الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(28) فصل: يصح وقوف الإمام وسط المأمومين
|categories

(28) فصل: يصح وقوف الإمام وسط المأمومين

مشاهدة من الموقع

فصلٌ: في موقف الإمام والمأموم

يصح وقوف الإمام وسط المأمومين

ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى قول المؤلف:

فصلٌ: يصح وقوف الإمام وسط المأمومين، والسنة وقوفه متقدمًا عليهم.

دلت السنة على أن الإمام يكون أمام المصلين، وأن المأمومين يقفون خلف الإمام، وذلك؛ لأن هذا هو هدي النبي ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتقدم أصحابه ويصلون خلفه؛ ولما وقف جابرٌ وجبَّارٌ عن يمين النبي وشماله ردهما إلى خلفه [1]، كما جاء ذلك في “صحيح مسلمٍ”، ولكن لو وقف الإمام وسط المأمومين فإن الصلاة صحيحةٌ، ويدل لهذا: أن ابن مسعودٍ صلى بين علقمة والأسود، وقال: رأيت رسول الله فعل ذلك [2]، رواه أبو داود، وهو حديثٌ صحيحٌ.

ولكن ينبغي ألا يفعل ذلك إلا عند الحاجة؛ كضيق المكان، فبعض الأماكن تضيق، ويضطر الإمام إلى أن يصلي وسط المأمومين فلا بأس بذلك.

تقدم المأموم على الإمام في الصلاة

قال:

ويقف الرجل الواحد عن يمينه محاذيًا له.

قبل أن ننتقل لوقوف الرجل عن يمينه: إذا وقف بعض المأمومين قدام الإمام فهل تصح صلاتهم؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

  • القول الأول: أنه لا تصح صلاتهم، وهو مذهب الجمهور، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، إذا القول الأول أنه لا تصح صلاتهم، وإليه ذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بقول النبي : إنما جُعل الإمام ليؤتم به [3]؛ ولأن النبي كان يقف أمام الناس والناس يصلون خلفه، وقد قال: وصلوا كما رأيتموني أصلي [4]، هذا هو قول الجمهور.
  • القول الثاني في المسألة: أنه تصح صلاة المأمومين قدام الإمام، وهو مذهب المالكية، وعللوا ذلك بأن صلاة المأموم قدام الإمام لا تمنع من الاقتداء به، فأشبه صلاة من خلفه.
  • والقول الثالث في المسألة: تصح صلاة المأموم قدام الإمام مع العذر، ولا تصح بدون عذرٍ، والعذر كالزحام مثلًا، وهذا قول في مذهب أحمد، وهو قولٌ وسطٌ بين القولين، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو القول الراجح، وذلك؛ لأن صلاة المأموم خلف الإمام غاية ما يقال فيها: إنها واجبةٌ، يجب على المأموم أن يقف خلف الإمام والوجوب يسقط بالعجز عنه، وإذا كانت الأركان والشروط تسقط بالعجز عنها فهذا الواجب يسقط بالعجز عنه من باب أولى، وهذا هو الأقرب والله أعلم.

وهذه المسألة تقع في المسجد الحرام، وفي أيضًا أيام الحج بمسجد الخيف بمنى، كذلك مسجد نمرة بعرفة، كذلك أيضًا في مسجد مزدلفة تجد بعض الناس يصلون قدام الإمام، أيضًا حتى يوم الجمعة في بعض الجوامع تجد بعض الناس يصلون قدام الإمام، فإذا كان ذلك لأجل الزحام، ولم يجدوا مكانًا خلف الإمام، فإنه بناءً على القول الراجح نقول: صلاتهم صحيحةٌ، ولا بأس بذلك؛ لأن التعليل الذي ذكره شيخ الإسلام تعليلٌ قويٌّ؛ لأن هذا واجبٌ وسقط هذا الواجب بالعجز عنه، فمثلًا في المسجد الحرام يكون هناك زحامٌ شديدٌ، قد لا يجد الإنسان مكانًا يصلي فيه إلا قدام الإمام، وهنا نقول: لا حرج في أن يصلي قدام الإمام، وذلك؛ لأن هذا الواجب قد سقط بالعجز عنه.

وهذا القول يجمع أدلة القول الأول والثاني، فنقول: أدلة قول الجمهور تُحمل على حال السعة وعدم وجود العذر.

وأما عند العذر فيستدل بأدلة القول الثاني، وبما ذكره أيضًا شيخ الإسلام من أن هذا الواجب يسقط بالعجز عنه.

نعود لعبارة المؤلف، قال: “ويقف الرجل الواحد عن يمينه محاذيًا له”، يعني: إذا كان المأموم واحدًا فإنه يقف عن يمين الإمام، ويدل لذلك: ما جاء في “الصحيحين” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: صليت مع النبي ذات ليلةٍ فقمت عن يساره، فأخذ رسول الله برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه [5].

الصلاة خلف الإمام منفردًا أو عن يساره

قال: 

ولا تصح خلفه، ولا عن يساره، مع خلو يمينه.

ولا تصح خلفه، وصورة المسألة إذا كانا رجلين، فلا يصح للمأموم أن يقف خلف الإمام، وذلك؛ لأنه منفردٌ، ولا صلاة لمنفردٍ خلف الصف، وهذه المسألة سيأتي بحثها بعد قليل -إن شاء الله- بالتفصيل.

وقوله: “ولا عن يساره مع خلو يمينه”، إذا وقف المأموم عن يسار الإمام هل تصح صلاته؟

المؤلف يقول هنا: إنها لا تصح بشرط خلو يمينه، أما إذا وجد عن يمينه أحدٌ فإنها تصح؛ لأننا قلنا في البداية: إنه يصح للإمام أن يقف وسط المأمومين إذا كان عن يمينه أحدٌ وعن يساره أحدٌ، يقولون: تصح، لكن مع خلو يمينه لا تصح صلاة المأموم عن يسار الإمام، هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، إذا قلنا: من المفردات، مر معنا هذا المصطلح كثيرًا يعني: انفرد به الحنابلة، وأن المذاهب الأخرى على القول الآخر، وهو: أن صلاته تصح، وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في روايةٍ.

والأقرب والله أعلم: هو قول الجمهور؛ لأنه لا دليل يدل على عدم صحة صلاته عن يساره، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على ذلك، ومما يدل لرجحان هذا القول: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما السابق، فإن النبي أداره؛ ليكون عن يمينه، ولو كانت الصلاة عن يسار الإمام لا تصح لَأَمَره النبي باستئنافها من جديدٍ، ولهذا؛ المرداوي في “الإنصاف” لمَّا ذكر قول الجمهور قال: وهذا القول هو الصواب.

والحنابلة استدلوا بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، لكن دلالته لقول الجمهور أقرب من قول الحنابلة؛ فالحنابلة يقولون: لو كانت الصلاة عن يسار الإمام تصح لأقر النبي ابن عباسٍ رضي الله عنهما.

ولكن الجمهور يقولون: بل حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما دليلٌ على أنها تصح؛ لأنها لو كانت لا تصح لَأَمَر النبي ابن عباسٍ باستئنافها من جديدٍ؛ ولما أداره فقط عن يمينه، فإدارته عن يمينه تدل فقط على مسألة الأفضلية.

أما إذا وقف عن يسار الإمام، وكان عن يمين الإمام أحدٌ، فهذا تصح صلاته عند الجميع.

قال:

وتقف المرأة خلفه.

نريد أن نلخص الكلام الآن في المسألة السابقة:

نقول: إن صلاة الواحد عن يمين الإمام هذه هي السنة، وعن يساره تصح إذا كان عن يمينه أحدٌ عند الجميع، وعن يساره مع خلو يمينه، هذا محل خلافٍ، والصحيح أنها تصح، فإذنْ الصلاة تصح على كل تقديرٍ.

والحالة الوحيدة التي لا تصح فيها: هو أن يكون خلفه، وهذه سيأتي بحثها بعد قليلٍ.

وقوف المرأة خلف الرجل في الصلاة

قال: وتقف المرأة خلفه، يعني: إذا صلت المرأة مع الرجال، فإنها تقف خلفهم، حتى لو صلت المرأة مع زوجها، هل يلزم أن تقف خلفه، أو يصح أن تكون عن يمنيه؟ تكون خلفه كذلك حتى لو كان زوجها؛ لعموم الأدلة.

ويدل لهذا ما جاء في “الصحيحين” عن أنسٍ قال: صليت أنا ويتيمٌ في بيتنا خلف النبي وأمي أم سليم خلفنا [6].

لكن إذا وقفت المرأة في صف الرجال -كما يحصل في أوقات المواسم في المسجد الحرام- فهل تصح صلاتها؟ أحيانًا في المسجد الحرام تكون المرأة قريبةً من الرجل في صف الرجل، وهي لم تقف خلفه، هل تصح صلاة هذه المرأة أم لا؟

من العلماء من قال: إن صلاتها لا تصح، لكن أكثر العلماء قالوا: إن صلاتها تصح مع الكراهة؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: إن وقفت المرأة في صف الرجال كره لها ذلك، ولم تبطل صلاتها، ولا صلاة من يليها، وهذا مذهب الشافعية، وعزاه الحافظ ابن حجرٍ في “فتح الباري” لجمهور العلماء.

فتصح صلاتها مع الكراهة، لكن مع شدة الزحام تزول الكراهة، فنقول: صلاتها إذنْ صحيحةٌ.

أما بدون عذرٍ فنقول: إنها تصح، لكن مع الكراهة؛ لأنه أحيانًا في المسجد الحرام تصلي خلف الرجال، لكنها تتساهل وتصلي في صف الرجال، فهذا بدون عذرٍ، لكن الصلاة صحيحةٌ مع الكراهة، وأما لو كان لعذرٍ فالصلاة صحيحةٌ من غير كراهةٍ.

صلاة المنفرد خلف الصف

قال:

وإذا صلى الرجل ركعةً خلف الصف منفردًا فصلاته باطلةٌ.

هذه مسألةٌ مشهورةٌ عند أهل العلم، وهي صلاة المنفرد خلف الصف، وهذه المسألة ورد فيها في السنة حديثان عن النبي :

الحديث الأول: حديث وابصة بن مَعبدٍ ، أن رسول الله رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة [7]، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الترمذي: إنه حديثٌ حسنٌ، وله طرقٌ وشواهد متعددةٌ، وهو ثابتٌ بمجموع طرقه، إما حسنٌ أو صحيحٌ.

الحديث الثاني: حديث علي بن شيبان، أن النبي قال: لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف [8]، وهذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان، ونقل الأثرم عن الإمام أحمد أنه قال: إنه حديثٌ حسنٌ، وقال البوصيري في “الزوائد”: إسناده صحيحٌ.

وهذه المسألة اختلف العلماء فيها: ظاهر هذين الحديثين أنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف، لكن هذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين:

  • القول الأول: أنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات.
  • والقول الثاني: تصح صلاة المنفرد خلف الصف، وهو قول الجمهور؛ من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة.

أما الحنابلة ففي قولهم الأول استدلوا بهذين الحديثين: حديث وابصة بن معبدٍ، وحديث علي بن شيبان، وهما حديثان صحيحان وصريحان.

وأما الجمهور فعللوا للقول بصحة الصلاة بأنها صلاة مكتملةٌ الأركان والشروط والواجبات، فالصلاة صحيحةٌ، لكن ينبغي ألا يصلي الإنسان منفردًا خلف الصف على سبيل الأولوية.

والقول الراجح هو القول الأول، وهو مذهب الحنابلة: وأنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف؛ وذلك للحديثين السابقين، وهما كما ذكرنا حديثان صحيحان وصريحان في المسألة، فإنه في حديث وابصة بن معبدٍ أمره أن يعيد الصلاة.

وفي حديث علي بن شيبان قال: لا صلاة لمنفرد خلف الصف.

فهذان كما ترون حديثان صريحان.

وأما ما علل به الجمهور: من أنها صلاةٌ مكتملة الأركان والشروط والواجبات، فلا يسلَّم بأنها مكتملة الواجبات.

فإن المصافَّة لمن يصلي في جماعةٍ واجبةٌ كما دلت لذلك السنة، ولهذا؛ قد دلت السنة على بطلان صلاة من أخل بهذا الواجب، وهذا القول هو الذي عليه عامة المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو الذي يفتي به مشايخنا: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله تعالى على الجميع.

ولهذا إذا رأينا إنسانًا صلى خلف الصف وحده وفي الصف فرجةٌ نأمره بما أمر النبي ذلك الرجل بأن يعيد الصلاة.

ولكن إذا لم يجد فرجةً، إذا أتى المسبوق ولم يجد مكانًا في الصف، ولم يجد فرجةً، فهل له أن يصلي خلف الصف وحده؟

أما على قول الجمهور: فيجيزون له ذلك؛ لأنهم يجيزون ذلك لغير عذرٍ، فمع العذر من باب أولى.

وأما من منع ذلك -وهو القول الراجح- فيقولون: إن تيسر أن يقف عن يمين الإمام فعل، لكن في كثيرٍ من المساجد قد لا يتيسر هذا.

وعند الحنابلة أنه إن لم يمكنه أن يقف عن يمين الإمام جذب أحد المصلين ليصلي معه، فإن لم يمكنه أن يقف لا عن يمين الإمام، ولا أن يجذب أحد المصلين، فإنه ينتظر؛ فإن أتى أحدٌ صلى معه، وإلا صلى وحده منفردًا.

وذهب بعض العلماء إلى أنه في هذه الحال يصلي منفردًا وصلاته صحيحةٌ، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو القول الراجح، وذلك؛ لأن المصافة غاية ما يمكن أن يقال فيها أنها واجبةٌ، وإذا كانت الأركان والشروط والواجبات تسقط بالعجز عنها، فسقوط هذا الواجب من باب أولى، والقاعدة الشرعية: أنه لا واجب مع العجز؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

وأما القول بأنه يصف عن يمين الإمام، فنقول: أولًا قد لا يتيسر هذا، ثم أيضًا إذا قلنا: إنه يصف عن يمين الإمام فيأتي المسبوق الثاني فيصف عن يمين الإمام، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم بعد ذلك يترتب على هذا: أن الإمام سيكون في طرف هذا الصف، وهذا خلاف السنة.

أما القول: بأنه يجذب أحد المصلين ليصف معه، فهذا قولٌ ضعيفٌ؛ ولهذا استقبحه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وذلك؛ لأنه يترتب عليه عدة محاذير، يترتب عليه نقل هذا المجذوب من المكان الفاضل إلى المكان المفضول، ويترتب عليه خلخلةٌ في الصف وإحداث حركةٍ في الصف، ثم إن هذا أيضًا لم يؤثر.

وأما القول: بأنه إذا لم يجد فرجةً يبقى في الصف وحده، فإن جاء معه أحدٌ، وإلا صلى وحده، فيترتب على ذلك أنه يصلي منفردًا، مع أن بإمكانه أن يصلي مع الجماعة، ومثل هذا لا يتفق مع النصوص والقواعد الشرعية، أن الشخص يأتي للمسجد ليصلي جماعةً، ثم نقول له: لا تدخل مع الجماعة، وإنما صل منفردًا، هذا لا يتفق مع أصول وقواعد الشريعة.

ولهذا؛ فالأقرب والله أعلم: أنه تصح صلاته، لكن هنا ننبه إلى أنه لا بد أن يبحث أولًا عن فُرجةٍ، وأن يجتهد في البحث عنها، فإذا عجز ولم يستطع؛ فهنا يصلي خلف الصف وحده، وصلاته صحيحةٌ؛ لأنه عجز عن هذا الواجب.

والغالب على كثيرٍ من الناس: هو التساهل في المصافة وبالتراص، فلهذا؛ ينبغي لمن وجد الصف مكتملًا أن يسعى لأن يجد فرجةً وينبه المأمومين إلى التراص، وسيجد فرجةً في الغالب، لكن الإشكال فيمن يأتي بعده ربما لا يجد فرجةً، ولهذا؛ إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يجد فرجةً، ولم يجد مكانًا، فإنه يصلي خلف الصف وحده وصلاته صحيحةٌ.

هذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة.

مداخلة:

الشيخ: نعم، لكن جزءٌ من صلاته، لاحِظ أنه جزءٌ وليس جزءًا من ركعةٍ؛ ولذلك هنا يشترطون أن يكون ركعةً، لاحِظ كلام المؤلف: “وإن صلى الرجل ركعةً”، فهذا الرجل مضى جزءٌ من الركوع، جزءٌ منه خلف الصف وحده، والجزء الآخر داخل الصف.

لكن كلامنا أن يكون خلف الصف وحده ركعةً كاملة فأكثر.

ولهذا؛ لو أن أحدًا أتى وصف خلف الصف وحده في أول ركعةٍ، ويعلم مثلًا بأن هناك أناسًا في دورة المياه سيأتون، فكبر خلف الصف وحده، وقبل الرفع من الركوع أتى بعض المصلين وصلوا معه؛ هنا صلاته صحيحةٌ، حتى لو كان هناك فرجةٌ في الصف، ولهذا نحن نقيد المسألة بما إذا صلى ركعةً فأكثر.

مداخلة:

الشيخ: لا، إذا كان ممرًّا ليس محلًّا للصلاة لهان أمره، أما إذا كان مكانًا مثلًا يصلون فيه فنأمر بالإعادة، مجرد مثلًا ممرٍّ، فالممر ليس موضعًا للصلاة أصلًا.

مداخلة:

الشيخ: يقولون: هذا من باب الاستحباب، الجمهور يقولون: هذا محمول على الاستحباب، وهذا يعطينا فائدةً: وهو أنه ليس دائمًا قول الأكثر هو الصواب، قد يكون الحق والصواب مع الأقل، لاحِظ هنا: أكثر العلماء على صحة الصلاة، والصواب كما دلت السنة على عدم صحتها، حيث أمره عليه الصلاة والسلام بإعادة الصلاة، صريحٌ في هذا قوله: لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف أيضًا كذلك.

اقتداء المأموم بالإمام

ثم قال المؤلف رحمه الله:

وإن أمكن المأمومَ اقتداءٌ بإمامه، ولو كان بينهما فوق ثلاثمئة ذراعٍ صح، إن رأى الإمام أو رأى مَن وراءه، وإن كان الإمام والمأموم في المسجد لم تشترط الرؤية.

هنا تكلم المؤلف عن مسألة اقتداء المأموم بالإمام.

اقتداء المأموم بالإمام نستطيع أن نقسمه إلى قسمين:

أن يكون الإمام والمأموم في المسجد

القسم الأول: أن يكون الإمام والمأموم في المسجد.

إذا كان المأموم والإمام في المسجد فإنه لا يعتبر اتصال الصفوف في قول عامة أهل العلم، وقد حُكي إجماع العلماء على ذلك.

وممن حكى الإجماع النووي رحمه الله في “المجموع” قال: ولا خلاف في هذا، ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين، وعللوا لذلك: بأن المسجد إنما بني للجماعة، فكل من صلى فيه فقد صلى في محل الجماعة، ولكن هنا يشترط شرطٌ واحدٌ فقط: وهو أن يكون مع المأموم من يزيل فرديته، يعني لا يصلي خلف الصف وحده فقط، هذا هو الشرط الوحيد، وبناءً على ذلك: لو أنه مثلًا في الصف الأول صلى في الصف الأول جماعةٌ، ثم في الصف الأخير صلى جماعةٌ، فالصلاة صحيحةٌ بالإجماع، هذه المسألة أكثر ما تَرِد في المسجد الحرام تكون أحيانًا الصفوف غير متصلةٍ أناسٌ خلف الإمام، ثم هناك فرجةٌ كبيرةٌ، ثم أناسٌ صفُّوا صفًّا آخر، ثم تجد فُرَجًا، وعدم اتصال الصفوف، إذا كان ذلك داخل المسجد فلا بأس، وصلاتهم صحيحةٌ بالإجماع.

لكن السنة هي إتمام الصفوف، الأول فالأول، هذا على سبيل الاستحباب مع التراص فيها، وقد أخرج مسلمٌ في “صحيحه” عن جابر بن سمرة ، أن رسول الله قال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأُول، ويتراصون في الصف [9].

لكن مع عدم اتصال الصفوف، الصحيح: أنه تكره الصلاة مع عدم اتصال الصفوف لغير عذرٍ، وأما إذا كان لعذرٍ فتزول الكراهة، كما في المسجد الحرام أحيانًا هذا لعذرٍ؛ ولذلك تزول الكراهة، ولهذا نقول: لا حرج، الصلاة في المسجد الحرام حتى لو كانت الصفوف غير متصلةٍ.

أن يكون المأموم خارج المسجد

القسم الثاني: أن يكون المأموم خارج المسجد، ويريد الاقتداء بالإمام الذي يؤم الناس في المسجد، هذه مسألةٌ أكثر ما تحصل في المسجد الحرام، تجد هناك بعض الناس يكونون في عمائر قريبةٍ من الحرم، ويريدون أن يقتدوا بالإمام في المسجد الحرام، هل لهم ذلك؟ هل يصلون في تلك العمائر أم لا؟

نقول: أما إذا كانت الصفوف متصلةً خارج المسجد، فتصح الصلاة، وقد حُكي اتفاق العلماء على هذا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أما صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد، أو في المسجد وبينهما حائلٌ؛ إن كانت الصفوف متصلةً جاز باتفاق الأئمة، لكن مع عدم اتصال الصفوف إذنْ المأموم الآن خارج المسجد، والصفوف غير متصلةٍ، فهل تصح الصلاة أو لا تصح؟

المؤلف يقول: إن أمكن المأموم الاقتداء بإمامه صح، ولو كان بينهما فوق ثلاثمئة ذراعٍ.

قوله: “ولو كان بينهما فوق ثلاثمئة ذراعٍ”، إشارةٌ للخلاف، و(لو) يأتون بها إشارةً للخلاف القوي.

وهذا فيه إشارةٌ لقول بعض العلماء: وهو أنه إذا كان المأموم يبعد أكثر من ثلاثمئة ذراعٍ، فإنه لا يصح الاقتداء.

وهذا أيضًا حُكي عن الشافعي ثلاثمئة ذراعٍ، تقريبًا ستة أمتارٍ وربعٌ، الذراع يعادل (48 سنتيمترًا) تقريبًا، حدود نصف مترٍ تقريبًا، أو إذا أردت الدقة (48 سنتيمترًا)، فثلاثمئة ذراعٍ في حدود ستة أمتارٍ وربعٍ، ثلاثمئة ذراعٍ، والذراع يعادل (48 سنتيمترًا)، المقصود هذه حسبتها أنها ثلاثمئة ذراعٍ، والذراع -كما ذكرنا- في حدود (48 سنتيمترًا)، إذنْ المؤلف يقول: إنه يصح الاقتداء حتى وإن كان بينهما فوق ثلاثمئة ذراعٍ.

المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم: فمن أهل العلم من ذهب إلى اشتراط اتصال الصفوف.

ومنهم: من أجاز ذلك.

والمؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، أجازوا ذلك، قالوا: واشترطوا إمكان الاقتداء بالإمام والضابط في إمكان الاقتداء بالإمام قالوا: إذا كان يرى الإمام، أو يرى مَن وراءه، وذلك؛ لأنه أمكن الاقتداء بهذا الإمام، فلم يمنع ذلك من صحة الصلاة خلفه.

القول الثاني في المسألة: إذا كان المأموم خارج المسجد ولم تكن الصفوف متصلة، فإن الصلاة لا تصح، وذلك؛ لأن الواجب في الجماعة أن تكون مجتمعةً في الأفعال، وهي متابعة المأموم للإمام، وفي المكان، وإلا لو قيل: بأنه لا يشترط اتصال الصفوف لمن يقتدي بالإمام وهو خارج المسجد للزم من ذلك صحة صلاة جيران المسجد، وهم في بيوتهم إذا أمكنهم رؤية بعض المأمومين، فيأتي جيران المسجد ويفتحون النافذة ويرون بعض المأمومين، ويصلون وهم في بيوتهم، وهذا القول قولٌ لا يتفق مع الأصول والقواعد الشرعية، بل إنه أيضًا من لوازم هذا القول: صحة الصلاة خلف التلفاز إذا كان يرى المأمومين فيما إذا نقلت الصلاة على الهواء مباشرةً، أو كرؤية الإمام، فما المانع من هذا؟ هذا من لوازم هذا القول.

ولهذا؛ فالأقرب والله أعلم: هو أنه لا يصح اقتداء من كان خارج المسجد إذا كانت الصفوف غير متصلةٍ، فإنه لا يصح، وقد رجح هذا القول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

وبناءً على ذلك: صلاة الناس في العمائر القريبة من الحرم، نقول: إذا كانت الصفوف متصلةً فلا بأس، كما تكون في العمائر القريبة، وفي أوقات الزحام تكون الصفوف كلها متصلةً، هنا لا بأس أن يصلي في عمارته، ما دام أنه يرى المأمومين.

أما إذا كانت الصفوف غير متصلةٍ، ويريد أن يصلي في هذه العمارة القريبة من الحرم، نقول: بناءً على القول الراجح: صلاته غير صحيحةٍ.

ولا فرق في الحقيقة بين الحرم وغيره، ولهذا؛ من لوازم القول بصحة الصلاة: أننا نقول: جيران المسجد يلزمكم…، الذين صححوا وأجازوا للمأموم أن يقتدي بالإمام وهو خارج المسجد، والصفوف غير متصلةٍ، نورد عليهم هذا الإيراد، نقول: جيران المسجد إن أمكنهم رؤية بعض المأمومين، هل تجيز لهم أن يصلوا خلف الإمام؟ فتجد أن بعض أصحاب هذا القول لا يجيزون هذا؛ فإذنْ هذا تناقضٌ، أنتم إذا أخذتم بهذا القول أَجيزوا حتى لجيران المسجد -خاصةً في صلاة الجمعة مثلًا إذا أمكن رؤية المأمومين أو سماع الصوت- أن يصلوا وهم في بيوتهم، حتى غير الجمعة، وحتى صلاة الفجر، يصلي وهو في بيته بدل أن يأتي المسجد، يسمع صوت الإمام ويصلي وهو في بيته، وهذا القول لا يتفق مع أصول وقواعد الشريعة، ولا مع ما هو مقصودٌ من الجماعة، وسبق أن تكلمنا في درسٍ سابقٍ عن مقصود الشريعة من صلاة الجماعة، وحصول الائتلاف والمودة والمحبة بين جماعة المسجد.

لكن إذا كانت الصفوف متصلةً فلا إشكال: إن كان خارج المسجد، وضاق بهم المسجد، وكانت الصفوف متصلةً، فلا إشكال، وأما أن نجيز لهم أن يصلوا خلف الإمام والمأموم هذا خارج المسجد، والصفوف غير متصلةٍ، فهذا يَرِد عليه لوازم كثيرةٌ، فلو كان هذا المأموم بعيدًا جدًّا فوق ثلاثمئة ذراعٍ، ويرى هؤلاء المأمومين وهو بعيدٌ على بعد مثلًا كيلومتر، أصحاب هذا القول يقولون: يجوز له أن يقتدي بالإمام، وهذا لا يتفق مع مقصود الشارع من صلاة الجماعة.

ولهذا نقول: الأقرب هو أنه لا تصح ما دامت الصفوف غير متصلةٍ.

بقي أن نذكر ما هو ضابط اتصال الصفوف؟ هل المقصود بالاتصال: التراص، ليس المقصود، إذنْ ما هو ضابط الاتصال؟

حُكي عن الشافعي، وهو قولٌ عند الحنابلة، وأشار إليه المؤلف: أن حد الاتصال بما دون ثلاثمئة ذراعٍ.

وتعقب هذا الموفق بن قدامة، وقال: إن التحديدات بابها التوقيف، ولا نعلم في هذا نصًّا ولا إجماعًا يعتمد عليه، ووجب الرجوع إلى العرف؛ كالتفرق، يعني التفرق بالأبدان، الذي ينقضي به زمن خيار المجلس، ولهذا؛ رجح الموفق: أن الضابط في الاتصال هو العرف؛ وذلك بألا يكون بينهما بعدٌ لم تجرِ العادة به، ومعنى ذلك: إذا كان الناس في عرفهم أن الصفوف متصلةٌ تكون مثلًا المسافة بينهما يسيرةً، وأن هذا لا يؤثر في عرف الناس، نقول: لا حرج، لكن لو كانت المسافة كبيرةً بينهما، مثلًا عشرة أمتارٍ، وهذا في عرف الناس أن الصفوف غير متصلةٍ، هنا نقول: ليس لك أن تقتدي بهذا الإمام وهو في المسجد وأنت خارج المسجد.

هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.

قال:

وإن كان بينهما نهرٌ تجري فيه السفن، أو طريقٌ، لم تصح.

أورد على أصحاب القائلون بصحة الصلاة إيرادًا: فقال: لو كان بينهما نهر، أو كان بينهما طريق فعلى قولكم: إن الصلاة صحيحة؛ لأنه يرى المأمومين من بعيد، فقالوا: لا، نستثني هذه المسألة، لاحظ أصحاب هذا القول رجعوا واستثنوا، من علامة القول المرجوح: كثرة الاستثناءات، بينما القول الراجح لا ترد عليه استثناءات في الغالب، وبناءً على هذا نقول: خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن المأموم إذا كان داخل المسجد فلا يشترط اتصال الصفوف مطلقًا، لكن يشترط شرط واحد وهو ألا يصلي خلف الصف وحده، يعني أن يكون معه من يزيل فرديته، إذا كان خارج المسجد إن كانت الصفوف متصلة صحت الصلاة، وإن كانت الصفوف غير متصلة فمحل خلاف، والراجح أن الصلاة لا تصح، هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة، وعليه تنزل مسألة حكم الصلاة في العمائر قريبة من المسجد الحرام.

مداخلة:

الشيخ: لا، جدار المسجد الخارجي، يعني خارج المسجد، وصلى الناس خارج المسجد، إنسانٌ بعيدٌ مثلًا يريد أن يصلي في عمارته أو في شقته، إذا كانت الصفوف متصلةً، يعني الساحة التي خارج المسجد كلها مليئةٌ بالناس، فله أن يصلي، لكن لو كانت الساحة ليست مليئةً، فيها سعةٌ، نقول: يلزمك أن تنزل وتصلي مع الناس على القول الراجح.

مداخلة:

الشيخ: ولذلك نحن ما رجحنا هذا القول، قلنا: إن هذا قولٌ مرجوحٌ.

مداخلة:

الشيخ: داخل المسجد لا يشترط مطلقًا، كما مثلت لكم بمثالٍ: لو كان الصف الأول يصلون، وهناك اثنان في آخر المسجد، فصلاتهم صحيحةٌ بالإجماع، ليس هناك إشكالٌ في داخل المسجد، إنما الإشكال في خارج المسجد.

مداخلة:

الشيخ: الصلاة بين السواري مكروهةٌ، كرهها السلف، وكان الصحابة  يتقون الصلاة خلف السواري، لكن الكراهة تزول للحاجة، كم لو كان هناك زحامٌ، أما إذا لم يكن هناك حاجةٌ فالصلاة صحيحةٌ مع الكراهة.

مداخلة:

الشيخ: لا، ما تعاد الصلاة، إذا كانت بين الساريتين لا تعاد، الكلام إذا كانت السارية تقطع الصف.

نرجع لكلام المؤلف رحمه الله، قال:

ارتفاع موقف الإمام عن المأموم أو العكس

وكُره علو الإمام عن المأموم، لا عكسه.

يعني: أن يكون الإمام أعلى من المأموم، فيقول: إن هذا يكره؛ لآثارٍ رويت عن بعض السلف في هذا.

والقول الثاني: أنه لا يكره، خاصةً إذا كان ذلك للتعليم أو للحاجة، ويدل لهذا ما جاء في “الصحيحين” أن النبي صلى على المنبر، فكان إذا أراد أن يسجد رجع القَهْقَرَى وسجد، ثم إذا قام قام على المنبر (رواه البخاري: 377، ومسلم: 544.))، والمنبر مكانه مرتفعٌ، فدل ذلك على أنه لا بأس أن يكون الإمام في مكانٍ أعلى من المأموم، وهذا هو القول الراجح، أنه لا يكره.

وعلى ذلك: لو كان هناك قَبْوٌ للمسجد فلا بأس بالصلاة فيه من غير كراهةٍ على القول الراجح، لكن على القول الأول: أنها تكره الصلاة في مثل هذا، وعلى القول الذي رجحناه أنها لا تكره؛ لأنه لا دليل يدل على الكراهة، مثلًا بعض الجوامع يكون هناك قبوٌ أو طابقٌ أسفل، فيصلي فيه بعض الناس، نقول: لا حرج في ذلك إن شاء الله، وغاية ما فيه: أن يقال: إنه مكروهٌ، لكن ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على الكراهة.

وقوله: “لا عكسه”، يعني العكس: أن يكون المأموم أعلى من الإمام، فيقولون: إنها لا تكره الصلاة في هذه الحالة.

والقول الراجح: أنها لا تكره مطلقًا.

قال:

وكُره لمن أكل بصلًا أو فُجْلًا ونحوه، حضور المسجد.

حكم صلاة النساء في مصلًّى خارج المسجد

قبل أن نشير إلى هذه المسألة أود التنبيه على مسألةٍ مهمةٍ: وهي أن بعض النساء يسلكن مصلى الناس خارج المسجد، ولا يرين الإمام، ولا يرين المأمومين، ولا بعض المأمومين، وتكون هذه الحجرة خارج المسجد، ليست داخل المسجد، فبناءً على القول الذي رجحناه: تكون صلاتهن صحيحةً أو غير صحيحةٍ؟ غير صحيحةٍ، وهذا موجودٌ، أذكر أن أحد الناس أخبرني أن هنا مسجدًا بالرياض، وأن مصلى النساء بهذه الطريقة، فصلاتهن لا تصح بناءً على القول الراجح، فلا بد إما أن يجعل هذا المصلى داخل المسجد، وداخل المسجد -كما ذكرنا- لا يشترط اتصال الصفوف، أو أنه لا بأس أن يكون خارج المسجد، لكن تكون الصفوف متصلةً، والمسجد يمتلئ، وقد سُئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله -وهذا موجودٌ في “مجموع الفتاوى”- عن حكم صلاة نساءٍ في غرفة جمعيةٍ إسلاميةٍ ملحقةٍ بالمسجد؟ فأجاب: أما صلاة النساء في غرفةٍ في الدور الأرضي مع جماعة المسجد، ليس لهن الاقتداء بالإمام؛ لأن من شرط الاقتداء لمن كان خارج المسجد أن يرى الإمام أو المأمومين في أصح أقوال أهل العلم، ولا يكفي مجرد سماع صوت الإمام، إلا لمن كان داخل المسجد.

فعلى هذا: لا تصح صلاتهن، هذه -يا إخواني- موجودةٌ في بعض المساجد، ينبغي التنبه والتنبيه على هذه المسألة.

مداخلة:

الشيخ: لا، لا يصح الاقتداء، ولا تصح الصلاة أصلًا.

مداخلة:

الشيخ: داخل سور المسجد إذا كان محاطًا بسور المسجد فهو من المسجد، ولهذا عند العلماء أن رحبة المسجد من المسجد، إذا كانت محاطة بالسور فهي من المسجد، لكن لو كان في ملحقٍ خارج السور فهذا هو الذي إذا كن لا يرين الإمام ولا بعض المأمومين، فصلاتهن غير صحيحةٍ.

حكم حضور المسجد لمن أكل بصلًا أو ثُومًا ونحوَهما

قال:

وكُره لمن أكل بصلًا أو فُجْلًا ونحوه، حضور المسجد.

وهذا قد جاءت به السنة كما في “الصحيحين” من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا [10].

وأيضًا في “الصحيحين” من حديث جابرٍ أن النبي قال: من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا؛ وليقعد في بيته [11].

في روايةٍ لمسلمٍ: فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس [12].

وفي روايةٍ أخرى لمسلمٍ: فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم [13].

وأيضًا جاء في “صحيح مسلمٍ” عن عمر بن الخطاب أنه خطب الناس يوم الجمعة، وقال في خطبته: ثم إنكم -أيها الناس- تأكلون من شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، ولقد رأيت رسول الله إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليُمِتْهما طبخًا» [14]، وهذا يدل على كراهة أكل البصل والثوم.

فإن قال قائلٌ: ألا تدل هذه الأحاديث على تحريم أكل البصل والثوم لمن تجب عليه الجماعة؛ لأن إخراجه من المسجد، وقوله: فليعتزلنا، وأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، ألا تدل هذه على تحريم أكل البصل والثوم؟

أقول: لو أتى شخصٌ وأخذ بظاهر هذه الأحاديث، قال: هذه الأحاديث -الأمر بإخراجه من المسجد، والإخبار بأن الملائكة تتأذى- ألا تدل هذه الأحاديث على تحريم أكل البصل والثوم لمن تجب عليه الجماعة؟

مداخلة:

الشيخ: طيب إنسانٌ تجب عليه الجماعة يريد أن يصلي مع الجماعة، هل نقول: إن أكل  البصل والثوم حرامٌ عليه؟

مداخلة:

الشيخ: ليس حرامًا؟

مداخلة:

الشيخ: نقول: إنه حرام، هذا يترتب عليه هذا، يتأذى من بجواره.

مداخلة:

الشيخ: لا، هذا إنسانٌ يأكل البصل والثوم في بيته، ثم يأتي ويصلي مع الناس، هل نقول: إنه آثمٌ بهذا، أنه يحرم عليه أكل البصل والثوم؟

مداخلة:

الشيخ: طيب، على كل حالٍ، هذه المسألة ورد فيها نصٌّ يفصل في هذا، وهو ما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن أبي سعيدٍ قال: لم تعد أن فتحت خيبر، فوقعنا -يعني أصحاب النبي – في تلك البقلة -الثوم- والناس جياعٌ، فأكلنا منها أكلًا شديدًا، ثم رحنا إلى المسجد، فوجد رسول الله الريح فقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربن المسجد، فقال الناس: حُرمت حُرمت، يعني الناس فهموا هذا الفهم، فبلغ ذلك النبي فقال: أيها الناس، إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها [15]، لولا هذا الحديث لكان القول بالتحريم قولًا متجهًا، لهذا؛ الصحابة فهموا التحريم، لكن هذا الحديث نصٌّ في أنه ليس حرامًا؛ ولهذا قال: إنه ليس لي أن أحرم ما أحل الله، فهذا يدل على أن أكل البصل والثوم مكروهٌ وليس حرامًا، بنص هذا الحديث، ولهذا؛ نجد أن عامة العلماء يعبرون بالكراهة كما صنع المؤلف.

صلاة الجماعة واجبةٌ، وأكل البصل والثوم إذا كان ذلك لحاجةٍ فيكون عذرًا في ترك الجماعة، إذا كان ممن يستخدم الدواء، من التداوي مثلًا ونحوه، فيكون هذا عذرًا لترك الجماعة؛ لقوله: وليقعد في بيته، لكن ليس عذرًا لمن يتخذ ذلك حيلةً، كل يوم يأكل البصل والثوم، ثم يصلي في البيت ويقول: أنا معذورٌ، فنقول: هذا ليس معذورًا، لكن لو أنه أكله أحيانًا، أو أنه احتاج له لدواء أو نحوه، فيكون هذا عذرًا له؛ ولهذا قال سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله: إن إباحة أكل هذه الخضروات لا ينافي كون الجماعة فرض عليه، وإنما هو عذرٌ في ترك الجماعة؛ كما أن حضور الطعام يسوغ بترك الجماعة لمن قُدِّم بين يديه مع كون ذلك مباحًا، قال: لكن لو أراد أحد أن يتخذ ذلك حيلةً حرم عليه ذلك.

التحديد بثلاثة أيامٍ هذا لم يثبت، ليس له أصلٌ صحيحٌ، تحديد أن يعتزل المسجد ثلاثة أيامٍ ليس له أصلٌ صحيحٌ.

في الوقت الحاضر وجدت بعض المعطرات التي توضع في الفم، وتزيل رائحة البصل أو الثوم، فلهذا نقول: إذا كانت هذه المعطرات تقطع الرائحة، فتزول الكراهة حينئذٍ، والمعطرات موجودةٌ، في الصيدليات معطراتٌ إذا استخدمها الإنسان فإنها تقطع الرائحة الكريهة للبصل والثوم.

وهكذا أيضًا بعض الخضروات إذا مضغها الإنسان بعد البصل أو الثوم ربما أنها تزيل رائحته، فمثل هذه تزول معها الكراهة، وأيضًا البصل والثوم يقاس عليهما كل ما كانت رائحته كريهةً، وتؤذي المصلين؛ كشرب الدخان مثلًا؛ فإن شرب الدخان الذي يكون معه رائحةٌ مؤذيةٌ وكريهةٌ يكره في حق من فعل ذلك أن يأتي للمسجد ويؤذي المصلين حوله، وهكذا كل من كانت رائحته كريهةً يأخذ هذا الحكم.

وهذا -أيها الإخوة- يدل على عظمة هذا الدين، وهو أن الإسلام يراعي شعور الآخرين، وليس لأحدٍ أن يأتي للمسجد بروائح كريهةٍ، ويؤذي بها المصلين حوله، وربما تسبب في تفويت الخشوع عليه، ونجد بعض الناس -مع الأسف!- لا يبالي بهذه المعاني، تجد أنه يأتي للمسجد وقد أكل بصلًا أو ثومًا ورائحته كريهةٌ، وربما يأتي المسجد بملابس رثةٍ، وهذا لم يعظم شأن الصلاة، ولم يراعِ حرمة هذا المقام الذي يقوم فيه، وقد قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، يعني: عند كل صلاةٍ؛ ولهذا؛ فالسُّنة أن المصلي يأخذ زينته عن كل صلاةٍ، لكن أكل البصل والثوم لأجل تأذي من حوله في المسجد فقط، وغيرها إذا صلى وحده، إذا كان مثلًا يصلي وحده أو امرأة مثلًا في بيتها، فلا نقول: إنه يكره في حقها البصل والثوم، هذا فقط إنما هو خاصٌّ بمن يصلي مع الجماعة.

مداخلة:

الشيخ: إذا وجد ما يقطع الرائحة فلا شك أن هذا مطلوبٌ، لكن إذا لم يوجد، قد لا يوجد، فكل إنسانٍ لا يتيسر له المعطرات، قد يكون في مكانٍ لا يتيسر له مثل هذا، وبعض الناس قد يكون من كبار السن، وليس متعودًا على هذه الأمور.

الأعذار المبيحة لترك الجمعة والجماعة

قال:

فصلٌ: يعذر بترك الجمعة والجماعة المريض.

انتقل المؤلف رحمه الله بعد ذلك للكلام عمن يعذر بترك الجمعة والجماعة، ونحن بينا أن الجماعة واجبةٌ؛ ولذلك ننتقل لمسألة من يُعذر بترك الجمعة والجماعة:

المريض

أول الذين يعذرون بترك الجمعة والجماعة: المريض.

قال ابن المنذر: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض، ويدل لذلك عموم الأدلة الدالة على رفع الحرج عن المكلفين: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وأيضًا النبي لما مرض لم يصل بالناس، وقال: مُروا أبا بكرٍ فليصل بالناس [16].

الخائف حدوث المرض

قال:

والخائف حدوث المرض.

يعني: لو خاف من أنه إذا ذهب للصلاة مع الجماعة مرض، أو حتى زيادة المرض، أو تأخر برؤه، كل ذلك عذرٌ له في ترك الجمعة والجماعة، ولكن بعض الناس يكون عنده مرضٌ يسيرٌ لا يلحقه معه حرجٌ ولا مشقةٌ، ومع ذلك تجد أنه يفتي نفسه بنفسه، ولا يصلي مع الجماعة، ويدعي أنه مريضٌ، فهذا لا تبرأ ذمته أمام الله ​​​​​​​، ولهذا قال ابن مسعودٍ : ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق [17].

وتتأكد الجمعة أكثر من الجماعة، ولهذا قال بعض الفقهاء: إنه تلزم الجمعة دون الجماعة من لم يتضرر بإتيانها راكبًا أو محمولًا، وذلك؛ لأن صلاة الجمعة صلاةٌ واحدةٌ في الأسبوع، ولا بدل لها إذا فاتت، بخلاف الجماعة، فإنه تَعظُم المشقة، وربما تلحق المنة بمساعدته فلم تلزم في هذه الحال.

حضور الطعام

أيضًا من الأعذار قال:

والمدافع أحد الأخبثين.

ولم يذكر المؤلف من صلى بحضرة الطعام، وكان الأولى للمؤلف أن يذكره؛ لأنه من الأعذار، بل إنه ورد هو ومدافعة الأخبثين في حديثٍ واحدٍ، وهو قول النبي : لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان [18]، فذكر النبي في هذا الحديث عذرين:

العذر الأول: حضور الطعام، عذرٌ لترك الجماعة، ويدل لذلك: ما جاء في “صحيح البخاري” عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي قال: إذا وُضع العَشاء، وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء [19].

وفي حديث أنسٍ  قال: إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب [20]، وذلك؛ لأن الناس في عهد النبي كان عَشاؤهم قبل المغرب.

كان ابن عمر يوضعنا في الطعام، وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإمام.

لكن اشتُرط لاعتبار حضور الطعام في ترك الجماعة شروطٌ:

  • الشرط الأول: أن تتوق نفسه إلى الطعام؛ لأن المعنى الذي لأجله أبيح ترك الجماعة، وهو تشويش ذهنه، واشتغال قلبه بالطعام، منتفٍ إذا لم تتق نفسه للطعام، فإذا لم يكن جائعًا فليس له أن يعتذر بحضور الطعام بين يديه في ترك الجماعة.
  • الشرط الثاني: حضور الطعام بين يديه؛ لقول النبي : لا صلاة بحضرة طعامٍ [21]، فعلق الحكم بحضور الطعام.
    والحديث الآخر: إذا قدم العشاء… [22].
    والحديث الآخر: إذا وضع العشاء… [23].
    وبناءً على ذلك: إذا لم يحضر الطعام بين يديه ليس له ترك الجماعة حتى ولو كان جائعًا، حتى لو كانت نفسه تتوق إليه، فلا بد من حضور وتقديم الطعام بين يديه.
  • الشرط الثالث: ألا يجعل ذلك عادةً له، حيث لا يقدم الطعام إلا قبيل إقامة الصلاة؛ لأنه إذا كانت عادةً له، فهذا قد يكون حيلةً على ترك الجماعة فلا يجوز.

إذن إذا توفرت هذه الشروط الثلاث: أن تتوق نفسه إلى الطعام، وأن يقدم الطعام بين يديه، وألا يكون ذلك عادةً له.

أضاف بعض العلماء شرطًا رابعًا: وهو ألا يأكل إلا بمقدار ما تنكسر به نهمته، وتسكن نفسه، ومن ثم يلحق بالجماعة، والصحيح عدم اشتراط هذا الشرط، وأن له أن يأكل حتى يشبع، وقد نص على هذا الإمام أحمد، ويدل له حديث ابن عمر السابق: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه [24].

قوله: ولا يعجل حتى يفرغ منه، هو كالنص في هذه المسألة.

مدافعة الأخبثين أو أحدهما

العذر الثاني: مدافعة الأخبثين أو أحدهما: لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان [25].

والمراد بالأخبثين: البول والغائط، فإذا أحس الإنسان بالبول أو الغائط فله أن يقضي حاجته، ولو أدى ذلك إلى تفويت الجماعة، وهذا عذرٌ له في ترك الجماعة، بل إن صلاته مع مدافعة الأخبثين مكروهةٌ في هذه الحال، كما أن صلاته مع حضور الطعام مكروهةٌ في هذه الحال، والظاهرية يقولون: لا تصح صلاة من هو بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان، لكن قولهم قولٌ ضعيفٌ، والصواب أن الصلاة تصح مع الكراهة.

يقاس على البول والغائط الريح، فإن من الناس من يكون عنده غازاتٌ ينتفخ بها بطنه، فهي في معنى الأخبثين، فيكون احتباس الريح عذرًا له في ترك الجماعة.

هذا كله -يا إخوان- يدل على عناية الشريعة بمسألة الخشوع في الصلاة، وأن بسبب الخشوع أجازت الشريعة ترك الجماعة حتى يزول ما قد يكون سببًا لتفويت الخشوع في الصلاة، والخشوع في الصلاة هو روح الصلاة وهو لُبُّها، وهو المقصود الأعظم منها، فكوننا نجيز لهذا الإنسان أن يترك الجماعة لأجل اشتغاله بالطعام حتى لا يفوت الخشوع، نجيز له ترك الجماعة لأجل مدافعة الأخبثين؛ حتى لا يفوت الخشوع، وهذا يدل على أهمية الخشوع في الصلاة.

الخوف على النفس أو المال أو الأهل

ثم قال المؤلف:

ومن له ضائعٌ يرجوه أو يخاف ضياع ماله أو فواته أو ضررًا فيه.

الخوف قسمه الفقهاء لثلاثة أقسامٍ، والخوف بأقسامه الثلاثة عذرٌ له في ترك الجماعة:

القسم الأول: الخوف على نفسه من لصٍّ أو سبعٍ أو سيلٍ، قال الفقهاء: أو غريمٍ يحبسه وهو معسرٌ.

إذا كان الإنسان معسرًا لا يجوز حبسه، بل يجب إنظاره، لكن نفترض أن الدائن اشتكى هذا المدين، وهو معسرٌ، وهذا المعسر اختفى، ووجد مثلًا أنه ينتظر في الخارج، لو خرج سوف يُمسك إذا خرج يصلي الجماعة، يقول الفقهاء: إذا كان معسرًا يجوز له أن يصلي في بيته، ويكون عذرًا له بترك الجماعة، لكن بهذا الشرط: أن يكون معسرًا، أما إذا كان موسرًا، فليس له ذلك.

هذا إذنْ هو القسم الأول: الخوف على نفسه.

القسم الثاني: الخوف على ماله، أشار المؤلف لهذا القسم، يخاف على ماله مثلًا من لصٍّ، أو يخشى على منزله أن يسرق، أو يخاف على سيارته، ومن هذا أيضًا: يصف الفقهاء قالوا: لو كان له خبزٌ في التنور، ويخشى أنه لو صلى الجماعة احترق خبزه، فيكون عذرًا له في ترك الجماعة، قالوا: ولو كان له طبيخٌ على النار يخاف تلفه، يكون عذرًا له في ترك الجماعة.

لو كان عمالٌ يصبون خرسانةً مسلحةً، ولو أنهم صلوا مع الجماعة لربما يبست وفاتت المصلحة، فهل نقيسه على ما ذكر الفقهاء؟

نعم يقاس من باب أولى، إذا كان الطبيخ والخبز في التنور، هذا من باب أولى؛ ولذلك هؤلاء إذا كانوا مشغولين بمثل هذا فلا ينكر عليهم، لكن ينبهون على أنه متى ما انتهوا يصلون جماعةً، فهذه كلها تعتبر أعذارًا ونص عليها الفقهاء.

قال:

أو يخاف ضياع ماله، أو فواته، أو ضررًا فيه.

أيضًا يلحق بهذا، قال:

أو يخاف على مالٍ استؤجر لحفظه.

ومن ذلك في وقتنا الحاضر حراس الأمن والشرطة، هؤلاء حراسٌ يحرسون؛ إما يحرسون الناس، أو يحرسون الأموال، حراس الأمن الذين أوكل إليهم حراسة منشأةٍ أو سوقٍ، فهؤلاء معذورون في ترك الجماعة، فلا بأس أن يصلوا وحدهم، بل حتى معذورون في ترك الجمعة، بل هم أولى بالعذر ممن له خبزٌ في التنور، أو طبيخٌ على النار يخاف تلفه، هؤلاء أولى بالعذر ممن ذكروا، قال:

كنِطَارَةٍ.

وفي نسخةٍ: “كنظارة”، وكلاهما صحيحٌ، والمعنى واحدٌ، وهو: كنظارة بستانٍ، يعني شخصٌ ناظر على بستانٍ، ويخاف عليه من السرقة، فيكون هذا عذرًا له في ترك الجماعة.

القسم الثالث من الخوف: أن يخاف على أهله أو ولده، قال الفقهاء: أو أن له قريبًا، ويخشى أن يموت ولم يشهده، فهذا عذرٌ له في ترك الجماعة.

المطر والوحل والثلج والريح الباردة

أيضًا يضاف لذلك، قال:

أو أذًى بمطرٍ أو وحلٍ وثلجٍ وجليدٍ.

هذه كلها أعذارٌ في ترك الجماعة.

وريحٍ باردةٍ بليلةٍ مظلمةٍ.

أيضًا هذا عذر في ترك الجماعة، وقد كان النبي إذا أتت الليلة المطيرة قال: صلوا في الرحال [26]، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال البخاري في “صحيحه”: باب الرخصة في المطر والعلة في أن يصلي في رحله، ثم ساق بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أذَّن بالصلاة في ليلةٍ ذات بردٍ وريحٍ، ثم قال: ألا صلوا في الرحال، إن رسول الله كان يأمر المؤذن إذا كان ليلةٌ ذات بردٍ ومطرٍ أن يقول: ألا صلوا في الرحال [27].

وهذا أيضًا ورد عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه لما بلغ المؤذن: حي على الصلاة قال: “قل: الصلاة في الرحال”، فأنكر بعضهم عليه، فقال: “فعله من هو خيرٌ مني، رسول الله ، إنها عزمةٌ، وإني كرهت أن أحرجكم” [28].

على هذا: إذا كان هناك مطرٌ مثلًا، أو كان هناك وحلٌ أو مشقةٌ على الناس، فيقول: صلوا في بيوتكم، إما أن يؤذن المؤذن أذانًا كاملًا، وبعد الأذان يقول: صلوا في بيوتكم، أو أنه بعد “حي على الفلاح” يقول: صلوا في بيوتكم، هذا وهذا وردت به السنة.

وهذا هو الظاهر من هدي النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه قد نزل المطر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام مراتٍ كثيرةً، ولم ينقل عنه أنه جمع، وإن كان الجمع يجوز لوجود الحرج، لكن الظاهر أنه كان إذا نزل المطر قال: صلوا في رحالكم، أو صلوا في بيوتكم، لكن هذه السنة لا يكاد يعمل بها في الوقت الحاضر، وهذا عندي أنها أولى من الجمع؛ لأنه أحيانًا -خاصةً في وقت الصيف- قد يجمع الناس ثم يتوقف المطر، ولا يكون هناك مشقةٌ، فلو أنه لم يجمع وقال: إذا أتى العشاء وكان هناك مطرٌ غزيرٌ أو مشقةٌ نقول: يؤذن المؤذن ثم يقول للناس: صلوا في بيوتكم، هذا أقرب إلى السنة، مع أن الجمع يجوز عند وجود الحرج، وسنتكلم -إن شاء الله- عن الجمع بالتفصيل في الدرس القادم.

خوف فوات الرفقة

وأيضًا ذكر الفقهاء من الأعذار: خوف فوات الرفقة، نص على ذلك الفقهاء، وعللوا لذلك بأنه لو ألزم بأداء الجمعة والجماعة فقد يلحقه الضرر بفوات مقصوده من الرفقة، ثم إنه ينشغل قلبه كثيرًا، وإذا كان الشارع قد رخص في ترك الجماعة لمن هو بحضرة الطعام، أو وهو يدافعه الأخبثان؛ لئلا يتشوش فكره، فهذا الذي يخشى فوات رفقته من باب أولى.

في وقتنا الحاضر يقاس على فوات الرفقة خشية فوات إقلاع الطائرة، فإذا كان وقت إقلاع الطائرة قريبًا من الوقت، ولو صلى مع الجماعة لربما فاتته الطائرة، فلا بأس أن يصلي وحده ويكون ذلك عذرًا له في ترك الجماعة، بل حتى الجمعة يكون له عذرٌ في ترك الجمعة، يعني مثلًا لو كانت الطائرة تقلع الساعة الواحدة، ولو أنه صلى مع الناس لم يمكنه الوصول للمطار، ولفاتت الرحلة، فنقول: تذهب للمطار وتصليها وحدك، ولو لم تقلع بعدُ الطائرة، تصليها ظهرًا، ولا حرج في هذا.

تطويل الإمام

آخر مسألةٍ معنا:

قال:

أو تطويل إمامٍ.

يعني: تطويل الإمام يعتبر عذرًا في ترك الجماعة، لكن إذا كان التطويل عما أتت به السنة، والدليل لذلك: قصة معاذٍ ، وفيها أن ذلك الرجل لما أطال معاذٌ الصلاة انفتل وصلى وحده [29]، وأقره النبي على ذلك.

فإذا كان الإمام أطال تطويلًا زائدًا عما جاءت به السنة، فللمأموم أن ينفتل ويكمل صلاته وحده، ويكون هذا عذرًا له في ترك الجماعة؛ نفترض أنك ذهبت إلى المسجد، ثم أطال الإمام إطالةً شديدةً، فلك أن تنفتل وتكمل الصلاة وحدك، وتكون معذورًا في هذه الحال بترك الجماعة.

ونقف عند باب صلاة أهل الأعذار.

ولنبدأ بالأسئلة المكتوبة:

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 3010.
^2 رواه أبو داود: 613.
^3 رواه البخاري: 688، ومسلم: 412.
^4 رواه البخاري: 631.
^5 رواه البخاري: 117، ومسلم: 763.
^6 رواه البخاري: 727.
^7 رواه أبو داود: 682، والترمذي: 230، وابن ماجه: 1004، وأحمد: 18005.
^8 رواه ابن ماجه: 1003، وأحمد: 75، وابن خزيمة: 1569، وابن حبان: 2202.
^9 رواه مسلم: 430.
^10 رواه البخاري: 853، ومسلم: 561.
^11 رواه البخاري: 855، ومسلم: 564.
^12 رواه مسلم: 563.
^13 رواه مسلم: 564.
^14 رواه مسلم: 567.
^15 رواه مسلم: 565.
^16 رواه البخاري: 664، ومسلم: 418.
^17 رواه مسلم: 654.
^18 رواه مسلم: 560.
^19 رواه البخاري: 671، ومسلم: 560.
^20 رواه البخاري: 672، ومسلم: 557.
^21, ^22, ^23, ^25 سبق تخريجه.
^24 رواه البخاري: 673، ومسلم: 559.
^26 رواه البخاري: 666، ومسلم: 697.
^27 رواه البخاري: 632.
^28 رواه البخاري: 668، ومسلم: 699.
^29 رواه البخاري: 6106، ومسلم: 465.
مواد ذات صلة