عناصر المادة
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل في شرح الدليل”، وهذا هو الدرس السادس والسبعون، وكنا قد وصلنا إلى:
باب الرجعة
باب الرَّجعة
تعريف الرجعة ومشروعيتها
الرَّجعة، قال: المصنف رحمه الله:
وهي إعادة زوجته المطلقة إلى ما كانت عليه بغير عقدٍ.
الرَّجعة في اللغة من الرجوع، فمعنى أرجع زوجته: يعني: أعاد عقد الزوجية إلى ما كان عليه.
وحقيقة الرجعة عند الفقهاء: هي ما ذكره المؤلف: أنها “إعادة الزوجة المطلَّقة إلى ما كانت عليه بغير عقدٍ”، فإن الرجعية حكمها حكم الزوجة؛ فيُرجعها الزوج من غير عقدٍ، وبغير رضاها، وبغير مهرٍ، لكن لا بد أن تكون رجعيةً، ولذلك لو أن المؤلف قيَّد قوله: “زوجته المطلقة”، قال: غير البائن، لو قال المؤلف: غير البائن؛ لكان أجود في العبارة.
والرجعة ثابتةٌ بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: ففي عدة آياتٍ؛ منها: قول الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228]، الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229]، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231].
وأيضًا لما طلق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر : مره فليراجعها [1].
وأجمع العلماء على مشروعية الرجعة.
وقول المؤلف: “إعادة زوجته المطلقة إلى ما كانت عليه بغير عقدٍ”، يدل على أن المطلقة ما دامت في العدة؛ فله أن يراجعها بغير عقدٍ، وبغير مهرٍ، وبغير رضاها؛ لأنها لا زالت زوجةً؛ ولذلك لو قُدِّر أن أحد الزوجين مات خلال فترة العدة؛ فيتوارثان، لو أن رجلًا طلق زوجته طلاقًا رجعيًّا -طلقةً واحدةً- ثم مات الزوج، أو ماتت الزوجة في العدة؛ فكل منهما يرث الآخر؛ لأنها لا زالت زوجةً، وتأخذ جميع أحكام الزوجة ماعدا الوطء.
شروط الرجعة
قال:
ومن شرطها: أن يكون الطلاق غير بائنٍ، وأن تكون في العدة.
ذكر المؤلف شرطين، ونضيف لهذين الشرطين ثلاثة شروطٍ أيضًا:
- الشرط الأول: قال: “أن يكون الطلاق غير بائنٍ”، فإن كان الطلاق بائنًا؛ فلا رجعة فيه، سواءٌ كانت بينونةً كبرى أو صغرى، تكلمنا في الدرس السابق عن البينونة الصغرى والبينونة الكبرى.
- والشرط الثاني: أن تكون الرجعة في العدة، وهي: ثلاثة قروءٍ إن كانت ممن يحيض، وثلاثة أشهرٍ إن كانت ممن لا يحيض، فإن خرجت من العدة؛ فلا رجعة.
- والشرط الثالث لم يذكره صاحب “الدليل”: أن تكون المرأة مدخولًا بها، فإن كانت غير مدخولٍ بها؛ فلا عدة بالإجماع؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
- الشرط الرابع: أن يكون ذلك في نكاحٍ صحيحٍ، احترازًا من النكاح الفاسد.
- الشرط الخامس: وهذا شرطٌ مهمٌّ، هذا الشرط ذكره ابن تيمية وغيره من المحققين من أهل العلم؛ أن يغلب على ظن الزوجين أن يقوم كل واحدٍ منهما بمعاشرة الآخر بما يجب عليه، أن يغلب على ظنهما أن يقيما حدود الله؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
فَإِنْ طَلَّقَهَا، هذا سقط من “السلسبيل”، أضيفوه، لعله يُستدرك -إن شاء الله- في الطبعة القادمة، سقط أثناء الصف، وإلا هو كان مراجعًا، لكن في أثناء الصف سقطت تكملة الآية، وهو محل الشاهد من الآية: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230]، الذي معه نسخة “السلسبيل” يضيفه؛ لأن هذا هو موضع الشاهد.
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فهنا الله أباح الرجعة مشروطةً: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا بشرط إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، أما إذا لم يظنا أن يقيما حدود الله؛ فليس لهما أن يتراجعا، وقول الله : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228]، وقوله: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، فلا بد إذنْ عند المراجعة أن يريدا الإصلاح وإقامة حدود الله، أما إذا لم يُرِدا الإصلاح، وإنما أراد الزوج بالمراجعة المضارة؛ فإن الرجعة لا تصح بناءً على هذا القول، وسيأتينا بعد قليلٍ أن الزوج لو راجع زوجته المطلقة، وكتم مراجعتها حتى خرجت من العدة وتزوجت بزوجٍ آخر؛ أن مراجعته إياها لا تصح، وصدر في هذا مبدأٌ من المحكمة العليا، سنبين هذا بعد قليلٍ إن شاء الله.
إذنْ الشرط الخامس: أن يغلب على ظنهما أن يقوم كل واحدٍ منهما بمعاشرة الآخر..
حكم الرجعة بعد انقطاع الحيضة الثالثة قبل الاغتسال
قال:
وتصح الرجعة بعد انقطاع دم الحيضة الثالثة حيث لم تغتسل.
العدة بالنسبة للحائض ثلاث حيضاتٍ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، يعني: ثلاث حِيَضٍ، لكن متى تنقضي العدة؟ هل تنقضي العدة بمجرد انقطاع الدم؟ أو تنقضي العدة بالاغتسال؟
قولان للعلماء:
- القول الأول: أن العدة لا تنقضي إلا بالاغتسال؛ وبناءً على ذلك: تصح الرجعة بعد انقطاع دم الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بأن هذا هو المأثور عن كثيرٍ من الصحابة والتابعين، وقد نُقل عن ثلاثة عشر صحابيًّا: نُقل عن أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ وابن مسعودٍ وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبلٍ وغيرهم ، فنُقل عن ثلاثة عشر صحابيًّا أنهم قالوا: إنه يصح أن يراجعها بعد انقطاع دم الحيضة الثالثة ما لم تغتسل؛ ولهذا قال الشعبي: ثلاثة عشر صحابيًّا، الخيِّر فالخيِّر، منهم: أبو بكرٍ وعمر وابن عباسٍ، قالوا: إنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
وقال الموفق بن قدامة: ووجه اعتبار الغسل: قول الأكابر من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم؛ فيكون إجماعًا.
لاحِظ أن هذا هو المأثور عن الصحابة ، ولم يُنقل عن غيرهم خلافه؛ وهذا مما يقويه، وهذا يسمى، يعني هذا يَرِد عليه مسألة: قول الصحابي إذا لم يخالفه صحابيٌّ آخر.
- القول الثاني: أخذوا بظاهر النصوص، قالوا: إن العدة تنقضي بمجرد انقطاع الدم من الحيضة الثالثة حتى لو لم تغتسل؛ وبناءً على ذلك: لا تصح الرجعة بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة، وهذا قول طاوسٍ وسعيد بن جبيرٍ والأوزاعي، واستدلوا بقول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، قالوا: والقُرء: الحيضة، وقد زالت ثلاث حيضاتٍ.
والراجح -والله أعلم- هو القول الأول: وهو أن العدة لا تنقضي إلا بالاغتسال من الحيضة الثالثة، وتصح الرَّجعة بعد انقضاء دم الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل؛ لأن هذا هو المأثور عن الصحابة ، ونُقل عن ثلاثة عشر صحابيًّا، ولم يُعرف لهم مخالفٌ، وإن كان القياس يقتضي ألا تصح الرجعة بعد انقطاع الدم؛ لأنه انقضت ثلاث حيضاتٍ؛ لكن هذا هو قول الصحابة ، ولا يُعرف عنهم خلافٌ ذلك؛ فيكون -كما قال الموفق- كالإجماع من الصحابة على ذلك.
وتظهر ثمرة الخلاف في رجلٍ طلق زوجته طلقةً واحدةً، وحاضت الحيضة الأولى، وحاضت الحيضة الثانية، ثم اتصلت على زوجها وأخبرته بأنها قد حاضت الحيضة الثالثة، وانقطع الدم وطهرت، فأراد الزوج أن يراجعها في هذه الفترة، ما بين انقطاع الدم من الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل.
فعلى القول الأول: تصح الرجعة، وعلى القول الثاني: لا تصح.
والقول الراجح: أنها تصح ما دامت لم تغتسل، فتصح الرَّجعة ولو كان قد انقطع الدم.
حكم الرجعة قبل وضع ولدٍ متأخرٍ
قال:
وتصح قبل وضع ولدٍ متأخرٍ.
عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل، وهذا بالإجماع، لكن إذا كانت المرأة حاملًا بتوأمٍ، ووضعت الأول، هل تنقضي عدتها؟
الجواب: لا، لا تنقضي إلا بوضع الولد الثاني، وإن كان في المسألة قولٌ آخر، حُكي عن عكرمة: أنها تنقضي بوضع الأول، لكنه قولٌ شاذٌ، والصواب ما عليه عامة أهل العلم، فلو كانت ولدت مثلًا ولدين، لا تنقضي إلا بوضع الولد المتأخر.
ألفاظ الرجعة
وألفاظها:
يعني: ألفاظ الرَّجعة.
راجعتها، ورجعتها، وارتجعتها، وأمسكتها، ورددتها، ونحوه.
وقوله: “ونحوه”، يدل على أن ألفاظ الرجعة عند الحنابلة ليست محصورةً، مع أنهم في ألفاظ النكاح وألفاظ الطلاق حصروا الألفاظ، لكن هنا لم يحصروها، والصواب عدم حصر الألفاظ، لا النكاح ولا الطلاق ولا الرجعة؛ كلها لا تنحصر، كل ما دل على المعنى فإنه يقتضيه، وبعض ألفاظ الرجعة التي ذكرها المؤلف وردت في القرآن والسنة؛ فمثلًا: “أمسكتها”، ورد في قول الله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، و”رددتها” ورد في قول الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:288]، “راجعتها” ورد في قول النبي : مره فليراجعها [2].
حصول الرجعة بالوطء
قال:
ولا تشترط هذه الألفاظ.
يعني: لو كانت بأي لفظٍ يدل على المراجعة؛ صح.
بل تحصل رجعتها بوطئها.
يعني: لو لم يَقُل الزوج لمطلقته الرجعية: راجعتك، لكنه جامعها، فهل تحصل الرجعة بمجرد الجماع أم لا؟
هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء على ثلاثة أقوالٍ:
- القول الأول: أن الرجعة تحصل بمجرد الوطء، سواءٌ نوى الرجعة أو لم ينوِ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، ورُوي عن سعيد المسيب والحسن وابن سيرين وعطاءٍ وطاوسٍ والزهري والثوري والأوزاعي، ولكن يَرِد عليه أن هذا فعلٌ بلا نيةٍ، وقال النبي : إنما الأعمال بالنيات [3].
- القول الثاني: أن الرجعة لا تحصل بالجماع مطلقًا حتى ولو نواه، وأن الرجعة لا تحصل إلا بالقول، وهذا مذهب الشافعية.
- والقول الثالث قولٌ وسطٌ بين القولين: أن الرجعة تحصل بالجماع بشرط أن ينوي الرجعة، ولا تحصل بالجماع من غير نية المراجعة.
فتحصل إذنْ الرجعة بالوطء بالنية، ولا تحصل بالوطء بغير نيةٍ، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وهذا هو القول الراجح، واختاره الإمام ابن تيمية، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ قالوا: لأن الرجعة حقيقتها ترجيع هذه المطلقة إلى ما كانت عليه، ولا يحصل بمجرد الوطء، بل لا بد من الوطء مع النية، ومثل أيضًا: الوقف، إذا فعل فعلًا مقرونًا بنيةٍ؛ حصل الوقف، يعني مثلًا: من بنى مسجدًا ولم يقُل: هذا المسجد وقفٌ، لكن أذِن للناس بالصلاة فيه؛ يصبح وقفًا، من أحاط مقبرةً بسورٍ وأذِن للناس بالدفن فيها؛ تصبح وقفًا، فالفعل المقرون بالنية يقوم مقام القول؛ وعلى ذلك نقول: إنه إذا جامع زوجته المطلقة طلاقًا رجعيًّا بنية إرجاعها؛ رجعت، أما إذا جامع بغير نية الإرجاع؛ لم ترجع لكنه يأثم؛ وعلى ذلك: فلا يجوز للمطلِّق طلاقًا رجعيًّا أن يجامع زوجته الرجعية إلا بنية الإرجاع، ولا يجوز له أن يجامعها بغير نية الإرجاع، هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
مداخلة:…
الشيخ: قد لا يدل، أنا أذكر أن رجلًا مستفتيًا أتى إليَّ وقال: إنه وَطِئ زوجته المطلقة طلاقًا رجعيًّا بغير نية الإرجاع، قلت: ما نويت الإرجاع؟ قال: لا، ما نويت إرجاعها، هذا يحصل، بعض الناس قد يحصل منه هذا الأمر.
والمطلقة الرجعية، السنة أن تبقى في بيت مطلِّقها، لا يجوز أن تَخرج ولا أن تُخرَج؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]، وهذه السنة لا يطبِّقها كثيرٌ من الناس اليوم، فتجد أن المطلقة..، أن المرأة إذا طُلِّقت؛ تذهب لبيت أهلها، وتقضي عدتها في بيت أهلها، ولا يجوز هذا، لا يجوز أن تَخرج ولا أن تُخرَج إلا في حالةٍ واحدةٍ: أن تأتي بفاحشةٍ مبينةٍ، وما عدا ذلك فالسنة أن تبقى المطلقة طلاقًا رجعيًّا في بيت زوجها، والحكمة من ذلك: هي قول الله : لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
قال العلماء: ينبغي للمطلقة طلاقًا رجعيًّا أن تستشرف لمطلِّقها، وأن تتزين له؛ لعله أن يراجعها؛ ولذلك انظر إلى حكمة الشريعة في الطلاق، يطلقها طلقةً واحدةً في طُهرٍ لم يجامعها فيه، وتبقى في بيته ثلاثة أشهرٍ، يعني ثلاثة قروءٍ، تقريبًا ثلاثة أشهرٍ، فرجلٌ تبقى مطلقته في بيته ثلاثة أشهرٍ ولا يراجعها؛ معنى ذلك: أن نفسه طابت منها، لو كان يريد إرجاعها؛ أرجعها، هذه مهلةٌ كافيةٌ، ثلاثة أشهرٍ مهلةٌ كافيةٌ، فإذا بقيت عنده في البيت ثلاثة أشهرٍ ولم يراجعها؛ معنى ذلك: أن نفسه قد طابت منها؛ ولذلك تجد أنه لا يندم، من اتقى الله في أمر الطلاق فإنه لا يندم، ولا يحتاج إلى أن يستفتي، لكن بعض الناس يؤتى من جهة العجلة، يستعجل ويطلق، ثم المرأة تذهب لبيت أهلها، ثم يحصل الندم؛ لأنهم لم يتقوا الله في أمر الطلاق، ولو اتقوا الله سبحانه؛ لطلَّق الزوج طلقةً واحدةً في طُهْرٍ لم يجامعها فيه، وبقيت عنده قرابة ثلاثة أشهرٍ، فإذا كان يريدها؛ سيُرجعها، وإذا مضت هذه المدة ولم يُرجعها؛ معنى ذلك: أن نفسه قد طابت منها، ولن تتبع نفسه إياها؛ لأن هذه مدةٌ كافيةٌ لكي يراجع نفسه.
حكم الرجعة بلفظ النكاح والزواج
قال:
لا بــ: نكحتها، أو تزوجتها.
يعني: لا تصح الرجعة بهذين اللفظين؛ لأنهما كنايةٌ، والرجعة استباحة بُضْعٍ مقصودٍ؛ فلا تحصل بالكناية.
والقول الثاني: أنه تصح الرجعة بذلك، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه إذا كانت المرأة الأجنبية تباح بهذا؛ فالرجعية من باب أولى.
ويستحب الإشهاد على الرجعة ولا يجب، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة؛ لقول الله : فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2].
قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، هل المقصود: أشهدوا ذوي عدلٍ منكم على: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أم على: فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ؟ تأمل الآية: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، هل المقصود: أشهدوا ذوي عدل منكم على الإمساك، أم على المفارقة؟
نعم، على الأمرين جميعًا: على الإمساك الذي هو الرجعة، وعلى المفارقة التي هي الطلاق.
وإذا كان الإشهاد على الطلاق لا يجب بالإجماع؛ فالإشهاد على الرجعة من باب أولى، لكن يستحب أن يُشهِد شاهدين على مراجعته لزوجته، يقول لاثنين: اشهدا بأني راجعت زوجتي فلانة، وترجع بذلك، لكن لو لم يُشهد، وقال لزوجته: راجعتك؛ ترجع، لو أيضًا وطئها بنية الإرجاع؛ ترجع مباشرةً ولو لم يتكلم، وقد رُوي عن عمران بن حُصينٍ أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ولم يُشهِد على طلاقها ولا رجعتها؟ فقال: “طَلَّقْتَ لغير سُنةٍ، وراجَعْتَ لغير سنةٍ، أَشْهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُدْ” [4].
فقوله: “ولا تعد”، يدل على أنه لا يرى الوجوب، وإنما الاستحباب، وهذا هو قول عامة أهل العلم: أن الإشهاد على الرجعة مستحبٌّ وليس واجبًا.
هذه المسألة التي أشرت إليها قبل قليلٍ: الرجعة مع الكتمان، وهذه تحصل، خاصةً عندما يكون هناك شقاقٌ بين الزوجين، فعندما يكون شقاقٌ بين الزوجين؛ يحصل شيءٌ من الانتقام، فالزوج يريد أن ينتقم من هذه المرأة، فيطلقها ثم يراجعها في العدة، ويُشهِد شاهدين، ولا يُخبرها ولا يخبر أهلها بذلك، حتى إذا انقضت العدة وتزوجت؛ أتى إليهم وقال: أنا راجعتها أصلًا، وزواجها هذا باطلٌ، وهذا يحصل كثيرًا، فهذه المسألة: مسألة كتمان الرجعة، ثم انقضاء عدة هذه المرأة، وربما تكون قد تزوجت بزوجٍ آخر، فهل يصح نكاحها للزوج الآخر أو لا يصح؟
جمهور أهل العلم على أن الرجعة تصح مع الكتمان، وأن نكاحها من الثاني غير صحيحٍ.
والقول الثاني: أن الرجعة لا تصح مع الكتمان، وأن نكاحها من الثاني صحيحٌ، وهذا القول مرويٌّ عن عمر من الصحابة، ومرويٌّ أيضًا عن الحسن من التابعين، وعن الأوزاعي ومالكٍ والليث، وهو أيضًا مرويٌّ عن الإمام أحمد، كما في رواية أبي طالبٍ، واختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله، وصدر فيه مبدأٌ قضائيٌّ من المحكمة العليا عندنا في المملكة باعتماد هذا القول، ودليله: قالوا: إن الله ذكر أحقية الأزواج في رد الزوجة، باشتراط أن يكون ذلك بقصد الإصلاح، فقال سبحانه: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228]، وقال: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230]، والذي يطلق زوجته طلاقًا رجعيًّا، ويراجعها في العدة ولا يخبرها بذلك حتى تنقضي عدتها وتتزوج؛ لم يُرِد الإصلاح، هذا لم يُرِد الإصلاح، إنما أراد الإضرار بها، والإضرار ممنوعٌ شرعًا.
وعلى ذلك، خاصةً في وقتنا الحاضر: بإمكانه أن يُبلِغ المرأة وأهلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولو أن يرسل رسالةً بأني قد راجعت زوجتي فلانة، يرسل لها أو لأبيها أو لأخيها، أو حتى لأمها أو لها، يرسل رسالةً بأني قد راجعت زوجتي فلانة؛ حتى تنتبه فلا تتزوج بآخر، كونه يُراجعها ويكتم الرجعة، وينتظر حتى إذا ظنت أنها خرجت من العدة وتزوجت بزوجٍ آخر؛ رجع وقال: أنا كنت راجعتك، وزواجك من الثاني غير صحيحٍ، نقول: لا، يُعامل هذا بنقيض قصده، ويقال: إن زواجها من الثاني زواجٌ صحيحٌ، وأن رجعتك لا تصح؛ لأنك إنما راجعت بقصد الإضرار، والله يقول: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228].
هذا هو القول الأقرب لأصول القواعد الشرعية، وفيه ردعٌ لأولئك الأزواج الظلمة؛ فإن بعض الناس يَغلِب عليه الظلم، ويريد الانتقام من هذه المرأة بأية طريقةٍ، فعندما يطلقها يراجعها ويُشهد شاهدين ويَكتم ذلك، وينتظر يُراقب هذه المرأة، حتى إذا انقضت العدة وتزوجت؛ أتى إليهم، قال: أصلًا هي لازالت في عصمتي، وزواجها الثاني غير صحيحٍ، نقول: لا، أنت لم تخبرهم بأنك راجعتها؛ فمُراجعتك غير صحيحةٍ، وزواجها من هذا الرجل الثاني صحيحٌ، هذا هو القول الراجح الذي اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم، والذي اعتمدته المحكمة العليا مبدأً قضائيًّا، وأصبح عليه العمل عندنا في القضاء في المملكة.
مداخلة:…
الشيخ: لا بد إذا أرجعها الزوج أن يخبرها بأنه أرجعها، أما كونه لا يخبرها؛ يترتب على هذا: أنها إذا انقضت العدة؛ تتزوج وهي لا زالت في عصمة الأول، فلا بد..، كونه لا يخبرها؛ هذا يدل على أنه أراد بالإرجاع الإضرار، ما أراد الإصلاح، لو أراد الإصلاح؛ لأخبرها، والمحكمة العليا لم تتبَنَّ هذا المبدأ إلا بسبب قضايا ومشاكل وردت في هذا، وردت مشاكل كثيرةٌ، أن بعض الأزواج يُراجع في العدة ويكتم ذلك، لا يُخبر حتى تتزوج، إذا تزوجت؛ أخبر، يريد الانتقام، فالمحكمة العليا تبنَّت هذا المبدأ، وهو قرارٌ موفقٌ، وهو الذي تدل له الأدلة والأصول والقواعد الشرعية.
ما تعود عليه المرتجعة من الطلاق بعد البينونة
قال:
ومتى اغتسلت من الحيضة الثالثة ولم يرتجعها؛ بانت، ولم تحل له إلا بعقدٍ جديدٍ.
إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة؛ فإنها تبين منه بينونةً صغرى، ولا تحل له إلا بعقدٍ ومهرٍ جديدٍ، وبرضاها أيضًا.
قال:
وتعود على ما بقي من طلاقها.
يعني: تعود المطلقة بعد الرجعة على ما بقي من عدد الطلقات، وهذه المسألة محل خلافٍ، ولعلنا أولًا نحرر محل الخلاف:
- أولًا: إذا طلقها دون ثلاثٍ، ثم رجعت إليه بنكاحٍ جديدٍ؛ فتعود على ما بقي من طلاقها، هذا رجلٌ طلق امرأته طلقةً واحدةً، ثم راجعها في العدة، أو حتى بعد انقضاء العدة، بعقدٍ جديدٍ، تحسب عليه الطلقة الأولى.
- ثانيًا: إذا طلقها ثلاثًا، ثم خرجت من العدة ونكحت زوجًا غيره، ثم طلقها الزوج الثاني وتزوجها الزوج الأول؛ فيكون له ثلاث تطليقات؛ لأن نكاحها من الزوج الثاني هدم التطليقات كلها، فيرجع من جديدٍ بثلاث تطليقاتٍ.
- ثالثًا: وإنما محل الخلاف إذا طلقها دون ثلاثٍ وانقضت عدتها، يعني بانت بينونةً صغرى، ثم تزوجت زوجًا آخر، ثم طلقها الزوج الآخر وتزوجها زوجها الأول، فهل تحسب هذه التطليقات طلقةً أو طلقتين؟ أو لا تحسب ويقال: له ثلاث تطليقات؟ واضحةٌ صورة المسألة؟
هذا هو محل الخلاف: رجلٌ طلق زوجته طلقةً أو طلقتين، وانقضت عدتها وتزوجت بزوجٍ آخر، ثم طلقها الزوج الآخر، ثم نكحها زوجها الأول، طيب الطلقة والطلقتان هذه، هل تحسب أو لا تحسب؟
هذه المسألة محل خلافٍ.
- القول الأول: أنها تحسب، وأنها تعود على ما بقي من الثلاث، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بأن هذا هو المأثور عن أكثر الصحابة.
لاحِظ: مذهب الحنابلة في الغالب يعتمد على الآثار عن الصحابة؛ لأن الإمام أحمد صاحب سنةٍ وأثرٍ.
لاحِظ: المسألة السابقة، اعتمدوا على الآثار عن الصحابة، أيضًا في هذه المسألة، فقالوا: إن هذا هو المأثور عن أكثر الصحابة: أنها تعود بطلاقها الأول، فتُحسب التطليقات السابقة، رُوي هذا عن عمر وعليٍّ ومعاذٍ وعمران وأبي هريرة وزيدٍ وعبدالله بن عمرٍو، وأيضًا قال به عددٌ من التابعين.
- القول الثاني: أنها ترجع بثلاث تطليقاتٍ، وأن زواجها بالرجل الثاني هَدَمَ التطليقتين أو التطليقة السابقة، فترجع بثلاث تطليقاتٍ، وهذا روي عن ابن عمرٍو ابن عباسٍ ؛ معنى ذلك: أن هذا القول ليس محل إجماعٍ عند الصحابة، بل محل خلافٍ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، قالوا: وطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث؛ فأولى أن يهدم ما دونها.
والراجح: هو القول الأول؛ لأنه المنقول عن أكثر الصحابة ، وأيضًا القياس يقتضي هذا؛ لأن نكاحها للثاني ليس له أثرٌ في تحليلها للأول أصلًا، فلم يكن له أثرٌ فيما بقي من الطلاق.
فعلى هذا: هذا رجلٌ تزوج امرأةً وطلقها طلقةً واحدةً أو طلقتين، خرجت من العدة، تزوجت بزوجٍ آخر، طلقها الزوج الآخر، ثم رجعت لزوجها الأول، نقول: على القول الراجح: تحسب عليك الطلقة الأولى والثانية في زواجك الأول، تحسب عليك، وعلى القول الثاني: لا تحسب، والقول الراجح: أنها تحسب.
متى لا تُحسب؟ لو طلقها ثلاث تطليقاتٍ وتزوجت بالزوج الثاني، ثم طلقها، ثم سيعود بثلاث تطليقاتٍ، لكن إذا كان طلقها طلقةً أو طلقتين؛ فتُحسب عليه، هذا هو القول الراجح، وهو المأثور عن أكثر الصحابة.
مداخلة:…
الشيخ: لكن لا تؤخذ هذه الأمور بمسألة أنها أيسر، تؤخذ بالأدلة، فإن لم يوجد دليلٌ؛ فالآثار عن الصحابة؛ فأكثر الصحابة يرون الرأي الأول، والصحابة هم أعرف الناس بالشريعة، وأعرف الناس بمراد الله تعالى ومراد رسوله ، كون أكثر الصحابة يأخذون بهذا القول؛ هذا مؤثرٌ.
مراجعة المرأة بعد البينونة الكبرى
ثم قال المصنف رحمه الله:
وإذا طلق الحرُّ ثلاثًا، أو طلق العبد اثنتين؛ لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا.
وهذه البينونة الكبرى، إذا طلقها ثلاث تطليقاتٍ؛ لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره بالإجماع؛ لقول الله : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
وهنا قال المؤلف: “نكاحًا صحيحًا”؛ احترازًا من النكاح الفاسد، فلا بد أن يكون النكاح نكاحًا صحيحًا؛ وهذا هو الشرط الأول.
والشرط الثاني: أن يطأها، وعبر عنه المؤلف بقوله:
ويطأها في قبلها مع الانتشار، ولو مجنونًا أو نائمًا أو مغمًى عليه، وأدخلت ذكره في فرجها، أو لم يبلغ عشرًا، أو لم يُنزِل.
يعني: لا بد من أن يحصل الإيلاج، وسيُبيِّن المؤلف ضابط ذلك، فلو أن المرأة طُلِّقت ثلاث تطليقاتٍ، ثم تزوجها زوجٌ آخر، لكنه لم يطأها، ثم طلقها؛ لا تحل لزوجها الأول، لا بد أن يطأها زوجها الثاني، لا بد، لا بد من الوطء، ويدل لذلك ما جاء في “الصحيحين” في قصة امرأة رفاعة القُرظي، أنه طلق امرأته طلاقًا بائنًا، فتزوجت بعده بعبدالرحمن بن الزبير، ثم إنها حنَّت لزوجها الأول، وأرادت أن تتخلص من زوجها الثاني، فأتت النبي فقالت يا رسول الله، إن عبدالرحمن بن الزبير ما معه إلا مثل هُدْبة الثوب، وأخذت بجلبابها، فقال أبو بكرٍ: انظروا إلى هذه، ما تستحي! فتبسم النبي وفهم مرادها، وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك، يعني: حتى يطأك عبدالرحمن، هي أرادت أن تحتج بأن عبدالرحمن غير قادرٍ على الوطء، لكن هذه الحجة صارت حجةً عليها وليست لها، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك، مثل هذه الأخبار تنتشر بسرعةٍ، انتشر الخبر في المدينة، بلغ ذلك عبدالرحمن بن الزبير، فأتى مسرعًا ومعه ابنان، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من هذان؟، قال: ابناي يا رسول الله، وإذا بهما يُشبهانه شبه الغراب بالغراب، فقال عليه الصلاة والسلام للمرأة: أتقولين هذا ومعه هذان الابنان؟، قال عبدالرحمن: كَذَبَت والله يا رسول الله، إني والله لأنفضها نفض الأديم، ولكنها تريد أن ترجع إلى رفاعة، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك [5]، يعني: وهذا يدل على أنه يوجد من قديم الزمان بعض النساء عندهن جُرأةٌ، وإلا كيف تقول هذا الكلام بمحضر عددٍ من الصحابة، لكن طبائع الناس تتفاوت، ولهذا أبو بكرٍ قال: “انظروا إلى هذه ما تستحي!”، والنبي عليه الصلاة والسلام تبسَّم، فهذا يدل على أنه قد يوجد من النساء من تكون جريئةً وتتحدث بهذه الأمور بجرأةٍ.
فالشاهد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك، كنايةٌ عن الوطء، فلا بد إذنْ من الوطء.
وقول المصنف: “ولو مجنونًا أو نائمًا أو مغمًى عليه، وأدخلت ذكره في فرجها، أو لم يبلغ عشرًا، أو لم يُنزِل”، لوجود حقيقة الوطء في هذه الحال، والله تعالى قال: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، أيضًا حتى كلمة الوطء تحتاج إلى ضابطٍ؛ لأنه قد يُختلف في فهمها، ضبط المؤلف ذلك، قال:
ويكفي تغييب الحشفة.
وهو رأس الذكر، هذا هو ضابط الوطء، عمومًا في جميع أبواب الفقه، سواءٌ في هذا الباب، أو في حدِّ الزنا، أو في كفارة الجماع في نهار رمضان، الضابط إذا قيل: الوطء: هو تغييب الحشفة، يعني: رأس الذكر.
إذا كان مجبوبًا، يعني: مقطوع الذكر، قال:
أو قدرها من مجبوبٍ.
يعني: قدر الحشفة.
قال: ويحصل التحليل بذلك، ما لم يكن وَطِئها في حال الحيض أو النفاس أو الإحرام، أو في صوم الفرض.
يعني: ما لم يكن وَطِئها وطئًا محرمًا، فلا يحصل التحليل، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
والقول الثاني: أنه يحصل، حتى وإن كان وطؤه محرمًا، وهذا هو القول الراجح، وهو مذهب الحنفية والشافعية، واختاره الموفق بن قدامة وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ لأنه حتى وإن كان في حال الحيض؛ فقد حصل الوطء، والله تعالى يقول: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230].
قال: فلو طلقها الثاني، وادعت أنه وطئها وكذَّبها؛ فالقول قوله في تنصيف المهر، وقولها في إباحتها للأول.
لو طلقها الزوج الثاني، وادعت أنه وطئها، لكنه كذبها، قال: لا، لا، أبدًا، غير صحيحٍ، لم يحصل جماعٌ، يقول المؤلف: القول قول الزوج في تنصيف المهر؛ لأنه إذا طلقها وهو لم يدخل بها؛ فله نصف المهر ولها النصف.
“وقولها في إباحتها للأول”، ومعنى ذلك: أن المؤلف جزَّأ الحُكم، وهذا مثالٌ لتبعيض الأحكام، والأحكام تتبعَّض عند الفقهاء، الأحكام تتبعَّض؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة [6]، مع أن الولد لزُمعة، ومع ذلك قال: احتجبي عنه، كيف تحتجب عنه وهو أخوها؟! هي سودة بنت زَمْعة، كيف يقول: الولد لزمعة، ومع ذلك احتجبي منه؟ قالوا: لأن الأحكام تتبعَّض.
أيضًا هنا في هذه المسألة، المؤلف يقول: القول قول الزوج في تنصيف المهر، وقول الزوجة في إباحتها للأول، فهذه فائدةٌ في أن الأحكام الفقهية قد تتبعَّض، فالقول قول الزوج في تنصيف المهر، فيكون له نصف المهر ولها نصف المهر، إذا ادعى أنه لم يطأ، وقول الزوجة في إباحتها للأول؛ لأن هذه أمورٌ لا تُعرف إلا عن طريق الزوجين، وهي في الأصل مؤتمَنةٌ، ولا سبيل لمعرفة ذلك إلا من جهتها، والله يقول: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228]، فلولا أن قولها معتبرٌ؛ لم تُحَرَّج بكتمانه؛ فهكذا إذنْ قولها هنا.
ولذلك إذا اختلفا في انقضاء العدة، الزوجة تقول: انقضت العدة، والزوج يقول: لا، ما انقضت، فهل القول قول الزوج أو الزوجة؟ قول الزوجة؛ لقول الله : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228]؛ إذ لا فائدة من ذلك إلا لأن قولها معتبرٌ، ففي انقضاء العدة قولها مقدَّمٌ، وفي إباحتها للأول قولها مقدمٌ، لكن في تنصيف المهر قول الزوج مقدمٌ.
فيمكن تبعيض هذه المسألة؛ لتكون بهذا الذي ذكره المؤلف.
كتاب الإيلاء
ثم قال المصنف رحمه الله:
كتاب الإيلاء
تعريف الإيلاء وحكمه
“الإيلاء” معناه في اللغة: الحلف، آلى: يعني حلف.
وشرعًا: “حَلِفُ زوجٍ بالله تعالى أو صفةٍ من صفاته على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهرٍ”، إذا حلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهرٍ.
وحكمه: أنه محرمٌ.
قال المؤلف:
وهو حرامٌ كالظهار.
لقول الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226]، ولأنه حَلَف على ترك أمرٍ واجبٍ عليه، والحلف على ترك الواجب محرمٌ، وإن كان الظهار أشد تحريمًا، الظهار من كبائر الذنوب؛ لأن الله جعله منكرًا من القول وزورًا، ولأنه تترتب عليه كفارةٌ مغلَّظةٌ، لكن الإيلاء محرمٌ، لكن لا يصل إلى أن يكون كبيرةً.
من يصح إيلاؤه ومن لا يصح
قال: ويصح.
يعني: الإيلاء.
من زوجٍ يصح طلاقه.
من صح طلاقه؛ صح إيلاؤه.
سوى عاجزٍ عن الوطء إما لمرضٍ لا يرجى برؤه، أو لجَبٍّ كاملٍ أو شللٍ.
يعني: العاجز عن الوطء لا يصح منه الإيلاء، سواءٌ كان العجز لمرضٍ أو لكِبَرٍ أو لغير ذلك؛ لأن الإيلاء متعلقٌ بالوطء؛ فإذا كان عاجزًا لم يصح منه الإيلاء أصلًا، إنسانٌ كبيرٌ في السن، غير قادرٍ على الوطء، وحلف على ترك وطء زوجته، هذا الحلف ليس له قيمةٌ، أصلًا هو عاجزٌ عن الوطء.
صفة الحلف في الإيلاء
قال: فإذا حلف الزوج بالله تعالى أو بصفةٍ من صفاته: أنه لا يطأ زوجته أبدًا، أو مدةً تزيد على أربعة أشهرٍ؛ صار مُؤْليًا.
فتُضرب له أربعة أشهرٍ، فيقول له القاضي: إما أن تطأ، وإما أن تطلق.
ما يحكم به على المولي
قال:
ويؤجل له الحاكم.
يعني: القاضي.
إن سألت زوجته ذلك، أربعة أشهرٍ من حين يمينه.
يعني: يُنظِره الحاكم أربعة أشهرٍ من حين حلفه بترك وطء زوجته؛ لقول الله : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226].
ثم يخيَّر بعدها بين أن يكفِّر ويطأ، أو يطلق.
يعني: بعد مضي أربعة أشهرٍ يقول له القاضي: إما أن تكفِّر وتطأ، وإما أن تطلق؛ فإن وطأها؛ لا بد من الكفارة؛ لأنه حلف على ترك الوطء وقد وطأ، فلا بد من كفارةٍ؛ لقول النبي : من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خيرٌ، وليكفر عن يمينه [7].
فإن امتنع من ذلك.
أمره القاضي: إما أن تطأ، وإما أن تطلق؛ رفض.
قال:
طلَّق عليه الحاكم.
حكم القاضي بوقوع الطلاق.
والمذهب أنه يطلِّق عليه واحدةً أو ثلاثًا، أو يفسخ.
والقول الثاني: أن الحاكم ليس له أن يطلق إلا واحدةً، وهذا هو القول الراجح: أنه لا يطلِّق إلا واحدةً؛ لأنه لا يُشرع أصلًا الزيادة على الطلقة الواحدة من الزوج؛ فمن الحاكم من باب أولى، أو أن القاضي يفسخ العقد، وينظر القاضي ما هو الأصلح من أن يطلق القاضي أو أن يفسخ العقد، وهذا يدل على مراعاة الشريعة الإسلامية لحقوق المرأة، وأن هذه المرأة التي ظلمها الزوج بأن حلف على ترك وطئها أربعة أشهرٍ فأكثر، لا تبقى هكذا معلَّقةً؛ لا هي بالزوجة، ولا هي بالمطلقة، إنما لا بد من معالجة هذه المشكلة، فيقال للزوج: إما أن تطأ، وإما أن تطلق، أما أن تترك هذه المرأة معلقةً؛ فهذا لا يجوز، هذا فيه ظلمٌ لهذه المرأة، وما أكثر المعلقات في وقتنا الحاضر! تجد نساءً معلقاتٍ؛ لا هي بالزوجة، ولا هي بالمطلقة، فالزوج بذلك آثمٌ، وكل يومٍ يمضي يُكتب عليه الذنوب والأوزار، وربما يصاب بمصائب بسبب ظلمه لهذه المرأة الضعيفة، والمرأة أحيانًا قد لا ترفع أمرها للحاكم؛ إما أنها تخجل وتستحي، أو يكون هناك عوائق اجتماعيةٌ، أو غير ذلك، فكون المرأة تسكت ولا ترفع أمرها للقاضي هذا لا يُبيح ذلك للزوج، بل هو آثمٌ عند الله ، وقد يسلط الله عليه مصائب بسبب ظلمه لهذه المرأة الضعيفة، والزوج يقال له: إما إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ، لا يُعلِّقها بهذه الطريقة؛ لا هي بالزوجة، ولا هي بالمطلقة، إذا كان لا يرغب فيها؛ يطلِّقها، أو أنه يعاشرها بالمعروف.
كتاب الظِّهار
نأخذ ما تيسر من الظهار:
قال المصنف رحمه الله:
كتاب الظهار
تعريف الظهار وحكمه
الظِّهار لغةً: مشتقٌّ من الظَّهْر، وخُصَّ من بين سائر الأعضاء؛ لأنه موضع الركوب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: الظهر يُركب بنفقته [8].
وعرفه المؤلف، قال:
هو أن يشبِّه امرأته أو عضوًا منها بمن يَحرم عليه؛ من رجلٍ أو امرأةٍ، أو بعضوٍ منه.
لكن هذا بناءً على المسائل التي رجحها المصنف رحمه الله، لكن بناءً على ما سنرجحه يمكن أن نعرِّف الظهار بتعريفٍ آخر هو: “أن يشبِّه امرأته بمن تحرم عليه على التأبيد؛ كأن يقول: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنت عليَّ كظهر أختي، أو أنت كأمي، أو مثل أمي، أو مثل أختي”، هذا هو الظهار، والظهار إنما يكون من الزوج، لو كان من الزوجة، لو قالت الزوجة لزوجها: أنت مثل أبي، أو أنت مثل أخي، هذا يحصل من بعض النساء، تقول: أنت حرامٌ على مثل أبوَيَّ، أو حرامٌ على مثل أخي، هل يكون هذا ظهارًا؟ من يجيب؟
مداخلة:…
الشيخ: نعم، لا يكون ظهارًا؛ لأن الله قال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، منكم: ثلاثة حروفٍ، لكن أعطتنا هذه الفائدة وهذا الحكم، مِنْكُمْ يعني: أيها الأزواج.
فالظهار إنما يكون من الزوج ولا يكون من الزوجة، فلو وقع من الزوجة؛ فإنه يأخذ حكم اليمين، فيكون عليها كفارة يمينٍ، إذا وطئها الزوج؛ يكون عليها كفارة يمينٍ؛ لأنه يجري مجرى اليمين، والله تعالى قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2].
مداخلة:…
الشيخ: لا، ما يكون من اللغو يجري مجرى اليمين، انظر، كل من منع نفسه من شيءٍ منعًا مؤكَّدًا؛ يأخذ حكم اليمين، حتى لو لم تملكه، الله تعالى قال: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، النبي عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه العسل، ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، فما كان بمعنى التحريم؛ يأخذ حكم اليمين، والظهار حكمه أنه محرمٌ، وظاهر الأدلة أنه من الكبائر؛ لأن الله سمَّاه مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗا [المجادلة:2]، ولأنه تترتب عليه الكفارة المغلظة.
وقد نزل تحريمه في أول سورة المجادلة في قصة خَولة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها، لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، فجاءت للنبي تشتكي إليه فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يقول لها: اتقي الله، هو ابن عمك، وجعلت تجادله، والنبي عليه الصلاة والسلام يهدِّئها، ثم قالت: إنما أشكو إلى الله، فأنزل الله : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1]، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كل شيءٍ! إني لأسمع كلام خولة ويخفى عليَّ بعضه، والله سمعه، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا، وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي؛ ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك، فأنزل الله هذه الآيات [9].
وقوله: “أن يشبِّه امرأته أو عضوًا منها بمن يَحرم عليه من رجلٍ أو امرأةٍ”، إذا شبه امرأته بأمه؛ هذا ظهارٌ بالإجماع، وإذا شبه زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد؛ كأخته أو خالته أو عمته؛ فهذا أيضًا ظهارٌ، لكن إذا شبه زوجته بمن تحرم عليه تحريمًا مؤقتًا؛ كأخت زوجته، قال لزوجته: أنت عليَّ مثل أختك؛ فهل هذا ظهارٌ أم لا؟ المذهب: أنه ظهارٌ، والراجح: أنه ليس بظهارٍ؛ لأنه ليس في الشناعة والقبح مثل تشبيه الأم أو من تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا، ولأن أخت الزوجة يمكن أن يتزوجها الإنسان إذا طلق أختها أو ماتت.
وهكذا أيضًا إذا شبه امرأته برجلٍ أجنبيٍّ أو امرأةٍ أجنبيةٍ؛ فالمذهب: أنه ظهارٌ، والراجح: أنه ليس بظهارٍ؛ لأنه ليس في الشناعة والقبح مثل تشبيه امرأته بأمه أو بأخته.
ولكن إذا قلنا: ليس بظهارٍ، فيكون حكمه حكم اليمين؛ فعليه أن يكفر كفارة يمينٍ، إلا أن ينوي طلاقًا، فيقع طلاقًا.
قال: فمن قال لزوجته: أنت أو يدك عليَّ كظهر أو يد أمي، أو كظهر أو يد زيدٍ، أو أنت عليَّ كفلانة الأجنبية.
يعني: شبَّه زوجته بعضوٍ من أعضائه أمه، إذا شبه زوجته بأمه؛ هذا ظهارٌ بالإجماع، لكن قال: أنت على مثل يد أمي أو مثل رجل أمي، يعني: بعضوٍ من أعضائها، يقولون: إذا كان العضو منفصلًا؛ كالظفر والسن والشعر؛ لا يكون ظهارًا، أما إذا كان متصلًا؛ كاليد والرجل ونحو ذلك -غير الظهر- فإنه عند الحنابلة ظهارٌ، والراجح: أنه ليس بظهارٍ؛ ولأنه لا يقوى أن يكون ظهارًا يُوجب الكفارة المغلَّظة، وإنما يكون حكمه حكم اليمين، إلا إذا أتى بعضوٍ يشبه الظهر، قال: أنت عليَّ كبطن أمي، ما قال: كظهر أمي، كبطن أمي؛ فهذا يكون ظهارًا؛ لأنه ليس هناك فرقٌ كبيرٌ بين الظهر والبطن، ولأن هذا شنيعٌ وقبيحٌ كشناعة قوله: أنت عليَّ كظهر أمي.
إذنْ: إذا قال: أنتِ مثل أمي، أو أنت كأمي، أو كظهر أمي، أو كبطن أمي؛ فهذا ظهارٌ، لكن إذا قال: كَيَدِ أمي، أو كرِجل أمي، أو كعين أمي، أو كأُذن أمي، فمحل خلافٍ؛ المذهب: أنه ظهارٌ، والراجح: أنه ليس بظهارٍ.
حكم من قال لزوجته: أنت عليَّ حرامٌ
أو أنت عليَّ حرامٌ.
هذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها: إذا قال الزوج لزوجته: أنت عليَّ حرامٌ، أو عليَّ الحرام، فما الحكم؟
- القول الأول: أنه ظهارٌ، حتى ولو نوى به طلاقًا أو يمينًا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
- القول الثاني: أنه يقع ما نوى بحسب نيته؛ فإن نوى ظهارًا؛ كان ظهارًا، وإن نوى يمينًا؛ كان يمينًا، وإن نوى طلاقًا؛ كان طلاقًا، وهذا هو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو القول الراجح؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات [10].
فإذا قال: أنتِ عليَّ حرامٌ، نسأله: ما نيتك؟ قال: نيتي الظهار؛ إذنْ يكون ظهارًا، إذا قال: نيتي الطلاق؛ يكون طلاقًا، أما إذا نواه ظهارًا؛ فهذا يصلح لأن يكون من ألفاظ الظهار، وإذا نواه طلاقًا؛ فيصلح لأن يكون من كنايات الطلاق؛ فيقع طلاقًا.
أما إذا لم ينوِ ظهارًا ولا طلاقًا، وإنما أراد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ فهذا يكون حكمه حكم اليمين، وهذا هو الغالب على كلام الناس، فيقول الزوج لزوجته: إذا ذهبت للسوق؛ فأنت عليَّ حرامٌ، إذا فعلتِ كذا؛ فأنتِ عليَّ حرامٌ، أو حتى لا يقول لزوجته، يقول لشخصٍ آخر: عليَّ الحرام أنك تفعل كذا، فالمذهب: أنه ظهارٌ يوجب الكفارة المغلظة.
والقول الراجح: أنه يكون بحسب نيته؛ إن نوى ظهارًا؛ فهو ظهارٌ، وإن نوى طلاقًا؛ فهو طلاقٌ، وإن نوى يمينًا؛ فهو يمينٌ، والدليل لذلك: قول الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، فجعل الله التحريم يمينًا؛ لأن المقصود منه اليمين.
طيب، بعض الناس إذا قيل له: ماذا نويت؟ قال: والله ما نويت شيئًا، هل نويت ظهارًا، قال: لا، هل نويت طلاقًا؟ قال: لا، هل نويت يمينًا؟ قال: لا، فما الحكم إذا لم ينوِ شيئًا؟
- المذهب: أنه ظهارٌ.
- والقول الثاني: أنه طلاقٌ.
- والقول الثالث: أنه يمينٌ.
- والقول الرابع، وهو الأقرب والله أعلم: أنه إذا لم ينوِ شيئًا؛ فيكون لغوًا؛ لأنه لا يكون قد قصد الإنشاء أصلًا، إنما يكون هذا من باب الإخبار، فيكون خبرًا كاذبًا، يأثم بالكذب، وعليه التوبة، ولا يقع لا طلاقًا ولا ظهارًا ولا يمينًا، لكن هذا يُعرف بسياق الكلام، لا بد من معرفة السياق؛ لأن بعض العامة قد يقول: ما نويت شيئًا، وهو قد نوى، فيُنظر للسياق والحوار الذي دار بينه وبين من يحاوره، والقرائن، ويسمع من الطرف الآخر؛ ولذلك مثل هذه المسائل تحتاج إلى تثبتٍ، تحتاج للتأكد من قصد المطلِّق أو المُظاهِر، ولفظه، ونيته، وحالته النفسية ،والقرائن المحيطة، والسياق، وحالة المرأة، ودرجة الغضب، والحالة النفسية، هذه أمورٌ كلها تحتاج إلى دراسةٍ؛ ولذلك لا يُفتى في مثل هذه المسائل عبر وسائل الإعلام، ولا بواسطة ولا عبر الهاتف، تحتاج إلى دراسةٍ، وأن المفتي يجلس مع هذا الشخص ويسأله ويناقشه، وحتى يفهم ما الذي حصل بالضبط، وحتى أيضًا يتأكد من نيته؛ لأن بعض العامة لا يعرف أن يعبر عن نيته، لا يعرف، فيقول: الظهار، لا يعرف ما معنى الظهار، فلا بد من أن يُسأل عدة أسئلةٍ؛ حتى تُعرف نيته.
مداخلة:…
الشيخ: أو ما كان في معناها بالصيغة هذه، أو ما كان في معناها، لو قال حتى: أنت عليَّ مثل أمي؛ هذا ظهارٌ.
أو قال: الحِلُّ عليَّ حرامٌ، أو ما أحل الله لي؛ صار مظاهرًا.
يعني: هذه مثل العبارات السابقة.
حكم قول الرجل: أنت علي كأمي أو مثل أمي
وإن قال: أنت علي كأمي، أو مثل أمي، وأطلق؛ فظهارٌ، وإن نوى في الكرامة ونحوها؛ فلا.
مراد المؤلف هنا: يشير إلى أنه أحيانًا بعض الناس قد يأتي بهذه الألفاظ يريد إكرام زوجته، ولا يريد أصلًا ظهارًا، الأصل أنه ظهارٌ، لكن لو قال: أنا والله قصدت الإكرام والاحترام، وإني قلت هذه المرأة مثل أمي، يعني: في إكرامها واحترامها، أو مثل أختي؛ فلا يكون ظهارًا، وإن كان الأولى أنه لا يعبر بهذه الألفاظ مع زوجته، يكرمها بغير هذه الألفاظ.
وقد جاء في حديث أبي هريرة أن النبي قال: هاجر إبراهيم بسارة، فدخل في قريةٍ فيها مَلِكٌ من الملوك، أو جبارٌ من الجبابرة، وإذا سارة زوجة إبراهيم من أجمل وأحسن نساء الأرض، فأرسل لهذا الملك، فأراد أن يعتدي عليها، علم إبراهيم بأنه طلب امرأته، فقال: سأقول: إنكِ أختي، وأنت أختي في الله؛ فإنه ليس على الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك، وكان هذا الملك لا يعتدي على المرأة غير المتزوجة، والمرأة المتزوجة يعتدي عليها، لماذا؟ دون سببٍ، هكذا، هكذا شريعتهم؛ فلذلك إبراهيم قال: إنك أختي، يعني: فسأل هذا المَلِك إبراهيم، قال: إنها أختي، وأتت سارة إلى هذا الجبار من الجبابرة، وقامت وتوضأت وصلَّت ركعتين، وقالت: اللهم إني كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تُسلِّط عليَّ هذا الكافر، فلما أراد أن يمد يده؛ تصلَّبت يده فلم يستطع أن يحركها، وقال: ما أرسلتم لي إلا شيطانًا أرجعوها [11].
وهذه القصة أولًا: تدل على أنه يجوز التأوُّل في مثل هذا؛ لأن إبراهيم قال: أختي، يقصد أخته في الله، فالتأوُّل خاصةً عند الحاجة لا بأس به.
ثانيًا: تدل على أن مشروعية الصلاة عندما يُصاب الإنسان بكُربةٍ؛ يصلي ركعتين، ويسأل الله تعالى أن يفرج عنه، كما فعلت سارة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ؛ فزع إلى الصلاة [12]، فإذا حصل لك أي ضيقٍ أو أي كربةٍ أو أي همٍّ؛ قم فتوضأ وصلِّ ركعتين، وسل الله تعالى أن يفرج كربتك، في الغالب أنه تستجاب الدعوة، في الغالب.
وجاء في “سنن أبي داود” أن رجلًا قال لامرأته: يا أُخيَّة، فقال له النبي : أختك هي؟!، فكره ذلك ونهى عنه [13]، لكن الحديث في سنده مقالٌ، ولكن كره العلماء ذلك؛ لأن الزوج ينبغي ألا يخاطب زوجته بـ: يا أختي، أو يا أمي، ونحو ذلك، وإنما يختار لها ألفاظًا مناسبةً؛ لأن هذه الألفاظ تشبه لفظ الظهار.
لو قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ونوى بذلك الطلاق، فهل يقع طلاقًا؟ يعني: أتى باللفظ الصريح، قال: أنت علي كظهر أمي، ثم قال: أنا والله ما أردت الظهار، أنا أريد الطلاق؛ فإنه لا يكون طلاقًا، وإنما يكون ظهارًا؛ لأن اعتبار الظهار طلاقًا هذا هو الذي كان موجودًا في الجاهلية فأبطله الإسلام، حتى لو نوى الطلاق؛ لا يكون طلاقًا، يكون ظهارًا في قول عامة أهل العلم؛ لأن هذه هي صيغة الظهار، إذا قال: أنت علي كظهر أمي، هذه صيغة الظهار، كيف نعتبره طلاقًا؟! ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: لو قال: أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق؛ فلا يقع به الطلاق عند عامة العلماء، وفي ذلك نزل القرآن.
حكم قول الرجل: أنت أمي، أو مثل أمي، أو عليَّ الظهار
قال: وأنت أمي، أو مثل أمي، أو عليَّ الظهار، أو يلزمني؛ ليس بظهارٍ إلا مع نيةٍ أو قرينةٍ.
لأن هذه الألفاظ تحتمل الظهار وتحتمل الإكرام، فلا بد من نيةٍ أو قرينةٍ تدل على أنه أراد الظهار، ولو أراد الطلاق؛ يصح أن يكون طلاقًا؛ لأنه يصح أن يكون كنايةً.
حكم قول الرجل أنت عليَّ كالميتة أو الدم أو الخنزير
وأنت عليَّ كالميتة أو الدم أو الخنزير؛ يقع ما نواه من طلاقٍ أو ظهارٍ ويمينٍ، فإن لم ينوِ شيئًا فظهارٌ.
يعني: يقول المؤلف: إنه يقع ما نواه، لكن قال بعض العلماء: إنه يقع ما نواه سوى الظهار، لا يكون ظهارا؛ لأنها ليست في الشناعة والقبح كقوله: أنت علي كظهر أمي، وهذا هو الأقرب.
فلو قال لزوجته: أنت عليَّ مثل الميتة، فنقول: ماذا نويت؟ هل نويت الطلاق؟ قال: لا، إذنْ يكون يمينًا، لكن لا نعتبره ظهارًا؛ لأن الظهار كما قال الله : مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة:2]، فالظهار فيه شناعةٌ في القول، فيه منكرٌ، لكن لو قال: أنت مثل الميتة أو الدم أو الخنزير؛ ليس في الشناعة مثل قوله: أنت عليَّ كظهر أمي، فالصواب: أنه لا يعتبر ظهارًا، وإنما يعتبر طلاقًا إن نواه، أو يكون يمينًا.
من يصح ظهاره
ثم بعد ذلك تكلم المؤلف عمن يصح الظهار منه، لعلنا نكتفي بهذا القدر، ونقف عند قوله:
ويصح الظهار من كل من يصح طلاقه.
ونجيب عما تيسر من الأسئلة، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
مداخلة:…
الشيخ: هذا مكروهٌ، يقول لزوجته مثلًا: بنتي، أو أختي، أو..، فهذا مكروهٌ، حتى لو نوى الإكرام يأتي بألفاظٍ بعيدةٍ عن هذا؛ لأن هذه تشبه الظهار.
مداخلة:…
الشيخ: لا تحل له إلا بعد الكفارة المغلَّظة، خاصةً في وقتنا الحاضرة الكفارة المغلظة ليس فيها رقابٌ الآن، ليس فيها إلا صيام شهرين متتابعين، وهي ثقيلةٌ، صيام شهرين متتابعين ثقيلةٌ على بعض الناس، سنتكلم عنها -إن شاء الله- الدرس القادم بالتفصيل.
الأسئلة
السؤال: ما حكم المرور بين يدي المصلي في الحرمين؟
الجواب: أما في المسجد الحرام: فاستثنى الجمهور المسجد الحرام، فقالوا: إنه يجوز المرور فيه بين يدي المصلي، وأن المار لا يقطع الصلاة.
وأما المسجد النبوي: فهو كغيره من المساجد، بل هو الذي قد ورد فيه النص، فالمسجد النبوي غير مستثنًى، إنما الذي يستثنى فقط هو المسجد الحرام، وهناك طريقةٌ يغفل عنها بعض الناس ممن يصلي أحيانًا قريبًا من الباب، أو في ممرٍّ، أو نحو ذلك، فإذا كان يصلي ورأى الناس يُريدون المرور؛ يتقدم ويجعل الناس يمرون من ورائه، وبذلك لا يُحرِج الناس، ولا يُحرِج نفسه، يتقدم ويجعل الناس يمرون من ورائه.
السؤال: أولًا يقول: توفيت أختي قبل أيامٍ، فأرجو الدعاء لها من هذا الجمع المبارك -نسأل الله تعالى أن يغفر لها وأن يرحمها، وأن يجمعكم بها في جنات النعيم- يقول: توفيت وقد أفطرت عدة أيامٍ من شهر رمضان ولم تقضِ، فماذا يجب علينا تجاهها؟
الجواب: أولًا: لا ندري هل كانت أختك قادرةً على القضاء فلم تقضِ، أو غير قادرةٍ على القضاء؛ فإن كانت قادرةً على القضاء ولم تقضِ؛ فيُشرع لأحد أقاربها أن يصوم عنها؛ لقول النبي : من مات وعليه صومٌ؛ صام عنه وليُّه [14]، لكن ذلك مستحبٌّ وليس واجبًا، فإن لم يوجد أحدٌ يصوم عنها، فيطعم عنها عن كل يومٍ مسكينًا.
أما إذا كانت غير قادرةٍ على القضاء، واستمر معها المرض حتى توفيت؛ فيطعم عنها عن كل يومٍ مسكينًا، ولا يصام عنها؛ لأنه ثبت في حقها الإطعام ابتداءً.
السؤال: اشترت أختي هديةً لإحدى صديقاتها وهي عبارةٌ عن طَقْمٍ من الذهب، وتوفيت ولم تعطه إياها، هل يكون هذا الذهب من التركة، أو يجب علينا إعطاؤها إياه؟
الجواب: إذا كان تبرعًا من عندها، هديةً تريد أن تسلمها لها، هديةً من مالها، ولم تسلمها لها، فيكون من التركة؛ لأنها أرادت أن تُهدي ولم تهدِ، حتى لو اشترت الطقم وبقي في البيت؛ يكون من التركة، أما لو كانت صديقتها هي التي أوصتها، وكَّلتها في شراء ذهبٍ واشترته لها، فيكون هذا لصديقتها، لكن الظاهر هو الأول، فإذا كان مجرد أنها اشترت من مالها هي هذا الذهب، وأبقت هذا الذهب في البيت تريد أن تهديه لكنها ماتت، فيكون من التركة، وينبغي للورثة أن ينفذوا هذه الهدية، فإن هذا من البر بها والإحسان إليها، إكرام صديقاتها.
السؤال: ما الموقف من أقوال بعض العلماء في الإمام أبي حنيفة؟
الجواب: الإمام أبي حنيفة أحد الأئمة الأربعة، وإمامٌ من الأئمة الذين أثنى عليهم كثيرٌ من أهل العلم، ومذهبه أحد المذاهب الأربعة المتبوعة في العالم الإسلامي، بل هو أكثر المذاهب، وعلى الإنسان أن يحفظ لسانه، فلا يقع في عرض هذا العالم ولا في غيره من العلماء، قد يكون وليًّا من أولياء الله، الله يقول: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب [15]، لا يجوز الوقيعة في أعراض العلماء، وأما الجرح والتعديل فهذا عند أهل الحديث، هم ذكروا أن روايته للحديث ضعيفةٌ، لكن هذا في باب الرواية، وأما كشخصه فهو إمامٌ من الأئمة، وعالمٌ من العلماء، ولا يجوز الوقيعة فيه وإن نُقل ذلك عن بعضهم أحيانًا، كلام بعض الأقران في بعضٍ -كما قال العلماء-يُطوى ولا يُروى، حتى وإن كان القرين صالحًا؛ لأنه مهما كان؛ النفوس يحصل فيها ما يحصل، فكلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يُروى.
السؤال: شخصٌ جاء قادمًا لأداء العمرة، ولم يُحرِم في الطائرة، ولم يلبس الإحرام إلا في الفندق عند الحرم، فماذا يجب عليه؟ علمًا بأنه لا يعرف صفة الإحرام، ولا وجوب الإحرام من الميقات؟
الجواب: ترك واجبًا، وهو الإحرام من الميقات، فعليه دمٌ يُذبح في الحرم، ويوزع على فقراء الحرم، والجهل هنا لا يُعفيه عن الدم، لا يعفيه من الدم، بل لا بد من ذبح الدم، كان عليه أن يسأل وأن يتفقَّه، وما كان من باب ترك المأمور لا يُعذر فيه الإنسان بالجهل ولا بالنسيان.
السؤال: ما أفضل الكتب في فقه أعمال القلوب وعلاج أمراضها؟
الجواب: كتب الإمام ابن القيم هي أفضل الكتب، أفضل كتبٍ في أعمال القلوب: كتب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
السؤال: ما طريقة زكاة المساهمات العقارية التي يكون العائد فيها بعد أكثر من سنةٍ؟
الجواب: إذا كانت هذه المساهمات العقارية مساهماتٍ في عقاراتٍ تُباع وتكون عُروضًا للتجارة، يعني: تُجمع هذه المساهمات، ويُشترى بها عقاراتٌ وتُباع؛ فتكون عروض تجارةٍ، وتجب زكاتها كل سنةٍ؛ وعلى ذلك: فمن ساهم يجب عليه أن يزكِّي رأس المال والربح عن كل سنةٍ، لكن يجوز له أن يؤخِّر إخراج الزكاة حتى يستلم المبالغ، فإذا استلمها؛ زكَّاها عما مضى من السنوات.
السؤال: من صلى في المسعى وهو مأمومٌ مع إمام الحرم، هل تشمله مضاعفة الصلوات؟
الجواب: نعم، من اقتدى بإمام الحرم؛ فإنه يكون مشمولًا بمضاعفة الأجر، حتى لو صلى في الفندق، حتى لو صلى في مصلى الفندق؛ فيكون مشمولًا بمضاعفة الأجر، وهذا في قول عامة أهل العلم أنه يكون مشمولًا بمضاعفة الأجر، وإنما الكلام فيمن صلى وحده ولم يُصلِّ في المسجد الحرام، إنما صلى وحده في الحرم، أو صلى حتى مع جماعةٍ أخرى خارج المسجد الحرام، فهذا هو الذي فيه الخلاف، أما إذا صلى مع إمام الحرم قريبًا من الحرم فهو مشمولٌ بتضعيف الأجر.
السؤال: هل يَلزم الإمام الرجوع لقول المأمومين إذا سبحوا؟
الجواب: الفقهاء يقولون: يلزم الإمام الرجوع لقول المأموم إذا سبح به ثقتان، ما لم يجزم بصواب نفسه، فإذا جزم بصواب نفسه، حتى لو سبح به عشرةٌ؛ لا يلتفت لهم، أما إذا لم يجزم بصواب نفسه؛ يلزمه الرجوع لقول ثقتين فأكثر.
السؤال: في مسألة الرجعة قبل الاغتسال وبعد انقطاع الدم، هل يقال: إن قول طاوسٍ وسعيدٍ والأوزاعي لا يُنظر إليه؛ لأنه خلاف الإجماع؟
الجواب: الذي يظهر أن خلافهم معتبرٌ؛ وذلك لأنهم تمسكوا بظاهر النص، فإن الله قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وهذا القُرء قد انتهى، قد انتهت الثلاثة القروء، والآثار المنقولة عن الصحابة هي تشبه أن تكون إجماعًا، لكنها ليست إجماعًا صريحًا، فالذي يظهر أن قولهم في هذا وخلافهم معتبرٌ.
السؤال: هل يجوز تحديد جنس الحمل عن طريق الطب الحديث؟
الجواب: هذه المسألة عُرضت على “المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي”، وانتهى المجمع إلى أنه يجوز تحديد جنس الجنين في الحالات العلاجية فقط، ولا يجوز لغير ذلك.
الحالات العلاجية: بعض الناس مثلًا: لا يُرزق إلا بإناثٍ، أو لا يُرزق إلا بذكورٍ، فهنا يأتي تحديد جنس الجنين، إذا كان مثلًا لا يرزق إلا بذكور، بأن يكون له أنثى أو العكس، لكن في غير الحالات العلاجية يرى المجمع أن هذا لا يجوز؛ لأن هذا يترتب عليه مفاسد واختلال في التركيبة السكانية؛ ولذلك في بعض دول العالم التي لا تسمح إلا بإنجاب مولودٍ واحدٍ فقط؛ حصل عندهم إشكالٌ، وهو: أنه إذا حملت المرأة فيُكشف عليها عن طريق الأشعة، فإذا كان الحمل أنثى؛ أجهضوه، فأصبح الذكور عندهم أكثر من الإناث، فترتب على ذلك مفاسد، هذا موجودٌ في بعض الدول التي لا تَسمح إلا بإنجاب مولودٍ واحدٍ فقط، ولذلك بدءوا في الآونة الأخيرة، بدأت بعض الدول تغيِّر من أنظمتها، فإذا كان ذلك لأمورٍ علاجيةٍ؛ فلا بأس بذلك، أما من غير الأمور العلاجية، وإنما ترفًا فقط، فالمجمع يرى أن هذا لا يجوز.
السؤال: من جامع زوجته بدون نية الإرجاع، هل تكون عدتها من وقت الجماع، أو من بداية الطلاق؟
الجواب: تكون من بداية الطلاق، هذا الجماع لا عبرة به، ويأثم به أيضًا؛ لأنه جامعها بغير نية الإرجاع.
السؤال: هل الإيماء للمريض يكون بالرأس فقط، أو يكون بالظهر؟
الجواب: الإيماء للمريض يكون بالرأس والظهر، فعندما يركع هكذا، وعندما يسجد يخفض رأسه أكثر، أما قول من قال: إنه يكون بالرأس إذا ركع، يقول هكذا، وإذا سجد يقول هكذا، هذا غير صحيحٍ، عامة الفقهاء على أن الإيماء يكون بالرأس والظهر، لكن في بعض النصوص: أومأ برأسه [16]، مقصودهم برأسه مع ظهره؛ ولذلك الفقهاء يقولون: إن في السجود أنه يخفض بقدر ما يستطيع، بأقصى ما يستطيع، وفي الركوع دون ذلك، ثم كيف يومئ بالرأس وهو قادرٌ على حني الظهر؟! لا بد من حني الظهر، فعند الركوع يحني هكذا، وعند السجود يحني بأقصى ما يستطيع.
السؤال: لو قال لي شخصٌ: علينا أن نقصد بدعائنا رضا الله والدار الآخرة، ولا نقصد تحقيق مطلبنا الدنيوي، هل هذا القول صحيحٌ؟
الجواب: هذا القول غير صحيحٍ، وإنما تقصد أمور الدنيا والآخرة، والله يقول: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:200-202]، فالمسلم يسأل الله تعالى خيري الدنيا والآخرة، لكن لا يقتصر على الدعاء بأمور الدنيا ويغفل الآخرة، فإن الله ذم هؤلاء، كان هناك أناسٌ من الأعراب في الحج يدعون فقط بأمور الدنيا، أما أمور الآخرة فلا يدعون بها، فنزلت الآية: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.
المشروع أن المسلم يدعو بخيري الدنيا والآخرة.
السؤال: إذا كان الشخص موظفًا ومعه تأمينٌ صحيٌّ، هل يجوز لصديقه أو قريبه استخدامه؟
الجواب: لا يجوز؛ لأن هذا كذبٌ والْتفاف وتزويرٌ، ولأن شركة التأمين يملكها عددٌ من المساهمين، فأنت الآن تريد أن تأخذ من مال هؤلاء المساهمين بغير حقٍّ.
فعلى المسلم أن يكون واضحًا، يبتعد عن الكذب وعن الغش وعن مثل هذه الأمور، لا يأخذ مالًا بغير حقٍّ، إذا كان التأمين مخصَّصًا لك؛ فلا يجوز لغيرك أن يستخدمه.
السؤال: كيف يتخلص الإنسان من العجلة ويتحلى بالحلم؟
الجواب: يروِّض نفسه، فإنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، أولًا: يشخِّص المشكلة لديه، بعض الناس عنده عيبٌ، ولا يعرف العيب الذي هو فيه، فأولًا: يعرف العيب، هل عنده عجلةٌ؟ هل هو سريع الغضب؟ فإذا شخَّص المشكلة؛ يبدأ في خطةٍ لترويض نفسه على تجاوز تلك المشكلة، إذا كان مثلًا سريع الغضب؛ يروِّض نفسه، يقول مثلًا: هذا اليوم من الساعة كذا إلى الساعة كذا لن أغضب مهما كان السبب، في اليوم الثاني يجعلها مدةً أطول، في اليوم الثالث يجعلها أطول، وهكذا يجد نفسه مع مرور الوقت أصبح حليمًا، وهكذا بالنسبة لترك العجلة، يحرص على أن يتأنى في الأمور، ويتكلف ذلك في البداية حتى تصبح الأناة خُلقًا له.
السؤال: إذا غربت الشمس قبل القمر في ليلة تحري الهلال، وأقرَّ علماء الفلك أنه يتعذر ويمتنع رؤية الهلال لأي سببٍ، فهل يُقدَّم الرأي الفلكي؟
الجواب: إذا غربت الشمس قبل القمر؛ معنى ذلك: أن القمر موجودٌ في الأفق، فإذا لم يتقدَّم أحدٌ ويشهد برؤيته؛ فلا يعتبر الحساب، وإنما المعتبر هو الرؤية، أما إذا غرب القمر قبل الشمس، فهذا لا يمكن أن يُرى أصلًا؛ وعلى ذلك: فالحساب لا يُعتمد عليه في الإثبات، إنما في النفي، فيما كان من الأمور المقطوع بها، في الأمور المقطوع بها خاصةً، يعني: مثل غروب القمر، إذا غرب القمر قبل الشمس، القمر أصلًا غير موجودٍ في الأفق، فإذا أتى شاهدٌ وشهد بأنه رأى الهلال؛ معنى ذلك: أن رؤيته غير صحيحةٍ؛ فلا يُؤخذ بها، لكن لو غربت الشمس قبل القمر؛ معنى ذلك: أن القمر موجودٌ في الأفق، لكن ربما يكون حالَ دون رؤيته قَتَرٌ أو سحابٌ أو نحو ذلك، فلا يُعتمد هنا على الحساب، وإنما المعتمد عليه: الرؤية، فإذا لم يتقدم أحدٌ ويشهد برؤية الهلال؛ يكمل الشهر ثلاثين، وهذا معنى قول النبي : فإن غُمَّ عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين [17]، وهذا هو الذي عليه الآن العمل في الوقت الحاضر.
السؤال: هل للمصلي أن يدعو إذا مر بآية رحمةٍ، ويتعوَّذ إذا مر بآية وعيدٍ؟
الجواب: يُشرع ذلك في صلاة النافلة؛ كصلاة الليل مثلًا، فقد كان النبي إذا مر بآيةٍ فيها رحمةٌ؛ سأل الله من فضله، وإذا مر بآيةٍ فيها عذابٌ؛ استعاذ بالله من العذاب.
أما صلاة الفريضة: فلا يشرع ذلك؛ لأن النبي كان يصلي بأصحابه خمس مراتٍ في اليوم والليلة، ولم يُنقل عنه ولو لمرةٍ واحدةٍ أنه فعل ذلك، مع أن الصحابة نقلوا كل شيءٍ، نقلوا حتى اضطراب لحيته في الصلاة، فلو كان النبي يفعل ذلك؛ لنُقل، ومع ذلك نقول: من فعل ذلك لا يُنكر عليه؛ لأن الأصل: ما جاز في النفل؛ جاز في الفرض؛ لأن الأصل: أن ما جاز في النفل؛ جاز في الفرض إلا بدليلٍ، فالأصل أنه يجوز في الفرض كما يجوز في النفل، لكن الأفضل: أن يقتصر ذلك على النفل دون الفرض، فلو كنت تصلي صلاة الليل، إذا مررت بذكر الجنة؛ تسأل الله من فضله، إذا مر بك ذكر النار تستعيذ بالله من النار، وهكذا، أما في صلاة الفريضة فإنك لا تفعل ذلك، وإنما تنصت وتسكت ولا تقول شيئًا، هذا هو الأظهر من أقوال العلماء في هذه المسألة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 5251، ومسلم: 1471. |
---|---|
^2 | سبق تخريجه. |
^3, ^10 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^4 | رواه أبو داود: 2186، وابن ماجه: 2025. |
^5 | رواه البخاري: 2639، 5825، ومسلم: 1433. |
^6 | رواه البخاري: 6817، ومسلم: 1457. |
^7 | رواه مسلم: 1650، بنحوه. |
^8 | رواه البخاري: 2511. |
^9 | رواه ابن ماجه: 2063، والحاكم: 3791. |
^11 | رواه البخاري: 2217، ومسلم: 2371. |
^12 | راه أبو داود: 1319. |
^13 | رواه داود: 2210. |
^14 | رواه البخاري: 1952، ومسلم: 1147. |
^15 | رواه البخاري: 6502. |
^16 | رواه الدارقطني: 1706، والبيهقي: 3728. |
^17 | رواه البخاري: 1907، ومسلم: 1080. |