ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وهو الدرس الرابع والسبعون، في هذا اليوم الاثنين، السادس عشر من جمادى الآخرة من عام (1444 هـ).
كتاب الطلاق
وكنا قد وصلنا إلى قول المصنف رحمه الله في كتاب الطلاق:
ومن صح طلاقه؛ صح أن يوكِّل غيره فيه.
وما سنذكره في هذا الدرس أمورٌ مهمةٌ جدًّا لطالب العلم، فينبغي التركيز على ما سيُذكر وضبطُه؛ لأنك لو قرأت في كتب الفقهاء؛ تجد أن كلامهم فيها متشعِّبٌ، وربما أنك لا تستطيع أن تضبط ما كُتب في كثيرٍ من كتب الفقه؛ لتشعُّبه وكثرة الخلافات فيه؛ ولهذا ينبغي التركيز؛ حتى نضبط أبرز مسائل الطلاق، إذا ضبطت هذه الضوابط التي سنذكرها في هذا الدرس؛ تستطيع أن تفهم بقية المسائل.
فما سنذكره في هذا الدرس هو من أهم مسائل الطلاق، فأحببت أن أقدِّم بذلك؛ لأجل أن نركز على هذه الضوابط التي ستُذكر.
التوكيل في الطلاق
قال المصنف رحمه الله:
ومن صح طلاقه؛ صح أن يوكِّل غيره فيه، وأن يتوكَّل عن غيره.
“من صح طلاقه”: الذي يصح طلاقه هو العاقل المختار المميِّز، يعني: لا يشترط البلوغ هنا، المميِّز أو البالغ، فمن صح طلاقه؛ صح أن يوكل غيره في الطلاق، وأن يكون وكيلًا عن غيره في الطلاق؛ لأن الطلاق إزالة مِلكٍ؛ فصح التوكل والتوكيل فيه.
فلك أن توكِّل زيدًا من الناس في طلاق زوجتك مثلًا، أو أنك تتوكَّل في طلاق زوجته.
قال: وللوكيل أن يطلق متى شاء، ما لم يَحدَّ له حدًّا، ويَملك طلقةً ما لم يَجعل له أكثر.
يمكن للوكيل أن يطلق متى شاء، إلا إذا قُيِّد بزمنٍ؛ فيجب عليه أن يلتزم بذلك الزمن، والوكيل لا يملك إلا طلقةً واحدةً، إلا إذا جعل له الموكِّل أكثر من ذلك، وهذا ظاهرٌ.
وإن قال لها: طلِّقي نفسكِ؛ كان لها ذلك متى شاءت.
هذا رجلٌ أشغلته زوجته، كل يومٍ تطلب الطلاق، فقال: طلقي نفسك متى شئتِ، وكَّلها أن تطلق نفسها، هل يصح؟ نعم يصح، وتكون وكيلةً عنه في تطليق نفسها، فتطلِّق نفسها متى شاءت، قال: “كان لها ذلك متى شاءت”.
هل تطلق طلقةً أو ثلاثًا؟
قال:
وتملك الثلاث إن قال: طلاقكِ أو أمرك بيدك، أو وكلتك في طلاقك.
إذا قال الرجل لزوجته: طلاقكِ أو أمرك بيدك؛ فيقولون: إنها تملك ثلاث تطليقاتٍ، لماذا؟
لأن قوله: طلاقك أو أمرك، مفردٌ مضافٌ، والمفرد المضاف من صيغ العموم؛ فيعم جميع الطلاق، فيكون جميع أمرها في الطلاق بيدها، فيتناول ذلك ثلاث تطليقاتٍ، وهكذا لو أنه صرح وقال: وكَّلتك في طلاقك، يشمل ثلاث تطليقاتٍ كما رُوي عن الإمام أحمد، إلا إذا قيَّد ذلك بتطليقةٍ واحدةٍ، أو وُجدت قرينةٌ تدل على أنه وكلها في تطليقةٍ واحدةٍ أو تطليقتين؛ فيعمل بذلك.
وقد رَوى مسروقٌ قال: جاء رجلٌ إلى عمر فقال: إني جعلت أمر امرأتي بيدها، فطلقت نفسها ثلاثًا، وكان عنده ابن مسعودٍ، فقال عمر لابن مسعودٍ: “ما ترى؟ قال: أراها واحدةً وهو أحق بها، قال عمر: وأنا أرى كذلك” [1]، أخرجه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ.
فإذنْ الأصل: أن الرجل إذا طلق زوجته؛ أنها تُطلِّق نفسها طلقةً واحدةً، إلا إذا كان هناك دليلٌ على أنه أراد توكيلها بثلاث تطليقاتٍ.
ومثل ذلك أيضًا إن خيَّرها، يعني: هذا أيضًا رجلٌ تُلِحُّ عليه زوجته، كل يومٍ تطلب منه الطلاق، فقال: أنتِ بالخيار؛ إن شئت أن تختاري الطلاق؛ فطلقي نفسك، وإن شئت البقاء؛ فابقي معي، فإذا اختارت الطلاق؛ يقع طلقةً واحدةً، وإذا اختارت البقاء؛ لا يقع شيئًا، وهذا قد حصل من النبي لما أقسم بالله أن يهجر زوجاته شهرًا كاملًا، فلما مضى الشهر دخل أول من دخل على عائشة وخيَّرها، وقال: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب: 28-29]، فاختارت عائشة رضي الله عنها الله ورسوله والدار الآخرة، وهكذا بقية زوجات النبي عليه الصلاة والسلام اخترن الله ورسوله والدار الآخرة [2].
جاء في “الصحيحين” عن عائشة رضي الله عنها قالت: “خيَّرنا رسول الله أفكان طلاقًا؟!” [3]، يعني: أن هذا التخيير لا يُعتبر طلاقًا، إذا لم تختر المرأة الطلاق؛ لا يكون طلاقًا، ولا يترتب عليه أي شيءٍ.
متى يبطل التوكيل في الطلاق؟
قال:
ويبطل التوكيل بالرجوع.
يعني: هذا رجلٌ وكَّل زوجته في تطليق نفسها، ثم رجع عن الوكالة، فتبطل الوكالة؛ لأن الوكالة عقدٌ جائزٌ لكلٍّ من الطرفين فسخه متى شاء.
أيضًا:
وبالوطء.
يعني: تبطل الوكالة بالوطء، هذا رجلٌ وكَّل زوجته في تطليق نفسها ثم وطئها، فتبطل الوكالة؛ لأن وطأه إياها دليلٌ على رجوعه عن الوكالة، فهو بهذا الوطء قد فسخ الوكالة، يعني: هو فسخٌ عمليٌّ للوكالة، فسخ الوكالة بالوطء.
باب سنة الطلاق وبدعته
ثم قال المصنف رحمه الله:
السُّنة في طلاق الزوجة
قال:
السُّنة لمن أراد طلاق زوجته: أن يطلقها واحدةً في طُهْرٍ لم يطأها فيه.
السُّنة في طلاق الزوجة: أولًا لا يستعجل الزوج في طلاق زوجته، يجعل الطلاق عند الضرورة القصوى، وسبق في الدرس السابق أن ذكرنا مراحل علاج النشوز عند المرأة، وأن الله تعالى ذكر أربع مراحل: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ[النساء:34]، والمرحلة الرابعة: التدخل الخارجي من أهل الزوج وأهل الزوجة: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا[النساء:35]، هذه المراحل الأربع تسبق الطلاق، لكن إذا لم تُجْدِ هذه المراحل من علاج النشوز والخلاف بين الزوجين، وكان استمرار الزوجية عَنَتًا ومشقةً، ولا يحقق مقاصد النكاح؛ فالله تعالى يقول: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ[النساء:130]، كم من رجلٍ طلق زوجته وتزوج بامرأةٍ وسعد بزواجه من المرأة الأخرى، وهي تزوجت برجلٍ وسعدت؛ لأنه قد لا يكون بينه وبينها توافقٌ، ويتزوجها رجلٌ آخر يتوافق معها، وهو كذلك قد يتزوج بامرأةٍ أخرى ويتوافق معها.
لكن هذا لا يُلجأ إليه -لا يلجأ للطلاق- إلا عند الضرورة القصوى، وإذا أراد أن يطلق؛ يطلقها طلقةً واحدةً في طهرٍ لم يجامعها فيه، فهذه هي السُّنة، وهذا باتفاق أهل العلم، وإذا فعل ذلك؛ فإنه لن يندم، ولن يحتاج إلى استفتاءٍ؛ ولهذا قال عليٌّ ، وهو مرويٌّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “لو أن الناس أخذوا بما أمر الله به من الطلاق؛ ما أتبع رجلٌ نفسه امرأةً أبدًا، يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثًا، فمتى شاء راجعها” [4].
إذا طلقها طلقةً واحدةً في طُهْرٍ لم يجامعها فيه؛ له الفرصة في أن يراجعها ثلاثة قروءٍ، ثلاث حيضاتٍ، أو ثلاثة أشهرٍ إن كانت ممن لا تحيض، وهذه المدة -ثلاثة أشهرٍ- مدةٌ طويلةٌ، كافيةٌ لأن يراجع الرجل نفسه، فإذا كان يرغب في هذه المرأة؛ راجعها، وإذا مضت ثلاثة أشهرٍ ولم يراجعها؛ فمعنى ذلك: أن نفسه قد طابت منها، فلا تتعلق نفسه بها، ولا يحتاج إلى أن يستفتي أصلًا، ولكن بعض الناس يؤتى من جهة الاستعجال والحُمق؛ فيُطلق ثم بعد ذلك يندم، ويذهب إلى من يستفتيه، وربما يُفتَى بأنها قد بانت منه فيتحسر، وهذا بسبب استعجاله وحمقه، وإلا إذا اتقى الله وطلقها طلقةً واحدةً في طهرٍ لم يجامعها فيه، وبقيت في بيت الزوج طوال العدة -قرابة ثلاثة أشهرٍ- فلن يُبقِيَ رجلٌ عاقلٌ امرأةً في بيته ثلاثة أشهرٍ ولا يراجعها؛ إلا وقد طابت نفسه منها، فلن يندم على هذا الطلاق، ولن يحتاج إلى استفتاءٍ.
ولهذا نجد أن الله كرَّر الأمر بالتقوى في سورة الطلاق عدة مراتٍ، وبين ثمرات التقوى، مع أنها سورةٌ ليست طويلةً، في حدود صفحتين في المصحف، وجهين، ومع ذلك تكرر الأمر بالتقوى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ[الطلاق:1]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، فتجد كثرة الأمر بالتقوى وبيان ثمراته في هذه السورة؛ إشارةً إلى أن المطلِّق عليه أن يتقي الله وكذلك المطلقة أيضًا؛ لأن بعض الناس عند الخلاف يَفجُر في الخصومة، والفجور في الخصومة هذه من صفات المنافقين.
بعض الناس عندما تختلف معه يأتي بكل شيءٍ، ويكذب ويقذف ويسخر ويسب ويشتم، ولا يبقى شيءٌ إلا أتى به؛ هذه من خصال المنافقين، هذه تسمى: الفجور في الخصومة، فالمنافق إذا خاصم فجَر، أما المؤمن فيتقي الله ، إذا اختلفت مع هذا الإنسان؛ لا تُسئ إليه، بينك وبينه خلافٌ تعالج هذا الخلاف بالطريقة الشرعية، وربما أنك لا تحتك به مرةً أخرى، أو تقلِّل الاحتكاك به، لكن لا تفجر معه في الخصومة، الفجور في الخصومة هذا من صفات المنافقين، وكثيرًا ما يكون الفجور في الخصومة عند الطلاق، إما من الزوج أو من الزوجة؛ ولهذا كرر الله الأمر بالتقوى حتى لا يفجر الإنسان في الخصومة.
حكم طلاق الثلاث
قال: فإن طلقها ثلاثًا ولو بكلماتٍ؛ فحرامٌ
يعني: يحرم على الزوج أن يجمع ثلاث تطليقاتٍ في وقتٍ واحدٍ، سواءٌ بكلمةٍ واحدةٍ أو بكلماتٍ، وهذا هو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، واختاره ابن تيمية وابن القيم، وأكثر العلماء على تحريم الجمع بين ثلاث تطليقاتٍ، وأن هذا لا يجوز، لا يجوز: أنتِ طالقٌ بالثلاث، أو طالقٌ، ثم طالقٌ، ثم طالقٌ، هذا محرمٌ عليه، واستدل الجمهور لذلك بحديث محمود بن لبيدٍ قال: أُخبر رسول الله عن رجلٍ طلق زوجته ثلاث تطليقاتٍ، فقام عليه الصلاة والسلام غضبان، وقال: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!، حتى قام رجلٌ فقال: ألا أقتله يا رسول الله؟ [5]، وهذا الحديث أخرجه النسائي، وقال عنه ابن القيم: إسناده على شرط مسلمٍ؛ ولأن الجمع بين ثلاث تطليقاتٍ فيه ضررٌ بالمطلِّق وأيضًا بالمطلَّقة من غير حاجةٍ، فيدخل هذا في عموم الضرر، خلافًا للشافعية الذين قالوا: إنه لا يحرم الجمع بين ثلاث تطليقاتٍ، واستدلوا بأن عويمرًا العَجْلاني لما لاعن امرأته؛ طلقها ثلاثًا، وكان بحضرة النبي [6]، ولكن هذا قولٌ مرجوحٌ، والصواب قول الجمهور، أما قصة عويمرٍ العجلاني فإنها باللعان تَبِين منه أصلًا، فهذه التطليقات التي أوقعها عويمرٌ العجلاني لا قيمة لها ولا تلحق المرأة أصلًا، هي لاغية؛ لأنها قد بانت منه بينونةً مؤبدةً بالملاعنة.
وأيضًا استدلوا بأن فاطمة بنت قيسٍ رضي الله عنها طلقها زوجها ثلاثًا [7]، ولكن أيضًا الاستدلال بهذا محل نظرٍ؛ لأن فاطمة بنت قيسٍ طلقها زوجها طلقةً، ثم طلقةً، ثم طلقةً، في أوقاتٍ متفاوتةٍ، لكن لا يوجد دليلٌ يدل على أن رجلًا في زمن النبي عليه الصلاة والسلام أوقع ثلاث تطليقاتٍ في وقتٍ واحدٍ وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.
فإذنْ لا يجوز للرجل أن يطلق امرأته ثلاث تطليقاتٍ، سواءٌ بكلمةٍ واحدةٍ أو بعدة كلماتٍ، لكنه إذا فعل هل يقع أو لا يقع؟ هذه المسألة الآن هي محل البحث:
طلاق الثلاث هل يقع أو لا يقع؟
نقول: له حالتان:
الحالة الأولى -انتبه لهذه الضوابط- الحالة الأولى: أن يطلق ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ؛ بأن يقول: أنت طالقٌ بالثلاث، أو أنت طالقٌ ثلاثًا، وهذه اختلف فيها العلماء على قولين:
- القول الأول، قول الجمهور: أن الطلاق يقع ثلاثًا.
وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وأيضًا روي عن عددٍ من الصحابة والتابعين، واستدلوا بعموم الأدلة؛ ومنها: قول الله تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ [البقرة:230]، قالوا: هذا طلق امرأته ثلاثًا، قال: أنتِ طالقٌ بالثلاث، أو أنتِ طالقٌ ثلاثًا، فتحرُم عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
- القول الثاني: أن طلاق الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ يقع واحدةً، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وأيضًا من مشايخنا الشيخ ابن بازٍ وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع، واستدل أصحاب هذا القول بما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن ابن عباسٍ قال: كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكرٍ وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدةٌ، فقال عمر: “إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أَنَاةٌ، فلو أمضيناه عليهم”، فأمضاه عليهم [8]، وأن عمر فعل ذلك من باب السياسة الشرعية، ولكن الصواب: ما كان عليه الأمر في عهد النبي وعهد أبي بكرٍ ، وأما عمر فقد اجتهد في هذا اجتهادًا أراد به تعزير الناس؛ حتى لا يستعجلوا في طلاق الثلاث، ولا شك أن حكم النبي عليه الصلاة والسلام وحكم أبي بكرٍ أفضل وأصوب من اجتهاد عمر .
فالأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: أن طلاق الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ يقع واحدةً، ومما يدل لذلك أيضًا: أن هذا هو مقتضى اللغة العربية، أن الكلام المجموع مؤدَّاه عن مرةٍ واحدةٍ، فلو أن رجلًا في اللعان قال: “أشهد بالله إني لمن الصادقين أربع مراتٍ”، هل يكفي هذا؟ لا يكفي بالإجماع، لا بد أن يكررها أربع مراتٍ، فلو قال: “أشهد بالله أربع مراتٍ إني لمن الصادقين”؛ ما اعتُبِر إلا مرةً واحدةً، ولو أن رجلًا أيضًا قال أدبار الصلوات: بدل ما أسبح ثلاثًا وثلاثين، وأحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وأكبر ثلاثًا وثلاثين؛ أقول: “سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثًا وثلاثين وأمشي”، إذا كنتم ستعتبرون أن هذا يؤدي مدلوله؛ إذنْ لا يوجد داعٍ لأكلف نفسي وأكرر التسبيح، أقول مرةً: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثًا وثلاثين وأمشي، لكن العرب في لغتها تفرِّق بين الكلام المجموع بكلمةٍ واحدةٍ، وبين ما كان مكررًا، فهذا أيضًا هو مقتضى اللغة العربية.
واستدلوا أيضًا بحديث ابن عباسٍ في قصة رُكانة لما طلق امرأته ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: كيف طلقتها؟، قال: ثلاثًا، قال: في مجلسٍ واحدٍ؟، قال: نعم، قال: آلله؟، قال: آلله، فقال: إنما تلك واحدةٌ [9]، لكن هذا الحديث لو صح؛ لكان حجةً فاصلةً في هذه المسألة، لكنه ضعيفٌ من جهة الإسناد.
فالقول الراجح إذنْ هو القول الثاني: وهو أن طلاق الثلاث المجموع بكلمةٍ واحدةٍ، أنه يقع طلقةً واحدةً، فإذا قال: أنتِ طالقٌ بالثلاث، أو طالقٌ ثلاثًا؛ فلا يقع إلا طلقةً واحدةً، حتى لو نوى ثلاثًا؟ رجلٌ قال لزوجته: أنتِ طالقٌ بالثلاث، ونواها ثلاث تطليقاتٍ؟
الطالب:…
الشيخ: إي نعم، أحسنت، عند أصحاب القول الثاني، وهو القول الذي رجحناه، حتى لو نوى ثلاثًا لا يقع إلا واحدةً.
فإذنْ انتهينا من هذه: الطلاق المجموع بكلمةٍ واحدةٍ لا يقع إلا واحدةً، إذا قال: أنتِ طالقٌ بالثلاث، طالقٌ ثلاثًا، لا يقع إلا واحدةً على القول الراجح.
صور تكرار الطلاق
الحالة الثانية: أن يكرر الطلاق بألفاظٍ، فهذا له عدة صورٍ:
- الصورة الأولى: أن يطلق زوجته ثلاثًا في أوقاتٍ متعددةٍ، يطلقها ثم يراجعها في العدة أو بنكاحٍ جديدٍ، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، فهذا تطلق منه ثلاث تطليقاتٍ، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره بإجماع العلماء.
- الصورة الثانية: أن يقول لزوجته في وقتٍ واحدٍ: أنتِ طالقٌ، ثم طالقٌ، ثم طالقٌ، أو يقول: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، فيقع طلاقه ثلاثًا عند أكثر أهل العلم؛ لعموم الأدلة؛ ومنها: قول الله تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، وأيضًا أن هذا هو مقتضى اللغة العربية؛ فإنه لو قال: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم، عُدَّ مسلمًا كم مرةً؟ ثلاث مراتٍ، فهكذا إذا قال: طالقٌ، ثم طالقٌ، ثم طالقٌ؛ فيكون طلقها ثلاث تطليقاتٍ، والقول الثاني في المسألة: أنها تكون طلقةً واحدةً، وأنه مهما طلَّق من تطليقاتٍ، ما دام أنه لم يراجعها؛ فلا يعد ذلك إلا طلقةً واحدةً، وهذا رأي ابن تيمية وابن القيم، وأيضًا ابن عثيمين، رحمة الله على الجميع، فيقولون: إذا طلق، لو طلق ألف تطليقةٍ ما يعتبر إلا طلقةً واحدةً حتى يراجعها، ثم يطلق ثانيةً ثم يراجعها، ثم يطلق ثالثةً، انتبه لهذا القول، فهذا القول الثاني في المسألة، والقول الأول هو الصواب في المسألة، والقول الثاني يُشكِل عليه أنه لم يؤثَر عن أحدٍ من السلف؛ ولهذا قال شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، وهذا منقولٌ عندكم في “السلسبيل”: “أما اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية لعدم وقوع الطلاق على الرجعية إلا بعد عقدٍ أو رجعةٍ، فقولٌ ضعيفٌ مخالفٌ للأدلة الشرعية”، قال الشيخ: “ولا أعلم له سندًا ولا سلفًا، وإن قُدِّر أن أحدًا من التابعين أو غيرهم قال بقوله؛ فهو قولٌ غلطٌ مخالفٌ للأدلة الشرعية”، فالشيخ يذكر أنه لا يعرف له سلفًا، هذا هو الإشكال على هذا القول: أنه لم يُعرف أن أحدًا من المتقدمين قال بهذا القول.
وعلى هذا: فالأقرب والله أعلم: أنه إذا قال: طالقٌ، ثم طالقٌ، ثم طالقٌ؛ يقع ثلاثًا، أو: طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ؛ يقع ثلاثًا، وتحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره.
ولكن -من خلال معرفة واقع المستفتين- في الغالب أن الذي يطلق ثلاثًا بهذه الطريقة يكون طلاقه مصحوبًا بغضبٍ شديدٍ؛ فيُفتى بعدم وقوع الطلاق لشدة الغضب، ومرَّ معنا في الدرس السابق: أن الطلاق مع الغضب الشديد لا يقع؛ لحديث: لا طلاق في إغلاقٍ [10]، أنا وجدت تقريبًا ما لا يقل عن (90%) ممن يَستفتي في هذه المسائل: أن طلاقه يكون مصحوبًا بغضبٍ شديدٍ، فيُفتَى بعدم وقوع الطلاق، ليس أخذًا بالرأي الثاني، وإنما لأن طلاقه وقع في حال غضبٍ شديدٍ.
الطالب:…
الشيخ: نعم، عليه كفارةٌ، في جميع الصور التي يُفتى فيها بعدم الطلاق يكون عليه كفارةٌ، يحمد الله أنه ما أفتي بالطلاق أصلًا.
- الصورة الثالثة: أن يقول: أنتِ طالقٌ طالقٌ طالقٌ، دون واوٍ، ودون (ثم)، إن أراد تأكيدًا أو إفهامًا ولم ينوه ثالثًا؛ وقع واحدةً، وإن نوى ثلاثًا؛ وقع ثلاثًا.
فإذنْ هذه هي صور الطلاق التي يمكن أن تَرِد، والتي يُستفتى عنها، هذه الصور التي ذكرناها هي أربع صورٍ، نعيدها مرةً ثانيةً:
- الصورة الأولى: أن يقول: طالقٌ بالثلاث، أو مطلقةٌ ثلاثًا؛ هذا لا يقع إلا واحدةً على القول الراجح.
- الصورة الثانية: أن يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها؛ تقع ثلاثًا، وتحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره.
- الصورة الثالثة: يقول: طالقٌ ثم طالقٌ ثم طالقٌ، أو: طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ؛ تقع ثلاثًا عند الأكثر، عند أكثر علماء الأمة.
- الصورة الرابعة أن يقول: طالقٌ طالقٌ طالقٌ، إن أراد تأكيدًا أو إفهامًا؛ تقع واحدةً، وإن أراد ثلاثًا؛ وقعت ثلاثًا.
إذا ضبطت هذه الصور؛ ضبطت مسائل الطلاق.
الطالب:…
الشيخ: الصورة الأخيرة، في قول الأكثر أيضًا، ليس فيها إجماعاتٌ، كلها ليس فيها إجماعاتٌ، إلا الصورة الثانية: طلق ثم راجع، ثم طلق ثم راجع، ثم طلق؛ هذه محل إجماعٍ، أما ما عداها ففيها خلافٌ.
الطلاق في الحيض
ثم قال المصنف رحمه الله:
وفي الحيض.
وهذه أيضًا مسألةٌ من المسائل الكبيرة المشكلة: الطلاق في الحيض.
أولًا: الطلاق في الحيض محرمٌ، وطلاقٌ بدعيٌّ، ويأثم المطلِّق، لكن هل يقع أو لا يقع؟
في هذه المسألة قولان:
- القول الأول: أن طلاق الحائض يقع، وهو قول أكثر أهل العلم، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وحكاه ابن المنذر إجماعًا، وحكاه ابن عبدالبر إجماعًا، بل قال ابن المنذر: “إنه لم يخالف في وقوع طلاق الحائض إلا أهل البدع والضلال”، وقال النووي: “إنه لم يخالف في زماننا في وقوع طلاق الحائض إلا الرافضة وأهل البدع والضلال”، فهذه كلماتٌ تفيدنا في تحرير هذه المسألة، لاحِظ أن هذا قول أكثر علماء الأمة، وإن كانت حكاية الإجماع محل نظرٍ، فهناك من قال من أهل العلم الكبار من الأئمة بعدم وقوع طلاق الحائض.
- القول الثاني: أن طلاق الحائض لا يقع، هذا رُوي عن بعض التابعين؛ روي عن عكرمة وطاووسٍ وابن إسحاق وابن حزمٍ أيضًا، قاله ابن حزمٍ، وهو روايةٌ عند الحنابلة، واشتهر هذا القول باختيار ابن تيمية وابن القيم له، وأيضًا أفتى به سماحة شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، وأصبحت الفتيا عليه الآن.
طبعًا نحن نقرر هذه المسألة الآن من الناحية النظرية، وأما الفتيا فإلى جهات الإفتاء، لكن نحن نقرره من الناحية النظرية فقط.
القائلون بوقوع طلاق الحائض -وهم: الجمهور- استدلوا بقصة ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته وهي حائضٌ، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: مُره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلق [11].
وأيضًا جاء عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائضٌ، فذكر عمر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: ليراجعها، قلت: تُحتسب؟ قال: فَمَه؟ أرأيت إن عجز أو استحمق؟ [12]، ووجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر ابن عمر بالمراجعة، والمراجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، ولو لم يقع الطلاق في الحيض؛ لَمَا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمراجعة.
أيضًا من أقوى الأدلة، وانتبه لهذا الدليل: جاء في “صحيح البخاري” عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “حُسِبت عليَّ تطليقةً” [13]، هل هناك أصرح من هذا؟ ابن عمر يقول: “حسبت عليَّ تطليقةً”، وهذا في البخاري.
اما أصحاب القول الثاني القائلين بعدم وقوع الطلاق، فاستدلوا بقصة ابن عمر نفسها، وأنه قد جاء في بعض الروايات: “فردَّها ولم يرها شيئًا” [14]، كما جاء عند أبي داود وعند أحمد، لكن هذه الرواية: “فردَّها ولم يرها شيئًا”، ضعيفةٌ، هذه مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر، فهي ضعيفةٌ، وأنكر الأئمة هذه اللفظة.
وأيضًا استدل أصحاب هذا القول، بقول النبي عليه الصلاة والسلام: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ [15]، قالوا: وإذا كان مردودًا؛ فلا يقع؛ لأنه خلاف السُّنة.
والقول الراجح هو القول الأول: هو القول بوقوع طلاق الحائض، ولو لم يرد في المسألة إلا قول ابن عمر: “فحسبت علي تطليقةً”؛ لكفى.
والعجيب أن أصحاب القول الثاني لما أُورِد عليهم قول ابن عمر رضي الله عنهما: “فحُسِبت علي تطليقةً”، هذا في البخاري، وابن عمر رضي الله عنهما نفسه صاحب القصة وصاحب الشأن يقول: “حسبت علي تطليقةً”؛ قالوا: لعل الذي حسبها غير النبي عليه الصلاة والسلام! لعل الذي حسبها عمر رضي الله عنه! أو حسبها ابن عمر رضي الله عنهما نفسه على نفسه! ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “حُسِبت علي”، كيف نقول يحسبها على نفسه؟! وكيف عمر هو الذي يحسبها؟! وكما قال الحافظ ابن حجرٍ: الموجِّه والمرشد في هذه القصة هو النبي عليه الصلاة والسلام وليس عمر، يعني: هذا بعيدٌ وفيه تكلفٌ، “حُسِبت عليَّ تطليقةً”، هذا في البخاري، وهذا صريحٌ في وقوع طلاق الحائض.
فالقول الراجح في هذه المسألة هو قول الجماهير: وهو أن طلاق الحائض يقع، هذا هو الأظهر، وكما سمعتم في كلام ابن المنذر: “أنه لم يخالف فيها إلا أهل البدع والضلال في زمنه”، والنووي أيضًا قال: ما خالف أصلًا إلا الرافضة وأهل البدع، هذا يدل على أن هذا هو القول عند أكثر علماء الأمة.
ولكن تبنِّي هذين الإمامين الجبلين العظيمين -ابن تيمية وابن القيم- للقول الثاني مع ضعفه؛ قوَّاه، وهذا يدل على أن العالم الكبير إذا تبنى قولًا ضعيفًا؛ يتقوى القول بتبني العالم الكبير له، فلولا أن ابن تيمية وابن القيم تبنَّيا هذا القول؛ ما اعتبره أحدٌ شيئًا، لكن لما تبنَّيا هذا القول؛ تقوَّى هذا القول، وأصبح هناك من يفتي به.
الطلاق البِدْعي
قال: أو في طهرٍ وطئها فيه؛ فبِدْعِيٌّ حرامٌ، ويقع.
يعني: لو طلق الرجل امرأته في طهرٍ جامعها فيه؛ فهو حرامٌ وبدعيٌّ، لكن هل يقع؟ عند أكثر العلماء يقع؛ كطلاق الحائض.
قال: ولا سُنة ولا بدعة لمن لم يدخل بها.
غير المدخول بها لا يقال: إن طلاقها طلاق سُنةٍ أو بدعةٍ؛ لأنها أصلًا ليس لها عدةٌ؛ كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا[الأحزاب:49]، ما دام أنها ليس لها عدةٌ؛ إذنْ لا يقال: إن طلاقها سُنةٌ أو بدعةٌ، ولذلك يجوز أن تطلَّق وهي حائضٌ، ما دام أنه لم يدخل بها.
ولا لصغيرةٍ وآيسةٍ.
لأنهما تعتدَّان بالأشهر وليس بالأقراء، فلا يقال: إن طلاقهما سنةٌ أو بدعةٌ.
وحاملٍ.
يعني: لا يوصف طلاق الحامل بأنه سنةٌ أو بدعةٌ، ولكن هذا محل نظرٍ، الصواب أن طلاق الحامل من السُّنة، فإنه قد جاء في بعض روايات حديث ابن عمر أن النبي قال: مُرْه فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا [16]، رواه مسلمٌ.
فطلاق الحامل من السُّنة، لكن الأفضل ألا يطلقها وهي حاملٌ؛ لأن المرأة ضعيفةٌ، وتضعف أكثر بالحمل: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14]، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، فالحمل أمره شديدٌ، فلا يزيد شدته بتطليقها، ينبغي أن يراعي حالها ولا يطلقها وهي حاملٌ، ينتظر حتى تضع ثم يطلق، وإن كان يجوز أن يطلقها وهي حاملٌ.
قال: ويباح الطلاق والخلع بسؤالها زمن البدعة.
عند فقهاء الحنابلة يقولون: الكلام السابق إذا أقدم الزوج على تطليق زوجته، أما لو أنها هي التي طلبت الطلاق؛ فيجوز أن يطلقها حتى وإن كانت حائضًا أو في طهرٍ جامعها فيه، وعللوا لذلك؛ قالوا: لأن الحق للمرأة؛ لأنه إنما منع من تطليقها في الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه؛ لأنها تتضرر بتطويل العدة، فإذا كانت هي التي سألت الطلاق؛ فقد أسقطت حقها.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يباح الطلاق في الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه ولو طلبت ذلك المرأة، وهذا هو القول الراجح، واختاره ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وذلك لأن المنع من الطلاق في حال الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه ليس فقط لحق المرأة، بل لحق الله ؛ فإن النبي نهى عن ذلك وغضب لما فعله ابن عمر [17].
فالأقرب: أنه لا يجوز الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي جامعها فيه مطلقًا، حتى لو طلبت المرأة ذلك.
المطلقة الرجعية التي طُلِّقت طلقةً واحدةً أو طلقتين، لا يجوز أن تَخرج ولا أن تُخرج؛ كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ، إلا في حالةٍ واحدةٍ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].
والآن الشائع عند كثيرٍ من العامة: أن المرأة إذا طُلِّقت؛ ذهبت لبيت أهلها، هذا لا يجوز، إذا كانت خرجت هي من نفسها؛ تأثم: وَلَا يَخْرُجْنَ، وإذا كان أخرجها الزوج؛ فهو الذي يأثم: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، بل الواجب عليها أن تبقى طوال العدة في بيت الزوج، لماذا؟ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]؛ لأنها إذا بقيت طوال العدة؛ ربما يَرِقُّ لها الزوج، وربما يراجعها، ولهذا قال بعض الفقهاء: إنه ينبغي أن تستشرف له وأن تتزين له؛ لعله أن يراجعها.
صريح الطلاق وكنايته
ثم قال المصنف رحمه الله:
باب صريح الطلاق وكنايته
يُقسِّم العلماء ألفاظ الطلاق إلى صريحٍ وكنايةٍ.
الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية
قال:
صريحه لا يحتاج إلى نيةٍ، وهو لفظ الطلاق وما تَصرَّف منه.
الألفاظ الصريحة: هي التي لا تحتمل غير الطلاق، وعرف المؤلف الصريح بقوله: “لا يحتاج إلى نيةٍ”، وهو: لفظ الطلاق وما تَصرَّف منه؛ كأن يقول: أنتِ طالقٌ، أنت مطلقةٌ، طلقتك، ونحو ذلك.
وأما الألفاظ الكنائية: فهي ما تحتمل الطلاق وغير الطلاق؛ كأن يقول: الحقي بأهلك، إن نوى طلاقًا؛ وقع طلاقًا، وإن لم ينوِ طلاقًا؛ لم يقع شيئًا.
قال: غير أمرٍ ومضارعٍ، ومُطَلِّقةٍ، اسمِ فاعلٍ.
يعني: لما قال المؤلف: إن صريح الطلاق: “هو لفظ الطلاق وما تصرف منه”؛ استثنى، قال: “غير أمرٍ”، لو قال: طَلِّقي، هذا لا يقع، “طلقي” فعل أمرٍ لا يقع، أو قال: تَطلُقين، بصيغة المضارع، لا يقع، أو قال: مُطَلِّقةٌ، أنتِ مطلِّقةٌ، اسمَ فاعلٍ، لا يقع، وإن كانت هذه مشتقةً من لفظ الطلاق؛ ولهذا استثناها المؤلف.
قال: فإذا قال لزوجته: أنتِ طالقٌ؛ طَلُقت، هازلًا كان أو لاعبًا، أو لم ينوِ.
إذا “قال لزوجته: أنتِ طالقٌ؛ طَلُقت”، حتى ولو كان ذلك على سبيل المزاح أو الهزل أو اللعب؛ لقول النبي : ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ، وهزلهنَّ جِدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة [18]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي، وإن كان في سنده مقالٌ، إلا أن العمل عليه عند أهل العلم، قال ابن المنذر: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن جِد الطلاق وهزله سواءٌ”، وقال الترمذي: “العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم”.
وقول المصنف: “هازلًا كان أو لاعبًا”، جعل المؤلفُ اللاعبَ في مقابلة الهازل، وهذا محل نظرٍ، والظاهر: أنه لا فرق بين اللاعب والهازل، وأن الهازل هو اللاعب، ولهذا تجد أن أكثر فقهاء الحنابلة لم يذكروا اللاعب، واقتصروا على كلمة: “هازل”، فلو أن المؤلف اقتصر، قال: ولو كان هازلًا؛ لكان هذا أخصر وأجود في العبارة.
وقوله: “أو لم ينوِ”، يقول المؤلف: إذا قال لزوجته: أنتِ طالقٌ، ولم ينوِ الطلاق؛ يقع الطلاق، لماذا؟ لأنه أتى باللفظ الصريح، والصريح لا يحتاج إلى نيةٍ، وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم ينوِ الطلاق وصرفه إلى ممكنٍ؛ قُبِل منه إذا كان عدلًا، لو أن رجلًا قال لزوجته: أنتِ طالقٌ، ثم قال: والله إني ما نويت الطلاق، وحلف؛ فعند الجمهور يقع، والقول الثاني: أنه لا يقع؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات [19]، وهذا لم ينوِ، وهذا هو القول الراجح أنه يُدَيَّن فيما بينه وبين الله، يقال: إذا لم تنوِ؛ فإنه لا يقع الطلاق، ولو كان بلفظٍ صريحٍ، ومما يدل لذلك: أن الأصل صحة النكاح واستمراره، ولا نحرِّم هذه المرأة على زوجها ونبيحها لرجلٍ آخر إلا بشيءٍ واضحٍ، فإذا قال: إنني لم أنوِ الطلاق، فالقول الراجح: أنه لا يقع.
طبعًا هذا فيما بينه وبين الله، لكن لو أن المرأة رفعت الأمر للمحكمة؛ فالقاضي يعتبره طلاقًا، لكن فيما بينه وبين الله يقال: أنتَ حسب نيتك.
طالب: ما الفرق بين عدم نية الطلاق وبين الهزل؟
الشيخ: الهزل هو نوى الطلاق، لكن قال: كنت هازلًا، كنت أمزح، وإلا هو نوى، نوى كلمة الطلاق ولفظ الطلاق وصيغة الطلاق، لكن هذا قال: ما نويت أصلًا الطلاق، ما نويت.
طالب:…
الشيخ: نعم، ما نوى الطلاق نفسه، معنى الطلاق.. لم أنوِهِ.
الطالب:…
الشيخ: إذا ما نوى فيما بينه وبين الله؛ لا يقع، لكن أمام القضاء يقع، حتى ولو قيل له: أطلَّقت امرأتك؟ قال: نعم، يريد الكذب بذلك؛ فيقع، يقع حتى لو كان كاذبًا؛ لأنه صريحٌ في الطلاق.
والقول الثاني: إنه إذا كان كاذبًا؛ لا يقع الطلاق؛ لأنه أخبر خبرًا كاذبًا، كيف نلزمه بوقوع الطلاق وهو لم ينوه؟! وهذا هو القول الراجح.
الحلف بالطلاق
ومن قال: حلفت بالطلاق، وأراد الكذب، ثم إن فعل ما حلف عليه؛ وقع الطلاق حُكمًا ودُيِّنَ.
يعني: رجلٌ قال: حلفت بالطلاق، لكنه لم يحلف، كان يكذب، فلا يقع الطلاق في هذه الحالة، وإذا فعل ما حلف عليه؛ لا يقع الطلاق فيما بينه وبين الله، لكن حكمًا يقع، يعني: أمام القضاء يقع؛ لأنه متعلقٌ بحق إنسانٍ آخر، فيقع، لكن فيما بينه وبين الله لا يقع.
وإن قال: عليَّ الطلاق، أو يلزمني الطلاق؛ فصريحٌ، منجزًا أو معلَّقًا أو محلوفًا به.
إذا قال: عليَّ الطلاق، أو يلزمني الطلاق، فيقع، يقول: يعتبرون هذا من الصريح.
قال: “منجزًا أو معلقًا أو محلوفًا به”، يعني: “منجزًا” هذا واضحٌ: أنتِ طالقٌ، عليَّ الطلاق.
وقوله: “معلَّقًا أو محلوفًا به”، هذا هو الذي يسميه الفقهاء الطلاق المعلق؛ وذلك بأن يعلِّق الطلاق على شيءٍ، هو لا يريد الطلاق، وإنما يريد حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، وهذه كثيرًا ما تقع، يقول بعض الناس: عليه الطلاق إن لم تأكل ذبيحته، عليه الطلاق إن لم يكن هذا الخبر صحيحًا، يقول لزوجته: إن ذهبتِ للسوق؛ فأنتِ طالقٌ، إن فعلت كذا؛ فأنتِ طالقٌ، وكما ترون في بعض المقاطع التي تُنقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ يُسمع في المقطع أكثر من طلاقٍ، هذا يطلق، وهذا يطلق، والثالث يطلق، فهذا يسميه العلماء: الطلاق المعلَّق، فهل يقع أو لا يقع؟
المؤلف يقول: إنه يقع، وهذا هو الذي عليه الجماهير، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، يرون أنه يقع؛ وبناءً على ذلك: فما يُنقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي عند جماهير أهل العلم أن طلاق هؤلاء يقع، كلهم يقع طلاقهم، إذا حلف على شيءٍ وما تحقق؛ يقع عند أكثر العلماء، وقالوا: إن هذا لفظٌ صريحٌ في الطلاق، فيقع به الطلاق.
والقول الثاني: إنه إذا نوى الطلاق؛ وقع، وإذا لم ينوِ الطلاق، وإنما أراد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ فلا يقع، ويكون حكمه حكم اليمين؛ أي إنه يكون فيه كفارة يمينٍ، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره الإمام ابن تيمية وابن القيم، رحمهما الله تعالى، وأيضًا اختاره من مشايخنا الشيخ ابن بازٍ وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
واستدلوا بقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى [20]، وهذا لم ينوِ الطلاق، إنما نوى الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب، وأيضاً استدلوا بفتيا جمعٍ من الصحابة بأن الرقيق لا يعتق، وأن المال لا تجب به الصدقة، إذا عُلِّقا على شرطٍ عند وقوع ما عُلِّقا عليه، قالوا: فيقاس عليهما الطلاق، ولأنه شبيهٌ بالتحريم الذي ذكره الله تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، قالوا: فهذا إنما قصد المنع، فهو شبيهٌ بالتحريم الذي قصد التحريم، والله تعالى قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، ولا يكون ذلك الشيء حرامًا؛ هكذا أيضًا بالنسبة للطلاق، قالوا: فالله تعالى ذكر لمن حرَّم على نفسه شيئًا أباحه الله أنه إذا كفَّر كفارة يمينٍ؛ انحلت هذه اليمين؛ هكذا أيضًا إذا لم ينوِ الطلاق، وإنما نوى حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، هذا شبيهٌ بمن حرم على نفسه حلالًا، فيكفي فيه كفارة يمينٍ، وهذا هو القول الراجح في المسألة، وهو أنه إذا لم ينوِ الطلاق، وإنما قصد الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ فينظر؛ إن كان يريد الطلاق؛ فيقع الطلاق، وإن كان لا يريد الطلاق؛ فلا يقع، يعني: بعضهم مثلًا يعلِّق الطلاق، يقول لزوجته: إن ذهبتِ إلى كذا، أو إن فعلتِ كذا؛ فأنتِ طالقٌ، وهو ينوي الطلاق، يرى أنها إن فعلت هذا الشيء طابت نفسه منها؛ فهنا يقع، لكن إن كان لا ينوي الطلاق، وهذا حال الأغلب أنه لا ينوي الطلاق، وإنما يريد الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ فلا يقع، ويكون فيه كفارة يمينٍ.
والعجيب أن هذا القول -وهو القول بعدم وقوع الطلاق المعلق- إذا لم ينوِ به الطلاق، وإنما أراد به حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، وهو رأي ابن تيمية وابن القيم، العجيب أنه أصبحت عليه الآن الفتيا في العالم الإسلامي كله، مع أن ابن تيمية نفسه قد أوذي بسبب هذه الفتوى، أوذي أذًى شديدًا، حتى قيل: إنه سجن بسببها، ومع ذلك رجعت الأمة الآن إلى قوله، وأصبحت الفتيا في العالم الإسلامي على قول ابن تيمية! فهذه من أعجب المسائل! ربما أن فقهاء العالم الإسلامي رأوا أن هذا القول فيه تيسيرٌ على الناس، وفيه رفعٌ للحرج، وقد قال به هذا الإمام العظيم ابن تيمية، وكذلك ابن القيم، فأصبحت الفتيا في العالم الإسلامي على فتوى ابن تيمية في هذه المسألة، وإن كان في حياته قد أوذي بسبب هذه الفتوى.
لكن مع ذلك، مع ترجيحنا لقول ابن تيمية في الطلاق المعلق، إلا أنه ينبغي إبراز قول الجمهور، وأن يقال لهؤلاء الذين يتلاعبون بالطلاق، يقال: عند أكثر الفقهاء أن زوجاتكم طُلِّقت، هذا الذي يحلف بالطلاق إن لم تأكل ذبيحتي، فيقول: زوجته طالقٌ، إن لم يأكل هذا الضيف ذبيحته، عند أكثر العلماء زوجتك طُلِّقت، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وأكثر أهل العلم، وكانت عليه الفتوى عندنا هنا في المملكة وقت الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، لكن لما أتى شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله تبنَّى رأي ابن تيمية رحمه الله، رحمة الله على الجميع، فأصبحت الفتوى على هذا القول، لكن في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم كانت على قول الجمهور، فينبغي على الأقل، وإن رجحنا القول بأنه لا يقع الطلاق إذا علَّقه ويريد به حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، وإنما يكون حكمه حكم اليمين؛ ينبغي على الأقل إبراز قول الجمهور للعامة.
أذكر أن رجلًا أتى إليّ وقال: إني طلقت زوجتي وأنا لا أقصد الطلاق، إنما قصدت الحثَّ أو المنع أو تصديقًا أو تكذيبًا، اعتمادًا على هذا القول، قلت: عند الجمهور زوجتك طُلِّقت، لماذا تفعل هذا؟ قال: كنت أظن أنه لا يقع، فينبغي إبراز قول الجماهير، يعني: قول الجمهور الآن شبه مُغيَّبٍ، ينبغي لطلبة العلم والدعاة والخطباء أن يبرزوا قول الجمهور حتى يكون هذا رادعًا لأولئك المتلاعبين بالطلاق.
وبعض الناس يعتقد أنه إن لم يحلف بالطلاق أنه لن يصدقه الذي يتكلم معه، أو يعتقد أنه إذا لم يحلف بالطلاق أنه ليس عنده كرمٌ، يعني: إذا أراد أن يؤكد كرمه، وأنه يرغب في دعوة فلانٍ لوليمة؛ لا بد أن يحلف بالطلاق، إذا لم يحلف بالطلاق؛ معنى ذلك أنه بخيلٌ، وهذا كله يدل على الجهل وعلى قلة الوعي، كيف يجعل مصير أسرته لأجل أن يثبت صدق نفسه؟! أو لأجل يثبت كرمه؟! أو لأجل مواقف تافهةٍ؟! يعلِّق مصير أسرته لأجل مواقف تافهةٍ؟! هذا يدل على الجهل وعلى قلة الوعي، وعلى أيضًا قلة الخوف من الله ، يعني: قلة الورع، ولهذا ينبغي أن يُنكَر على هؤلاء الذين يطلِّقون لأدنى سببٍ، ينبغي أن ينكر عليهم، وإذا تواصى المجتمع في الإنكار عليهم؛ فإن هذا سيكون رادعًا لهم، ومن يفعل ذلك -من يطلق في المجلس لأجل إكرام ضيفٍ، أو لأجل تصديق خبرٍ- ينبغي أن يقال له: اذهب إلى دار الإفتاء، استفتِ؛ لأن أكثر العلماء يرون وقوع طلاق زوجتك، لا بد أن يذهب ويستفتي بنفسه حتى أيضًا يوجَّه ويُرشَد، ولا يتلاعب بحدود الله .
طالب:…
الشيخ: الجمهور يرونها ثلاثًا إذا نواها ثلاثًا، وإذا نوى واحدةً؛ تقع واحدةً.
الطالب:…
الشيخ: لا، بالنسبة للأعزب: إنما الطلاق لمن أخذ بالساق [21]، لا يقع طلاقه.
الطالب:….
الشيخ: إي نعم، يكون عليه كفارةٌ؛ لأنه يجري مجرى اليمين.
قال: وإن قال: عليَّ الحرام، أو نوى امرأته؛ فظهارٌ، وإلا فلغوٌ.
انتبه لهذه المسألة، هذه تَرِد على ألسنة بعض الناس، يقول: عليَّ الحرام، عليَّ الحرام كذا، عليَّ الحرام أن تفعل كذا، قال: “فإن قال: عليَّ الحرام، إن نوى امرأته”، إن قال لزوجته: عليَّ الحرام أو أنتِ عليَّ حرامٌ؛ فعلى المذهب أن هذا ظهارٌ.
والقول الثاني: إنه بحسب نيته: إن نوى ظهارًا؛ كان ظهارًا، وإن نوى طلاقًا؛ كان طلاقًا، وإن نوى يمينًا؛ كان يمينًا، وهذا هو القول الراجح: بحسب نيته؛ فإن نوى ظهارًا؛ فهذا اللفظ يصلح لأن يكون ظهارًا، إن نوى طلاقًا؛ فهذا اللفظ يصلح لأن يكون من كنايات الطلاق، إن لم ينوِ طلاقًا ولا ظهارًا -وهذا هو الغالب- وإنما قصد حثًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا؛ فيكون حكمه حكم اليمين، وعليه كفارة اليمين.
وهذا يدل على تأثير النية في ألفاظ الطلاق، ولهذا مسائل الطلاق لا يُفتى فيها بواسطةٍ، ولا يُفتى فيها عبر وسائل الإعلام، لا بد أن المستفتي يأتي للمفتي، والمفتي يدرس حالة الطلاق التي وقعت من جميع النواحي: يتثبت أولًا من لفظ المطلِّق، ومن قصده ونيته، وحالته النفسية، ودرجة غضبه، وحالة المرأة من جهة الطُّهر ونحوه، كل هذه الأمور تحتاج إلى دراسةٍ، وأيضًا يتثبَّت بأن يسمع من المرأة ما الذي حصل، ويتأكد من مطابقة الأقوال، هذا كله يستدعي دراسةً؛ ولذلك مسائل الطلاق لا يُفتى فيها عبر وسائل الإعلام، ولا يفتى فيها عبر الإنترنت، ولا يفتى فيها عبر واسطةٍ، بل المطلِّق يأتي للمفتي ويشرح له ما الذي حصل، والمفتي يدرس ذلك من جميع النواحي، من جهة اللفظ، ومن جهة القصد، ومن جهة الحالة النفسية، ومن جهة درجة الغضب، ومن جهة حالة المرأة، ثم بعد ذلك يفتي بعد دراسة حالة الطلاق هذه.
التشريك في الطلاق
قال: ومن طلَّق زوجته، ثم قال: عقِبه لضُرَّتها شركتك، أو أنتِ شريكتها، أو مثلها؛ وقع عليهما.
هذا رجلٌ عنده زوجتان، طلق زوجته الأولى وكان غاضبًا عليهما جميعًا، ثم لما أتى لضُرَّتها قال: أنتِ شريكتها، أو أشركتكِ معها، فيقع الطلاق على الاثنتين؛ لأنه صريحٌ وقد نوى ذلك.
من طلق وله أكثر من زوجةٍ ولم يعين واحدةً منهن
وإن قال: عليَّ الطلاق، أو امرأتي طالقٌ، ومعه أكثر من امرأةٍ؛ فإن نوى معيَّنةً؛ انصرف إليها.
هذا رجلٌ عنده أكثر من امرأةٍ، قال: عليَّ الطلاق، أو قال: أنتِ طالقٌ، ونوى فلانة؛ فيقع على فلانة التي نواها، لكن الإشكال إن لم ينوِ.
قال: وإن نوى واحدةً مبهمةً؛ أُخرجت بالقرعة.
قال: عليَّ الطلاق، أو قال: امرأتي طالقٌ، وعنده زوجتان أو ثلاثٌ أو أربعٌ، فيقع طلاقًا بأيِّ واحدةٍ؟
يقول المؤلف: إنه يقرع بينهن.
والقول الثاني: إن الطلاق يقع على جميع زوجاته، وهذا هو الراجح؛ لأن القرعة هنا لا مدخل لها، الطلاق قد وقع وتلفَّظ به، والقرعة لا ترفع الطلاق عن امرأةٍ وتوقعه على أخرى؛ فالصواب: أن الطلاق يقع على جميع زوجاته، وهذا هو الذي اختاره الموفَّق رحمه الله تعالى.
وإن لم ينوِ شيئًا؛ طلَّق الكل.
كذلك إذا قال: عليَّ الطلاق، أو قال: زوجتي طالقٌ، وعنده ثنتين أو ثلاثٌ أو أربع زوجاتٍ، وسألناه قلنا: نويت من؟ قال: لم أنوِ شيئًا، فيطلِّق الجميع، وهذا يؤكد رجحان القول السابق: إن الطلاق يقع على جميع نسائه؛ إذ لا فرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة.
فإن قال قائلٌ: كيف نوقع عليه طلاق جميع زوجاته وهو إنما نوى تطليق امرأةٍ واحدةٍ؟! نقول: هو الذي تسبب لنفسه، تلاعب بحدود الله ، كيف ينوي امرأةً واحدةً ولا يعيِّنها؟! فتطلق جميع زوجاته؛ لأن الطلاق الآن صدر منه ووقع، لا نستطيع أن نحدد امرأةً دون امرأةٍ بقرعةٍ، القرعة لا يمكن أن توقع الطلاق على امرأةٍ وترفع عن أخرى، والطلاق قد صدر ووقع منه، فيقع على الجميع، وهو الذي قد تسبب لنفسه في ذلك.
حكم نية الطلاق بالقلب دون التلفظ
ومن طلَّق في قلبه؛ لم يقع.
وهذا بالإجماع، حديث النفس لا يؤاخَذ به الإنسان، ولا يقع به طلاقٌ، ولا يترتب عليه أي شيءٍ، لقول النبي : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم [22]، وهذا من رحمة الله بالمؤمنين، أن حديث النفس لا يؤاخذ به الإنسان ما لم يعمل أو يتكلم؛ ولهذا بإجماع العلماء أن من طلق في نفسه لا يقع طلاقه.
فإن تلفَّظ به، أو حرَّك لسانه؛ وقع ولو لم يَسمعه.
إن تلفظ بالطلاق وقع حتى ولو لم يسمعه، وقول المؤلف: “أو حرك لسانه”، هذا محل نظرٍ، الصواب: أنه إذا لم يتلفَّظ به؛ لا يقع ولو حرك لسانه؛ لأن العبرة ليست بتحريك اللسان، العبرة بالتلفُّظ.
وأما قوله: “ولو لم يسمعه”، يعني: أنه يقع الطلاق إذا تلفَّظ به ولو لم يسمعه، وهذا هو الصحيح، وهذا يؤكد أنه في الصلاة لا يشترط أن يُسمِع المصلي نفسه، والمشهور من المذهب عند الحنابلة أنه لا بد أن يُسمِع نفسه، لكن هنا في الطلاق، قالوا: يقع طلاقه ولو لم يُسمِع نفسه، وهذا نوعٌ من الاضطراب؛ وهذا يدل على أن هذا القول مرجوحٌ، من علامة القول الراجح أنه مطَّردٌ لا يضطرب، فأنتم تقولون في الصلاة: لا بد أن يُسمِع نفسه، وهنا في الطلاق تقولون: لا يشترط أن يسمع نفسه، فهذا نوعٌ من عدم الاطّراد.
ولهذا: القول الراجح في المسألتين: أنه لا يشترط أن يُسمِع نفسه، فإذا كنت تصلي في الصلاة السرية لا يشترط أن تُسمِع نفسك الفاتحة، ولا يشترط أن تُسمِع نفسك التسبيح ولا بقية الأذكار في الصلاة، هكذا أيضًا في الطلاق لا يشترط إذا تلفَّظ الإنسان بالطلاق أن يُسمِع نفسه؛ لأن اشتراط الإسماع لا دليل عليه؛ وبهذا يتبين أيضًا: أن من قرأ الفاتحة في نفسه من غير تلفظٍ لا تصح صلاته، وهذا يقع من بعض الناس، يقرأ الفاتحة في نفسه، يقرأ أذكار الصلاة في نفسه، بل بعض الناس عندما يقرأ القرآن يفتح المصحف ولا يتلفظ، هذه ليست قراءةً، هذا مجرد نظرٍ وتأملٍ، ليست قراءةً ولا يُؤجر عليها أجر التلاوة، هذه المسألة مسألةٌ خطيرةٌ وواقعةٌ من بعض الناس، فالذي يصلي ولا يتلفظ بالفاتحة ولا بأذكار الصلاة؛ لا تصح صلاته، لا بد من التلفظ؛ ولهذا في هذه المسألة هنا، في باب الطلاق، الفقهاء مجمعون على أنه إذا طلق في نفسه ولم يتلفظ بالطلاق؛ لا يقع طلاقه، هكذا أيضًا قراءة الفاتحة، إذا قرأها في نفسه ولم يتلفظ بها؛ فإن صلاته لا تصح.
هنا طلاق الموسوس، طلاق الموسوس لا يقع؛ وذلك لأن الموسوس مغلَقٌ عليه، ولم تتضح إرادته ولا قصده، وعنده تهيؤاتٌ وأوهامٌ فلا يقع طلاقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا طلاق في إغلاقٍ [23].
الطلاق بالكتابة
حسنًا، قال:
ومن كتب صريح طلاق زوجته وقع.
هذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها، بعض الناس يحصل بينه وبين زوجته مخاصمةٌ، فيُرسل لها برسالة جوالٍ، يقول لها: أنتِ طالقٌ، هل يقع الطلاق أو لا يقع؟
المؤلف يقول: إنه يقع، وأن هذا من صريح الطلاق، وهذه المسألة للفقهاء فيها قولان:
- القول الأول: أن الكتابة من صريح الطلاق، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
- والقول الثاني: أن الكتابة من كنايات الطلاق، فلا يقع بها الطلاق إلا بالنية أو القرينة، وهذا نسبه الماوردي لجمهور الفقهاء.
القائلون بأن الكتابة من صريح الطلاق، استدلوا بأن النبي كان مأمورًا بتبليغ الرسالة، وأنه عليه الصلاة والسلام اكتفى في كتابته لبعض ملوك ورؤساء العالم بالكتابة، وأيضًا قالوا: إن الصحابة جمعوا القرآن في المصحف كتابةً، وأقاموه مقام تلفُّظهم، وأيضًا كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في الإثبات.
وأما الجمهور القائلون بأن الكتابة من الكناية فقالوا: إن الله أرسل رسوله مبلِّغًا لرسالته، ولو كانت الكتابة كالكلام لمكَّن الله رسوله من الكتابة، ولو قامت الكتابة مقام الكلام؛ لأجزأ من كتب القرآن في الصلاة عن أن يتكلم به، وأيضًا لصح بذلك عقد النكاح، ولوقع به الطلاق، ولأن الكتابة تحتمل أن يريد بها الطلاق، أو يريد بها غيره.
والراجح هو القول الثاني: إن الكتابة من الكناية وليست من الصريح، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.
أما ما استدل به أصحاب القول الأول: فغاية ما تدل له أدلتهم: أن الكتابة معتبرةٌ شرعًا، لكن ليس فيها الدليل على أنها من قَبيل الصريح.
ثمرة الخلاف: أن من أرسل لزوجته رسالةً كتب فيها: أنتِ طالقٌ، أو كتب الطلاق عمومًا حتى في غير الرسالة، من كتب طلاق زوجته عمومًا؛ فعلى القول الأول: يقع مطلقًا، بغض النظر عن نيته، وعلى القول الثاني: لا يقع إلا إذا نوى الطلاق.
فإذنْ الذي أرسل رسالةً لزوجته قال لها: أنتِ طالقٌ، نسأله هل نويت الطلاق؟
إن قال: نعم؛ تطلق، وإن قال: لا، ما نويت الطلاق؛ فلا يقع طلاقًا.
فلو قال: لم أُرِد إلا تجويد خطي، أو غَمَّ أهلي؛ قُبِل حُكمًا.
هذا يؤكد بالحال القول الثاني، انظر، الحنابلة رجعوا الآن استثنوا هذه المسألة! فلو أن هذا الذي كتب الطلاق قال: لم أُرِد بهذه الكتابة إلا تحسين خطي، أريد أن أتدرب على تحسين الخط، ولم يجد كلمةً لتحسين خطه إلا كلمة الطلاق، وهذا من العجائب! بعض الناس قد يفكر بهذه الطريقة! يعني: ضاقت قواميس اللغة العربية إلا عند كلمة الطلاق، يكتبها لأجل أن يحسن خطه! فيقول المؤلف: إنه إذا قال: “لم أرد إلا تجويد خطي”، أنه يُقبل ذلك ويُديَّن فيما بينه وبين الله.
وهكذا لو قال: أريد غمَّ أهلي، أريد فقط أن أغُمَّ زوجتي وأن أُدِخل عليها الحزن وأنكِّد عليها فيقولون: قُبِل حكمًا، لكنه يُديَّن فيما بينه وبين الله .
وبكل حالٍ: الكتابة عمومًا من الكناية، وليست من الطلاق، إن نوى بها الطلاق وقع، وإلا فلا.
طلاق الأخرس
حسنًا، طلاق الأخرس.
قال المؤلف:
ويقع بإشارة الأخرس فقط.
إذا كانت الإشارة من الأخرس مُفهِمةً؛ يقع بها الطلاق؛ لأن الإشارة عند الأخرس تقوم مقام النطق، فلو أنه أشار إشارةً معروفةً عند المصابين بالخَرَس بأنها تعني الطلاق، ونوى بها طلاقًا؛ فيقع بها الطلاق.
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند قول المصنف رحمه الله: “وكنايته”، نقف عند الكناية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: ما الحكم إذا كانت المِنَّة في الإنفاق جاءت من الأب، ويكرِّر ذلك: أنفقت عليك كذا وكذا؟
الجواب: حتى من الأب لا تجوز المنة؛ لعموم الدليل، والأب ينبغي ألا يؤذي ابنه بالمنة، كما هو مطلوبٌ من الابن أن يبر والديه، مطلوبٌ أيضًا من الوالدين أن يحسنوا لأولادهما، والمنة نوعٌ من الأذى والإساءة؛ فلا تجوز من الأب.
السؤال: هل السُّنة مصافحة من في المجلس؟ أو يكتفى بمجرد السلام بالقول؟
الجواب: هذه المسائل يُرجع فيها لعرف الناس، فإذا كان في عرف الناس المصافحة؛ فلا يشذ عن الناس من أهل بلده؛ لأنه لو شذ عن الناس؛ لربما أسيء الظن به واتُّهم بالكبر، لكن لو كان في عرف الناس الاكتفاء بإلقاء السلام؛ فهذا هو الأفضل والأقرب للسُّنة، يعني: لو كان مثلًا في مجلس طلاب علمٍ؛ يكتفي بإلقاء السلام من غير مصافحةٍ، والمصافحة إنما تكون عند السفر، أو عند الغَيبة الطويلة ونحو ذلك، أما لو كان عند العامة واعتادوا المصافحة؛ فينبغي أن يصافح؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك ترتب عليه مفاسدٌ، وربما اتُّهم بالعُجب ونفر منه الناس، فهذه من المسائل التي تحتمل أن يقال فيها بأن الإنسان يتابع العرف في أهل بلده؛ لأن الغاية من السلام والمصافحة هو تقوية المحبة والمودة بين المسلمين، فينبغي ألا يتصرف تصرفًا يسبب النفرة والبغضاء والشحناء بين الناس.
طالب:…
الشيخ: كذلك نفس الحكم.
السؤال: هل يجوز النظر للمرأة أثناء التعامل معها في المستشفى مثلًا؟
الجواب: النظر إلى المرأة لا يجوز مطلقًا، إلا لحاجةٍ؛ كالخاطب لمخطوبته، أو -مثلما ذكر الفقهاء- للشهادة عليها، أو نحو ذلك.
وأما نظر المرأة للرجل فيجوز، إلا لشهوةٍ فلا يجوز، فنظر الرجل للمرأة يختلف عن نظر المرأة للرجل، الرجل لا ينظر للمرأة مطلقًا إلا لحاجةٍ، وأما المرأة: لا تنظر للرجل إذا كان لشهوةٍ، أما لغير شهوةٍ فلا بأس؛ ولهذا كان نساء الصحابة يخالطن الرجال وينظرن لهم في المُبايعات وفي الشهادات، وأيضًا يحضرن أحيانًا في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، وينظرن للرجال، إنما نظر المرأة الذي تُمنع منه: النظر بشهوةٍ، أما دون شهوةٍ فلا بأس، لكن عكس ذلك الرجل، الرجل لا ينظر للمرأة مطلقًا إلا لحاجة؛ كالخاطب لمخطوبته.
السؤال: ما حكم شراء الأوراق النقدية التي فيها عيبٌ؛ كأن تكون مقطوعةً أو ممزقةً؟
الجواب: إذا كانت هذه الأوراق النقدية مقبولةً عند الناس؛ فلا بأس، أما إذا كانت غير مقبولةٍ فلا، هذا يرجع للعرف، أحيانًا يكون فيها تمزيقٌ يسيرٌ، ولا يمنع هذا من التعامل بها، هذا لا بأس به، أما إذا كانت غير مقبولةٍ؛ فلا بد من إخبار من يتعامل معه بذلك.
السؤال: عندما توضأت وقمت بتنشيف أعضائي؛ رأيت جزءًا يسيرًا في القدم لم يُصبه الماء، هل أعيد الوضوء كاملًا، أم أغسل هذا العضو؟
الجواب: تغسل هذا العضو ويكفي هذا، تغسل هذا العضو وما بعده، يعني: لو كان هذا في الرجل اليمنى تغسل الرجل اليمنى ثم الرجل اليسرى، لو كان مثلًا في اليد تغسل اليد، ثم تمسح رأسك، ثم تغسل الرجلين، إلا إذا طال الفصل، لو طال الفصل؛ فيلزمك أن تعيد الوضوء؛ وذلك لأن الموالاة من فروض الوضوء، ولذلك لما رأى النبي رجلًا وفي قدمه قدر الظفر لم يصبه الماء؛ أمره بأن يعيد الوضوء [24]؛ وذلك لطول الفصل، فإذا طال الفصل؛ تعيد الوضوء، أما إذا لم يَطُل الفصل فإنك تَغسل هذا العضو وما بعده.
السؤال: المصاب بالسلس هل له أن يؤم المصلين؟
الجواب: المذهب عند الحنابلة: أنه ليس له ذلك، إنما يؤم من كان مثلَه، والقول الراجح: أن له أن يؤم غيره مطلقًا، هذا رجلٌ قد يكون عالمًا، قد يكون من الصالحين وأقرأهم لكتاب الله، لكن ابتُلي بالسلس، هل نقول: هذا الرجل يعاقب فلا يؤم الناس؟! ونأتي برجل عاميٍّ ربما أنه لا يحسن أن يقرأ الفاتحة بالطريقة الصحيحة ونقدمه على هذا! هذا لا تأتي به الشريعة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: يؤُمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله [25]، وهذا الرجل الذي ابتُلي بالسلس، ابتُلي، رجلٌ ابتُلي بهذا السلس، وليس هناك دليلٌ يدل على منعه من إمامة الناس، فالصواب: أنه كغيره له أن يؤم الناس، وأن السلس ليس مانعًا له من تقديمه في الإمامة.
السؤال: إذا شك الرجل في طلاق زوجته فقال: راجعت زوجتي احتياطًا، هل يكون تلفُّظه بالرجوع تطليقًا؟
الجواب: لا يكون، غالبًا من يفعل ذلك الذي عنده وسواسٌ، فالذي عنده وسواسٌ يقال له: راجع زوجتك، يعني: حتى يقضي على هذه الوساوس ويُوقف القلق الموجود عنده، فإذا قال: راجعت زوجتي؛ معنى ذلك: أنه احتسبها طلقةً وراجعها، احتسبها طلقةً وراجعها.
السؤال: هل يصح نقل الوقف إذا قل ريعه، أو كان غيره أفضل منه؟
الجواب: نعم، إذا كان في نقله مصلحةٌ، فيصح نقله على القول الراجح، لكن ينبغي أن يكون ذلك عن طريق المحكمة الشرعية، حتى تنظر في الغبطة في نقله.
السؤال: إذا قال لزوجته: أنتِ طالق عدد الحجر أو عدد الشجر، هل يقع طلاقه؟
الجواب: هذا كما لو قال: أنتِ طالقٌ بالثلاث، يجري فيه الخلاف السابق، والقول الراجح: أنه يقع طلقةً واحدةً؛ لأن هذا هو الذي كان عليه الأمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وسنتين من خلافة عمر، ما دام أنه لم يكرر الطلاق فيقع طلقةً واحدةً.
السؤال: رجلٌ وكَّل غيره في طلاق زوجته ففسخ الوكالة، ولم يعلم بفسخ الوكالة فطلقها وتزوجت غيره؟
الجواب: معنى ذلك: أن طلاقها غير صحيحٍ؛ لأنه فسخ زوجُها الوكالة؛ وعلى ذلك: فيُفسخ العقد وترجع لزوجها الأول، لا زالت في عصمة زوجها الأول.
السؤال: من طلق زوجته في رسالةٍ مع نية الطلاق هل يقع؟
الجواب: نعم، إذا نوى الطلاق؛ يقع، لكن إذا لم ينوِ الطلاق؛ فإنه لا يقع على القول الراجح؛ لأن كتابة الطلاق من الكناية، وليست من الصريح في أرجح قولي العلماء.
السؤال: إذا دخل المصلي الجامع يوم الجمعة قبل الأذان بدقائق، هل الأولى أن يصلي ركعتين خفيفتين من أجل أن يردِّد مع المؤذن ويستمع للخطبة، أم ينتظر واقفًا؛ لأنه وقت نهيٍ مغلظٍ ويصلي بعد الأذان أو يجلس ولا يصلي؟
الجواب: إذا دخل المصلي الجامع يوم الجمعة؛ فيأتي بركعتين خفيفتين حتى ولو كان الخطيب يخطب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا دخل أحدكم والإمام يخطب؛ فليُصلِّ ركعتين وليتجوَّز فيهما [26]، ولقوله للرجل الذي دخل والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب قال: أصليت ركعتين؟، قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين وتجوَّزْ فيهما [27]، فمن دخل فإنه يأتي بركعتين خفيفتين، ويخفِّفهما، حتى ولو كان ذلك في وقت النهي؛ لأن هذا من ذوات الأسباب.
إذا دخل والمؤذن يؤذن، فهل الأفضل أن يستمع للأذان ويأتي بركعتين خفيفتين بعد فراغ المؤذن، أو يأتي بركعتين خفيفتين والمؤذن يؤذن؟
نقول: يأتي بركعتين خفيفتين والمؤذن يؤذن؛ لأن الاستماع للخطبة آكد من إجابة المؤذن، وتجد أن بعض العامة يدخل يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني، ويقف يتابع المؤذن، نقول: الأفضل أنك من حين تدخل المسجد الجامع تأتي بركعتين خفيفتين؛ لأن استماعك للخطبة أولى من إجابة المؤذن.
السؤال: إذا عمل والدي شيئًا خاطئًا، وقلت له: لا أوافقك على هذا الخطأ، هل فيه عقوقٌ؟
الجواب: نعم، فيها شيءٌ من العقوق، ينبغي عند مناقشة الوالد التلطُّف معه، لا يتعامل معه معاملة النِّد بالنِّد، كلمة “لا أوافقك” تكون من إنسانٍ من أقرانه، أو من أصحابه، أما كولدٍ لأبيه، لا يقول هذا الكلام، وإنما يأتي بعبارةٍ فيها لطفٌ، والله تعالى يقول: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23]، فيتعامل معه معاملةً الولد لوالده، وليس معاملة النِّد لِنِدِّه، أو القرين لقرينه.
وهكذا أيضًا النقاش الحاد مع الأب أو الأم، يدخل كذلك في العقوق، صحيحٌ أن تبيِّن له الصواب من الخطأ، لكن يكون بلطفٍ من غير دخول معه في جدلٍ ولا في نقاشٍ حادٍّ، وكل ما يُدخِل الإساءة لوالدك أو والدتك؛ يَدخل في العقوق، والله تعالى ذكر أدنى ما يمكن، قال: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، أدنى كلمة تضجُّرٍ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، فكيف بمن يَدخل مع والده أو والدته في جدلٍ وفي نقاشٍ حادٍّ؟ هذا تجاوزٌ، الله تعالى قال: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، فهذا أولى بالنهي من قول كلمة “أفٍّ”.
السؤال: ما حكم المسح على جوربٍ تحت الكعب؟
الجواب: لا يصح المسح على جوربٍ تحت الكعب، القائلون بمشروعية المسح على الجوارب: هم الحنابلة فقط، أما الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية؛ فهم أصلًا يقولون بعدم مشروعية المسح على الجوربين، إنما يقولون: يمسح على الخفين، وليس الجوربين، والفرق بين الخفين والجوربين: أن الخفين من الجلد، والجوربين من غير الجلد، والذي يلبسه الناس اليوم، ويسمى: الشراب، هذه جوارب وليست خِفافًا، فهي إنما يُشرع المسح عليها عند الحنابلة فقط، وإلا عند الجمهور لا يُشرع، فإذا رجحنا قول الحنابلة، وقلنا: يشرع المسح على الجوارب، فينبغي أن نلتزم بضوابطهم، أما أن نأخذ مذهب الحنابلة ونرجحه، ثم لا نلتزم بضوابطهم؛ معنى ذلك خرجنا عن رأي الفقهاء ورأي العلماء، الحنابلة اشترطوا أن يكون الجورب ساترًا للقدم وللكعب، فالجوارب القصيرة التي دون الكعب لا يصح المسح عليها، ولو فعل ذلك؛ فلا يصح وضوؤه ولا صلاته، المسألة خطيرةٌ يترتب عليها عدم صحة الصلاة؛ ولذلك فلا يصح المسح على الجوارب القصيرة التي هي دون الكعب، لا بد أن يكون الجورب ساترًا للكعب وللقدم.
كيف يكون المسح على الجوارب؟
يبلّ يده اليمنى، ويمسح رجله اليمنى بيده اليمنى، من أطراف الأصابع إلى مبتدأ الساق، ثم يبل يده اليسرى ويمسح رجله اليسرى، من أطراف الأصابع إلى مبتدأ الساق، هذه كيفية المسح على الجوربين.
أما القول بأنه يمسح عليهما في وقتٍ واحدٍ فهذا قولٌ مرجوحٌ، وحتى القول المنسوب للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله أيضًا ورد عنه قولٌ آخر بهذه الطريقة: أن يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى، والرجل اليسرى باليد اليسرى، فورد عنده قولان، عن الشيخ رحمه الله، وعند عامة أهل العلم: أنه يمسح الرجل اليمنى باليد اليمني، والرجل اليسرى باليد اليسرى.
السؤال: ما حكم أخذ إبرة (الفيتامينات) للصائم؟
الجواب: الذي يظهر: أن إبرة (الفيتامينات) للصائم تفسد الصوم؛ ليست من جنس الإبر العلاجية؛ لأن إبرة (الفيتامينات) فيها نوع تغذيةٍ، ولذلك يشعر الإنسان معها بالخفة والنشاط، ويرتفع معه مستوى السكر، فهي أقرب للغذاء منها للعلاج، فإبر (الفيتامينات) تفطر الصائم على القول الراجح.
السؤال: هل يشرع قراءة سورة الكافرون والإخلاص في سنة المغرب؟
الجواب: لم يثبت في هذا شيءٌ عن النبي ، إنما الذي ورد: قراءة هاتين السورتين في السُّنة الراتبة لصلاة الفجر [28]، وأما السنة الراتبة لصلاة المغرب فلم يثبت فيها شيءٌ.
السؤال: هل يجوز أن أقول في قسمي: أقسم بالله؟
الجواب: نعم، هذا أصرح من قولك: والله، إذا قلت: أقسم بالله، فهذا صريحٌ في القسم، ويترتب عليه أنك إذا حنثت؛ فيكون عليك كفارة يمينٍ.
السؤال: هل يشرع الدعاء بعد الأذان الأول في يوم الجمعة؟
الجواب: نعم، يشرع؛ لأن الأذان الأول يوم الجمعة من سنة الخلفاء الراشدين؛ فإن الذي قد سنَّه عثمان وهو أحد الخلفاء الراشدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي [29]، وأجمع عليه الصحابة ، فيُسن أن يتابع المؤذن وأن يؤتى بالذكر الوارد.
السؤال: هل يجوز أن أصلي وأمامي مرآةٌ أو دُميةٌ من مجسمات ألعاب الأطفال؟
الجواب: أما أن تصلي وأمامك مرآةٌ؛ فلا بأس؛ لأن الأصل في هذا الإباحة، إلا إذا كانت تشغلك، إذا كانت تشغلك فيكره أن تصلي وأمامك مرآةٌ، وأما أن تصلي وأمامك دميةٌ من مجسمات ألعاب الأطفال؛ فهذا أيضًا مكروهٌ، فينبغي أن يعظِّم المسلم شأن الصلاة، لا يصلي وأمامه مثل هذه الدمى ونحو ذلك، وإنما يهتم بشأن الصلاة ويعظمها.
طالب:…
الشيخ: كذلك مكروهٌ أيضًا هذا.
السؤال: ما حكم تغيير المكان بعد الفريضة لأداء النافلة؟
الجواب: لم يثبت في هذا شيءٌ عن النبي ، والحديث المروي في ذلك ضعيفٌ: لا يعجز أحدكم إذا صلى.. إلى آخره [30]، هذا حديثٌ ضعيفٌ، ولم يثبت في هذا شيءٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقول من قال من العلماء: إنه يستحب أن ينتقل إلى مكانٍ آخر؛ لأجل أن يشهد له المكان الآخر، نقول: المكان الأول يشهد لك مرتين، يشهد لك أنك صليت فيه صلاة الفريضة، وصليت فيه أيضًا صلاة النافلة، فليس في هذا دليلٌ ظاهرٌ، فالأمر في هذا واسعٌ، إن شاء صلى السنة في المكان الذي صلى فيه الفريضة، وإن شاء انتقل إلى مكانٍ آخر، لكن القول بأن الانتقال سُنةٌ لم يثبت فيه شيءٌ صحيحٌ عن النبي .
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البيهقي في السنن الكبرى: 15140. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 5191. |
^3 | رواه البخاري: 5263، ومسلم: 1477. |
^4 | ذكره ابن قدامة في المغني: 10/ 333 |
^5 | رواه النسائي: 3401. |
^6 | رواه البخاري: 5259، ومسلم: 1492. |
^7 | رواه مسلم: 1480. |
^8 | رواه مسلم: 1472 |
^9 | رواه أبو داود: 2196. |
^10 | رواه أبو داود: 2193، وابن ماجه: 2046، وأحمد: 26360. |
^11 | رواه البخاري: 5251، ومسلم: 1471 |
^12 | رواه البخاري: 5252، ومسلم: 1471. |
^13 | رواه البخاري: 5253. |
^14 | رواه أبو داود: 2185، وأحمد: 5524. |
^15 | رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718. |
^16 | رواه مسلم: 1417. |
^17, ^20, ^23 | سبق تخريجه. |
^18 | رواه أبو داود: 2194، والترمذي: 1148، وابن ماجه: 2039. |
^19 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^21 | رواه ابن ماجه: 2081، والدارقطني: 3991، والبيهقي في السنن الكبرى: 15216-15217. |
^22 | رواه البخاري: 5269. |
^24 | رواه مسلم: 243. |
^25 | رواه مسلم: 673. |
^26 | رواه البخاري: 931، مسلم: 875. |
^27 | رواه البخاري: 931، ومسلم: 875، وأحمد: 14171، واللفظ له. |
^28 | رواه مسلم: 726. |
^29 | رواه أبو داود: 4607، والترمذي: 2676، وابن ماجه: 42، وقال الترمذي: حسن صحيح. |
^30 | رواه عبدالرزاق في مصنفه: 3918، بلفظ: إذا صلى أحدكم المكتوبة فأراد أن يتطوع بشيء؛ فليتقدم قليلا، أو يتأخر قليلا، أو عن يمينه، أو عن يساره. |