عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
هذا هو الدرس السادس والسبعون في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، السادس عشر من شهر رجبٍ من عام (1444 هـ).
وصف النار
وكنا قد انتهينا من التعليق على أحاديث وصف الجنة -جعلنا الله تعالى جميعًا من أهلها- وبدأنا في أحاديث وصف النار -أعاذنا الله جميعًا منها- ووصلنا إلى حديث: “كنا مع رسول الله إذ سَمِع وجبةً..”.
وقبل أن نقرأ هذا الحديث، أقول: إن الجنة والنار هما نهاية مطاف البشرية، فنهاية البشر: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، والله خلق الإنسان من العدم: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، كان عدمًا ثم خلقه الله : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2].
ثم جعله الله في هذه الدار، واختبره وابتلاه، فإن هو أطاع الله ؛ سعد السعادة الأبدية في جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ [1]، فيها من النعيم ما يعجز العقل البشري عن أن يتخيله، وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُ [الزخرف:71]
ثم هذا النعيم نعيمٌ مؤبدٌ أبد الآباد: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، إنما قال الله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ؛ ليبين أن هذا النعيم بمحض فضله، وليس لازمًا على الله سبحانه، وإنما هو محض فضلٍ وتكرمٍ من الله ؛ ولهذا حتى لا يتوهم متوهِّمٌ أن الجنة تفنى؛ قال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ [هود:108]، فهذه هي السعادة الأبدية؛ ولذلك فإن التعريف النهائي للسعادة: هو قول الله : وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ [هود:108]، هذه هي السعادة.
وإما في الدار الأخرى، وهي نار جهنم، والتي فيها من العذاب والنكال والألم شيءٌ عظيمٌ، فوق ما يتخيله العقل البشري، شيءٌ عظيمٌ جدًّا، وقد بين النبي أن النار التي في الدنيا جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله، إن واحدةً لكافيةٌ، قال: إنها فضلت عليها تسعًا وستين مرةً [2].
فهاتان الداران العظيمتان -الجنة والنار- ينبغي أن يجعلهما المسلم نُصْب عينيه، وألا يغفُل عنهما، ينبغي أن تكونا حاضرتين لديه، وأن يسأل الله كل يومٍ، يسأل الله الجنة، ويستعيذ بالله من النار، بل في كل صلاةٍ يصليها؛ فريضةً كانت أو نافلةً يدعو الله بهذه الدعوة، يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ لأنها إذا تحققت؛ سعد السعادة الأبدية التي فيها الخلود الدائم، لا منتهى لها في حياة الخلود، ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:34].
هذا المعنى يغفل عنه الإنسان كثيرًا، وإلا لو كان هذا المعنى حاضرًا لدى الإنسان؛ فسيكون له الأثر العظيم عليه في مراقبته لربه، وفي حرصه على التزود بزاد التقوى، والاستكثار من الطاعات.
حديث: “كنا مع رسول الله إذ سمع وجبةً..”
ننتقل بعد ذلك إلى أحاديث وصف النار، وقد بدأنا بها في الدرس السابق، ووصلنا عند حديث أبي هريرة :
القارئ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله تعالى في “صحيحه”:
حدثنا يحيى بن أيوب قال: حدثنا خلف بن خليفة قال: حدثنا يزيد بن كَيْسان، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله ؛ إذ سمع وجبةً فقال النبي : أتدرون ما هذا؟، قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجرٌ رُمي به في النار منذ سبعين خريفًا، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها [3].
قال: وحدَّثَناه محمد بن عَبَّادٍ وابن أبي عمر قالا: حدثنا مروان، عن يزيد بن كَيْسان، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة بهذا الإسناد، وقال: هذا وقع في أسفلها، فسمعتم وجبتها.
أبو هريرة يحكي أنه كان مع بعض الصحابة جلوسًا عند النبي ؛ إذ سمع وجبةً، يعني: سقطةً، صوتًا، صوت شيءٍ سقط، فقال النبي لمن معه من الصحابة: أتدرون ما هذا؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجرٌ رُمي به في النار منذ سبعين خريفًا، يعني: منذ سبعين سنةً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها.
سبحان الله! حجرٌ ألقي في النار منذ سبعين سنةً، ولم يصل إلى قعرها إلا الآن، يعني: بعد سبعين سنةً، إذنْ كيف ستكون سعة هذه النار؟! وكيف يكون حجمها وعظمتها؟!
ثم أيضًا هذا الحجر الذي رمي في النار، كم سرعته؟ ظاهر الأحاديث أن سرعته كبيرةٌ جدًا؛ لأن هذا هو اللائق بحال الآخرة، فتصور أن حجرًا يُرمى بسرعةٍ كبيرةٍ جدًّا، ولا يصل إلى قعر جهنم إلا بعد سبعين سنةً، وهذا يدل على عظيم خلقها، وقد أعدها الله لمن عصاه.
والجنة والنار مخلوقتان الآن، كما هو معتقد أهل السنة والجماعة، أما الجنة فإنها في السماء، فوق السماء السابعة، وأما النار ففي الأرض، لكن ما ندري أين مكانها على وجه التحديد؟ الله أعلم، لكنها خلقٌ عظيمٌ.
انظر إلى حجرٍ رُمي فيها بسرعةٍ كبيرةٍ، ولم يصل إلى قعرها إلا بعد سبعين سنةً، كم سيكون حجمها؟! وكيف ستكون سعتها؟! فهذا شيءٌ مما ذكره النبي من أوصاف النار.
حديث: إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه..
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يونس بن محمدٍ قال: حدثنا شيبان بن عبدالرحمن قال: قال قتادة، سمعت أبا نَضْرة يحدث عن سَمُرة أنه سمع نبي الله يقول: إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حُجْزَته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه [4].
قال: حدثني عمرو بن زرارة قال: أخبرنا عبدالوهاب -يعني ابن عطاء- عن سعيدٍ، عن قتادة قال: سمعت أبا نَضْرة يحدث عن سَمُرة بن جُندُبٍ أن النبي قال: منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حُجْزَته، ومنهم من تأخذه النار إلى تَرْقُوَته [5].
قال: حدثناه محمد بن المُثَنَّى ومحمد بن بشارٍ قالا: حدثنا روحٌ قال: حدثنا سعيدٌ بهذا الإسناد، وجعل مكان حُجْزَته: حَقْويه.
يصف النبي حال أهل النار، وأنهم متفاوتون في العذاب؛ فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حُجْزَته، والحُجْزة: هي مَعْقِد الإزار والسراويل، الذي يسمى أيضًا الحَقْو.
ومنهم من تأخذه إلى تَرْقُوَته، والتَّرْقُوَة: هو العظم الذي بين النحر والعاتق، ومنهم من تُلجمه النار إلجامًا، نسأل الله السلامة والعافية، فأصحاب النار يتفاوتون في عذاب النار، ثم النار دركاتٌ، وقد ذكر الله أن المنافقين فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ [النساء:145]، المنافقون نفاقًا اعتقاديًّا في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم من أخبث البشر والطوائف، وهم أضر ما يكونون على الإسلام والمسلمين؛ ولهذا قال سبحانه: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4]، وعلى مر التاريخ ضرر المنافقين أعظم من ضرر غيرهم على الإسلام والمسلمين.
فإذنْ أصحاب النار يتفاوتون في عذاب النار بحسب ذنوبهم، كما مر معنا في درسٍ سابقٍ: أن أهل الجنة يتفاوتون في درجاتهم في الجنة بحسب أعمالهم؛ ولهذا يرى الإنسان يوم القيامة أن كل شيءٍ مرتبٌ على العمل، وأن ما عمله في الدنيا قد أحصي إحصاءً دقيقًا، حتى مثاقيل الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، يعني: أصغر ما يمكن تصوره يؤتى به يوم القيامة.
ولا تظن أن الجزاء على العمل فقط لأهل الجنة، يعني: يدخلون الجنة بسبب أعمالهم، وأيضًا تكون درجاتهم على حسب أعمالهم، أيضًا النار بحسب الذنوب، فالذي ارتكب ذنوبًا عظيمةً ليس كمن ارتكب ذنوبًا أقل منها، فالنار دركاتٌ، والجنة درجاتٌ، ويظهر عدل الله التام يوم القيامة.
فالدار الآخرة هي دار العدالة المطلقة، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، أما الدنيا فليست بدار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، وقد يموت الظالم ولم يعاقب؛ لأن الله أخَّر عذابه للآخرة، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].
ويظهر عدل الله في كل شيءٍ يوم القيامة، حتى في الحيوانات في القصاص بينها، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء [6]، الشاة القرناء التي نطحت الشاة الجلحاء، تُقادُ منها يوم القيامة، مع أنها غير مكلفةٍ؛ لكن حتى يظهر عدل الله ، ثم يقول الله تعالى لها: كوني ترابًا، الحيوانات هذه كلها بعدما تحشر، وتقتص الشاة الجلحاء من الشاة القرناء، يقول الله لها: كوني ترابًا، فعندما يراها الكافر أصبحت ترابًا؛ يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ:40]!
فَعَدْلُ الله يظهر يوم القيامة تمامًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]؛ كما أن مُلك الله سبحانه أيضًا يظهر يوم القيامة، مع أنه مالك الدنيا والدين؛ ولهذا في سورة الفاتحة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، مع أنه مالك الدنيا أيضًا، لكنه يَظهر تمامًا في الآخرة: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].
فهنا في هذا الحديث بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام تفاوت أهل النار في العذاب، أقل أهل النار عذابًا: من له شِراكان من نارٍ يغلي منهما دماغه [7]، نسأل الله العافية! هذا أقل أهل النار عذابًا، له شراكان من نارٍ يغلي منهما دماغه من شدة العذاب، فما بالك بغيره؟!
فعذاب النار عذابٌ شديدٌ؛ ولذلك يوم القيامة يرى الإنسان أنه لو لم يحصل له -إذا دخل الجنة- إلا النجاة من النار لكفى؛ لأنه يرى النار أمامه، وكما مر معنا في الدرس السابق: يؤتى بالنار لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يَجُرُّونها [8]، ثم تُنصب هذه النار، وينصب عليها الصراط، ويمر عليها جميع البشر بمن فيهم الأنبياء والرسل، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، الورود: هو المرور على الصراط، لكن يتفاوتون في المرور عليها؛ منهم كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كأجود الخيل، ومنهم من يسقط فيها.
فعندما يرى الإنسان النار، وينجو منها، هذا بحد ذاته يراها نعمةً عظيمةً، فلو لم يكن إلا النجاة من النار، لكان هذا كافيًا لأهل الجنة، فكيف بالنعيم الذي أعده الله لأهل الجنة؟!
باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:
باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء
قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : احتجت النار والجنة، فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت: هذه يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء -وربما قال: أصيب بك من أشاء- وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدةٍ منكما مِلؤها [9].
قال: وحدثني محمد بن رافعٍ قال: حدثنا شَبَابة قال: حدثني ورقاء، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ، عن النبي قال: تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطهم وعَجَزهم، فقال الله للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدةٍ منكم ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ، فيضع قدمه عليها، فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويُزوى بعضها إلى بعضٍ [10].
قال: حدثنا عبدالله بن عونٍ الهلالي قال: حدثنا أبو سفيان -يعني محمد بن حميدٍ- عن معمرٍ، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن النبي قال: احتجت الجنة والنار، واقتص الحديث بمعنى حديث أبي الزناد.
قال: حدثنا محمد بن رافعٍ قال: حدثنا عبدالرزاق قال: حدثنا معمرٌ، عن همام بن مُنَبِّهٍ قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله ، فذكر أحاديث؛ منها: وقال رسول الله : تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطهم وغِرَّتهم؟ قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدةٍ منكما ملؤها؛ فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، تقول: قَطْ قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعضٍ، ولا يظلم الله مِن خلقه أحدًا، وأما الجنة: فإن الله ينشئ لها خلقًا [11].
قال: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جَريرٌ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسول الله : احتجت الجنة والنار..، فذكر نحو حديث أبي هريرة إلى قوله: ولِكِلَيْكما عليَّ ملؤها، ولم يذكر ما بعده من الزيادة [12].
قال: حدثنا عبد بن حميدٍ قال: حدثنا يونس بن محمدٍ قال: حدثنا شيبان، عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالكٍ أن نبي الله قال: لا تزال جهنم تقول: هل من مزيدٍ؟ حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قَطْ قَطْ وعزتك، ويزوى بعضها إلى بعضٍ [13].
قال: وحدثني زُهير بن حربٍ قال: حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث قال: حدثنا أبان بن يزيد العطار قال: حدثنا قتادة، عن أنسٍ ، عن النبي ، بمعنى حديث شيبان.
قال: حدثنا محمد بن عبدالله الرُّزِّيُّ قال: حدثنا عبدالوهاب بن عطاءٍ في قوله : يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فأخبرنا عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ ، عن النبي أنه قال: لا تزال جهنم يُلقَى فيها وتقول: هل من مزيدٍ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قَطْ قَطْ بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضلٌ، حتى ينشئ الله لها خلقًا فيسكنهم فضل الجنة [14].
قال: حدثني زُهير بن حربٍ قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حمادٌ -يعني ابن سلمة- قال: أخبرنا ثابتٌ قال: سمعت أنسًا يقول عن النبي قال: يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى، ثم ينشئ الله تعالى لها خلقًا مما يشاء [15].
نعم، هذه الأحاديث يخبر فيها النبي عن أمورٍ ستقع، وهذه الأمور لا تُعلم إلا عن طريق الوحي، فذكر عليه الصلاة والسلام، أولًا: أمورًا قد وقعت، وأمورًا ستقع، فذكر أولًا: أن الجنة والنار احتجتا، يعني: وقع بينهما مُحاجَّةٌ، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، يعني: كأنها تفتخر بذلك، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين، ولذلك الرواية الأخرى بينت المقصود، قالت النار: أُوثرتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطهم وعَجَزهم.
وقوله : وسقطهم، يعني: ضعفاؤهم، وقوله: وعَجَزهم، كذلك، يعني: المساكين والفقراء والضعفاء، وأيضًا جاء في بعض الروايات، كما عند مسلمٍ: وغِرَّتهم [16]، وغرتهم هنا النووي قال: يعني البُلْه الغافلون، الذين ليس بهم حِذقٌ في أمور الدنيا، وقال: إنه قد رُوي في الحديث: أكثر أهل الجنة البله [17]، ولكن هذا محل نظرٍ، هذا لا دليل عليه، وإنما المقصود بهم: ضعفاء الناس في الغالب، أو المتضعفون، يعني المتواضعون المتخشعون، وليس المعنى: أنه لا يدخل الجنة إلا من كان بليهًا، فهذا المعنى بعيدٌ، ولكن المقصود أن أهل الجنة بعيدون عن التكبر، وبعيدون عن التجبر، وكثيرٌ منهم من الفقراء والمساكين، وحتى الأغنياء منهم متخشعون ومتضعفون ومتواضعون، هذا هو المعنى المقصود في الحديث.
وأيضًا هذا على الغالب، وإلا فالنار قد يدخلها من غير الجبارين والمتكبرين، إنسانٌ أشرك بالله، وهو ليس من الجبارين والمتكبرين، هذا يدخل النار حتى وإن كان من ضعفاء الناس، وهكذا الجنة قد يدخلها أناس ليسوا من الضعفاء، ومن السبعة الذي يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ، ولكن الكلام عن الغالب، عن غالب من يدخل الجنة، وغالب من يدخل النار.
فهذه المحاجة وقعت بين الجنة والنار، لكن هل وقع هذا حقيقةً، أو أن هذا مجازٌ؟
الصحيح: أن هذا وقع حقيقةً، الأصل فيما أخبر الله به، وما أخبر به رسوله أنه وقع على الحقيقة، وأما قول بعض الشراح: إنه على المجاز، فهذا غير صحيحٍ، هذا قولٌ باطلٌ.
وأبو العباس القرطبي، ليس صاحب “التفسير”، أبو العباس صاحب “المُفْهِم”، قال: منهم من تأول أن المراد: خَزَنَة كل واحدٍ منهما، يعني خزنة الجنة وخزنة النار هم الذين تَحاجُّوا، ولكن هذا بعيدٌ؛ لماذا نلجأ أصلًا لهذا التأويل؟ أليس الله على كل شيءٍ قديرٌ؟ أليس الله يجعل الجلود تنطق؟ فلماذا يقال بمثل هذه التأويلات البعيدة؟
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: تحاجت الجنة والنار، فلا يُؤوَّل ذلك، إنما الجنة والنار تحاجتا حقيقةً، فالتأويلات التي ذكرها بعض الشراح بعيدةٌ.
والصواب: أن هذه -كما قال الطيبي- محاجَّةٌ حقيقيةٌ، قال: فإن الله قادرٌ على أن يجعل كل واحدةٍ مميِّزةً ومخاطِبةً، أليس الله تعالى قال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا [الأحزاب:72]، فلها وعيٌ وإدراكٌ وتتكلم، وأبت أن تحمل الأمانة، أمانة التكاليف، فالله على كل شيءٍ قديرٌ.
فهذه التأويلات التي ذكرها بعض الشراح بعيدةٌ، فالصواب إذنْ: أن هذه المحاجة وقعت حقيقةً، والجمادات وسائر الحيوانات لها صلاةٌ، فالله تعالى قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج:18]، تسجد، ومع ذلك لها صلاةٌ، ولها سجودٌ، وأيضًا تُسَبِّح: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، ولها خشيةٌ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، والنبي لما مر بأُحُدٍ قال: هذا جبلٌ يحبنا ونحبه [18].
فالله تعالى يجعل في بعض الجمادات والحيوانات إدراكًا، ويجعل فيها وعيًا، والله على كل شيءٍ قديرٌ، ولما كان النبي يخطب على جذعٍ، ثم إن امرأةً من الأنصار صنعت له منبرًا، فترك الجذع وأصبح يخطب على المنبر، أول مرةٍ خطب فيها على المنبر؛ إذا بالنبي عليه الصلاة والسلام والصحابة يسمعون صوت بكاءٍ كبكاء الصبي، فنزل النبي من على المنبر، وأخذ هذا الجذع وضمه إليه، وجعل يسكته كما يسكت الصبي [19]، سبحان الله! وجاء في بعض الروايات: أنه قال له: أما ترضى أن تكون جذعًا في الجنة [20]، فالله تعالى يجعل لهذه الجمادات وللنباتات والحيوانات إدراكًا مناسبًا وملائمًا لها.
وعلى هذا نقول: إن الصواب: أن هذه المحاجة التي كانت بين الجنة والنار على ظاهرها، وأنها محاجةٌ حقيقيةٌ، هذا القول المختار عند المحققين من أهل العلم.
وفَصَلَ اللهُ تعالى بين الجنة والنار؛ لمَّا تحاجَّتا بهذا الحوار الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، فقال الله تعالى: قال لهذه -يعني للنار- أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدةٍ منكما مِلؤها.
فقال الله للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، فجعل الله تعالى النار دارًا يعذب بها من عصاه جل وعلا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وجعل الجنة رحمته يرحم بها من يشاء.
وفي هذا دليلٌ على أن الجنة تسمى رحمةً؛ لأن الله تعالى قال: أنت رحمتي، وليس المقصود بها الرحمة التي هي صفة من صفات الله؛ لكنها تسمى الرحمة؛ لأن من يدخلها مرحومٌ؛ ولأن من يدخلها؛ يدخلها برحمة الله وليس بعمله، فسميت الجنة رحمةً؛ لأنها يظهر فيها رحمة الله .
وبهذا نعلم أنه لا بأس بالدعاء: اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك؛ لأن معناه: اجمعنا في الجنة؛ فإن مستقر رحمة الله: هو جنته، والجنة تسمى رحمةً، رحمة الله؛ ولهذا قال في هذا الحديث القدسي: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء، فقول القائل في الدعاء: أسأل الله أن يجمعنا في مستقر رحمته، يعني: أسأل الله أن يجمعنا في مستقر جنته، فهذا الدعاء لا بأس به، وما رُوي عن بعض السلف كراهته، فهذا قولٌ مرجوحٌ، والصواب الذي عليه أكثر أهل العلم: أنه لا بأس بهذا الدعاء؛ لأن الله سمى الجنة رحمةً، قال: أنت رحمتي، فمعنى قول الداعي: أسأل الله أن يجمعني وإياك في مستقر رحمته، يعني: في مستقر جنته، فلا بأس بهذا الدعاء.
وهذا الحديث يدل على سعة الجنة وعظمتها؛ فإن الله ينشئ لها خلقًا، بعدما يدخل أهل الجنة؛ الجنة لا تمتلئ، وقد وعد الله بملئها، فينشئ الله تعالى لها خلقًا، ويدخلهم الجنة بلا عملٍ، وهذا من فضل الله ، وليس في هذا ظلمٌ لأحدٍ، فالله تعالى يتفضل على من يشاء، ويؤتي فضله من يشاء، فينشئ الله خلقًا يسكنهم ما بقي من الجنة؛ لأن الله وعد بملئها، ولكن النار لا ينشئ الله تعالى لها خلقًا يعذبهم فيها؛ لأن هذا ينافي عدل الله سبحانه، كيف يعذبون وهم لم يعصوا الله؟! ولهذا النار لا تمتلئ؛ لعظيم سعتها لا تمتلئ، ويقول الله تعالى للنار: هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فيضع الرب رجله، وفي الرواية الأخرى: قدمه، فينزوي بعضها إلى بعضٍ وتقول: قط، قط، قط، يعني: حسبي، حسبي، حسبي، وهذا محمولٌ عند أهل السنة على حقيقته، وما تأوله بعض الناس فهذا كلام باطلٌ، بل هو على حقيقته، الله هو الذي خلق النار، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فأي عجبٍ في هذا؟! أن الرب سبحانه يضع رجله على النار، حتى ينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط قط.
وبعض أصحاب الطوائف المنحرفة عندما يسمع هذا الكلام؛ يقول عمن يقول ذلك: إنهم مشبِّهةٌ، وإنهم مجسِّمةٌ، وإنهم يشبهون الله بخلقه، وهذا كلام باطلٌ، بل نقول: نثبت هذه النصوص كما وردت على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ ولا تحريفٍ ولا تكييفٍ، والله ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير.
ولذلك تجد حتى بعض الشراح تأولوا هذا الحديث بتأويلاتٍ بعيدةٍ؛ فقال بعضهم: إن المقصود قدم بعض المخلوقين، وهذا بعيدٌ، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: فيضع قدمه عليها؟! قدم بعض المخلوقين! هذا بعيدٌ جدًّا.
وقال القاضي: أظهرُ التأويلات: أنهم قومٌ استحقوا النار وخلقوا لها، ولا بد من صرفه عن ظاهره؛ لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله، يقصد أن الله ليس له قدمٌ ولا رجلٌ، فهذا كلامٌ باطلٌ، هذا كلامٌ عقليٌّ، لا يكون حاكمًا على النصوص، دلت الأدلة على إثبات الرجل لله سبحانه، والقدم لله ، لكن على الوجه اللائق بالله .
وإنما قال هذا الكلام؛ لاعتقاده بأننا إذا أثبتنا القدم لله أنها كقدم المخلوق، وهذا كلامٌ غير صحيحٍ، أليس لله ذاتٌ؟ جميع الطوائف يثبتون أن لله ذاتًا، طيب المخلوق أليس له ذاتٌ؟ له ذاتٌ، ذات الله غير ذات المخلوق، فأي عجبٍ في هذا؟!
فالقول في الصفات كالقول في الذات، وهذه إحدى القواعد التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله في “التَّدْمُرِيَّة”، قاعدةٌ عظيمةٌ: القول في الصفات كالقول في الذات، أي إنسانٍ ينكر صفةً من صفات الله سبحانه، أو يتأولها، اطرح عليه هذا السؤال: أليس لله ذاتٌ؟ سيقول: بلى، طيب المخلوق له ذاتٌ، فيقول: نعم، له ذاتٌ، هل ذات الله كذات المخلوق؟ سيقول: لا، لله ذاتٌ تليق به، والمخلوق له ذاتٌ تليق به؛ كذلك أيضًا في الصفات، فالله له سمعٌ يليق به، والمخلوق له سمعٌ يليق به، الله له بصرٌ يليق به، والمخلوق له بصرٌ يليق به، الله له رِجلٌ تليق به، والمخلوق له رجلٌ تليق به، الله له قدمٌ تليق به، والمخلوق له قدمٌ تليق به، فأي عجبٍ في هذا؟!
لا يستلزم -عندما نثبت القدم لله- أن تكون القدم الجارحة، كما قال هنا القاضي عياضٌ، فهم أرادوا أن يفروا من التشبيه؛ فوقعوا فيما هو أسوأ منه، وهو تعطيل الصفات.
ولذلك فإن المنهج الحق: هو أن تسير على ما سار عليه الصحابة والتابعون؛ فهم خير القرون وأفضل القرون، وهم الذين فهموا شريعة الله، وفهموا مراد الله ومراد رسوله .
ولذلك من أعظم أئمة الإسلام، الذي تجمَّع جميع الطوائف المنحرفة على معاداته وبغضه: الإمام ابن تيمية رحمه الله، الذي انبرى لهذه الفرق المنحرفة، وتحدى أن يأتي بكلمةٍ واحدةٍ تخالف ما عليه الصحابة والتابعون، كلمةٍ واحدةٍ، قال: أتحدى أن يأتي أحد بكلمةٍ واحدةٍ تخالف ما ورد عن الصحابة والتابعين.
فهذه التأويلات يوردها بعض الشراح، وبعض الشراح من الأشاعرة -عفا الله عنا وعنهم- فتجد عندما تقرأ في شروح “صحيح مسلمٍ” كثيرًا منها أو أكثرها بهذا التأويل.
فإذنْ خاصةً هذا الحديث، هذا الحديث يقفون عنده كثيرًا، كيف أن الله يجعل رجله على جهنم، وينزوي بعضها إلى بعضٍ، طيب الله على كل شيءٍ قديرٌ، ما العجب في هذا؟! هو الذي خلق النار سبحانه، هو الذي خلق النار لتكون هكذا، هو الذي إذا أراد شيئًا؛ فإنما يقول له: كن، فيكون، لو أراد الله ؛ لأذهب هذا الكون كله بكلمة (كن)، وأنشأ كونًا آخر جديدًا بكلمة (كن)، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17]، كلمة واحدة، لو أراد لأزال هذا الكون بـ(كن)، وأتى بكونٍ جديدٍ بـ(كن)، لكنه حكيمٌ عليم، فلماذا الاستغراب أن الله يجعل قدمه على النار؛ حتى ينزوي بعضها إلى بعضٍ، فتقول: قط، قط؟!
مقتضى العبودية: أن تُسَلِّم لله ولرسوله ، هذا مقتضى العبودية.
فإذنْ نقول: دل هذا الحديث على إثبات صفة القَدَم والرِّجْل لله على الوجه اللائق بالله سبحانه، ليست كقدم ورجل المخلوقين، وإنما على الوجه اللائق بالله .
ودل هذا الحديث على سعة الجنة العظيمة، وأنها لا تمتلئ بعدما يدخلها أهل الجنة، حتى إن الله ينشئ خلقًا، فيسكنون ما تبقى منها حتى تمتلئ، وأقل أهل الجنة منزلةً، له مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أقلهم منزلةً له مثل الدنيا، منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، وعشرة أمثالها؛ فهذا يدل على عظيم سعة الجنة.
وأيضًا دل هذا الحديث على عظيم سعة النار، وأنها يدخلها أهل النار فلا تمتلئ، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، ومن رحمة الله سبحانه وتمام عدله: أنه لا ينشئ لها خلقًا كما أنشأ للجنة خلقًا، وإنما يضع الرب قدمه عليها حتى ينزوي بعضها إلى بعضٍ فتقول: قط، قط، قط، يعني: حسبي، حسبي، حسبي، فذلك قول الله : يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30].
الكبر والجبروت من أسباب دخول النار
ودلت هذه الأحاديث على أن الكِبْر والجبروت من أسباب دخول النار؛ وذلك أن النبي أخبر بأن أكثر أهل النار من الجبارين والمتكبرين؛ وذلك لأن الكبر يمنع صاحبه من قبول الحق، ويجعله يتمادى في الباطل، فالكبر خصلةٌ ذميمةٌ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ [21]، وما هو الكبر؟ الكبر ليس التجمل في اللباس، ولا التجمل في المركب، ولا التجمل في المسكن، بل هذه أمورٌ مطلوبةٌ إذا قدر عليها الإنسان؛ لقول النبي : إن الله جميلٌ يحب الجمال، ولكن الكبر عرَّفه النبي بتعريفٍ جامعٍ مانعٍ من جوامع الكلم، قال: الكبر: بَطَر الحق، وغَمْط الناس [22]، هذا تعريف الكبر: بطر الحق، وغمط الناس، بطر الحق يعني: عدم قبول الحق ممن جاء به، وغمط الناس: احتقار الناس وازدراؤهم، هذا هو الكبر، فبعض الناس إذا رأى شخصًا عليه ملابس حسنةٌ، أو يركب مركبًا حسنًا، أو نحو ذلك؛ اتهمه بالكبر، هذا غير صحيحٍ، قد يكون هذا هو المتواضع، فالكبر يظهر على الإنسان في سلوكياته، بطر الحق: يَرُدُّ الحق ممن أتى به، نصحه إنسانٌ؛ لا يقبل النصيحة، لا يقبل الحق، ويحتقر غيره، يرى أنه أفضل من الآخرين، وينظر للآخرين بالازدراء والاحتقار، هذا هو الكبر، وهذا هو الذي يمنع من قبول الحق، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، لا يوفق الله تعالى المتكبر للهداية، بل يصرفه الله عنها.
فإذنْ: الكبر والتجبر هذا من أعظم أسباب دخول النار.
ودل هذا الحديث على أن التخشع والتذلل والتواضع من أسباب دخول الجنة؛ لأن النبي ذكر أن أكثر أهل الجنة من الضعفاء والمتخشعين المتذللين المتضعفين، فهؤلاء هم أهل الجنة، البعيدون عن الكبر، والبعيدون عن التجبر؛ فلذلك ينبغي أن يحرص المسلم على أن يسلك مسلك أهل الجنة من التواضع والتذلل والتخشع، والبعد عن الكبر والجبروت، والبعد عن مجالس أهل الكبر والتجبر، فإن أهل الجنة -معظم أهلها- من الضعفاء والمتضعفين والمتخشعين.
أيضًا من فوائد هذا الحديث: قد ذكر هذا النووي في “شرحه على مسلمٍ”، قال: دل قول النبي : وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقًا..، قال: على أن الثواب ليس متوقفًا على الأعمال؛ فإن هؤلاء يخلقون حينئذٍ، ويُعطَون في الجنة ما يعطون بغير عملٍ، ومثله أمر الأطفال والمجانين الذين لم يعملوا طاعةً قط؛ أما الأطفال -أطفال المسلمين- ففي الجنة، وأما المجانين: فكلام النووي محل نظرٍ، وفيه خلافٌ كثيرٌ، هل المجانين من بلغ مجنونًا ومات مجنونًا، هل هو من أهل الجنة أم لا؟
وذكر ابن القيم سبعة أقوال في المسألة، والراجح أنهم يُمتحنون يوم القيامة، يكون حكمهم حكم أهل الفترة، لكن أطفال المسلمين أجمع العلماء على أنهم في الجنة، فيُدخل الله تعالى هؤلاء الأطفال الجنة، كما أن هؤلاء الخلق الذين خلقهم الله ، ولم يعملوا عملًا قط، يدخلهم الله تعالى الجنة؛ وهذا دليلٌ لما ذهب إليه أهل السنة من أن الثواب ليس متوقفًا على الأعمال، وأن الله تعالى يتفضل على من يشاء بما يشاء جل وعلا، ولكن بالنسبة للنار لا يدخلها إلا من عصى الله ، وهذا من تمام عدل الله .
وكون الله يخلق خلقًا ويدخلهم الجنة بغير عملٍ، ليس هذا ظلمًا لمن عمل ودخل الجنة؛ فإن الله تعالى لم يبخس هؤلاء شيئًا؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: مثلكم ومثل الأمم السابقة، كمثل رجلٍ استأجر أجراء؛ فمنهم من عمل من أول النهار إلى منتصف النهار، ومنهم من عمل من منتصف النهار إلى العصر، ومنهم من عمل من بعد العصر إلى غروب الشمس، وأعطى الذين عملوا من بعد العصر إلى غروب الشمس أكثر مما أعطى الذين عملوا من أول النهار إلى وسط النهار، أو من وسط النهار إلى العصر، فقال هؤلاء: لماذا تعطي هؤلاء أكثر منا؟ قال: هل انقصتكم شيئًا؟ [23]، فهذا لا يعتبر ظلمًا، بعض الناس في مقاييسه يعتبره ظلمًا، هذا ليس ظلمًا، فالله يتفضل على من يشاء؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فالتفضل لا يعتبر ظلمًا، إنما الظلم أن يُبخس الإنسان شيئًا، يعاقَب مثلًا بغير ذنبٍ، بغير جريرةٍ، أو يُنقص من عمله شيءٌ، فكون الله يتفضل على أناسٍ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يلزم التسوية بينك وبينه، هذا تفضل الله عليه، خلقه الله تعالى وأدخله الجنة بغير عملٍ، أو كان طفلًا ومات، ودخل الجنة بغير عملٍ؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ليس هذا ظلمًا لمن عمل؛ ولهذا قال: هل أنقصتكم شيئًا؟.
فبعض الناس عنده مقاييس الظلم فيها خللٌ، يَعتبر هذا ظلمًا، هذا ليس بظلمٍ؛ لأن هذا تفضلٌ من الله .
فكون الله ينشئ خلقًا ويدخلهم الجنة بلا عملٍ، هذا ليس ظلمًا لمن عمل، وإنما هذا فضلٌ يتفضل الله تعالى به على من يشاء.
وقول النار: وتقول: قط قط بعزتك، دل هذا الحديث على جواز الحلف بعزة الله تعالى؛ لأنها صفةٌ من صفاته، فيجوز الحلف بها، فالحلف يجوز أن يكون بالله، ويجوز أن يكون باسمٍ من أسمائه، وبصفةٍ من صفاته، فلو حلفت بالله، أو بعزته، أو وعزة الله، فلا بأس بذلك.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الأحاديث.
حديث: يجاء بالموت يوم القيامة..
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُريبٍ -وتقاربا في اللفظ- قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله : يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبشٌ أملح -زاد أبو كريبٍ: فيوقف بين الجنة والنار، واتفقا في باقي الحديث- فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيَشرَئبُّون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موتٌ، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موتٌ، قال: ثم قرأ رسول الله : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]، وأشار بيده إلى الدنيا [24].
قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جَريرٌ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله : إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ قيل: يا أهل الجنة، ثم ذكر بمعنى حديث أبي معاوية، غير أنه قال: فذلك قوله ، ولم يقل: “ثم قرأ رسول الله ..”، ولم يذكر أيضًا: “وأشار بيده إلى الدنيا” [25].
قال: حدثنا زُهير بن حربٍ والحسن بن عليٍّ الحُلْواني وعبد بن حُميدٍ -قال عبدٌ: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا- يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعدٍ- قال: حدثنا أبي، عن صالحٍ قال: حدثنا نافعٌ أن عبدالله قال: إن رسول الله قال: يَدخل الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذنٌ بينهم فيقول: يا أهل الجنة، لا موتٌ، ويا أهل النار، لا موتٌ، كلٌّ خالدٌ فيما هو فيه [26].
قال: حدثني هارون بن سعيدٍ الأَيْلي وحرملة بن يحيى قالا: حدثنا ابن وهبٍ قال: حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب أن أباه حدثه، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار؛ أُتِيَ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة، لا موتٌ، ويا أهل النار، لا موتٌ، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم [27].
طيب، هذا الدرس هو الدرس الأخير، وسيتوقف الدرس -إن شاء الله- في الأسابيع المقبلة، ويُستأنف في الثاني والعشرين من شهر شعبان -أول أسبوعٍ من الدراسة لمدة أسبوعين- في كتاب الصيام من “صحيح مسلمٍ”، نأخذ -إن شاء الله- أحاديث الصيام من “صحيح مسلمٍ” في الأسبوعين الأخيرين من شهر شعبان بإذن الله ، وستوزع المذكرة مطبوعةً للأحاديث، وأيضًا ستكون على قناة (التليجرام) بإذن الله ، طيب فقط حتى نضبط الموقف.
قصة ذبح الموت
طيب، هذا الحديث بهذه الروايات حديثٌ عظيمٌ، يُبيِّن فيه النبي أن أهل الجنة عندما يستقرون في الجنة؛ وذلك بعدما يخرج من النار من مات على التوحيد، فإن معتقد أهل السنة والجماعة: أن من مات على التوحيد أن مآله للجنة، وإن عُذِّب في النار؛ يعذب فيها ما شاء الله أن يعذب، حتى إن النار تأكل أجسادهم لا يبقى إلا مواضع السجود، ثم يلقون في نهر الحياة، وينبتون كما تنبت الحِبَّة في السيل، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا؛ أدخلوا الجنة، فإذا خرج جميع من مات على التوحيد من النار، ما بقي إلا أهل الكفر والشرك؛ يؤتى بالموت على صورة كبشٍ أملح، فيوقف بين الجنة والنار، وجاء في رواية الترمذي: فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار [28]، مع أن الجنة في أعلى عليين، والنار في أسفل سافلين، لكن أحوال الآخرة لا تقاس على الدنيا؛ ولذلك ذكر الله الحوار الذي يكون بين أهل الجنة وأهل النار: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44]، لكن الله على كل شيءٍ قديرٌ، ونحن الآن بمَثَلٍ بسيطٍ تستطيع أن تتصل على من في أقصى الدنيا في الشرق أو في الغرب، أو في الشمال أو في الجنوب، بالصوت والصورة، فإذا كان هذا عمل بشرٍ، فما بالك بخلق العزيز الحكيم جل وعلا؟!
فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون، يشرئبون أي: يمدون أعناقهم لينظروا، قال الأصمعي: معنى يشرئبون، يعني: يرفعون رءوسهم، وكلا المعنيين صحيحٌ، يعني يرفعون رءوسهم وينظرون هكذا، يعني من هول من المفاجأة، يقال: هل تعرفون هذا؟ يؤتى بالموت على صورة كبشٍ أملح، فيرفع أهل الجنة وأهل النار رءوسهم وينظرون، فيقول أهل الجنة: نعم، هذا الموت، كيف عرفوا أنه الموت؟ الله تعالى أعلم، يحتمل أن الله أعلمهم أنه الموت، أو قيل لهم: إنكم سترون الموت، الله أعلم، لكن يعرفونه يقولون: هذا الموت، ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون يعني: يرفعون أعناقهم وينظرون نظرة المتلهف، وينظرون ويقولون: نعم، هذا هو الموت.
قال: فيؤمر به فيذبح يعني: في هذا المكان الذي بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موتٌ، ويا أهل النار خلودٌ فلا موتٌ.
وجاء في رواية الترمذي: فلو أن أحدًا مات فرحًا؛ لمات أهل الجنة -من الفرح- ولو أن أحدًا مات حزنًا؛ لمات أهل النار، سبحان الله! عندما يذبح الموت في مكان بين الجنة والنار؛ يفرح أهل الجنة فرحًا عظيمًا ويسرون بذلك، وكما جاء في الحديث: لو أن أحدًا مات فرحًا؛ لمات أهل الجنة؛ لأن هذه حياة الخلود، ولو أن أحدًا مات حزنًا؛ لمات أهل النار؛ لأن أيضًا هذه حياة الخلود.
قال: ثم قرأ رسول الله : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، ويوم الحسرة من أسماء يوم القيامة، فإن يوم القيامة له عدة أسماء: القارعة، الحاقة، الفزع الأكبر، التغابن، ومن أسمائه: الحسرة، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]، وإنما قرأ النبي هذه الآية؛ لأن أهل النار يتحسرون عندما يُذبح الموت في مكانٍ بين الجنة والنار، يتحسرون حسرةً عظيمةً؛ ولهذا قال سبحانه: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31].
«وأشار بيده إلى الدنيا» يعني: أشار النبي إلى الدنيا، وجاء في رواية أحمد: ثم قال: أهل الدنيا في غفلة، يعني: أهل الدنيا في غفلةٍ عن هذه المعاني، أين هم من هذه المعاني؟
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا: الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء به؛ كما فُدي ولد إبراهيم بالكبش، لماذا يؤتى بالموت على صورة كبشٍ، ما يؤتى به على صورة شيءٍ آخر؟ يقول: إشارة للفداء، كأنه افتُدِيَ عن موتهم بهذا الكبش، كما افتدي عن ذبح إسماعيل بالكبش؛ لما أراد إبراهيم أن يذبح ولده؛ قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].
طيب، لماذا كان هذا الكبش أملح، والأملح: هو الذي فيه بياضٌ وسوادٌ؟
قال القرطبي: إشارة إلى صفة أهل الجنة والنار، من جهة البياض لأهل الجنة، والسواد لأهل النار، فيؤتى بالموت على صورة كبشٍ أملح، يعني: فيه بياضٌ وسوادٌ، البياض إشارةٌ لأهل الجنة، والسواد إشارةٌ لأهل النار، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ [آل عمران:107]، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ [آل عمران:106]، فهذه هي الحكمة في كونه يؤتى بكبشٍ، ويؤتى بكبشٍ أملح، يعني: فيه بياضٌ وسوادٌ.
من فوائد حديث: يجاء بالموت يوم القيامة..
من فوائد هذا الحديث:
- دل هذا الحديث على دوام سرور أهل الجنة دوامَ فرحٍ وسرورٍ أبد الآباد، ودوام حزن أهل النار؛ لأن الموت يذبح، فيدوم سرور أهل الجنة خالدين فيها أبد الآباد، ويدوم حزن أهل النار خالدين فيها.
- وقد دل هذا الحديث على أن الجنة لا تفنى، وهذا بإجماع العلماء، فالجنة باقيةٌ ما دامت السماوات والأرض أبد الآباد، خالدين فيها أبدًا، مقامهم فيها ليس مئة سنةٍ، ولا مليون سنةٍ، ولا ترليون سنةٍ، إلى ما لا نهاية، أبد الآباد.
هل تفنى النار؟
وأما النار فهل تفنى؟
هذه المسألة أكثر أهل السنة على أن النار لا تفنى، وحُكي الإجماع على ذلك، لكن لبعض علماء السنة قولٌ بفناء النار؛ لأن هذا الذي يعذب في النار، لو افترضنا عمره مئة سنةٍ، يقولون: كيف يعذب فيها أكثر من عمره؟! كيف يعذب مثلًا مليون سنةٍ وهو أصلًا عمره مئة سنةٍ، والله عدلٌ، لكنهم لا يدخلون الجنة، حرم الله الجنة على الكافرين.
لكن مراد أصحاب هذا القول: أن النار تفنى ويفنى من فيها، يصبحون عدمًا، وُروي هذا القول عن ابن مسعودٍ أنه قال: “ليأتين على النار زمانٌ ليس فيها أحدٌ”، وروي عن عمر : لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالجٍ؛ لكان لهم يومٌ يخرجون فيه، وروي كذلك عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ رضي الله عنهما.
وابن تيمية وابن القيم ذكرا الخلاف، وابن القيم ذكر أدلةً قويةً في القول بفناء النار، وأنهم لابثين فيها أحقابًا، مددًا طويلةً جدًّا، لكنها في النهاية تفنى، لكن لم يجزم بذلك هو ولا ابن تيمية، وإن كانا يميلان لهذا القول؛ لأن هناك من يشنع على من يقول بفناء النار، والله تعالى أعلم، وقد ألف الصنعاني رسالة “كشف الأستار على عدم فناء أهل النار”، وحشد فيها الأدلة على أن النار لا تفنى، وأنها كالجنة باقيةٌ أبد الآباد، وذكر هذه الآثار وضعفها، والله تعالى أعلم وأحكم.
لكن فناء النار فيه قولٌ آخر بأنها تفنى، بينما الجنة أجمع العلماء على أنها لا تفنى، ولكن حتى على القول بفناء النار -عند القائلين به- لا تفنى إلا بعد أحقابٍ، يعني: بعد مددٍ طويلةٍ جدًّا، فالله تعالى أعلم، ومن أراد مزيدًا من البحث، فليرجع إلى كلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى في هذه المسألة، خاصةً كلام ابن القيم، ذكر أدلة من قال بالفناء، وأدلة من قال بعدم الفناء.
وهذه هي نهاية البشر، بعدما يذبح الموت في مكان بين الجنة والنار، هذه نهاية البشرية، تستقر البشرية فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، هذه نهاية البشر، ينتهون إلى هذه المرحلة، فهذه هي النهاية بالنسبة لهم، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
طيب، نكتفي بهذا القدر، ونقف عند حديث أبي هريرة ، وهذا -إن شاء الله- سنستأنف الدرس في “صحيح مسلمٍ” بالنسبة لهذا الموقف في شوالٍ بإذن الله، وفي الثاني والعشرين من شهر شعبان سيكون في شرح كتاب الصيام من “صحيح مسلمٍ” بإذن الله ، والأسبوع القادم ليس هناك درسٌ كما ذكرت، سيتوقف الدرس لخمسة أسابيع، إلى الثاني والعشرين من شهر شعبان، ويبقى أسبوعان نأخذ فيهما كتاب الصيام، ثم يتوقف شهر رمضان، ثم نستأنف الدرس في شهر شوالٍ بإذن الله تعالى.
الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الطالب:…
الشيخ: لا، بالموت نفسه، يؤتى بالموت نفسه، كيف الموت؟ الله تعالى يجعل هذا العرض جسمًا، الله على كل شيءٍ قديرٌ، والمعتزلة أنكروا ذلك؛ لأنهم يُعمِلون العقل، لكن هذا قولٌ باطلٌ، يؤتى بالموت نفسه.
الطالب:…
الشيخ: الإنسان -يا إخوة- إذا ورد الحديث لا يُحَكِّم عقله، العقل صغيرٌ، كم حجم الدماغ في هذه الجمجمة، تريد أن تَحكُم على كلام رب العالمين وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، الأصل حمل الكلام على حقيقته، هذا هو الأصل، إلا إذا وردت القرينة التي تدل على التأويل.
طيب هنا أسئلةٌ:
الأسئلة
السؤال: هناك بعض البنوك إذا أردتُ أن أخرج تمويلًا منها؛ يعطونني سلعةً، تسمَّى هذه البنوك بنوكًا إسلاميةً، ولي الحرية التصرف في بيعها، فما حكم هذا؟
الجواب: إذا كان البنك عليه هيئةٌ شرعيةٌ تشرف عليه، وعُرف القائمون عليها، وأنهم من طلبة العلم الثقات، وانضبطت هذه المعاملة بالضوابط الشرعية، والأصل أنه إذا كان فيها هيئةٌ شرعيةٌ، الأصل أنها تنضبط بالضوابط الشرعية؛ فلا بأس بهذا التمويل.
فالأصل في البنوك الإسلامية: أن تمويلاتها جائزةٌ؛ لأنها منضبطةٌ بالضوابط الشرعية، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، لأنهم يبيعون عليك سلعةً، والسلعة موجودةٌ بالفعل، وتأخذ إن أردت أن تحصل على شهادة تعيينٍ، يكتب فيها مواصفات السلعة، وحجمها ومكانها، والرقم التسلسلي لها.
ثم باعتبارها سلعةً دوليةً توكِّل البنك، لا بد أن توكل البنك؛ لأنك لا تستطيع أن تذهب إلى هناك وتبيع بنفسك، فتوكل البنك في بيعها في السوق، والبنك يأخذ الثمن ويجعله في حسابك، وتسدد للبنك بالتقسيط، هذا لا بأس به وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].
المهم أن تنضبط بالضوابط الشرعية، فالبنك لا بد أن يشتري السلعة، ثم يبيعها لك، وأن تكون السلعة متعينةً.
السؤال: يقول: هل أهل الجنة يخاطبون أو ينظرون، أو تصل إليهم أخبار أهل النار؟
الجواب: نعم، ذكر الله بعض الحوار الذي يكون بين أهل الجنة وأهل النار: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50]، وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44]، فالحوار الذي يكون ذكره الله ، بل ذكر الله تعالى الحوار عن بعض أهل النار، قال: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:51-57]، هذا حوارٌ بين رجلٍ من أهل الجنة، ورجلٍ من أهل النار؛ هذا يدل على أنه يكون هناك حوارٌ، وعلى أنه يكون بينهما كلامٌ، وأن أهل الجنة ينظرون لأهل النار، وأهل النار ينظرون لأهل الجنة، وإلا فكيف ينادونهم: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، لكن عالم الآخرة يختلف عن عالم الدنيا.
السؤال: هل تشرع الصلاة عند الزلازل كالكسوف والخسوف؟
الجواب: هذه مسألةٌ محل خلافٍ بين الفقهاء؛ فمنهم من قال: إنها لا تشرع صلاة الكسوف عند الزلازل والبراكين، ومنهم من قال: إنها تشرع عند الزلازل فقط، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، تشرع صلاة الكسوف عند الزلازل، ومنهم من قال: إنها تشرع لكل آيةٍ، وهذا هو القول الراجح، فتشرع للكسوف وللخسوف وللزلازل وللبراكين وللأعاصير الشديدة، ولكل آيةٍ، وقد اختار هذا القول الإمام ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ وعلى هذا: فأهل البلاد التي وقعت فيها هذه الزلازل يشرع لهم -على القول الراجح- أن يصلوا صلاة الكسوف.
الطالب:…
الشيخ: نفس صلاة الكسوف، على هيئتها، نعم.
السؤال: ما أسباب الثبات؟
الجواب: من أعظم أسباب الثبات: أن تسأل الله الثبات، وتلح على الله تعالى في الدعاء كل يومٍ بأن يثبتك الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وتكثر من هذا الدعاء: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك، رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، فأكثر من هذا الدعاء، والعبد إذا أكثر من هذا الدعاء، وألح على الله تعالى كل يومٍ، وسأل الله أن يثبته؛ فإن الله تعالى لن يخيب ظنه ولا رجاءه، فيكون هذا من أعظم أسباب الثبات.
وأيضًا من أعظم أسباب الثبات: الصحبة الصالحة؛ لأن الإنسان يتأثر بجلسائه تأثرًا عظيمًا؛ ولما ذكر الله الظالم الذي يعض على يديه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [الفرقان:27-28]، يعني: هذا الظالم أشار لحياةٍ مليئةٍ بالندم والحسرات، لكنه أشار لشيءٍ واحدٍ، رأى أنه هو السبب في دخوله النار: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي [الفرقان:28-29]، فيرى أن السبب الرئيس لإضلاله ولغوايته ولدخوله النار: هو جليس السوء؛ ولهذا يقول: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ [الفرقان:28-29]، فالإنسان يتأثر بجلسائه، فمن أعظم أسباب الثبات: أن يختار المسلم له الجلساء الصالحين، الذين يُعِينونه إذا ذكر، ويذكرونه إذا نسي، وأن يبتعد عن جلساء السوء.
أيضًا من أسباب الثبات: تدبر القرآن العظيم، فإن هذا من أسباب الثبات، بل من أسباب زيادة الإيمان؛ كما قال الله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، تدبر القرآن الكريم تلاوةً واستماعًا.
أيضًا من أسباب الثبات: قيام الليل؛ لأن قيام الليل بمثابة الوقود الروحي للمسلم في اليوم والليلة، يعطيك وقودًا روحيًّا ليومٍ وليلةٍ، ويبعدك عن النفاق؛ ولهذا قال السلف: ما قام الليل منافقٌ، ويجعلك تناجي الرب ، خاصةً في الثلث الأخير من الليل، الذي ينزل فيه الرب سبحانه نزولًا يليق بجلاله، ويقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ فقيام الليل هو دأب الصالحين، وهو من أعظم أسباب الثبات.
السؤال: ما نصيحتكم لمن يحاول تدبر القرآن، لكن لا يستطيع؟
الجواب: النفس لها إقبالٌ وإدبارٌ، أحيانًا الإنسان يكون مثلًا مريضًا، أو يكون متعبًا، أو يكون مرهقًا، أو يكون مهمومًا، فلا يتمكن من تدبر القرآن، لكن لا يترك تلاوة القرآن؛ لأن القرآن يُتعبد بمجرد تلاوته حتى لو لم تفهم معناه بالإجماع، وهذا من خصائص القرآن، يتعبد بمجرد تلاوته، لا تترك تلاوة القرآن على أي حالٍ، اجعل لك وردًا من القرآن تقرؤه كل يومٍ، حتى ولو لم تتدبر ما تقرأ؛ لأن بعض الناس يأتيهم الشيطان ويقول: لا تقرأ إلا وأنت تتدبرٌ، فيمضي عليه أيامٌ ومددٌ طويلةٌ ربما وهو لم يقرأ القرآن، وهذا من مكر الشيطان بالإنسان، اقرأ القرآن كل يومٍ، إن حصل تدبر؛ فهذا خيرٌ، إن لم يحصل تدبر؛ فأنت مأجورٌ؛ لأن القرآن يتعبد بمجرد تلاوته.
لكن الأحوال التي يكون فيها صفاءٌ للنفس يمكن للإنسان أن يتدبر فيها القرآن، ويكرر الآيات التي يكون فيها رقة قلبه، وزيادة إيمانه؛ يعني مثلًا: ذكر الجنة، ذكر النار، ذكر أحوال الآخرة، يكرر هذه الآيات ويتأمل في معانيها.
فالتدبر قد لا يتأتى للإنسان في كل وقتٍ، لكن يتأتى له في بعض الأحيان، لكن المهم ألا يترك ورده من القرآن؛ لكونه غير متهيئٍ للتدبر، بل نقول: إن حصل تدبرٌ؛ فهذا خيرٌ، إن لم يحصل تدبرٌ؛ فلا تترك تلاوة القرآن، وأنت مأجورٌ على مجرد تلاوته.
السؤال: أمي امرأةٌ متدينةٌ، وكبيرةٌ في السن، وعصبيةٌ جدًّا، وسليطة اللسان، ونادرًا ما أراها سعيدةً، ولم أر أقاربي من جهة أمي منذ ثمان سنين، حتى إني عرفت اسم أحد أخوالي قبل أيامٍ، كلما أتيت أناصح أمي بشأن صلة الرحم؛ تزجرني بقوةٍ وترفض، ولا أعرف أين يعيشون؟ وكم عددهم؟ وحاولت مع أبي، لكن بينه وبين أمي خصومةٌ من سنين؛ بسبب عصبيتها، هل أنا قاطع رحمٍ؟
الجواب: أولًا: عليك أن تحرص على توجيه أمك ما دامت حيةً، تنقذها من النار؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا يدخل الجنة قاطعٌ [29]، فابذل النصيحة واصبر، اصبر على ما قد تجد من الأذى، لكن احرص على أن تنصحها، والنصيحة لا يلزم أن تكون مباشرةً، تكون بأية وسيلةٍ، تُسمِعها مقطعًا مثلًا عن صلة الرحم، وعن خطورة قطيعة الرحم، تتفق مع أحدٍ ممن تَقبل منه؛ لأن كل إنسانٍ له مفاتيح في أن يكلمها عن ذلك، المهم أن تبذل جهدًا في النصح والتوجيه والإرشاد، هذا فيما يخص واجبك نحو أمك.
أما مسؤوليتك نحو أرحامك: فأنت مسؤولٌ عن صلة رحمك، ولا يعفيك كون أمك عصبيةً أنها تسقط عنك صلة الرحم، فيجب عليك أن تبحث عن أرحامك الذين تجب صلتهم، وأن تصلهم؛ لأن صلة هؤلاء واجبةٌ، وقطيعة الرحم من كبائر الذنوب، بل من أسباب اللعنة: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ [محمد:22-23].
فقطيعة الرحم من أسباب اللعنة، ومن كبائر الذنوب، وأنت مسؤولٌ عن نفسك، أنت ستفر يوم القيامة من أمك وأبيك، فلا بد من أن تبحث عن أرحامك الذين يجب عليك أن تصلهم، وأن تقوم بصلتهم بغض النظر عن وضع والدتك، والدتك تقوم بالتوجيه والإرشاد ما أمكن، لكن بالنسبة لك يجب عليك أن تصل أرحامك.
السؤال: ما حكم من يجد أثرًا يسيرًا جدًّا من بُرازٍ في ملابسه الداخلية بشكلٍ مستمرٍّ؟
الجواب: من يجد أثرًا للبول أو للغائط، وهذا الأثر أثرٌ يسيرٌ، ينبغي له بعدما يقضي حاجته ألا يستعجل، وأن يحرص على الإنقاء ما أمكن، فبالنسبة للبول يحرص بعد البول على أن يعصر ذكره برفق، ولا يستعجل، وكذلك بالنسبة لقضاء الحاجة (الغائط)، يحرص كذلك على التنظف بالاستنجاء، والاستنجاء بالماء وبالمناديل ونحو ذلك، ويتقي الله تعالى ما استطاع؛ لأن النبي ذكر أن من أسباب عذاب القبر: عدم الاستنزاه من البول [30]، يعني التساهل في أمر النجاسة.
فالمطلوب هو الاعتدال، لا يشدد الإنسان كثيرًا، بحيث يؤدي هذا للوسواس، لكن أيضًا في المقابل لا يتساهل بأمر النجاسة، وإنما يبذل ما يستطيع، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ [التغابن:16].
السؤال: ما نصيحتكم لمن يعاني من شدة الشهوة في الخلوات؟
الجواب: كما قال النبي : يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاءٌ [31]، وعليه أن يبتعد عن المثيرات، وعن أسباب الفتنة، وأن يجاهد نفسه، هذا بابٌ من أبواب مجاهدة النفس.
السؤال: هل يجوز وضع الصدقة -وليس الزكاة- أمام منازل الفقراء دون إخبارهم -كالطعام- للإخلاص؟
الجواب: نعم، لا بأس بذلك، بل إن هذا هو الأفضل، وهذا يصدق عليه: رجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه [32]، لكن بشرط أن يعلم الفقير بها، وألا تبقى مدةً طويلةً؛ حتى لا تتأثر بالشمس ونحو ذلك؛ فمثلًا: يضعها ويطرق الباب مثلًا، ويرقب الموقف من بعيدٍ، ممكن، لكن لا يتركها فترةً طويلةً في الشمس، فيعطي الفقير هذه الصدقة، لكن أيضًا يكون ذلك بطريقةٍ محترمة، وبطريقةٍ لائقةٍ، وبإمكانه أيضًا أن يسلمها للفقير، ولا يعتبر هذا منافيًا للإخلاص، أو يرسل أحدًا بهذه الصدقة.
السؤال: ما حكم من ينزل عليها الدم أحيانًا، وأحيانًا أربعة أيامٍ، فماذا تفعل؟ خاصةً في أول نزوله لا تدري هل ستطول المدة؟
الجواب: الحيض قد يتقطع عند بعض النساء، فينزل يومًا ويتوقف يومين ثم يعود، والحكم في هذا هو قول الله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، متى ما رأت المرأة الأذى فهو حيضٌ، ومتى ما رأت الطهر فهو طهرٌ.
ولكن وضع الفقهاء لهذا ضابطًا، وهو أن الطهر الذي تراه المرأة لا بد أن يكون يومًا وليلةً على الأقل، أما الساعات فلا تعتبر؛ لأن هذا شيءٌ معتادٌ، أن المرأة ينقطع عنها الدم ساعاتٍ، لكن إذا انقطع عنها يومًا وليلةً؛ فهذا طهرٌ يجب عليها أن تغتسل وتصلي، فالحيض قد لا يكون متواصلًا عند بعض النساء، قد يكون متقطعًا، فإذا أتاها الحيض؛ فهو حيضٌ، وإذا أتاها الطهر فهو طهرٌ، ولكن لا بد أن يكون الطهر على الأقل يومًا وليلةً؛ حتى تعتبره طهرًا.
السؤال: هل تجوز الصدقة على الكافر؟
الجواب: نعم، تجوز الصدقة على الكافر بالإجماع؛ لقول الله : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، والأسير وقت نزول الآية كان من غير المسلمين؛ ولقول الله سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، وقد نزلت هذه الآية في نفرٍ من الصحابة كانوا قد أسلموا ولهم أقارب من غير المسلمين، فلما أسلموا؛ تحرجوا أن يتصدقوا عليهم، فأنزل الله الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:272]، فلا بأس بالصدقة على الكافر.
وأما الزكاة فلا تعطى للكافر إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي أن يكون من المؤلفة قلوبهم، لكن الصدقة بابها واسعٌ.
السؤال: هل خروج الدم ناقضٌ للوضوء؟
الجواب: خروج الدم محل خلافٍ بين الفقهاء: هل ينقض الوضوء أو لا ينقض؟ والقول الراجح: أنه لا ينقض، وهذا هو القول المختار عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على أن خروج الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء، إلا أن يكون الدم من السبيلين، لكن إذا كان من غير السبيلين؛ فالقول الراجح: أنه لا ينقض الوضوء، لكن الدم في نفسه نجسٌ، ويعفى عن يسيره.
وعلى هذا: فلو خرج منك دمٌ، يعني رعفت وخرج من أنفك دمٌ، ووقع على ثيابك، فإن كان يسيرًا؛ فلا يضر، أما إذا كان كثيرًا عرفًا؛ فيلزمك أن تغسل هذا الموضع الذي وقع عليه الدم؛ لأن الأصل في الدم أنه نجسٌ، وقد حكي إجماع العلماء على ذلك.
إذنْ خروج الدم من غير السبيلين لا ينقض الوضوء -على القول الراجح- لكن الدم نجسٌ ويعفى عن يسيره.
السؤال: إذا كنت مسافرًا، ودخلت مع مصلين، ولم يصلوا سوى ركعةٍ، هل أقصر أم أتم؟
الجواب: المسافر إذا ائتم بمقيمٍ؛ وجب عليه الإتمام؛ لقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما؛ لما سُئل: ما بال المسافر إذا صلى وحده؛ صلى ركعتين، وإذا ائتم بمقيمٍ؛ صلى أربعًا؟ قال: “تلك السنة” [33]، حتى لو لم تدرك الإمام إلا في التشهد فيلزمك الإتمام.
فالمسافر إذا صلى خلف إمامٍ مقيمٍ؛ وجب عليه الإتمام، وهذه المسألة يجهلها بعض الناس، تجد أنه يكون مسافرًا، ويصلي خلف إمامٍ مقيمٍ ويقصر الصلاة، فالمسافر إذا صلى خلف مقيمٍ؛ يجب عليه أن يتم الصلاة، فإذا كانت رباعيةً؛ وجب عليه أن يصلي أربعًا؛ وعلى هذا: إذا دخل المسافر مع مقيمٍ؛ صلى ركعةً واحدةً، وهي رباعيةٌ؛ مثلًا الظهر أو العصر أو العشاء، فيلزمه إذا سلم الإمام أن يقضي هذه الركعة؛ لأن الواجب عليه أن يتم أربعًا.
السؤال: هل يشرع تكرار صلاة الاستخارة؟
الجواب: نعم، يشرع تكرارها؛ فالإنسان قد لا يظهر له أثر الاستخارة من صلاته للاستخارة ودعائه في المرة الأولى، فيشرع له أن يكررها مرةً ثانيةً وثالثةً وأكثر، بل يشرع له أن يستخير بعد صلاة النافلة؛ لأن النبي قال: إذا هم أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة.. [34]، وهذا يدل على أنه يشرع أن تكون صلاة الاستخارة بعد صلاة النافلة؛ يعني مثلًا بعد السنة الراتبة، بعد تحية المسجد، بعد صلاة الضحى، يشرع أن ترفع يديك وتدعو الله بدعاء الاستخارة: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك.. إلى آخر الدعاء، وهذه هي أكمل صور الاستخارة: أن تصلي ركعتين ثم تستخير.
الصورة الثانية: أنك تستخير من غير صلاةٍ، وهذه قد يحتاج إليها الإنسان، كما لو كان مثلًا في وقت نهيٍ، أو كان مثلًا في سفرٍ، أو في مكانٍ يصعب عليه أن يصلي صلاة الاستخارة، ويكون الأمر مستعجلًا، فيكتفي بالدعاء: اللهم إني أستخيرك بعلمك..، بالدعاء من غير صلاةٍ، وهكذا أيضًا المرأة إذا كانت حائضًا أو نفساء؛ تكتفي بالدعاء: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك..، ويمكن تكرار هذا الدعاء.
فإذن أكمل صور صلاة الاستخارة: أن تكون بصلاة ركعتين، ويمكن أن تكون بعد صلاة النافلة، لكن أيضًا يجوز أن يكتفى بدعاء الاستخارة من غير صلاةٍ.
طيب، نختم بهذا السؤال:
السؤال: هل لسجود التلاوة تكبيرٌ عند السجود والرفع منه خارج الصلاة؟
الجواب: خارج الصلاة: لم يثبت عن النبي تكبيرٌ عند سجود التلاوة، ولا تكبيرٌ عند الرفع منه، وما روي في ذلك ضعيفٌ لا يصح عن النبي .
وعلى ذلك: فإنه يسجد للتلاوة من غير تكبيرٍ، ويرفع من غير تكبيرٍ، لكن إذا كان سجود التلاوة داخل الصلاة؛ فيكبر عندما يسجد، ويكبر عندما يرفع؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي كان يكبر عند كل خفضٍ ورفعٍ [35]؛ وعلى هذا: سجود التلاوة داخل الصلاة يشرع التكبير معه قبل السجود، وبعد الرفع من السجود.
أما خارج الصلاة: فيسجد من غير تكبيرٍ عند السجود، ومن غير تكبيرٍ عند الرفع منه.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 3244، ومسلم: 2824. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2843. |
^3 | رواه مسلم: 2844. |
^4, ^5 | رواه مسلم: 2845. |
^6 | رواه مسلم: 2582. |
^7 | رواه البخاري: 6562، ومسلم: 213. |
^8 | رواه مسلم: 2842. |
^9, ^10, ^11, ^16 | رواه مسلم: 2846. |
^12 | رواه مسلم: 2847. |
^13, ^14, ^15 | رواه مسلم: 2848. |
^17 | رواه البزار في مسنده: 6339، وابن عدي في الكامل: 4/ 329. |
^18 | رواه البخاري: 1482، ومسلم: 1392. |
^19 | رواه البخاري: 3584. |
^20 | رواه أحمد: 21260، بنحوه. |
^21, ^22 | رواه مسلم: 91. |
^23 | رواه البخاري: 2268، بنحوه. |
^24, ^25 | رواه مسلم: 2849. |
^26, ^27 | رواه مسلم: 2850. |
^28 | رواه الترمذي: 2557، وقال: حديث حسن. |
^29 | رواه البخاري: 5984، ومسلم: 2556. |
^30 | رواه البخاري: 216، ومسلم: .292 |
^31 | رواه البخاري: 1905، ومسلم: 1400. |
^32 | رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031. |
^33 | رواه أحمد: 1862، والطبراني في المعجم الكبير: 12895. |
^34 | رواه البخاري: 7390. |
^35 | رواه البخاري: 789، ومسلم: 392. |