logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(71) باب: مثل المؤمن كالزرع- من حديث: «مثل ‌المؤمن ‌كمثل الزرع ..»

(71) باب: مثل المؤمن كالزرع- من حديث: «مثل ‌المؤمن ‌كمثل الزرع ..»

مشاهدة من الموقع

تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله ​​​​​​​ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

كنا قد وصلنا في شرح “صحيح مسلم” إلى الدرس الحادي والسبعين في هذا اليوم الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الآخرة من عام 1444 للهجرة.

وقد وصلنا إلى باب “مَثَل المؤمن كالزرع، والمنافق والكافر كالأرزة”.

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.

باب: مثل المؤمن كالزرع، ومثل الكافر كشجر الأرز

قال المُصنف رحمه الله تعالى:

باب: مَثَلُ المؤمن كالزرع، ومَثَلُ الكافر كشجر الأرز.

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدالأعلى، عن معمرٍ، عن الزُّهري، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : مَثَل المؤمن كمَثَل الزرع؛ لا تَزَال الرِّيحُ تُمِيلُه، ولا يزال المؤمن يُصيبه البلاء، ومَثَلُ المنافق كمَثَلِ شجرة الأَرْز؛ لا تهتزُّ حتى تَسْتَحْصِد [2].

قال: حدثنا محمد بن رافع وعبد بن حُميد، عن عبدالرزاق قال: حدثنا معمرٌ، عن الزهري، بهذا الإسناد، غير أن في حديث عبدالرزاق مكان قوله: تُمِيلُه، تُفِيئُه [3].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدالله بن نُمَير ومحمد بن بشر، قالا: حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن إبراهيم قال: حدثني ابن كعب بن مالك، عن أبيه كعب قال: قال رسول الله : مَثَلُ المؤمن كمَثَل الخامة من الزرع، تُفِيئها الرِّيحُ، تَصْرَعها مرةً وتَعْدِلها أخرى حتى تَهِيج، ومَثَلُ الكافر كمثل الأَرْزَة المُجْذِيَة على أصلها، لا يُفِيئها شيءٌ حتى يكون انجِعَافُها مرةً واحدةً [4].

قال: حدثني زُهَير بن حربٍ، قال: حدثنا بِشْر بن السَّرِيِّ وعبدالرحمن بن مهديٍّ، قالا: حدثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله : مَثَلُ المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تُفِيئها الرياح، تَصْرَعها مرةً وتعدلها، حتى يأتيه أَجَلُه، ومَثَلُ المنافق مَثَلُ الأَرْزَة المُجْذِيَة التي لا يُصيبها شيءٌ حتى يكون انجِعَافها مرةً واحدةً [5].

قال: وحدَّثَنِيه محمد بن حاتم ومحمود بن غَيْلان، قالا: حدثنا بِشْر بن السَّرِيِّ، قال: حدثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النبي . غير أن محمودًا قال في روايته عن بِشْرٍ: ومَثَلُ الكافر كمَثَلِ الأَرْزَة، وأما ابن حاتم فقال: مَثَلُ المنافق كما قال زُهَير [6].

قال: وحدَّثَناه محمد بن بشار وعبدالله بن هاشم، قالا: حدثنا يحيى -وهو القَطَّان- عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم. قال ابن هاشم: عن عبدالله بن كعب بن مالك، عن أبيه. وقال ابن بشار: عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النبي بنحو حديثهم، وقالا جميعًا في حديثهما عن يحيى: ومَثَلُ الكافر مَثَلُ الأَرْزَة [7].

الشرح:

هذا الحديث أخرجه الإمام مسلمٌ من حديث أبي هريرة ، أو من حديث كعب بن مالكٍ ، وهو حديثٌ عظيمٌ، يقول فيه عليه الصلاة والسلام: مثل المؤمن كمثل الزرع، وفي روايةٍ أخرى: كمثل الخامة.

“الخامة” معناها: الطاقة، والقصبة اللينة من الزرع.

لا تزال الرِّيح تُمِيلُه، وفي الرواية الأخرى: تُفِيئها الريح، تَصْرَعها تارةً، وتَعْدلها أخرى، أرأيتَ الطاقةَ من الزرع اللينة؟ تجد أن الريح تارةً تُميلها يمينًا وتارةً شمالًا، هكذا أيضًا المؤمن؛ وذلك لكثرة ما يُصيب المؤمن من البلاء الذي يكون فيه تكفيرٌ لسيئاته، ورِفْعَةٌ لدرجاته.

ومثل المنافق كمثل شجرة الأَرْز، وفي الرواية الأخرى: الأَرْزَة.

والأَرْزُ: هو شجر الصَّنَوبر، مع أنه ليس موجودًا في المدينة، وليس معروفًا للناس، لكنه عليه الصلاة والسلام يتحدث للأمة جميعًا، ويوجد في بلاد الشام شجر الصَّنوبر الطويل المعروف، شجرٌ ثابتٌ لا يَهْتَزُّ.

قال: كشجرة الأَرْز، وفي الرواية الأخرى: مَثَلُ الأَرْزَة المُجْذِيَة يعني: المُنتصبة الثابتة، لا تهتزُّ حتى تَسْتَحْصِد أي: أنها لثباتها وانتصابها لا تهتز، مثل: الطاقة من الزرع، وإنما هي ثابتةٌ، لا تهزها الرياح.

حتى يكون انجِعَافها مرةً واحدةً، هكذا أيضًا المنافق: قليلُ المصائب، وقليل البلاء في أهله وماله، حتى يأتيه الأجل؛ لهوانه على الله .

وقوله هنا: حتى تَسْتَحْصِد بفتح التاء، أي: حتى يأتي وقت حصادها.

وضَبَطها بعضهم -وممن ضبطها علي القاري- بالبناء للمفعول، أي: حتى تُسْتَحْصَد، ولكن ضَبْطها بفتح التاء أصحُّ: حتى تَسْتَحْصِد؛ وذلك لأن البناء للمفعول هنا غيرُ صحيحٍ؛ لأن “استحصد” فِعلٌ لازمٌ غير مُتعدٍّ، وإذا كان فعلًا لازمًا فإنه لا يصح بناؤه للمجهول، ولا يُبنى للمفعول.

وعلى هذا فالضبط الصحيح للرواية: حتى تَسْتَحْصِد، وليس: حتى تُسْتَحْصَد.

بعض الناس يقرؤها: حتى تُسْتَحْصَد، لكن هذا غير صحيحٍ، وإنما الضبط الصحيح بفتح التاء: حتى تَسْتَحْصِد، كما ضبطها النووي وغيره.

ومعنى الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه وأهله وماله، كثير المصائب، وذلك مُكَفِّرٌ لسيئاته، ورافعٌ لدرجاته، وكلما كان أقوى إيمانًا كان بلاؤه أعظم، كما قال النبي : أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل [8]، إن كان في دينه صلابةٌ زِيدَ في بلائه [9].

سبحان الله!

لأن دعوى الإيمان، كلٌّ يدَّعي الإيمان، وإنما العبرة بالثبات، فعندما يُبتلى الإنسان ويَثْبُت فهذا دليلٌ على قوة إيمانه وصدقه مع الله ، وما أكثر الذين يهتزون عند البلايا وعند المصائب!

ولهذا فإن بعض الناس يكون إيمانهم ضعيفًا، وما أن يأتي حدثٌ أو ابتلاءٌ إلا يتغيرون، وربما يتحولون للنفاق -نسأل الله العافية- كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137].

لاحظ: آمَنُوا كانوا مؤمنين، ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا.

وقول مَن قال: “آمنوا بألسنتهم” قولٌ ضعيفٌ، كما ذكر ابن تيمية رحمه الله، فكانوا مؤمنين بقلوبهم، لكن كان إيمانهم ضعيفًا، لكنهم لم يثبتوا عندما أتت الفتن والمحن والبلايا، لم يثبتوا فكفروا.

ولذلك فالذي يُميز الخبيث من الطيب هو الابتلاء والمحن، والله تعالى يُقدِّر أمورًا لتمحيص الناس: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2- 3]، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج:11].

إذن المؤمن يُشدَّد عليه في البلاء بحسب قوة إيمانه؛ لرفعة درجاته، ولشرفه عند الله .

وأما المنافق فإنه قليل الآلام والمصائب، وإن كان أيضًا لا يعدم من الآلام والمصائب، لكنها قليلةٌ بالنسبة للمؤمن، وإن وقع له شيءٌ لم يكن مُكفِّرًا لسيئاته، بل يأتي بها كاملةً يوم القيامة.

فوائد حديث: مَثَل المؤمن كمَثَل الزرع

  • أولًا: دلَّ هذا الحديث على شرف المؤمن، حيث جُعل له البلاء مُطهِّرًا لذنوبه، ومُكفِّرًا لسيئاته، حتى يأتي يوم القيامة نقيًّا من الذنوب والخطايا، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “لِأَهْل الذنوب ثلاثةُ أنهارٍ عِظَامٍ يتطهرون بها في الدنيا، فإن لم تَفِ بتطهيرهم طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة:
    • الأول: نهر التوبة النَّصوح.
    • والثاني: نهر الحسنات المُسْتَغْرِقة للأوزار.
    • والثالث: نهر المصائب المُكفِّرة.

فإذا أراد اللهُ بعبده خيرًا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة؛ فورد يوم القيامة طَيِّبًا، طاهرًا، فلم يحتج إلى التَّطهير الرابع”، والتَّطهيرُ الرابع أن يدخل النار فَيُطَهَّر بحسب ذنوبه.

فهذه الأنهر الثلاثة العِظَام يُطهَّر بها المؤمن من ذنوبه في الدنيا، فإذا أراد الله به خيرًا أدخله أحد هذه الأنهر: نهر التوبة النَّصوح، ونهر الحسنات، ونهر المصائب، فورد يوم القيامة نقيًّا، طيبًا، طاهرًا، فلم يحتج إلى التَّطهير في النهر الرابع وهو نار جهنم، وإذا لم يُرد الله به خيرًا لم يُطهَّر بهذه الأنهر الثلاثة، ويكون تطهيره في نار الجحيم يوم القيامة.

  • ثانيًا: دلَّ هذا الحديث على هوان المنافق على الله، حيث يُعافى ويُمتع في الدنيا، ولا يناله من مصائب الدنيا ما ينال المؤمن، حتى يأتي يوم القيامة كامل الأوزار.
  • ثالثًا: دلَّ هذا الحديث على أنه ينبغي استعمال التَّشبيه في التعليم للتَّوضيح، فنجد أن ضرب الأمثلة والتَّشبيه كثيرٌ في نصوص الكتاب والسنة، فينبغي في التعليم أن تُوضح الفكرة بمثالٍ أو بتشبيهٍ ونحو ذلك.
    ولهذا أراد النبي أن يُبين هذا المعنى بضرب هذا المثل، وتمثيل المؤمن وتشبيهه بالخامة من الزرع، تُمِيلها الريح يمينًا وشمالًا؛ إشارةً لكثرة المصائب والآلام التي تُصيبه، وأن المنافق مثل شجرة الصنوبر الثابتة المُنتصبة التي يكون انجِعَافها مرةً واحدةً؛ إشارةً إلى أن المنافق قليل الآلام والمصائب، حتى يأتي بذنوبه كاملةً يوم القيامة.

باب: مثل المؤمن مثل النخلة

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله تعالى:

باب: مَثَلُ المؤمن مَثَلُ النَّخلة.

قال: حدثنا يحيى بن أيوب، وقُتَيبة بن سعيد، وعلي بن حُجْر السَّعْدي -واللفظ ليحيى- قالوا: حدثنا إسماعيل -يعنون: ابن جعفر- قال: أخبرني عبدالله بن دينار: أنه سمع عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسْقُط ورقها، وإنها مَثَلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناسُ في شجر البَوَادِي، قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: هي النخلة، قال: فذكرتُ ذلك لعمر، قال: لَأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبُّ إليَّ من كذا وكذا [10].

قال: حدَّثني محمد بن عبيد الغُبَريُّ، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، قال: حدثنا أيوب، عن أبي الخليل الضُّبَعيِّ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله يومًا لأصحابه: أَخْبِروني عن شجرةٍ مَثَلُها مَثَلُ المؤمن، فجعل القومُ يذكرون شجرًا من شجر البوادي، قال ابن عمر: وأُلْقِيَ في نفسي -أو رُوعِي- أنها النخلة، فجعلتُ أريد أن أقولها، فإذا أسنانُ القومِ؛ فأهاب أن أتكلَّم، فلما سكتوا قال رسول الله : هي النخلة [11].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وابن أبي عمر، قالا: حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ قال: صَحِبْتُ ابن عمر رضي الله عنهما إلى المدينة، فما سمعتُه يُحدث عن رسول الله إلا حديثًا واحدًا، قال: كنا عند النبي ، فَأُتِيَ بجُمَّارٍ. فذكر بنحو حديثهما [12].

قال: وحدثنا ابن نُمَيرٍ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا سيف، قال: سمعتُ مجاهدًا يقول: سمعتُ ابن عمر يقول: أُتِيَ رسول الله بجُمَّارٍ. فذكر نحو حديثهم [13].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا عبيدالله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله ، فقال: أَخْبِرُوني بشجرةٍ شِبْهِ أو كالرجل المسلم لا يتحاتُّ ورقها، قال إبراهيم: لعل مسلمًا قال: وتُؤْتِي أُكُلَها، وكذا وجدتُ عند غيري أيضًا: ولا تُؤْتِي أُكُلَها كلَّ حينٍ، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيتُ أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهتُ أن أتكلم أو أقول شيئًا. فقال عمر: لَأَنْ تكون قُلْتَها أحبُّ إليَّ من كذا وكذا [14].

الشرح:

النبي كان يطرح أحيانًا الأسئلة على أصحابه ليختبر فهمهم، وليشدّ انتباههم، ومن ذلك: أنه مرةً قال للصحابة -وكان فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما-: إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، يعني: شجر البادية، قالوا: لعلها كذا وكذا.

قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: “ووقع في نفسي أنها النخلة”، لكن كان ابن عمر صغيرًا، يعني: في غزوة أُحُدٍ كان عمره أربع عشرة سنةً، ورَدَّه النبي عليه الصلاة والسلام [15]، فكان ابن عمر رضي الله عنهما صغيرًا.

قال: “فاستحييتُ”؛ لأن مَن معه من كبار الصحابة أو كبار السن.

قالوا: “يا رسول الله، حدِّثنا ما هي؟ قال: هي النخلة“، فابن عمر رضي الله عنهما قال لأبيه: “إنه قد وقع في نفسي أنها النخلة”، قال عمر : “لَأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبُّ إليَّ من كذا وكذا”، وفي روايةٍ: “أحبُّ إليَّ من حُمْرِ النَّعَم”، فتمنى عمر أن ابنه عبدالله أجاب.

وقوله: “أُتِيَ بجُمَّارٍ” الجُمَّار: هو الذي يُؤكل من قلب النخل، ويكون لينًا، أبيض، كالشحم، يُسمَّى “جُمَّارًا”، ويُسمَّى “شحم النخل”، ونحو ذلك.

ما يُستفاد من حديث: مثل المؤمن مثل النخلة

هذا الحديث فيه فوائد:

  • أولًا: الحثُّ على الفهم في العلم، وقد بوَّب عليه البخاري بقوله: “باب الفهم في العلم”، فالذي يطلب العلم ينبغي أن يحرص على الفهم والاستنباط.
  • ثانيًا: بركة النخلة، فإن النبي شبَّه النخلة بالمسلم: في كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطِيب ثمرها، وجُودها على الدوام، فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يُؤكل منه حتى يَيْبَس، بل حتى بعد أن يَيْبَس.
    ويُتَّخذ من النخلة منافع كثيرةٌ: يُتَّخذ من أغصانها تُستعمل جذوعًا، وحَطَبًا، وعِصِيًّا، وحُصْرًا، وحِبَالًا، وأوانِيَ، ويُستفاد من الجَرِيد، ومن الكَرَب، ومن اللِّيف.
    وأيضًا هيئتها حسنةٌ، ففيها جَمَالُ نباتها، وحُسن هيئة ثمرها، ففيها منافع كثيرةٌ، فهذه النخلة فيها منافع كثيرةٌ؛ منافع في ثمرتها: التمر، ومنافع أيضًا في جَرِيدها، ومنافع في لِيفِها، ومنافع في كَرَبِها، فكلها منافع، فهي شجرةٌ مُباركةٌ، فشبَّه بها المؤمن؛ لأن المؤمن أمره كله خيرٌ؛ لكثرة طاعاته، ومكارم أخلاقه، فهو يأتي بالصلاة والصيام والحج والذكر والصدقة والصِّلة وغير ذلك، فهو كثير المنافع كالنخلة؛ ولهذا شبَّه النبي النخلة بالمسلم.
    وبعض المُفسرين ذكروا أن قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم:24] قالوا: هي النخلة.
    إذن النخلة هي شجرةٌ مُباركةٌ؛ ولذلك شبَّه النبي المسلم بها.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: استحباب الحياء ما لم يُؤَدِّ إلى تفويت مصلحةٍ، فابن عمر رضي الله عنهما استحيا أن يتكلم؛ لأنه كان صغيرًا في حضرة أشياخٍ، لكن لو تكلم لكان أولى؛ لأن عمر  تمنى أن ابنه لم يسكت وأنه تكلم.
  • وأَخَذ مِن هذا بعضُ أهل العلم فائدةً: وهي سرور الإنسان بنَجَابة ولده وحُسن فهمه؛ لقول عمر : “لَأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبُّ إليَّ من كذا وكذا”، فإنه أراد بذلك أن النبيَّ يدعو لابنه، وأيضًا تكون له حَظْوَةٌ عند النبي .
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: ضرب الأمثال؛ للتَّوضيح ولزيادة الإفحام، وهذا أسلوبٌ كان يسلكه النبي في التعليم.
    ومرَّ بنا قبل قليلٍ تمثيلُ النبيِّ المؤمنَ بالخامة من الزرع، والمنافق بشجرة الأَرْز، وفي هذا الحديث مَثَّل المسلم بالنخلة، وهذا كله لأجل توضيح الأفهام.
  • أيضًا من الفوائد: أن العالِم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يُدركه مَن هو دونه؛ فهؤلاء الصحابة الكبار -وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما- خفي عليهم الجواب، وعرفه هذا الغلام الصغير: ابن عمر؛ وذلك لأن العلم مواهب، والله يُؤتي فضله مَن يشاء.
  • أيضًا من الفوائد: استدلَّ الإمام مالك بهذا الحديث على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا تقدح فيها، ولا في الإخلاص إذا كان أصلها لله تعالى؛ وذلك لأن عمر تمنى أن ابنه عبدالله تكلم وقال في الجواب: هي النخلة؛ ليزداد ابنه حظوةً عند النبي ، ورجاء أن يدعو له.
    وهذا يدل على: أن مثل هذه الخواطر التي تكون في النفس لا تُؤثر على الإخلاص ما دام أن أصل العمل لله
    .
  • أيضًا من الفوائد: أن حديث الإنسان بالخير أفضلُ من سكوته؛ لأن عمر تمنى أن ابنه عبدالله تكلم وأجاب عن السؤال الذي طرحه النبي ، وهو يعرف الجواب.
    وهذا يدل على: أن الحديث والكلام بالخير أفضل من الصمت؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت [16]، فَقَدَّمَ قولَ الخير على الصَّمت.
    فالذي ينبغي للمسلم أن يجعل قول الخير هو الأصل، لكن إذا لم يقل خيرًا لِيَصْمُتْ.
    وبعض الناس يعكس المسألة؛ يجعل الصمت هو الأصل، وهذا غيرُ صحيحٍ، بل كون الإنسان يتحدث ويقول خيرًا أفضل من أن يسكت، إنما يسكت إذا كان لن يقول خيرًا، فالصمت أفضل، أما إذا كان سيقول خيرًا فكونه يقول خيرًا أفضل من أن يسكت، ومن أن يصمت.
    وبعض أهل الخير والصلاح تجد أنه يغلب عليه الصمت، ولكن خيرٌ منه الذي يتحدث بالخير، الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، حتى لو كان مع جيرانه أو أرحامه يتحدث معهم بما يُؤنسهم ويُباسطهم في الحديث بالحديث المباح، هذا خيرٌ من أن يكون صامتًا، فالصمت إنما يكون عندما لا يقول خيرًا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.

باب تحريش الشيطان

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله تعالى:

باب: تحريش الشيطان وبَعْثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسانٍ قرينًا.

قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ قال: سمعتُ النبيَّ  يقول: إن الشيطان قد أَيِسَ أن يَعْبُدَه المُصلون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم [17].

قال: وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيعٌ. ح، قال: وحدثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدثنا أبو معاوية، كلاهما عن الأعمش بهذا الإسناد [18].

الشرح:

يقول عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المصلون.

أن يعبده يعني: يعبد الشيطان، والمقصود بعبادة الشيطان هنا: عبادة الأصنام؛ لأن الشيطان هو الداعي إليها، الآمِرُ بها، بدليل قول إبراهيم : يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44]، وأبو إبراهيم إنما كان يعبد الأصنام، لكن باعتباره قد أطاع الشيطان الذي أمره بذلك اعتُبِر كأنه يعبد الشيطان.

إذن المقصود بأن يعبده المصلون: أن يعود الناس في جزيرة العرب إلى عبادة الأصنام، وقد أَيِسَ الشيطان من ذلك.

وقوله: أن يعبده المصلون، “المصلون” أي: المؤمنون؛ سُمُّوا بذلك لأن الصلاة أشهر الأعمال الدالة على الإيمان وأظهرها؛ ولأن الصلاة هي الفارقة بين الإيمان والكفر.

قال: في جزيرة العرب تُسمى: جزيرةً، وهي في الواقع شِبْه جزيرةٍ، ما بين البحر الأحمر والخليج العربي، على خلافٍ كثيرٍ بين العلماء في تحديدها، لكن هذا هو الأشهر: أنها شِبْه جزيرةٍ، فهذا هو المقصود بجزيرة العرب.

ولكن في التَّحريش بينهم أي: في إغراء بعضهم على بعضٍ، وحَمْلهم على الفتن والحروب والشَّحناء، فالتَّحريش: هو الإغراء على الشيء بنوعٍ من الخداع.

معنى التَّحريش: الإغراء على الشيء بنوعٍ من الخداع، يعني: يُحرض الإنسانَ على شيءٍ معينٍ، مع مُخادَعته بذلك. هذا معنى التَّحريش.

فوائد حديث تحريش الشيطان

  • أولًا: دلَّ هذا الحديث على أن جزيرة العرب لن تعود دار شركٍ وعبادةٍ للأصنام، بل يبقى عموم أهلها على التوحيد، وهذا هو الواقع؛ فإن جزيرة العرب من عهد النبي إلى وقتنا هذا لم يعد الناسُ إلى عبادة الأصنام فيها.
    وأما ما وقع من بعض أهلها من الشرك في بعض العصور، فنقول جوابًا عن ذلك: إن العبرة بالأغلبية، فالمقصود أن العموم الغالب من أهل الجزيرة العربية لا يعودون لعبادة الأصنام، ولا يمنع من ذلك عودة قِلةٍ منهم، كما حصل في بعض العصور.
    أيضًا النبي أخبر أن الشيطان يَئِسَ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: لن يعود الناس إلى عبادة الأصنام في جزيرة العرب، لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، إنما أخبر أن الشيطان يَئِسَ؛ لِمَا رأى من كثرة الخير وقوة الخير في جزيرة العرب، فَيَئِسَ الشيطان، وقد يقع الأمر بخلاف ظنِّه، وقد يعود للرجاء بعد اليأس.
    وهكذا أجاب بعض العلماء عما حصل من وقوع الشرك في جزيرة العرب في بعض العصور، ولكن في الأعم الأغلب معظم الناس في جزيرة العرب على التوحيد، وأنهم لم يقعوا في عبادة الأصنام، وهذا يدل على فضل جزيرة العرب، وأنها مَأْرِز الإسلام.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: سَعْيُ الشيطان للتَّحريش بين المؤمنين وإيقاع العداوة بينهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ولكن في التَّحريش بينهم، فالشيطان حريصٌ غاية الحرص على التَّحريش بين المؤمنين، ويستغل أدنى موقفٍ للتَّحريش بينهم والنَّزْغ بينهم؛ ولهذا قال الله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، فأمر الله تعالى المؤمنين بأن يقولوا التي هي أحسن: أن يختار المؤمنُ أحسنَ الكلام، وأطيب الكلام؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك فقد يستغل الشيطانُ كلامَه أو بعض كلامه في النَّزْغ بينه وبين أخيه المسلم: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ.
    فعلى المسلم أن يُعوِّد لسانه على أن يختار أحسن الكلام وأطيب الكلام، وأن يجتنب الكلام الذي قد يتسبب في أن ينزغ الشيطان بينه وبين أخيه، أي: أنه مطلوبٌ من المسلم أن يَسُدَّ الثَّغرات على الشيطان، فلا يجعل للشيطان فرصةً أو ثَغْرةً ينفذ من خلالها للتَّحريش بينه وبين أخيه المسلم.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: معجزة النبي ؛ حيث أخبر بما سيقع بعده، ووقع الأمر كما أخبر؛ فإن جزيرة العرب بقي أهلها على التوحيد من عهد النبي إلى يومنا هذا، وإن كان قد حصل من أفرادٍ منهم وقوعٌ في الشرك، لكنهم قِلةٌ مُقارنةً بالأغلبية.
    وهذا سيبقى -بإذن الله تعالى- إلى قُبيل قيام الساعة، فإن قُبيل قيام الساعة يبعث الله تعالى ريحًا طيبةً تقبض روح كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ، فلا يبقى إلا شِرار الناس، وعليهم تقوم الساعة.
    أيضًا قُبيل قيام الساعة سيكون أكثر المؤمنين الصادقين في الشام؛ ولذلك ينزل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام عليهم، ينزل المسيح عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، يعني: عند الجامع الأموي.
    وهذا يدل على أن أكثر المؤمنين الصادقين سيكونون في ذلك المكان، وهذا عندما تقوم أشراط الساعة الكبرى في أحداثٍ عِظَامٍ جِسَامٍ ذَكَرها النبيُّ .

حديث: إن عَرْش إبليس على البحر ..

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ قال: سمعتُ النبي  يقول: إن عَرْش إبليس على البحر، فيبعث سراياه، فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنةً [19].

قال: حدثنا أبو كُرَيبٍ محمد بن العلاء، وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لأبي كُرَيبٍ- قالا: أخبرنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ  قال: قال رسول الله : إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فَرَّقْتُ بينه وبين امرأته، قال: فيُدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت. قال الأعمش: أُرَاه قال: فيلتزمه [20].

قال: حدثني سلمة بن شَبِيبٍ، قال: حدثنا الحسن بن أَعْيَن، قال: حدثنا مَعْقِل، عن أبي الزبير، عن جابرٍ : أنه سمع النبي يقول: يبعث الشيطان سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلةً أعظمهم فتنةً [21].

الشرح:

هذا الحديث العظيم يُبين فيه النبي أن إبليس اللعين يضع عرشه على الماء، وأن إبليس له عرشٌ، يعني: سريرًا مثل سرير الملك، وأن مركزه يكون في البحر، والله أعلم أين يكون، وما قاله بعضُ الناس من أن سرير إبليس في مثلث (برمودا) محتملٌ، الله أعلم، لا نستطيع أن نُثبت ذلك، ولا أن ننفيه، فالله تعالى أعلم، لكن الذي نجزم به هو ما أخبر به النبي من أن إبليس يضع عرشه على الماء، يعني: في البحر.

ثم يبعث سراياه يبعث الشياطين لإضلال بني آدم.

فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً الذي يتسبب في الفتنة بين المسلمين هذا يُدنيه إبليس.

قال: يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقول: ما صنعتَ شيئًا. ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فَرَّقْتُ بينه وبين امرأته. فيُدنيه ويقول: نِعْمَ أنت يُثني عليه، وفي الرواية الأخرى: أنه يلتزمه، يلتزمه ويُدنيه، ويقول: نِعْمَ أنت، نِعْمَ أنت.

ما يُستفاد من حديث: إن عَرْشَ إبليس على البحر ..

هذا الحديث فيه فوائد:

  • أولًا: دلَّ هذا الحديث على حرص الشيطان على إغواء بني آدم، حيث يضع عرشه على البحر، ويبعث بُعوثه لإضلال بني آدم، وأن أدناهم منزلةً منه أعظمهم فتنةً؛ وذلك لأن الشياطين أعداء لبني آدم: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقد وُكِّل بكلِّ إنسانٍ شيطانٌ -كما سيأتي في الحديث الآتي- وكلٌّ معه القرينُ، ومعه شيطانٌ مُتفرغٌ لإضلاله.
  • ثانيًا: تعظيم أمر الطلاق، وعظيم إثم مَن سَعَى فيه، وأنه يتشبه بالشياطين في ذلك، فإن الشيطان يسعى للتفريق بين الرجل وزوجته، فإذا فعل ذلك فإن إبليس يُدنيه، يُدْنِي هذا الشيطان ويلتزمه، ويقول: “نِعْمَ أنت، نِعْمَ أنت”؛ وذلك لما يترتب على الطلاق من مفاسد وأضرارٍ عظيمةٍ على الزوجين، وعلى الأولاد؛ ولما فيه من تقويض بناء أسرةٍ مسلمةٍ وتشتيتها، وانقطاع النَّسل، وغير ذلك من المفاسد.
    ولهذا فإن الشيطان يفرح بذلك، ويُدْنِي هذا الشيطان الذي تسبَّب في التفريق بين الرجل وزوجته؛ ولذلك فإن مَن سعى للتفريق بين الرجل وزوجته فإنه يتشبه بالشيطان في ذلك، عمله عمل شيطانٍ هذا الذي يسعى للتفريق بين الرجل وزوجته.
    قال بعض العلماء: مَن سعى في تطليق امرأةٍ من زوجها ليتزوجها، فإنها تَحْرُم عليه ولا تحلُّ له، ولا يجوز له أن يتزوجها؛ تعزيرًا له.
    وهذا قولٌ قويٌّ له وجاهته، أي: أنه يُعامل بنقيض قصده؛ لأن بعض الناس يُخَبِّب المرأةَ على زوجها حتى تطلب الطلاق ثم يتزوج بها.
    فنقول: إذا سعى في تطليق امرأةٍ من زوجها فإنها تحرم عليه في قول بعض أهل العلم، وهو قولٌ قويٌّ.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: دلَّ هذا الحديث على سَعْي الشيطان الحثيث لتأجيج الخلافات بين الزوجين، وأن الشيطان يدخل بينهما ويجتهد غاية الاجتهاد في التَّحريش بينهما، حتى ربما يُؤدي ذلك إلى الطلاق.
    ولذلك فعلى الزوجين عند وقوع بوادر الخلاف بينهما، عليهما الحذر الشديد من وسوسة الشيطان، والإكثار من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فإنه عند وقوع خلافٍ بين الزوجين يَنْفُذ الشيطان، ويدخل الشيطان بينهما، ويُؤجج ذلك الخلاف، وأحيانًا قد ينجح ويتسبب في الطلاق والتفريق بينهما، وأحيانًا قد لا ينجح، لكن كيد الشيطان إنما هو في الوسوسة، ينحصر كيد الشيطان في الوسوسة فقط: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22]، هذا يقوله الشيطان يوم القيامة، يقوله لأهل النار.
    فهذا من رحمة الله تعالى، يعني: مع أن هذا العدوَّ مُتفرغٌ لإضلال الإنسان إلا أن كيده ضعيفٌ، كيده فقط في الوسوسة، في تزيين الباطل وتثقيل الحقّ على المؤمن، فتجد أن الشيطان يُثَبِّط المؤمن عن الطاعة، ويُزيِّن له المعصية، وكيده إنما هو بالوسوسة؛ ولهذا لما وصف الله تعالى الشيطانَ بالوَسْواس وصفه بالخَنَّاس: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ ۝ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:1- 4]، الوَسْواس لأن كيده على الإنسان عن طريق الوسوسة فقط، فالشيطان لا يجبر الإنسان على المعصية، لا يُكَبِّله بالحديد ويُوقعه في المعصية، إنما فقط يَنْفُذ للإنسان عن طريق الوسوسة، لكنه أيضًا في الوقت نفسه خَنَّاسٌ، أي: أنه إذا ذكر العبدُ ربَّه انخنس وهرب وانقبض، فكيده ضعيفٌ؛ ولذلك كلما أتتك وساوس قُلْ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ تجد أن الوساوس تنقشع عنك مباشرةً، وتُحِسُّ براحةٍ، وتُحِسُّ بسكينةٍ.
    وأحيانًا تهجم عليك وساوس، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وجرِّب هذا ستجد راحةً عظيمةً، كما قال الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97- 98]، حتى لو كنتَ في الصلاة، وهجمتْ عليك الوساوس، فاعلم أنها من الشيطان، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سواءٌ كنتَ في القيام، أو في الركوع، أو في السجود، أو في أيِّ موضعٍ من مواضع الصلاة.
    وهذا قد أرشد إليه النبيُّ أحدَ الصحابة ، لمَّا قال: “يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها عليَّ”، فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يستعيذ بالله منه، قال: “ففعلتُ ذلك فأذهبه الله عني” [22].
    وهذا العلاج يغفل عنه كثيرٌ من الناس، تجد أنه يكون في الصلاة في وساوس كثيرةٍ، ولو قال: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” ذهبتْ عنه الوساوس.
    فَطَبِّق هذا العلاج كلما أتت إليك وساوس في الصلاة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ تذهب عنك الوساوس، لكن قد تعود؛ لأن الشيطان لا ييأس، يرجع لك مرةً ثانيةً، فإذا رجع استَعِذْ بالله منه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36].
    فهذا يدل على عداوة الشيطان للإنسان، وعلى عظيم كيده ومكره، وعلى أن الشيطان يحرص على إيقاع الفتنة بين المؤمنين، يحرص على ذلك غاية الحرص، وهو أَحْرَصُ ما يكون على إيقاع الفتنة بين الزوجين؛ لأجل أن يظفر بالتفريق بينهما.

حديث: ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينُه ..

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن أبيه، عن عبدالله بن مسعودٍ  قال: قال رسول الله : ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينُه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخيرٍ [23].

قال: حدثنا ابن المُثَنَّى، وابن بشَّار، قالا: حدثنا عبدالرحمن -يعنيان: ابنَ مهدي- عن سفيان. ح، قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن عمار بن رُزَيْق، كلاهما عن منصورٍ بإسناد جريرٍ مثل حديثه، غير أن في حديث سفيان: وقد وُكِّلَ به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة [24].

قال: حدثني هارون بن سعيد الأَيْليُّ، قال: حدثنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني أبو صَخْر، عن ابن قُسَيْطٍ حدَّثه: أن عروة حدَّثه: أن عائشة -زوج النبي – حدثته: أن رسول الله خرج من عندها ليلًا، قالت: فَغِرْتُ عليه، فجاء، فرأى ما أصنع، فقال: ما لكِ يا عائشة؟ أَغِرْتِ؟ فقلتُ: وما لي لا يَغَار مثلي على مِثْلك؟! فقال رسول الله : أقد جاءكِ شيطانُكِ؟ قالت: يا رسول الله، أَوَمَعي شيطانٌ؟ قال: نعم، قلتُ: ومع كلِّ إنسانٍ؟ قال: نعم، قلتُ: ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم [25].

الشرح:

في هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن، كلُّ إنسانٍ وُكِّل به شيطانٌ، قرينٌ من الجنِّ مُتفرغٌ لإضلاله، ليس عنده شغلٌ إلا إضلال هذا الإنسان، ولكن ليس له سلطانٌ على الإنسان إلا عن طريق الوسوسة فقط، فلا يُجْبِر الإنسانَ على المعصية، لا يُكَبِّله بالحديد ثم يُوقعه في المعصية، إنما فقط يُوسوس له، يُزيِّن له الباطل ويُثَبِّطه عن الحقِّ وعن الخير.

قال: ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجنِّ، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، حتى النبي عليه الصلاة والسلام معه قرينٌ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم.

قوله: فأسلم ورد بفتح الميم وبرفعها، يعني: فَأَسْلَمَ أو فَأَسْلَمُ.

أما الرواية التي ورد فيها برفع الميم: فأسلمُ فالمعنى: أسلمُ من شرِّه، إلا أن اللهَ أعانني عليه فأسلمُ من شرِّه.

وأما الرواية التي بفتح الميم: فأسلمَ فمعناها: أن القرين أسلمَ وأصبح مُسلمًا؛ ولذلك قال: فلا يأمرني إلا بخيرٍ.

واختار الخطابي رواية الرفع: فَأَسْلَمُ، ورجَّح القاضي عياض الفتحَ: فأسلمَ، واختار ذلك أيضًا النووي.

والأقرب -والله أعلم- هو رواية الفتح: فأسلمَ من الإسلام؛ وذلك لقوله: فلا يأمرني إلا بخيرٍ، وهذا يُرجِّح رواية الفتح، وأن المقصود أن هذا القرينَ -قرينَ النبي – أصبح مسلمًا، فلا يأمر النبي إلا بخيرٍ.

وفي حديث سفيان قال: وقد وُكِّل به قرينه من الجنِّ، وقرينه من الملائكة، “قرينه من الجن” يعني: الشيطان المُوكَّل بالإنسان، لكن أيضًا وُكِّل به قرينه من الملائكة، والذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود به: الحَفَظَة، فإنه قد وُكِّل بكلِّ إنسانٍ اثنان من الملائكة من أمامه ومن خلفه، كما قال الله سبحانه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: قُدَّامه وخَلْفَه يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] هؤلاء الملائكة الحفظة، وهم أيضًا يأمرونه بالخير، وهذا من رحمة الله تعالى بالمؤمنين، فالإنسان وُكِّل به في اليوم والليلة ثمانيةٌ من الملائكة.

انظر إلى عظيم عناية الله تعالى بهذا المخلوق، فكل إنسانٍ وُكِّل به ثمانيةٌ من الملائكة: اثنان كاتبان عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17]، أحدهما يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ۝ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17- 18]، واثنان حافظان من بين يديه ومن خلفه، من قُدَّامه ومن خلفه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، فكم المجموع؟

اثنان كاتبان، واثنان حافظان، كم المجموع؟

أربعةٌ، وهؤلاء الأربعة يبقون مع الإنسان من صلاة الفجر إلى صلاة العصر، ثم يعقبهم أربعةُ ملائكةٍ آخرون من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، فأصبح المجموع ثمانية؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يَعْرُج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلون، وأتيناهم وهم يُصلون [26].

فانظر إلى عظيم عناية الله تعالى بهذا المخلوق، ثمانيةٌ من الملائكة في أربعٍ وعشرين ساعةً: أربعةٌ كاتبون، وأربعةٌ حافظون، لكنهم يتعاقبون فيما بينهم من صلاة الفجر إلى صلاة العصر، ومن صلاة العصر إلى صلاة الفجر.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله خرج من عندها ليلًا، يعني: في ليلتها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يبيت كلَّ ليلةٍ عند إحدى زوجاته، وذات ليلةٍ كان عند عائشة رضي الله عنها، فخرج من عندها، قالت: “فَغِرْتُ عليه”، خشيتْ أن يكون قد ذهب إلى إحدى زوجاته الأُخريات، فأخَذَتْها الغيرة؛ فذهبتْ تبحث عن النبي عليه الصلاة والسلام.

قالت: “فجاء، فرأى ما أصنع، فقال: ما لكِ يا عائشة؟ أَغِرْتِ؟ فقلتُ: وما لي لا يَغَار مثلي على مثلك؟! فقال عليه الصلاة والسلام: أقد جاءكِ شيطانكِ؟ قالت: أَوَمَعي شيطانٌ؟ قال: نعم، قلتُ: ومع كل إنسانٍ؟ قال: نعم، قلتُ: ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم“.

وهذا يُؤكد معنى الحديث السابق، وهو: أنه قد وُكِّل بكل إنسانٍ شيطانٌ.

إذن وُكِّل به -كما ذكرنا- ثمانيةٌ من الملائكة، ومعه شيطانٌ واحدٌ فقط، لكن ثمانية من الملائكة -أربعة وأربعة- يتعاقبون بالليل والنهار، وشيطانٌ واحدٌ، اثنان من الملائكة كاتبان، واثنان حافظان، وشيطانٌ معه، كل هؤلاء مع الإنسان وهو لا يراهم، ولا يشعر بهم، سبحان الله!

الشيطان قال الله عنه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].

ما يُستفاد من الحديث

هذا الحديث فيه فوائد:

  • أولًا: دلَّ هذا الحديث على بيان شدة تسلُّط الشياطين على بني آدم، فلا ينجو منهم إلا مَن توكَّل على الله، كما قال الله سبحانه: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]، وذلك أنه قد وُكِّل بكلِّ إنسانٍ شيطانٌ، وهذا الشيطان مُتفرغٌ لإضلاله؛ ولهذا فعلى المسلم أن يلجأ إلى الله ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200].
  • ثانيًا: دلَّ هذا الحديث على التَّحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، وهو يرى الإنسان، والإنسان لا يراه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ، ولكن كيده إنما ينحصر في الوسوسة.
    وهذا القرين قد يتعاون مع السحرة؛ ولذلك فالساحر يُرسل الشياطين حتى يَصِلوا إلى هذا القرين، ويُعطيهم معلوماتٍ عن هذا الإنسان، وقد يتعاون مع الكُهَّان، ومع أهل الشَّعوذة والدَّجل.
    ولذلك رُوِيَ: أن أحد الخلفاء كان إذا أُتِيَ بأيِّ مبلغٍ وسأل عنه يُجيب أحدُ الناس فيقول: كذا وكذا، يدَّعي أنه يعلم الغيب، فأتى أحدُ العلماء وعَرَف أن الذي يُخبره بذلك القرينُ؛ لأن القرين يَعُدُّ النقودَ، فقام هذا العالِم وأدخل يده في هذه النقود وأخذها، وقال: كم؟ فما استطاع أن يعرف؛ لأن القرين هو الذي يَعُدُّ ويُخبر الكاهن بذلك.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: إكرام الله تعالى لبني آدم، حيث لم يتركهم مع الشياطين، بل جعل لهم قُرناء من الملائكة، كما جاء في رواية سفيان: وقد وُكِّل به قرينه من الجنِّ، وقرينه من الملائكة.
    وقد ذكرنا أن كلَّ إنسانٍ وُكِّل به أربعةٌ من الملائكة: اثنان كاتبان، واثنان حافظان، وأنهم يتعاقبون، فمعهم أربعةٌ آخرون، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر.
  • أيضًا دلَّ هذا الحديث على كرامة النبي على ربِّه؛ حيث أسلم قرينُه فلا يأمره إلا بخيرٍ، وهذا يدل على كرامة النبي على ربه جلَّ وعلا؛ لأن هذا فيه معجزةٌ عظيمةٌ، كيف أن هذا الشيطان يُسلم -يُصبح مسلمًا- فلا يأمر النبي إلا بخيرٍ.
    قال القاضي عياض: “اعلم أن الأمة مُجتمعةٌ على عصمة النبي من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه”، فهو عليه الصلاة والسلام معصومٌ من الشيطان.
  • أيضًا دلَّ حديث عائشة رضي الله عنها على أنَّ من أسباب الغيرة: إغراء الشيطان وتسلُّطه على الإنسان، وحَمْله على أن يتخيل غير الواقع، فالشيطان يعرف مواطن الضعف عند الإنسان، فإذا رأى أن هذا الإنسان عنده استعدادٌ للغيرة يزيد من ذلك، ويَنْفُذ من خلال هذه الغيرة، ويُحَرِّش هذا الإنسان.
    ولذلك ينبغي عندما تأتي الغيرة للإنسان أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن الشيطان هو الذي يُؤجِّجها، وهو الذي يَزِيدها، وهو الذي يُحَرِّض الإنسان لِيُوقِعَ بينه وبين أخيه المسلم.
    ولذلك لما غارتْ عائشة رضي الله عنها قال لها النبي : أَغِرْتِ؟ ثم قال: أقد جاءكِ شيطانُكِ؟ وهذا دليلٌ على أن الذي يُؤجِّج الغيرة في النفوس هو الشيطان الرجيم.

وهذا كله يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يُكْثِر من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن الشيطانَ عدوٌّ للإنسان، ويستغل غفلة الإنسان، ويُوسوس له يُثَبِّطه عن الطاعات، ويُزيِّن له المعاصي؛ ولهذا ينبغي أن يستحضر المسلمُ قولَ الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36].

احرِصْ على أن تُكْثِر من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عندما تأتيك الوساوس والهواجس في الصلاة وفي غير الصلاة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97- 98]، وستجد العاقبة حميدةً، وستجد راحةً عظيمةً.

عندما تأتيك الوساوس وتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ستُحِسُّ براحةٍ عظيمةٍ؛ لأن هذه الوساوس من الشيطان، فإذا لجأتَ إلى الله تعالى واستَعَذْتَ بالله من الشيطان الرجيم انقشعتْ عنك تلك الوساوس مباشرةً، وزالتْ عنك، فتشعر بعدها بالراحة، وتشعر بالسكينة.

وهذا المعنى يَغْفُل عنه كثيرٌ من الناس، فتجد أن بعض الناس يسترسل في الوساوس ويَغْفُل عن أن مصدرها الشيطان، لكن لو كان مُستحضرًا أن هذه الوساوس من الشيطان، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ تذهب عنه وتزول مباشرةً.

ونكتفي بهذا القدر، ونُجيب الآن عما تيسر من الأسئلة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

السؤال: هل نجاسة المُشرك حِسِّيَّةٌ أو معنويةٌ؟

الجواب: نجاسة المُشرك نجاسةٌ معنويةٌ؛ ولذلك لو أنك سلَّمتَ عليه فلا يجب عليك أن تغسل يدك، إنما المقصود بنجاسته النَّجاسة المعنوية، المقصود بالنَّجاسة في قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، المقصود بذلك النَّجاسة المعنوية.

السؤال: الذي لا يُحْسِن إدارةَ جميع أموره لِسَفَهٍ، هل يُحْجَر عليه في جميع أموره؟

الجواب: يُحْجَر عليه في المال فقط، يُحْجَر عليه في التَّصرف في المال؛ لأن السَّفَه فقط في التَّصرفات المالية، أما بقية أموره فلا يُحْجَر عليه فيها، فقد يكون إنسانًا صالحًا، فلا يلزم من سَفَه الإنسان في التَّصرفات المالية سَفَهُه في بقية الأمور، فقد يكون من العُبَّاد، من الصالحين، من الصُّوَّام، القُوَّام -من الصائمين القائمين- لكن عنده سَفَهٌ في تصرفاته المالية؛ فيُحْجَر عليه في تصرفاته المالية فقط.

كما أن السَّفَه أيضًا قد يكون في أمورٍ أخرى غير المال، فقد يكون أحيانًا في ولاية النكاح، فيكون الوليُّ سفيهًا، كلما أتى خاطبٌ ردَّه من غير سببٍ، فهذا لا يُمكَّن من استمراره في ولاية النكاح؛ لأنه يَضُرُّ بالمرأة، فَتُنْزَع ولايته وتُجْعَل فيمَن بعده من الأولياء.

إذن السَّفَهُ مجالاتُه متعددةٌ، فإذا كان في التَّصرفات المالية يُحْجَر عليه في المال -في تصرفاته المالية- لكن لا يَشْمل الحَجْرُ بقيةَ أموره.

السؤال: هل يجوز لَعْنُ الشيطان؟

الجواب: لَعْن الشيطان جائزٌ؛ لأن الله تعالى يقول: لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:118]، لكن الأفضل أن تستعيذ بالله منه، وقد رُوي في بعض الأحاديث -وإن كان في سندها مقالٌ-: أن الشيطان إذا لُعِنَ يتعاظم [27]، لكن إذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان فإنه يخنس ويهرب.

فالأفضل أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن مع ذلك مَن لَعَنَ الشيطانَ لا يُنْكَر عليه؛ لأن الله لعنه، فهو ملعونٌ، ولكن الأفضل أن يجعل الغالب هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

السؤال: هل الجمع بين المغرب والعشاء في حال هُطُول الأمطار يكون للإمام فقط، أي: في حال تغيَّب الإمام لا يصح الجَمْعُ إلا بمُوافقة الإمام؟

الجواب: الإمام الذي يُصلي بالناس هو الذي يجتهد في تقدير الموقف، سواء كان الإمام الراتب أو النائب عنه، يجتهد في تقدير الموقف، فإذا كانت هناك مشقَّةٌ على الناس في تَرْك الجَمْع فإنه يجمع، وإذا لم تكن هناك مشقةٌ فلا يجمع.

وهذا المعنى يكاد يكون مُتَّفَقًا عليه بين طلاب العلم: أنَّ الجمع إنما يكون عند وجود المشقة، ولا يكون عند عدم المشقة، ولكن يأتي الخلاف في تحقيق المناط: هل هذا المطر الذي نزل، هل تلحق الناس معه مشقةٌ تستدعي الجمع أو لا؟

وتحقيق المناط يختلف فيه الناس اختلافًا كثيرًا؛ ولذلك فلا بد من مُحدداتٍ لهذه المشقة، ومن هذه المُحددات:

  • أولًا: أن تكون المشقة غير مُعتادةٍ، أما المشقة المُعتادة فلا يُجْمَع لأجلها، فمثلًا: كبير السن أو المريض مجيئه للمسجد في أيِّ وقتٍ يَشُقُّ عليه، فهذه المشقة لا يُلتفت لها، إنما المشقة غير المُعتادة التي أتتْ بسبب نزول الأمطار، هذه هي المُؤثرة.
  • ثانيًا: أن يظهر أثر هذه المشقة على بقية أمور الناس، فلا تختص بالمسجد فقط؛ لأنه أحيانًا عندما ينزل المطر تبقى أمور الناس على ما هي عليه، فحالهم بعد نزول المطر كحالهم قبل نزول المطر، وهذا يدل على عدم وجود المشقة غير المُعتادة، لكن إذا أتى الناسُ إلى المسجد وقالوا: علينا مشقةٌ، بينما في بقية أمورهم ليست عليهم مشقةٌ، بدليل أن أمورهم على ما هي عليه لم تتغير، ففي هذه الحال مطلوبٌ من الإمام أن يجتهد في تقدير هذه المشقة، فإن غلب على ظنِّه وجودُ مشقةٍ بترك الجَمْع جَمَع، وإن غلب على ظنِّه عدمُ وجود المشقة غير المُعتادة لم يجمع، وإن شكَّ: هل توجد مشقةٌ غير مُعتادةٍ أو لا؟ فلا يجمع؛ لأن الأصل عدم الجمع، والجمع بين الصلاتين من غير عذرٍ معدودٌ عند أهل العلم من الكبائر.

السؤال: يقول: أُصلي صلاة الفجر في البيت، ولا أُصلي في المسجد، فهل عليَّ إثمٌ؟

الجواب: إذا كان لك عذرٌ فليس عليك إثمٌ، أما إذا لم يكن لك عذرٌ فيجب عليك أن تُصلي مع جماعة المسلمين في المسجد، فقد جاء في “صحيح مسلم”: أن رجلًا أعمى أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله أن يُرخص له فيُصلي في بيته، فَرَخَّص له، فلما ولَّى دعاه فقال: هل تسمع النِّداء بالصلاة؟ فقال: نعم. قال: فَأَجِبْ [28]، وجاء في روايةٍ: لا أجد لك رُخصةً [29].

وهذا من أظهر الأدلة على وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد، فلو كانت الصلاة مع الجماعة في المسجد غير واجبةٍ لَرَخَّص النبي لهذا الأعمى الذي لا يجد له قائدًا يقوده للمسجد، ولَمَا كلَّفه النبيُّ عليه الصلاة والسلام بأن يُصلي مع الجماعة في المسجد لمجرد أنه يسمع النِّداء.

فالواجب على المسلم أن يُصلي مع الجماعة في المسجد، وألا يتخلف عنها؛ ولهذا قال ابن مسعودٍ : “ولقد رأيتُنا -يعني: الصحابة – وما يتخلَّف عنها -يعني: عن صلاة الجماعة في المسجد- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان يُؤتَى بالرجل -يعني: المريض- يُهَادَى بين الرَّجُلين -يعني: يُعَضَّد عن يمينه وعن شماله- حتى يُقَام في الصَّفِّ”، مع أنه معذورٌ، ولا تجب عليه الجماعة، لكن من شدة تعلُّقه بالصلاة مع الجماعة في المسجد يَطْلب من اثنين أن يُعَضِّدا له، يُهَادَى عن يمينه وشماله حتى يُقَامَ في الصفِّ.

انظر إلى حرص الصحابة العظيم على الصلاة مع الجماعة في المسجد.

والمسألة -يا إخوان- هي مسألة اهتمامٍ، فمَن كان اهتمامه بالصلاة كبيرًا فلن تفوته أيُّ صلاةٍ: لا صلاة الفجر، ولا غير الفجر، لكن مَن كان اهتمامه ضعيفًا فإنه سيجد ثِقَلًا وتكاسلًا، وتكون عليه ثقيلةً، كما قال الله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

السؤال: ما حكم دعاء: اللهم يَمِّنْ كتابي، ويَسِّرْ حسابي؟

الجواب: هذا دعاءٌ طيبٌ، يعني: تسأل الله تعالى أن يُيَمِّن كتابك، يعني: أن تكون ممن يأخذ كتابه بيمينه، وأن يُيَسِّر حسابك؛ لأن الله تعالى قال عن المؤمن: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا۝ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:8- 9]، فهذا المعنى مأخوذٌ من الآيات القرآنية، فهو دعاءٌ حسنٌ.

السؤال: ما المقصود بِـ”دُبُرِ الصلاة المكتوبة”؟ هل هو قبل السلام أو بعده؟

الجواب: الأصل أن “دُبُر الصلاة” قبل السلام إلا إذا دلَّت القرينة على أنه بعد السلام؛ لأن دُبُرَ الحيوان جزءٌ منه، فالأصل أن دُبُر الشيء جزءٌ منه.

وعلى هذا فالأحاديث التي وردتْ في الأدعية التي تُقال دُبُر الصلاة، فإنها تكون في آخر الصلاة، مثل حديث: يا معاذ، والله إني لأُحبك، لا تَدَعَنَّ في دُبُر كل صلاةٍ تقول: اللهم أَعِنِّي على ذِكْرك وشُكرك وحُسن عبادتك [30]، فالمقصود بـ”دُبُر الصلاة” هنا: آخر الصلاة، يعني: آخر الصلاة قبل السلام يُستحب للمُصلي أن يقول: اللهم أَعِنِّي على ذِكْرك، وعلى شُكرك، وعلى حُسن عبادتك.

لكن ما جاء في حديث ثَوبان وغيره من الأذكار التي تُقال دُبُرَ الصلاة، فالمقصود بِدُبُر الصلاة هنا: ما بعد السلام؛ لأن القرينة دلَّت على أن هذه الأذكار تُقال بعد السلام: “أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام ..” إلخ، فهذه تكون بعد السلام؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن ما ورد من الأدعية التي تُقال دُبُر الصلاة فإنها تُقال قبل السلام، وما ورد من الأذكار التي تُقال دُبُر الصلاة فإنها تكون بعد السلام.

السؤال: يقول: هل صحَّ ما رُوِيَ عن ابن بازٍ أنه تحدَّث إلى الجنِّ؟

الجواب: لا أعلم، لا أعلم بذلك، الله أعلم.

السؤال: هل يتحدَّث الإنسانُ مع قرينه؟

الجواب: الله تعالى يقول: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فالأصل أن الإنسان لا يرى الجن، هذا الأصل، لكن قد يتمثَّلون بصورة الإنس، أو بصور حيواناتٍ، أو غير ذلك، ومن حيث الأصل فالأصل أن الجنَّ يرون الإنسان، والإنسان لا يراهم.

السؤال: ما حكم الجمع بين صلاة الجمعة وصلاة العصر؟

الجواب: هذه محلُّ خلافٍ بين الفقهاء: فمنهم مَن قال بجواز ذلك؛ قياسًا على الجمع بين الظهر والعصر، ومنهم مَن قال بعدم مشروعية ذلك؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، ولم يرد الجمع بين الجمعة والعصر، وهذا هو الأقرب، وهو الذي يُفتي به مشايخنا: الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله تعالى على أنه لا يُجمع بين الجمعة والعصر.

ومما يدل لذلك: أن النبي لما كان يخطب على المنبر يوم الجمعة أتاه رجلٌ وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل، فَادْعُ الله يُغِيثنا. فرفع النبي يديه وقال: اللهم أَغِثْنا، اللهم أَغِثْنا [31]، فأنزل الله غيثًا عظيمًا، واستمر هذا الغيث إلى الجمعة الأخرى، ولم يُنْقَل عن النبي أنه جمع بين الجمعة والعصر.

فالأقرب -والله أعلم- أنه لا يُشْرَع الجمع بين الجمعة والعصر لمَن صلاها جمعةً، أما مَن صلاها ظهرًا ركعتين -يعني: إذا كان مُسافرًا وصلاها ظهرًا ركعتين- فإنه يجمع معها العصر، لكن إذا صلاها جمعةً فلا يجمع معها العصر.

السؤال: ما حكم التَّرحم على الفاسق؟

الجواب: الفاسق يبقى مسلمًا، والمسلم يُترحَّم عليه، ويُدْعَى له بالمغفرة، ويُدْعَى له بالهداية.

وعند أهل السنة والجماعة: أن الفاسقَ مُرتكبَ الكبيرة مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وأنه في الآخرة تحت مشيئة الله، لكنه لا يُخلَّد في النار إذا دخل النار.

هذا مُعتقد أهل السنة والجماعة في الفاسق الذي هو مُرتكب الكبيرة، وعلى ذلك فَيُترحَّم عليه.

لكن إذا كان مُجاهرًا بفسقه فلا غَيْبَة له فيما جاهَرَ به؛ ولهذا قال الحسن: “أترغبون عن غِيبَة الفاسق؟! فاذكروه بما فيه حتى يحذره الناس”، بل قال بعض أهل العلم: “إن غِيبَتَه نوعٌ من إنكار المنكر”، إن غِيبة الفاسق المُجاهِرِ بفسقه نوعٌ من إنكار المنكر، كأنك تُنكر هذا المُنكر بلسانك.

فهذه من المواضع التي تجوز فيها الغِيبة:

وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا …………… ………………………

من المواضع الستة التي تجوز فيها الغِيبة.

السؤال: ما أفضلُ عملٍ يُعْمَل للميت؟

الجواب: أفضلُ عملٍ يُعْمَل للميت هو ما ذكره النبي في قوله: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له [32]، فهذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث هي أفضل ما يُعْمَل للميت.

أما الصدقة الجارية فالمقصود بها الوقف، أو العلم الذي يُنْتَفَع به، ولا يلزم من ذلك أن يُلقي درسًا أو مُحاضرةً، فمن العلم الذي يُنْتَفَع به: نشر العلم، فنشر العلم يدخل في ذلك.

وأيضًا الدعاء للميت يصل ثوابه للميت، وينتفع به الميت.

وأيضًا دلَّت السنة على أن العمرة والحجَّ يصل ثوابهما للميت، وأن الصدقة عمومًا يصل ثوابها للميت أيضًا.

هذه كلها يصل ثوابها للميت، وأعظم ما يفعله الحي للميت: الدعاء.

فإذا كان لك قريبٌ ميتٌ، وتريد أن تُحْسِن إليه: ادعُ له كلَّ يومٍ، فينتفع بذلك انتفاعًا عظيمًا، ويُسَرُّ بهذا الدعاء ويَغْتَبِط به؛ ولهذا لما ذَكَر النبي الولد الصالح قال: أو ولدٍ صالحٍ يدعو له، فلم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام إلا الدعاء فقط؛ لعظيم شأن الدعاء، فالدعاء للميت ينتفع به الميت انتفاعًا عظيمًا.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2, ^3 رواه مسلم: 2809.
^4, ^5, ^6, ^7 رواه مسلم: 2810.
^8 رواه النسائي في “السنن الكبرى”: 7440.
^9 رواه أحمد: 1481.
^10, ^11, ^12, ^13, ^14 رواه مسلم: 2811.
^15 رواه البخاري: 2664، ومسلم: 1868.
^16 رواه البخاري: 6018، ومسلم: 47.
^17, ^18 رواه مسلم: 2812.
^19, ^20, ^21 رواه مسلم: 2813.
^22 رواه مسلم: 2203.
^23, ^24 رواه مسلم: 2814.
^25 رواه مسلم: 2815.
^26 رواه البخاري: 555، ومسلم: 632.
^27 رواه أبو داود: 4982، وأحمد: 20591.
^28 رواه مسلم: 653.
^29 رواه أبو داود: 552، وابن ماجه: 792.
^30 رواه أبو داود: 1522، وأحمد: 22119.
^31 رواه البخاري: 1014، ومسلم: 897.
^32 رواه مسلم: 1631.
zh