشرط: أن يكونوا مستوطنين، يعني يوجد بعض الهِجَر، لكنها في الصحراء، وأصحابها مقيمون لا يظعنون عنها لا صيفًا ولا شتاءً، فهؤلاء يقيمون الجمعة.

إذنْ لا بد لصحة الجمعة من الاستيطان.

الشرط الثالث: حضور العدد المعتبر شرعًا

قال:

الثالث: حضور أربعين.

الشرط الثالث: حضور أربعين، يعني حضور العدد المعتبر شرعًا، والمذهب أنه أربعون رجلًا، واستدلوا بقول كعب بن مالكٍ: “أول من جمَّع بنا: أسعد بن زُرارة”، ثم سئل: كم كان عددكم؟ قال: “أربعون” [22]، رواه أبو داود.

وأيضًا: أن النبي لما كتب إلى مصعب بن عميرٍ في المدينة، فأمره أن يصلي بالناس الجمعة؛ كان عددهم أربعين [23].

والقول الثاني في المسألة: إن العدد المعتبر شرعًا اثنا عشر؛ لأن النبي كان يخطب بالناس في المدينة، فقدمت عِيرٌ، فانصرف الناس منها، ولم يبق إلا اثنا عشر رجلًا، وأنزل الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11] [24].

وقيل: أربعةٌ، وقيل: ثلاثةٌ، وهذا هو القول الراجح، القول الراجح: أن الجمعة تنعقد بثلاثةٍ؛ واحدٌ يخطب، واثنان يستمعان، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويدل له قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، بصيغة الجمع: فَاسْعَوْا، وأقل الجمع ثلاثةٌ، فيكون اثنان يستمعان، والثالث يخطب، وأيضًا حديث أبي الدرداء ، يدل لذلك حديث أبي الدرداء  أن النبي قال: ما من ثلاثةٍ في قريةٍ لا تقام فيهم الصلاة؛ إلا استحوذ عليهم الشيطان [25]، رواه أبو داود والنسائي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان، وسنده حسنٌ، وقوله : لا تقام فيهم الصلاة، عامٌّ يشمل الجمعة وغيرها.

وأما الأقوال الأخرى فأدلتها إما صحيحةٌ غير صريحةٍ، أو صريحةٌ غير صحيحةٍ؛ فمثلًا: ما استدل به الحنابلة لا يصح، قول كعبٍ؛ لا يصح هذا الأثر، كذلك أيضًا الصحيح: أن مصعب بن عميرٍ لما جمَّع بالناس؛ كانوا اثني عشر، ثم لو صح؛ لكان قد وقع اتفاقًا؛ فليس بصريح الدلالة في اشتراط الأربعين، وأيضًا ما وقع في قصة الصحابة لما قدمت العير فانصرفوا ولم يبق إلا اثنا عشر، هذا العدد وقع اتفاقًا؛ فلا يصح الاستدلال به على أن أقل عددٍ يجزئ: اثنا عشر.

ولهذا فالأقرب والله أعلم: أن أقل ما يجزئ: ثلاثةٌ؛ اثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب.

الشرط الرابع: أن تسبقها خطبتان

قال:

الرابع: تقدُّم خطبتين.

وسيأتي الكلام عن هذا، يعني: تَقَدُّم خطبتين.

ثم بعد ذلك تكلم المؤلف عن شروط صحة الخطبتين وأركانهما وسننهما، وهذا الشرط متفقٌ عليه؛ إذ كان النبي يخطب للجمعة، وكان هذا هو هديه ، وهدي الخلفاء الراشدين من بعده.

شروط صحة الخطبتين

قال: ومن شرط صحتهما خمسة أشياء:

يعني: يشترط لصحة الخطبتين خمسة أشياء:

أولًا:

الوقت.

يُشترط لصحة الخطبتين أن يكونا في الوقت، والوقت عند الحنابلة -كما ذكرنا- من بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رمحٍ، وعلى قول الجمهور: الوقت من بعد الزوال؛ وبناءً على ذلك: لا تصح أن تكون الخطبة قبل الزوال، وهذا يؤكد القول الذي رجحناه من أن الخطيب إذا دخل قبل الزوال؛ فإن خطبته لا تصح قبل الزوال على قول الجمهور؛ لأن من شرط صحة الخطبة: الوقت.

الشرط الثاني:

النية.

لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى [26].

الشرط الثالث:

وقوعهما حضرًا.

فلا يصحان من المسافر، وسبق الكلام عن ذلك.

الشرط الرابع:

حضور الأربعين.

وناقشنا هذه المسألة، وقلنا: القول الراجح: أنه يشترط ثلاثة؛ اثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب.

والشرط الخامس:

وأن يكونا ممن تصح إمامته فيها.

وأيضًا سبق الكلام عن هذا، وذكرنا ورجحنا قول الجمهور بالنسبة للمسافر خاصةً، وأن المسافر يصح أن يكون إمامًا، وفرَّعنا على ذلك المسألة التي ذكرناها: أن بعض الدعاة وبعض المشايخ يسافرون لبعض القرى البعيدة، ويخطبون بالناس، وأنه على المذهب لا يصح ذلك، لكن قلنا: على قول الجمهور يصح، وذكرنا أن هذا هو القول الراجح، هذه مسائل سبق الكلام عنها، لكن المؤلف منهجه التفريع، يُفرِّع المسائل إلى مسائل أقل منها، وهذا جيدٌ من المؤلف؛ حتى أيضًا يضبط طالب العلم هذه المسائل.

أركان الخطبتين

قال:

وأركانهما ستةٌ: حمد الله تعالى.

يعني أن يبتدئ بحمد الله تعالى؛ وذلك لأن هذا هو هدي النبي ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: كل كلامٍ لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر [27]، لكن الحديث في سنده مقالٌ.

والصلاة على رسول الله .

قالوا: لأن كل عبادةٍ افتقرت إلى ذكر الله؛ افتقرت إلى ذكر رسوله ؛ كالأذان.

وقراءة آيةٍ من كتاب الله.

لقول جابر بن سَمُرة : “كان رسول الله يقرأ آياتٍ ويذكِّر الناس” [28]، رواه مسلمٌ.

والوصية بتقوى الله.

قالوا: لأنها هي المقصود من الخطبة.

وموالاتهما مع الصلاة.

فلا يصح أن يكون الفاصل طويلًا بينها وبين الصلاة.

والجهر بحيث يَسمع العدد المعتبر حيث لا مانع.

فلا يصح أن يخطب سرًّا، أو بصوتٍ منخفضٍ لا يُسمِع الناس.

هذه هي أركان الخطبتين عند الحنابلة، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم اعتبار هذه الأركان، وقالوا: إن الخطيب إذا خطب خطبةً يحصل بها المقصود والموعظة؛ أن ذلك كافٍ، وقد اختار هذا القول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله، وقال: إن هذه التي قد ذكروها ليس عليها أدلةٌ ظاهرةٌ، وأنه يكفي أن يخطب الخطيب خطبةً يحصل بها المقصود، ويحصل بها الموعظة.

ولذلك لو لم يُصلِّ على النبي ؛ صحت خطبته، لو لم يقرأ آيةً؛ صحت خطبته، وهذا هو القول الراجح؛ إذ إن القول بأن هذه أركانٌ، يحتاج إلى دليلٌ، وما ذكروه لا يقوى بتقرير الحكم بأنها أركانٌ.

فالقول الراجح: أنه متى ما خطب خطبةً يحصل بها المقصود؛ صح ذلك، وبهذا يزول الحرج؛ لأن بعض الخطباء أحيانًا ربما يخطب خطبةً لا يقرأ فيها آيةً من القرآن، وعلى المذهب لا تصح، لكن على القول الراجح: أنها تصح.

وأيضًا بعض الخطباء أحيانًا لا يوصي الناس بتقوى الله، لا يقول: أوصيكم بتقوى الله، أو اتقوا الله، فعلى المذهب: أنها لا تصح، لكن على القول الذي رجحناه: أنها تصح.

سنن الخطبتين

طيب، قال:

وسننهما:

ثم انتقل إلى الكلام عن السنن:

الطهارة.

يعني: لا يُشترط الطهارة، وإنما يستحب أن يكون متطهرًا، فلو خطب وهو مُحدِثٌ؛ فالخطبة صحيحةٌ؛ لأنها ذكرٌ وليست صلاةً، يقع مثل هذا عندما يدخل الخطيب وهو ناسٍ أن يتوضأ، أو أنه توضأ ثم أحدث، ونسي أن يُعيد الوضوء، فإذا تذكَّر بعد الفراغ من الخطبتين أنه ليس على طهارةٍ، فهل تصح الخطبتان؟

نعم، تصح؛ لأنه لا يُشترط لهما الطهارة، وإنما يستحب.

قال: وستر العورة.

يعني قالوا: إنه يستحب ستر العورة، لكن ذلك ليس واجبًا، فلو انكشف شيءٌ من عورته، وهذا يحصل عندما يخطب مثلًا وهو محرمٌ، ربما ينكشف جزءٌ من العورة، وأحيانًا بعض الناس..، فنقول: إن هذا لا يؤثر.

وإزالة النجاسة.

وهذا مستحبٌّ أيضًا وليس واجبًا، إن كان عليه نجاسةٌ وأزالها بعد الخطبة؛ صح ذلك.

والدعاء للمسلمين.

قالوا: إنه يستحب أن يدعو للمسلمين في الخطبة، وقد رُوي أن النبي كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في خطبته [29]، لكن ذلك أيضًا ضعيفٌ، ولم يثبت عن النبي أنه كان يدعو في الخطبة، إلا لما أتى الأعرابي وقال: هلكت الأموال، وانقطعت السُّبل، فادع الله أن يُغيثنا، فرفع يديه  وقال: اللهم أغثنا [30]، لكن ما عدا ذلك، ما نُقل أن النبي كان يدعو في الخطبة، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الدعاء في الخطبة غير مشروعٍ، وهو قولٌ قويٌ.

والقول الثاني: إنه لا بأس به؛ لأن دعاء النبي بنزول المطر يدل على أن الدعاء فيها لا بأس به، لكن لا ينبغي أن يُكثر الخطيب من الدعاء؛ لأنه لو كان مشروعًا؛ لفعله النبي عليه الصلاة والسلام، واشتهر ونقل، الصحابة نقلوا كل شيءٍ، حتى نقلوا حتى اضطراب لحية النبي في الصلاة [31]، لو كان في كل جمعةٍ يدعو؛ لنقل ذلك الصحابة .

ولهذا إذا دعا الخطيب لا يطيل، يدعو دعاءً جامعًا مختصرًا، ويُلحظ أن بعض الخطباء يجعل أكثر الخطبة الثانية دعاءً، هذا مخالفٌ للسنة، أصلًا لم يَرِد دعاءٌ أصلًا في خطبة الجمعة، بعض العلماء يقول: إنه غير مشروعٍ أصلًا، ولذلك نحن نقول: القول الراجح إنه لا بأس به، لكن لا يطيل الخطيب في الدعاء، بحيث يغلب على المقصود للخطبة وهو الموعظة.

طيب خُطَب النبي كان الغالب عليها هو ماذا؟

الوعظ، الغالب عليها هو الوعظ؛ كما تقول أم حارثة بنت هشامٍ رضي الله عنها: “ما حفظت سورة: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، إلا من على لسان رسول الله يقرؤها كل جمعةٍ على المنبر [32].

طيب، هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يربط الخطبة بالأحداث، كلما وقع حدث خطب عنه؟

لا، ما كان يربطها بالأحداث، وإنما كان يُركِّز على الموعظة، الناس -يا إخوان- يحتاجون للموعظة؛ لأن النفوس تغفل وتذهل، لا بأس بأن يربط الخطبة بحدثٍ مهمٍّ، لا بأس بهذا، لكن لا يكون هذا هو دَيدنه، بحيث إنه يذهب ويتتبع الأخبار والأحداث، ويحرص أن تكون الخطبة موافقةً للحدث، هذا ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، لكن لو كان هناك حدثٌ ظاهرٌ وأراد أن يُبيِّن الوجهة الشرعية فيه؛ فلا بأس به، لكن لا يُبالغ في هذا، نلاحظ أن بعض الخطباء عندهم مبالغةٌ، أيُّ حدثٍ كبيرٍ أو صغيرٍ يخطب عنه، فهذا ليس له أصلٌ، كذلك أيضًا المبالغة في معالجة القضايا، وتقطيع الخطبة لعِدَّة جُمَعٍ، هذا أيضًا غير مشروعٍ، ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يُقسِّم الموضوع إلى عِدَّة جمعٍ، ثم كلَّ جمعةٍ: تكلمنا في الجمعة الماضية عن كذا، بعضهم يقول: يبقى شهرًا كاملًا وهو يخطب في موضوعٍ واحدٍ، هذا خلاف السنة، وهذا أيضًا يُملِّل المستمعين، وهذا يُفوِّت المقصود من الخطبة: وهو الموعظة، فهذه إذنْ ينبغي أن يُراعيها الخطيب.

حكم أن يتولى الصلاةَ غيرُ الخطيب

طيب قال:

وأن يتولاهما مع الصلاة.

هذه هي السنة؛ لأن هذا هو هدي النبي وهدي أصحابه ، وقد قال : صلُّوا كما رأيتموني أصلي [33]؛ ولأن الخطبة أُقيمَ مقامَها ركعتان، لكن لا بأس بالاستخلاف للعذر؛ لأنه يجوز الاستخلاف في الصلاة، ففي الخطبة من باب أولى.

وعن الإمام أحمد أيضًا: أنه يجوز الاستخلاف لغير عذرٍ؛ لأن الخطبة منفصلةٌ عن الصلاة، وهذا هو القول الراجح أنه يجوز الاستخلاف، لكن الأفضل أن يتولى الخطبة من يتولى الصلاة.

حكم الشِّعر في الخطبة

أما بالنسبة للشِّعر فاختلف العلماء: هل يجوز أن يُذكر الشعر في الخطبة أم لا؟ فقال بعضهم: إنه يجوز؛ لأن الشعر عبارةٌ عن كلامٍ لكنه موزونٌ، وهو من جنس كلام الخطيب.

والقول الثاني: إنه لا يباح؛ لأن هذا مقامٌ عظيمٌ، سماه الله تعالى: ذكر الله، لا ينبغي أن يَجعل فيه شعرًا، والشعر إنما ذكر في القرآن على وجه المدح، أو على وجه الذم؟ على وجه الذم: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]، يعني: أتباع الشعراء الغاوون، إذا كان أتباع الشعراء الغاوين؛ فهم أولى بوصف الغِواية، يعني الشعراء أولى بوصف الغواية: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ۝وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225-226]، وهذا ذمٌّ لهم، ذمٌّ شديدٌ.

لكن الله تعالى استثنى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]؛ لأن الشعر لا يليق بمقام النبوة، هكذا أيضًا لا يليق بمقام العلماء؛ كما قال الشافعي:

ولولا الشعر بالعلماء يُزري لكنت اليوم أشعَرَ من لَبيدِ

إلا من كان شعره دفاعًا عن الإسلام وعن الحق وعن الفضائل؛ كشعر حسان، وعبدالله بن رواحة، هذا لا بأس به، بل قد يكون مندوبًا.

طيب، الأقرب: أنه يجوز الشعر، لكن الأفضل تركه، ولا يُبالغ الخطيب، بعض الخطب مليئة بالشعر، كلما أتى بكلمةٍ؛ أتى بشعرٍ، هذا خاصةً في خطبة الجمعة، هذا -يا إخوان- محل نظرٍ ظاهرٍ؛ ولهذا ينبغي للخطيب أن يتحاشى الشعر، وأنا كنت آتي فيما سبق ببعض الأبيات المناسبة، لكن تنبهت لهذا أو نُبِّهت، فأصبحت لا آتي بالشعر في الخطبة مطلقًا.

مداخلة:

الشيخ: والله الخطبة كلها قصيدةٌ، والله هذا غير مشروعٍ، محل نظرٍ، إذا كنا نقول: لو أنه بيتٌ واحدٌ، ما بالك أن يجعل الخطبة كلها قصيدة؟!

مداخلة:

الشيخ: كذلك الخطب -يا إخوان- تُنزَّه عن مثل هذا، هو الذي يظهر أنه يصح، لكن لا يجعلها الغالب.

طيب، يعني الأشعار تكون في الأمسيات التي تقام في غير المساجد، حتى إنه ورد النهي عن إنشاد الأشعار في المساجد [34]، إنما كان مثل شعر حسان، كان يُنشِد بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد [35].

طيب، قال:

ورفعُ الصوت بهما حسب الطاقة.

كان النبي إذا خطب الناس؛ علا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيشٍ يقول: صبحهم ومساهم [36]، يعني: لا ينبغي أن يُلقي الخطبة بكلامٍ باردٍ كأنه يقرأ مقالًا، أو يقرأ جريدةً، بل ينبغي أن يتفاعل مع الخطبة، ويتفاعل مع الكلام ويُلقيه بصوتٍ مرتفعٍ، ومتفاعلًا مع ما يقول وما يُلقي.

قال:

وأن يخطب قائمًا.

لقول الله تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11].

على مرتفعٍ.

هذه هي السنة: أن يكون على منبرٍ، أو على مكانٍ مرتفعٍ؛ لقول جابر بن سمرة : “كان النبي يخطب قائمًا ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالسًا؛ فقد كذب” [37]، رواه مسلمٌ.

وظاهر كلام المؤلف: أن الخطبة قائمًا: مستحبٌّ وليس واجبًا؛ لأنه يحصل المقصود من الخطبة إذا خطب وهو جالسٌ، لكن السنة أن يخطب قائمًا.

قال: معتمدًا على سيفٍ.

النبي كان يخطب على جذعٍ، ثم بعد ذلك صُنع له منبرٌ، فقام النبي ، أصبح يخطب عليه، وقد قال البخاري في “صحيحه”: باب الخطبة على المنبر، ثم ساق بإسناده عن أنسٍ ، قال: خطب النبي على المنبر، ثم قال جابرٌ: كان جذع يقوم إليه النبي ، فلما وُضع له المنبر، سُمع للجذع مثل صوت العِشَار، حتى نزل النبي ، فوضع يده عليه [38]، جاء في بعض الروايات: فأصبح يُسكته، كما يُسكت الصبي [39]، آيةً من آيات الله، والعِشار: هي الحوامل من الإبل إذا قاربت الولادة.

وجاء في رواية أخرى عند البخاري: أن النبي كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرةٍ أو نخلةٍ، فصُنع له المنبر، فلما كان يوم الجمعة؛ صاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي فضمه إليه، يئن أنين الصبي الذي يسكَّن، يهدِّئه ويسكنه عليه الصلاة والسلام، وقال: كانت -أي النخلة- تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها [40].

وجاء في حديث بُريدة عند الدرامي: أن النبي قال لهذا الجذع: اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه، فتكون كما كنت -أي قبل أن تصير جذعًا- وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها، فيحسن نبتك ويثمر، فيأكل منك أولياء الله، قال النبي : اختار أن أغرسه في الجنة [41].

وجاء في رواية ابن خزيمة من حديث أنسٍ  أن النبي قال: والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه؛ لم يزل هكذا إلى يوم القيامة؛ حزنًا على رسول الله ، ثم أمر به فدُفن [42].

ونقل الحافظ ابن حجرٍ عن الحسن البصري: أنه كان إذا حدث بهذا الحديث، قال: “يا معشر المسلمين، الخشبة تَحِنُّ إلى رسول الله شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه”، وفي هذا الحديث دلالةٌ على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان.

طيب قال:

معتمدًا على سيفٍ أو عصًا.

يعني: يرى المؤلف أنه يُسَنُّ للخطيب أن يعتمد على سيفٍ أو عصًا؛ لحديث الحكم بن حَزْنٍ، قال: “شهدنا الجمعة مع رسول الله ، فقام متوكِّئًا على عصًا أو قوسٍ، فحمد الله وأثنى عليه” [43]، أخرجه أبو داود، وقال الحافظ ابن حجرٍ: إسناده حسنٌ.

ويرى بعض العلماء أن الاعتماد على السيف لا أصل له، وأما الاعتماد على العصا أو القوس، إنما يكون عند الحاجة، فإذا احتاج الخطيب بالاعتماد على العصا؛ كأن يكون ضعيفًا كبيرًا في السن، أو مريضًا؛ فلا بأس بذلك، بل يُعتبر سنةً؛ لأن ما أعان على سنةٍ؛ فهو سنةٌ.

أما إذا لم يكن هناك حاجةٌ للاعتماد على العصا؛ فلا يقال: إن الاعتماد على العصا في الخطبة سنةٌ، وهذا هو القول الراجح في المسألة، ويدل لهذا: أن ظاهر الروايات المروية عن النبي في اعتماده على العصا أثناء الخطبة، إنما كان ذلك قبل اتخاذه المنبر؛ لحاجته للاعتماد على العصا؛ وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب مرتجلًا، والإنسان يقولون: إذا خطب مرتجلًا؛ فالأحسن أن يمسك بيده بشيءٍ؛ لأن ذلك يُعين على استحضاره وتجميعه للكلمات.

وأما بعد اتخاذ المنبر فلم يُحفظ عن النبي أنه كان يعتمد على العصا، وقد رجح هذا القول ابن القيم في “زاد المعاد”، قال ابن القيم: ولم يكن يأخذ بيديه سيفًا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوسٍ أو عصًا قبل أن يتخذ المنبر، ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيفٍ قط، قال: ولا يحفظ عن النبي بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه لا بسيفٍ ولا قوسٍ ولا غيره.

إذنْ القول الصحيح: أن الاعتماد على العصا إنما يشرع لمن احتاج إلى العصا؛ كأن يكون كبيرًا في السن، أما إذا لم يحتج إلى العصا، فالقول الصحيح: إن ذلك ليس بسُنةٍ، وليس بمشروعٍ.

قال:

وأن يجلس بينهما قليلًا.

هذا أيضًا مما يستحب، ولو لم يجلس يقولون: إن ذلك يجوز، ولهذا قال المؤلف:

فإن أبى، أو خطب جالسًا؛ فصَلَ بينهما بسكتةٍ.

فصل بين الخطبتين بسكتةٍ.

قال: وسُنَّ قِصَرهما، والثانية أقصر.

يعني: السنة تقصير الخطبة؛ لقول النبي : إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه [44]، رواه مسلمٌ.

وتقصير الخطبة يعني فيه فائدتان:

  • الفائدة الأولى: ألا يحصل الملل.
  • والفائدة الثانية: أنه أوعى للسامع؛ لأن الخطبة إذا طالت أضاع بعضُها بعضًا.

ولكن يَرِد على هذا إشكالٌ: وهو أن المعروف من هدي النبي أنه كان يقرأ في الجمعة بسَبِّحْ والغاشية [45]، هل معنى ذلك: أن الخطبة تكون أقصر من قراءة سَبِّح والغاشية؟

فهمتم السؤال؟ نحن قلنا: إن السنة..، ذكرنا حديث عمارٍ : أن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، طيب، النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الجمعة كان يقرأ سَبِّحْ والغاشية، هل معنى ذلك أن الخطبة تكون أقصر من قراءة سبح والغاشية؟

مداخلة:

الشيخ: إي نعم، أحسنت، القِصَر هنا: قِصَرٌ نسبي، ليس هذا هو المقصود قطعًا، ولكن القصر المقصود به: القِصَر النسبي، ولو خطب رجلٌ خطبةً أقصر من قراءة سبح والغاشية؛ لكانت قصيرةً جدًّا، ولم يحصل بها المقصود من الخطبة؛ إذنْ المقصود بذلك: الطول والقِصَر النسبي، فخطبة الجمعة ينبغي أن تكون قصيرةً بالنسبة للخطب الطويلة، وليس معنى ذلك: أن تكون أقصر من قراءة سبح والغاشية.

وأحسن ما قيل في تقديرها: أن تكون في حدود قراءة سورة (ق) مرتلةً؛ لأن النبي كان يُكثر من قراءة هذه السورة في خطبة الجمعة [46]، فكان يُرتِّلها، المعروف من هديه أنه كان يُرتِّلها، فقراءة سورة (ق) مرتلةً في حدود كم؟

مداخلة:

الشيخ: في حدود عشر دقائق تقريبًا، يعني: من عشرٍ إلى ربع ساعةٍ، إذا كان القارئ بطيئًا؛ ربما تأخذ معه ربع ساعةٍ، من عشرٍ إلى ربع ساعةٍ، في هذه الحدود، وهذا هو الوقت المناسب أيضًا للموعظة، والوقت الذي لا يحصل معه الملل.

أما ما يفعله بعض الناس، بعض الناس على طرفين: فإما عندهم تطويلٌ مملٌّ، يبقى لساعةٍ أو ساعةٍ إلا ربعًا وهو يخطب، وهذا تطويلٌ مملٌّ، أو أن عنده تقصيرًا مخلًّا، يخطب ثلاث دقائق ثم ينتهي، أو خمس دقائق، هذا لا يحصل منه المقصود من الخطبة، هذا تقصيرٌ مخلٌّ، وهذا فهمٌ غير صحيحٍ للحديث، فلا بد أن يكون هناك اعتدالٌ، تكون الخطبة في حدود قراءة سورة: (ق) مرتلةً.

مداخلة:

الشيخ: يعني في هذه الحدود، ما يمكن طبعًا تحديده بدقةٍ، فقد تتفاوت هذه الخطب بحسب الموضوع، لكن في هذه الحدود: من عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ، بهذا القدر تقريبًا.

مداخلة:

الشيخ: لا، لا، على كل حالٍ: ما دام أنه قد ورد فيها النص؛ لا مجال للاجتهاد؛ ولذلك الناس فيهم المريض، وفيهم الضعيف، ثم أيضًا يملون، يمل الناس من طول الخطبة، والخطبة إذا كانت مركزةً وقصيرةً؛ أبلغ في التأثير، لكن المقصود بالقِصَر: القِصَر النسبي الذي ذكرناه.

ولهذا جاء في “صحيح مسلمٍ” عن جابر بن سَمُرة قال: “كنت أصلي مع رسول الله ، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا” [47]، يعني: معتدلةً ما بين الطول الممل، والاختصار المخل.

ينبغي للخطيب أن يبتعد عن الألفاظ الغريبة، وهي الألفاظ التي لا يفهمها غالب المستمعين، وأن يختار الألفاظ التي يفهمها الناس، ويبتعد عن التشدُّق، وأن يأتي بأسهل العبارات؛ لكي يفهمها الناس.

حكم الخطبة من صحيفةٍ

قال:

ولا بأس أن يخطب من صحيفةٍ.

إذا كان يُحسن الخطبة المرتجلة من غير أن يَخرج، ومن غير أن يستطرد، وتكون مركزةً، هذا هو المقصود، لكن إذا خشي من ذلك، أراد أن تكون خطبته مركزةً، وخطب من ورقةٍ؛ فلا بأس بذلك.

ما يحرم أثناء الخطبة

ثم قال:

يحرم الكلام والإمام يخطب.

انتقل المؤلف للكلام عما يحرم، إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت؛ فقد لغوت [48]، متفقٌ عليه، والمقصود باللغو: الكلام المُلغَى الساقط، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي قال: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب؛ فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعةٌ [49]، قال ابن حجر في “البلوغ”: “رواه أحمد بإسنادٍ لا بأس به”، مع أن الذي يقول له: أنصت، يُنكر منكرًا، ومع ذلك يلغو، لكن ما معنى يلغو؟ هل معناه أنه يُؤمر بإعادة الجمعة؟ لا، المعنى: أنه يبطل ثواب الجمعة بالنسبة له، لكن الجمعة تقع بالنسبة له مجزئةً، لا يُعاقب على تركها، لكنه يبطل أجرها وثوابها، هذا هو المقصود باللغو هنا.

قال:

وهو منه بحيث يسمعه.

يعني يحرم الكلام، والإمام يخطب، بحيث إنه يسمع الإمام، أما إذا كان لا يسمعه؛ فلا بأس بالكلام.

ويُباح إذا سكت بينهما.

يعني بين الخطبتين، لا بأس بالكلام.

أو شرع في دعاءٍ.

إذا شرع في الدعاء: الأفضل عدم الكلام، لكن قالوا: لو تكلم؛ فإنه لا يحرم ذلك.

قال:

وتحرم إقامة الجمعة، وإقامة العيد في أكثر من موضعٍ من البلد، إلا لحاجةٍ.

عند الفقهاء: أن البلد إنما تكون فيه جمعةٌ واحدةٌ، ولكن هذا لما كان الناس قليلًا، وكانت الأمصار صغيرةً، لكن في وقتنا الحاضر كثر الناس، وتضاعف عدد سكان الأرض، كان الناس إلى قبل مئةٍ وخمسين سنةً لم يصل عددهم إلى مليارٍ -ألف مليونٍ- وخلال المئةٍ والخمسين سنةً الماضية تضاعف سكان الأرض سبع مراتٍ، قرابة سبعة ملياراتٍ؛ ولهذا القول الصحيح: أنه لا بأس بتعدد إقامة الجمعة، وهذا هو الذي عليه العمل، حتى إن الفقهاء أيضًا نصُّوا على أنه إذا كان لحاجةٍ، قال المؤلف:

إلا لحاجةٍ؛ كضِيقٍ، وبُعدٍ، وخوف فتنةٍ؛ فإن تعددت لغير ذلك؛ فالسابقة بالإحرام هي الصحيحة.

لكن لو كان هناك جامعان متجاوران لا يمتلئان بالمصلين؛ فالجمعة التي أُحدِثت -الثانية- غير صحيحةٍ، وينبغي للناس أن يُصلُّوا مع الجامع القديم.

بم تدرك الجمعة؟

ومن أحرم بالجمعة في وقتها، وأدرك مع الإمام ركعةً؛ أتم جمعةً، وإن أدرك أقل؛ نوى ظهرًا.

“ومن أحرم” يعني: أدرك تكبيرة الإحرام، انتقل المؤلف للكلام عن مسألة: بم تدرك الجمعة؟

فيقول المؤلف: إنها تدرك بإدراك ركعةٍ، وإدراك الركعة يكون بإدراك الركوع، ومعنى ذلك: أن من أدرك الركوع الثاني من صلاة الجمعة؛ فقد أدرك الجمعة، ومن فاته الركوع الثاني من صلاة الجمعة؛ فقد فاتته الجمعة، يعني: من فاته الركوع الثاني من صلاة الجمعة؛ فقد فاتته الجمعة، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم؛ من أن الجمعة إنما تدرك بإدراك ركعةٍ، وقد حكاه ابن المنذر عن عدد من الصحابة والتابعين، وعزاه النووي في “المجموع” لأكثر العلماء، ويدل له حديث أبي هريرة  أن النبي قال: من أدرك ركعةً من الجمعة؛ فليُضِف إليها أخرى [50]، رواه النسائي وابن ماجه والبيهقي، لكن جميع طرقه معلولةٌ؛ ولهذا قال أبو حاتم: “لا أصل لهذا الحديث”، وإنما المعتمد: من أدرك ركعةً من الصلاة؛ فقد أدركها.

ولكن يغني عنه حديث أبي هريرة في “الصحيحين” أن النبي قال: من أدرك ركعةً من الصلاة؛ فقد أدرك الصلاة [51]. وهذا يشمل الجمعة وغير الجمعة.

إذنْ من لم يدرك الركوع من الركعة الثانية؛ تكون فاتته الجمعة، ويصليها كم؟ أربع ركعاتٍ، هذه المسألة تَخفى على كثيرٍ من العامة، يأتون بعدما يرفع الإمام من الركوع من الركعة الثانية، ويُتمها ركعتين، وهذا خطأٌ، إنما الواجب عليه أن يُتمها أربع ركعاتٍ؛ لأنه قد فاتته الجمعة، ويقال له: أحسن الله عزاءك في الجمعة، قد ذهب أجرها وثوابها، ويصليها ظهرًا، وما أكثر الذين تفوتهم الجمعة في وقتنا الحاضر.

طيب، دعونا -يا إخوان- ننتهي؛ حتى لا نُطيل على الإخوة، ننتهي من باب الجمعة.

وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء، ومذهب الحنفية: أنه يُدرك الجمعة بإدراك التشهد، ولكن القول الصحيح: هو ما عليه الجمهور.

السنة الراتبة بعد الجمعة

قال:

وأقل السُّنة بعدها: ركعتان، وأكثرها: ستةٌ.

انتقل المؤلف للكلام عن أقل السنة، أقل السنة يقول: “بعدها ركعتان”، قد ورد في هذا عن النبي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى السُّنة بعد الجمعة في المسجد؛ صلَّاها أربعًا، وإذا صلاها في بيته؛ صلاها ركعتين، وجاء في “صحيح مسلمٍ” عن أبي هريرة  أن النبي قال: إذا صلى أحدكم الجمعة؛ فليُصلِّ بعدها أربعًا [52]، وهذا الحديث رواه مسلمٌ.

ومن هنا اختلف العلماء في هذه المسألة؛ في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يصلي الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين [53]، وهذا في “الصحيحين”، وفي حديث أبي هريرة : إذا صلى أحدكم الجمعة؛ فليُصلِّ بعدها أربعًا [54]، وفي بعض الروايات: أنه إذا صلى في المسجد؛ صلى أربعًا، وإذا صلى في بيته صلى ركعتين [55].

اختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث؛ فقال بعضهم: إذا صلى في المسجد؛ صلى أربعًا، وإذا صلى في بيته؛ صلى ركعتين.

والقول الثاني في المسألة: أن السنة بعد الجمعة: أربع ركعاتٍ مطلقًا، سواءٌ صلى في المسجد، أو في بيته: وهذا هو القول الراجح؛ لأن حديث أبي هريرة : إذا صلى أحدكم الجمعة؛ فليُصلِّ بعدها أربعًا، من قول النبي ، بينما حديث ابن عمر رضي الله عنهما من فعل النبي ، ومعلومٌ أن دلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل؛ لأن دلالة الفعل يتطرق إليها احتمالاتٌ كثيرةٌ، هذا هو القول الصحيح في السُّنة بعدها؛ فيكون أربع ركعاتٍ.

وأما قوله: “أكثرها: ستةٌ”، فلم يَرِد في هذا شيءٌ صحيحٌ، وإنما المحفوظ أربع: إذا صلى أحدكم الجمعة، فليُصلِّ بعدها أربعًا.

وأما قبلها فإنه ليس هناك سنةٌ راتبةٌ، ولكن جاء في حديث سلمان  أن النبي قال: من اغتسل يوم الجمعة.. إلى قوله: ثم أتى المسجد، فصلى ما كُتب له.. [56]، فقوله : فصلى ما كُتب له، دليلٌ على عدم تحديد السُّنة التي قبل الجمعة، لكن يصلي مثنى مثنى، فإن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا، وإن شاء صلى ستًّا، وإن شاء صلى ثمانيًا، حسبما يتيسر له، يصلي ما كتب له.

حكم قراءة سورة الكهف يوم الجمعة

قال: وسُنَّ قراءة سورة الكهف في يومها.

يعني: السنة أن يقرأ في يوم الجمعة سورة الكهف، أن يقرأ سورة الكهف؛ لحديث أبي سعيدٍ  أن النبي قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة؛ أضاء له من النور ما بين الجمعتين [57].

اختُلف في درجة هذا الحديث؛ من العلماء من ضعفه، ومنهم من حسنه، ومنهم من صححه، أخرجه البيهقي من طريق الحاكم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقبه البيهقي بأن في إسناده نعيم بن حمادٍ، وهو ذو مناكير، لكنه لم ينفرد به، وقد رواه الدارمي موقوفًا على أبي سعيدٍ  بسندٍ صحيحٍ، رجاله رجال الشيخين، وقال ابن القيم: وذكره سعيد بن منصورٍ من قول أبي سعيدٍ وهو أشبه، لكن حتى وإن كان من قول أبي سعيدٍ، إلا أن له حكم الرفع؛ ولهذا فنقول: إن الحديث بمجموع طرقه وشواهده مع الأثر المروي عن أبي سعيدٍ يكون ثابتًا، على الأقل يصل إلى درجة الحسن لغيره، فتكون هذه سنةً.

وما ورد من قراءة سورة الكهف في ليلة الجمعة لا يثبت، لكن المحفوظ: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة.

طيب يوم الجمعة يبدأ متى؟

بطلوع الفجر، وينتهي بغروب الشمس، فيكون هذا هو الوقت المستحب فيه قراءة سورة الكهف.

حكم قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة

قال:

وأن يقرأ في فجرها: آلم ۝تَنْزِيلُ السجدة، وفي الثانية: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ.

وهذا قد جاء في “الصحيحين” من حديث أبي هريرة  أن النبي كان يقرأ في فجر الجمعة: آلم ۝تَنْزِيلُ السجدة [السجدة:1-2]، وهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ [الإنسان:1] [58]، وجاء في رواية الطبراني من حديث ابن مسعودٍ : “وكان يُديم ذلك” [59]. والظاهر من هديه أنه كان يداوم على ذلك.

قال المؤلف:

وتُكره مداومته عليهما.

يعني: إذا اعتقد الناس أن ذلك واجبً، لكن القول بالكراهة محل نظرٍ، والظاهر من هدي النبي أنه كان يداوم عليهما؛ لأن قول أبي هريرة : (كان) يفيد الاستمرار، وهذا في “الصحيحين”، ورواية ابن مسعودٍ عند الطبراني: وكان يديم ذلك؛ ولهذا فالأقرب أن السنة المداومة عليها، إلا أنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا خشي أن يَعتقد الناس وجوب قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة يتركها أحيانًا؛ لبيان أن هذا ليس بواجبٍ.

طيب، إن كان خلفه كبارٌ في السن، أو أن جماعة المسجد يقولون: لا تقرأ بنا سورة السجدة والإنسان؛ لأنك تشق علينا في القراءة، فهل يجيبهم الإمام؟

نقول: لا يجيبهم، بل نقول: إن الإمام في الحقيقة إذا قرأ هاتين السورتين لم يطول عليهم، بل هو ذو طَوْلٍ عليهم؛ لأنه أتى بالسنة، وقد سمعت شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله سأله رجلٌ، قال: إني إمام مسجدٍ، وإن خلفي كبارًا في السن، فيشق عليهم قراءة السجدة والإنسان، فهل أتركهما؟

قال: لا، وإذا كان يشق عليهم؛ يجلسون، فلا تُترك السنة لمثل هذه الأعذار، وإنما يداوم عليها الإمام أو يقرؤها غالبًا.

ساعة الإجابة يوم الجمعة

بقي مسألةٌ أخيرةٌ: وهي ساعة الإجابة:

صح عن النبي أنه قال: إن في الجمعة ساعةً لا يُوافقها عبدٌ مسلمٌ وهو قائمٌ يصلي يسأل الله شيئًا من خيري الدنيا والآخرة؛ إلا أعطاه إياه [60]، اختُلف في تحديد هذه الساعة اختلافًا كثيرًا على أقوالٍ، أوصلها بعضهم إلى أكثر من أربعين قولًا، والحافظ ابن حجرٍ أوصلها قرابة أربعةٍ وأربعين أو خمسةٍ وأربعين قولًا، وأرجح الأقوال: أنها آخر ساعةٍ بعد العصر، وهذا هو المنقول عن الصحابة ؛ كما في حديث عبدالله بن سلامٍ، آخر ساعةٍ بعد العصر، هذا هو القول الراجح.

يقول ابن القيم: “إن هذه الساعة آخر ساعةٍ بعد العصر، يعظمها جميع أهل الملل، حتى أهل الكتاب يعظمونها، وهذا مما بقي في كتبهم ولم يحرفوه؛ إذ لا مصلحة لهم في تحريفه”.

فإذنْ: القول الراجح في تحديد ساعة الإجابة: آخر ساعةٍ بعد العصر، لكن ابن القيم قال أيضًا: إن من حين يدخل الخطيب إلى أن تُقضى الصلاة: إن هذه أيضًا ساعة إجابةٍ، فيكون هناك ساعتان، يعني هذه الساعة لأجل اجتماع المسلمين، واجتماع المسلمين وصلاتهم ودعائهم لله ، فيقول: إن هذا الاجتماع مظنةٌ للإجابة، لكن الساعة المقصودة في الحديث التي هي ساعة الإجابة، أرجح الأقوال فيها: أنها آخر ساعةٍ بعد العصر.

والله الموفق، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أحمد: 8102.
^2 رواه مسلم: 854.
^3 رواه البخاري: 876، ومسلم: 855.
^4 منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ‌إن ‌هذا ‌يوم ‌عيد ‌جعله ‌الله ‌للمسلمين..، رواه ابن ماجه: 1098،
^5 رواه النسائي: 1440، وابن ماجه: 1064، وأحمد: 257.
^6 رواه مسلم: 865.
^7 رواه أبو داود: 1052، والترمذي: 500، والنسائي: 1369، وابن ماجه: 1125.
^8 رواه أبو داود: 1067، والبيهقي: 5578.
^9 رواه أبو داود: 1056، والبيهقي: 5581.
^10 رواه مسلم: 653.
^11 رواه البخاري: 881، ومسلم: 850.
^12 رواه أبو داود: 1048، والنسائي: 1389.
^13 سبق تخريجه.
^14 رواه عبدالرزاق: 5358، وابن أبي شيبة: 5132، والدارقطني: 1623.
^15 رواه أبو داود: 1085.
^16 رواه البخاري: 6248، ومسلم: 859.
^17 صحيح البخاري: 1/ 471.
^18 رواه البخاري: 904.
^19 رواه البخاري: 4168، ومسلم: 860.
^20 رواه ابن أبي شيبة: 3271.
^21 رواه البخاري: 757، ومسلم: 397.
^22 رواه أبو داود: 1069، وابن ماجه: 1082.
^23 رواه عبدالرزاق: 5292-5293، دون ذكر العدد، وذكره الإمام أحمد كما في الجامع لعلوم الإمام أحمد: 6/ 464.
^24 رواه مسلم: 863.
^25 أخرجه أبو داود: 547، والنسائي: 847، وأحمد: 21710، وابن خزيمة: 1486، وابن حبان: 2101.
^26 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^27 رواه أبو داود:4840، والنسائي: 10328، وابن ماجه: 1894، وأحمد: 8712.
^28 رواه مسلم: 862.
^29 رواه البزار: 4664، والطبراني: 7079.
^30 رواه البخاري: 1014، ومسلم: 897.
^31 رواه البخاري: 746.
^32 رواه مسلم: 873.
^33 رواه البخاري: 6008، ومسلم: 674.
^34 رواه أبو داود: 1079، والترمذي: ‌322، وابن ماجه: 749، وأحمد: 6676، وقال الترمذي: حديث حسن.
^35 رواه البخاري: ‌3212، ومسلم: 2485.
^36 رواه مسلم: 867.
^37 رواه مسلم: 862، وأبو داود: 1093 واللفظ له.
^38 رواه البخاري: 918.
^39 رواه البخاري: 2095.
^40 رواه البخاري: 3584.
^41 رواه الدارمي: 32.
^42 رواه ابن خزيمة: 1777.
^43 رواه أبو داود: 2096، وأحمد: 17856.
^44 رواه مسلم: 869.
^45 رواه مسلم: 878.
^46 رواه مسلم: 872.
^47 رواه مسلم: 866.
^48 رواه البخاري: 934، ومسلم: 851.
^49 رواه أحمد: 2033، وابن أبي شيبة: 5411، والبزار: 4725.
^50 رواه النسائي: 557، وابن ماجه: 1121، والبيهقي: 5802.
^51 رواه البخاري: 580، ومسلم: 607.
^52, ^54 رواه مسلم: 881.
^53 رواه البخاري: 937، ومسلم: 729.
^55 رواه أبو داود: 1130، والحاكم: 1072، والبيهقي في السنن الكبرى: 6012-6013.
^56 رواه البخاري: 910.
^57 رواه الحاكم: 3392، والبيهقي: 6063، مرفوعا، ورواه سعيد بن منصور: 1368، والدارمي: 3450، موقوفا بلفظ: أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق، وعند الدارمي دون الباقين: ليلة الجمعة، بدل: يوم الجمعة.
^58 رواه مسلم: 879.
^59 رواه الطبراني في المعجم الصغير: 986.
^60 رواه مسلم: 852 بنحوه.
zh