عناصر المادة
- باب صلاة الجماعة:
- مصالح وفوائد صلاة الجماعة
- حكم صلاة الجماعة
- أقل ما تنعقد به الجماعة
- ضابط التمييز
- حكم الجماعة بالمسجد
- صلاة الجماعة بالمميز في الفرض
- صلاة الجماعة للنساء
- حكم تقدم غير الإمام الراتب للإمامة
- ما تدرك به الجماعة
- ما تدرك به الركعة في الجماعة
- حكم تكبيرة الانتقال لمن أدرك الإمام راكعًا
- يسن دخول المأموم مع إمامه كيف أدركه
- حكم قيام المؤتم لقضاء الصلاة قبل أن يسلم الإمام
- صلاة النافلة إذا أقيمت صلاة الجماعة
- حكم إعادة صلاة الفرض جماعة لمن صلاها منفردًا
- ما يتحمله الإمام عن المأمومين
- قراءة المأموم في الجهرية
- قراءة المأموم في الصلاة السرية
باب صلاة الجماعة:
الاجتماع خمس مرات في اليوم والليلة في أداء الصلوات الخمس، والاجتماع في الأسبوع مرة واحدة، وهو الاجتماع لصلاة الجمعة، والاجتماع الذي يتكرر في السنة مرتين، وهو صلاة العيد، والاجتماع الذي يكون مرة واحدة في السنة، وهو الاجتماع في عرفة.
وتكرار اجتماع المسلمين في صلاة الجماعة في اليوم والليلة خمس مرات فيه مصالح عظيمة،ش من أبرزها:
مصالح وفوائد صلاة الجماعة
التواد والمحبة بين المسلمين
- أولًا: ما يحصل من التواد والمحبة، والائتلاف بين المسلمين، وهذا مقصد شرعي عظيم، فإن ملاقاة الناس بعضهم بعضًا واجتماعهم على إمام واحد في عبادة واحدة ومكان واحد يؤدي إلى الألفة وإلى التعارف وإلى التواصل.
ولهذا نجد أن الجيران إنما يتعرف بعضهم على بعض في المسجد، ومن كان عنده تقصير في الصلاة لا يكاد يُعرف من قبل جيرانه؛ ولهذا فإن أفضل مسجد يصلي فيه الإنسان هو أقرب مسجد لبيته، أقرب مسجد إلى البيت؛ لماذا؟ لأنه يحقق مقصود الشارع من صلاة الجماعة، فتجد بعض الناس عنده مسجد قريب لا يصلي فيه، يذهب يصلي في مساجد بعيدة، فهذا وإن كان لا بأس به، لكن الأفضل أن يصلي في أقرب مسجد لبيته؛ لأنه يحقق مقصود الشارع من الجماعة، حتى في صلاة التراويح، أفضل مكان يصلي فيه الإنسان أقرب مسجد لبيته؛ لأن صلاة الجماعة إنما شرعت لهذه المعاني للائتلاف والتواد والتراحم والتواصل بين الجيران.
إظهار عزة الإسلام والمسلمين
- وأيضًا منها إظهار عزة الإسلام والمسلمين، ويتضح هذا في وقتنا الحاضر مع وجود وسائل الإعلام التي تنقل الصلوات من المساجد، وتبثها للمسلمين وغير المسلمين، فيرى توافد المسلمين على المساجد، هذه الجموع تتوافد على المساجد طائعة مختارة في اليوم والليلة، وتجتمع هذا الاجتماع اجتماعًا يوميًّا واجتماعًا أسبوعيًّا، واجتماعًا سنويًّا، هذا لا يُوجَد له نظير في أي دين من الأديان.
وعندما ترى هذه المناظر التي تُنقل من الحرمين هذه يا إخوان، فيها إظهار لعزة الإسلام، يعني: بعض الناس يقول: هناك زحام في المسجد الحرام، وفي المسجد النبوي، وفي المشاعر، هذا صحيح هو في زحام، لكن انظر إلى الجانب الآخر، هذا الزحام يعطي المسلم نوعًا من العزة؛ لماذا ازدحمت هذه الجموع؟ لماذا أتت؟ ولأي هدف؟ ولأي غرض؟ هذا مما لا يوجد له نظير في أي دين من الأديان، أو ملة من الملل، هذا يُعطي هذه المعاني.
تعليم الجاهل
- كذلك أيضًا من فوائد صلاة الجماعة تعليم الجاهل، فإن كثيرًا من الناس يستفيد مما يشرع في الصلاة عن طريق صلاة الجماعة، حيث يقتدي بالإمام وبمن حوله، بل ربما يحفظ بعض السور عن طريق استماع الإمام في الصلاة الجهرية.
- وأيضًا تفقد أحوال الفقراء والمرضى ونحوهم، هذه كلها من فوائد صلا الجماعة.
تعويد النفس على الانضباط والنظام
- أيضًا تعويد النفس على الانضباط والنظام، فإن المصلين يصفون خلف إمام واحد مسوين صفوفهم، ثم يتابعون الإمام، لا يتقدمون عليه، ولا يتأخرون عنه؛ ولذلك وصف أحد المستشرقين الذين رافقوا أو ذهبوا للبادية يقول: رأيت المسلمين يعيشون في فوضى وفي اضطراب، ثم قام رجل وأتى بكلمات يقصد الأذان، ثم في دقائق، أو في ثوانٍ إذا هم قد كانوا في نظام تام خلف رجل أمامهم، فتعجب ما الذي قلبهم بعدما كانوا في فوضى قلبهم إلى انضباط تام خلف رجل واحد، هو هذا الدين العظيم، هو يعود النفوس على الانضباط.
تعويد الأمة الإسلامية على الاجتماع
- ثم أيضًا في صلاة الجماعة تعويد الأمة الإسلامية على الاجتماع، وعدم التفرق، كونهم يجتمعون على إمام واحد.
- ثم أيضًا هو يمثل اجتماعًا مصغرًا لاجتماع الأمة على ولي أمرها، فلا يختلفون عليه، ولا يخرجون عن طاعته؛ ولهذا قال بعض العلماء: اجتماع المصلين على إمامهم في الإمامة الصغرى فيه تنبيه على وجوب الاجتماع على الإمام في الإمامة الكبرى، لاحظ هذا الاستنباط.
والحديث عن فوائد صلاة الجماعة يطول.
حكم صلاة الجماعة
قال المؤلف:
تجب على الرجال الأحرار القادرين.
فأفاد المؤلف أن صلاة الجماعة واجبة، وهذا هو القول الصحيح الذي تدل له الأدلة من الكتاب والسنة.
أما من الكتاب فقول الله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102].
فلم يرخص الله تعالى للمسلمين في ترك الجماعة حال الخوف والمعركة، مع أن الناس إذا كانوا في خوف يشق عليهم الاجتماع، فوجوبها في حال الأمن والسلم من باب أولى.
وأيضًا مما يدل لهذا ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رجلًا أعمى أتى النبي قال: يا رسول الله، ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله في أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى قال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة [1]، وهذا الحديث في صحيح مسلم.
فإذا كان النبي وهو الرفيق بأمته لا يريد الرخصة لرجل أعمى ليس له قائدٌ يلائمه، فألَّا يرخص للصحيح المبصر القادر من باب أولى.
أيضًا مما يدل لهذا ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: والذي نفسي بيده؛ لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار [2].
والتحريق بالنار عقوبة شديدة؛ قتل لكن بصفة فظيعة، وهذا لا يكون إلا على ترك منكر عظيم.
وجاء في رواية أحمد: لولا ما في البيوت من النساء والذرية [3]؛ لكن إسنادها ضعيف.
الصحيح أن الذي منع النبي من التحريق بالنار هو أنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
وفي صحيح مسلم أيضًا عن ابن مسعود قال: “من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سُنن الهدى، وإنهن من سُنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سُنة نبيكم، ولو تركتم سُنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا -يعني: الصحابة- وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف” [4].
هذا هو القول الصحيح في المسألة، والمسألة فيها أقوال أخرى، وذهب بعض العلماء إلى أنها مستحبة استحبابًا مؤكدًا، وذهب إليه الحنفية، وكذلك المالكية، وهو أحد القولين عند الشافعية.
والقول الثالث: أنها فرض كفاية، وهو قول أيضًا عند الشافعية.
والقول الرابع: أنها شرط لصحة الصلاة، وهو رواية عن أحمد، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومن قال: بأنها سنة استدل بقول النبي : صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة [5]، قال: إن كونها أفضل يدل على أنها مستحبة، ولو كانت واجبة لما قال: إنها أفضل من صلاة الفذ، ولكن هذا الاستدلال محل نظر؛ إذ أن التفضيل قد يكون تفضيل على أمر واجب تفضيل بين الشيء والشيء قد يكون تفضيل بين أمور واجبة، وكما في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف:11] مع أن هذه أمور واجبة، فالخيرية والتفضيل قد تكون في أمور واجبة؛ ولهذا لا يستقيم هذا الاستدلال.
ومن قال: بأنها فرض كفاية، قال: بأن هي شعيرة، والمقصود إحياء هذه الشعيرة، وإذا أقامها بعض المسلمين تحقق المقصود، لكن هذا محل نظر؛ إذ لو كان هذا هو المقصود؛ لرخص النبي لذلك الرجل الأعمى؛ لأن حصول الشعيرة يتحقق بغيره.
وأما من قال: بأنها شرط فهذا القول محل نظر؛ إذ أن النبي قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة هذا فيه دلالة على صحة صلاة الفذ، ولو كان شرطًا لما صحت صلاة الفذ، وبهذا يتبين أن القول الراجح: هو ما ذهب إليه المؤلف، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو: أن صلاة الجماعة واجبة، وهو قول وسط بين هذه الأقوال.
دليل من اشترط: استدلوا ببعض الأحاديث التي ظاهرها الاشتراط لقوله: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد [6]، لكنه حديث ضعيف. وحديث: من سمع النداء فلا صلاة له إلا من عذر [7]؛ والصحيح أنه لا يصح مرفوعًا، وإنما هو موقوف عند أبي داود، وليس هناك أدلة ظاهرة تدل على الاشتراط.
وجوبها على الرجال الأحرار القادرين
المذهب أنها واجبة، قال:
على الرجال.
ويفهم من هذا أنها لا تجب على النساء، وهو محل إجماع أن صلاة الجماعة لا تجب على النساء، وإنما تجب على الرجال فقط، وسيأتي الكلام عن حكم الجماعة للنساء، هل هي مستحبة أو مباحة أو مكروهة.
قال:
الأحرار.
وهذا يفهم منه أنها لا تجب على الأرِقاء؛ لأن الرقيق مشغول بخدمة سيده؛ ولذلك قالوا: إن الجماعة لا تجب عليه، والمسألة محل خلاف بين العلماء، ولكن لا نريد أن نتوسع في الخلاف؛ لأن الرق لا يوجد اليوم ليس هناك رق الآن شرعي على وجه الأرض، وما يذكر من أن هناك رق في بعض الدول فهذا غير صحيح، بل جميع دول العالم تمنع منه منعًا رسميًّا، وهو ممنوع دوليًّا؛ ولذلك لا يوجد رق شرعي اليوم؛ ولهذا تأمل الإعجاز في قول الله تعالى لما ذكر كفارة الظهار ذكر تحرير رقبة وقال بعدها: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4] ولم يقل: فمن لم يجد ثمن الرقبة، وإنما قال: فمن لم يجد فقط وأطلق؛ لأن الله تعالى يعلم أنه سيأتي على الناس زمان لا توجد فيه الرقاب، كما في وقتنا الحاضر.
ولهذا نقول: مسائل الرق لا نتوسع فيها كثيرًا؛ لعدم أن الرق الشرعي الآن غير موجود.
قال:
القادرين.
فغير القادر لا تجب عليه صلاة الجماعة، العاجز لا تجب عليه صلاة الجماعة، وسيأتينا إن شاء الله تعالى الأعذار التي يعذر بها الإنسان في ترك الجمعة والجماعة.
وجوب صلاة الجماعة على المقيم والمسافر
قال:
حضرًا وسفرًا.
حضرًا هذا ظاهر تجب الصلاة على الرجال المقيمين حال الحضر.
وقوله: “وسفرًا” أفادنا المؤلف بأن صلاة الجماعة تجب على المسافرين، وهذه المسألة أيضًا هي محل خلاف بين أهل العلم، هل تجب الجماعة على المسافر أم لا؟
وليس هناك دليل خاص في هذه المسألة، وإنما فقط فيها عموم الأدلة، فنجد أن عموم الأدلة الموجبة لصلاة الجماعة تشمل الحضر والسفر.
والذي يظهر أنه إذا كان المسافر يسمع النداء فتجب عليه الجماعة، هذا إذا أقام إذا كان مسافرًا فأقام، أما لو كان ضاربًا في الأرض، فهذا لا تجب عليه الجماعة، وهو ظاهر، لكن مراد الفقهاء المسافر إذا أقام، فإذا كان يسمع النداء فيجب عليه أن يصلي مع الجماعة؛ لعموم الأدلة الدالة على وجوب الجماعة من غير تفريق بين السفر والحضر، وهذا هو الذي يفتي به مشايخنا: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين رحمهم الله تعالى.
هذا هو الأقرب: أن صلاة الجماعة تجب على المسافر، كما تجب على المقيم.
مداخلة:…
من قال: بأنها لا تجب استدل بمثل هذه الأحاديث هذه واقعة عين ووقائع الأعيان يرد عليها احتمالات كثيرة: احتمال أن لهم عذر بترك الجماعة….، مثل هذه وقائع الأعيان لا يستدل بها على العموم؛ لأنه ترد عليها عدة احتمالات.
أقل ما تنعقد به الجماعة
قال:
وأقلها إمام ومأموم ولو أنثى.
وأقلها: يعني وأقل الجماعة، إمام ومأموم ولو أنثى؛ لقول النبي لمالك بن حويرث: ليؤمكما أكبركما [8]، هذا في البخاري.
وأيضًا يذكر بعض الفقهاء حديث أبي موسى: اثنان فما فوقهما جماعة [9]؛ لكن هذا الحديث حديث ضعيف من جهة الإسناد، أخرجه ابن ماجه والدارقطني، والبيهقي، وجميع طرقه ضعيفة، لكن يغني عنه الحديث السابق.
ولأن النبي أَمَّ ابن عباس وأم حذيفة، وأَمَّ ابن مسعود، فهذا دليل على أن أقل الجماعة اثنان.
وقول المؤلف: “ولو أنثى” هذا يدل على أن الجماعة تنعقد برجل وامرأة كما لو كان مثلًا رجل فاتته الصلاة مع الجماعة، وذهب للبيت، وأمَّ زوجته، فإنه يحصل على أجر الجماعة، أو أمَّ مثلًا والدته أو أمَّ أحدًا من نساء البيت، فيحوز أجر الجماعة؛ ولذلك ينبغي للإنسان ألا يصلي وحده، إما أن يأتي للمسجد ويطلب من أحد من الناس أن يصلي معه، أو حتى يأتم بمتنفل، أو أنه يطلب من أحد أهل البيت أن يصلي معه، فبذلك لا يفوته أجر الجماعة.
فإذًا الجماعة تنعقد باثنين ولو كان أحدهما أنثى.
ثم قال المصنف رحمه الله:
وتسن الجماعة بالمسجد، ولا تنعقد بالمميز في الفرض.
ضابط التمييز
المميز: سبق أن مر معنا هذا المصطلح يعني: الصبي المميز، وذكرنا أن العلماء اختلفوا في حد التمييز، فمنهم من قال: إن المميز هو الذي يفهم الخطاب، ويرُد الجواب.
وقال آخرون: إن المميز هو الذي أتم سبع سنين.
القول الأول: من جهة النظر جيد، لكن من جهة التطبيق صعب، الآن تجد الطفل عمره ثلاث سنوات يفهم الخطاب ويرد الجواب، هل نقول: إن هذا مميز؟ هذا ما يقول به أحد من العلماء، ولهذا الأقرب أن نحدده بما حدده النبي في قوله: مروا أبناءكم للصلاة لسبع الأقرب أن سن التمييز هو سبع سنين، وإذا قلنا: سبع فما معنى سبع؟ هذه المسألة نبهنا عليها مرارًا: واضربوهم لعشر [10] يعني: أتم عشر سنين، ودخل الحادية عشرة، إذا قلنا: سن البلوغ خمس عشرة سنة يعني: أتم خمس عشرة سنة، ودخل السادسة عشرة، هذا هو المقصود.
حكم الجماعة بالمسجد
قال:
وتسن الجماعة بالمسجد.
هذه مسألة ينبغي ألا تذكر عند العامة؛ لأن عند الحنابلة أن إقامة الجماعة في المسجد أنها سنة وليست واجبة؛ ولذلك في صاحب الزاد قال: وله فعلها في بيته.
وهذه المسألة هي محل خلاف بين العلماء، فالجمهور على أن إقامة الجماعة في المسجد أنها سنة، وأنها ليست واجبة، وقالوا: لأن الجماعة تتحقق في البيت، والأحاديث إنما أمرت بإقامة الجماعة.
والقول الثاني في المسألة: أنه يجب إقامة الجماعة في المسجد، وهذا قول عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهو الذي يفتي به مشايخنا ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله تعالى جميعًا.
واستدلوا بأدلة منها: الحديث السابق حديث أبي هريرة: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار [11].
ما وجه الدلالة على وجوب إقامة صلاة الجماعة في المسجد، ما وجه الدلالة من هذا الحديث من يستنبط لنا وجه الدلالة؟ قال: إلى قوم جماعة يحتمل أنهم يصلون جماعة في بيوتهم، ومع ذلك لم يستفسر النبي ، وإنما هم أن يحرق عليهم بيوتهم بالنار، فدل ذلك على وجوب إقامة الجماعة في المسجد.
ويدل لذلك أيضًا لو كانت صلاة الجماعة في المسجد غير واجبة لاستثنى من يصلي جماعة في بيته، ويدل لذلك أيضًا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر [12] أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم، وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص، لكن كثير من المحدثين يرون أنه موقوف، وأنه لا يصح مرفوعًا.
وإذا نظرنا إلى عمل الصحابة نجد أن هذا هو المستقر عند الصحابة، ولذلك فهذا هو القول الراجح في المسألة وهو أن الجماعة تجب في المسجد لهذه الأدلة؛ ولأن هذا هو المستقر عند الصحابة ، بل إن من لا يصلي في المسجد فهذه ربما تكون أمارة نفاق.
قال ابن مسعود في الأثر السابق: “من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم” [13].
هذا يدل على أن هذا هو المستقر عند الصحابة .
قال ابن مسعود: “ولقد رأيتنا -يعني: الصحابة- وما يتخلف عنها -يعني: صلاة الجماعة في المسجد- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف” [14] أخرجه مسلم في صحيحه.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: من تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرضٌ على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، قال: وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار، قال ابن القيم: فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحدٍ التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر.
هذا هو القول الصحيح في هذه المسألة، والعبرة بالدليل، وإن كان الأكثر على أنها لا تجب في المسجد، لكن سبق مرارًا أن قلنا: إن قول الأكثر لا يلزم أن يكون هو الصواب الأكثرية ليست بدليل على الحق، قد يكون الصواب مع الأقل.
لكن أيضًا مع ذلك لو كان هناك مصلحة تقتضي أن تصلى الجماعة في غير المسجد فلا بأس، ومن ذلك صلاة الجماعة في المصليات في الدوائر الحكومية أكثرها فيها مصليات ليست مساجد، هل نقول لأصحاب الدوائر الحكومية: اخرجوا من الدوائر الحكومية وصلوا في المساجد؟ الظاهر أن هذا لا يجب، وأنه يكفي أن يصلوا جماعة في مصلى تلك الدائرة؛ لأن خروجهم من تلك الدائرة وصلاتهم في المسجد يترتب عليه تفويت مصالح كثيرة.
وهكذا أيضًا طلاب المدارس أيضًا يصلون جماعة في مدارسهم، ولا يجب عليهم الخروج لأداء هذه الصلاة في المساجد، فإذا كان هناك مصلحة تقتضي أداء صلاة الجماعة في غير المسجد فلا بأس كما في هذه الأمثلة؛ ولذلك لا يشدد في هذه المسألة بحيث يقال: بأنه لابد أن تؤدى الصلاة مع الجماعة في المسجد لا، يقال: إذا وجدت مصلحة تقتضي صلاة الجماعة خارج المسجد فلا بأس، لكن الأصل أن صلاة الجماعة يجب أن تؤدى في المسجد، هذا هو القول الوسط وهو رأي شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله كان يفتي بهذا.
واستدلوا قالوا: ليس هناك دليل ظاهر على أنها يجب أن تؤدى في المسجد، وأداؤها في المسجد فقط لأجل إظهار الشعيرة، ليس هناك دليل ظاهر في هذا.
صلاة الجماعة بالمميز في الفرض
قوله:
ولا تنعقد بالمميز في الفرض.
يعني: هذه المسألة نحن بيَّنا المميز، وتعقب المؤلف في هذا، المؤلف رحمه الله والمذهب عند الحنابلة يرون أنه لا تصح مصافة الصبي؛ ولذلك يرون أنها لا تنعقد بالمميز في الفرض، وهذا أحد قولي العلماء في المسألة.
والقول الثاني: أنه تصح مصافة الصبي، ويصلح أن يكون إمامًا، وهذا هو القول الصحيح الذي تدل له السنة، ويدل لذلك قصة عمرو بن سلمة لما أمّ قومه وعمره سبع أو ثمان سنين، وكانوا أشياخًا، فأقره النبي على هذا، فهذا يدل على أن الصبي المميز يصح أن يكون إمامًا، وإذا صح أن يكون إمامًا صحت مصافته وانعقدت الجماعة به، فهذا هو القول الراجح في المسألة.
فيكون الصواب هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف: أنها تنعقد بالمميز في الفرض، وفي النفل من باب أوْلى.
صلاة الجماعة للنساء
قال:
وللنساء منفردات عن الرجال.
يعني: أنها تسن الجماعة للنساء منفردات عن الرجال، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فمنهم من قال: إن الجماعة تسن في حق النساء كما ذهب المؤلف، مع اتفاق العلماء على أنها ليست واجبة.
وقال آخرون: إنها مباحة في حق النساء.
والقول الثالث: أنها تكره في حق النساء.
وقد روي عن عائشة وأم سلمة أنهن كن يؤمن نساءً، ولكن لم يعرف هذا إلا في أحوال عارضة، لم يعرف أن هذا كان بصفة دائمة وبصفة مستمرة؛ ولهذا فالقول باستحبابها محل نظر؛ لأنه يحتاج إلى دليل ظاهر، ولو كانت سنة لاجتمع نساء النبي وصلين جماعة، وكانت بيوتهن متجاورة، ولم ينقل عنهن هذا، ولو كان سنة لشاع هذا وانتشر بين الصحابة .
الأقرب والله أعلم: أنها مباحة في حق النساء، وأنهن بالخيار: إن شئن اجتمعن، وإن شئت انفردن، هذا هو الأقرب؛ لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على السنية، وما ذكر من قصة عائشة، وكذلك أم سلمة، فهذا يدل على الإباحة؛ لأن هذه وقعت بصفة عارضة، وليست بصفة دائمة، ومعروف حرص الصحابة على الخير، وحرص أمهات المؤمنين على الخير، لو كانت سنة لاجتمعن في كل فرض في كل وقت.
مداخلة: النساء داخلين في التفريق في فضل صلاة الجماعة عن صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة؟
الشيخ: هذا هو محل البحث، والذي يظهر أنهن لا يدخلن في هذا، وأن هذا خاص بالرجال.
مداخلة: هل يستحب للمرأة صلاة التراويح في جماعة؟
الشيخ: هذه المسألة مرت معنا، وقلنا: إنها مستحبة، يستحب الاجتماع في صلاة التراويح وفي قيام الليل، لكن ربما يرد السؤال للنساء: هل الأفضل أن تصلي في المسجد مع الجماعة أو لا؟ والأفضل أن تصلي في بيتها لقوله: وبيوتهن خير لهن [15]، لكن بعض النساء إذا صلت في بيتها فإنها تكسل، وإذا صلت مع الجماعة صلت الصلاة أكثر وتنشط، وربما تكون الصلاة في المسجد أفضل بهذا الاعتبار، وإلا الأصل أن صلاتها في بيتها أنها أفضل.
وصلاة النافلة عمومًا لا بأس بأن تصلى جماعة، لكن بشرط مرت معنا هذه المسألة: من يذكر لنا هذا الشرط؟
أن تكون بصفة عارضة، فلو أن الشباب خرجوا للبر، أو خرجوا في سفر قالوا: بدل أن كل واحد يصلي وحده صلاة القيام وصلاة الوتر نصلي جماعة ننشط بعضنا بعضًا ما حكم هذا؟ لا بأس به، فعله النبي مع ابن مسعود ومع حذيفة، وفعله الصحابة كما في قصة عبدالرحمن وأبي الدرداء، لكن لا يكون بصفة مستمرة، إذا كان أحيانًا لا بأس، ولا شك أن فيه إعانة على الخير، وفيه تنشيط ينشط بعضهم بعضًا، فيؤمهم أحدهم، طبعًا الكلام في غير رمضان، يؤمهم ويصلي بهم ما تيسر، فهذا لا بأس به ما دام بصفة عارضة وليس بصفة مستمرة.
هذا سيأتينا إن شاء الله في الدرس القادم أن المرأة لا تؤم الرجل مطلقًا، سيأتينا إن شاء الله بالتفصيل في الدرس القادم.
والمرأة يا أخوان ليست من أهل الجمعة ولا الجماعة؛ ولذلك نحن قلنا: إنه مباح؛ لأنها ليست من أهل الجمعة ولا الجماعة.
حكم تقدم غير الإمام الراتب للإمامة
قال:
وحرم أن يؤم بمسجد له إمام راتب، فلا تصح إلا مع إذنه إن كره ذلك، ما لم يضق الوقت.
الإمام الراتب: هو الإمام الذي يعين من قبل ولي الأمر، أو الذي يتفق الجماعة على أن يكون إمامًا، وهذا الإمام الراتب له سلطان بمسجده؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ولا يؤمن الرجل الرجلَ في سلطانه [16]، وذلك أن الإمام في مسجده كالسلطان في مملكته؛ ولذلك لا يفتات عليه في هذا؛ ولهذا شدد الفقهاء في هذه المسألة، المؤلف يرى أنه يحرم أن يؤم بمسجد له إمام راتب، ما دام أن له إمام راتب فلا يجوز أن يفتات عليه أحد ويؤم الناس.
فإن فعل ذلك يقول المؤلف: “فلا تصح إلا مع إذنه” فإذا لم يأذن أتى ووجد الناس قد صلوا بغير إذنه، فظاهر كلام المؤلف أنهم يعيدون الصلاة، وأن صلاتهم لا تصح؛ لكونه قد افتات على هذا الإمام.
قال:
ما لم يضق الوقت، فإن ضاق الوقت فلهم أن يصلوا ولو بدون إذن الإمام.
هذا هو المذهب عند الحنابلة، وقد شددوا في هذه المسألة.
والقول الثاني في هذه المسألة: أنه لو افتات أحد على إمام المسجد فأم المصلين، فإن الصلاة صحيحة، لكنه يأثم هذا الإمام، وهذا هو الأقرب، والله أعلم؛ لأن هذه الصلاة مكتملة الأركان والشروط والواجبات، فلا وجه للقول بعدم صحتها، والجهة منفكة؛ ولذلك فإن الصلاة تصح لكن مع الإثم.
ولهذا ينبغي للإمام أن يوكل جماعة المسجد، أو يوكل من شاء غيره في الإمامة عنه: إما توكيلًا عامًا أو توكيلًا خاصًا، فالتوكيل الخاص: أن يوكل فلانًا من الناس أن يؤم المصلين، والتوكيل العام أن يقول لجماعة المسجد: إذا تأخرت عن موعد الإقامة فصلوا، أو يحدد لهم وقتًا معينًا، فهذا يزيل الحرج عنهم.
قال الفقهاء: وينبغي أن يراسل الإمام إن غاب عن وقته المعتاد.
وفي الوقت الحاضر يتيسر هذا عن طريق وسائل الاتصالات وخاصة الهاتف الجوال يتصل على الإمام، هل سيأتي أو لا؟ هل ينتظر أو لا ينتظر؟
وهذا يدل على عظيم مقام إمام المسجد، وأنه ينبغي أن يعرف له قدره، وأن جماعة المسجد لو أقاموا بغير إذنه وهو يكره هذا، فإن طائفة من الفقهاء، قالوا: إن صلاتهم لا تصح كما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وإن كان القول الراجح أنها تصح، لكن هذا الذي قد افتات على الإمام يأثم بذلك.
لكن لو أن الإمام لم يأذن لهم لا إذنًا عامًا، ولا إذن خاصًا، وتأخر عن الوقت المعتاد تأخرًا كثيرًا، ولا يمكن مراسلته، فهل ينتظرون أم لا؟
ظاهر كلام المؤلف أنهم ينتظرون ما لم يضق الوقت.
وقال بعض أهل العلم: إنهم لا ينتظرون إذا تأخر الإمام تأخرًا عن المعتاد، وربما يلحق الناس ضرر ومشقة، وأنهم يقدمون من يؤمهم، وهذا هو الأقرب والله أعلم، ويدل له ما جاء في الصحيحين أن النبي لما ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف وتأخر، وأمَّ الناس أبو بكر الصديق وأتى النبي والناس يصلون في القصة المشهورة.
وأيضًا أمَّ عبدالرحمن بن عوف الناس في إحدى الغزوات لما ذهب النبي يقضي حاجته وتأخر، فقضى النبي بعدما صلوا، فلما سلم قال: أحسنتم [17]، هذا في صحيح مسلم.
وهذا يدل على أنه إذا تأخر الإمام تأخر عن المعتاد، وكان ذلك التأخر يشق على جماعة المسجد أنه لا بأس أن يقدموا أحدهم.
إنما الممنوع إذًا على القول الراجح: هو أن يأتي أحد الناس ويفتات على الإمام قبل الوقت المعتاد، أو في الوقت المعتاد، ويصلي بالناس، فهذا ينبغي لجماعة المسجد أن يمنعوه؛ لأن هذا فيه افتيات على السلطان في هذا المسجد وهو الإمام، قال عليه الصلاة والسلام: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه [18].
وسنتكلم إن شاء الله تعالى أيضًا عما يكون في معنى الإمام في الدرس القادم إن شاء الله.
ما تدرك به الجماعة
ثم قال المؤلف رحمه الله:
ومن كبَّر قبل تسليمة الإمام الأولى أدرك الجماعة.
أفادنا المؤلف بهذا أن الجماعة تدرك بإدراك جزء منها، ولو بقدر التسليمة، لكن المؤلف قيد التسليمة بالتسليمة الأولى؛ لأن التسليمة الثانية ليست واجبة في قول بعض العلماء، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة أعني: مسألة ما تدرك به الجماعة على قولين مشهورين:
القول الأول: أن الجماعة تدرك بإدراك جزء من الصلاة، فمن كبر قبل سلام إمامه التسليمة الأولى فقد لحق بالجماعة وأدرك الجماعة، وهذا هو الذي ذهب إليه الجمهور، وقول الحنفية والشافعية والحنابلة على خلاف بينهم في مسألة التقييد بالتسليمة الأولى، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: إذا سمعتم الإقامة فامشوا، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا [19].
قالوا: فدل هذا الحديث بإطلاقه على أن من أدرك جزءًا من الصلاة فإنه يكون مدركًا للصلاة؛ ولأنه قد أدرك جزءًا من صلاة الإمام فأشبه ما لو أدرك ركعة، إذًا هذا هو القول الجمهور، ولا أعلم لهم دليلًا غير هذا الحديث.
القول الثاني في المسألة: أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة كاملة، وإليه ذهب المالكية، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة [20].
وهذا الحديث يدل بمنطوقه على أن من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة، ويدل بمفهومه على أن من أدرك دون ذلك لا يكون مدركًا للصلاة، ويدل لذلك من جهة القياس: أنه لو أدرك في الجمعة أقل من ركعة فقد فاتته الجمعة، ويتمها ظهرًا أربع ركعات، فإذا كانت الجمعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة، فكذلك الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة، وهذا إنما يرد على قول الشافعية والحنابلة، وإلا الحنفية عندهم حتى الجمعة تدرك بإدراك جزء منها، لكن هذا الإيراد إنما يورد على الحنابلة والشافعية.
وبعد عرض خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلتهم يظهر، والله أعلم: أن القول الراجح هو القول الثاني، وهو: أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وأيضًا هو الذي اختاره من مشايخنا: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، رحمهما الله تعالى أجمعين، وهو الذي تدل له الأدلة.
فالصواب إذًا: أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة؛ وذلك لأن حديث أبي هريرة حديث صحيح وهو في الصحيحين، وهو كالصريح في المسألة: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة فإن مفهومه: أن من لم يدرك ركعة لا يكون مدركًا للصلاة.
وأما ما استدل به الجمهور حديث: ما أدركتم فصلوا فإنه ليس بصريح في أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة، وإنما هذا إرشاد من النبي لمن أتى من يدخل مع هذه الجماعة إذا لم يجد جماعة أخرى يدخل معهم على أي حال يجد الجماعة عليه، ثم هو عام، وحديث أبي هريرة أخص وأصرح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: -انتبهوا لهذه المسألة-: ويترتب على ترجيح هذا القول -وهو أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة- مسائل:
منها: أنه إذا أتى رجلٌ مسجدًا، وقد رفع الإمام من الركوع في الركعة الأخيرة، وكان يرجو وجود جماعة أخرى، فإنه لا يدخل معهم، وإنما ينتظر حتى يصلي الصلاة مع الجماعة التي يرجوها؛ لماذا؟ لأنه لو دخل مع الإمام في هذه الحالة يفوته فضل الجماعة، لكنه إذا انتظر ثم صلى مع الجماعة التي يرجوها، فقد أدرك الجماعة، لكن هذا إذا كان يرجو وجود جماعة، أما إذا كان لا يرجو وجود جماعة، فإنه يدخل معهم على أي حال؛ لأن كونه يدخل معهم فيدرك جزءًا من الصلاة خير من كونه يصلي منفردًا، فانتبهوا لهذه المسألة.
وحتى لو دخلت معهم ثم تبيَّن لك أنها الركعة الأخيرة، يعني: أتيت مثلًا والإمام في السجود، وتبيَّن أنها الركعة الأخيرة، فقمت تقضي وأحسست بأن جماعة جديدة أقيمت، فماذا تعمل؟ تقلبها نافلة ركعتين خفيفتين، وتذهب وتصلي مع هذه الجماعة؛ وبذلك تحوز أجر الجماعة؛ لأنك لو استمريت في صلاتك فاتك فضل الجماعة، لا تحوز على سبع وعشرين درجة، بينما لو فعلت ذلك فإنك تحوز على فضل الجماعة، وأجر الجماعة.
هي أفضل لا شك، لكنه هنا الآن فاتته الجماعة الأولى، ما أدركها كونه يدرك سبع وعشرين درجة، وإن كان أقل في الفضل من الجماعة الأولى خير من كونه لا يدرك شيئًا من فضل الجماعة.
مداخلة: يا شيخ بالنسبة للفجر لو فاتته الجماعة بفوات الركعة؟
الشيخ: إذا أتى والإمام قد رفع من الركوع من الركعة الأخيرة فلا يدخل معهم، لكن كونه ينشئ سنة هذا ليس له ذلك ليس له أن يتنفل والإمام يصلي؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: فلا صلاة عام ويقتضي نفي الصحة، يعني: لا تنشئ الصلاة ابتداءً، وسيأتي الكلام عنها بعد قليل هذه المسألة.
مداخلة: لو قلنا: دخول الجماعة المتأخرة مع المسبوق؟
الشيخ: لا بأس بهذا، لكن الأولى ألا يفعلوا؛ لأن المسألة فيها خلاف، ما دام أنهم جماعة، فكونهم ينشؤون جماعة مستقلة هذا أفضل وأولى. إذن الصواب هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف.
ما تدرك به الركعة في الجماعة
قال المؤلف رحمه الله:
من أدرك الركوع غير شاكٍ أدرك الركعة.
انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عما تدرك به الركعة، فأفادنا المؤلف أن الركعة إنما تدرك بإدراك الركوع، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء، ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أبي بكرة الثقفي أنه انتهى إلى النبي وهو راكعٌ، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي وقال: زادك الله حرصًا ولا تعد [21]، ولم يأمره بقضاء تلك الركعة، وبناءً على ذلك فالركعة إنما تدرك بإدراك الركوع، لكن مع قولنا: إنها تدرك بإدراك الركوع، ما القدر المجزئ في هذا؟
قال الموفق ابن قدامة: إنما تحصل له الركعة إذا اجتمع مع الإمام في الركوع بحيث ينتهي إلى قدر الإجزاء من الركوع قبل أن يزول الإمام عن قدر الإجزاء منه.
وقدر الإجزاء من الركوع مر معنا في درس سابق القدر المجزئ من الركوع، ذكرنا أن في المسألة خلافًا، ثم رجحنا قولًا، فما هو القول الذي رجحنا في هذا؟
الانحناء بحيث يكون إلى الركوع أقرب منه إلى القيام، هذا هو أقل ما يجزئ في الركوع.
فإذا أدرك الإمام في هذا القدر يكون قد أدرك الركوع.
والأفضل لمن أتى والإمام راكع أن يكبر تكبيرتين تكبيرة الإحرام قائمًا منتصبًا قبل أن يهوي، ثم تكبيرة الركوع حال الهوي للركوع، أما إن كبر تكبيرة واحدة فلا يخلو الأمر من حالات:
الحالة الأولى: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الإحرام، فتجزئ عن تكبيرة الركوع.
الحالة الثانية: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الركوع، فإنها لا تجزئ في هذه الحال عن تكبيرة الإحرام؛ لأن تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة لا تنعقد الصلاة إلا بها، ولم يأت بها فلم تنعقد صلاته.
قال أبو داود: قلت لأحمد: أكبر مرتين أحب إليك؟ قال: إن كبر تكبيرتين ليس فيه اختلاف، وإن نوى تكبيرة الركوع خاصة لم يجزئه؛ لأن تكبيرة الإحرام ركن ولم يأتِ بها.
تجد بعض الناس يأتي ويكبر ينوي أنها تكبيرة الركوع ما يخطر بباله أنها تكبيرة الإحرام، فهذا لا تصح الصلاة؛ لأن تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة.
الحالة الثالثة: أن ينوي تكبيرة واحدة، وينوي بها تكبيرة الإحرام والركوع معًا، فهل يجزئه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة:
فقال بعضهم: إنه لا يجزئه وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة؛ ولهذا قال المرداوي في الإنصاف: لو نوى بالتكبيرة الواحدة تكبيرة الإحرام والركوع لم تنعقد الصلاة على الصحيح من المذهب.
وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة تصح ويجزئه ذلك، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وهذا هو القول الراجح -والله أعلم- أنه يجزئه، وقد اختاره الموفق ابن قدامة، قال الموفق: “من أدرك الإمام في الركوع أجزأته تكبيرة واحدة وهي تكبيرة الإحرام، وهي ركن لا تسقط بحال، وتسقط تكبيرة الركوع ها هنا، نص عليه أحمد في رواية أبي داود وصالح، وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، فكان إجماع”.
قال: “ولأنهما واجبان من جنس واحد في محل واحد أحدهما ركن، فيسقط به الآخر، كما لو طاف الحاج طواف الزيارة عند خروجه لمكة يجزئه عن طواف الوداع، وأيضًا كما لو اغتسل غسل الجنابة فيجزئه عن الوضوء في قول جمهور العلماء”.
ولهذا فنقول: إن الأولى والأكمل أن يكبر تكبيرتين: يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم، ثم يكبر تكبيرة الركوع.
إن كبر تكبيرة واحدة ونواها للجميع أجزأ، لكن الإشكال إذا نوى أنها تكبيرة الركوع، ولم ينو تكبيرة الإحرام، فإنها لا تصح صلاته.
بعض العامة يأتي ويكبر تكبيرة واحدة، وعندما يسأل: يا فلان هل نويت تكبيرة الإحرام أو نويت تكبيرة الركوع؟ يقول: والله ما أدري ما نويت شيئًا، هذا يحصل من بعض العامة أنا كبرت مع المسلمين ولا نويت شيئًا، فهل تصح صلاته أم لا؟
هذا يرد من بعض الناس ويسأل هذا السؤال ماذا نويت؟ لعلك نويت تكبيرة الإحرام يقول: والله ما نويت شيئًا، أتيت والمسلمون يصلون كبرت وصليت معهم؛ هل تصح صلاته أم لا؟
ظاهر كلام أهل العلم أن صلاته صحيحة، تنعقد وتصح وتحمل هذه التكبيرة على تكبيرة الإحرام؛ ولهذا جاء عن الإمام أحمد في رواية ابنه صالح فيمن جاء والإمام راكع وقد كبر تكبيرة واحدة قيل له: ينوي بها الافتتاح؟ قال: نوى أو لم ينو أليس هو قد جاء وهو يريد الصلاة؟ ولأن نية الركوع لا تنافي نية تكبيرة الإحرام؛ ولهذا يحكم بدخوله في الصلاة بتكبيرة الإحرام في هذه الحال.
لكن هنا تنبيه: قال الموفق رحمه الله: “وإن أدرك الإمام في ركن غير الركوع، لم يكبر إلا تكبيرة الافتتاح، وينحط بغير تكبير؛ لأنه لا يعتد له به، وقد فاته محل التكبير”.
يعني: إنما يكبر تكبيرتين إذا أتى والإمام في الركوع، لكن لو أتى والإمام في السجود يكبر تكبيرة واحدة تكبيرة الإحرام فقط، ولا يكبر تكبيرتين، وهذه تخفى على كثير من الطلاب، فإذا أتى إذًا: والإمام في غير الركوع فيكبر تكبيرة واحدة.
حكم تكبيرة الانتقال لمن أدرك الإمام راكعًا
قوله:
ويكبر تكبيرتين.
إذا أتى والإمام في الركوع فقط، أما في غير الركوع، فإنه يكبر تكبيرة واحدة كما نقلنا كلام الموفق رحمه الله في هذه المسألة.
ذكرنا تعليل الموفق قال: “ينحط بغير تكبير؛ لأنه لا يعتد له به، وقد فاته محل التكبير”، يعني: يقول: إن هذا إنما هو خاص بالركوع فقط، أما بالنسبة للسجود فليس محلًا للتكبير في هذه الحالة؛ ولذلك فإنه ينحط مباشرة بعد تكبيرة الإحرام.
يسن دخول المأموم مع إمامه كيف أدركه
قال:
وسن دخول المأموم مع إمامه كيف أدركه.
هذه هي السنة: أن المأموم إذا أتى الإمام سواءً كان قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو جالسًا، فإنه يدخل معه في أي موضع وأي حال كان عليها الإمام؛ لقول النبي : فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا [22].
قوله: فما أدرتكم فصلوا هذا يشمل جميع أحوال الإمام؛ ولهذا تجد من الخطأ أن بعض الناس يأتي مثلًا: قد فاتته ركعة من الصلاة، والإمام في السجود، فينتظر حتى يقوم الإمام من الركعة التالية، والسنة أن يدخل معه مباشرة لا داعي للانتظار، وإنما يدخل معه مباشرة، وهو وإن كان لا يعتد بتلك الركعة، لكنه يكسب ثوابًا وأجرًا، فعندما يدخل مثلًا مع الإمام في السجود، فإنه يثاب على ذلك التسبيح، ويثاب على ما يتابع مع الإمام في هذا القدر، وإن كان لا يعتد له به.
فإذًا ينبغي التنبيه على هذه المسألة، تجد كثيرًا من العامة إذا أتى والإمام مثلًا في السجود بقي واقفًا حتى يقوم للركعة التالية، هذا خلاف السنة: السنة ادخل مع الإمام في أي حال في الركوع في السجود في الرفع منه، إلا إذا كان في الركعة الأخيرة ورفع من الركوع وكانوا جماعة فهنا قلنا: إنك تدخل مع الجماعة الجديدة.
وتكبيرة الإحرام إنما تكون حال القيام، أما وهو راكع فعند كثير من الفقهاء أنها لا تنعقد؛ لأنه كبر تكبيرة الإحرام في غير محلها، فلا بد أن يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم، فبعض الفقهاء يشدد في هذه المسألة، يقول: إنها لا تصح الصلاة في هذه الحال، لكن القول: بأنها لا تصح محل نظر، وإن كان كثير من الفقهاء يشدد في هذه المسألة؛ لأنه قد أتى بتكبيرة الإحرام؛ ولأن غالب من يفعل هذا قد يكون عن جهل، فلو قلنا بهذا لأبطلنا كثير من صلاة العامة كثير منهم لا يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم.
حكم قيام المؤتم لقضاء الصلاة قبل أن يسلم الإمام
قال المؤلف:
وإن قام المسبوق قبل تسليمة إمامه الثانية ولم يرجع انقلبت نفلًا.
انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن أحوال المأموم مع الإمام، وأحواله: إما أن تكون مسابقة، أو متابعة، أو موافقة، أو تخلفًا.
أما المسابقة: فإنها محرمة، بل إنها قد تبطل الصلاة؛ ولهذا المؤلف قال: وإن قام المسبوق قبل تسليمة إمامه الثانية يعني: إنه سابقه ولم يرجع انقلبت نفلًا، وعللوا لذلك قالوا: لتركه العود الواجب بمتابعة إمامهم بلا عذر، فيخرج عن الائتمام ويبطل فرضه، وهذا إذا كان متعمّدًا، أما إذا كان جاهلًا أو ناسيًا، فالأظهر -والله أعلم- أن صلاته تصح.
صلاة النافلة إذا أقيمت صلاة الجماعة
قال:
وإن أقيمت الصلاة التي يريد أن يصلي مع إمامها لم تنعقد نافلة، وإن أقيمت وهو فيها أتمها خفيفة.
إذا أقيمت الصلاة لم تنعقد نافلة؛ لقول النبي : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة [23].
وهذا يدل على أنه لا يصح أن يُنشئ الإنسان صلاة نافلة، وأنها لا تنعقد لو فعل ذلك، لكن إن أقيمت وهو فيها أتمها خفيفة؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة يعني: ليس له أن يُنشئ صلاة إلا الصلاة المكتوبة، أما لو أقيمت وهو في الصلاة، فإنه لم يُنشئ صلاة، وإنما كان في صلاة سابقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة [24]؛ ولذلك يتمها خفيفة، وإنما نصوا على أنه يتمها خفيفة لأن إدراكه جزءًا ولو يسيرًا من الفرض خير من إتمام النفل؛ ولذلك يتمها خفيفة، واختلف العلماء في هذه المسألة فيما إذا أقيمت الصلاة وهو في صلاة نافلة:
فقال بعضهم: إنه يقطعها؛ لهذا الحديث، وهو قول النبي : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.
وقال آخرون: إنه يصلي ويتمها ولو كان الإمام يصلي، لكن قالوا: يتمها خفيفة.
والقول الثالث: قول وسط، فقالوا: إن كان في الركعة الأولى، فإنه يقطعها وجوبًا، أما إن كان في الركعة الثانية أتمها خفيفة، قالوا: لأن النبي قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.
وقال في هذا الحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.
إذا كان في الركعة الثانية قد أدرك الصلاة، ولم يُنشئ صلاة جديدة فلا يصدق عليه النهي الوارد في هذا الحديث في قوله: فلا صلاة إلا المكتوبة وهذا قال به بعض أهل الحديث، واختاره الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، ولعله الأقرب.
ولهذا نقول: إنه من كان يتنفل وأقيمت الصلاة فإن كان في الركعة الأولى قطعها، وإن كان في الركعة الثانية أتمها خفيفة، هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- في هذه المسألة.
حكم إعادة صلاة الفرض جماعة لمن صلاها منفردًا
قال:
ومن صلى ثم أقيمت الجماعة سن أن يعيد، والأُولى فرضه.
“ومن صلى ثم أقيمت الجماعة” يعني: صلى صلاة الفريضة بعد ذلك أقيمت الجماعة يعني: كان يظن أن الناس قد صلوا مثلًا أو لأي سبب صلى صلاة الفريضة، ثم أقيمت الجماعة في المسجد نفسه، أو أنه صلى صلاة الفريضة ثم ذهب إلى مسجد آخر فوجدهم يصلون، أو أنه صلى صلاة الفريضة ثم ذهب مثلًا إلى استراحة أو محل، فوجد أناسًا يصلون صلاة الجماعة، فيسن أن يدخل معهم؛ لحديث أبي ذر في هذا أن النبي قال: إذا صليت وأتيت جماعة فصل معهم تكن لك نافلة [25].
وفي بعض الألفاظ: فلا تقل: إني صليت فلا أصلي [26]، هذا في صحيح مسلم.
وأيضًا قصة الرجلين الذين صليا في رحالهما، وسألهما النبي فأخبراه، فقال: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما جماعة، فصليا معهم تكن لكما نافلة [27].
فهذه سنة، لكن هذا ليس واجبًا، وإنما هو مستحب.
قال: “والأُولى فرضه” يعني: إذا أعاد الجماعة فإن الصلاة الأُولى هي الفريضة في حقه، والثانية نافلة، ولو أراد أن يقلب النية لا يملك لكونه قد أتى بالفريضة بنيتها، فحينئذٍ تكون صلاته الثانية نافلة، إلا لو قلب النية في أثناء الصلاة كما مر معنا قبل قليل فلا بأس، كأن يصلي صلاة الفريضة وحده، ثم أحس بجماعة، فله أن يقلبها إلى نافلة، ويدخل معهم في الجماعة، أما إذا انتهى منها وفرغ منها فلا يملك حينئذٍ أن يعيدها فرضًا مرة أخرى، وإنما الأُولى هي فرضه، والثانية نافلة.
ما يتحمله الإمام عن المأمومين
ثم قال المؤلف رحمه الله:
ويتحمل الإمام عن المأموم.
ذكر المؤلف مسائل يتحملها الإمام عن المأموم:
يتحمل الإمام عن المأموم القراءة
ذكر أولًا: القراءة، قال المرداوي في الإنصاف: وقوله: وعندما نقول: إن الإمام يتحملها فليس معنى ذلك أنها غير واجبة عليه، بل هي واجبة عليه، ولكن المعنى أن الإمام يتحملها عنه فقط.
وعبارة الإنصاف قال: لا تجب القراءة على المأموم معناه: أن الإمام يتحملها عنه، وإلا فهي واجبة عليه، هذا معنى كلام القاضي وغيره.
مسألة تحمل الإمام القراءة عن المأموم هذه سبق أن تكلمنا عنها في درس سابق بالتفصيل، وذكرنا أقوال العلماء فيها وأدلتهم، ورجحنا القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما هو هذا القول؟
قلنا: إن القول الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وهو القول الراجح في هذه المسألة، والله أعلم، أنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة إذا كان يسمع قراءة إمامه في الصلاة الجهرية، وأما في الصلاة السرية فيجب.
وهذا هو القول الأظهر، وسبق أن أتينا بكلام شيخ الإسلام هنا وقرأناه، وذكرنا له أدلة كثيرة تدل على رجحان هذا القول، وأن قراءة الإمام قراءة للمأموم.
لكن قول المؤلف هنا:
يتحمل الإمام عن المأموم القراءة.
ظاهره أنه حتى فيما يسر به؛ يعني: في الصلاة السرية والجهرية، وهذا هو الصحيح عند الحنابلة حتى في الصلاة السرية أيضًا، ولكن القول الراجح أنه في الصلاة السرية تجب على المأموم، وإنما فقط في الصلاة الجهرية هي التي لا تجب، وأجبنا عن حديث: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها [28]؛ قلنا: إن هذا الحديث منسوخ، وذكرنا الناسخ له، وهو حديث أبي هريرة، فانتهى الناس لما قال عليه الصلاة والسلام: ما لي أُنازع القرآن؟ [29]؛ فانتهى الناس حينما سمعوا هذا من النبي ، وذكرنا هذا بالتفصيل في درس سابق فلا نعيده.
سجود السهو
قال:
وسجود السهو.
يعني: يتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو، فإذا سها المأموم فلا يجب عليه أن يسجد للسهو، ويتحمل عنه الإمام سجود السهو، لكن هذا بشرط، أشرنا إلى هذه المسألة عندما تكلمنا عن مسألة سجود السهو، فما هو هذا الشرط؟
الجواب: بشرط أن يدخل معه من أول الصلاة.
وهذا إذا ترك المأموم واجبًا، أو لو ترك ركنًا فأيضًا نبهنا إلى أنها تبطل تلك الركعة، وعليه أن يقوم المأموم بقضائها بعد سلام إمامه.
وهكذا لو كان أيضًا مسبوقًا، فالصحيح أن الإمام لا يتحمل عن المأموم سجود السهو، وإنما يسجد المأموم في آخر صلاته سجود السهو.
سجود التلاوة
قال:
وسجود التلاوة.
يعني: إذا قرأ في صلاته آية سجدة، فإن المأموم لا يسجد في هذه الحال، وهكذا لو قرأ الإمام آية فيها سجود تلاوة ولم يسجد الإمام، فإن المأموم لا يسجد؛ لأنه تبع لإمامه في هذه الحال، ويتحمل عنه الإمام هذا.
سترة الإمام سترة لمن خلفه
قال:
والسترة لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “أقبلت راكبًا على حمار أتان، ورسول الله يصلي بالناس إلى غير جدار، فدخلت بين يدي الصف، ولم ينكر عليّ منكر” [30].
فدخل بالحمار مع أن الحمار يقطع الصلاة، لكنه لما دخل بين يدي المصلين عُلم أن هذا لا يقطع الصلاة؛ لأن سترة الإمام سترة للمأموم.
دعاء القنوت
قال:
ودعاء القنوت.
يعني: أن الإمام يتحمل عن المأموم دعاء القنوت، فيكفي أن يؤمن المأموم على دعائه، ولا حاجة لأن أعيد الدعاء مرة أخرى، وهذا هو الذي عليه عمل المسلمين من قديم الزمان، والمؤمن له أجر الداعي؛ ولهذا قال الله تعالى عن موسى وهارون: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89] مع أن الداعي موسى، وهارون فقط إنما كان يؤمن.
التشهد الأول إذا سبق بركعة في رباعية
قال:
والتشهد الأول إذا سبق بركعة في رباعية.
إذا أتى المسبوق وقد فاتته ركعة ودخل مع الإمام فالركعة الثانية هي الثانية في حق الإمام، وفي حق هذا المسبوق تكون الأولى، فإذا قام الإمام للركعة الثالثة تكون الثانية في حق المسبوق، فيفترض أن هذا المأموم المسبوق يجلس بعد الركعة الثالثة، لكنه لا يُشرع له أن يجلس متابعة لإمامه، فمعنى ذلك: أنه سوف يترك التشهد الأول، لكن هذا التشهد يتحمله الإمام عنه، ولاحظ هنا أن هذا المسبوق يجلس للتشهد الأول في غير موضع جلوسه، وهو يجلس بعد الركعة الأولى في حقه، ولا يجلس في موضع جلوسه، كل هذا متابعة للإمام، وهذا يدل على عظيم شأن المتابعة، وانظر كيف أن المأموم يترك أمرًا واجبًا عليه لأجل المتابعة.
قراءة المأموم في الجهرية
قال:
وسن للمأموم أن يستفتح ويتعوذ في الجهرية ويقرأ الفاتحة، وسورة حيث شرعت.
يعني: السورة، وهذا تفريع عن المسألة السابقة وهي: أن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة، فيقول: ما دام أن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة، فهذا التحمل فيما يجهر به الإمام، ومن المعلوم أن الإمام لا يجهر بالتعوذ ولا بالاستفتاح؛ ولذلك فالمأموم يستفتح ويتعوذ؛ لكون الإمام لا يجهر بهما.
قال:
ويقرأ الفاتحة وسورة حيث شرعت -يعني: السورة- في سكتات إمامه على سبيل الاستحباب.
ولهذا قال: “وسن” فعندهم قالوا: إنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة، لكن يُسن له أن يقرأ هذه الفاتحة في سكتات إمامه.
ما هي سكتات الإمام؟
أولًا: قال: “قبل الفاتحة” في الركعة الأولى فقط بعد دعاء الاستفتاح.
قال:
وإن تمكن بعد دعاء الاستفتاح أن يقرأ الفاتحة قبل أن يشرع الإمام في الفاتحة سن له ذلك، وبعدها -يعني: بعد الفاتحة- وبعد فراغ القراءة.
والصحيح أن سكتات الإمام كما حقق ذلك ابن القيم وجماعة: أنها سكتتان:
- السكتة التي تكون بعد تكبيرة الإحرام، وهي سكتة لأجل قراءة دعاء الاستفتاح.
- وسكتة لطيفة بقدر ما يتراد النفس بعد الفراغ من القراءة يعني: من قراءة السورة.
وأما السكتة التي بعد الفاتحة: فقد روي في ذلك حديث عند أبي داود وغيره، لا يصح، لكنه حديث ضعيف؛ ولهذا لا يشرع للإمام أن يسكت بعد الفراغ من الفاتحة، هذا غير مشروع؛ لأن هذا السكوت يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل صحيح يدل لهذا، وهذا مما يؤيد القول بأن المأموم لا يجب عليه قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية؛ لأنه لو كان هذا واجبًا لشرع للإمام أن يسكت بعد قراءة الفاتحة، والمأموم لا يشرع له أن يسكت، بل إن بعض العلماء اشتد في هذه المسألة، فقال: إن سكوت الإمام بعد قراءة الفاتحة بدعة، لكن القول بالبدعة قول شديد، فالذي يظهر أنه لا يصل إلى هذه الدرجة، لكنه غير مشروع؛ لكون الحديث المروي في ذلك حديث ضعيف.
قراءة المأموم في الصلاة السرية
قال:
ويقرأ فيما لا يجهر فيه متى شاء.
يعني: أن المأموم في الصلاة السرية يقرأ متى شاء، لكن نحن رجحنا أن في الصلاة السرية يجب على المأموم قراءة الفاتحة، لكن هذا الذي ذكره المؤلف تفريع على قولهم: بأن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة في الصلاة السرية، وفي الصلاة الجهرية.
وبذلك نقول على القول الراجح: المأموم يقرأ الفاتحة في الصلاة السرية، وكذلك يشرع له أن يقرأ سورة بعدها، وأما الصلاة الجهرية، فإنه لا تجب عليه القراءة، وهذه المسألة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا سبيل للاحتياط فيها”، ما فيها مجال للاحتياط، فالحنفية يقولون كما مر معنا في درس سابق: يحرم على المأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية؛ لأنه لم ينصت لقراءة الإمام، والشافعية يقولون: يجب، هذه من أعجب المسائل: طائفة يقولون: يجب، وطائفة يقولون: يحرم.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لا سبيل للاحتياط فيها، فلا بد من الترجيح بالأدلة، وقد تكلم في هذه المسألة في مجموع الفتاوى وأطال، ورجح القول بأنها إنما تجب في الصلاة السرية دون الصلاة الجهرية.
وبذلك نقول: إنها لا تُشرع قراءة الفاتحة في سكتات الإمام، لا حاجة لهذا، إلا إذا كان الإنسان يرى قوة القول -قول الشافعية- بوجوب قراءة الفاتحة، فإنه يقرأ ولو كان الإمام يقرأ، هذا على رأي من يرى وجوب قراءة الفاتحة مطلقًا، سواءً في الصلاة السرية، أو في الصلاة الجهرية.
الحاشية السفلية
^1 | بنحوه رواه مسلم: 653. |
---|---|
^2, ^11 | رواه البخاري: 644، ومسلم: 651. |
^3 | رواه أحمد: 8796. |
^4, ^13 | رواه مسلم: 654. |
^5 | رواه البخاري: 645، ومسلم: 650. |
^6 | رواه الحاكم في المستدرك: 898، والبيهقي في السنن الكبرى: 4942، والدارقطني: 1552. |
^7 | رواه ابن ماجه: 793. |
^8 | رواه البخاري: 630. |
^9 | رواه ابن ماجه: 972، والبيهقي في السنن الكبرى: 5008، والدارقطني: 1088. |
^10 | رواه أبو داود: 495. |
^12 | رواه أبو داود: 551، وابن ماجه: 793، وابن حبان: 2064، والحاكم في المستدرك: 894، والبيهقي في السنن الكبرى: 5585، والدارقطني: 1555. |
^14, ^18, ^24 | سبق تخريجه. |
^15 | رواه أبو داود: 567. |
^16 | رواه مسلم: 673. |
^17 | رواه مسلم: 274. |
^19, ^22 | رواه البخاري: 635، ومسلم: 603. |
^20 | رواه البخاري: 580، ومسلم: 607. |
^21 | رواه البخاري: 783. |
^23 | رواه مسلم: 710. |
^25 | بنحوه رواه مسلم: 648. |
^26 | رواه مسلم: 648. |
^27 | رواه الترمذي: 219، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 858، وأحمد: 17474. |
^28 | رواه أبو داود: 823، والترمذي: 311، وقال: حسنٌ. |
^29 | رواه أبو داود: 826، والترمذي: 312، وقال: حسنٌ، والنسائي: 919، وابن ماجه: 848، وأحمد: 7819. |
^30 | رواه البخاري: 76، ومسلم: 504. |