عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
هذا هو الدرس السبعون في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، الثالث من شهر جمادى الآخرة من عام (1444 هـ).
كنا قد وصلنا إلى باب انشقاق القمر من “صحيح مسلمٍ”، فنستمع أولًا للحديث:
القارئ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
باب انشقاق القمر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب انشقاق القمر
قال: حدثنا عمرٌو الناقد وزهير بن حربٍ قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ، عن أبي مَعمرٍ، عن عبدالله قال: انشق القمر على عهد رسول الله بِشِقَّتَين، فقال رسول الله : اشهدوا [1].
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيبٍ وإسحاق بن إبراهيم جميعًا، عن أبي معاوية، ح، قال: وحدثنا عمر بن حفص بن غِيَاثٍ، قال: حدثنا أبي، كلاهما عن الأعمش، ح، قال: وحدثنا مِنْجاب بن الحارث التميمي -واللفظ له– قال: أخبرنا ابن مُسْهِرٍ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعمرٍ، عن عبدالله بن مسعودٍ ، قال: بينما نحن مع رسول الله بمِنًى إذا انفلق القمر فِلْقتين، فكانت فِلْقةٌ وراء الجبل، وفلقةٌ دونه، فقال لنا رسول الله : اشهدوا [2].
قال: حدثنا عبيدالله بن معاذٍ العَنبري، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمرٍ، عن عبدالله بن مسعودٍ ، قال: انشق القمر على عهد رسول الله فِلقتين، فسَتَر الجبلُ فِلْقةً، وكانت فلقةٌ فوق الجبل، فقال رسول الله : اللهم اشهد [3].
قال: حدثنا عبيدالله بن معاذٍ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي مثل ذلك [4].
قال: وحدَّثنيه بِشْر بن خالدٍ، قال: أخبرنا محمد بن جعفرٍ، ح، قال: وحدثنا محمد بن بَشَّارٍ، قال: حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، كلاهما عن شعبة بإسناد ابن معاذٍ عن شعبة نحو حديثه، غير أن في حديث ابن أبي عديٍّ: فقال: اشهدوا، اشهدوا [5].
قال: حدثني زُهير بن حربٍ، وعبد بن حُميدٍ قالا: حدثنا يونس بن محمدٍ قال: حدثنا شيبان قال: حدثنا قتادة، عن أنسٍ : أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آيةً، فأراهم انشقاق القمر مرتين [6].
قال: وحدثنيه محمد بن رافعٍ قال: حدثنا عبدالرزاق قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، عن أنسٍ ، بمعنى حديث شيبان [7].
وقال: وحدثنا محمد بن المُثَنَّى قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ وأبو داود، ح، قال: وحدثنا ابن بشارٍ قال: حدثنا يحيى بن سعيدٍ ومحمد بن جعفرٍ وأبو داود، كلهم عن شعبة، عن قتادة، عن أنسٍ قال: انشق القمر فرقتين، وفي حديث أبي داود: انشق القمر على عهد رسول الله [8].
قال: حدثنا موسى بن قريشٍ التميمي قال: حدثنا إسحاق بن بكر بن مضر قال: حدثني أبي قال: حدثنا جعفر بن ربيعة، عن عِرَاك بن مالكٍ، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعودٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: إن القمر انشق على زمان رسول الله [9].
هذه الحادثة -حادثة انشقاق القمر- ذكرها ربنا سبحانه في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وهو انشقاقٌ حقيقيٌّ، انشق القمر فلقتين؛ فكان فلقةٌ وراء الجبل، وفلقةٌ دونه.
وهذه الأحاديث -كما ترون- التي ذكرها الإمام مسلمٌ، رواها عبدالله بن مسعودٍ ، وعبدالله بن مسعودٍ ممن أسلم قديمًا؛ يعني: من السابقين الأوائل للإسلام، لكن أيضًا ساقها الإمام مسلمٌ من حديث أنسٍ ، ومعلومٌ أن أنسًا وُلد قبل الهجرة بخمس سنين، ولم يشهد حادثة انشقاق القمر.
وكذلك أيضًا أورد الإمام مسلمٌ هذا الحديث، آخِرَ حديثٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وابنُ عباسٍ لم يكن مولودًا وقت انشقاق القمر؛ فعلى هذا: تكون هذه الأحاديث التي رواها أنسٌ وابن عباسٍ تكون من قسم ماذا؟ المُرسَل، تكون من قسم المرسل، لكن مراسيل الصحابة صحيحةٌ؛ لأن الصحابة كلهم عدولٌ، أما مراسيل غير الصحابة: فضعيفةٌ، الأصل فيها الضعف، لكن مراسيل الصحابة صحيحةٌ.
فابن عباسٍ رضي الله عنهما أكثرُ الأحاديثِ التي رواها عن النبي بواسطة صحابةٍ آخرين؛ لأن النبي لما مات؛ كان عُمْرُ ابنِ عباسٍ ثلاث عشرة سنةً، كان صغيرًا، وابن عباسٍ روى أحاديث كثيرةً، فأكثر الأحاديث التي رواها عن الصحابة عن النبي .
وهذا يسميه العلماء: مرسل الصحابي، فمرسل الصحابي حجةٌ؛ لأن الصحابة كلهم عدولٌ بتعديل الله لهم، فلا يضر أن يروي صحابيٌّ عن صحابيٍّ عن النبي ، بخلاف مراسيل غير الصحابة، فالأصل أنها ضعيفةٌ، لكن مراسيل الصحابة صحيحةٌ.
ولهذا، هذه الحادثة لاحِظ أن الإمام مسلمًا رواها أولًا عن ابن مسعودٍ ، ثم رواها عن أنسٍ ، ثم عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
وهذا يجري على طريقة الإمام مسلمٍ؛ فإنه يبتدئ أولًا بالأحاديث الصحيحة، ثم الأقل منها صحةً، ثم الأقل منها صحةً، لكن كما ذكرت أن حديث أنسٍ وابن عباسٍ يعتبر من مراسيل الصحابة، وهي حجةٌ.
وهذه الحادثة -حادثة انشقاق القمر- من معجزات نبينا محمدٍ ، آيةٌ عظيمةٌ من آيات الله الكونية، أن هذا القمر، هذا الجِرْم السماوي ينشق فلقتين: فلقةٌ من وراء الجبل، وفلقةٌ خلفه، ويراها الناس.
اعتراضات على حادثة انشقاق القمر
فهذه آيةٌ عظيمةٌ من آيات الله تعالى، فهي من آيات النبي ، وقد رواها عددٌ من الصحابة، وأنكر ذلك بعض المبتدعة، وقالوا: إن هذا جِرْمٌ سماويٌّ يجري وَفْق سنن الله تعالى، فكيف ينشق؟!
وهذا اعتراض بالعقل على النص، الله على كل شيءٍ قديرٌ، فكيف يَعترض الإنسان بعقله ما دام أن الحديث صحيحٌ؟! فالحديث رواه البخاري ومسلمٌ، فلا وجه لهذا الاعتراض، الله تعالى إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون.
وقال هؤلاء: إنه لو وقع هذا -أن القمر انشق فلقتين- لنُقل متواترًا، واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة.
ذكر هذا الاعتراض النووي، قال: وأجاب العلماء بأن الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيامٌ غافلون، والأبواب مغلقةٌ، وهم متغطون بثيابهم، فقَلَّ من يتذكر السماء.
ومما هو مشاهَد معتادٌ: أن كسوف القمر وغيرَه من العجائب -مما يحدث في السماء- يقع في الليل ولا يتحدث به إلا الآحاد من الناس؛ فخاصةً في الأزمنة السابقة كان الناس من بعد صلاة العشاء ينامون، ووقع هذا في الليل، ولم يتنبه له كثيرٌ من الناس.
ثم أيضًا: لا يُشترط النقل المتواتر، فكثيرٌ من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام آحادٌ، ونسبة المتواتر للآحاد نسبةٌ قليلةٌ، فأكثر أحاديث السنة من قَبيل الآحاد، وحديث الآحاد إذا جاء بسندٍ صحيحٍ؛ فهو حجةٌ بإجماع العلماء.
فإذنْ لا وجه لهذه الاعتراضات على انشقاق القمر، هذه إنما اعترض بها بعض المبتدعة وبعض الملاحدة، وإلا فأهل السنة على إثبات هذه الآية العظيمة.
وكان هذا الانشقاق للقمر آيةً لما سألت قريشٌ النبي أن يأتيهم بآيةٍ كونيةٍ؛ حصل هذا الانشقاق، فلم يزدهم إلا كفورًا وعتوًّا واستكبارًا؛ كما قال الله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]؛ لأن المانع لهم هو الاستكبار والجحود، فهم يَعرفون الحق؛ لكنهم يجحدونه ويستكبرون عنه.
فكانت هذه الآية العظيمة وقعت في مكة قبل الهجرة بخمس سنين تقريبًا، وانفلق القمر فِلقتين: فلقةٌ وراء الجبل، وفلقةٌ دونه، فقال رسول الله لمن معه من الصحابة: اشهدوا، وفي روايةٍ قال: اللهم اشهد.
وجاء في حديث أنسٍ : أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يُريهم آيةً، فأراهم انشقاق القمر مرتين، فهل معنى هذا: أن القمر انشق مرتين؟ وهذه الرواية رواها مسلمٌ.
وأجاب عن هذا العلماء؛ قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله: هذه الرواية -أن القمر انشق مرتين- غلطٌ من بعض الرواة، وإنما الصواب: أن القمر انشق فِلقتين أو فرقتين، وليس مرتين، فقوله هنا: “مرتين”، هذا وهمٌ من بعض الرواة، وإلا فالقمر لم ينشق إلا مرةً واحدةً، حدث مرةً واحدةً ولم يتكرر؛ فعلى هذا: يكون هذا اللفظ وهمًا من بعض الرواة، وصوابه: “انشق فرقتين”، أو “فلقتين”، وبعض من كَتَب في الإعجاز العلمي ذكر أن آثار هذا الانشقاق لا تزال باديةً إلى الآن، لمَّا صوروا القمر بالمكبرات الحديثة؛ يقولون: إن آثار هذا الانشقاق لا تزال موجودةً وباقيةً، ومن يرجع لكلام من كَتَب في الإعجاز العلمي؛ يجد شيئًا كثيرًا من هذا.
وبكل حالٍ: سواءٌ صح أو لم يصح، يكفينا صحة الحديث عن النبي ، وأيضًا تفسير بعض العلماء لقول الله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، على أن المقصود به هذا الانشقاق، وإن كان بعض المفسرين يرى أن انشقاق القمر المقصود به: عند قيام الساعة، لكن أحد أقوال المفسرين: أن قول الله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، المقصود به هذا الانشقاق الذي وقع في مكة.
كُفر المشركين رغم رؤية انشقاق القمر
وكون هذه الآية الكونية العظيمة تقع ويراها المشركون ولا يؤمنون؛ هذا دليلٌ على تمكن الجحود والاستكبار من نفوس هؤلاء، وأنهم يعرفون الحق ولكن منعهم من ذلك الجحود والاستكبار؛ ولذلك مهما أتاهم النبي بالآيات؛ فلن يؤمنوا.
وكما مر معنا في الدرس السابق: أن أبا جهلٍ رأى الملائكة، ورأى هَوْلًا ونارًا وخندقًا من نارٍ تحجبه عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يؤمن؛ لأن هؤلاء الذين منعهم من الإيمان ليس الجهل، ليس لأنهم يجهلون أنه رسول الله، هم يعرفون أنه رسول الله، ويعرفون أن ما جاء به حقٌّ، وأن الله أرسله، لكن منعهم من ذلك الجحود والاستكبار، وهذا هو الذي منع كفار الأمم السابقة، يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المدبر، ويعرفون أن هذا النبي الذي بُعث فيهم صادقٌ، لكن منعهم من ذلك الجحود والاستكبار، فهم يقولون: كيف نتبع هذا؟! رجلٌ واحدٌ منا نتبعه! أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص:8]؟! لماذا يُلقَى عليه الذكر من بيننا؟! لماذا يكون نبيًّا من بيننا؟! فيحتقرونه، ما نرى معك إلا الذين هم أراذلنا، يحتقرون أيضًا أتباعه، وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡي [هود:27]، فيحملهم الكبر والجحود على عدم قبول الحق وعلى رده، وإلا فإن الله تعالى قد أعطى كل نبيٍّ آياتٍ، وهنا نبينا عليه الصلاة والسلام أعطاه الله هذه الآية العظيمة؛ انشق القمر فلقتين وهم يرونه عيانًا، ومع ذلك لم يزدهم هذا إلا تكذيبًا وجحودًا واستكبارًا.
باب: لا أحد أصبر على أذًى من الله
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله تعالى:
باب: لا أحد أصبر على أذًى من الله
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية وأبو أسامة، عن الأعمش، عن سعيد بن جبيرٍ، عن أبي عبدالرحمن السُّلَمي، عن أبي موسى قال: قال رسول الله : لا أحد أصبر على أذًى يسمعه من الله ؛ إنه يُشرَك به، ويُجعَل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم [10].
قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن نُمَيرٍ وأبو سعيدٍ الأشَجُّ قالا: حدثنا وكيعٌ قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا سعيد بن جبيرٍ، عن أبي عبدالرحمن السُّلَمي، عن أبي موسى ، عن النبي ، بمثله إلا قوله: ويُجعل له الولد، فإنه لم يذكره [11].
قال: وحدثني عبيدالله بن سعيدٍ قال: حدثنا أسامة، عن الأعمش قال: حدثنا سعيد بن جبيرٍ، عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: قال عبدالله بن قيسٍ: قال رسول الله : ما أحدٌ أصبرَ على أذًى يسمعه من الله تعالى؛ إنهم يجعلون له نِدًّا، ويجعلون له ولدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم [12]
في هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: لا أحد أصبر على أذًى يسمعه من الله؛ إنه يُشرَك به، ويُجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم، فالله يصبر على الأذى الذي يسمعه من بعض عباده، مع أنه لو أراد؛ لأهلكهم وعذبهم، إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ [يس:82]، بل لو أراد الله ؛ لأذهب هذا الكون كلَّه، السماوات والأرض، وكل هذا الكون بكلمة (كن)، وأنشأ كونًا آخر بكلمة (كن) ، فهو على كل شيءٍ قديرٌ، عنده جل وعلا طلاقة القدرة، على كل شيءٍ قديرٌ، لكنه حكيمٌ عليمٌ، أحكم الحاكمين، وهو حليمٌ جل وعلا، وأيضًا كما جاء في هذا الحديث: أن الله تعالى صبورٌ جل وعلا، لا أحد أصبر من الله سبحانه.
وصفة الصبر قريبةٌ من صفة الحلم، إلا أن الفرق أن المذنب لا يأمن من العقوبة في صفة الصبر كما يأمنها في صفة الحلم.
من فوائد حديث: لا أحد أصبر على أذًى يسمعه من الله
- أولًا: إثبات صفة الصبر لله على الوجه اللائق بالله سبحانه، فيوصف الله تعالى بالصبر، ولكن صبر الله ليس كصبر المخلوقين؛ فإن صبر المخلوق يعني: حبس النفس عن الجزع، أما صبر الله تعالى: فهو صبرٌ على الوجه اللائق بالله سبحانه، ليس كصبر المخلوق، ويظهر أثره في تأخير أخذ المؤاخذة عمن استحقها.
وبعض الشراح -ومنهم النووي- قال: إن معنى: لا أحد أصبر على الله، يعني: أن الله واسع الحلم، ففسر الصبر بالحلم، وهذا غير صحيحٍ، بل الصبر يختلف عن الحلم، وما المانع من أن نصف الله تعالى بالصبر؟ أن نثبت لله صفة الصبر، لكن بعض الشراح -وكثيرٌ منهم من الأشاعرة- يقولون: لو أثبتنا هذه الصفات لله؛ لكان في هذا مشابهةٌ للمخلوقين، وهذا غير صحيحٍ؛ ألسنا نثبت أن الله تعالى له سمعٌ ليس كسمع المخلوقين، وله بصرٌ ليس كبصر المخلوقين، وله ذاتٌ ليست كذات المخلوقين؛ وأيضًا كذلك هذه الصفات؛ ولذلك القول في بعض الصفات كالقول في بعض، والقول في الصفات كالقول في الذات، فالأشاعرة مثلًا يثبتون لله سبع صفاتٍ، ما الفرق بين هذه الصفات السبع، وبين غيرها من الصفات؟ جميع الفِرَق تثبت أن لله ذاتًا، طيب، القول في الصفات كالقول في الذات، إذا قلت: إن لله ذاتًا ليست كذات المخلوقين؛ فنقول: لله صفاتٌ ليست كصفات المخلوقين.
فإذنْ الصواب عند أهل السنة: إثبات صفة الصبر لله ، فيوصف الله تعالى بالصبر، وبأنه صابرٌ، لكن هل من أسماء الله تعالى: الصبور؟
الجواب: ليس من أسماء الله تعالى الصبور، ولا الصابر؛ وذلك لأن أسماء الله توقيفيةٌ، ولم يرد دليلٌ من كتاب الله ولا من سنة رسول الله يدل على أن مِن أسماء الله: الصابر، أو الصبور، والحديث الوارد في “الترمذي” [13]، حديثٌ ضعيفٌ؛ وعلى هذا نقول: إنه لا يصح أن يسمَّى الله بأنه الصبور أو الصابر، لكن يوصف الله تعالى بالصبر، ويوصف بأنه صابرٌ، وباب الإخبار أوسع من باب الإنشاء؛ وعلى هذا: هل يصح أن يقال: عبدالصبور أو عبدالصابر؟ لا يصح، فينبغي عدم التسمية بعبدالصبور أو عبدالصابر؛ لأن الصبور والصابر ليسا من أسماء الله ، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ والشيخ محمد ابن عثيمين، رحمهما الله تعالى، وهو المختار عند كثيرٍ من المحققين: أن الصبور والصابر ليسا من أسماء الله ، وإن كان الله تعالى يوصف بذلك، ولكن -كما ذكرنا- باب الإخبار أوسع من باب الإنشاء.
- وأيضًا من فوائد هذا الحديث: أن الصبر على تحمل الأذى محمودٌ، وأن ترك الانتقام ممدوحٌ؛ ولهذا كان جزاء الصبر غير محصورٍ؛ فينبغي للإنسان عندما يأتيه أذًى من أناسٍ أن يصبر، وألا يجزع، وألا يبادر بالانتقام، وإنما يصبر ويتحمل.
فالله سبحانه.. الله صبورٌ، يسمع من يشرك به، ومن يجعل له الولد، ومن يصفه بالصفات الباطلة، ومع ذلك يعافيهم ويرزقهم؛ فلا أحد أصبر على أذًى يسمعه من الله ، وهذا يدل على فضل الصبر، وفضل التحمل، وترك الانتقام.
فالإنسان في حياته، وفي معاملته مع الآخرين، قد يجد أذًى من بعض الناس، وقد يجد من بعض السفهاء، ويجد من بعض الحاسدين، ويجد من بعض الناس أذًى، والمطلوب أن يصبر، وأن يتقي الله سبحانه؛ كما قال : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].
فأرشد الله تعالى إلى الصبر والتقوى، هذا هو المطلوب عندما يجد الإنسان الأذى؛ أن يصبر، وأن يتقي الله ، وستكون العاقبة له.
- وأيضًا من فوائد هذا الحديث: دلَّ هذا الحديث على عظيم فضل الله وكرمه وصَفْحه، وفي تأخير المعاجلة بالعذاب، وإدرار الرزق على هؤلاء الذين يؤذون الله، ومع ذلك يعافيهم ويرزقهم، وهم يؤذون الله بالشرك، ويؤذون الله تعالى بنسبة الولد إليه، ومع ذلك يعافيهم ويرزقهم.
وهذا يدل على عظيم إحسانه لعباده جل وعلا، وعظيم كرمه، وعظيم فضله ورحمته وحلمه وعفوه جل وعلا.
باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله تعالى:
باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا
قال: حدثنا عبيدالله بن معاذٍ العنبري قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة، عن أبي عِمران الجَوْني، عن أنس بن مالكٍ ، عن النبي قال: يقول الله تبارك وتعالى لِأَهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها؛ أكنت مفتديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: ألا تشرك -أحسبه قال: ولا أدخلك النار- فأَبَيْتَ إلا الشرك [14].
قال: حدَّثَناه محمد بن بشارٍ قال: حدثنا محمدٌ -يعني ابن جعفرٍ- قال: حدثنا شعبة، عن أبي عمران قال: سمعت أنس بن مالكٍ يحدث عن النبي بمثله، إلا قوله: ولا أدخلك النار، فإنه لم يذكره [15].
قال: حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن المُثَنَّى وابن بشارٍ -قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا- معاذ بن هشامٍ قال: حدثنا أبي، عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالكٍ أن النبي قال: يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا؛ أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سُئلتَ أيسر من ذلك [16].
قال: وحدثنا عبد بن حُميدٍ قال: حدثنا رَوْح بن عُبَادة، ح، قال: وحدثني عمرو بن زُرَارة قال: أخبرنا عبدالوهاب -يعني ابن عطاءٍ- كلاهما عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي بمثله، غير أنه قال: فيقال له: كذبت، قد سُئلتَ ما هو أيسر من ذلك [17].
يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها؛ أكنت مفتديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: ألا تشرك ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك.
أَخْذُ الميثاق على بني آدم وهم في صلبه
هو يشير بهذا إلى قول الله : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172].
وهذا إنما كان في الذَّرِّ لمَّا كان بنو آدم في صلبه؛ ولهذا قال: وأنت في صلب آدم، فأخذ الله جميع بني آدم وهم في صلبه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، وهذا الإشهاد وقع قَطعًا؛ لأن الله أخبر به: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].
فإن قال قائلٌ: إنني لا أتذكر هذا الإشهاد، فنقول: هل تتذكر لما كنت في بطن أمك؟ وهل تتذكر وقت ولادتك؟ بل هل تتذكر أيام طفولتك لما كنت في السنة الأولى والثانية والثالثة؟ ومع ذلك أنت مصدقٌ بذلك، مصدقٌ بأن أمك قد حملتك تسعة أشهرٍ وولدتك، وأنك كنت في سن الطفولة في السنة الأولى والثانية والثالثة، وربما الرابعة أيضًا، ولا تذكر من هذا شيئًا، ومع ذلك أنت مصدقٌ به؛ لأنه أخبرك بذلك الثقات وتواتر؛ فهذا من باب أولى، الذي أخبرنا بذلك هو ربنا سبحانه، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]؟!
فهذا الإشهاد قد وقع قطعًا، أخذ الله بني آدم كلهم في الذر وهم في صلب آدم، وأشهدهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]؛ ولهذا فإن الإنسان مفطورٌ على معرفة الله وعلى وحدانيته؛ ولهذا فهذه الفطرة تظهر عند الشدائد؛ ولما قيل لأحد السلف: إن فلانًا أقام ألف دليلٍ على وجود الله، قال: لا حاجة لألف دليلٍ، دليلٌ واحدٌ يكفي، قالوا: وما هو؟ قال: لو كنتَ تمشي وحدك في الصحراء، ثم وقعت في بئرٍ وليس عندك أحدٌ يساعدك أو ينقذك، ماذا تقول؟ تقول: يا الله، حتى الملحد الذي ينكر وجود الله، لو وقع في بئرٍ في صحراء وليس عنده أحدٌ من البشر، سيتجه مباشرةً إلى الله؛ لأن هذه الفطرة تظهر عند الشدائد، فالإنسان مفطورٌ على معرفة الله وعلى وحدانية الله سبحانه، لكن هذه الفطرة تغطيها الرغبات والشهوات وما يحصل من الإنسان، لكن عندما تأتي الشدائد؛ تظهر هذه الفطرة.
ولهذا نجد أن الأمم السابقة: قوم نوحٍ وعادٍ وثمودٍ، والأمم السابقة كلها، هل كانوا ينكرون وجود الله؟ ما كانوا ينكرون وجود الله، يُقِرون بأن الله الخالق الرازق المدبر لهذا الكون؛ لأن نفوس البشر مفطورةٌ على معرفة الخالق، وإنما كان عندهم انحرافٌ فقط، انحراف في العقيدة؛ جعلوا بينهم وبين الله وسائط، وهي هذه الأصنام، وقالوا: نريد هذه الأصنام تشفع لنا عند الله، هذا هو شركهم؛ ولهذا لم يرسل الله الرسل لتعريف الناس بوجود الله ؛ لأن الناس يعرفون الله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، لكنه أرسل الرسل لأجل دعوة الناس إلى إخلاص الدين لله وتحقيق التوحيد.
فيقول الله تبارك وتعالى لِأهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها؛ أكنت مفتديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت بصلب آدم: ألا تشرك ولا أدخلك النار، لما كان الناس في الذَّرِّ وخاطبهم الله وهم في صلب آدم ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يدخلهم النار، قال: فأبيتَ إلا الشرك، وفي الرواية الأخرى قال: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا؛ أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سُئلت أيسر من ذلك.
ومعنى هذا الحديث: أن الله قد أخذ على بني آدم في صلب أبيهم آدم العهد والميثاق: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، فمن وفَّى به بعد وجوده في الدنيا؛ فهو مؤمنٌ، ومن لم يوفِّ به؛ فهو كافرٌ.
فمعنى الحديث: أردت منك حين أخذتُ الميثاق فأبيتَ -لما خرجتَ إلى الدنيا- إلا الشرك، هذا هو معنى الحديث.
فوائد من حديث أَخْذِ الميثاق على بني آدم وهم في صلب آدم
- وقد دل هذا الحديث على إثبات أن الله تعالى أخذ العهد والميثاق على بني آدم كلهم، وهم في صلب أبيهم آدم ، وهذا قد دلت له الآية الكريمة، فمنهم من وفَّى بعده، ومنهم من عصى وتمرد.
- وأيضًا من فوائد هذا الحديث: أن أهون أهل النار عذابًا تَصغُر الدنيا في عينيه أمام هول ما يلاقي، حتى إنه مستعدٌّ لأن يفتدي بالدنيا كلها في سبيل نجاته من النار، مع أنه أهون أهل النار عذابًا، فكيف بمن اشتد عذابه؟! وهذا يدل على حقارة الدنيا، فأهون أهل النار عذابًا يريد أن يفتدي بالدنيا كلها مقابل خلاصه من النار، لو كانت لك الدنيا وما فيها، يعني: لو افترض افتراضًا: أن لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتديًا بها؟ فيقول: نعم؛ وهذا يدل على حقارة الدنيا، وأن الدنيا تصغر أمام الإنسان يوم القيامة، حتى إنه يريد أن يفتدي بكل شيءٍ فيها، حتى لو كان يملك الدنيا وما فيها، يريد أن يفتدي بها في سبيل خلاصه من عذاب الله .
- وأيضًا من فوائد هذا الحديث: دلَّ قوله: قد أردت منك أهون من ذلك، على إثبات الإرادة الشرعية.
أقسام الإرادة
والإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادةٍ كونيةٍ، وإرادةٍ شرعيةٍ.
- أما الإرادة الكونية: فهي بمعنى المشيئة؛ كما في قول الله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وهي لا بد من تحققها، إذا أراد الله شيئًا إرادةً كونيةً؛ فلا بد من تحققه.
- أما الإرادة الشرعية: فهي بمعنى المحبة والرضا، فهي متعلقةٌ بما يحبه الله ويرضاه، وقد تتحقق وقد لا تتحقق، فالله تعالى يريد الإيمان من الكافر، وقد لا يؤمن الكافر، ومن ذلك قول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
فإذنْ الإرادة الكونية بمعنى المشيئة، ولا بد من تحققها.
أما الإرادة الشرعية: فهي بمعنى المحبة، وهذه قد تتحقق، وقد لا تتحقق، فالله يحب من عباده أن يؤمنوا وأن يوحدوا وأن يتوبوا، وأن الكافر يؤمن، لكن قد لا تتحقق؛ قد لا يؤمن الكافر، فهذه الإرادة الشرعية.
أما الإرادة الكونية: فهذه لا بد من أن تتحقق، فإذا أراد الله تعالى شيئًا؛ فإنما يقول له: كن، فيكون، المقصود به: الإرادة الكونية.
فالعلماء إذنْ يفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية.
- وأيضًا من فوائد هذا الحديث: إثبات صفة الكلام لله سبحانه، فإن الله تعالى يقول لِأهون أهل النار عذابًا، يخاطبه ويكلمه، وأهل السنة والجماعة على إثبات صفة الكلام لله ، وأن الله يكلم من يشاء بما يشاء.
حكم قول: يقول الله تعالى كذا
بقي فقط فائدةٌ أشار إليها النووي، وهي جواز أن يقول الإنسان: الله يقول كذا؛ لقوله : يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابًا..، وهذا فيه ردٌّ على من منع ذلك؛ فقد أنكره بعض السلف وقالوا: يكره أن يقال: إن الله يقول كذا، وإنما يقال: قال الله كذا.
ولكن هذا غير صحيحٍ، ففي هذا الحديث قال: يقول الله، بل ورد في القرآن الكريم: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ [الأحزاب:4].
فلا بأس أن يؤتى بالفعل المضارع أو بالفعل الماضي فتقول: قال الله، وتقول: يقول الله، كل ذلك جائزٌ.
أما قول من قال: إنه لا يصح أن تقول: يقول الله، بالفعل المضارع؛ فهذا قولٌ لا دليل عليه، والأدلة على خلافه، ففي الآية الكريمة: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وفي هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: يقول الله تبارك وتعالى لِأهون أهل النار؛ فعلى هذا؛ لا بأس أن تقول: قال الله، وأن تقول: يقول الله، كلاهما جائزٌ ولا بأس به.
حَشْرُ الكافر على وجهه
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:
باب: يُحشر الكافر على وجهه
قال: حدثني زُهير بن حربٍ، وعبد بن حميدٍ -واللفظ لزهيرٍ- قالا: حدثنا يونس بن محمدٍ قال: حدثنا شيبان، عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالكٍ : أن رجلًا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرًا على أن يُمشيه على وجهه يوم القيامة؟!، قال قتادة: بلى وعزة ربنا [18].
الحشر حشران، كما قال ابن القيم وغيره:
- حشر الناس من قبورهم إلى المحشر.
- وحشر الناس من المحشر إلى النار.
والمراد في هذا الحديث: الثاني؛ لقوله جل وعلا: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ [الفرقان:34]، وهذه الآية تحدد أن المقصود: هو الحشر الثاني؛ حشر أهل النار من المحشر إلى النار.
ودل هذا الحديث على أن الكافر يوم القيامة يُحشر على وجهه إلى النار، نسأل الله العافية!
ودلَّت الآية الكريمة، وهي قول الله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97]، فالكافر إذا سِيقَ إلى جهنم يساق يمشي على وجهه أعمى وأصم وأبكم، وسئل النبي عليه الصلاة والسلام: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!، الذي أمشاه على رجليه قادرٌ على أن يجعله يمشي على وجهه، الذي جعله يمشي على رجليه قادرٌ على أن يجعله يمشي على وجهه.
الحكمة من حشر الكافر على وجهه
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: والحكمة في حشر الكافر على وجهه: أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا بأن يُسحَب على وجهه في القيامة؛ إظهارًا لهوانه، بحيث صار وجهُه مكانَ يده ورجله في التَّوَقِّي من المؤذيات، فيمشي على وجهه، ويُحشَر على وجهه إلى جهنم، أعمى وأصم وأبكم، وهذا لأجل إذلاله؛ لأنه من أهل النار، وهذا المعنى قد وردت الإشارة إليه في موضعين في القرآن الكريم:
- الموضع الأول: في سورة الإسراء، في قول الله سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97].
- والموضع الثاني: في سورة الفرقان: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ [الفرقان:34].
فأخبر الله تعالى بأن الكفار يُحشَرون يوم القيامة على وجوههم عميًا وصمًّا وبكمًا، والله على كل شيءٍ قديرٌ.
وجاء في رواية الحاكم من حديث أنسٍ : أن النبي قال: يُحشر الناس على ثلاثة أصنافٍ: صنفٌ على الدواب، وصنفٌ على أقدامهم، وصنفٌ على وجوههم [19].
ويؤخذ من مجموع الأحاديث: أن المقربين يحشرون ركبانًا، يكرمون راكبين عندما يساقون إلى الجنة، وهم يَعْبرون بعد ذلك الصراط إلى الجنة، وأن مَن دونهم مِن المسلمين يحشرون على أقدامهم، وأما الكفار فيحشرون على وجوههم إلى جهنم عميًا وبكمًا وصمًّا.
وأحوال الآخرة -أيها الإخوة- تختلف عن أحوال الدنيا، تختلف اختلافًا كبيرًا؛ ولذلك ربما يكون بعض ما نذكره لا يتصوره الإنسان تصورًا تامًّا؛ لأن أحوال الآخرة مختلفةٌ؛ ولأن يوم القيامة يومٌ طويلٌ: خمسون ألف سنةٍ، فللإنسان فيه أحوالٌ، لكن نؤمن بجميع ما ذكره الله وذكره رسوله ، وأنه حقٌّ.
فهذا الحشر المذكور في هذا الحديث للكافر، الذي يظهر والله أعلم: حَشْرٌ من المحشر إلى جهنم، وأن الكافر يُحشر على وجهه أعمى وأصم وأبكم، حتى يُلقى في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية!
صَبْغُ أنعَمِ أهل الدنيا في النار، وصبغ أشدهم بؤسًا في الجنة
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:
باب صَبْغِ أَنْعَمِ أهل الدنيا في النار، وصبغِ أشدهم بؤسًا في الجنة
قال: حدثنا عمرٌو الناقد قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابتٍ البُنَاني، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصبَغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويُؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيُصبَغ صبغةً في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط [20].
في هذا الحديث العظيم يخبر النبي أنه يؤتى يوم القيامة برجلين:
الرجل الأول: أَنْعَمِ أهل الدنيا من أهل النار، أنعم أهل الدنيا؛ أكثر أهل الدنيا تنعمًا ورفاهيةً منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة، تصوَّر هذا الإنسان المنَعَّم المُترَف، فيُصبَغ في النار صبغةً؛ يعني: يُغمَسُ، وهو من أهل النار، فيُصبَغ في النار صبغةً ويغمس فيها، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا، والله يا رب، ويحلف، لا والله يا رب، أمام عذاب جهنم يَنسى كلَّ نعيمٍ وكل رفاهيةٍ مرت به في الدنيا، ينسى ذلك مقارنةً بالعذاب الشديد، مجرد أنه فقط صُبِغ في النارِ صبغةً نسي جميع ما مر به من نعيمٍ في الدنيا، ويقول: لا والله يا رب، ما رأيتُ خيرًا قط، ولا مر بي نعيمٌ قط، وهذا هو أكثر أهل الدنيا تنعمًا ورفاهية، فما بالك بغيره؟!
قال عليه الصلاة والسلام: ويؤتى وهذا: الرجل الثاني يؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة؛ أشد البشر بؤسًا منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة، ليس في البشر أكثر بؤسًا منه، إنسانٌ بئيسٌ، عنده مصائب، وعنده مِحَنٌ، وعنده..، مرَّ به بؤسٌ شديدٌ، أشد البشر بؤسًا، لكنه من أهل الجنة، فيُصبَغ في الجنة صبغةً، يعني: يُغمَس فيها، وبمجرد أن يرى نعيم الجنة؛ ينسى كل بؤسٍ مر به في الدنيا، ويقال له: يا ابن آدم، هل مر بك بؤسٌ قط؟ هل رأيت شدةً قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويحلف، ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط، فإذا كان أشد الناس بؤسًا في الدنيا، فما بالك بغيره؟!
فالإنسان يوم القيامة عندما يرى أهوال يوم القيامة؛ ينسى كل نعيمٍ وكل بؤسٍ مر به في الدنيا، يكون ذلك في عالم النسيان، حتى إن الأشد بؤسًا عندما يُصبغ في الجنة صَبغةً، ويُسأل: هل مر بك بؤسٌ؟ فيحلف بالله العظيم ويقول: والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط، مقارنة بالنعيم الذي لقيه.
وأشدُّ البشر رفاهيةً وتنعمًا، بمجرد أنه يُصبغ في النار صبغةً، ويُسأل: هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت نعيمًا قط، فينسى الإنسان كل بؤسٍ وكل نعيمٍ مر به في الدنيا، وهذا يدل على حقارة الدنيا، وعلى أنها لا تستحق من الإنسان كل هذا العناء والنصب، والشقاء والتعب، والهم والغم.
ونحن الآن -معشر الموجودين في هذا المسجد- إذا نظرنا إلى ما مضى من حياتنا؛ كيف ننظر إليه؟ نرى كأنه حلمٌ، وأيضًا نسينا ما مرَّ بنا من أوقات شدةٍ أو أوقات تنعمٍ، هذا ونحن الآن في الدنيا نسينا ما مر بنا؛ فكيف إذا لاقى الإنسان أهوال يوم القيامة؟!
ولذلك لا يبقى للإنسان -أيها الإخوة- إلا العمل الصالح، وإلا فهَبْ أن رجلًا نال جميع متع الدنيا، جميع متع الدنيا نالها، ثم ماذا؟ سيلاقي أهوال يوم القيامة، إذا لقي أهوال يوم القيامة؛ نسي كل متعةٍ مرت به في هذه الدنيا، وكل نعيمٍ وكل رفاهيةٍ.
ولذلك: فعلى المسلم أن يحرص على العمل الصالح؛ فإنه الكنز الحقيقي الذي يغتبط به الإنسان في حياته وبعد مماته: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46].
قال ابن الجوزي رحمه الله: هذا الحديث يحث على مراعاة العواقب؛ فإن التعب إذا أعقب راحةً؛ هان، والراحة إذا أثمرت النصب؛ فليست راحةً؛ فالعاقل من نظر في المآل، لا في عاجل الحال.
والإنسان إذا رأى أهوال يوم القيامة؛ تنكمش سنوات العمر التي عاشها في الدنيا، حتى إنه إذا سُئل يوم القيامة: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:112-113]، الذي عاش عمرًا طويلًا يقول: لبثنا يومًا أو بعض يومٍ، يرى أن عمره في الدنيا قصيرٌ جدًّا مقارنةً بالآخرة، ويقول: يا رب، ما لبثتُ إلا يومًا أو بعض يومٍ، واسأل العادِّينَ؛ يعني يقول هذا وهو صادقٌ، وهو جازِمٌ بذلك؛ لأن سنوات العمر تنكمش حتى تصبح يومًا أو بعض يومٍ؛ إذا رأى الإنسان أهوال يوم القيامة تنكمش سنوات العمر حتى تصبح كأنها يومٌ أو بعض يومٍ، بل حتى تصبح كأنها عشيةً أو ضحاها.
فعلى الإنسان أن يستعد لحياة الخلود بالأعمال الصالحة؛ فإن حياة الخلود هي التي تكون فيها السعادة الأبدية، أو الشقاوة الأبدية، وما بعد الموت من دارٍ إلا الجنة أو النار.
والحياة الحقيقية: هي الحياة التي تكون بعد الموت؛ ولهذا فعندما يرى الإنسان أهوال يوم القيامة يقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، فالحياة في الدنيا، أليست حياةً؟! لا يعتبرها حياةً مقارنةً بالآخرة؛ إذا لاقى الإنسان أهوال يوم القيامة؛ لا يعتبر حياته في الدنيا حياةً، ويقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي؛ لأنه يرى أن الحياة الحقيقية هي حياة الخلود، هي الحياة التي تكون في الدار الآخرة، هذه هي الحياة الحقيقية، فيقول حينئذٍ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]؛ ولهذا سمَّى الله اليوم الآخر بيوم الحسرة؛ فالإنسان يتحسر: كيف مضى عمري وما استفدتُ منه؟! كيف مضى عمري وما اغتنمته في العمل الصالح؟! كيف مضى عمري في غفلةٍ وفي لهوٍ؟ كيف ذَهَبَتْ عليَّ الليالي والأيام، والشهور والأعوام، ولم أتزود بزاد التقوى؟! فيتحسر!
فسمَّى الله يوم القيامة بيوم الحسرة، وسماه بيوم التغابن: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9]؛ لأن الإنسان عندما يُبعث يوم القيامة، ويرى أناسًا معهم حسناتٌ عظيمةٌ كأمثال الجبال، وهو قد ضاع عمره في لهوٍ وفي غفلةٍ؛ يصاب بالغبن الحقيقي، ليس الغبن كالغبن في الدنيا، الذي يكون غبنًا على بيعٍ أو شراءٍ، والذي سيذكر فيه الفقهاء خيار الغبن، ليس هذا المقصود، ليس هذا هو الغبن الحقيقي، إنما الغبن الحقيقي هو الذي يكون يوم القيامة، عندما يرى الإنسان أناسًا اغتنموا أعمارهم، وأتوا بحسناتٍ عظيمةٍ كالجبال، وهو قد ضاع عمره في لهوٍ وفي غفلةٍ، فيصاب بالغبن الحقيقي؛ ولذلك سمَّى الله يوم القيامة: يوم التغابن.
فعلى المسلم أن يستحضر هذه المعاني، وأن يستعد لحياة الخلود بالأعمال الصالحة، وأن يتزود بزاد التقوى، وأن يضع هذا الحديث العظيم نُصْبَ عينيه، وكيف أن هذين الرجلين: أشد الناس رفاهيةً وتنعمًا وترفًا في الدنيا، ينسى كل نعيمٍ مر به في الدنيا، يحلف ويقول: والله يا رب ما مر بي نعيمٌ قط، وأن أشد الناس وأشد البشر بؤسًا، ينسى كل بؤسٍ وشدةٍ مرت به في الدنيا، حتى إنه ليحلف على ذلك ويقول: والله يا رب ما مر بي بؤسٌ قط.
وهذا يدل على حقارة الدنيا، وعلى أنها قصيرةٌ، وأن الإنسان ينسى ما مر به فيها من بؤسٍ أو من نعيمٍ.
المؤمن يُجزى بحسناته في الدنيا والآخرة، والكافر تعجل له حسناته في الدنيا
القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:
باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزُهير بن حربٍ -واللفظ لزهيرٍ- قالا: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا هَمَّام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله : إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً؛ يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة؛ لم تكن له حسنةٌ يُجزَى بها [21].
قال: حدثنا عاصم بن النَّضْر التَّيْمي قال: حدثنا مُعتَمِرٌ قال: سمعت أبي قال: حدثنا قتادة، عن أنس بن مالكٍ : أنه حدَّث عن رسول الله : إن الكافر إذا عمل حسنةً أُطعِم بها طُعْمةً من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويُعْقِبه رزقًا في الدنيا على طاعته [22].
قال: حدثنا محمد بن عبدالله الرُّزِّيُّ قال: أخبرنا عبدالوهاب بن عطاءٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أنسٍ ، عن النبي ، بمعنى حديثهما [23].
في هذا الحديث: أخبر النبي بأن المؤمن يُعطَى بالحسنة في الدنيا، ويُجزَى عليها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى للآخرة لم يكن له حسنةٌ يُجزَى بها.
هل يثاب الكافر على الحسنات التي يعملها؟
وقد أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة، مهما عمل من الحسنات؛ كما قال الله سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
وفي هذا الحديث: أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الكافر يُجزَى على ما عمل به من حسناتٍ، يُجزَى على ذلك في الدنيا؛ والمقصود: ما عمله من الحسنات التي لا تفتقر صحتها إلى النية؛ كصلة الرحم والصدقة والضيافة، والمساعدة للآخرين، ونحو ذلك، فهذه لا تفتقر إلى نيةٍ، فهذه يُجزَى عليها الكافر في الدنيا بأن يزاد له في رزقه، ونحو ذلك، وتسهل أموره، فيُجزَى عليها في الدنيا.
وأما في الآخرة: فليس له شيءٌ، وهذا بالإجماع، قال النووي: أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة، ولا يجازى فيها بشيءٍ من عمله في الدنيا؛ لقول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، لكن من تمام عدل الله أن الكافر يُجزَى على الحسنات التي لا تفتقر إلى نيةٍ، يُجزى عليها في الدنيا.
وأما المؤمن: فإنه يُجزَى على هذه الحسنات في الدنيا وفي الآخرة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً؛ يُعطَى بها في الدنيا، ويُجزَى بها في الآخرة [24].
أما في الآخرة: فثواب الله تعالى للمؤمن يكون بالجنة، التي هي دار النعيم، والتي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر [25].
وأما الجزاء الذي يكون للمؤمن في الدنيا: فيكون بتيسير الأمور له، وبتوسيع الرزق له، ونحو ذلك، فأثر الحسنة على المؤمن ظاهرٌ وواقعٌ ومُشاهَدٌ؛ فإن الإنسان يرى آثار الحسنات في توسيع رزقه، وفي تيسير أموره؛ والله تعالى يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وهذا من تمام عدل الله .
وقوله : إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً، الله عدلٌ، وقد حرَّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرمًا.
وهذا الحديث يدل على عدل الله سبحانه، وعلى عظيم فضله؛ حيث لا يظلم أحدًا من حسناته التي عمل بها؛ لكن المؤمن يُجزَى عليها في الدنيا والآخرة، يطعم بها في الدنيا طعمةً، ولكن جزاء التَّوفِيَة إنما يكون في الآخرة.
وأما الكافر فالحسنات التي لا تفتقر إلى نيةٍ يُجزَى عليها في الدنيا، وأما في الآخرة فكل أعماله تكون هباءً منثورًا، وكذلك أيضًا العبادات التي تفتقر لنيةٍ؛ لا تُقبَل من الكافر؛ فلو أن الكافر صلى أو صام أو حج: لا تُقبَل منه، ولا يجزى عليها لا في الدنيا ولا في الآخرة.
لكن المقصود: الطاعات التي لا تفتقر لنيةٍ؛ مثلما ذكرنا: من الصدقة، ومساعدة الآخرين، وصلة الرحم، والمعروف، ونحو ذلك، فهذه هي التي يُجزَى عليها الكافر في الدنيا.
وهذا أمرٌ أيضًا واقعٌ ومُشاهَدٌ؛ ولذلك تجد أن الكفار يرون أثر ذلك، ويبادرون للأعمال التطوعية، ويتنافسون عليها؛ لأنهم يرون أثر ذلك عليهم في توسيع أرزاقهم، وفي تيسير أمورهم، فهم يجدون ذلك ويعرفونه؛ ولذلك يتسابقون إليه، وينشطون في العمل التطوعي؛ رجاءَ أن تحصل لهم هذه الأمور؛ من التيسير، وبسط الرزق، ونحو ذلك.
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب: مثل المؤمن كالزرع..
ونجيب الآن عما تيسر من الأسئلة، ونبدأ بالأسئلة المكتوبة أولًا:
الأسئلة
السؤال: ما حكم استخدام دواءٍ مُصنَّعٍ في السعودية يحتوي على جيلاتينٍ بقريٍّ مستوردٍ، ولا نعلم هل ذُكِّيَ ذكاةً شرعيةً أم لا؟
الجواب: لا بأس به، وجميع ما يدخل للمملكة يدخل تحت إشراف هيئة الغذاء والدواء، وجانب الضبط الشرعي عندها عالٍ، فلا يدخل شيءٌ إلا تحت مراقبةٍ وتحت إشرافٍ، ولا يدخل شيءٌ فيه مخالفاتٌ شرعيةٌ.
ولذلك فما دام أن السائل يسأل عن هذا الدواء في المملكة؛ فنقول: إنه لا بأس به، ثم أيضًا هو مُصنَّعٌ من جيلاتينٍ بقريٍّ، ليس من خنزيرٍ وليس من أمرٍ محرمٍ؛ جيلاتينٌ بقريٌّ، والأصل في ذلك الحل والإباحة.
وأما قول الأخ الكريم: لا نعلم هل ذُكِّيَ ذكاةً شرعيةً؟ هذا الجيلاتين يكون: إما من بلاد المسلمين، أو بلاد أهل الكتاب، وهذا مُلاحَظٌ عند الاستيراد، وطعامُ أهل الكتاب وذبائح أهل الكتاب حِلٌّ للمسلمين.
السؤال: لماذا أورد المصنف باب انشقاق القمر في كتاب صفة القيامة والجنة والنار؟
الجواب: لعل ذلك إشارةٌ إلى أن انشقاق القمر يكون من يوم القيامة، وكذلك أيضًا وَقَع في الدنيا، ويوم القيامة كذلك؛ كما قال الله تعالى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ [القيامة:8]، فهو كما وقع في الدنيا آيةً لنبينا محمدٍ ، فهو سيكون يوم القيامة، وسيُخسَف القمر.
السؤال: أخذتُ مالًا من أبي دون علمه، وأنا أحاول إرجاعه على دفعاتٍ، ولم أخبره بذلك؟
الجواب: أولًا إذا كان ليس عندك شيءٌ؛ فواجب على أبيك أن ينفق عليك، أو كان عندك مالٌ لا يكفي، وأبوك قادرٌ؛ فيجب على أبيك أن ينفق عليك، فإذا قصَّر أبوك في النفقة؛ يجوز لك أن تأخذ منه بغير علمه، ويجوز كذلك للزوجة أن تأخذ من مال زوجها بغير علمه، لكن بما يكفيها وأولادها بالمعروف.
وقد جاء في “الصحيحين”: أن امرأة أبي سفيان أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ، لا يُعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف [26].
فإذا قصَّر الزوج في النفقة على زوجته وأولاده؛ فالمطلوب أولًا: أن يُطلَب منه النفقة، لكن إذا كان بخيلًا شحيحًا يأبى أن يعطيهم؛ جاز لهم الأخذ منه بغير علمه، لكن بالمعروف، يعني: لا يبالغون في ذلك، وإنما يأخذون بقدر الكفاية، هذا سواءٌ كان للزوجة أو كان للأولاد.
وعلى ذلك نقول لهذا الابن الذي أخذ من أبيه: إذا لم يكن عندك شيءٌ، وأبوك قادرٌ: فيجوز لك أن تأخذ من مال أبيك ولو بغير علمه، أما لو كنت غير محتاجٍ، وأخذت منه وأنت غير محتاجٍ؛ فالأولى أنك تُرجِع هذا المبلغ، حتى لو أرجعته على دفعاتٍ، أو بأيةٍ طريقةٍ ترجعه له، لكن إذا كنت محتاجًا؛ فليس عليك شيءٌ، أما إذا لم تكن محتاجًا فتُرجعه له بأية طريقةٍ.
السؤال: لديَّ قِطَع أراضٍ اشتريتها بنية البيع عندما أحتاج لمبلغٍ، أو إذا وَصَلَتْ قيمتها لسعرٍ مناسبٍ، ولم أعرضها للبيع، فهل تجب فيها الزكاة؟
الجواب: إذا كنت قد نويت بهذه الأراضي بيعها في الحال أو في المستقبل بنية التربح؛ ففيها الزكاة، مَن ملك أرضًا وقَصَد بيعها في الحال أو في المستقبل بنية التربح؛ فتجب فيها الزكاة عن كل سنةٍ، يقدِّر قيمتها نهاية كل سنةٍ، ويخرج ربع العشر، (2.5%).
أما إذا كانت هذه الأرض لم يَنْوِ بيعها، وإنما أراد أن يبني عليها مسكنًا، أو كان مترددًا فيها، أو لم تكن له نيةٌ واضحةٌ؛ تارةً يقول: أريد أن أبيع، وتارةً يقول: أريد أن أبني، وتارةً يقول: أريد أن أبني عقارًا عليها لتأجيره؛ فهذه لا زكاة فيها.
فإذنْ الزكاة تجب في الأرض في حالةٍ واحدةٍ فقط: وهي إذا جزم بنية البيع في الحال أو في المستقبل بنية التربح، بهذا الضابط، لا بد من أن يجزم بنية البيع، فإن لم يجزم بنية البيع؛ فلا زكاة فيها، كما مثلًا لو كان مترددًا، أو نوى غير البيع: نوى مثلًا أن يبني عليها مسكنًا؛ لا زكاة فيها.
كذلك أيضًا لو جزم بنية البيع لكن بغير قصد التربح، جزم بنية البيع بقصد التخلص من هذه الأرض، ولم يقصد بها التربح، يريد أن يبيعها بأي سعرٍ؛ فهذه لا زكاة فيها، أو جزم بنية البيع لأجل الحاجة وليس بقصد التربح، يريد أن يحصل على السيولة، فيريد أن يبيع هذه الأرض بقصد سد حاجته وليس بقصد التربح؛ فهذه لا زكاة فيها.
فإذنْ إنما تجب فيها الزكاة في حالةٍ واحدةٍ فقط: وهي إذا جزم بنية البيع بقصد التربح؛ لأنها حينئذٍ تكون عروض تجارةٍ، والله تعالى فرَّق بين البيع وبين التجارة، فقال: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]، فذكر الله تعالى الأمرين: التجارة، والبيع؛ وهذا يدل على أنه ليس كل بيعٍ يكون تجارةً، بل البيع الذي يكون تجارةً هو البيع بقصد التربح، هذا هو الذي يجعل الشيء من عروض التجارة، أما إذا قصد البيع بغير نية التربح؛ فلا يكون من عروض التجارة.
السؤال: أنا أصلي الوتر ثلاث ركعاتٍ، فهل فعلي صحيحٌ؟
الجواب: نعم، فعلك صحيحٌ، لكن الأفضل أن تصليها ركعتين ثم ركعةً، وإن سردت ثلاث ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ؛ فلا بأس، ولكن الأفضل أن تصلي ركعتين ثم ركعةً، وأيضًا الأفضل أن تجعلها إحدى عشرة ركعةً: مثنى مثنى، ثم توتر بواحدةٍ؛ لأن هذا هو غالب هدي النبي .
السؤال: ما معنى قول الله تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46]؟
الجواب: أي: الأعمال الباقيات الصالحات، فقوله: وَالْبَاقِيَاتُ، هذا على تقدير محذوفٍ؛ أي: والأعمال الباقيات الصالحات، يعني: والأعمال الصالحات الباقيات، لكنه قدَّم الباقيات؛ إشارةً لهذا المعنى؛ لأنها هي الباقية، فيكون المعنى: والأعمال الصالحات الباقيات خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا؛ فالله تعالى يَجْزي عليها ويُثيب عليها الثواب العظيم.
وَخَيْرٌ أَمَلًا: خير ما يؤمله الإنسان، فإن خير ما يؤمله الإنسان العمل الصالح، هو الذي يغتبط به في حياته وبعد مماته.
وورد عن بعض السلف تفسير الباقيات الصالحات بــ”سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”، ولكن الصحيح كما قال ابن جرير وغيره: أن الباقيات الصالحات لا تنحصر في هذه الكلمات، إنما هذه الكلمات هي من الباقيات الصالحات، ولكن الباقيات الصالحات هي جميع الأعمال الصالحة، جميع الأعمال الصالحة تدخل في الباقيات الصالحات، فهذه خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.
السؤال: ما حكم تقطيع الشِّفَاه في رمضان؟
الجواب: تقطيع الشِّفَاه للصائم: هذا لا يؤثر على صحة الصوم، لكن هذا من العبث الذي ينبغي تركه، وربما بعض الناس اعتاد عليه، وهذه عادةٌ غير جيدةٍ.
السؤال: كيف يتعامل طالب العلم مع أحاديث الأحكام -من حيث التصحيح والتضعيف- إذا لم يكن لديه معرفة بعلم الرجال والإسناد؟
الجواب: يعتمد على حكم المُحدِّثين، والمُحدِّثون يحكمون على الأحاديث.
والآن، البرامج الحاسوبية تساعد كثيرًا في معرفة حكم المحدثين، فينظر مثلًا لرأي الإمام أحمد والترمذي وأبي داود والمحدثين، وكذلك أيضًا يستفيد أيضًا من المحدثين المعاصرين في حكمهم على الأحاديث، وأيضًا إذا أشكل عليه شيءٌ؛ يسأل أهل العلم عن درجة هذا الحديث.
السؤال: أنا صاحب سلس بولٍ، فإذا دخل وقت الصلاة؛ غسلت محل البول ثم توضأت للصلاة، فإذا غسلت محل البول ثم طرأ عليَّ طارئٌ؛ لم أتوضأ فيها، هل عليَّ إعادة غَسل المحل إذا أردت الوضوء لاحقًا، أو أن الغسل الأول يكفي؟ وهل عليَّ غسل المحل كلما أردت الوضوء، وإن كان وضوء نافلةٍ وليس دخول وقت الصلاة؟
الجواب: صاحب سلس البول، وصاحب الحدث الدائم عمومًا يتوضأ، ثم لا يضر خروج ذلك الحدث، يغسل محل البول ويتوضأ، ولا يضره خروج ذلك الحدث، حتى لو خرج منه قطراتُ بولٍ؛ لا تضره، بل ولا يجب عليه أن يعيد الوضوء عند دخول وقت الصلاة على القول الراجح، كما هو مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية وجمعٍ من المحققين من أهل العلم؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجوب إعادة الوضوء عند دخول وقت كل صلاةٍ، وأما حديث: ثم توضئي لكل صلاةٍ [27]، فكما قال الحافظ ابن رجبٍ وغيره: مُدرَجٌ من كلام عروة، وليس من كلام النبي .
فعلى ذلك: صاحب سلس البول، نقول: تغسل محل البول وتتوضأ، ولا يضرك خروج البول بعد ذلك، واقطع التفكير في هذا الموضوع؛ لأنك إذا أشغلت بالك بالتفكير فيه؛ فإنه يتحول إلى وسواسٍ، ثم مع مرور الوقت يتحول إلى درجة الوسواس القهري، ويتعب معه الإنسان كثيرًا؛ ولذلك من ابتُلي بالوسواس؛ فعليه أن يتفقه في هذه المسألة ويتبصَّر فيها، يغسل محل البول ويتوضَّأ، ويقطع التفكير، لا يفكر في هذا الموضوع، ولا يضره ما يخرج منه من هذا الحدث الدائم بعد ذلك.
السؤال: هل ورد شيءٌ يدل على الحكمة في خلق الله السماوات والأرض في ستة أيامٍ، وكلنا نعلم أن الله سبحانه قادرٌ على أن يخلقها بكلمة (كن)؟
الجواب: نعم، الحكمة من ذلك: أن الله تعالى يُعلِّم عباده الصبر، وأن الأمور إنما تكون شيئًا فشيئًا؛ ولذلك أشار الله تعالى لهذا المعنى فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق:38-39].
فقوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ، قال بعض المفسرين: فيه إشارةٌ لهذا المعنى، وهي أن الإنسان ينبغي له ألا يستعجل، وأن يصبر، والله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ، مع أنه قادرٌ على أن يخلقها بكلمة (كن)، قادِرٌ سبحانه على أن يخلقها في لحظةٍ بكلمة (كن)، لكن الله تعالى أراد أن يعلم عباده الصبر، أن يصبروا، وأيضًا الأَنَاة وعدم العجلة؛ ولذلك لما ذكر الله تعالى ذلك؛ قال: فَاصْبِرْ، يعني: فيه إشارةٌ إلى هذا المعنى.
السؤال: التاجر، هل يمكن أن يجمع بين الزهد في الدنيا والتجارة؟
الجواب: نعم يمكن، إذا جعل الدنيا في يده وليست في قلبه؛ فإنه يمكن أن يجمع بين الزهد وبين التجارة والثراء؛ لأن الزهد الحقيقي معناه: أن الدنيا لا تكون في قلب الإنسان، ولا تشغله عن طاعة الله، ولا عن الدار الآخرة، حتى ولو كان ثريًّا، فإن بعض الناس قد يكون فقيرًا لكنه ليس بزاهدٍ؛ لأن الدنيا تشغله، وإن لم يكن عنده كثير دنيا، وبعض الناس قد يكون ثريًّا لكنه زاهدٌ؛ لأن الدنيا لا تشغله، وجعل الدنيا في يده وليست في قلبه؛ ولهذا نصف العشرة المبشرين بالجنة كانوا من أثرياء الصحابة، ومع ذلك هم من الزُّهاد ومن العُباد؛ سليمان عليه الصلاة والسلام أعطاه الله تعالى ملكًا عظيمًا، وسخَّر له الجن والإنس والطير والريح، ومع ذلك هو من أزهد الناس، جعله الله تعالى مثالًا للغَنِي الشاكر.
فالزُّهد محلُّه القلب، وليس الزهد مجرد شعاراتٍ أو مظاهر، إنما محله القلب، بألا ينشغل بالدنيا عن طاعة الله سبحانه، فمن لم تشغله الدنيا عن طاعة الله؛ فهذا هو الزاهد.
والله تعالى سمى المال خيرًا، فقال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وقال: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]؛ فالمال خيرٌ إن أحسن الإنسان تصريفه وتدبيره، فيكون خيرًا للإنسان في الدنيا والآخرة، هو ليس مذمومًا لذاته، إنما محل الذم لمن أشغله المال عن طاعة الله سبحانه.
السؤال: مِن شروط صحة النكاح: رضا الطرفين، فإذا أُجبرت البكر على النكاح؛ هل يكون صحيحًا؟
الجواب: هذا محل خلافٍ بين الفقهاء، فيما لو كان المُجبِر هو الأب، والقول الراجح: أنه ليس للأب أن يُجبِر ابنته البكر، هذا هو القول الراجح في المسألة، وأن النكاح لا يكون صحيحًا إذا لم ترض البنت بذلك، وقد أتت امرأةٌ للنبي وأخبرته بأن أباها أجبرها على النكاح، فدعا النبي أباها وخيَّرها، فاختارت زوجها، وقالت: أردت أن أُبيِّن أن للنساء حقًّا [28].
فلا يجوز إجبار البكر، هي حرةٌ في أن تتخذ القرار المناسب بالنسبة للزواج وهي مقبلةٌ على الزواج، والزواج شركة عمرٍ بينها وبين زوجها.
فلذلك القول الراجح: أنه لا يصح النكاح إذا أُجبرت البنت البكر، وإن كان هناك من الفقهاء من قال بصحته، بل هم الجمهور، لكن المختار عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم: أن النكاح لا يصح إذا أجبرت البنت؛ حتى ترضى بذلك الزواج.
السؤال: هل يصح التيمم في البرد الشديد؟
الجواب: أما بالنسبة للوضوء: فلا يصح التيمم لشدة البرد.
أولًا: لأنه بإمكان الإنسان -خاصةً في وقتنا الحاضر- أن يُسخِّن ذلك الماء.
ثانيًا: حتى لو لم يجد ما يسخن به الماء؛ فاستخدام الماء البارد لا يضره في الوضوء.
والنبي ذَكَر أن مما يرفع الله تعالى به الدرجات ويمحو به الخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره [29].
وأما بالنسبة للغسل: فإذا كان الإنسان يجد ما يسخن به الماء؛ فليس له أن يعدل للتيمم، أما إذا كان الإنسان لا يجد ما يسخن به الماء، وكان الجو باردًا جدًّا، ويخشى على نفسه من الضرر؛ فيجوز له أن يتيمم.
وهذا هو الذي فعله عمرو بن العاص لما احتلم وصلى بأصحابه وهو جُنُبٌ، فذكروا ذلك للنبي ، فدعاه وقال: أصليت بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟!، قال: يا رسول الله، إني تذكرت قول الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فضحك النبي [30]؛ يعني: وأقره على ذلك.
فلو كان الإنسان مثلًا في بَرِّيَّةٍ، أو في سفرٍ، وليس عنده ما يسخن به الماء، وكان الجو باردًا، ويخشى على نفسه من الضرر؛ جاز له أن يَعدل للتيمم في هذه الحال.
السؤال: ما حكم الجمع من غير عذرٍ قاهرٍ؟ وهل يصح الاستدلال بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما؟
الجواب: الجَمْع من غير سببٍ معدودٌ عند كثيرٍ من أهل العلم من الكبائر، ولا يجوز الجمع من غير سببٍ، وأما حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي جَمَع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، من غير خوفٍ ولا سفرٍ» [31]، فهذا الحديث متكلَّمٌ فيه كلامًا كثيرًا.
أولًا: نَقَل النووي إجماع الأمة على ترك العمل بظاهره.
ثانيًا: قيل: إن النبي جمع جمعًا صوريًّا؛ أخَّر الظهر لآخر وقتها، وقدَّم العصر لأول وقتها، وأخَّر المغرب لآخر وقتها، وقدَّم العشاء لأول وقتها، وهذا قد جاء في رواية عند النسائي [32].
ثالثًا: قيل: إن النبي جمع لأمرٍ خَفِيَ على ابن عباسٍ رضي الله عنهما؛ لأن ابن عباسٍ كان صغيرًا، قيل: إنه كان هناك وباء في المدينة، وقيل: كان هناك مطرٌ، قاله مالكٌ وأيوب.
وبكل حالٍ: يبقى هذا الحديث من الأحاديث المتشابهة، وقاعدةُ الراسخين في العلم: ردُّ المتشابه إلى المحكم، فالنصوص المحكمة من الكتاب والسنة تدل على وجوب أداء الصلاة في وقتها، فإذا رددنا هذا المتشابه إلى المحكم؛ فنقول: إن النصوص المحكمة تدل على وجوب أداء الصلاة في وقتها.
وعلى ذلك: لا يجوز الجمع بين الصلاتين من غير عذرٍ، بل هو معدودٌ عند كثيرٍ من أهل العلم من الكبائر.
السؤال: أنا مقيمٌ في الرياض، وذهبتُ إلى شغلٍ في المدينة ثم رابغ، وبعدها إلى جدة، وبعدها سوف أعود للرياض، وأردت أداء العمرة وأنا في جدة، من أين أُحرم؟
الجواب: تُحرِم من الميقات، وأنت من أهل الرياض، فتحرم من ميقات السيل الكبير، أو من وادي مَحرمٍ، ولو شئت أحرمت أيضًا من ذي الحليفة؛ لأنك ستمر بالمدينة، وأيضًا لو أردت أن تُحرِم من الجحفة أيضًا؛ فلك ذلك؛ لأنك ستمر من رابغ، والنبي لما ذكر المواقيت قال: هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن [33]، المهم أن تُحرِم من الميقات، وليس لك أن تحرم من جدة.
السؤال: هل يجوز القصر بين الرياض والخَرْج؟
الجواب: أقل مسافةٍ للقصر: هي (80 كيلومترًا)، ولكن كيف تُحسَب؟ تُحسَب من مفارقة عُمران البلد الذي يقيم فيه الإنسان، فتحسب المسافة (80 كيلومترًا) من آخر عمرانٍ في البلد الذي تقيم فيه، فإذا كانت المسافة تبلغ (80 كيلومترًا) فأكثر؛ فهي مسافة سفرٍ، لك أن تترخص فيها برخص السفر، وإذا كانت أقل من (80 كيلومترًا)؛ فليس لك الترخص برخص السفر؛ وعلى هذا: فالمسافة ما بين الرياض إلى الخرج في الوقت الحاضر أقل من (80 كيلومترًا)؛ فليس لك الترخص برخص السفر إذا ذهبت من الرياض إلى الخرج؛ لأنك إذا حسبت المسافة من آخر عمران الرياض إلى أول عمران الخرج، هي الآن أقل من (80 كيلومترًا)؛ وعلى ذلك: فلا تُعتبر مسافة قصرٍ، وهكذا المسافة الآن ما بين مكة وجدة أقل من مسافة القصر؛ لأنها أقل من (80 كيلومترًا)، فلو حسبت المسافة من آخر عمران جدة إلى أول عمران مكة؛ وجدتَها أقل من (80 كيلومترًا).
وعلى ذلك: من كان يذهب من جدة إلى مكة، فليس له الترخص برخص السفر، وهكذا أيضًا مثلًا من الرياض إلى حريملاء أقل من مسافة القصر؛ لأنها أقل من (80 كيلومترًا).
فخذ هذه القاعدة: إذا كانت المسافة من آخر عمران البلد الذي تقيم فيه إلى أول عمران البلد الذي تريد الذهاب إليه، إذا بلغت (80 كيلومترًا) فأكثر؛ فهي مسافة قصرٍ لك أن تترخص فيها بجميع رخص السفر، أما إذا كانت أقل من (80 كيلومترًا)؛ فليس لك الترخص برخص السفر.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1, ^2 | رواه مسلم: 2800. |
---|---|
^3, ^4, ^5 | رواه مسلم: 2801. |
^6, ^7, ^8 | رواه مسلم: 2802. |
^9 | رواه مسلم: 2803. |
^10, ^11, ^12 | رواه مسلم: 2804. |
^13 | رواه الترمذي: 3507. |
^14, ^15, ^16, ^17 | رواه مسلم: 2805. |
^18 | رواه مسلم: 2806. |
^19 | رواه أحمد: 8647. |
^20 | رواه مسلم: 2807. |
^21, ^22, ^23, ^24 | رواه مسلم: 2808. |
^25 | رواه البخاري: 3244، ومسلم: 2824. |
^26 | رواه البخاري: 5364، ومسلم: 1714. |
^27 | رواه البخاري: 228. |
^28 | رواه أبو داود: 2096، وأحمد: 2469. |
^29 | رواه مسلم: 251. |
^30 | رواه أبو داود: 334، أحمد: 17812. |
^31 | رواه مسلم: 705. |
^32 | رواه النسائي: 601. |
^33 | رواه البخاري: 1524، ومسلم: 1181. |