عناصر المادة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
هذا هو الدرس الرابع والسبعون في شرح “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء الثاني من شهر رجب من عام 1444 للهجرة.
وما زلنا في كتاب “الجنة وصفة نعيمها وأهلها”، جعلنا الله تعالى جميعًا من أهلها.
وكنا قد وصلنا إلى باب “فيمَن يودُّ رؤية النبي بأهله وماله”.
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.
بابٌ: فيمَن يودُّ رؤية النبي بأهله وماله
قال المُصنف رحمه الله تعالى:
بابٌ: فيمَن يودُّ رؤية النبي بأهله وماله.
قال: حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبدالرحمن- عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: مِن أَشَدِّ أُمَّتي لي حبًّا ناسٌ يكونون بعدي يَوَدُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله [2].
الشرح:
هذا الحديث أورده الإمام مسلمٌ في كتاب “الجنة وصفة نعيمها”، ولم تظهر مناسبةٌ لذكر هذا الحديث في هذا الكتاب، ولو أن الإمام مسلمًا رحمه الله ذكره في كتاب “الإيمان” عند باب “ما يكمل إيمان امرئٍ حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده” لكان هذا أحسن في الترتيب.
وبكل حالٍ، فهذا اجتهادٌ من المصنف رحمه الله، وربما يكون له مقصدٌ من إيراد هذا الحديث في هذا الباب، ولكنه لم يتَّضح، والشُّرَّاح قالوا: إنه لم تتضح مناسبةُ إيراده في هذا الكتاب.
محبة النبي من علامات قوة الإيمان
هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، يُخبر فيه النبي أن أناسًا من أُمته يأتون بعده ويُحبونه محبةً شديدةً، لدرجة أن أحدهم يودُّ لو رآني بأهله وماله، أي: لو يفتدي بأهله وماله حتى يراني.
وهذا -ولله الحمد- موجودٌ في هذه الأُمة، فهذه الأُمة فيها خيرٌ، وهناك من أهل الصلاح والعُبَّاد مَن يتمنى رؤية النبي ولو افتدى بأهله وماله من شدة محبته للنبي .
وهذا ذكره عليه الصلاة والسلام في مَعْرِض الثناء عليهم، فإن محبة النبي من علامات قوة الإيمان، وكلما كان الإنسان أقوى محبةً لرسول الله كان أقوى إيمانًا، وأكمل إيمانًا.
ومحبة الله ورسوله مُقدَّمةٌ على كل شيءٍ، وهي من أسباب نيل حلاوة الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما [3].
كل الناس تدَّعي أنها تُحب الله ورسوله ، ولكن العِبرة بالعمل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
فعلى سبيل المثال: الذي يدَّعي أنه يُحب الله وينام عن صلاة الفجر، لو كان صادقًا في محبته لله لكان إذا سمع المُنادي يُنادي: “حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح” ترك الراحة ولذَّة النوم ونهض إلى الصلاة مع الجماعة في المسجد، فهذه هي المحبة الحقيقية لله ، أما أن يدَّعي بلسانه أنه يُحب الله، لكن عند أدنى موقفٍ تجد أنه يُقدم راحته ويُقدم هواه على محبة الله ، فهذا ليس بصادقٍ.
فهذا الذي يُقدم لذَّة الراحة والنوم على الصلاة مع الجماعة في المسجد ليس صادقًا في محبته لله، فمحبة الله ورسوله تظهر عندما تتعارض محبة الله ورسوله مع شيءٍ من أمور الدنيا، فعندما يُقدم الإنسان محبة الله ورسوله على ذلك الأمر يكون صادقًا في محبته لله ورسوله .
القارئ: أحسن الله إليكم.
بابٌ في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال
قال رحمه الله:
بابٌ في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال.
قال: حدثنا أبو عثمان سعيد بن عبدالجبار البصري، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالكٍ : أن رسول الله قال: إن في الجنة لَسُوقًا يأتونها كلَّ جُمُعةٍ، فَتَهُبُّ رِيح الشمال فَتَحْثُو في وجوههم وثيابهم؛ فيزدادون حُسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا. فيقولون: وأنتم -والله- لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا [4].
الشرح:
إن في الجنة لَسُوقًا المقصود بالسوق: ليس السوق الذي يُباع فيه ويُشْتَرَى، وإنما المقصود هنا: مجمع يجتمعون فيه، كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق.
قال: إن في الجنة لَسُوقًا يأتونها كل جمعةٍ يعني: في مقدار كلِّ أسبوعٍ مرةً، وليس هناك أسبوعٌ حقيقيٌّ؛ لفقد الشمس والقمر، فالجنة ليس فيها شمسٌ ولا قمر، وإنما يُقدَّر ذلك، أي: في مقدار كل جمعةٍ أو أسبوعٍ.
رؤية الله
قيل: إنه يكون هناك نورٌ يُضيء من تحت العرش يعرفون به الليل والنهار، وإلا فليس هناك شمسٌ ولا قمر.
فالمعنى: أنهم في كل أسبوعٍ يأتون لهذا السوق.
وجاء في بعض الآثار: أنهم يأتون لرؤية الربِّ ، يأتون لرؤية الله سبحانه، فيرون الله حقيقةً.
وهذا هو مُعتقد أهل السنة والجماعة: أن أهل الجنة يرون الله : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22- 23]، فيجتمعون ويرون الله ، فما أُعْطُوا من النعيم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم [5].
سبحان الله!
يعني: مع ما هم فيه من النعيم العظيم الذي لا يخطر على قلب بشرٍ إلا أن تَنَعُّمَهم بالنظر إلى الله أعظمُ من ذلك كله؛ ولهذا قال: فما أُعْطُوا من النعيم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم .
فيأتون كلَّ جمعةٍ: فَتَهُبُّ رِيحُ الشمال، وخُصَّتْ ريح الشمال بالذكر؛ لأنها ريح المطر عند العرب، فريح المطر عند العرب هي ريح الشمال، وكانت تَهُبُّ من جهة الشام، يأتي بها سحاب المطر، فكانت العرب تُحب هذه الريح، وهي تشترك معها في الاسم، وإلا فهي مختلفةٌ تمامًا في الحقيقة.
فَتَحْثُو في وجوههم وثيابهم هذه الريح بهوائها العذب الطَّلْق الطيب، فيزدادون حُسنًا وجمالًا يزيد حُسنهم عندما تَهُبُّ في وجوههم هذه الريح، وينظرون إلى الله ، ويُكلمهم الله، يُسلم الله عليهم: “سلامٌ عليكم”، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب:44]، فيردون عليه السلام ويقولون: أنت السلام، ومنك السلام.
وجاء في بعض الآثار: أنهم عندما ينظرون إلى الله ، ويقول: “سلامٌ عليكم”، أن الله يقول لهم: “تَمَنَّوا عليَّ ما شئتُم”، فيلتفتون إلى العلماء، فيقولون: ماذا نتمنى؟ فيقولون: تَمَنَّوا كذا وكذا. قالوا: فهم يحتاجون إلى العلماء في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا [6].
يعني: هل نقصكم شيءٌ؟
الربُّ عندما ينظرون إليه، ويُسلم عليهم: هل تريدون شيئًا؟ هل تتمنون شيئًا؟ فَهُم ما يخطر ببالهم شيءٌ، فينظرون للعلماء ويقولون: ماذا نتمنى؟ فيقولون: تَمَنَّوا كذا وكذا.
ثم بعد ذلك: فيرجعون إلى أهليهم إلى الحور العين، فيقول لهم أهلوهم الحور العين تقول لهم: لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا، يرون أنهم قد تغيروا وازدادوا حسنًا وجمالًا من آثار هذه الريح -ريح الشمال- وأيضًا كونهم ينظرون إلى الربِّ ويتحدثون معه.
زيادة نعيم أهل الجنة
فيقولون: وأنتم -والله- لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا الحور العين أيضًا تزداد حسنًا وجمالًا لمَّا تركوهم هذه المدة ثم رجعوا إليهم، وهذا يدل على أن نعيم الجنة لا يزال في زيادةٍ أبدًا.
أخذ العلماء من هذا: أن نعيم الجنة لا يزال في زيادةٍ أبدًا؛ لأن جمال أهل الجنة يزداد، وجمال الحور العين يزداد أيضًا، فالحور العين تقول لهم -أهلوهم-: لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، وهم يقولون لهم: وأنتم -والله- لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فهذا يدل على أن نعيم الجنة في زيادةٍ، فنعيم الجنة يزيد، ليس ثابتًا وإنما يزيد، وهذا من عظيم إكرام الله تعالى لأهل الجنة.
فهذه الدار العظيمة “الجنة” التي وعدها الله تعالى عباده المتقين هي غاية المُنَى التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم، وأن تكون دائمًا نُصْبَ عينيه، فإن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين، فيها ما تشتهيه الأنفس من المآكل، أي: تأكل ما يخطر ببالك، وأيضًا الأكل الذي لا يخطر ببالك، فالذي في الجنة شيءٌ فوق مستوى العقل البشري، وفوق مستوى الخيال البشري، ففيها من أنواع المآكل، وكذلك المشارب، وفيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسِنٍ، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذَّةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مُصَفًّى.
وفيها كذلك من أنواع الملابس، وهذا ذكره الله تعالى في عدة آياتٍ من نعيم أهل الجنة، فهم يلبسون ثيابًا من سندسٍ وإستبرقٍ: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:21]، يُحلون الأساور من فضةٍ، ومن الذهب.
وفيها أيضًا المَلَذَّات من المناكح كما سيأتينا في الحديث: ما في الجنة أعزب، لا من الرجال، ولا من النساء [7].
وفيها أيضًا القصور العظيمة، لكلِّ واحدٍ من أهل الجنة قصرٌ عظيمٌ، وسيأتي وصف خيمةٍ فقط من خيام أهل الجنة، خيمة مُجَوَّفة.
وفيها أيضًا حُسن المنظر، فهم يتمتعون بحُسن النظر إلى هذا النعيم، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [الإنسان:19]، الوِلْدَان: خدم أهل الجنة، من شدة حُسنهم وجمالهم أنك إذا رأيتَهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا.
وهذا يدل على أن من نعيم أهل الجنة: أنهم يتمتعون بهذه المناظر.
وفيها أيضًا: أنهم يتمتعون بالأحاديث الجانبية فيما بينهم “السواليف”: عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56]، يزور بعضهم بعضًا، ويتحدثون في أمور الدنيا وما حصل لهم في الدنيا.
قالوا: وأيضًا مَن كانوا في دروسٍ علميةٍ يتذاكرون مسائل العلم التي كانوا يتذاكرونها في الدنيا: عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ.
وهذا يدل على أن جلوس الإنسان مع مَن يأنس به ويُحبه في الحديث معه: أن هذا من النعيم، جعله الله تعالى من نعيم أهل الجنة: عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ.
وأيضًا من نعيم أهل الجنة: أن الله تعالى نزع من قلوبهم الغِلَّ: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، لا اختلاف بينهم، على قلبٍ واحدٍ، وهذا من النعيم؛ لأن مَن يحمل الغِلَّ أو الحقد أو الحسد يتعذب ويتألم، فأهل الجنة يُنْزَع من قلوبهم الغِلُّ والحقد والحسد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض [8]، على قلبٍ واحدٍ، فهذا من النعيم العظيم.
وأيضًا من نعيم أهل الجنة: ذهاب الهمِّ والغمِّ والحزن عنهم، فليسوا مُنشغلين بلقمة عيشٍ يكتسبونها، أو عملٍ، أو وظيفةٍ، أو دراسةٍ، أو نفقةٍ، أو شيءٍ من هذا القبيل، إنما هم يعيشون في نعيمٍ، وليسوا مُطالبين بأية مسؤوليةٍ، ولا حتى تكليف بعبادةٍ، ولا بأي شيءٍ، يتنعَّمون في هذه الجنة، لا هَمَّ فيها، ولا غَمَّ، ولا مرض، ولا هرم، ولا موت، ولا أدنى شيءٍ يُكدر خواطرهم، أدنى شيءٍ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [مريم:62]، حتى الكلمة السيئة لا يسمعونها: اللغو، أيُّ كلمةٍ غير لائقةٍ أو كلمةٍ غير حسنةٍ لا يسمعونها في الجنة، فليس هناك شيءٌ يُكدر عليهم، أو حتى يُقلقهم، أو يهمهم، أو يُحزنهم.
أيضًا من نعيم أهل الجنة: الخلود، مُخلَّدون فيها أبد الآباد، ليست مئة سنةٍ، ولا مليونًا، ولا مليارًا، ولا تريليونًا، إلى ما لا نهاية من السنين، إلى ما لا نهاية.
أما الدنيا: فَهَبْ أن نعيم الدنيا صَفَا لك، هَبْ، مع أن هذا لا يحصل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، لكن افترض أنه حصل لك ما تريد من ملذَّات الدنيا ونعيمها، هل ستستمر معك؟
لا بد أن تذهب، وأن تُفارقها أنت، أو تُفارقك هي، وانظر إلى أحوال السلاطين والملوك الذين حصلوا على ملذَّات الدنيا، هل عُمِّروا؟ هل خُلِّدوا؟ أتاهم الموت وتركوها، بينما نعيم الجنة: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].
ومن نعيم الجنة أيضًا: أن الله تعالى يُحِلُّ عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا؛ فيفرحون بذلك فرحًا عظيمًا.
ومن نعيم الجنة -وهو أعظمها-: التَّمتع برؤية الربِّ والنظر إليه، والحديث معه جلَّ وعلا، فهذا أعظم النعيم الذي في الجنة: فما أُعْطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم .
فالجنة هذه الدار التي أعدَّها الله تعالى لعباده المتقين هي غاية المُنَى، فينبغي أن تكون حاضرةً لدى كل مسلمٍ ومسلمةٍ، وأن يسأل الله تعالى إياها كلَّ يومٍ، وأن يَجِدَّ في طلبها.
يا سِلْعَةَ الرحمنِ لستِ رخيصةً | بل أنتِ غاليةٌ على الكَسْلان |
نعم.
القارئ: أحسن الله إليكم.
بابٌ: أول زُمْرَةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر
قال رحمه الله:
بابٌ: أول زُمْرةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، وصفاتهم، وأزواجهم.
قال: حدثني عمرو الناقد، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي -جميعًا عن ابن عُلَيَّةَ واللفظ ليعقوب- قالا: حدثنا إسماعيل ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبرنا أيوب، عن محمدٍ قال: إما تفاخروا، وإما تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فقال أبو هريرة : أَوَلم يقل أبو القاسم : إن أول زُمْرَةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أَضْوَأ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء، لكلِّ امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مُخُّ سُوقِهِما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب؟ [9].
قال: حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: اختصم الرجال والنساء: أيُّهم في الجنة أكثر؟ فسألوا أبا هريرة ، فقال: قال أبو القاسم .. بمثل حديث ابن عُلَيَّة [10].
قال: وحدثنا قُتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا عبدالواحد -يعني: ابن زياد- عن عُمَارة بن القَعْقَاع قال: حدثنا أبو زُرْعَة، قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله : أول مَن يدخل الجنة. ح، قال: وحدثنا قُتيبة بن سعيدٍ، وزُهير بن حربٍ -واللفظ لقُتيبة- قالا: حدثنا جريرٌ، عن عمارة، عن أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إن أول زُمْرَةٍ يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يَلُونهم على أَشَدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءةً، لا يبولون، ولا يَتَغَوَّطون، ولا يَمْتَخِطُون، ولا يَتْفُلون، أمشاطهم الذهب، ورَشْحُهم المِسْك، ومَجَامِرهم الأَلُوَّة، وأزواجهم الحُور العِين، أخلاقهم على خُلُقِ رجلٍ واحدٍ، على صورة أبيهم آدم؛ ستون ذراعًا في السماء [11].
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كُرَيبٍ، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : أول زُمْرَةٍ تدخل الجنة من أُمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يَلُونهم على أَشَدِّ نجمٍ في السماء إضاءةً، ثم هم بعد ذلك منازِلُ، لا يَتَغَوَّطون، ولا يبولون، ولا يَمْتَخِطُون، ولا يَبْزُقُون، أمشاطهم الذَّهب، ومَجَامِرُهم الأَلُوَّةُ، ورَشْحُهم المِسْكُ، أخلاقهم على خُلُقِ رجلٍ واحدٍ، على طول أبيهم آدم؛ ستون ذراعًا.
قال ابن أبي شيبة: على خُلُق رجلٍ، وقال أبو كُرَيبٍ: على خَلْق رجلٍ، وقال ابن أبي شيبة: على صورة أبيهم [12].
الشرح:
هذا وصفٌ لبعض نعيم أهل الجنة، في أول هذه الأحاديث: تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟
وأما في النار فقد قال عليه الصلاة والسلام: تَصَدَّقْنَ؛ فإني أُرِيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النار [13].
وأما في الجنة فأيضًا النساء أكثر أهل الجنة؛ وذلك باعتبار الحُور العِين في الجنة، فالنساء هنَّ أكثر أهل الجنة، وأيضًا النساء هُنَّ أكثر أهل النار.
ولهذا قال القاضي عياض: “ظاهر هذا الحديث أن النساءَ أكثرُ أهل الجنة، وفي الحديث الآخر: أنهن أكثرُ أهل النار، فيخرج من مجموع هذا أنهن أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار”.
قال: إن أول زُمْرَةٍ يدخلون الجنة أهل الجنة لا يدخلون الجنة دفعةً واحدةً، وإنما زُمَرًا، يعني: جماعاتٍ، كما قال الله : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73] جماعاتٍ خلف جماعاتٍ.
فأول جماعةٍ تدخل الجنة -أول الزُّمَر هي أفضل الزُّمَر- تكون على صورة القمر ليلة البدر من شِدَّة الحُسن والجمال والصفاء، وهذه هي أفضل الزُّمَر التي تدخل الجنة، تكون على صورة القمر ليلة البدر، وإذا أتوا الجنة وجدوا بابها مُغْلَقًا، فيذهبون إلى آدم -كما جاء في الحديث الصحيح في “صحيح مسلم”- فيقولون: اشفع لنا إلى ربك في أن تُفتح أبواب الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟! فيأتون النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فيشفع؛ فتُفتح أبواب الجنة الثمانية [14].
ولعل هذا هو السر في قول الله : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر:73]، بينما في النار: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71] بدون واوٍ؛ لأنها في الجنة على تقدير فِعْلٍ محذوفٍ، أي: وسِيق الذين اتَّقوا ربهم إلى الجنة زُمَرًا، وشفع النبي ؛ فُتِحَتْ أبوابها.
خُذْ هذه الفائدة: أي: وشفع محمدٌ ؛ فُتِحَتْ أبوابها.
أكثر الأمم دخولًا الجنة
أول مَن يدخل الجنة: رسول الله ، والأنبياء والرسل، ثم تدخل أفضل الزُّمَر على صورة القمر ليلة البدر، هذه أفضل الزُّمَر، وأفضل أهل الجنة.
وقد أخبر النبي أن هذه الأُمة أكثر الأمم دخولًا الجنة؛ ففي الصحيحين: قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : أَمَا ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: فَحَمِدْنا الله وكَبَّرْنا، قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فَحَمِدْنا الله وكَبَّرْنا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فَحَمِدْنا الله وكَبَّرْنا، قال: وما أنتم في الأُمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض [15].
وهذا يدل على كثرة البشر، وهذه الأُمة -أُمة محمدٍ – مع كثرتها -نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري- ومع ذلك عددها مُقارنةً بالأمم الأخرى مثل: نسبة شعرةٍ في جلد ثورٍ، ما نسبة شعرةٍ في جلد ثورٍ؟
نسبةٌ قليلةٌ جدًّا، وهذا يدل على كثرة البشر، وكثرة خلق الله .
سبحان الله!
وهذا يدل أيضًا على عظمة الربِّ ، كيف خلق هؤلاء البشر؟
إذا كانت أُمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام نسبتهم في الأمم مثل: نسبة الشعرة في جلد الثور، فكم عدد البشر إذن منذ أن خلق الله تعالى آدم ؟!
خَلْقٌ عظيمٌ، فسبحان مَن خلقهم، وأحصاهم، وعدَّهم عَدًّا! وكلهم يأتيه يوم القيامة فَرْدًا.
وقد جاء عند الترمذي وأحمد بسندٍ جيدٍ: أن النبيَّ قال: أهل الجنة عشرون ومئة صَفٍّ، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم [16].
وهذا يقتضي أن تكون النسبةُ -نسبة هذه الأُمة في الجنة- كم؟
الثلثان؛ ولذلك قال أهل العلم: إن هذه الزيادة تفضَّل الله بها.
وهذا يدل على فضل هذه الأُمة؛ ولذلك جاء في الحديث: أن يوم القيامة ما من أحدٍ من البشر إلا ويتمنى أنه من هذه الأُمة، ويجعل الله تعالى هذه الأُمة تشهد يوم القيامة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، يشهدون على ماذا؟
بيَّن النبي ذلك، قال: يُجَاء بنوحٍ يوم القيامة، فيُقال له: هل بَلَّغْتَ؟ فيقول: نعم يا ربّ. فتُسأل أُمته: هل بَلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذيرٍ. فيقول: مَن شهودك؟ فيقول: محمدٌ وأُمته، فتأتي أُمة محمدٍ وتشهد بأن نوحًا قد بلَّغ الرسالة [17]، فيقول قوم نوحٍ: كيف تشهدون وأنتم إنما جئتُم بعدنا؟! فيقولون: أخبرنا بذلك نبينا فصدَّقناه؛ فشهدنا على ذلك، فهذا معنى قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [18].
إذن أول زُمْرَةٍ تكون على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أَضْوَأ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء يعني: أشدّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءةً، ثم مَن بعدهم يكونون أقلَّ، وهكذا.
معنى قوله: لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان
قال: لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، هل المقصود: زوجتان من نساء الدنيا، أو زوجتان من الحور العِين؟
هذا محلُّ خلافٍ بين العلماء، على أن نساء الدنيا إذا كُنَّ في الجنة دلَّت الآثار على أنهنَّ يَكُنَّ أفضل وأجمل من الحور العِين، يُعطيهن الله تعالى جمالًا حتى يَكُنَّ أجمل من الحور العِين، وينزع الله تعالى الغِلَّ والحسد، ولا يكون بين المرأة وزوجها اختلافٌ في الجنة مطلقًا، على قلبٍ واحدٍ، بل أهل الجنة عمومًا كلهم على قلبٍ واحدٍ.
فاختلف العلماء: هل المقصود بقول النبي عليه الصلاة والسلام: لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مُخُّ سُوقِهما من وراء اللحم، هل المقصود من نساء الدنيا، أو المقصود من الحُور العِين؟
قولان لأهل العلم، والأقرب -والله أعلم- أنهن من الحُور العِين، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، لكن هذا هو الحد الأدنى: أن تكون له زوجتان من الحُور العِين، مع زوجته التي في الدنيا أيضًا، أو زوجاته اللاتي في الدنيا، لكن إذا تزوجت المرأة أكثر من زوجٍ، فمَن يكون زوجها في الجنة؟
قيل: تختار. وقيل: آخرهم -وهو الأقرب- آخر الأزواج؛ لأنه وردتْ آثارٌ عن بعض الصحابة: أنه طلب من زوجته ألا تتزوج بعده؛ حتى يكون زوجها في الجنة، فهذا الأقرب، يعني: هذه الآثار تُرجح أن المرأة إذا تزوجتْ أكثر من زوجٍ تكون لآخر الأزواج.
طيب، مَن لم يتزوج من الرجال أو من النساء، فإنه يُزَوَّج في الجنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: وما في الجنة أعزب، فالجنة ما فيها أعزب، فالرجل يُزوج بنساءٍ، والمرأة تُزوج أيضًا برجلٍ؛ لأن لذَّة المَنْكح من أعظم ملذَّات الجنة، فما في الجنة أعزب.
مثلًا: امرأةٌ ما تزوجتْ، أو رجلٌ ما تزوج، يُعوِّضهم الله في الجنة، فالجنة ليس فيها أعزب.
بعض صفات الحُور العِين
ثم يصف النبي عليه الصلاة والسلام الحُور العِين، يقول: لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مُخُّ سُوقِهما من وراء اللحم، المُخُّ: هو ما في داخل العظم.
وقوله: يُرَى مُخُّ سُوقِهما من وراء اللحم إشارةٌ إلى الصَّفاء البالغ، يعني: يكون عندها صفاءٌ بالغٌ وجمالٌ باهرٌ.
يصف النبيُّ هذا الجمال في حديثٍ آخر، يقول: لو أن امرأةً من أهل الجنة اطَّلَعَتْ إلى أهل الأرض لأضاءتْ ما بينهما يعني: أضاءتْ ما بين السماء والأرض من شدة حُسنها وجمالها، ولَمَلَأَتْه رِيحًا، ولَنَصِيفُها يعني: خمارها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها [19].
سبحان الله!
انظر إلى هذا الوصف، وصفٌ ليس مُبالغةً.
نحن ذكرنا أن نعيم الجنة فوق مستوى العقل البشري، فالعقل البشري لا يستطيع أن يتخيله.
امرأةٌ من نساء الجنة لو اطَّلعتْ على أهل الأرض لأضاءتْ ما بين السماء والأرض، وملأته رِيحًا.
سبحان الله!
وهنا في هذا الحديث يقول: يُرَى مُخُّ سُوقِهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب، وفي الحديث الآخر -في حديث أبي هريرة – قال: أول زُمْرَةٍ يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءةً، فذكر هاتين الزُّمْرَتين؛ لأنهما أفضل الزُّمَر.
ثم ذكر شيئًا أيضًا من نعيم الجنة، قال: لا يَبُولون، ولا يَتَغَوَّطون، ولا يَمْتَخِطُون، ولا يَتْفُلون؛ وذلك لأن أجسادهم خُلِقَتْ للبقاء، بينما أجساد أهل الدنيا خُلِقَتْ للفناء.
قال ابن الجوزي: “لمَّا كانت أغذيةُ أهل الجنة في غاية اللَّطافة والاعتدال لم يكن فيها أذًى ولا فَضْلَةٌ تُسْتَقْذَر، بل يتولَّد عن تلك الأغذية أطيبُ ريحٍ وأحسنُه”، ففي الجنة لا يَبُولون، ولا يَتَغَوَّطون، ولا يَمْتَخِطُون، ولا يَتْفُلون.
طيب، إذن ما يأكلونه في الجنة كيف يذهب؟
جاء في الرواية الأخرى: أنه رَشْحٌ كَرَشْح المِسْك وجُشَاء؛ ولذلك قال في الحديث الآخر -سيأتينا أيضًا فيما سنقرأ-: قالوا: فما بالُ الطعام؟ يعني: كيف يذهب؟ قال: جُشَاء ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْك [20]، أي: أنه معنى الجُشَاء، الجُشَاء: هو تنفُّس المَعِدَة من الامتلاء، أي: أنه يُصيِّر فَضَلاتِ الطعام جُشَاءً كالمِسْك، ليس كجُشَاء الدنيا، والشراب يكون رَشْحًا كَرَشْح المِسْك.
هكذا يتحول الطعام والشراب عندهم؛ لأنهم لا يبولون، ولا يَتَغَوَّطون.
إذن كيف يذهب الطعام والشراب؟
أما الطعام فيكون جُشَاءً، لكن ليس كجُشَاء الدنيا، وإنما كَرِيح المِسْك، وأما الشَّراب فيكون رَشْحًا برائحة المِسْك.
سبحان الله!
هكذا تكون فَضَلاتُهم.
أمشاطهم الذهب يمتشطون، وأمشاطهم الذهب، ويُحَلَّوْن أساوِرَ من لؤلؤٍ، ومن ذهبٍ، ومن فضةٍ.
ورَشْحُهم المِسْك، ومَجَامِرهم الأَلُوَّة، الأَلُوَّة: هو العود الهندي. والمَجَامِر جمع: مَجْمَرٍ، وهو موضع النار للبَخُور، الذي نُسمِّيه: المَدْخَنَة، فَمَجَامِرهم هو هذا العود، يعني: نفس المَجْمَرة هي العود الهندي، لكن ليس كعود الدنيا، وإنما بَخُورٌ مختلفٌ تمامًا، يعني: المَدْخَنَة لهم هي نفسها العود من كمال نعيمهم، ويجدون فيها رائحةً ذكيةً جدًّا وطيبةً، ليست كالروائح الذكية في الدنيا، بل لا تخطر بالبال.
قال: وأزواجهم الحور العِين، وهذا يُؤكد ما ذكرنا قبل قليلٍ من ترجيح أنَّ لكلٍّ منهم زوجتين، يعني: من الحور العين.
أخلاقهم على خُلُقِ رجلٍ واحدٍ.
طيب، قبل هذا أورد القرطبي إيرادًا، قال: “أيُّ حاجةٍ إلى البخور ورِيحُهم أطيبُ من المسك؟!” يعني: ما دام أن رائحتهم أطيبُ من المِسك، الجُشَاء أطيبُ من المِسك، ورَشْحُهم أطيبُ من المِسْك، فما الحاجة للبَخُور، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: مَجَامرهم الأَلُوَّة يعني: العود الهندي؟
قال: “ويُجاب عن ذلك: بأن نعيم أهل الجنة من أكلٍ وشُرْبٍ وكسوةٍ وطِيبٍ ليس عن ألمِ جوعٍ أو ظَمَأ أو عُرْيٍ، وإنما هي لذَّاتٌ متتاليةٌ، ونِعَمٌ مُتواليةٌ، والحكمة في ذلك: أنهم يتنعَّمون بنوعِ ما كانوا يتنعَّمون به في الدنيا”.
يعني: أن هذا البَخُور إنما هو نعيمٌ، وإلا فليسوا بحاجةٍ له أصلًا، لكن من عِظَم النَّعيم عندهم أنه يكون لهم هذا البخور، وإلا فَجُشَاؤهم ورائحتهم كرائحة المسك، ورَشْحهم مِسك، لكن هذا يُشبه النَّعيم الذي لهم في الدنيا أنهم يتنعَّمون أيضًا بهذا البخور؛ ولهذا قال: مجامرهم الأَلُوَّة.
أخلاق أهل الجنة
قال: أخلاقهم على خُلُق رجلٍ واحدٍ بضم اللام، وبتسكين اللام؛ يعني: على خُلُق رجلٍ واحدٍ، وفي الرواية الأخرى: على خَلْق رجلٍ واحدٍ، فهي قد وردتْ بالروايتين؛ ولهذا قال النووي: وقد اختلف فيه رواة “صحيح البخاري”؛ فمن العلماء مَن رجَّح روايةَ الضَّمِّ: على خُلُق رجلٍ واحدٍ، وقالوا: يُؤيد هذا قوله: لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحدٌ [21].
ومن العلماء مَن رجَّح الفتح، وقال: إنه يُرَجِّح هذا تمامُ الحديث: على صورة أبيهم آدم أو طوله.
ثم عقَّب النوويُّ على ذلك، قال: “وكلاهما صحيحٌ”، يعني: أخلاقهم على خَلْق رجلٍ واحدٍ، وعلى خُلُق رجلٍ واحدٍ.
أما أخلاقهم على خُلُقِ رجلٍ واحدٍ فتُفسِّر هذه الروايةُ الأخرى: أنهم لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحدٌ؛ لأن الله نزع من قلوبهم الغِلَّ.
وأما رواية: أخلاقهم على خَلْق رجلٍ واحدٍ فالمعنى: أنهم يكونون على خَلْقٍ في سنٍّ واحدةٍ، قيل: إنها سنُّ ثلاثٍ وثلاثين؛ لأن سنَّ ثلاثٍ وثلاثين يقولون: إنها أفضل عمر الإنسان، يعني: قمة الشباب سِنّ ثلاثٍ وثلاثين، فيقولون: إن أهل الجنة يكونون على سِنِّ ثلاثٍ وثلاثين، فيكونون كلهم على خَلْقٍ واحدٍ، لا يكون هذا كبيرًا، وهذا صغيرًا، أو هذا طفلًا، وهذا كبيرًا، يكونون على خَلْقٍ واحدٍ، على سِنِّ ثلاثٍ وثلاثين.
على طول أبيهم آدم؛ ولهذا قال: على صورة أبيهم آدم؛ ستون ذراعًا في السماء، يعني: يكونون كَعُمْر شابٍّ عمره ثلاثٌ وثلاثون، لكن على صورة أبيهم آدم، وآدم طوله ستون ذراعًا في السماء.
ستون ذراعًا تُعادل كم مترًا؟
ثلاثون مترًا، يعني: أطول من هذا العمود كم مرة؟
هذا العمود كم يكون بالمتر؟
يمكن ثلاث مراتٍ، يعني: هذا يدل على الخَلْق العظيم.
يكونون على صورة آدم، يكون طول الواحد من أهل الجنة ستين ذراعًا، يعني: ثلاثين مترًا.
سبحان الله!
ويكونون على أعمار ثلاثٍ وثلاثين، وجاء في بعض الروايات: أنهم يكونون على صورة يوسف [22]، يعني: من شدة الحُسن والجمال.
فأحوال الآخرة إذن مُختلفةٌ تمامًا عن أحوال الدنيا.
وهذا يعني: أن خِلْقَتهم تتغيَّر عند دخول الجنة، وإن كانوا يُبْعَثون على نفس الأجساد؛ حتى تشهد عليهم يوم القيامة، حتى تَصِحَّ الشهادةُ يُبْعَث الإنسانُ على جسده الذي كان في الدنيا، وإلا ما تصحّ الشهادة، كيف تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وهو خَلْقٌ جديدٌ؟!
يُبْعَث الإنسان على خَلْقه الذي كان في الدنيا، ويشهد عليه، لكن عند دخول الجنة يجعلهم اللهُ تعالى خَلْقًا آخر، يكونون في الطول ثلاثين مترًا، على صورة آدم ، ويكونون أيضًا في سنِّ ثلاثٍ وثلاثين، وجاء في بعض الروايات: أنهم يكونون على صورة يوسف في الحُسن والجمال.
قال: أخلاقهم على خلق رجلٍ واحدٍ يعني: أنهم كما ذكرنا: إما أن يكون المعنى: أنهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، نُزِع من قلوبهم الغِلُّ.
أو المعنى: أنهم يكونون في سِنٍّ واحدةٍ، على سِنِّ ثلاثٍ وثلاثين.
على طول أبيهم آدم؛ ستون ذراعًا، وفي روايةٍ: على صورة أبيهم آدم.
ومجموع هذه النصوص يدل على: أن دخول أهل الجنة يكون إليها جماعةً بعد جماعةٍ بحسب الفضل وتفاوت الدَّرجات، فمَن كان أفضل كان إلى الجنة أسبق.
وأيضًا هذه الأحاديث تدلُّ على: أنَّ لكلِّ رجلٍ من أهل الجنة زوجتين من الحور العِين مع زوجته التي في الدنيا.
وقيل: إن له زوجتين من أهل الدنيا مع سبعين حُورِيَّةً.
لكن الأول أظهر.
وقيل: إن الزوجتين من الحور العِين هما الحد الأدنى لمَن يكون من أهل الجنة.
القارئ: أحسن الله إليكم.
بابٌ في صفات الجنة وأهلها، وتسبيحهم فيها بُكْرَةً وعَشِيًّا
قال رحمه الله:
بابٌ في صفات الجنة وأهلها، وتسبيحهم فيها بُكْرَةً وعَشِيًّا.
قال: حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا عبدالرزاق، قال: حدثنا مَعْمرٌ، عن هَمَّام بن مُنَبِّهٍ قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة ، عن رسول الله .. فذكر أحاديثَ، منها: وقال رسول الله : أول زُمْرَةٍ تَلِجُ الجنة صُوَرُهم على صورة القمر ليلةَ البدر، لا يَبْصُقون فيها، ولا يَمْتَخِطُون، ولا يَتَغَوَّطون فيها، آنِيَتُهم وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومَجَامِرُهُم من الأَلُوَّة، ورَشْحُهم المِسْك، ولكلِّ واحدٍ منهم زوجتان، يُرَى مُخُّ ساقهما من وراء اللحم من الحُسْن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحدٌ، يُسبحون الله بُكْرَةً وعَشِيًّا [23].
قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لعثمان- قال عثمان: حدثنا، وقال إسحاق: أخبرنا جريرٌ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ قال: سمعتُ النبيَّ يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يَتْفُلون، ولا يَبُولون، ولا يَتَغَوَّطون، ولا يَمْتَخِطُون، قالوا: فما بالُ الطعام؟ قال: جُشَاءٌ ورَشْحٌ كَرَشْح المِسْك، يُلْهَمُون التَّسبيح والتَّحميد كما تُلْهَمُون النَّفَس [24].
قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كُرَيْبٍ، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش بهذا الإسناد إلى قوله: كَرَشْحِ المِسْك [25].
قال: وحدثني الحسن بن علي الحُلْوَاني، وحَجَّاج بن الشاعر، كلاهما عن أبي عاصم، قال حَسَنٌ: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جُريجٍ قال: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله : يأكل أهلُ الجنة فيها ويشربون، ولا يَتَغَوَّطون، ولا يَمْتَخِطُون، ولا يَبُولون، ولكن طعامهم ذاك جُشَاء كَرَشْح المِسْك، يُلْهَمُون التَّسبيح والحمد كما تُلْهَمُون النَّفَس.
قال: وفي حديث حَجَّاجٍ: طعامهم ذلك [26].
قال: وحدثني سعيد بن يحيى الأُمَويُّ، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا ابن جُريجٍ، قال: أخبرني أبو الزبير، عن جابرٍ ، عن النبي بمثله، غير أنه قال: ويُلْهَمون التَّسبيح والتَّكبير كما يُلْهَمون النَّفَس [27].
الشرح:
في هذه الأحاديث ما ذكرنا من النعيم الذي ورد في الأحاديث السابقة، لكن فيها زيادة: أنهم يُسبحون الله بُكْرَةً وعَشِيًّا، وفي الرواية الأخرى: يُلْهَمون التَّسبيح والتَّكبير كما يُلْهَمون النَّفَس.
وهذا التَّسبيح والتَّكبير، وكذلك أيضًا الحمد: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، هذا ليس عن تكليفٍ وإلزامٍ؛ فإن الجنة ليست بدار تكليفٍ، وإنما هذا عن تيسيرٍ وإلهامٍ، لا يجدون فيه أدنى مشقةٍ، وإنما يُلْهَمون ذلك كما يُلْهَمون النَّفَس.
هل أنت عندما تتنفس تجد مشقةً في التَّنفس؟
لا تجد، هكذا أهل الجنة لا يجدون مشقةً، وإنما يُلْهَمون التَّسبيح والتَّكبير والتَّحميد كما يُلْهَمون النَّفَس، وإلا فالجنة ليست بدار تكليفٍ، لكن من شدة ما هم فيه من النعيم وقُرَّة العين يُحبون أن يَحْمَدوا الله، وأن يُسبحوه، وأن يُكبروا الله تعالى، وتَلْهَج ألسنتهم بذلك، تَلْهَج ألسنتهم بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير؛ ولهذا قال سبحانه: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ [يونس:10]، يعني: إذا أرادوا أيَّ شيءٍ يقولون: “سبحانك اللهم” ويأتي، فإذا أرادوا الطير يقولون: “سبحانك اللهم” ويأتي الطير، وإذا أرادوا الفاكهة: “سبحانك اللهم” وتأتي الفاكهة، فأي شيءٍ يخطر ببالهم يقولون: “سبحانك اللهم”.
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [يونس:10]، عندما يَلْقَى بعضهم بعضًا يقول: “سلام”، وهذه تحية أهل الجنة: “سلام” يعني: من غير زيادة: سلامٌ عليكم، وإنما “سلام”؛ لأن المقصود منها مجرد الأُنْس فقط، وليس المقصود الدعاء؛ لأنهم الآن في دار الجزاء، ليست دار تكليفٍ.
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يعني: إذا أكلوا وتنعَّموا من نعيم الجنة حمدوا الله ، لكن هذا التَّسبيح والتَّكبير والتَّحميد هو إلهامٌ كإلهام النَّفَس، وليس تكليفًا لهم.
القارئ: أحسن الله إليكم.
بابٌ في دوام نعيم أهل الجنة
قال رحمه الله:
بابٌ في دوام نعيم أهل الجنة، وقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].
قال: حدثني زُهَير بن حربٍ، قال: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة ، عن النبي قال: مَن يدخل الجنة يَنْعَم، لا يَبْأَس، لا تَبْلَى ثيابه، ولا يَفْنَى شبابه [28].
قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حُمَيدٍ -واللفظ لإسحاق- قالا: أخبرنا عبدالرزاق، قال: قال الثَّوري: فحدثني أبو إسحاق: أن الأغَرَّ حدَّثه عن أبي سعيدٍ الخُدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي قال: يُنادي مُنَادٍ: إن لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبدًا، وإن لكم أن تَحْيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبدًا، وإن لكم أن تَنْعَموا فلا تَبْتَئِسُوا أبدًا، فذلك قوله : وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [29].
الشرح:
مَن يدخل الجنة يَنْعَم، لا يَبْأَس، ومعنى “لا يَبْأَس” أي: لا يُصيبه البَأْسُ، وهو شدة الحال، فالبأس والبُؤْس والبأساء تعني: شدة الحال، فالجنة ليس فيها بُؤْسٌ، إنما هي نعيمٌ دائمٌ، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتَلَذُّ الأعين.
لا تَبْلَى ثيابه، ولا يَفْنَى شبابه لا تَبْلَى ثيابه؛ لأنه نعيمٌ عظيمٌ لا تَبْلَى فيه الثياب، ولا يَفْنَى شبابه؛ لأن مقام أهل الجنة فيها أبد الآباد: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57].
وهذا هو مُعتقد أهل السنة والجماعة في الجنة: أنها أبديةٌ، لا تَفْنَى، وهذا محل إجماعٍ.
أبدية الجنة والنار
أجمع العلماء على أبدية الجنة، وأنها لا تَفْنَى، وأن أهل الجنة يُقيمون فيها أبد الآباد.
وأما قول الله : وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108]، فإن المقصود: أن نعيمهم في الجنة إنما هو تَفَضُّلٌ من الله بمشيئته، وليس واجبًا على الله.
وحتى لا يتوهم مُتوهمٌ بأن هذه الآية تدل على أن الجنة غير أبديةٍ قال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108].
فبالنسبة للجنَّة أجمع العلماء على أبدية الجنة، وأنها لا تفنى.
وأما النار: فمن العلماء مَن حكى الإجماع على أنها لا تفنى، ومنهم مَن خالف وقال: إنه ليس هناك إجماعٌ، وأن هناك طائفةً من أهل العلم قالوا: إن النارَ تفنى.
وابن تيمية وابن القيم أشارا لهذا القول، وذكر ابن القيم وجهة القائلين بفناء النار، ووجهة القائلين بعدم فناء النار، وأن مَن قال بفناء النار يقول: إن الله عدلٌ، وهذا الإنسان عاش -مثلًا- ستين سنةً، أو سبعين سنةً، أو مئة سنةٍ، فكيف يُعذَّب في النار أبد الآباد إلى ما لا نهاية؟!
إن هذا لا يليق بعدل الله ، وأن النار تفنى، وأنه قد وردتْ آثارٌ عن بعض الصحابة في أن النار تفنى.
والله تعالى أعلم؛ لأن هذه من مسائل العقائد، والجمهور -جمهور أهل السُّنة- على أن النار لا تفنى، وأنها مُؤبَّدةٌ، لكن المسألة فيها قولٌ آخر، ومَن أراد هذا القول يرجع لكلام أحسن مَن تكلم وذكر أدلة القول الآخر: الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
أما الجنة فالعلماء مُجْمِعون على أنها لا تفنى، لكن النار فيها قولان.
ومن أهل العلم مَن قال: إنه لا يصح هذا الخلاف، وإنه أيضًا أجمع العلماء على أن النار لا تفنى. فالله تعالى أعلم.
وقوله في حديث أبي سعيدٍ : يُنادي مُنَادٍ: يا أهل الجنة، إنَّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبدًا، أهل الجنةِ أجسادُهم خُلِقَتْ للبقاء، ولا يأتيها السَّقَم، ولا المرض؛ لأنها خُلِقَتْ للبقاء، فلا يمكن أن يَرِدَ إليها المرض، فالجنة ليس فيها أمراضٌ.
وإنَّ لكم أن تَحْيَوا فلا تموتوا أبدًا الجنة ليس فيها موتٌ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [الدخان:56] يعني: موتة الدنيا، أما مَن يدخل الجنة فإنه يعيش فيها أبد الآباد.
وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرَموا أبدًا أهل الجنة يكونون شبابًا، فلا يَهْرَمُون أبدًا، يكونون شبابًا دائمًا، بخلاف الدنيا، فالدنيا لا تستمر على حالٍ، فالشابُّ يَهْرَم إن لم يتخطَّفه الموت قبل ذلك، وإلا فإن امتدَّ به العمر فإنه يهرم، بينما مَن في الجنة يكونون شبابًا، فلا يَهْرَمون أبدًا.
وإن لكم أن تَنْعَموا فلا تَبْتَئِسُوا أبدًا يعني: الجنة فيها نعيمٌ دائمٌ، وليس فيها بُؤْسٌ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [مريم:62]، ليس فيها هَمٌّ، ولا غَمٌّ، ولا حزنٌ، ولا تعبٌ، ولا نَصَبٌ، ولا مرضٌ، ولا هَرَمٌ، ولا موتٌ، نعيمٌ دائمٌ.
ولذلك إذا تذكر الإنسان هذا النعيم، واستحضر نعيم الجنة، هذا يدفعه لمزيدٍ من العمل؛ فيجتهد في الطاعة حتى يُدرك نعيم الجنة، ويغتنم هذا العمر، يغتنم ما تبقى من عمره في طاعة الله ؛ حتى يفوز بهذه الجنة وهذا النعيم العظيم الذي لا يَبْأَس معه أبدًا، فذلك قوله : وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].
ذكرنا في الدرس السابق أن “الباء” ما نوعها: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟
سببية، وليست باء عِوَضٍ ومُعاوضةٍ، يعني: بسبب عملكم، وإلا فلن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لا يدخل الجنة بعمله؛ لأن نعيم الجنة دائمٌ، وعمل الإنسان قليلٌ، حتى لو كان طوال عمره ساجدًا لله فلا يستحق دخول الجنة بعمله؛ لأن الجنة نعيمها دائمٌ أبد الآباد، فلا أحد يستحق دخول الجنة بعمله، ولكن العمل سببٌ لدخول الجنة، ويدخل أهل الجنةِ الجنةَ بفضل الله ورحمته.
طيب، نكتفي بهذا القدر، ونقف عند حديث: إنَّ للمؤمن في الجنة لَخَيْمَةً [30].
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: ما حُكْم لبس جلود السِّباع؟
الجواب: جلود السِّباع ورد النَّهي عنها؛ نهى النبي عن جلود السِّباع، والحديث ثابتٌ عن النبي [31]، فلا يجوز لبسها، ولكن المقصود الجلود الحقيقية؛ كجلد النمر -مثلًا- ونحوه.
أما إذا كان جلدًا صناعيًّا فلا بأس، الأصل الحِلُّ؛ لأنه أحيانًا يُسمَّى “جلد نمرٍ” وهو صناعيٌّ، ليس جلد نمرٍ حقيقي.
إذن إذا كان جلد حيوانٍ من السباع حقيقيًّا -جلدًا حقيقيًّا- وليس صناعيًّا، فإنه لا يجوز لبسه، أما إذا كان صناعيًّا فلا بأس، حتى وإن سُمِّي باسم حيوانٍ.
السؤال: أنا شابٌّ استقمتُ، وفي بداية الاستقامة كنتُ أتلذذ بالعبادات وأخشع، وبعد فترةٍ ارتكبتُ ذنوبًا وتُبْتُ منها، ولكن بعد التوبة لا أشعر بأنني الشخص الأول؟
الجواب: الإيمان يزيد وينقص، والنفس لها إقبالٌ وإدبارٌ، ولا يمكن أن يكون الإنسان على حالٍ واحدةٍ، يقول النبي : إن لكل عملٍ شِرَّةً، ولكل شِرَّةٍ فَتْرةً، فمَن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد أفلح، وهذا الحديث أخرجه الترمذي بسندٍ صحيحٍ [32].
معنى الحديث: لكل عملٍ شِرَّة يعني: كل عملٍ يعقبه نشاطٌ وحماسٌ، لكن هذا النشاط لا يستمر؛ ولذلك يعقبه فتورٌ: لكل عملٍ شِرَّة، ولكل شِرَّةٍ فترة، فمَن كانت فترته إلى سُنتي فقد أفلح، الفترة: هذه هي أخطر ما تكون على الإنسان، وأكثر مَن ينتكسون وينحرفون في مرحلة الفترة هذه؛ ولذلك ينبغي الحذر، فالنفس لها إقبالٌ وإدبارٌ، وهذا الإدبار هو لحظات الفتور أو الفترة؛ ولهذا رُوي عن بعض الصحابة: أنه لما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يُبْكِيك؟ قال: “تمنيتُ أني أموتُ وأنا لستُ في حالِ فترةٍ”، يعني: في حال الشِّرَّة وحال إقبال النفس.
فحال الفترة هذه خطرةٌ على الإنسان؛ ولذلك ينبغي أن يكون حذرًا، وأن يحرص على أسباب الثبات، والتي من أعظمها: الدعاء وسؤال الله الثبات، وأيضًا تدبر القرآن، فإن القرآن من أسباب الثبات، بل من أسباب زيادة الإيمان: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، والصُّحبة الصالحة، ونحو ذلك.
فنقول للأخ الكريم: كونُ حالِك تغير هذا أمرٌ طبيعيٌّ؛ لأن النفس لها إقبالٌ وإدبارٌ، لكن ينبغي أن تحرص على أن تزيد إيمانَكَ، وأن تتعاطى أسباب زيادة الإيمان، لِيَكُنْ لك وِردٌ من القرآن، تقرأ كل يومٍ وردًا من القرآن تُحافظ عليه، لا تنقص عنه، مع التَّدبر والتَّأمل ما أمكن.
يعني: أحيانًا يكون الإنسان في بعض الأيام -مثلًا- مُتعبًا، وأحيانًا تكون معه وعكةٌ، لكن أحيانًا تكون حاله مناسبةً للتَّدبر، فينبغي أن يحرص على التَّدبر، لكن لا يترك تلاوة القرآن لكونه -مثلًا- ليس في الحالة النفسية التي يرجوها، وإنما يقرأ القرآن على كل حالٍ.
فنقول: احرص على المُحافظة على الفرائض، واحرص على الإكثار من تلاوة القرآن وتدبر القرآن، والصُّحبة الصالحة أيضًا التي تُعينك إذا ذَكَرْتَ، وتُذَكِّرك إذا نسيتَ.
وأيضًا من أسباب الثبات، ومن أسباب زيادة الإيمان، وأيضًا من أسباب الخشوع، وأيضًا التَّلذذ بالعبادة: قيام الليل، فقيام الليل هو بمثابة الزاد الروحي، فالزاد الروحي لك في اليوم والليلة هو قيام الليل، فإذا قُمْتَ الليل تجد أنه يُعطيك زادًا روحيًّا ليومٍ وليلةٍ، فهو دَأْبُ الصالحين، وهو زادٌ روحيٌّ، وهو من أعظم أسباب الثبات، ومن أعظم أسباب التَّلذذ بالعبادة.
السؤال: ما حكم اللَّعن؟
الجواب: اللعن من كبائر الذنوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لَعْنُ المؤمن كقتله [33]، والذي يُكْثِر من اللعن يُحْرَم من الشفاعة يوم القيامة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إن اللَّعَّانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة [34]؛ ولذلك على المسلم أن يبتعد عن اللعن.
تأمل قوله عليه الصلاة والسلام: لَعْنُ المؤمن كقتله، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم، والمسلم ليس بالسَّبَّاب، ولا باللَّعَّان، ولا بالطَّعَّان، ولا البَذِيء، فعلى المسلم أن يبتعد عن اللعن، فاللعن مُحرَّمٌ، بل من الكبائر.
السؤال: أقسمتُ على ألا أفعل معصيةً، ثم أقسمتُ على ألا أفعل معصيةً أخرى، ثم أقسمتُ على ألا أفعل معصيةً ثالثةً، ثم فعلتُ كلًّا منها ولم أَقْضِ، فكيف أقضي؟
الجواب: إذا كانت هذه معاصِيَ، وأنت حلفتَ على ألا تفعلها، تكفيك كفارةٌ واحدةٌ؛ لأن الكفَّارات تتداخل، فإذا كان المحلوف عليه من جنسٍ واحدٍ فإنها تتداخل، وإذا كانت هذه عدةَ معاصٍ فهي من جنس المعاصي، فتتداخل، وتكفيك كفارةٌ واحدةٌ.
السؤال: هل يمكن أن تكون مناسبةُ ذِكْر الحديث في رؤية النبي : أن المسلمين الذين لم يروا النبيَّ في الدنيا يرونه في الجنة؟
الجواب: محتملٌ، محتملٌ، وإن كان فيه تكلفٌ.
السؤال: ما الحكمة من تخصيص يوم الجمعة؟
الجواب: المقصود بقوله في الحديث: كلَّ جُمُعةٍ [35]، ليس المقصود به يوم الجمعة؛ لأن الجنة ما فيها أصلًا أيام الأسبوع، ما في الجنة: السبت والأحد والاثنين، وإنما المقصود: في زمنٍ مُقدَّرٍ كالأسبوع، هذا هو المقصود، يزورون الله في زمنٍ مُقدَّرٍ كالأسبوع، ويذهبون لهذا السوق الذي تَهُبُّ منه رِيح الشمال، ويزورون الله ، وينظرون إلى الله سبحانه.
السؤال: ما حكم تخصيص يوم الجمعة بالتَّذكير بالصلاة على النبي ؟
الجواب: لا بأس بذلك، وهذا من التعاون على البرِّ والتقوى.
ويوم الجمعة يختص بما ذكره النبي في قوله: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه [36]، فيُستحب الإكثار من الصلاة على النبي في يوم الجمعة، وهذا يُعتبر من خصائص يوم الجمعة كما ذكر ذلك أهل العلم، وذكره ابن القيم وغيره.
فتذكير أخيك المسلم بذلك هذا أمرٌ حسنٌ، وهذا من التعاون على البرِّ والتقوى، كما لو ذَكَّرتَه بأيِّ عملٍ صالحٍ آخر.
السؤال: ما حُكْم غَسْل يدِ القائم من نومِ ليلٍ ناقضٍ للوضوء؟
الجواب: هذا محلُّ خلافٍ، والجمهور على أنه مُستحبٌّ، وعند الحنابلة أنه واجبٌ.
والأظهر أنه مُستحبٌّ؛ لأن هذا في باب “الآداب”، فيكون مُستحبًّا، فالسُّنة لمَن قام من النوم أن يغسل يديه ثلاثًا قبل أن يَغْمِسَها في الإناء، وأن يَنْثِرَ خَيْشُومَه ثلاث مراتٍ؛ لأن الشيطان يبيت على خَيْشُومه.
إذن هناك سُنَّتان للقائم من النوم:
السُّنة الأولى: أن يغسل كفَّيه ثلاث مراتٍ.
والسُّنة الثانية: أن يَنْثِرَ خَيْشُومه ثلاثًا.
وهذه من السُّنن المُتأكدة، لكنها عند الجمهور ليست واجبةً، وإنما مُستحبة استحبابًا مُؤكَّدًا.
السؤال: هل تجوز -ما فهمتُ الكلمة- في شركة تتعامل لشراء معداتها بالتَّأجير المُنتهي بالتَّمليك الذي تُوفره البنوك الإسلامية، علمًا بأن العقد يشتمل على بنودٍ فيها شُبهةٌ؟
الجواب: إذا كان تأجيرًا مع وعدٍ بالتَّمليك فهو جائزٌ.
التَّأجير مع الوعد بالتَّمليك الموجود اليوم هو على الصورة الجائزة، وليس على الصورة الممنوعة.
الصورة الممنوعة التي مَنَعَتْ منها هيئة كبار العلماء غير موجودةٍ الآن في السوق، والصورة الموجودة الآن هي الصورة الجائزة: أن يكون العقد عقدَ تأجيرٍ حقيقيٍّ تترتب عليه آثار عقد الإجارة مع الوعد بالتَّمليك.
الإشكالُ الوحيد الذي يكون في عقد التَّأجير مع الوعد بالتَّمليك هو شرط غرامة التَّأخير، فإذا لم يوجد فيه شرط غرامة التَّأخير فلا بأس بذلك، أما إذا وُجِدَ فلا يجوز هذا الشرط.
السؤال: ما توجيهك للبنات؟ نجتمع أنا وأخواتي، وبناتهن لا يَحْرِصْنَ على الاجتماع، ولا يَحْضُرْنَ بحجة الانشغال.
الجواب: حضور الاجتماعات العائلية يدخل في صِلة الرحم، بل هو من أبرز مظاهر صِلة الرحم: أن تحضر الاجتماعات العائلية.
وصِلة الرحم واجبةٌ، فلمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ قامت الرَّحِمُ وتعلَّقتْ بالعرش، وقالت: يا ربّ، هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال الله: أما ترضين أن أَصِلَ مَن وصلكِ وأقطع مَن قطعكِ؟ قالت: بلى. قال: فذلك لكِ [37]، فمَن وصل رحمه وصله الله، ومَن قطع رحمه قطعه الله.
لكن ما ضابط صِلة الرحم؟
ضابطُ صِلة الرحم: العُرْف، فما عدَّه الناسُ في عُرْفِهم صِلةً فهو صِلةٌ، فمثلًا: الزيارات العائلية تدخل في صِلة الرحم، وأيضًا المساعدة المالية تدخل في صِلة الرحم، وأيضًا عيادة المريض من ذوي الأرحام تدخل في صِلة الرحم، واتِّباع الجنازة تدخل في صِلة الرحم، وحضور المناسبات للقريب تدخل في صِلة الرحم، ويدخل في ذلك حضور مناسبات الزواج، وأيضًا العزاء، ونحو ذلك، وأيضًا المُبادرة بالسلام، والزيارة عند المناسبات: كالأعياد ونحوها تدخل في صِلة الرحم.
والناس تُفرِّق بفطرتها بين الواصل والقاطع، يقولون: فلانٌ واصلٌ لرحمه. عندما يذكرون مناقبه يقولون: فلانٌ واصلٌ لرحمه، وفلانٌ قاطعٌ لرحمه.
إذن ضابط صِلة الرحم: المرجع في ذلك للعُرف، فما عدَّه الناسُ صِلةً فهو صِلةٌ، وما عدُّوه قطيعةً فهو قطيعةٌ.
السؤال: أُصيبت ابنتي بمرضٍ أقعدها، وأنا أقوم برعايتها صابرةً ومُحْتَسِبةً، ولكن أحيانًا أضعف عندما أرى أقرانها بصحةٍ وعافيةٍ؟
الجواب: ابنتكِ هذا قَدَرُها، هذا الذي قدَّر الله لها، ولعل الله أراد بذلك رفعةً لدرجاتها، وأراد بها خيرًا، وأصحاب الأمراض المُزمنة إذا صبروا واحتسبوا فإن أجرهم عند الله عظيمٌ جدًّا.
ولهذا جاء في الصحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن امرأةً أتت النبيَّ فقالت: إني أُصْرَع، وإني أتكشَّف، فَادْعُ الله لي. فقال لها النبي : إن شِئْتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شِئْتِ دعوتُ الله أن يُعافيكِ، قالت: أصبر، ولكن ادعُ الله ألا أتكشَّف. فدعا الله ألا تتكشَّف [38].
هذه المرأة أُصيبتْ بمرضٍ مُزمنٍ، وهو الصَّرع، ومع ذلك خيَّرها النبيُّ عليه الصلاة والسلام، قال: إن شِئْتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شِئْتِ دعوتُ الله أن يُعافيكِ، فاختارت الصبر، فدلَّ ذلك على أن أصحاب الأمراض المُزمنة الشديدة إن صبروا فإن الثمن عظيمٌ، وهو الجنة، جنةٌ عرضها السماوات والأرض، لكن بشرط الصبر واحتساب الأجر.
فَلْيُبْشِر أصحاب الأمراض المُزمنة الشديدة، لِيُبْشِروا بأن ثمن ذلك عند الله الجنة إنْ هم صبروا واحتسبوا: إن شِئْتِ صبرتِ ولكِ الجنة، فهذا يدل على عظيم فضل الله ، وعظيم رحمته، وأنَّ مَن ابتُلِيَ بمرضٍ شديدٍ مُزمنٍ أن أجره عند الله عظيمٌ، بل ثوابه الجنة، لكن بشرط أن يصبر، وأن يحتسب.
فنقول للأخت الكريمة: لعل الله يَأْجُر ابنتَكِ ويكتب لها الجنة إنْ هي صبرتْ واحتسبتْ، فهي -إن شاء الله تعالى- على خيرٍ، وإلى خيرٍ، إن شاء الله تعالى.
وهذه الدنيا لا تصفو لأحدٍ، فقد خَلَق اللهُ تعالى الإنسانَ في كَبَدٍ، يُكابد مصاعبها ومتاعبها وهمومها وغمومها، فلا يمكن أن تصفو لأحدٍ، فالمطلوب هو الصبر والاحتساب، وأن يرجو المسلم ما عند الله ؛ فإن ما عند الله خيرٌ وأبقى.
السؤال: أنا حريصٌ على صلاة الوتر، وعندما أذهب للوضوء أجد ثِقَلًا ويُصيبني النوم، فما التَّوجيه؟
الجواب: التَّوجيه أنك ترفع مستوى الاهتمام بهذه الصلاة، فلو كان عندك اختبارٌ مكان صلاة الوتر -مثلًا- أو موعدٌ في المطار، أو أيُّ موعدٍ مهمٍّ، هل تجد هذا الثِّقَل والتَّكاسل؟
لا تجد، فكونك تجد ثِقَلًا وتكاسُلًا هذا دليلٌ على ضعف الاهتمام عندك، لكن لو أنك رفعتَ مستوى الاهتمام بهذه العبادة فإنه يزول عنك هذا الثِّقَل والتَّكاسل.
السؤال: كيف يكون من نعيم الجنة: أن يُرَى مُخُّ ساقها؟ أرجو التَّوضيح.
الجواب: يعني: المقصود أنها تكون جميلةً، عندها صفاءٌ وحُسْنٌ عظيمٌ جدًّا بحيث تصفو البشرة حتى كأن ما في السَّاق من المُخِّ يظهر ويَبْرز من شدة الصَّفاء والجمال والحُسْن.
السؤال: ما الرد على مَن يقول: الصلاة في البيت تكفي عن الصلاة في المسجد؟
الجواب: هذا قولٌ غير صحيحٍ، فالله تعالى أوجب على الرجال أن يُصَلُّوا مع الجماعة في المسجد، ويدل لذلك ما جاء في “صحيح مسلم” -“صحيح مسلم” و”صحيح البخاري” أصحُّ كتابين بعد كتاب الله -: أن رجلًا أعمى أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله أن يُرَخِّص له فَيُصلي في بيته، فَرَخَّصَ له، فلما ولَّى دعاه فقال: هل تسمع النِّداء بالصلاة؟ فقال: نعم. قال: فأجب [39].
وجاء في روايةٍ عند غير مسلمٍ: لا أجد لك رُخْصَةً [40].
وهذا الحديث -كما ترون- صريحٌ في وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ لأنه لو كانت الجماعة في المسجد غير واجبةٍ لأَذِنَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام لهذا الأعمى أن يُصلي في بيته، خاصةً أنه ربما يجد جماعةً في البيت؛ يُصلي بزوجته وأهله ومَن معه في البيت، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: فأجب يعني: ما دُمْتَ تسمع النِّداء أجب، لا أجد لك رُخْصَةً، فإذا كان لا يجد رخصةً لهذا الأعمى، فكيف بالصحيح المُبْصِر القادر؟!
ولهذا قال ابن مسعودٍ : “ولقد رأيتُنا -يعني: الصحابة- وما يتخلَّف عنها -يعني: الصلاة في المسجد- إلا مُنافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤْتَى به يُهَادَى بين الرجلين حتى يُقَامَ في الصفِّ” [41]، يعني: الرجل يكون مريضًا، وهو معذورٌ بترك الصلاة مع الجماعة في المسجد، ويُصِرُّ على أن يُصلي في المسجد، حتى إنه يُعَضَّد له عن يمينه وعن يساره حتى يُقام في الصفِّ من شدة حرص الصحابة على الصلاة مع الجماعة في المسجد.
ولذلك نقول: إن الصلاة مع الجماعة في المسجد واجبةٌ، ولا يجوز للرجل أن يتخلف عنها إلا لعذرٍ، لكن وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد أدنى من وجوب صلاة الجماعة، يعني: الجماعة آكَدُ من الصلاة مع الجماعة في المسجد، فإذا وَجَدوا مصلحةً في أن يُصلوا جماعةً في غير المسجد فلا بأس: كأصحاب الدوائر الحكومية -مثلًا- يُصلون جماعةً في الدائرة الحكومية، فلا بأس، ولا يُطالَبون بأن يذهبوا للمسجد، وطلاب المدارس يُصلون جماعةً في المدرسة.
فإذا اجتمع أناسٌ -مثلًا- في مكانٍ -في استراحةٍ أو نحو ذلك- ورأوا أن المصلحة في أن يُصلوا جماعةً فلا بأس، لكن الأصل أن الصلاة مع الجماعة في المسجد، تُصلَّى في المسجد، هذا هو الأصل، لكن إذا وُجِدَتْ مصلحةٌ في أن تُصلَّى جماعةً خارج المسجد في بعض الأحيان فلا بأس.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2832. |
^3 | رواه البخاري: 16، ومسلم: 43. |
^4, ^35 | رواه مسلم: 2833. |
^5 | رواه مسلم: 181. |
^6 | رواه الديلمي في “الفردوس بمأثور الخطاب”: 880، وابن عساكر في “تاريخ دمشق”: 51/ 50. |
^7, ^8, ^9, ^10, ^11, ^12, ^21, ^23 | رواه مسلم: 2834. |
^13 | رواه البخاري: 304. |
^14 | رواه مسلم: 195. |
^15 | رواه البخاري: 3348، ومسلم: 221، 222. |
^16 | رواه الترمذي: 2546، وأحمد: 22940. |
^17 | رواه البخاري: 7349. |
^18 | رواه ابن ماجه: 4284. |
^19 | رواه البخاري: 2796. |
^20, ^24, ^25, ^26, ^27 | رواه مسلم: 2835. |
^22 | رواه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”: 22/ 223. |
^28 | رواه مسلم: 2836. |
^29 | رواه مسلم: 2837. |
^30 | رواه مسلم: 2838. |
^31 | رواه أبو داود: 4132، والترمذي: 1771، وأحمد: 20706. |
^32 | رواه الترمذي: 2453، وأحمد: 6764 واللفظ له. |
^33 | رواه البخاري: 6047، ومسلم: 110. |
^34 | رواه مسلم: 2598. |
^36 | رواه أبو داود: 1531، والنسائي: 1374، وابن ماجه: 1085. |
^37 | رواه البخاري: 4830، ومسلم: 2554. |
^38 | رواه البخاري: 5652، ومسلم: 2576. |
^39 | رواه مسلم: 653. |
^40 | رواه أبو داود: 552. |
^41 | رواه مسلم: 654. |