logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(72) باب ‌لن ‌يدخل أحد الجنة بعمله..- من حديث “لن ينجي أحدًا منكم عمله”

(72) باب ‌لن ‌يدخل أحد الجنة بعمله..- من حديث “لن ينجي أحدًا منكم عمله”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس الثاني والسبعون في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، السابع عشر من جمادى الآخرة من عام (1444 هـ).

وكنا قد وصلنا إلى باب: لن يَدخل أحدٌ الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى.

بابٌ: لن يَدخل أحدٌ الجنة بعمله

القارئ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

بابٌ: لن يَدخل أحدٌ الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى

قال: حدثنا قتيبة بن سعيدٍ قال: حدثنا ليثٌ، عن بُكيرٍ، عن بُسْر بن سعيدٍ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله أنه قال: لن يُنجِي أحدًا منكم عمله، قال رجلٌ: ولا إياك يا رسول الله؟ قال: ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله منه برحمةٍ، ولكن سددوا [1].

قال: وحدثنيه يونس بن عبدالأعلى الصَّدَفي قال: أخبرنا عبدالله بن وهبٍ قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشج، بهذا الإسناد، غير أنه قال: برحمةٍ منه وفضلٍ، ولم يذكر: ولكن سددوا.

قال: حدثنا قتيبة بن سعيدٍ قال: حدثنا حمادٌ -يعني ابن زيدٍ- عن أيوب، عن محمدٍ، عن أبي هريرة  أن النبي قال: ما من أحدٍ يُدخِله عمله الجنة، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني ربي برحمةٍ [2].

قال: حدثنا محمد بن المُثَنَّى قال: حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن ابن عونٍ، عن محمدٍ، عن أبي هريرة  قال: قال النبي : ليس أحدٌ منكم يُنجِيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرةٍ ورحمةٍ، وقال ابن عون بيده هكذا، وأشار على رأسه، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرةٍ ورحمةٍ [3].

قال: حدثني زُهير بن حربٍ قال: حدثنا جَريرٌ، عن سُهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : ليس أحدٌ يُنجِيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتداركني الله منه برحمةٍ [4].

قال: وحدثني محمد بن حاتمٍ قال: حدثنا أبو عَبَّادٍ يحيى بن عبادٍ قال: حدثنا إبراهيم بن سعدٍ قال: حدثنا ابن شهابٍ، عن أبي عُبيدٍ مولى عبدالرحمن بن عوفٍ، عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : لن يُدخِل أحدًا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بفضلٍ ورحمةٍ [5]

قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن نُميرٍ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحدٌ منكم بعمله، قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ [6].

قال: وحدثنا ابن نميرٍ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ ، عن النبي مثله.

قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا جَريرٌ، عن الأعمش بالإسنادين جميعًا، كرواية ابن نُميرٍ.

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُريبٍ قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة  عن النبي بمثله، وزاد: وأبشروا [7].

قال: حدثني سلمة بن شَبيبٍ قال: حدثنا الحسن بن أَعْيَنَ قال: حدثنا مَعقِلٌ، عن أبي الزبير، عن جابرٍ  قال: سمعت النبي  يقول: لا يُدخِل أحدًا منكم عمله الجنة ولا يُجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمةٍ من الله [8].

قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عبدالعزيز بن محمدٍ قال: أخبرنا موسى بن عقبة، ح، قال: وحدثني محمد بن حاتمٍ -واللفظ له- قال: حدثنا بَهْزٌ قال: حدثنا وُهيبٌ قال: حدثنا موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة بن عبدالرحمن بن عوفٍ يحدث عن عائشة رضي الله عنها -زوج النبي – أنها كانت تقول: قال رسول الله : سددوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنه لن يُدخِل الجنة أحدًا عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمةٍ، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَلَّ [9].

قال: وحدثناه حسنٌ الحُلْواني قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ قال: حدثنا عبدالعزيز بن المطلب، عن موسى بن عقبة بهذا الإسناد، ولم يذكر: وأبشروا.

نعم، رحم الله الإمام مسلمًا، فقد ساق هذه الروايات كلها وهي بمعنًى متقاربٍ، ولكن أراد الإمام مسلمٌ أن يحصر الروايات الواردة في هذا المعنى، وأيضًا بعض الروايات فيها زيادةٌ على بعضٍ.

وهذا الحديث العظيم أخبر فيه النبي بأنه لن يُنجي أحدًا عمله، حتى النبي ، إلا أن يتغمده الله برحمته؛ وذلك لأن الإنسان مهما عمل؛ فعمره قصيرٌ، وثواب الجنة ثوابٌ دائمٌ لا ينقطع؛ ولهذا مهما عمل الإنسان، حتى لو بقي ساجدًا طوال عمره لله ؛ لن يدخل الجنة بعمله، حتى النبي عليه الصلاة والسلام، الذي كان يقوم حتى تتفطر قدماه من طول القيام، لا يدخل الجنة بعمله؛ لأن الجنة المُقَامُ فيها أبديٌّ سرمديٌّ إلى ما لا نهاية، ليس مئة سنةٍ، ولا مليونًا، ولا مليارًا، ولا ترليونًا، إلى ما لا نهاية، إلى ما لا نهاية من السنين، والإنسان في الجنة يتنعم، مهما عمل الإنسان؛ لا يمكن أن يقابل عمله نعيم الجنة، فهذا هو معنى الحديث: أنه لا أحد يستحق الجنة بعمله، ولكن بفضل الله ورحمته.

وهذا الحديث قال فيه عليه الصلاة والسلام: ولكن سددوا، وفي الرواية الأخرى: سددوا وقاربوا وأبشروا، والمقصود بقوله: سددوا، أي: احرصوا على التسديد وإصابة الصواب.

وفي الرواية الأخرى: وقاربوا أي: حافظوا على القصد في الأمور بلا غلوٍّ ولا تقصيرٍ، وفي الرواية الأخرى: القصد، القصد، أي: الزموا التوسط في العبادة من غير غلوٍّ ولا تقصيرٍ، وهذا المعنى دل له قول الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا [هود:112]، يعني: من غير غلوٍّ، استقامة من غير غلوٍّ.

فالتقصير مذمومٌ، والغلو مذمومٌ، كلاهما طرفان مذمومان، والاعتدال هو المطلوب، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: سددوا وقاربوا، ليس المعنى التساهل، وإنما المقصود أن يأتي الإنسان بما يستطيع من العمل، لكنه لا يصل إلى درجة الغلو.

فوائد المداومة على العمل

وجاء أيضًا زيادةٌ في بعض الروايات، قال: إلا أن يتغمدني الله منه برحمةٍ، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وهذه الزيادة جاءت أيضًا عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل [10]؛ وذلك أن دوام العمل فيه فوائد، الدوام على العمل فيه فوائد:

  • الفائدة الأولى: أن المداومة على العمل تدل على رغبة الإنسان فيه؛ ولذلك كان أحب العمل إلى الله، فالله تعالى يحب من العبد أن يكون له عملٌ ولو كان يسيرًا لكن يداوم عليه، هذا أحسن من أن يعمل عملًا كثيرًا ثم ينقطع.
  • الفائدة الثانية: أن هذا العمل القليل الذي يداوم عليه الإنسان مع مرور الوقت يكون كثيرًا، فالقليل مع القليل يكون كثيرًا، وأضرب لذلك مثالًا: لو أنك صليت ركعتي الضحى كل يومٍ؛ معنى ذلك أنك مع نهاية السنة تكون قد صليت أكثر من سبعمئة ركعةٍ.
    لو قيل لإنسان: صَلِّ سبعمئة ركعةٍ، يقول: كيف سبعمئة ركعةٍ، هذا عددٌ كبيرٌ؟ لكن لو صليت ركعتي الضحى كل يومٍ، ما تأخذ منك دقيقةً أو دقيقتين، تكون مع نهاية السنة قد صليت أكثر من سبعمئة ركعةٍ، وهكذا بالنسبة لبقية الأعمال الصالحة.
  • الفائدة الثالثة من فوائد المداومة على العمل: أن من داوم على عملٍ صالحٍ فعَرَض له عارضٌ من مرضٍ أو سفرٍ أو غير ذلك؛ كُتب أجره كاملًا؛ لقول النبي : إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [11].

وهذه الفائدة لا تكون لمن لا يداوم على العمل الصالح؛ مثلًا: من عادتك أن تقوم الليل، وفي ليلةٍ من الليالي أصبت بوعكةٍ، لم تستطع أن تصلي، يكتب لك الأجر كاملًا كأنك صليت، أو أنك تلك الليلة سافرت، يكتب لك الأجر كاملًا؛ ولهذا ينبغي للمسلم -بعد المحافظة على الفرائض- أن يكون له نوافل يداوم عليها، هذه هي التي تنفع الإنسان.

بعض الناس إذا سمع موعظةً، أو حصل موقفٌ؛ تأثَّر وأتى بأعمالٍ كثيرةٍ صالحةٍ ثم انقطع، هذا الانتفاع يكون لحظيًّا، ينتفع بالموعظة، يتأثر بها مؤقتًا ثم يتوقف، لكن الذي ينفع الإنسان: أن يكون له نوافل -بعد المحافظة على الفرائض- يداوم عليها، هذه هي التي تنفع الإنسان، هذه هي التي تثقل ميزانه، هذه هي التي ترفعه عند الله ، سواءٌ كان في الصلاة، في صيام النوافل، في الصدقات، في الذكر، في جميع الأعمال الصالحة.

احرص على أن يكون لك نوافل تحافظ عليها كل يومٍ، ستجد أنك مع مرور الوقت قد أصبح هذا القليل الذي تحافظ عليه كثيرًا؛ فمثلًا: السنن الرواتب، لو حافظت عليها كل يومٍ ثنتي عشرة ركعةً؛ مع نهاية السنة تكون قد صليت أكثر من أربعة آلاف ركعةٍ، لو أنك صمت ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ؛ مع نهاية السنة تكون قد صمت أكثر من شهرٍ تطوعًا، لو تصدقت في اليوم بعشرة ريالاتٍ أو بخمسة ريالاتٍ؛ ستجد أنك مع نهاية السنة قد تصدقت بمبلغٍ كبيرٍ، لو ذكرت الله بأي نوعٍ من أنواع الذكر؛ ستجد أنك مع مرور الوقت قد عملت كثيرًا، فهذا هو الذي ينفع الإنسان، هذا هو الذي ينبغي أن يركز عليه المسلم، أن يكون له أعمالٌ صالحةٌ يحافظ عليها، يداوم عليها، يلتزم بها، فإنها مع مرور الوقت تكون كثيرةً، وهي أحب العمل إلى الله، وأيضًا لو عَرَض له عارضٌ؛ كُتِب أجره كاملًا، فهذا معنى قول النبي : واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل.

ما يستفاد من حديث: لن يَدخل أحدٌ الجنة بعمله

  • أولًا: دل هذا الحديث على أن دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بالعمل الصالح، والباء في قول الله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، باء السببية، أي: بسبب الأعمال الصالحة، فالأعمال الصالحة سببٌ لدخول الجنة.
    وأما قوله عليه الصلاة والسلام: لن يَدخل أحدكم الجنة بعمله، فالباء هنا باء المعاوضة؛ كما تقول: اشتريت ثوبًا بكذا، فإذنْ الباء إما أن تكون للسببية، أو تكون للمعاوضة، ففي قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، هنا باء السببية، في قوله النبي عليه الصلاة والسلام: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، الباء باء المعاوضة، وبذلك يحصل الجمع بين الآية والحديث.
  • ثانيًا: السبب في أن الإنسان مهما عمل من الأعمال الصالحة لن يدخل الجنة بعمله: هو أن أعمال الطاعات كانت في زمنٍ يسيرٍ، وهو عمر الإنسان، وأما الثواب في الجنة فإنه دائمٌ لا ينفد ولا ينقطع؛ ولذلك مهما عمل الإنسان من أعمالٍ؛ فلن يستحق دخول الجنة بعمله، وإنما بفضل الله ورحمته.
  • ثالثًا: ينبغي للعبد ألا يعتمد على أعماله الصالحة، وألا يعتد بها، بل يرجو رحمة الله تعالى وفضله، وأنه مهما عمل من أعمالٍ صالحةٍ؛ فلن يستحق دخول الجنة بعمله.

ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله وجماعةٌ من أهل العلم: أن من علامة قبول العمل الصالح: أن المسلم يستقله ولا يستكثره، ويشعر بأنه ما عمل أعمالًا كثيرةً، ومن علامة عدم قبوله: أن الإنسان يستكثر العمل الصالح ويعتد به؛ ولهذا كان السلف الصالح يعملون الأعمال الصالحة الكثيرة من الصلوات والصيام والزكاة والأعمال الصالحة الكثيرة، ومع ذلك يخشون على أنفسهم، ويخشون ألا تُتَقَبَّل منهم؛ كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، جاء في تفسيره: أنهم الذين يعملون الأعمال الصالحة ويخشون ألا تُتَقَبَّل منهم.

قال البخاري في “صحيحه”: قال ابن أبي مُليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه.

فالإنسان ينبغي أن يكون خائفًا وجلًا، لا يعتد بعمله، ولا يعجب بعمله، إنما يرجو أن يتقبل الله تعالى منه، ويخشى ألا يتقبل منه ذلك العمل.

  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: استدل بهذا الحديث أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى لا يجب عليه شيءٌ من الأشياء، لا ثوابٌ ولا غيره، بل العالَم كله ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل جل وعلا، وأن ثواب الله تعالى للمؤمنين بنعيم الجنة محض فضل الله تعالى ورحمته، لا مقابلة أعمالهم، وإنما أعمالهم سببٌ فقط؛ ولهذا قال الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ  [هود:108].

فدخول الجنة.. من يدخل فيها؛ يخلد أبد الآباد، فلماذا أتى هذا الاستثناء: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ؟ وهذا ورد أيضًا في النار: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:106-107]، لكنه في النار، واضحٌ أن هناك أناسًا يدخلون النار، وهم من مات على التوحيد من أهل الكبائر، ثم لا يخلدون فيها، يخرجون منها ويدخلون الجنة برحمة أرحم الراحمين.

لكن ما وجه الاستثناء في قول الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108]؟

قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى في “تفسيره”: معنى الاستثناء هاهنا: أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرًا واجبًا بذاته على الله، بل هو موكولٌ إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم دائمًا؛ ولهذا حتى لا يتوهم متوهمٌ بأن مقام أهل الجنة في الدنيا ليس مؤبدًا؛ ختم الله تعالى الآية بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108].

سبحان الله! انظر لعظمة القرآن وإعجازه؛ لأن قوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، قد يتوهم متوهمٌ ويقول: أنتم تقولون: إن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآباد، أليس الله يقول: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ؟ قال: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ؛ حتى لا يتوهم متوهمٌ هذا الوهم؛ ختم الله الآية بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.

إذنْ ما فائدة هذا الاستثناء: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، هذا -كما قال ابن كثيرٍ- إشارةٌ إلى أن دخولهم الجنة ليس أمرًا واجبًا على الله، وإنما هو بمشيئته جل وعلا، فله المنة عليهم، فليس هناك شيءٌ يجب على الله تعالى، حتى دخول المؤمنين الجنة ليس واجبًا على الله، فالله تعالى لا يجب عليه شيءٌ؛ لأن كل شيءٍ ملكٌ لله، وكل شيءٍ عبدٌ لله، وكل شيءٍ مخلوقٌ لله، فلا يجب على الله شيءٌ، حتى دخول المؤمنين الجنة، نقول: إنه ليس واجبًا على الله، لكنه بمشيئته جل وعلا وفضله ورحمته، فهذا هو السر في قوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ خذ هذه الفائدة، هذا هو السر، بعض العلماء قال: إنها من المتشابه، لكن الذي يظهر إنها ليست من المتشابه، معناها واضحٌ، وأن مقام أهل الجنة مؤبدٌ أبد الآباد، وخالدون فيها أبدًا؛ كما قال في آخر الآية عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، لكن إنما قال: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، إشارةٌ إلى أن هذا ليس شيئًا واجبًا على الله، وإنما هو موكولٌ إلى مشيئته جل وعلا.

باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة

القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله تعالى:

باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة

حدثنا قتيبة بن سعيدٍ قال: حدثنا أبو عَوانة، عن زياد بن عِلَاقة، عن المغيرة بن شعبة : أن النبي صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أَتَكَلَّف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! [12].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نُميرٍ قالا: حدثنا سفيان، عن زياد بن عِلاقة أنه سمع المغيرة بن شعبة يقول: قام النبي حتى ورمت قدماه، قالوا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! [13].

قال: حدثنا هارون بن معروفٍ وهارون بن سعيدٍ الأيلي قالا: حدثنا ابن وهبٍ قال: أخبرني أبو صخرٍ، عن ابن قُسَيطٍ، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا صلى قام حتى تَفَطَّرَ رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! [14].

اللهم صل وسلم عليه، كان النبي يقوم كثيرًا من الليل؛ كما قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل:20]، يعني: قريبًا من ثلثي الليل، ونصف الليل، وثلث الليل، وهذا وقتٌ طويلٌ، ثلثي الليل في ليالي الشتاء تعادل تقريبًا سبع ساعاتٍ والنبي عليه الصلاة والسلام يصلي؛ ولذلك تفطرت قدماه، تشققت من طول القيام، فكان يقوم حتى تتفطر قدماه، في الرواية الأولى من حديث المغيرة قال: «حتى انتفخت قدماه» [15]، وفي الرواية الثانية قال: «حتى ورمت قدماه» [16]، وفي الرواية الثالثة قال: «حتى تَفَطَّر رجلاه» [17]، وكلها بمعنًى واحدٍ، يعني: أنه ورمت قدماه من طول القيام، كما ذكرنا أنه أحيانًا يقوم قرابة سبع ساعاتٍ وهو قائمٌ يصلي.

وصلى معه حذيفة بن اليمان صلاة الليل مرةً، قال: “فافتتح بالبقرة” -يعني بعدما قرأ الفاتحة افتتح بالبقرة- “فقلت: يركع عند المئة فأتم، فقلت: يكمل سورة البقرة، فافتتح بالنساء وقرأها كاملةً، ثم افتتح بآل عمران”، لاحِظ أنه قدم النساء على آل عمران؛ وهذا يدل على أن الترتيب بين السور ليس واجبًا، قرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء في ركعةٍ واحدةٍ، “ثم ركع فكان ركوعه قريبًا من قيامه، ثم سجد فكان سجوده قريبًا من ركوعه [18] سبحان الله! انظر لطول صلاة النبي عليه الصلاة والسلام!

وصلى معه مرةً ابن مسعودٍ ، قال: “صلى بي النبي فأطال القيام حتى هممت بأمر سوءٍ”، قيل: وما هممت به؟ قال: “هممت أن أدعه وأذهب” [19]، أطال النبي عليه الصلاة والسلام.

وصلى معه كذلك ابن عباسٍ رضي الله عنهما [20]، فكان عليه الصلاة والسلام يطيل الصلاة، وتسأله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتقول: يا رسول الله، لم تصنع هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! [21].

ما يستفاد من حديث: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!

وهذا الحديث فيه فوائد:

  • الفائدة الأولى: أولًا بيان ما كان عليه النبي من عظيم العبادة لربه جل وعلا؛ ومن ذلك: أنه كان يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وثلثا الليل تعادل تقريبًا في ليالي الشتاء سبع ساعاتٍ، وكان يقرأ في الركعة الواحدة بسورة البقرة وآل عمران والنساء؛ وهذا يدل على عظيم عبادة النبي لربه.
  • أيضًا من الفوائد: دل هذا الحديث على أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان؛ فإن النبي لما سئل: لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!، يفعل ذلك شكرًا لنعمة الله عليه؛ وهذا دليلٌ على أن الشكر يكون بالعمل كما يكون بالقول.

والشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح؛ فيكون بالقلب بالاعتراف بنعم الله وعدم جحدها، ويكون كذلك باللسان؛ بأن يكون اللسان لَهِجًا بحمد الله تعالى وشكره، ويكون كذلك بالجوارح؛ بأن يجتهد في طاعة الله سبحانه، وأن يجتنب محارمه.

والشكر عبادةٌ عظيمةٌ، وثمراتها ومنفعتها ترجع للشاكر؛ فإن الله قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فالذي يكثر من الشكر يزيده الله من النعم، وأصل مادة الشكر، مادة (الشين والكاف والراء)، أصلها في لغة العرب: ظهور أثر العلف على الدابة، يقال: دابةٌ شكورٌ: إذا كان يظهر عليها من السِّمَن أكثر مما تُعلَف، وكذلك أيضًا: هو ظهور أثر نعمة الله تعالى على العبد؛ على قلبه اعترافًا، وعلى لسانه ثناءً بلسانه وشكرًا، وعلى جوارحه عبادةً لله تعالى وطاعةً، فيظهر أثر الشكر على الإنسان.

فينبغي أن يُعوِّد الإنسان نفسه على الحمد لله وعلى الشكر لله ، وأن يكثر من شكر الله تعالى وحمده على نعمه؛ ومن ذلك: الشكر العملي، يغفُل عنه كثيرٌ من الناس، فبعض الناس يعتقد أن الشكر لا يكون إلا باللسان، فيمكن أن تتصدق لله تعالى بصدقةٍ تنويها شكرًا لله على ما أنعم به عليك من نعمه عمومًا، أو من نعمةٍ خاصةٍ، أنعم الله عليك نعمةً خاصةً بك، تحمد الله بلسانك، تتصدق بنية الشكر مثلًا، أو حتى -كما سيأتي- تصلي بنية الشكر، أو تعمل أي عملٍ صالحٍ بنية الشكر؛ لأن النبي كان يقوم من الليل شكرًا لله ، وإلا فهو قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن كما قال ربنا سبحانه: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].

  • أيضًا: دل هذا الحديث على أن من خصائص النبي : أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

لكن هل هذا خاصٌّ بالنبي عليه الصلاة والسلام، لم يشاركه فيه أحدٌ، أو شاركه فيه أحدٌ؟

من يجيب عن هذا السؤال؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت، أهل بدرٍ، أهل بدرٍ شاركوا النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الخصيصة؛ فإن النبي قال: وما يدريك؟! لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم [22]؛ فهذا دليلٌ على أن الله غفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر.

لكن فقط هم أهل بدرٍ، أهل بدرٍ الذين شاركوا النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الخصيصة، ومن عداهم فليس أحدٌ تَحصُل له هذه الخصيصة: أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولهذا قال العلماء: أي حديثٍ تجد فيه: “غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر”، فهو حديثٌ ضعيفٌ، من فعل كذا؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، زيادة: “وما تأخر”، هذه ضعيفةٌ، هذه خذها قاعدةً: أي حديثٍ تجد فيه: “من فعل كذا؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر”، زيادة: “وما تأخر”، هذه ضعيفةٌ؛ لأنها تنافي ما ذكرنا من أن هذا خاصٌّ بالنبي عليه الصلاة والسلام، وخاصٌّ أيضًا بأهل بدرٍ.

  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: فضل قيام الليل وطول القيام، وقد كان النبي يحرص على قيام الليل، حتى إنه في بعض الليالي يقوم قريبًا من ثلثي الليل: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل:20].

وقد أثنى الله على من يقومون الليل فقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، وقيام الليل هو دأْب الصالحين، ومن سمات أولياء الله المتقين، فينبغي أن يحرص المسلم عليه، وهو من أعظم أسباب الثبات، قيام الليل من أعظم أسباب الثبات؛ لأنه بمثابة الوقود الروحي للمسلم في اليوم والليلة.

وإذا قمت الليل؛ تجد أثر قيام الليل عليك طوال اليوم -سبحان الله!- كما قال عليه الصلاة والسلام: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم -إذا هو نام- ثلاث عقدٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن هو قام فذكر الله؛ انحلت عقدةٌ، وإن توضأ؛ انحلت عقدةٌ، وإن صلى؛ انحلت عقدةٌ، فقام نشيطًا طيب النفس، وإلا قام خبيث النفس كسلان [23]، متفقٌ عليه.

فالذي يقوم الليل تنحل عنه هذه العقد الثلاث، فيقوم نشيطًا طيب النفس، ثم أيضًا الذي يقوم الليل؛ يتعرض لنفحات الله سبحانه ومغفرته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ وذلك كل ليلةٍ [24].

سبحان الله! انظر إلى فضل هذا الرب العظيم وجوده وكرمه وإحسانه! مع أنه غنيٌّ الغِنَى المطلق عن عباده، ومع ذلك ينادي عباده حين يبقى ثلث الليل الآخر بهذا النداء: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟.

فينبغي أن يحرص المسلم على قيام الليل، وخاصةً طالب العلم، وأن يقوم ما تيسر من الليل، ولو أن يقوم قُبيل صلاة الفجر ويصلي ما تيسر، لكن لا يترك قيام الليل، وقيام الليل أيضًا فيه فائدةٌ أخرى، وهي أنه أمانٌ من النفاق، وكما قال السلف: ما قام الليل منافقٌ، المنافق لا يمكن أن يقوم الليل؛ لأنه ليس له فيه مصلحةٌ، المنافق يرائي الناس: يُرَاؤونَ النَّاسَ [النساء:142]، فالذي يقوم الليل هذه أمارةٌ على بعده عن النفاق، فينبغي أن يحرص المسلم على قيام الليل، وأن يقتدي بالنبي في ذلك.

  • أيضًا من الفوائد: مشروعية الصلاة للشكر، ووجه ذلك: أن النبي كان يصلي الليل، ويطيل القيام شكرًا لنعم الله تعالى عليه؛ ولذلك لما سألته عائشة رضي الله عنها -وقد انتفخت قدماه وتورمت من طول القيام- فقالت: يا رسول الله، لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!؛ فدل هذا على مشروعية الصلاة لشكر الله سبحانه، وهكذا بقية الأعمال الصالحة يمكن أن يجعلها المسلم شكرًا لله سبحانه؛ الصدقة، يتصدق شكرًا لله، يصوم شكرًا لله، يصلي شكرًا لله، فهذه يمكن كلها أن تكون شكرًا لله ، فالشكر كما يكون بالقول يكون بالعمل: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:13].
  • أيضًا من الفوائد: قال القاضي عياضٌ رحمه الله: الشكر معرفة إحسان المحسن والتحدث به، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرًا؛ لأنها تتضمن الثناء عليه، قال: وشكر العبد لله تعالى: اعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته، وهذا كلامٌ حسنٌ، لكن قال بعد ذلك: وأما شكر الله تعالى أفعال عباده: فمجازاته إياهم، وتضعيف ثوابها، وثناؤه بما أنعم به عليهم، وهذا في الحقيقة الذي ذكره القاضي عياضٌ -فيما يتعلق بشكر الله – ليس هو معنى شكر الله، وإنما هو من ثمرات شكر الله؛ ولهذا تعقب العلماء القاضي عياضًا بهذا الكلام، وقالوا: إن شكر الله للعبد معناه: أن الله تعالى يشكر العبد بالقول في الملأ الأعلى؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: إن ذكرني في ملأٍ؛ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منه [25]، وأيضًا كما جاء في الحديث الصحيح: إذا كان يوم عرفة؛ ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بالحجيج ملائكته ويقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء، أتوني شعثًا غبرًا ضاحِين من كل فجٍّ عميقٍ، أشهدكم أني قد غفرت لهم [26] فشكر الله لعباده يكون شكرًا بالقول وبغيره، وليس كما ذكر القاضي عياضٌ؛ لأن ما ذكره إنما هي من ثمرات الشكر.

باب الاقتصاد في الموعظة

القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله تعالى:

باب الاقتصاد في الموعظة

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيعٌ وأبو معاوية، ح، قال: وحدثنا ابن نُميرٍ -واللفظ له- قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شَقيقٍ قال: كنا جلوسًا عند باب عبدالله ننتظره، فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي، فقلنا: أَعْلِمْه بمكاننا، فدخل علينا فلم يلبث أن خرج علينا عبدالله فقال: إني أخبر بمكانكم، فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أُمِلَّكم، إن رسول الله كان يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ مخافة السآمة علينا [27].

قال: حدثنا أبو سعيدٍ الأشج قال: حدثنا ابن إدريس، ح، قال: وحدثنا مِنجاب بن الحارث التميمي قال: حدثنا ابن مُسهِرٍ، ح، قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرمٍ قالا: أخبرنا عيسى بن يونس، ح، قال: وحدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان، كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد نحوه، وزاد مِنجابٌ في روايته عن ابن مُسهِرٍ: قال الأعمش: وحدثني عمرو بن مرة، عن شقيقٍ، عن عبدالله مثله.

قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا جَريرٌ، عن منصورٍ، ح، قال: وحدثنا ابن أبي عمر -واللفظ له- قال: حدثنا فضيل بن عياضٍ، عن منصورٍ، عن شقيقٍ أبي وائلٍ قال: كان عبدالله يذكرنا كل يوم خميسٍ، فقال له رجلٌ: يا أبا عبدالرحمن، إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يومٍ، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أُمِلَّكم، إن رسول الله كان يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا [28].

نعم، عبدالله بن مسعودٍ  من علماء الصحابة ومن فقهاء الصحابة ، وكان له بعض الطلاب، وكانوا ينتظرونه، فقال: “إني أخبر بمكانكم، ولكن لا يمنعني أن أخرج إليكم، إلا كراهة أن أُمِلَّكم، إن رسول الله كان يتخولنا -يعني: يتعاهدنا- بالموعظة؛ مخافة السآمة علينا”.

وأيضًا جاء في الحديث الآخر -حديث شقيقٍ أبي وائلٍ- أن عبدالله بن مسعودٍ كان له مجلس موعظةٍ كل يوم خميسٍ، فقال له رجلٌ: نحب حديثك ونشتهيه، وددنا أنك تحدثنا كل يومٍ، فقال: ما يمنعني إلا أن أملكم، إن رسول الله كان يتخولنا -يعني: يتعاهدنا- بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا، فكان يحرص على أن يتعاهدهم من حينٍ لآخر بالموعظة، وألا تكون كل يومٍ؛ لأنها إذا كانت كل يومٍ؛ تَدخل عليهم السآمة والملل.

فوائد من حديث: “إن رسول الله كان يتخولنا بالموعظة..”

وهذا الحديث فيه فوائد:

  • أولًا: الاقتصاد في الموعظة؛ لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها؛ ولذلك ينبغي للواعظ أن يعظ من حينٍ لآخر، وألا يُكثر؛ لأنه إذا أكثر على الناس في الموعظة؛ فإن الناس تمل وتسأم، فينبغي أن تكون موعظته قصدًا.
  • أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للواعظ والمعلم أن يقتدي بالنبي في هذا الهدي، وأن يتخول الناس بالموعظة وبالتعليم، وأن يبتعد عن كل ما ينفر.
  • أيضًا من الفوائد: بيان ما كان عليه النبي من الرفق بأصحابه؛ ليأخذوا عنه بنشاطٍ، لا بضجرٍ ومللٍ، كان عليه الصلاة والسلام يحرص على أن يتبع أفضل الأساليب في التعليم، وفي التربية، وفي التوجيه؛ ولذلك كان ينوع أساليب التعليم؛ تارةً بذكر المثل، وتارةً بذكر القصة، وتارةً بطرح السؤال، فكان يأتي بأساليب متنوعةٍ، وكان أيضًا لا يكثر عليهم، وإنما يتخولهم ويتعاهدهم من حينٍ لآخر، كان أسلوبه عليه الصلاة والسلام مع الصحابة أنفع وأنجع الأساليب؛ ولذلك أثر فيهم تأثيرًا عظيمًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث وعمره أربعون، وتوفي وعمره ثلاثٌ وستون، يعني بقي في البعثة والرسالة ثلاثًا وعشرين سنةً فقط، ثلاث عشرة سنةً منها في مكة يدعو الناس إلى تحقيق التوحيد وترك الشرك، والعشر السنوات الأخيرة من عمره عليه الصلاة والسلام كان في المدينة، دعا الناس فيها إلى بقية شرائع الإسلام، انظر إلى عظيم بركة وقته عليه الصلاة والسلام! يعني: هذه الأحاديث الآن التي تُروى بالآلاف هي فقط في العشر السنوات الأخيرة، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يتخول الصحابة بالموعظة، ولا يكثر عليهم؛ مخافة النفرة.
  • أيضًا من الفوائد: مراعاة أحوال النفوس، وأنه ينبغي تجنب ما يكون سببًا للملل والسآمة، فينبغي -خاصةً للواعظ والخطيب والمتحدث- أن يراعي أحوال النفوس، وأن يبتعد عن كل ما كان سببًا للسآمة والملل؛ ومن ذلك: الإكثار من الموعظة، ومن ذلك أيضًا: التطويل فيها؛ لأن التطويل سببٌ للملل؛ ولهذا كانت خطبته عليه الصلاة والسلام قصيرةً، لم يكن يطول الخطبة، وقال: إن قِصَر خطبة المرء وطول صلاته مَئِنَّةٌ من فقهه [29]، والمقصود هنا بالقِصَر: القصر النسبي، يعني: في حدود قراءة سورة (ق) مرتلةً، في حدود عشر دقائق تقريبًا، أو في هذا القدر، من عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ بهذا القدر، وليس كما يفهمه بعض الناس، بعض الناس فهم هذا الحديث فهمًا خاطئًا، فأصبح يخطب الجمعة ثلاث دقائق أو أربع دقائق، وهذا لا يحقق الغرض من خطبة الجمعة، لكن المقصود يعني هنا بالقصر: القصر النسبي.

كان عليه الصلاة والسلام يجتنب كل ما يسبب النفرة والملل؛ ولذلك لما بلغه أن رجلًا قال: إني لا أصلي صلاة الفجر؛ مما يطيل بنا فلانٌ؛ غضب النبي عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا وقال: أيها الناس، إن منكم مُنَفِّرين، أيكم أمَّ الناس فليخفف؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة [30].

فكل ما يؤدي لتنفير الناس ينبغي اجتنابه، وينبغي أن يلاحِظ هذا إمام المسجد والخطيب والداعية والمعلم، أن يجتنب كل ما ينفر الناس، إذا كان هذا الشيء ينفر الناس؛ ينبغي أن تجتنبه؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أنكر على هذا الرجل، مع أنه كان يطيل صلاة الفجر، فلما كان منفرًا بهذه الإطالة؛ أنكر عليه وغضب، وقال: إن منكم منفرين، فينبغي عدم تنفير الناس.

والمقصود بالتنفير: التنفير الذي يكون لغالب الناس، أما الذي يكون لشخصٍ واحدٍ؛ فهذا لا يُلتفت إليه؛ لأنه إذا كان شخصًا واحدًا؛ بعض الناس قد يكون عنده مشاكل صحيةٌ، أو مشاكل نفسيةٌ، أو أحيانًا نظرةٌ غير سويةٍ، فلا يُلتفت لهؤلاء، لكن لو كان معظم المصلين حصل لهم نفرةٌ بسبب تصرفٍ من تصرفات إمام المسجد أو الخطيب أو المعلم؛ فمعنى ذلك أن هناك مشكلةً، فينبغي أن يتنبه لها، ويُنَبَّه لذلك، فكل ما كان سببًا للتنفير ينبغي اجتنابه، ومن ذلك مثلًا: التطويل في الصلاة تطويلًا يسبب النفرة، فهذا ينبغي أن يجتنبه إمام المسجد، لا يطيل تطويلًا يسبب النفرة، وكما ذكرنا، يعني: النفرة من أغلب المصلين.

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها

القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله تعالى:

كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها

قال: حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قَعْنبٍ قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابتٍ وحميدٍ، عن أنس بن مالكٍ  قال: قال رسول الله : حُفَّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات [31].

قال: وحدثني زُهير بن حربٍ قال: حدثنا شَبَابَة قال: حدثني وَرْقاء، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ، عن النبي بمثله.

نعم، هذا الحديث العظيم: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، قال النووي: قال العلماء: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها النبي من التمثيل الحسن.

ومعناه: لا يُوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات.

والمراد بالمكاره: ما أُمِر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا وتركًا؛ كالإتيان بالعبادات على وجهها؛ من الصلاة والصيام والزكاة والحج وبقية العبادات.

وكذلك اجتناب المنهيات قولًا وفعلًا؛ اجتناب الغيبة والنميمة والسخرية وجميع المعاصي القولية، وكذلك جميع المعاصي الفعلية، وهذه تحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس؛ ولذلك سميت مكاره، وحفت الجنة بها، وأطلق عليها المكاره؛ لمشقتها وصعوبتها.

وأما الشهوات فالمراد بها في الحديث: ما يُتلذذ به من أمور الدنيا مما منع الشارع من تعاطيه، يعني المقصود: الشهوات المحرمة؛ كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك.

فالجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، وقد جاء عند أحمد وأبي داود والنسائي بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة  أن النبي قال: لما خلق الله الجنة والنار؛ أرسل جبريل فقال: اذهب إلى الجنة، وانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، فذهب جبريل ونظر إلى الجنة وقال: يا رب، لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، ثم قال الله له: اذهب إليها فانظر لها وما أعددت لأهلها، فذهب ونظر إليها، فإذا هي قد حفت بالمكاره، فقال: يا رب، لقد خشيت ألا يدخلها أحدٌ، قال: فاذهب إلى النار وانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، فذهب إلى النار ونظر إليها، وإذا هي يركب بعضها بعضًا، فقال: يا رب، وعزتك لا يسمع بها أحدٌ فيدخلها، فحفت بالشهوات، ثم قال له: انظر إليها، فنظر إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات، فقال جبريل: وعزتك خشيت ألا ينجو منها أحدٌ [32].

فالجنة حفت بالمكاره؛ والنار حفت بالشهوات، فطريق الجنة ليس سهلًا؛ وإنما هو طريقٌ صعبٌ، محفوفٌ بالمكاره؛ لأن ثمراتها عظيمةٌ جدًّا، السعادة الأبدية في دار الخلود، وبعض الناس يعتقد أنه لا بد أن يكون طريق الجنة سهلًا معبَّدًا مفروشًا بالورود، وهذا غير صحيحٍ؛ ولهذا تجد أن بعض الناس ينكر على المفتي إذا قال: حرامٌ، يقول: لا تشددوا على الناس.

الجنة حفت بالمكاره، الحرام يبقى حرامًا حتى وإن كان فيه مشقةٌ على النفوس، يبقى حرامًا، والواجب يكون واجبًا، وإن كان فيه مشقةٌ على النفوس؛ لأن الجنة حفت بالمكاره.

وكما قال ابن القيم:

يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ

وطريق النار حف بالشهوات، طريق النار طريقٌ تنجرف معه النفس، وتميل إليه النفس بطبيعتها؛ ولذلك تحتاج إلى نَهْيٍ؛ كما قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، فطريق النار محفوفٌ بالشهوات المحببة للنفس، والتي تميل إليها النفس.

فهذا المعنى ينبغي أن يكون حاضرًا لدى المسلم، وهو أن طريق الجنة محفوفٌ بالمكاره، يحتاج إلى صبرٍ ومصابرةٍ ومجاهدةٍ، والنفس إذا روَّضها الإنسان؛ ارتاضت على طاعة الله، المجاهدة تكون في البداية، ثم لا تجد بعد ذلك صعوبةً؛ مثلًا: صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، الذي روض نفسه عليها لا يجد صعوبةً فيها، إنما يجد الصعوبة الإنسان الذي لم يروض نفسه عليها، يجد ثقلًا وكسلًا وترددًا، لكن من روض نفسه واعتاد على صلاة الفجر لا يجد أدنى صعوبةٍ، وهكذا بالنسبة لبقية الطاعات واجتناب المعاصي.

فطريق الجنة طريقٌ محفوفٌ بالمكاره، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].

ثم أيضًا طريق الجنة يكون الإنسان فيه معرضًا للابتلاء، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].

بعض الناس يَدَّعي أنه قوي الإيمان، لكن ما إنْ تحصل فتنةٌ أو شدةٌ أو ابتلاءٌ؛ إلا وسرعان ما يسقط، ومن حكمة الله أنه يقدر بعض الأحداث للتمحيص، وتمييز الخبيث من الطيب، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، لا بد من التمايز، والتمايز يكون بالابتلاء؛ ولهذا فعلى المسلم أن يحرص على الثبات، وأن يسأل الله تعالى الثبات، فطريق الجنة إذنْ طريقٌ محفوفٌ بالمكاره، وصاحبه معرضٌ للابتلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، إن كان في دينه صلابةٌ؛ شدد عليه في البلاء، لا بد أن يوطن المسلم نفسه على ذلك، وكما مر معنا في الحديث السابق في الأسبوع الماضي: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تُفيئها الريح يمنةً ويسرةً، ومثل المنافق كشجرة الأَرْز، لا تهتز حتى تُستحصَد [33].

فالمؤمن كثير الآلام والمصائب والابتلاء، لكن عاقبته حميدةٌ، في جنةٍ عرضها السماوات والأرض في حياة الخلود، وأما طريق النار فهو طريقٌ معبَّدٌ بالشهوات، النفس تميل إليه بطبيعتها، لكن عاقبته وخيمةٌ، يكون الإنسان في عذاب الجحيم في حياة الخلود.

فوائد حديث: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات

  • أولًا: دل هذا الحديث على أن الجنة محفوفةٌ بالمكاره، وأن النار محفوفةٌ بالشهوات، وأن هذا المعنى ينبغي أن يستحضره المسلم، وألا يستثقل الطاعة أو الصبر عن المعصية؛ لأن طريق الجنة يحتاج للصبر على ذلك.
  • وأيضًا من الفوائد: دل هذا الحديث على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وقد أُرِيَ النبي الجنة والنار في ليلة المعراج، وأيضًا حتى في صلاة الكسوف، لما تقدم وتقدمت الصفوف؛ أُرِيَ الجنة وأراد أن يتناول عُنقودًا، قال: ولو تناولت منه؛ لأكلتم منه ما بقيت الدنيا [34]، ثم رأى النار، فإذا هي يحطم بعضها بعضًا، وتأخر وتأخرت الصفوف.

فالجنة والنار مخلوقتان الآن، أعد تعالى الجنة للمؤمنين، وأعد النار للكافرين ولمن عصاه، والجنة في سعتها شيءٌ عظيمٌ فوق خيال الإنسان، إذا كان ربنا سبحانه يقول: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]، عرضها السماوات والأرض، فما بالك بطولها؟! كيف ستكون سعتها وحجمها؟!

عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، يعني: لو أن السماوات السبع ألصقت واحدةً مع الأخرى، وكذلك الأرضِين، هذا عرض الجنة، فما بالك بطولها؟! وكما سيأتينا -إن شاء الله- في الحديث في الدرس القادم قول النبي عليه الصلاة والسلام: إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلها مئة سنةٍ [35]، مئة سنةٍ يسير في ظل شجرةٍ، فهي خلقٌ عظيمٌ.

وهكذا أيضًا النار معَدَّةٌ الآن، ويَحطِم بعضها بعضًا، فالجنة والنار إذنْ مخلوقتان، لكن دلت أيضًا الأدلة على أن الجنة قد يزيد الله تعالى فيها وفي غراسها؛ كما قال  : من قال: سبحان الله وبحمده؛ غرست له نخلةٌ في الجنة [36]، ولما لقي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ قال: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعانٌ، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر [37]؛ هذا دليلٌ أنه قد يزيد ما في الجنة، يزيد غرس الجنة، لكن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، والجنة والنار هما نهاية المطاف للبشرية، فإننا نحن البشر في رحلةٍ عظيمةٍ، ونحن في أخطر مراحل هذه الرحلة، وهي مرحلة الاختبار والعمل، الذي يترتب عليه كل شيءٍ، كل شيءٍ مترتبٌ على ما نعمله في هذه الفترة القصيرة، فترة العمر، ثم بعد ذلك -بعد هذه الفترة- تكون حياة الخلود، إما في نعيمٍ أبديٍّ، أو في عذابٍ سرمديٍّ، نسأل الله السلامة والعافية، وما بعد الدنيا من دارٍ، إلا الجنة أو النار، ما بعد الموت من دارٍ، إلا الجنة أو النار.

فنحن الآن في أخطر مراحل الرحلة البشرية، وهي مرحلة العمل والاختبار، فمن اغتنمها في طاعة الله ؛ سعد السعادة الأبدية في حياة الخلود، ومن ضاع عليه عمره في لهوٍ وفي غفلةٍ؛ ندم الندم العظيم في حياة الخلود.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند حديث أبي هريرة .

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: ما أصول أهل السنة والجماعة؟

الجواب: هذا سؤالٌ جوابه يطول، لكن ننصح الأخ الكريم بالرجوع لكتب العقائد؛ ففيها تفصيلٌ لأصول أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، وأيضًا في توحيد العبادة، وفي توحيد الربوبية، وفي أيضًا الاعتقاد عمومًا، هذا موجودٌ في كتب العقائد.

السؤال: أيهما أفضل لمن كان متعبًا: أن يقوم الليل طويلًا وهو جالسٌ، أو يقوم الليل وهو واقفٌ لكن يقرأ سورًا قصيرةً؟

الجواب: الأفضل أن يختار ما هو الأصلح لقلبه، يختار المسلم ما هو الأصلح لقلبه، هذه هي القاعدة، وكذلك أيضًا الذي يصلي صلاة الليل هل الأفضل أن يجهر بالقراءة أو يُسِرُّ؟

إذا كان حوله أحدٌ؛ يُسِر حتى لا يؤذيه، وإذا لم يكن حوله أحدٌ؛ فالأفضل هو ما كان الأصلح لقلبه، إن كان الأصلح لقلبه الجهر؛ جهر بالقراءة، وإن كان الأصلح لقلبه الإسرار؛ أسر بالقراءة.

السؤال: ما حكم لبس (الجاكيت) فوق العباءة هل يعتبر من الزينة؟

الجواب: الأصل في هذا الحل والإباحة.

السؤال: حديث: لا يخلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ [38]، هل لا بد من محرمٍ -لنفي الخلوة- رجلٍ، أو يكون معها امرأةٌ أخرى؟

الجواب: تنتفي الخلوة بوجود امرأةٍ أخرى، إذا وجد معها امرأةٌ أخرى؛ انتفت الخلوة؛ ولذلك المحرم إنما يشترط في السفر فقط، فيما كانت المسافة (80 كيلو) فأكثر، أما داخل البلد فلا يشترط المحرم، إنما يشترط انتفاء الخلوة، فلو ركب مثلًا مجموعةٌ من النساء -امرأتان فأكثر- مع رجلٍ أجنبيٍّ؛ لا يعتبر هذا خلوةً، لا يعتبر، فوجود امرأةٍ أخرى مع المرأة ينتفي بذلك الخلوة، وأيضًا ذهاب المرأة -إذا كان في أقل من (80 كيلو)- لا يشترط له المحرم، وإنما يشترط انتفاء الخلوة؛ مثلًا: لو أرادت أن تذهب من جدة إلى مكة؛ لا يشترط المحرم؛ لأن المسافة ما بين جدة إلى مكة أقل من (80 كيلو مترًا)، لكن يشترط انتفاء الخلوة.

السؤال: هل تَمثُّل الجن بصورة الإنس حقيقيٌّ أم تخييليٌّ؟

الجواب: هو ليس صورةً حقيقيةً، وإنما صورةٌ، يتمثل، يخيل إليه كأنه بصورة كذا، ليس معنى ذلك أنه ينقلب إلى إنسانٍ حقيقيٍّ، وإنما يخيل إليه كأن صورته كذا، كما مر معنا في درس الأمس.

السؤال: هل يزكى على الأرض المعروضة للبيع، أم بنية البيع مستقبلًا؟

الجواب: الأرض التي تجب فيها الزكاة: هي الأرض التي جزم المالك بنية بيعها في الحال أو في المستقبل بقصد التربح، هذا هو الضابط، الأرض التي جزم المالك بنية بيعها في الحال، أو في المستقبل بنية التربح، بغض النظر عن عرضها، عرضها ليس مؤثرًا، وإنما المؤثر النية، فإذا كان عندك أرضٌ جزمت بنية بيعها الآن بقصد التربح، ومضى على ذلك سنةٌ؛ هنا يجب عليك أن تزكيها، أو أنك قصدت بيعها في المستقبل، وجزمت بهذه النية بقصد التربح؛ فيجب عليك أن تزكيها عند جمهور الفقهاء.

أما الأرض التي لم ينو بها البيع، لم يقصد بها البيع، وإنما قصد أن يبني عليها مسكنًا أو استراحةً، أو عقارًا لتأجيره، هذه لا زكاة فيها، وهكذا الأرض التي تردد في النية لا زكاة فيها.

وهكذا الأرض التي جزم بنية البيع، لكن ليس بقصد التربح، وإنما مثلًا بقصد الحصول على سيولةٍ، يعني: محتاجٌ لسيولةٍ نقديةٍ، أو أنه رغب عن هذه الأرض رغبةً عنها، أو أنه مثلًا عرض بيته للبيع؛ لكون انتقل لبيتٍ آخر، ومضى على هذا العرض سنةٌ فأكثر، هذه كلها لا تجب فيها الزكاة، إذنْ إنما تجب في حالةٍ واحدةٍ: وهي أن يجزم بنية البيع بقصد التربح ويمضي على ذلك سنةٌ فأكثر، فتجب فيها الزكاة.

السؤال: إذا سمع الإنسان الإمام يوم الجمعة، وقد انتهى من قراءة السورة في الركعة الثانية، فركع الركعة الثانية، فهل يجوز له السعي والركض لإدراك الجمعة؟

الجواب: نعم، يجوز له ذلك، وهذا ذكره ابن تيمية وغيره، وذكر أن هذا مستثنًى من قول النبي عليه الصلاة والسلام: إذا سمعتم الإقامة؛ فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا [39]، قالوا: إنه إذا خشي أن تفوته الجمعة أو الجماعة، فيجوز له أن يسعى وأن يركض؛ حتى يدرك الجمعة والجماعة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: فما أدركتم فصلوا، وهذا لن يدرك شيئًا.

فإذا أتيت والإمام في الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة، أو في الركعة الأخيرة من أي صلاةٍ، في الركوع في الركعة الأخيرة من أي صلاةٍ، هنا يجوز السعي والركض على القول الراجح، وما عدا ذلك فيمشي الإنسان وعليه السكينة، ولا يسرع ولا يسعى.

السؤال: هل الحائض والنفساء تدخلان في حديث: إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [40]؟

الجواب: في هذه المسألة خلافٌ بين أهل العلم، لكن أكثر أهل العلم على أنهما لا تدخلان؛ لأن النبي اعتبر هذا نقصًا في الدين، فلما قال : ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة الرجل تعادل امرأتين، وأما نقصان الدين: أليس إذا حاضت؛ لم تُصَلِّ ولم تصم؟ [41]، فاعتبره النبي عليه الصلاة والسلام نقصانًا في الدين، فلو كانت المرأة يكتب لها الأجر كاملًا؛ ما اعتُبر نقصانًا في الدين، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم.

لكن المرأة الحائض والنفساء إنما هي ممنوعةٌ فقط من الصلاة والصوم والطواف، أما بقية الأمور فهي كغير الحائض، وكغير النفساء، فينبغي لها إذا كانت أثناء الدورة الشهرية، أو أثناء النفاس ألا تغفُل عن الأعمال الصالحة، فقراءة القرآن تجوز -على القول الراجح- للحائض والنفساء، لكن لا تمس المصحف، وكذلك الذكر، كذلك أيضًا الصدقة، صلة الرحم، جميع الأعمال، الحائض والنفساء كغير الحائض والنفساء، إلا فقط في الصلاة والصوم والطواف، وما عدا ذلك؛ فهي كغيرها من النساء؛ ولذلك تجد أن بعض النساء إذا أتاها الحيض؛ انقطعت عن العمل الصالح تمامًا، وهذا خطأٌ كبيرٌ، هي كغير الحائض، إنما هي فقط ممنوعةٌ من الصلاة ومن الصيام ومن الطواف، أما بقية الأعمال الصالحة فهي كغيرها من النساء.

السؤال: ما حكم التصدق عن الحي بدون علمه؟ وهل يؤجر المتصدَّق عنه؟

الجواب: هذا يدخل في هبة الثواب، ولا بأس بذلك، هبة الثواب كما تكون للميت؛ تكون أيضًا للحي، لكن ينبغي ألا ينسى المتصدق نفسه؛ لأن بعض الناس عنده ولعٌ بإهداء الثواب للآخرين، وينسى نفسه، يعتمر عن غيره وينسى نفسه، يتصدق عن غيره وينسى نفسه، فينبغي أن يبدأ بنفسه أولًا، كما أن هذا الذي تريد أن تهديه الثواب بحاجةٍ لعملٍ صالحٍ؛ فأنت أيضًا بحاجةٍ لعملٍ صالحٍ.

السؤال: أنا متسلفٌ من خالي خمسمئة ريالٍ، وحصل بيننا مشاكل، ولا أستطيع إعطاءه الآن، فما هي الطريقة البديلة؟ هل أضعها على سيارته أو غرفته بدون إخباره؛ لأنه لو فطن أني مستدينٌ منه؛ فقد أقع في مشكلةٍ أكبر وأعظم؟

الجواب: ترد عليه المبلغ بأية طريقة، ولو على شكل هديةٍ، أو تضعها في سيارته، المهم أن ترد له المبلغ بأية طريقةٍ، ما دام أن ردك المباشر له يتسبب في قطيعةٍ؛ فلا تفعل، وإنما اختر طريقةً بديلةً، ومن ذلك ما ذكرت؛ من أنك تضعها مثلًا على سيارته، أو في داخل سيارته، أو أحسن من ذلك أن تجعلها على شكل هديةٍ، تقول: هذه هديةٌ مني لك، وأنت تقصد أنها سدادٌ لهذه المديونية، وهذا مما يقوي المحبة والمودة، ويقوي صلة الرحم بينكما.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^2, ^3, ^4, ^5, ^6, ^7 رواه مسلم: 2816.
^8 رواه مسلم: 2817.
^9 رواه مسلم: 2818.
^10 رواه البخاري: 6464، ومسلم: 2818.
^11 رواه البخاري: 2996.
^12, ^13, ^15, ^16 رواه مسلم: 2819.
^14, ^17, ^21 رواه مسلم: 2820.
^18 رواه مسلم: 772.
^19 رواه البخاري: 1135، ومسلم: 773.
^20 رواه البخاري: 117، ومسلم: 763.
^22 رواه البخاري: 3007، ومسلم: 2494.
^23 رواه البخاري: 1142، ومسلم: 776.
^24 رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758، بنحوه.
^25 رواه البخاري: 7405، ومسلم: 2675.
^26 رواه أحمد: 7089، وابن خزيمة: 2840، وابن حبان 3853، وأبو يعلى: 2090، بألفاظٍ متقاربةٍ.
^27, ^28 رواه مسلم: 2821.
^29 رواه مسلم: 869.
^30 رواه البخاري: 702، ومسلم: 466.
^31 رواه مسلم: 2822.
^32 رواه أبو داود: 4744، والترمذي: 2560، والنسائي: 3763، وأحمد: 8398.
^33 رواه البخاري: 5644، ومسلم: 2809.
^34 رواه البخاري: 1052، ومسلم: 907.
^35 رواه البخاري: 3252، ومسلم: 2826.
^36 رواه الترمذي: 3464، وقال: حسن صحيح غريب.
^37 رواه الترمذي: 3462، وقال: حسن غريب.
^38 رواه البخاري: 3006، ومسلم: 1341.
^39 رواه البخاري: 635، ومسلم: 603.
^40 سبق تخريجه.
^41 رواه البخاري: 304، ومسلم: 79.
zh