عناصر المادة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
هذا هو الدرس الخامس والسبعون في شرح “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء التاسع من شهر رجب من عام 1444 للهجرة.
وما زلنا في كتاب “الجنة وصفة نعيمها وأهلها”، جعلنا الله تعالى جميعًا من أهلها.
وسنستكمل -إن شاء الله- في هذا الدرس الأحاديث في صفة الجنة -بإذن الله تعالى- ثم ننتقل بعد ذلك إلى الأحاديث التي ذكرها الإمام مسلم في صفة النار.
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.
بابٌ في صفة خيام الجنة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
بابٌ في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين.
قال: حدثنا سعيد بن منصورٍ، عن أبي قُدَامة -وهو الحارث بن عبيد- عن أبي عِمْران الجَوْني، عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس، عن أبيه، عن النبي قال: إن للمؤمن في الجنة لَخَيْمَةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مُجوَّفةٍ، طولها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضًا [2].
قال: وحدثني أبو غَسَّان المِسْمَعِيُّ، قال: حدثنا أبو عبدالصمد، قال: حدثنا أبو عمران الجَوْنِي، عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس، عن أبيه: أن رسول الله قال: في الجنة خيمةٌ من لؤلؤةٍ مُجوَّفةٍ، عرضها ستون ميلًا، في كل زاويةٍ منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن [3].
قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا همَّام، عن أبي عمران الجَوْني، عن أبي بكر بن أبي موسى بن قيس، عن أبيه، عن النبي قال: الخيمة دُرَّةٌ طُولها في السماء ستون ميلًا، في كل زاويةٍ منها أهلٌ للمؤمن لا يراهم الآخرون [4].
الشرح:
هذا وصفٌ لبعض نعيم أهل الجنة، وسبق أن قلنا: إن نعيمَ الجنة نعيمٌ عظيمٌ جدًّا، وإنه فوق ما يتخيله العقل البشري، فالعقل البشري المحدود لا يستطيع أن يتخيل نعيم الجنة: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ [5].
وهذا النَّعيم متنوعٌ: من المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، والقصور، وحُسن المنظر، والأرائك التي يتَّكؤون عليها، والخلود أبد الآباد، وفوق ذلك كله: النظر إلى وجه الربِّ الكريم جلَّ وعلا.
وفي هذا الحديث وصفٌ لخيمةٍ تكون للمؤمن في الجنة، لكن هذه الخيمة خيمةٌ من لؤلؤةٍ من لؤلؤ الجنة.
تصور خيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مُجوَّفةٍ، يعني: واسعة الجوف.
طولها ستون ميلًا، وفي الرواية الأخرى التي ذكرها مسلمٌ: عرضها ستون ميلًا.
قال النووي: “ولا مُعارضة بينهما، فعرضها في مساحة أرضها وطولها في السماء -أي: في العلو- متساويان”، فعرضها ستون ميلًا، وطولها ستون ميلًا.
عرض هذه الخيمة ستون ميلًا، وأما طولها في السماء فستون ميلًا.
ويحتمل أن الميل وحدةٌ لا نعرفها، هل هو الوحدة المعروفة، أو أنه وحدةٌ لا نعرفها؟ الله أعلم.
وكما مَرَّ معنا في الدرس السابق: إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلِّها مئة سنةٍ ما يقطعها [6]، فنعيم الجنة نعيمٌ عظيمٌ.
هذه الخيمة خيمةٌ من لؤلؤةٍ طولها ستون ميلًا، وعرضها ستون ميلًا، مُجوَّفة يعني: واسعة الجوف، للمؤمن فيها أهلون يعني: زوجات، وكما ذكرنا في الدرس السابق: أن المؤمن تكون له زوجاتٌ من زوجاته في الدنيا، وأيضًا من الحور العِين، وما في الجنة أعزب [7]؛ لأن لذَّة المناكح من أعظم لذَّات الجنة، فما في الجنة أعزب: لا للرجال، ولا للنساء.
يطوف عليهم المؤمن يعني: يطوف على زوجاته ويَطَؤُهُنَّ.
فلا يرى بعضهم بعضًا من طول مسافة هذه الخيمة وبُعْد أقطارها، يطوف على نسائه في الجنة من الحور العِين، ومن نسائه في الدنيا، فلا يرى بعضهم بعضًا؛ لأنها خيمةٌ عظيمةٌ، طويلةٌ وعريضةٌ، طولها ستون ميلًا، وعرضها ستون ميلًا، وله زوجاتٌ لا يرى بعضهم بعضًا من شدة طولها واتِّساعها.
فهذا وصفٌ لبعض نعيم الجنة، وكما ذكرنا أن هذا وصفٌ لشيءٍ يسيرٍ من نعيم الجنة، وإلا فنعيم الجنة فوق ذلك؛ ولهذا ينبغي أن يستحضر المسلم هذا النعيم، وألا يَذْهَل عنه؛ لأن استحضاره يدفع المسلم لمزيدٍ من العمل، ومزيدٍ من الطاعة، يشتاق لهذه الجنة ويعمل صالحًا حتى يدخل هذه الجنة، ويتزود بزاد التقوى حتى يظفر بهذه الجنة؛ لأن الفوز بالجنة هو الفوز الحقيقي: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
القارئ: أحسن الله إليكم.
باب ما في الدنيا من أنهار الجنة
قال رحمه الله:
باب ما في الدنيا من أنهار الجنة.
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، وعبدالله بن نُمَيرٍ، وعلي بن مُسْهِرٍ، عن عبيدالله بن عمر. ح، قال: وحدثنا محمد بن عبدالله بن نُمَيرٍ، قال: حدثنا محمد بن بشرٍ، قال: حدثنا عبيدالله، عن خُبَيْب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : سَيْحَانُ وجَيْحَانُ والفُرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة [8].
الشرح:
هذا الحديث يقول فيه النبي : سَيْحَان وجَيْحَان والفُرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة، وهذه الأنهار الأربعة هي أعظم أنهار الأرض.
أما سَيْحَان وجَيْحَان فقالوا: إن نهر سَيْحَان في بلاد الأَرْمن، فَسَيْحَان اسمه في الوقت الحاضر: نهر أَذَنَة، وجَيْحَان نهر المِصِّيصَة، وهذه من جهة تركيا ونحوها، وهما نهران عظيمان جدًّا.
وأما الفرات والنيل فمعروفان، ونهر الفُرات بالعراق، ونهر النيل بمصر.
وهذه الأنهار الأربعة هي أعظم أنهار الأرض، ونهر النيل فيه خصائص لا توجد في غيره، فهو أطول نهرٍ على وجه الأرض، ومعظم أنهار الأرض تجري من الشمال إلى الجنوب، لكن نهر النيل يجري على العكس: من الجنوب إلى الشمال.
وأيضًا منبع هذا النهر -منبعه الحقيقي- لم يزل غير معروفٍ، وإن كانت هناك مَصَبَّات في الحبشة، لكنها غير كافيةٍ لتزويد هذا النهر الذي هو أطول أنهار الأرض، فهو نهرٌ عظيمٌ.
وهكذا أيضًا نهر الفرات الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه يُوشك أن يَحْسِرَ -نهر الفرات- عن جبلٍ من ذهبٍ يقتتل عليه الناس، فلا ينجو من الألف إلا واحدٌ، معنى ذلك: أنه ستكون مقتلةٌ عظيمةٌ لأجل الحصول على هذا الذهب، فمَن حضره فلا يأخذ منه شيئًا [9].
وهذا يدل على أنه في ذلك الوقت الذي يَحْسِر فيه نهر الفرات سيكون سعر الذهب مُرتفعًا جدًّا لدرجة أن الناس يقتتلون، كلٌّ يريد الحصول على شيءٍ يسيرٍ من هذا الذهب.
وأما نهر سَيْحُون وجَيْحُون فكما ذكرنا: هما في بلاد الأرمن، لكن ما وجه كون هذه الأنهار الأربعة من أنهار الجنة؟
بعض العلماء قال: إن هذا من المُتشابه؛ لأنه ليس في الدنيا شيءٌ مما في الجنة، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “ليس في الدنيا شيءٌ مما في الجنة إلا الأسماء”، فكيف تكون هذه الأنهار الأربعة من أنهار الجنة؟
ولكن للعلماء في هذا توجيهٌ، فقال بعضهم: إن المعنى: أن الإيمان عمَّ بلادها -بلاد هذه الأنهار- أو الأجسام المُتغذية بمائها أنها تصير إلى الجنة.
لكن هذا قولٌ ضعيفٌ، وفيه تكلفٌ وبُعْدٌ.
وقيل: إنها من أنهار الجنة حقيقةً، وأنها على ظاهرها، وأن لها مادةً من الجنة، والجنة موجودةٌ الآن ومخلوقةٌ، وأن الفرات والنيل يخرجان من الجنة.
لكن يُشْكِل على هذا: كيف تكون من الجنة وما في الدنيا شيءٌ مما في الجنة؟
والقول الثالث: أنها كانت من أنهار الجنة حقيقةً، لكن لما نزلتْ إلى الأرض صار لها حكم أنهار الدنيا.
وقيل -ولعله الأقرب والله أعلم-: إنها ليست من أنهار الجنة حقيقةً، لكنها لبركتها وطِيبها وفضلها وعظيم نفعها تُشْبِه أنهار الجنة، فذكر النبيُّ ذلك من باب رفع شأنها والثَّناء عليها.
وهذا هو الأقرب -والله أعلم- واختاره الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهو الأقرب: أنها ليست من أنهار الجنة حقيقةً، يعني: للنصوص الأخرى التي تدل على أنه ليس في الدنيا شيءٌ مما في الجنة، فلا بد من النظر أيضًا لمجموع النصوص، فلا يُؤخذ النص على ظاهره، كيف تكون من أنهار الجنة وهي في الدنيا؟
فالأقرب -والله أعلم- هو القول الأخير، وهو: أنها ليست من أنهار الجنة حقيقةً، لكن النبيَّ ذكر أنها من أنهار الجنة من باب رفع شأنها والثَّناء عليها؛ لطِيبها وفضلها وعموم بركتها ونفعها، وكونها أعظم أنهار الأرض، كما لو رأيتَ فاكهةً مثل: التين أو الرمان، فتقول: هذه من فاكهة الجنة. تقصد بذلك: أنها لعظيم نفعها وبركتها، وأن في الجنة أيضًا ما يُشبهها في الاسم فتقول ذلك.
فهذا أسلوبٌ من الأساليب المعروفة، يُقال -مثلًا-: الرُّمَّان من فاكهة الجنة، التين من فاكهة الجنة: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، وليس المقصود: أنها من فاكهة الجنة حقيقةً، ولكن المقصود: أنها تُشبهها في الاسم، وأنها عظيمة النَّفع والبركة.
فهذا هو الأقرب -والله أعلم- القول الأخير هو الأقرب: أنها ليست من أنهار الجنة حقيقةً، لكن النبيَّ إنما ذكر ذلك لرفع شأنها والثَّناء عليها؛ نظرًا لعظيم بركتها ونفعها وفضلها وطِيبها.
القارئ: أحسن الله إليكم.
باب: يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير
قال رحمه الله:
باب: يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير.
قال: حدثنا حجاج بن الشاعر، قال: حدثنا أبو النَّضر هاشم بن القاسم الليثي، قال: حدثنا إبراهيم -يعني: ابن سعد- قال: حدثنا أبي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ، عن النبي قال: يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير [10].
الشرح:
في هذا الحديث يقول النبي : يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير.
قوله: يدخل الجنة أي: يدخل الجنة أولًا، وإلا فإن الجنة يدخلها كل مؤمنٍ، أي: أنهم يَسْبِقون في دخول الجنة.
أقوامٌ يعني: هذا يدل على أن هذا ليس شاملًا لجميع أهل الجنة، وإنما لطائفةٍ منهم اتَّصفوا بهذه الصفة، وهي: أن أفئدتهم يعني: قلوبهم مثل أفئدة الطير.
معنى قوله: مثل أفئدة الطير ..
وللعلماء في معنى هذا الحديث ثلاثة أقوالٍ:
- القول الأول: أنها مثل أفئدة الطير في رِقَّتها وضعفها، كما قال عليه الصلاة والسلام عن أهل اليمن: أهل اليمن أَرَقُّ قلوبًا، وأَلْيَن أفئدةً [11].
فعلى هذا يكون المعنى: أن أفئدتهم مثل أفئدة الطير في رِقَّتها، وقلوبهم رقيقةٌ، خاشعةٌ. - وقيل: إن قلوبهم مثل قلوب الطير في شدة الخشية والخوف والهيبة.
والطير أكثر الحيوانات خوفًا وفزعًا، فهؤلاء عندهم من الخشية والخوف من الله كما عند الطير، فهم قومٌ غلبهم الخوف والخشية لله . - وقيل: إن المراد أنهم مُتوكِّلون على الله كالطير، كما قال عليه الصلاة والسلام: لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله لَرَزَقكم كما يرزق الطير؛ تَغْدُو خِمَاصًا، وتَرُوح بِطَانًا [12].
والأقرب -والله أعلم- كما قال الطِّيبِيُّ: “إن هذه كلَّها مُرَادةٌ؛ لأن وجه الشَّبه إذا أُضْمِر عمَّ تناولُه”.
فعلى هذا يكون هؤلاء أفئدتهم مثل أفئدة الطير في رِقَّتها، وفي الخشية والخوف من الله أيضًا، وفي قوة التَّوكل على الله ، فقلوبهم تجمع هذه المعاني.
وهذا يدل على فضل العناية بأعمال القلوب، فالنبي في هذا الحديث ذكر أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير؛ لعنايتهم بأعمال القلوب من الخشية والخوف من الله ، ورِقَّة القلوب، وأيضًا التَّوكل على الله سبحانه الذي هو اعتماد القلب على الله .
وهذا يُبين لنا فضل أعمال القلوب، وأعمال القلوب يتفاوت الناس فيها تفاوتًا كبيرًا، وبحسب تفاوتهم فيها يتفاوتون في الفضل؛ ولهذا نجد -مثلًا- أن سعد بن معاذٍ أسلم وعمره ثلاثون سنةً، وتُوفي وعمره ستٌّ وثلاثون سنةً أو سبعٌ وثلاثون، وقيل: ثمانٍ وثلاثون، يعني: أنه مَكَثَ في الإسلام ستَّ سنواتٍ أو سبعًا أو ثمانٍ على الأكثر، ومع ذلك أخبر النبي أن سعدًا لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن [13]، يعني: هذه السنوات القليلة التي عاشها بماذا ملأها؟
ستُّ سنواتٍ أو سبعٌ، ومع ذلك لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن!
فالذي يظهر -والله أعلم- أنه كانت عنده أعمالٌ قلبيةٌ رَفَعَتْه إلى هذه المنزلة العلية.
فأعمال القلوب هي التي ترفع صاحبها عند الله تعالى درجات؛ ولهذا ينبغي أن يحرص المسلمُ على تحقيق هذه الأعمال القلبية؛ من الإخلاص، واليقين، والتَّوكل، والخشية، والمحبة، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، فهذه منزلتها عليةٌ، وترفع صاحبها عند الله تعالى درجات.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن همَّام بن مُنَبِّهٍ قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة ، عن رسول الله . فذكر أحاديث، منها: وقال رسول الله : خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعًا، فلما خلقه قال: اذهب فسلِّم على أولئك النَّفَر -وهم نفرٌ من الملائكة جلوسٌ- فَاسْتَمِعْ ما يُجيبونك، فإنها تحيتك وتحية ذُريتك، قال: فذهب، فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، قال: فزادوه: ورحمة الله، قال: فكلُّ مَن يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن [14].
الشرح:
خلق الله آدم على صورته، خلق الله أبانا آدم، وأول ما خلق اللهُ تعالى آدم خلقه في السماء، لكن قوله: خلق الله آدم على صورته، هل الضمير في على صورته يرجع لآدم -يعني: على صورة آدم- أو يرجع لله ؟
فمِن العلماء مَن قال: إن الضمير يرجع إلى آدم ؛ ولهذا قال النووي في شرح هذا الحديث: “الضمير في صورته عائدٌ إلى آدم، وأن المراد أنه خُلِقَ في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض، وتُوفي عليها، وهي: طوله ستون ذراعًا، ولم ينتقل أطوارًا كَذُرِّيته، وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض، لم تتغير”.
وإلى هذا جنح بعضُ أهل العلم، ومن أشهر مَن ذهب إلى ذلك: أبو ثورٍ، وابن خزيمة، وكذلك بعض علماء السنة، ولكن الصواب الذي عليه المُحققون من أهل العلم هو: أن الضمير في قوله: خلق الله آدم على صورته راجعٌ إلى الله تعالى، وهذا هو الذي اختاره ابن تيمية، وابن القيم، وعامة مشايخنا على هذا: شيخنا ابن باز، وابن عثيمين -رحمة الله على الجميع- وعامة المشايخ على هذا؛ وذلك لأن الصورة ثابتةٌ لله ؛ ولهذا جاء في حديث الشفاعة: فيأتيهم الجبَّار في صورةٍ غير صورته التي رأوه فيها أول مرةٍ، وهذا في الصحيحين [15]، فالصورة ثابتةٌ لله على ما يليق بالله، فهي صفةٌ من صفاته، لا تُشبه صفات المخلوقين.
ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “لفظ “الصورة” كسائر ما ورد في الأسماء والصفات التي قد يُسمَّى بها المخلوق على وجه التَّقييد، وإذا أُطْلِقَتْ على الله اختَصَّتْ به، مثل: العليم، والقدير، والرحيم”، ونحو ذلك، “وكما أنه لا بد لكل موجودٍ من صفاتٍ تقوم به، فلا بد لكل قائمٍ بنفسه من صورةٍ، ويمتنع أن يكون في الوجود قائمٌ بنفسه ليس له صورةٌ يقوم عليها”، هذا مُمتنعٌ.
“ولم يكن بين السلف والقرون الثلاثة المُفضلة خلافٌ في أن الضمير في هذا الحديث عائدٌ إلى الله “، لم يقع الخلاف بين الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم في أن الضمير في هذا الحديث راجعٌ إلى الله: أن الله خلق آدم على صورته يعني: على صورة الله ، “فإنه مُستفيضٌ من طرقٍ مُتعددةٍ عن عددٍ من الصحابة، ولكن لما انتشرت الجهمية في المئة الثالثة جعل طائفةٌ الضميرَ عائدًا إلى غير الله “، وأخذ بهذا القول بعضُ علماء السُّنة، ومن أشهرهم: أبو ثور، وابن خزيمة، “وأنكر عليهم أئمة الدين وبقية علماء السُّنة”.
ولهذا قال ابن قُتيبة: “ليست الصورة بأعجب من اليدين والأصابع والعين، ولكن وقع الإِلْفُ لذلك”، يعني: إثبات الأصابع لله واليدين والعين “لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من إثبات الصورة؛ لأنها لم تَأْتِ في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع”.
وعلى هذا فالراجح أن المقصود: أن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن، وجاء هذا مُصرَّحًا به في بعض الروايات: أن الله خلق آدم على صورة الرحمن [16]؛ ولهذا لما سُئل الإمام أحمد عمَّن يقول: إن الله خلق آدم على صورته، يعني: على صورة آدم، قال: “أيُّ صورةٍ لآدم؟” كيف يكون: خلق الله آدم على صورة آدم؟! يعني: هذا عِيٌّ من الكلام، كيف يقول: خلق الله آدم على صورة آدم؟!
والكلام الذي نقله النووي فيه تكلُّفٌ، يقول: “إن المقصود: خلق اللهُ آدمَ في الأرض على صورته التي كانت في السماء”، هذا فيه تكلُّفٌ، وفيه بُعْدٌ، ولكن معنى الحديث: أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، يعني: أنه كان سميعًا، بصيرًا، مُتكلمًا إذا شاء، وهذا وصف الله ؛ فإنه سميعٌ، بصيرٌ، مُتكلمٌ إذا شاء.
وكما أن لله سمعًا ليس كسمع المخلوقين، وبصرًا ليس كبصر المخلوقين، ويدًا ليست كيد المخلوقين، فكذلك له صورةٌ ليست كصورة المخلوقين، فما العجب من هذا؟ كما قال ابن قُتيبة.
ألستم تُثبتون أن لله سمعًا، وللمخلوق سمعًا، ولله بصرًا، وللمخلوق بصرًا، ولله ذاتًا، وللمخلوق ذاتًا؟
طيب، لله صورةٌ، وللمخلوق صورةٌ، فما العجب في هذا؟
فيكون المعنى: أن الله خلق آدم على صورته يعني: أن الله خلق آدم سميعًا، بصيرًا، مُتكلمًا، كما أن الله سميعٌ، بصيرٌ، مُتكلمٌ، لكن الله سمعه ليس كسمع المخلوقين، وبصره ليس كبصر المخلوقين، وكلامه ليس ككلام المخلوقين؛ ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: أول زُمْرَةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر [17] يعني: في الحُسن والجمال واستدارة الوجوه، لكن هناك فرقٌ بين هؤلاء الذين يدخلون الجنة وبين القمر، فرقٌ كبيرٌ، لكنها تشبيهٌ، يعني: هؤلاء يُشبهون القمر، على صورة البدر في الحُسن، وفي الجمال واستدارة الوجوه فقط، وإلا فهذا قمرٌ، وهؤلاء أناسٌ، بشرٌ، هؤلاء بشرٌ، وهذا قمرٌ، ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام: أول زُمْرَةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر.
إذن القول الصحيح في هذا الحديث هو: أن الضمير في قوله: إن الله خلق آدم على صورته أي: على صورة الرحمن، فنُثبت لله صورةً، لكن ليست كصورة المخلوقين، وإنما كسائر أسمائه وصفاته، كما نُثبت لله تعالى السمع، ليس كسمع المخلوقين، والبصر ليس كبصر المخلوقين، وسائر أسمائه وصفاته جلَّ وعلا.
هذا هو القول المُرجح عند علماء أهل السُّنة، ولم يكن في هذه المسألة خلافٌ بين الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم، وكانوا مُجْمِعين على إثبات الصورة لله ، وعلى أن الضمير في قوله: إن الله خلق آدم على صورته يرجع إلى الله .
فهذا هو التحقيق في هذه المسألة؛ لأنه حصل فيها كلامٌ كثيرٌ ونقاشاتٌ، لكن هذا هو خلاصة الكلام فيها، وإثبات الصورة لله ، وأن الضمير يرجع إلى الله .
طيب، قال: طوله ستون ذراعًا، طول آدم ستون ذراعًا، ونحن ذكرنا في درسٍ سابقٍ: أن أهل الجنة يدخلون الجنة على صورة أبيهم آدم، وعلى طول أبيهم آدم: ستون ذراعًا، وستون ذراعًا تُعادل تقريبًا ثلاثين مترًا، يعني: هذا العمود كم متر؟
لو قلنا -مثلًا-: عشرة أمتارٍ، يعني: طوله ثلاث مراتٍ، خلقٌ عظيمٌ.
فآدم طوله ستون ذراعًا، وجاء في بعض الروايات: أن عرضه سبعة أذرعٍ [18]، وأهل الجنة يدخلون الجنة على طول أبيهم آدم.
قال: فلما خلقه قال: اذهب فسلِّم على أولئك النَّفَر -وهم نفرٌ من الملائكة جلوسٌ- فَاسْتَمِعْ ما يُجيبونك، فإنها تحيتك وتحية ذُريتك، استدلَّ بعض أهل العلم على أن اللغة العربية هي لغة آدم ولغة الملائكة؛ لأنه قال: فَاسْتَمِعْ ما يُجيبونك، فإنها تحيتك وتحية ذُريتك.
وقيل: إنهم تكلموا بلغةٍ اللهُ أعلم بها، لكن النبي أخبر بذلك باللغة العربية. وهذا هو الأظهر -والله أعلم- يعني: ليس هذا الدليل قاطعًا في أن لغة آدم هي العربية، ولا أن الملائكة تتكلم بالعربية، الله أعلم.
القول بأن لغة آدم العربية، والملائكة تتكلم بالعربية فيه تكلُّفٌ.
وقيل: إن لغة أهل الجنة هي اللغة العربية. لكن لم يثبت في ذلك شيءٌ صحيحٌ عن النبي .
قال: فذهب، فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، ردُّ التَّحية أن يقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، أو: وعليك السلام ورحمة الله؛ ولذلك جاء في رواية الكُشْمِيهَني عند البخاري: فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله [19]، وهذه أقرب، هذه الرواية أقرب؛ لأن ردَّ السلام يكون هكذا، فالأقرب هو رواية الكُشْمِيهَني عند البخاري، أنهم قالوا: وعليك السلام ورحمة الله.
وهل الذي يرد السلام يقول: “وعليك” أو “وعليكم”؟
الأولى أن يقول: “وعليكم” بالميم؛ لأن فيها مزيدًا من التَّفخيم، وإن قال: “وعليك” كفى وأجزأ؛ لأن الملائكة هنا قالوا: وعليك السلام ورحمة الله.
قال: فزادوه: ورحمة الله، قال: فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن يعني: أن الله لمَّا خَلَق آدم خلقه وطولُه سِتُّون ميلًا، والآن الناس أطوالهم ليس فيها هذا الطول المُفْرِط.
فيقول عليه الصلاة والسلام: إن الخلق لم يزل ينقص بعده حتى الآن، يعني: الأمم يتقاصر طولها إلى أن استقرَّ الأمر على ما عليه أُمة محمدٍ .
لكن الحافظ ابن حجر رحمه الله في “الفتح” استشكل هذا، قال: إنه “يُشْكِل على هذا ما يوجد من آثار الأمم السابقة، كديار ثمود، فإن مساكنهم تدلُّ على أن قاماتهم لم تكن مُفرطة الطُّول”، وعهدهم قديمٌ؛ ولذا قال الحافظ ابن حجر: “ولم يظهر لي إلى الآن ما يُزيل هذا الإشكال”.
فمساكن قوم ثمود موجودةٌ الآن في الحِجْر عند “العُلَا”، هناك ديار ثمود، يعني: مساكنهم لا تدل على أن قاماتهم طويلةٌ، وإنما مُقاربون لما عليه الناس في الوقت الحاضر.
فالحافظ ابن حجر مع أنه من علماء القرن التاسع استشكل هذا، وهذا استشكله أيضًا بعضُ أهل العلم، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن بين آدم وهذه الأمم مدةً زمنيةً طويلةً جدًّا، فإن النبي لما ذكر هذه الأُمة قال: ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض [20]، يعني: إذا كانت نسبة هذه الأُمة شعرةً في جلد ثورٍ، طيب، هذه الأُمة الآن، كم المسلمون الآن؟
تقريبًا مليار ونصف.
طيب، من آدم إلى الآن؟ وهذه الأُمة من محمدٍ إلى الآن؟ ومن محمدٍ إلى قيام الساعة؟
أعدادٌ كثيرةٌ بالمليارات، ومع ذلك نسبتهم في الأُمم كشعرةٍ في جلد ثورٍ!
وهذا يدل على كثرة البشر، وعلى أن هناك أُممًا كثيرةً جدًّا قبلنا، والله تعالى يقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78].
ولذلك ربما تكون المسافة طويلةً جدًّا، ما ندري كم بيننا وبين آدم، وبين هذه التي ذكرها الحافظ ابن حجر: ديار ثمود وبين آدم ، قد تكون مسافةً كبيرةً جدًّا، وأنه كما قال عليه الصلاة والسلام: الخلق يتقاصر، فالله تعالى أعلم وأحكم.
نحن نؤمن بهذه النصوص كما وردتْ، لكن الله تعالى أعلم وأحكم، لكن الذي يظهر لي في التوجيه هو هذا؛ أن نقول: إن هناك حقبًا زمنيةً طويلةً جدًّا بين آدم والأمم التي بعده، وإنه كما قال عليه الصلاة والسلام: إن الخلق يتقاصر؛ لأن آدم كان طوله ستين ميلًا، ثم بدأ التَّقاصر.
يعني: إن ما بين آدم وهذه الأمم، خاصةً الأمم الباقية الآن التي مساكنهم ظاهرةٌ كثمود، لكن مساكن عاد ليس لها الآن أي أثرٍ، ومساكن أصحاب الأيكة أيضًا ليس لها أي أثرٍ، والفراعنة موجودةٌ بعض أهراماتهم، وتدل أيضًا على الطول، وأهراماتهم كبيرةٌ، فالله تعالى أعلم وأحكم.
نحن نؤمن بهذا كما ورد، والله تعالى له الحكمة البالغة، لكن أقرب ما يُقال هو هذا: إن هناك حقبًا زمنيةً طويلةً بين آدم والأمم التي بعده، وإن الأمم التي بعده أممٌ كثيرةٌ جدًّا بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور ..، والله تعالى أعلم وأحكم.
القارئ: أحسن الله إليكم.
بابٌ في شدة حَرِّ نار جهنم
قال رحمه الله:
بابٌ في شدة حَرِّ نار جهنم وبُعْدِ قَعْرها، وما تأخذ من المُعَذَّبين.
قال: حدثنا عمر بن حفص بن غِيَاثٍ، قال: حدثنا أبي، عن العلاء بن خالد الكاهلي، عن شقيقٍ، عن عبدالله قال: قال رسول الله : يُؤْتَى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألف مَلَكٍ يَجُرُّونها [21].
الشرح:
“باب .. جهنم”، جهنم -نسأل الله العافية، ونسأل الله تعالى أن يُعيذنا وأن يُجيرنا منها- اسمٌ لنار الآخرة، والله توعَّد مَن عصاه بهذه النار، ونهاية مطاف البشرية: الجنة أو النار، فالبشرية تستقر في النهاية إلى الجنة أو النار: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، مَن أطاع الله تعالى دخل الجنة، ومَن عصاه دخل النار، لكن من رحمة الله تعالى بالمؤمنين أنَّ مَن مات على التوحيد لا يُخلَّد في النار، وإنما يخرج منها برحمة أرحم الراحمين ويدخل الجنة، وقد يُعذَّب في النار ما شاء الله، لكنه لا يُخلد فيها أبد الآباد، أما مَن مات على الشرك والكفر -نسأل الله العافية- فهذا هو الذي يُخلد في النار أبد الآباد.
وعذاب جهنم عذابٌ عظيمٌ جدًّا، جاء وصف بعض هذا العذاب في القرآن وفي السنة عن النبي ، وأن أهل النار من شدة عذابهم وألمهم يطلبون من مالك -خازن النار- العدمَ، لا يُريدون نجاةً، ولا يطمعون في الجنة، يريدون العدم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، يُنْهِينا، يعدمنا، ما قالوا: “نريد أن يُدخلنا الجنة”، ما يرجون هذا أصلًا، لكن يقولون: ما نريد هذه الحياة، نريد العدم: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77- 78]، فأعدَّ الله تعالى عذابًا عظيمًا.
وكما ذكرنا في نعيم الجنة: أنه فوق خيال العقل البشري، فكذلك أيضًا عذاب النار فوق مستوى خيال العقل البشري، وكما سيأتينا أن نار جهنم ضُعِّفَتْ على الدنيا تسعًا وستين مرةً، يعني: في حرارتها وألمها ضُعِّفَتْ على الدنيا تسعًا وستين مرةً، حتى إن جلودهم تذوب من شدة الحرارة والألم: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، ويبكون الدمع، ثم يبكون الدم، وفيها من العذاب والنَّكال شيءٌ عظيمٌ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20]، فيها عذابٌ بدنيٌّ، وعذابٌ نفسيٌّ أيضًا؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يخرج فرح بالشيء، ثم أُعيد، فيكون أشدّ ألمًا.
وفي هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: يُؤْتَى بجهنم أي: يُؤْتَى بجهنم من المكان الذي خلقها الله فيه، وتُجَرُّ إلى الناس يوم القيامة ينظرون إليها، فتبرز النار يوم القيامة، ويُجاء بها من المكان الذي خلقها الله تعالى فيه إلى الموقف.
يقول عليه الصلاة والسلام: يُؤْتَى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألف مَلَكٍ يَجُرُّونها.
الزِّمام: هو الخِطَام الذي يُجْعَل في أنف البعير.
وقيل: ما يُشَدُّ به رأس البعير من حبلٍ.
لكن الأقرب هو الأول: الخِطَام الذي هو خِطَام البعير، إذا وُضع حبلٌ في أنف البعير ينقاد، هذا هو الزمام.
فَيُؤْتَى بجهنم ومعها الملائكة يَزُمُّونها، يعني: يمنعونها من الخروج على المحشر؛ لأن المحشر فيه البشر، وأين أرض المحشر؟
في الشام، فالناس يُسَاقون كلهم من أنحاء الأرض إلى الشام: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر:6- 7]، فيُساقون، يُساق البشر كلهم حتى يجتمعوا في أرض المَحْشَر في أرض الشام.
ويُؤْتَى بجهنم تجرُّها الملائكة، لكن الملائكة يَزُمُّونها عن أن تخرج إلى أرض المحشر، فَتُدَار جهنم على أرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريقٌ إلا الصراط.
وانظر في هذا الحديث العظيم: يُؤْتَى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألف مَلَكٍ يجرونها، سبعون ألف زمامٍ لجهنم، ومع كل زمامٍ سبعون ألفًا، كم عدد الملائكة حينئذٍ؟
معنى ذلك: نضرب سبعين ألفًا في سبعين ألفًا، كم النتيجة؟
أربعة مليارات وتسعمئة مليون.
70000 × 70000 = 4.900.000.000، يعني: ما يُقارب خمسة مليارات يَجُرُّ جهنم، ما يُقارب خمسة مليارات من الملائكة.
هذا إذا أخذنا بظاهر اللفظ، أما إذا لم نأخذ بظاهر اللفظ، كما قال بعض أهل العلم: إن السبعين ألفًا المقصود به التَّكثير، وليس المقصود به التَّحديد، فمعنى ذلك: أن عدد الملائكة الذين يجرون جهنم فوق هذا الرقم بكثيرٍ.
فسبحان الله!
انظر إلى عظيم خلق الله تعالى لجهنم، كيف أنها يجرها سبعون ألفًا من الملائكة، ولها سبعون ألف زمامٍ، وكل زمامٍ يَجُرُّه سبعون ألفًا من الملائكة، فهذا يدل على عظيم خلق الله تعالى لجهنم، وأيضًا كثرة الملائكة، فالملائكة إذا أخذنا بظاهر الحديث عددهم هنا يُقارب خمسة مليارات، وإن كان الأقرب -كما قال بعض أهل العلم- أن العدد ليس للتَّحديد، وإنما للتَّكثير، فهذا يدل على كثرة الملائكة.
فهذا وصفٌ من النبي لما سيكون في الموقف، وأنه يُؤْتَى بجهنم لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألف مَلَكٍ يَجُرُّونها، وإذا رآها الناس فإنهم يرون العذاب عيانًا، لكن الله تعالى يُنَجِّي المؤمنين بفضله وكرمه ورحمته؛ ولذلك يرى المؤمنون عندما يدخلون الجنة أنه لو لم يكن لهم إلا النَّجاة من هذه النار التي رأوها بأعينهم لكان هذا كافيًا، فكيف بما أعدَّ الله لهم من النعيم العظيم في الجنة؟
ثم هذه النار يُؤْتَى بها لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألف مَلَكٍ يَجُرُّونها، يُدار بها على أرض المحشر، ثم يُضْرَب عليها الصراط، ويجوز الناس الصراط، فأهل النار يقعون في النار، وأهل الجنة يجوزون الصراط ويدخلون الجنة.
وهذا الذي نذكره على ضوء ما ورد في الأحاديث، وإلا فعالَم الآخرة يختلف عن عالَم الدنيا تمامًا، وكما يُشبه بعض أهل العلم -يعني: يُوضح هذه المسألة ويُقربها- يقول: أرأيتَ لو أن جنينًا في بطن أمه قيل له: إنك ستخرج إلى الدنيا، وسترى فيها شمسًا وقمرًا وجبالًا وأنهارًا وبشرًا وشجرًا وحجرًا ونباتًا وأناسًا، هل سيتصور؟ هل سيفهم هذه المعاني؟ هو لا يعرف إلا هذا الرحم الذي يعيش فيه في ظلماتٍ ثلاثٍ.
هكذا أيضًا عالم الآخرة بالنسبة للدنيا، فهو مُختلفٌ تمامًا، لكننا نُؤمن بأن ما قاله الله وما قاله رسوله حقٌّ قطعًا، ونؤمن بذلك كأننا نراه، بل أعظم مما نراه؛ لأن ما نراه ربما يَرِد عليه الوهم، فربما ترى الشيء تحسبه ماءً فإذا هو سرابٌ، لكن ما قاله الله وما قاله رسوله لا يرد عليه الوهم قطعًا.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا المغيرة -يعني: ابن عبدالرحمن الحزامي- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة : أن النبي قال: ناركم هذه التي يُوقِد ابن آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من حَرِّ جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافيةً يا رسول الله. قال: فإنها فُضِّلَتْ عليها بتسعةٍ وستين جزءًا كلها مثل حَرِّها [22].
قال: حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا عبدالرزاق، قال: حدثنا معمرٌ، عن همام بن مُنَبِّهٍ، عن أبي هريرة ، عن النبي بمثل حديث أبي الزناد، غير أنه قال: كلهن مثل حَرِّها [23].
الشرح:
يصف النبيُّ عذاب نار جهنم بأنها قد ضُعِّفَتْ على نار الدنيا تسعًا وستين مرةً في الحرارة، أرأيتَ مستوى حرارة الدنيا؟ حرارة نار جهنم ضُعِّفَتْ عليها تسعًا وستين مرةً.
يعني مثلًا: لو قيل: إن حرارة الدنيا تصل إلى ألف درجةٍ، فحرارة جهنم تسعةٌ وستون ألفًا.
سبحان الله!
قيل: يا رسول الله، إنها وحدها لكافية. قال: إنها فُضِّلَتْ عليها بتسعةٍ وستين جزءًا، فنار الدنيا جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم.
وهذا يدل على عظيم حَرِّ نار جهنم؛ ولذلك تنضج جلودهم، وكلما نَضِجَتْ بُدِّلوا جلودًا غيرها؛ ليذوقوا العذاب، ويعطشون، وإذا عطشوا سُقُوا ماءً حميمًا فَقَطَّع أمعاءهم.
وفيها من العذاب والنَّكال شيءٌ عظيمٌ لا يخطر على عقل بشرٍ، هو فوق الخيال؛ ولذلك فعذاب النار جعل الصالحين مُشفقين دومًا، وخائفين من هذه النار، وأثنى الله تعالى عليهم بذلك، وأنهم يقولون: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192]، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65- 66].
اجعل هذا الدعاء نُصْبَ عينيك، كلَّ يومٍ ادْعُ اللهَ به، كل يومٍ قُلْ: رَبِّ اصرف عني عذاب جهنم، إن عذابها كان غرامًا، إنها ساءتَ مُستقرًّا ومُقامًا، رَبِّ إنك مَن تُدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصارٍ.
فإن الله أثنى على المؤمنين الذين يدعون بذلك: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رِبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27]، قالوا: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27- 28].
فينبغي أن يكون ذِكْر الجنة والنار حاضرًا لدى المسلم، وألا يغفل ويَذْهَل عنه، وأن يدعو الله تعالى كل يومٍ، ويسأل الله تعالى أن يُدخله الجنة، وأن يُعيذه من النار؛ لأن هذه هي نهاية مطاف البشرية، ومَن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز، هذا هو التعريف النهائي للسعادة: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ [هود:108]، هذا تعريف السعادة: أن تُزحزح عن النار وتدخل الجنة.
ولهذا جاء عند الترمذي وغيره بسندٍ صحيحٍ عن النبي أنه قال: مَن سأل الله الجنة ثلاث مراتٍ قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ومَن استجار من النار ثلاث مراتٍ قالت النار: اللهم أجره من النار [24].
فاجعل هذا الدعاء: سؤال الله الجنة، والاستعاذة بالله من النار، اجعله حاضرًا في أدعيتك، كل دعوةٍ تدعو الله تعالى بها اسأَلِ اللهَ الجنةَ، واستعذ بالله من النار، وفي صلاتك في التَّشهد الأخير اسأل الله الجنة، واستعذ بالله من النار ثلاث مراتٍ في كل صلاةٍ تُصليها، فريضةً كانت أو نافلةً؛ لأن هذه الدعوة أعظم الأدعية، وهذه إذا استُجِيبتْ لك سعدتَ السعادة الأبدية؛ لأن الجنة والنار هما نهاية مطاف البشرية، فاجعل إذن ذِكْر الجنة وذِكْر النار حاضرًا، لا تغفل عنه: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند حديث أبي هريرة .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة:
السؤال: يقول: أرجو التوضيح: يقول الله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، وكثيرٌ من الناس يقولون: المال وَسَخُ الدنيا.
الجواب: المال جعله الله تعالى خيرًا، وسمَّاه “خيرًا”: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، فهو خيرٌ إذا أحسن الإنسانُ الانتفاعَ به، ولم يكن هذا المال مُشغلًا له عن طاعة الله، وجعل هذا المال في يده، ولم يجعله في قلبه، فيكون هذا المال خيرًا له.
والعَشَرة المُبشرون بالجنة نصفهم أو أكثر كانوا من أغنياء الصحابة.
فالمال لا يُذَمُّ لِذَاته، لكن إذا تسبَّب هذا المال في إشغال الإنسان عن طاعة الله وعن الدار الآخرة فإنه يُذَمُّ لأجل ذلك، والله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6- 7] يعني: الغالب على النفوس أنها إذا استغنتْ تَطْغَى إلا مَن عصم الله .
فإذا كان الإنسان يجعل المال في يده، ويستخدمه في طاعة الله ، ولا يشغله عن الله والدار الآخرة؛ كان هذا المال خيرًا وبركةً عليه في الدنيا والآخرة، أما إذا تسبَّب هذا المال في صَدِّه عن طاعة الله ، وفي وقوعه في المعاصي؛ كان هذا المال شُؤْمًا عليه.
ومعنى قول بعض الناس: “إن هذا المال وَسَخُ الدنيا” يعني: هذا إذا أشغل الإنسانَ عن طاعة الله، لكن إذا لم يشغله عن طاعة الله، وكان في يده، وليس في قلبه؛ كان خيرًا له، يأكل منه ويتصدق ويصل رحمه، ونحو ذلك.
السؤال: ما معنى: يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضًا؟
الجواب: ذكرنا هذا في الشرح، يعني: المقصود بالطواف هنا: الجِمَاع، يعني: يطوف على زوجاته في هذه الخيمة، ومن شدّة طولها لا يرى بعضهم بعضًا.
السؤال: كيف أُصلي سُنة الفجر في مساجد الطريق؛ لوجود جماعةٍ تُصلي بصفةٍ مُستمرةٍ؟
الجواب: إن تيسَّر أن تأتي بسُنة الفجر قبل صلاة الفجر فهذا هو الأفضل، وإن لم يتيسر فتأتي بسُنة الفجر بعد صلاة الفجر.
السؤال: مَن يُكرر الآية للحفظ، هل يجب عليه أن يسجد كلما مَرَّ بآية سجدة؟
الجواب: يسجد في المرة الأولى فقط، وبعد ذلك لا يسجد؛ لأنه يُكرر لأجل الحفظ، وقد أتى بالسنة بسجوده الأول، فيكتفي بذلك.
السؤال: إذا نوى شخصٌ خَتْمَ القرآن وتُوفي، هل يُكْتَب له الأجر؟
الجواب: يُؤجر على نيته، لكن لا يكون أجره مثل أجر مَن عمل ذلك العمل الصالح.
السؤال: صُمْتُ يوم الاثنين أمس، ثم أفطرتُ خشية أني عملتُ بدعةً، هل أنا مُصيبٌ أو مُخطئٌ؟
الجواب: أنت لم تُصِبْ؛ صيام يوم الاثنين سُنةٌ.
ربما أن الأخ الكريم يقصد: أنه كان من رجب، فإذا لم يقصد الإنسان تخصيص رجب فلا شيء عليه، فالمقصود هو تخصيص رجب بالصوم، أما إذا كان من عادته أنه يصوم الاثنين، وصام الاثنين لكونه يوم الاثنين، فهذه هي السُّنة.
والنبي كان يصوم الاثنين، ويقول: ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه، وبُعِثْتُ فيه، وأُنْزِل عليَّ فيه [25].
فالسنة صيام يوم الاثنين، وكذلك أيضًا ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، والأفضل أن تكون في أيام البِيض إن تيسَّر.
وبعض الناس يجعل صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ في أيام الاثنين؛ حتى يُصيب فضل صيام الاثنين، وأيضًا صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، والأمر في ذلك واسعٌ، لكن يتأكَّد صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ.
وقد أوصى النبي عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما كان يصوم الدهر كله، قال: صُمْ من الشهر ثلاثة أيامٍ، فإن الحسنة بعشر أمثالها [26]، وإذا كانت الحسنة بعشر أمثالها، فثلاثة أيامٍ في عشرةٍ بكم؟
بثلاثين، فثلاثة أيامٍ من الشهر تُعادل صيام الشهر كله.
وأوصى بها النبي أبا هريرة وأبا ذَرٍّ وعددًا من الصحابة ، فصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ تُعادل صيام الشهر كله، إن جعلته في أيام البِيض فحسنٌ، وإن جعلته في كل يوم اثنين، فتصوم -مثلًا- ثلاثة أيام اثنين؛ فهذا أيضًا حسنٌ.
ومَن أراد أن يزيد على ذلك ويصوم -مثلًا- الاثنين والخميس فهذا أفضل، ومَن أراد أعلى درجات صيام النافلة فهو صيام داود: أن يصوم يومًا، ويُفطر يومًا، لكن ينبغي لطالب العلم ألا يغفل عن صيام النافلة، وأن يصوم على الأقل ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ؛ لأن الصيام أجره عظيمٌ، وأجره يختلف عن أجر بقية الأعمال الصالحة؛ لأن بقية الأعمال الصالحة الحسنةُ بعشر أمثالها إلى أضعافٍ كثيرةٍ، أما الصوم فالأجر عليه أجرٌ خاصٌّ من عند الله سبحانه: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به [27].
السؤال: ما ضابط غِيبة الفاسق؟
الجواب: الفاسق تجوز غِيبته فيما جاهر به، وأما ما لم يُجاهر به فلا تجوز غِيبته فيه؛ لأنه مسلمٌ، وهو كسائر المسلمين، لكن فيما جاهر به تجوز غِيبته فيه، فهو من المواضع التي تجوز فيها الغِيبة:
ولِمُظْهِرٍ فِسْقًا ………… | ……………………… |
ولهذا قال الحسن: “أترغبون عن غِيبة الفاسق؟ اذكروه بما فيه؛ كي يحذره الناس”.
السؤال: حكم استخدام غسول الفم أثناء الصيام؟
الجواب: لا بأس بذلك، لكن يَلْفِظُ الأثرَ الذي يكون في فَمِه بعد استخدام هذا الغسول، يلفظ هذا الأثر، والأصل في ذلك أنه لا بأس به؛ ولذلك فالصائم يتمضمض، وقد يكون في الماء أثرُ مُلُوحةٍ، وهذه المُلوحة معفوٌّ عنها، وكذلك استخدام مثل هذا الغسول لا بأس به، لكن ينبغي بعد استخدام هذا الغسول أن يَلْفِظَ الأثر المُتبقي، أو أن يتمضمض ثم يَمُجَّ الماء بعد ذلك؛ حتى لا يبقى أثرٌ في فمه.
السؤال: ما حكم صوت أساور الذهب أمام الرجال غير المحارم؛ لأني أرتديها بشكلٍ يوميٍّ؟ هل تدخل في قول الله تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]؟
الجواب: نعم، تدخل الأساور، ولا يجوز للمرأة أن تلبسها -سواء في رِجْلَيها أو في يديها- وتُظْهِر لها صوتًا؛ لأن هذا مَنْهِيٌّ عنه بنصِّ الآية: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، أما إذا لم يكن لها صوتٌ فلا بأس، لكن إذا كان لها صوتٌ فهذا مَنْهِيٌّ عنه في هذه الآية الكريمة؛ لأن هذا مما قد يُثير الفتنة.
السؤال: هل ثبت أن النبي اعتمر في رجب؟
الجواب: ورد ذلك من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي اعتمر في رجب، ولكن قالت عائشةُ رضي الله عنها: “يرحم الله أبا عبدالرحمن، لم يعتمر النبي في رجب، وإنما كانت عُمَرُه كلها في ذي القعدة، وما اعتمر النبي إلا وأبو عبدالرحمن معه” [28].
فتُشير عائشة رضي الله عنها إلى أن ابن عمر رضي الله عنهما وَهِمَ في ذلك، وأن عُمَرَ النبي كانت كلها في شهر ذي العقدة، وهذا هو القول الراجح: أنه عليه الصلاة والسلام لم يعتمر في شهر رجب، وإنما كانت عُمَرُه كلها في شهر ذي القعدة.
السؤال: ما الأفضل في الأذكار دُبُر الصلوات: الجهر بها أم الخفض؟
الجواب: أما الأذكار التي تكون بعد صلاة الفريضة مباشرةً فالأفضل فيها الجهر؛ لقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “كان الجهر بالذِّكْر أدبار الصلوات على عهد النبي “، رواه مسلم [29]، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله بالتكبير” [30].
فالسُّنة بعد صلاة الفريضة: أن يجهر بالأذكار التي تعقب السلام، مثل: “أستغفر الله” ثلاثًا، “اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام”، ونحو ذلك من الأذكار التي تعقب السلام.
وأما بالنسبة للتَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير، وآية الكرسي، والإخلاص، والمُعوذتين، فالأفضل الإسرار بها، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة: أن الأفضل الإسرار بها؛ لأن الأصل في الذِّكْر الإسرار، وليس الجهر، لكن خُولِف هذا الأصل فيما ورد فيه النص، وهو الأذكار التي تكون بعد السلام مباشرةً.
ومما يدل لذلك: قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما في الحديث السابق: “كان رفع الصوت بالذكر حين انقضاء الصلاة على عهد رسول الله “.
فقوله: “حين” يُشير إلى أن هذا الذكر الذي يكون بعد السلام مباشرةً هو الذي يُشْرَع رفع الصوت به، وأما التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير فلا يُشْرَع رفع الصوت به على القول الراجح، وهكذا أيضًا: آية الكرسي، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، لا يُشرع رفع الصوت بها على القول الراجح.
السؤال: هل يجوز ردُّ السلام بالإشارة أثناء خطبة الجمعة؟
الجواب: نعم يجوز ذلك، ردُّ السلام بالإشارة يجوز، وقد نُقِلَ الإجماع على ذلك، إنما الممنوع أن يردَّ السلام بالكلام، فإذا قلتَ لصاحبك: “أَنْصِتْ” والإمام يخطب فقد لَغَوْتَ، فلا يجوز الكلامُ أثناء الخطبة، لكن بالإشارة لا بأس، ولو رأيتَ -مثلًا- أحدًا يتكلم وأشرتَ له، أو أنه سلَّم فأشرتَ له من غير كلامٍ؛ فلا بأس بذلك.
السؤال: ما حكم أن يقوم بعضُ الناس في يومٍ من الأيام بعمل أبي بكرٍ من صيام التطوع، والصلاة على الميت، والصدقة، وزيارة المريض؟
الجواب: لا بأس بذلك، وقُدوتنا أبو بكر الصديق ، فإن النبيَّ قال يومًا لأصحابه: مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن تَبِعَ منكم اليوم جنازةً؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة [31].
ولذلك فكون المسلم يسعى لتحقيق هذه الخِصال الأربع هذا شيءٌ حسنٌ؛ لأن النبي قال: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة، فإذا اقتديتَ بأبي بكر الصديق ، وحرصتَ على أن تُحقِّق هذه الأمور الأربعة؛ فهذا من الأمور الحسنة.
تقول: هذا اليوم -إن شاء الله- سأتصدق فيه بصدقةٍ، وسأصوم صوم نافلةٍ، وسأعود مريضًا، وسأتبع جنازةً؛ حتى أُحقق هذه الأمور الأربعة، فتقتدي بأبي بكر الصديق ، وتُحقق ما ذُكِرَ في هذا الحديث: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة.
ولو اجتمع مجموعةٌ من الإخوة يتعاونون فيما بينهم لأجل تحقيق ذلك، فهذا من التعاون على البرِّ والتقوى، ومن التَّواصي على الحقِّ.
السؤال: هل يجوز أن أُصلي صلاة الفريضة في السيارة عند الزحام؛ خشية فوات الوقت؟
الجواب: أولًا: ينبغي الاهتمام بصلاة الفريضة، وصلاة الفريضة وقتها مُتَّسعٌ؛ وقت الظهر يمتد إلى أذان العصر، ووقت العصر الضَّروري يمتد إلى غروب الشمس، ووقت المغرب يمتد تقريبًا لمدة ساعةٍ أو تزيد، ووقت العشاء الضَّروري يمتد إلى طلوع الفجر، ووقت الاختيار يمتد إلى منتصف الليل، يعني: الوقت مُتَّسعٌ، ووقت الفجر يمتد إلى شروق الشمس، فينبغي الاهتمام بهذه العبادة.
لماذا تُلْجِئ نفسك أصلًا لهذا؟!
ثم أيضًا إذا خشيتَ أن يخرج الوقت، فقبل أن يخرج الوقت بنصف ساعةٍ -مثلًا- ينبغي أن تخرج من الزحام وتُصلي، والإنسان إذا اهتمَّ سيجد مكانًا يُصلي فيه هذه الصلاة بجميع أركانها وشروطها وواجباتها، لكن لو افترضنا افتراضًا مما ذكره الأخ السائل: أنه -مثلًا- حُصِرَ في مكانٍ ولم يستطع الخروج: لا يمينًا، ولا شمالًا، ولا يتقدم، ولا يتأخر، وخشي فوات الوقت، فالقاعدة في هذا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لكن إذا كانت الصلاة مما يُجْمَع مع غيرها فهل نقول: إن هذا عذرٌ يُبيح الجمع؟
الذي يظهر نعم، فنقول: إذا كانت -مثلًا- صلاة المغرب في هذه الحالة، إذا كان بغير اختياره، ما له اختيارٌ، فهو بين أمرين: إما أن يُصلي ويترك بعض الأركان مثل: القيام، والسجود على الأرض، ونحو ذلك، أو أنه يجمعها مع صلاة العشاء.
فالأقرب -والله أعلم- هو أن يجمعها مع صلاة العشاء؛ لأنه إذا وُجِدَ الحرج جاز الجمع، وهنا الحرج ظاهرٌ، لكن هذا يكون في حدودٍ ضيقةٍ، فلا يتوسع فيها في جمع المغرب مع العشاء، والظهر مع العصر.
كما ذكرتُ: إذا اهتمَّ الإنسان بهذه العبادة فإنه سيُؤديها كاملةً في وقتها، لكن لو افترضنا الصورة التي ذكرها الأخ السائل فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذا حرجٌ يُبيح الجمع، لكن لا يُتوسَّع في ذلك، وإنما يكون بقدر الضرورة.
السؤال: أنا أصوم ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ عملًا بالحديث، لكن كلما أصوم أتعب من القولون، ويُصيبني صداعٌ لدرجة أنني أستفرغ، وأحيانًا أتنوم بالمستشفى، فهل أُكمل صيام النافلة، أو آخذ برأي الطبيب؟
الجواب: ما دام أن الصوم يُلْحِق بك هذا الضَّرر وهذه المشقة فالحمد لله أبواب الخير كثيرةٌ، فهذا صومُ نافلةٍ، وليس صومًا واجبًا عليك، فتكتفي بالصيام الواجب عليك، وتُعوض بأبواب الخير الأخرى، يعني: هناك -مثلًا- صلاة التطوع، فَصَلِّ ما شِئْتَ مَثْنَى مثنى في غير أوقات النَّهي، والإمام أحمد كان يُصلي في اليوم والليلة تطوعًا من غير الفريضة ثلاثمئة ركعةٍ.
مثلًا: تلاوة القرآن لكل حرفٍ عشر حسناتٍ، والصدقة، والذكر بأنواعه.
فأبواب الخير كثيرةٌ لا تنحصر في الصيام، وما دام أنك لا يتيسر لك صيام النافلة فتنتقل منه لأبوابٍ أخرى من الخير.
السؤال: هل الهجر بسبب الخصومة يزول بالسلام؟
الجواب: نعم، الهجر يزول بالسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان فَيُعْرِض هذا، ويُعْرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام [32].
فقوله: وخيرهما الذي يبدأ بالسلام يُشير إلى أن الهجر يزول بالسلام، فإذا كُنتَ تُسلم عليه إذا لقيتَه، وتردّ عليه السلام؛ فقد زال الهجر، وأتيتَ بالحدِّ الأدنى من التواصل بينك وبينه، ولا يلزم أن تُقوي علاقتك به، يعني: بعض الناس ربما أن الإنسان إذا قوَّى علاقته بهم يتأذى ويلحقه الأذى، فلا يلزم أن يُقوي العلاقة، لكن لا يجوز له أن يهجره فوق ثلاثة أيامٍ.
فهجر المسلم يجوز إلى ثلاثة أيامٍ، أما أكثر من ثلاثة أيامٍ فلا يجوز، ويزول هذا الهجر بالسلام، بإلقاء السلام والتحية عليه.
السؤال: صلَّيتُ المغرب مع جماعةٍ يُصلون العشاء، فهل أجلس للتَّشهد في الركعة الثالثة؟
الجواب: إذا صلَّيتَ المغرب مع جماعةٍ يُصلون العشاء، فإذا قام الإمام للركعة الرابعة فإنك تجلس وتُكمل لنفسك وتُسلم على القول الراجح؛ ولأن صلاة المغرب ثلاثُ ركعاتٍ، والإمام قام للرابعة، فلا تُتابعه في الرابعة، وإلا بطلتْ صلاتك؛ لأنك نويتَها المغرب.
فعلى هذا إذا قام الإمام للرابعة تجلس وتُكمل لنفسك وتُسلم، وإن شئتَ بقيتَ في التَّشهد إلى أن تُدرك الإمام في التَّشهد وتُسلم معه، وكلا الأمرين جائزٌ، والمسألة فيها خلافٌ، لكن هذا هو القول الراجح المُختار عند كثيرٍ من المُحققين في هذه المسألة.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2, ^3, ^4 | رواه مسلم: 2838. |
^5 | رواه مسلم: 2825. |
^6 | رواه البخاري: 6552، ومسلم: 2826. |
^7 | رواه مسلم: 2834. |
^8 | رواه مسلم: 2839. |
^9 | رواه البخاري: 7119، ومسلم: 2894. |
^10 | رواه مسلم: 2840. |
^11 | رواه أحمد: 17406. |
^12 | رواه الترمذي: 2344 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 205. |
^13 | رواه البخاري: 3803، ومسلم: 2466. |
^14 | رواه مسلم: 2841. |
^15 | رواه البخاري: 7439، ومسلم: 183. |
^16 | رواه ابن أبي عاصم في “السنة”: 517، والطبراني في “المعجم الكبير”: 13580. |
^17 | رواه البخاري: 3246، ومسلم: 2834. |
^18 | رواه أحمد: 8524. |
^19 | رواه البخاري: 6227. |
^20 | رواه البخاري: 6528، ومسلم: 222. |
^21 | رواه مسلم: 2842. |
^22, ^23 | رواه مسلم: 2843. |
^24 | رواه الترمذي: 2572، وابن ماجه: 4340، وأحمد: 13173. |
^25 | رواه مسلم: 1162. |
^26 | رواه البخاري: 1976، ومسلم: 1159. |
^27 | رواه البخاري: 5927، ومسلم: 1151. |
^28 | رواه البخاري: 1775، ومسلم: 1255. |
^29 | رواه البخاري: 841، ومسلم: 583. |
^30 | رواه البخاري: 842، ومسلم: 583. |
^31 | رواه مسلم: 1028. |
^32 | رواه البخاري: 6237، ومسلم: 2560. |