logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(73) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها- من حديث: «أعددتُ لعبادي الصالحين ..»

(73) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها- من حديث: «أعددتُ لعبادي الصالحين ..»

مشاهدة من الموقع

تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله ​​​​​​​ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس الثالث والسبعون في شرح “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة من عام 1444 للهجرة.

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها

كنا في الدرس السابق قد بدأنا بـ”كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها” -جعلنا الله تعالى جميعًا من أهلها- وبدأنا بالحديث الأول: حُفَّتِ الجنة بالمكاره [2]، ووقفنا عند الحديث الثاني: حديث أبي هريرة .

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.

قال الإمام مسلمٌ رحمه الله تعالى في “صحيحه”:

حدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي، وزُهَيْر بن حَرْبٍ، قال زُهير: حدثنا، وقال سعيد: أخبرنا سفيان، عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ، عن النبي قال: قال الله : أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ، مِصْدَاق ذلك في كتاب الله: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] [3].

قال: حدثني هارون بن سعيد الأَيْلِيُّ، قال: حدثنا ابن وَهْبٍ، قال: حدثني مالكٌ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة : أن النبي قال: قال الله : أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ، ذُخْرًا، بَلْهَ ما أَطْلَعَكم اللهُ عليه [4].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كُرَيبٍ، قالا: حدثنا أبو معاوية. ح، قال: وحدثنا ابن نُمَيرٍ -واللفظ له- قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : يقول الله : أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ، ذُخْرًا، بَلْهَ ما أَطْلَعَكم الله عليه، ثم قرأ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [5].

قال: حدثنا هارون بن معروفٍ، وهارون بن سعيد الأَيْلِي، قالا: حدثنا ابن وهبٍ، قال: حدثني أبو صَخْرٍ: أن أبا حازم حدَّثه، قال: سمعتُ سهل بن سعد السَّاعديَّ يقول: شهدتُ من رسول الله مجلسًا وَصَف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ، ثم اقترأ هذه الآية: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ۝ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16- 17] [6].

نهاية البشر

الشرح:

الجنة والنار هما نهاية المطاف للبشرية، فإن الله خلق البشر، وأرسل إليهم الرسل مُبَشِّرين ومُنْذِرين، وأنذر وأعذر، وأقام الحُجَّة، واتَّضحت المَحَجَّة، ثم إن الله سبحانه في الدار الآخرة يُحاسِب هؤلاء البشر ويُجازيهم على ما عملوا في الدنيا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8]، وتكون نهاية البشرية: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، هذه هي نهاية البشر، وهذا هو نهاية مطاف البشرية.

فالسُّعَداء وعدهم الله بهذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض، أي: أن السماوات لو أُلْصِقَ بعضها في بعضٍ، وكذلك الأرض؛ لكانت تُعادل عرض الجنة، فما بالك بطولها؟!

وأما نعيم الجنة فكما وصف ذلك النبي بقوله: فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ أي: أن الجنة فيها من النعيم ما لا يستطيع العقل البشري أن يتخيله، مجرد تخيُّلٍ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، ومِصْداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، فادَّخر الله لأهل الجنة من النعيم ما لم يَطَّلِع عليه أحدٌ من الخلق.

وذَكَر الرؤية: فيها ما لا عينٌ رأتْ، والسمع: ولا أذنٌ سمعتْ؛ لأن أكثر المحسوسات إنما تُدْرَك بهما، وإلا فإن الإدراك أيضًا يكون ببقية الحواس، لكنَّ أكثر الإدراك يكون بالبصر وبالسمع؛ فلذلك خصَّ العين بقوله: ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ.

وهذا يدل على عظيم نعيم الجنة، وأنه شيءٌ فوق الخيال، وعندما نقول: فوق الخيال، ليس هذا مبالغةً، بل إن الله تعالى ذكر هذا: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، والنبي يقول: ولا خطر على قلب بشرٍ، فهو فوق الخيال حقيقةً ليس مبالغةً، شيءٌ عظيمٌ لا يمكن أن يتخيله البشر من أنواع النعيم وقُرة العين، فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين، وهذا يدل على عظيم إكرام الله لعباده المؤمنين.

أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً

أدنى أهل الجنةِ منزلةً يُقال له: ادخل الجنة، فإن لك مِثْلَ الدنيا وعَشَرةَ أمثالها [7]، ولك ما اشتهتْ نفسك، ولَذَّتْ عينك [8].

هذا أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً، يُقال: لك مثل الدنيا وعشرة أمثال الدنيا، الدنيا كلها، ولك ما اشتهتْ نفسُك، ولَذَّتْ عينك فوق هذا. فأيُّ نعيمٍ يكون نعيم الجنة؟!

ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في “نُونِيَّتِه” المشهورة:

يا سلعة الرحمن لَسْتِ رخيصةً بل أنتِ غاليةٌ على الكسلان
يا سلعة الرحمن ماذا كُفْؤها إلا أولو التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن أين المُشتري؟ فلقد عُرِضْتِ بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل مِن خاطبٍ؟ فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حُجِبَتْ بكلِّ مكاره الإنسان
ما كان عنها قطُّ مِن مُتخلفٍ وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حُجِبَتْ بكل كريهةٍ لِيُصَدَّ عنها المُبْطِل المُتواني
وتنالها الهِمَمُ التي تسمو إلى ربِّ العُلَى بمشيئة الرحمن

فـ”سلعة الرحمن” هي الجنة، يقول: “لَسْتِ رخيصةً، بل أنت غاليةٌ على الكسلان”، الكسلانُ: المُتواني، البَطَّالُ، هي غاليةٌ عليه، ومع ذلك هي عُرِضَتْ بأيسر الأثمان: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولا أحد يستطيع أن يدخل الجنة بعمله، إنما بفضل الله ورحمته.

“هل مِن خاطبٍ؟ فالمهر قبل الموت ذو إمكان” بإمكان الإنسان أن يتدارك ما دام حيًّا ولم تبلغ الروحُ الحُلْقُومَ، ويعمل أعمالًا تكون سببًا لدخوله الجنة.

“يا سلعة الرحمن لولا أنها حُجِبَتْ بكل مكاره الإنسان” الجنة حُفَّتْ بالمكاره، وإلا لولا أنها لم تُحَفَّ بالمكاره فكما قال ابن القيم: “ما كان عنها قطُّ من مُتخلفٍ، وتعطلتْ دار الجزاء الثاني” لو لم تُحَفَّ الجنةُ بالمكاره لكان كل الناس دخلوا الجنة، فكل الناس سيعملون أعمالًا صالحةً ويدخلون الجنة.

“وتعطلت دار الجزاء الثاني” يريد: النار، ما أحدٌ يدخل النار.

“لكنها حُجِبَتْ بكل كريهةٍ” يعني: حُفَّتْ بالمكاره، حُفَّت الجنة بالمكاره، “لِيُصَدَّ عنها المُبْطِل المُتَواني” المُبْطل: هو الذي يتبع الشهوات، وتحجبه هذه المكاره عن أن يعمل للجنة.

“وتنالها الهمم التي تسمو إلى ربِّ العُلَى بمشيئة الرحمن” فالجنة حُفَّتْ بالمكاره، والنار حُفَّتْ بالشهوات.

وقد جاء في حديث أبي هريرة : أن النبي قال: لمَّا خَلَقَ اللهُ الجنةَ والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها. قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعدَّ الله لأهلها فيها، فقال: أي ربِّ، وعِزَّتك، لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها. فأمر بها فَحُفَّتْ بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددتُ لأهلها فيها. فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: أي ربِّ، وعِزَّتك، لقد خشيتُ ألا يدخلها أحدٌ. قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها. فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه فقال: أي ربِّ، وعِزَّتك، لا يسمع بها أحدٌ فيدخلها. فأمر بها فَحُفَّتْ بالشهوات، ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها. فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: أي ربِّ، وعِزَّتك، لقد خشيتُ ألا ينجو منها أحدٌ إلا دخلها [9].

فهذه الجنة فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشرٍ: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].

وأجسامُ أهل الجنة خُلقتْ للبقاء، بينما أجساد الناس في الدنيا خُلقتْ للفناء: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26- 27]، لكن أجساد أهل الجنة خُلقتْ للبقاء، فهم فيها مُخلَّدون أَبَدَ الآباد، يتنعَّمون فيها: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108].

اجعل هذا الحديث نُصْبَ عينيك: فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ، هذا الحديث العظيم يُبيِّن عظيم نعيم الجنة، وأن نعيم الجنة شيءٌ يفوق الوصف ويفوق الخيال، ولا يستطيع الإنسانُ بعقله البشري المحدود أن يتخيله: ولا خطر على قلب بشرٍ.

فينبغي أن يحرص المسلم على أن يستعدَّ لهذه الدار، وأن يعمل أعمالًا صالحةً؛ حتى يسعد السعادة الأبدية في جنةٍ عرضها السماوات والأرض؛ ولهذا كان النبي في مواعظه يربط أصحابه بذكر الجنة والنار، فَيُحْدِث في نفوسهم أثرًا عجيبًا، حتى إنه في غزوة بدرٍ قال: قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، فقال عُمَير بن الحُمَام الأنصاريُّ: “بَخٍ، بَخٍ”، فقال رسول الله : ما يحملك على قولك: بَخٍ بَخٍ؟ قال: لا واللهِ يا رسول الله، إلَّا رجاءةَ أن أكون من أهلها. قال: فإنَّك من أهلها، فأخرج تمراتٍ من قَرَنِه فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال: لَئِنْ أنا حَيِيتُ حتى آكل تمراتي هذه إنَّها لَحَيَاةٌ طويلةٌ. قال: فَرَمَى بما كان معه من التَّمْر، ثم قاتلهم حتى قُتِلَ رضي الله عنه وأرضاه [10].

فكان عليه الصلاة والسلام يربط أصحابه بذكر الجنة والنار؛ لأن ذِكْر هاتين الدارين له أثرٌ عجيبٌ في النفوس؛ لأنهما هما نهاية المطاف للبشرية، فلا بد أن يكون ذِكْرهما حاضرًا لدى كل مسلمٍ، ولا بد ألا يغيب عنك ذِكْر الجنة والنار، وأن تدعو الله كلَّ يومٍ وتسأل الله تعالى أن يُدْخِلَك الجنة، وأن يُعِيذك من النار، كلَّ يومٍ.

وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي : مَن سأل الله الجنةَ ثلاث مراتٍ قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ومَن استجار من النار ثلاث مراتٍ قالت النار: اللهم أَجِرْهُ من النار [11].

باب: إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلِّها مئة عامٍ لا يقطعها

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

باب: إن في الجنةِ شجرةً يسير الراكبُ في ظِلِّها مئةَ عامٍ لا يقطعها.

قال: حدثنا قُتَيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ليثٌ، عن سعيد بن أبي سعيدٍ المَقْبُريِّ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، عن رسول الله أنه قال: إن في الجنة لَشَجرةً يسير الراكبُ في ظِلِّها مئةَ سنةٍ [12].

قال: حدثنا قُتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا المغيرة -يعني: ابن عبدالرحمن الحِزَامِيّ- عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ، عن النبي بمثله، وزاد: لا يقطعها [13].

قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحَنْظَلِيُّ، قال: أخبرنا المَخْزُوميُّ، قال: حدثنا وُهَيْبٌ، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ ، عن رسول الله قال: إن في الجنة لَشَجرةً يسير الراكب في ظلها مئة عامٍ لا يقطعها [14].

قال أبو حازمٍ: فحدَّثْتُ به النُّعمانَ بن أبي عيَّاشٍ الزُّرَقِيَّ، فقال: حدثني أبو سعيدٍ الخُدْريُّ ، عن النبي قال: إن في الجنة شجرةً يسير الراكبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السريعَ مئةَ عامٍ ما يقطعها [15].

الشرح:

هذا ذِكرٌ لنوعٍ من نعيم الجنة، وهو ما أعدَّ الله فيها من الأشجار العظيمة والظِّلِّ الوارف، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بأن في الجنة شجرةً، شجرةٌ في الجنة، قيل: إنها شجرةُ طُوبَى، ولكن هذا لا دليل عليه.

النبي عليه الصلاة والسلام قال: شجرة، هذه الشجرة من عظمتها أنه يسير الراكب في ظلِّها مئةَ سنةٍ لا يقطع ظِلَّها، وليس أيّ راكبٍ، وإنما جاء تفسير ذلك في الرواية الأخرى: الراكبُ الجَوَادَ المُضَمَّر السريع يعني: لو كان يركب على فرسٍ مُضَمَّرٍ، والمُضَمَّر: الذي ضُمِّر ليشتد جَرْيُه، وهو أسرع ما يكون من الخيل، يعني: يسير هذا الراكب بسرعةٍ كبيرةٍ مئةَ سنةٍ لا يقطع ظِلَّ هذه الشجرة.

إذا كان هذا وصفًا لشجرةٍ من أشجار الجنة، فما بالك بنعيمها؟!

شجرةٌ واحدةٌ من أشجار الجنة يسير الراكب على الجَوَادِ المُضَمَّر السريع مئةَ سنةٍ لا يقطع ظِلَّها.

هذا وصفٌ لشجرةٍ واحدةٍ من أشجار الجنة، وهذا يدل على عظيم نعيم الجنة، وعظيم ما أعدَّ الله لأهلها، مئة سنةٍ وهو يسير ما يستطيع أن يقطع ظِلَّها، سبحان الله!

ما هذه الشجرة؟!

شجرةٌ عظيمةٌ، وهذا وصفٌ لشجرةٍ واحدةٍ فقط من أشجار الجنة.

معنى قوله: يسير الراكب في ظلِّها مئة عامٍ

قال النووي رحمه الله: “المراد بظِلِّها: كَنَفُها وذَرَاها، وهو ما يستر أغصانها”.

وإنما قال النوويُّ ذلك لأن الجنة ليس فيها شمسٌ، فكيف يكون هناك ظِلٌّ؟

ولكن هذا محلُّ نظرٍ، والصواب: أننا نُثبت الظلَّ على حقيقته كما أخبر النبي ، كما هو ظاهر النص، ولا يُستبعد ذلك، ولا يلزم أن تكون هناك شمسٌ حتى يكون هناك ظِلٌّ، فقد يكون ظلًّا يخلقه الله ، قد يكون هناك ظلٌّ لإسفارٍ يكون لأهل الجنة، فإنه قد ورد في بعض الآثار أن هناك نورًا يكون من تحت العرش لأهل الجنة، فالله تعالى أعلم.

يعني: لا داعي لهذا التأويل، وأن المقصود بظلِّها: كَنَفُها وذَرَاها، هذا تأويلٌ لا دليل عليه، والأحسن أن نُثْبِت الظلَّ كما أخبر به النبي ، نظير ذلك قول النبي : سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ تعالى في ظلِّه، يوم لا ظلَّ إلا ظله [16].

يعني: بعض العلماء استشكل كيف يكون لله ظِلٌّ؛ فالله تعالى لا يكون فوق الشمس، ولا فوق أيِّ شيءٍ؟!

نقول جوابًا عن ذلك:

أولًا: قيل: إن المقصود ظلُّ عرشه، وقد جاء هذا في رواية سعيد بن منصور.

وقيل: إنه ظلٌّ يخلقه الله ، والله تعالى أعلم.

لكن نؤمن بأن هناك سبعةَ أصنافٍ من البشر يُظِلهم الله ، فكيف يكون هذا الظل؟ ما مصدره؟ ما حقيقته؟

الله أعلم؛ لأن أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، تختلف اختلافًا كبيرًا، فلا تُقاس أمور الآخرة بالدنيا.

هكذا أيضًا نقول فيما ذَكَر النبيُّ عليه الصلاة والسلام في ظلِّ هذه الشجرة.

نقول: الحديث على ظاهره، هو ظِلٌّ، ولا نُؤوِّل ذلك، لا نقول: إن المقصود كَنَفُها وذَرَاها؛ لأن هذا التأويل لا دليل عليه، إنما نُثْبِت هذا الظلَّ كما ذكره النبي .

باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

باب: إحلال الرِّضوان على أهل الجنة، فلا يَسْخَط عليهم أبدًا.

قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن بن سَهْم، قال: حدثنا عبدالله بن المبارك، قال: أخبرنا مالك بن أنس. ح، قال: وحدثني هارون بن سعيد الأَيْلِيُّ -واللفظ له- قال: حدثنا عبدالله بن وهبٍ، قال: حدثني مالك بن أنسٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيدٍ الخدري : أن النبيَّ قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لَبَّيْكَ ربَّنا وسَعْدَيْكَ، والخير في يديك. فيقول: هل رَضِيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتَنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك. فيقول: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأيُّ شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا [17].

أعلى نعيمٍ في الجنة

الشرح:

الله أكبر!

هذا بعدما يستقر أهل الجنة في الجنة، يُنادي الربُّ أهلَ الجنة ويقول: يا أهل الجنة. فيقولون: لَبَّيْكَ ربَّنا وسَعْدَيْكَ، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتَنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك. فيقول: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأيُّ شيءٍ أفضل من ذلك؟ كلُّ نعيمٍ حصَّلوه، أيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ قال: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.

وهذا النداء، وهذا الخطابُ غيرُ الخطاب لأهل الجنة الوارد في حديث صُهَيبٍ : أن النبي قال: إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ نادى مُنَادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه. فيقولون: وما هو؟ ألم يُثَقِّل موازيننا، ويُبَيِّض وجوهنا، ويُدْخِلْنا الجنة، ويُجِرْنا من النار؟ قال: فَيُكْشَف الحجاب، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النظر إليه [18].

وهذا يدل على أن أعلى النعيم الذي يُمكن أن يناله الإنسان هو لذَّة النظر إلى وجه الربِّ ، ليس هناك نعيمٌ أعظم من هذا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فوالله ما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النظر إليه.

أعظمُ لذَّةٍ: النظرُ إلى وجه الله سبحانه، يتنعم الإنسان بها تنعُّمًا عظيمًا، فهذا الربُّ العظيم الخالق لك وللناس وللكون كله تتنعَّم بالنظر إليه سبحانه، والتَّحدث إليه جلَّ وعلا، وهذا شيءٌ لا يفوقه أيُّ نعيمٍ، هو أعظم النَّعيم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فوالله ما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النظر إليه.

فوائد من حديث: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة ..

  • في هذا الحديث، في حديث أبي سعيدٍ  قال: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا، وهذا يدل على أن الخير والفضل والاغتباط إنما هو في رضا الله ، وكل شيءٍ سواه وإن اختلفت أنواعه فهو من أثره، كل شيءٍ سوى رضا الله فهو من أثر رضا الله.
    ولذلك فالغاية التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم: أن يَرْضَى اللهُ عنه، فإذا رضي الله عن الإنسان تأتيه ألوان النعيم والسعادة، وكل شيءٍ يتنعم به الإنسان هو من آثار رضا الله ؛ ولذلك لا بد أن تكون غاية مُنَى العبد: أن يرضى الله عنه.
    ولهذا يُنادي الربُّ ​​​​​​​ أهل الجنة فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك. فيقول: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ يعني: أفضل من نعيم الجنة الذي أنتم فيه، ما هو؟
    قال: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا، وهذا يدل على أن نعيم رضا الله على العبد أعظمُ من نعيم الجنة نفسه، يعني: كون الإنسان يتنعم في الجنة بالمآكل والمشارب والمناكح وكل شيءٍ، هناك نعيمٌ أعظم وهو رضا الله ، ثم يأتي نعيمٌ أعظمُ من هذا، وهو: النظر إلى وجه الربِّ ؛ ولذلك قال: فما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النظر إليه.
  • أيضًا من الفوائد: دلَّ هذا الحديث على رضا جميع أهل الجنة بما هم فيه من النعيم، على اختلاف منازلهم، وتنوع درجاتهم، فكل واحدٍ من أهل الجنة يرى أنه في نعيمٍ عظيمٍ، ويدل لذلك أن جميع أهل الجنة لما ناداهم الرب  قال: هل رضيتم؟ قالوا: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك، وهذا يدل على أن جميع أهل الجنة راضون عما هم فيه من النعيم.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: دلَّ هذا الحديث على أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه، يتنعَّمون في الجنة بما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ، ففيها: مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].
    ثم يُحِلُّ الله عليهم رضوانه، ثم ينظرون إلى الله سبحانه، فما أُعْطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وهذا أعظم ما يكون من النعيم بما لا مزيد عليه.
  • أيضًا من الفوائد: الحكمة في ذِكْر رضا الله عن أهل الجنة بعد استقرارهم فيها: أنه لو أخبرهم بذلك قبل الاستقرار لكان ذلك خبرًا من علم اليقين، فأخبر بذلك -برضاه عنهم- بعد الاستقرار في الجنة؛ ليكون ذلك من عين اليقين.

مراتب اليقين

هناك: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.

أما علم اليقين: فهو أن تعلم الشيء علمًا يقينيًّا، وهذا يحصل للمؤمنين في الدنيا، فنحن نعلم أن ما قاله الله ​​​​​​​ وقاله رسوله حقٌّ علمًا يقينيًّا، بل إن بعض المُوفَّقِين يقول: إنني أُوقِن أن ما قاله الله  وما قاله رسوله حقٌّ من أحوال الآخرة أعظم مما لو رأيتُ ذلك بعيني؛ لأن ما أراه بعيني يحتمل ألا يكون كلُّه حقيقةً، وأن يكون -مثلًا- كالسراب، فالسراب يراه الإنسان يظنه ماءً، وهو ليس كذلك، فيدخل عليه التَّخييل، وقد لا يكون حقيقةً، لكن ما أخبر اللهُ تعالى به وما أخبر به رسوله حقٌّ قطعًا.

فيقول بعض المُوفَّقين: إن اليقين الذي عندي بما أخبر الله تعالى به من أحوال الآخرة أعظم مما لو رأيتُ. فهذا علم اليقين.

وعين اليقين: عندما يرى الإنسان ما أخبر الله تعالى به، وما أخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام؛ يرى الجنة، ويرى النار.

وحقُّ اليقين: عندما يُباشر ذلك، يعني: عندما يدخل الجنة، إن كان من أهل الجنة، أو يدخل النار، إن كان من أهل النار.

ولذلك فإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام كان عنده علم اليقين بأن الله يُحْيِي الموتى، وأنه على كل شيءٍ قديرٌ، لكن أراد أن يرتقي إلى منزلة عين اليقين: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، هذا يدل على أن علم اليقين عنده: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، يعني: لأترقَّى إلى عين اليقين؛ لأن عين اليقين يطمئن بها القلبُ أكثرَ من علم اليقين.

فهذه المراتب الثلاث ينبغي أن يضبطها طالبُ العلم: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين.

وشبَّه هذا بعضُ العلماء بمثالٍ يُوضح المقصود، يقول: لو أخبرك ثقةٌ بأن هناك عسلًا، فإنك تعلم بذلك علم اليقين، فإذا رأيتَه تكون قد رأيتَه عينَ اليقين، فإذا ذُقْتَه تكون قد باشرتَ حقَّ اليقين. فهذا هو الفرق.

  • أيضًا من الفوائد: إثبات صفة الكلام لله ، فإنه في هذا الحديث ذَكَر أن الله سبحانه يتكلم، وأنه يُنادي أهلَ الجنة، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة: إثبات صفة الكلام لله سبحانه، خلافًا للفرق المُنحرفة الذين أنكروا صفة الكلام، والله تعالى يتكلم كيف يشاء، ومتى شاء.
  • أيضًا من الفوائد: جواز إضافة المسكن لساكنه؛ وذلك لأن الله قال: يا أهل الجنة، فدلَّ ذلك على جواز إضافة المسكن لساكنه، وإن لم يكن في الأصل له، فإن الجنةَ مِلكٌ لله ، لكن الله تعالى أضافها لساكنيها فقال: يا أهل الجنة، وإلا فالجنة ملكٌ لله سبحانه، فأخذ من هذا بعضُ العلماء: جواز إضافة المنزل إلى ساكنه.

باب: تَرَائي أهل الجنة أهل الغُرَف كما يُرى الكوكب في السماء

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

باب: تَرَائي أهل الجنة أهلَ الغُرَف كما يُرَى الكوكبُ في السماء.

قال: حدثنا قُتَيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبدالرحمن القارِيَّ- عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ : أن رسول الله قال: إن أهل الجنة لَيَتَرَاءَوْنَ الغُرْفةَ في الجنة كما تَرَاءَوْنَ الكوكبَ في السماء.

قال: فحدَّثتُ بذلك النُّعْمَانَ بن أبي عيَّاشٍ، فقال: سمعتُ أبا سعيدٍ الخُدْريَّ  يقول: كما تَرَاءَوْنَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ في الأُفُقِ الشرقي أو الغربي [19].

قال: وحدثناه إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا المَخْزُوميُّ، قال: حدثنا وُهَيْبٌ، عن أبي حازمٍ، بالإسنادين جميعًا نحو حديث يعقوب [20].

قال: حدثني عبدالله بن جعفر بن يحيى بن خالد، قال: حدثنا مَعْنٌ، قال: حدثنا مالكٌ. ح، قال: وحدثني هارون بن سعيد الأَيْلِيُّ -واللفظ له- قال: حدثنا عبدالله بن وهبٍ، قال: أخبرني مالك بن أنسٍ، عن صفوان بن سُلَيْمٍ، عن عطاء بن يَسَارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري : أن رسول الله قال: إن أهل الجنة لَيَتَرَاءَوْنَ أهلَ الغُرَفِ من فوقهم كما تَتَرَاءَوْن الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ من الأُفُق من المشرق أو المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجالٌ آمنوا بالله وصَدَّقوا المُرسلين [21].

تفاوت أهل الجنة في النَّعيم

الشرح:

هذا الحديث يدل على تفاوت أهل الجنة في درجاتهم، وأن هذا التفاوت يكون تفاوتًا عظيمًا، وقد شبَّه النبي هذا التفاوت بقوله: إنَّ أهل الجنة لَيَتَرَاءَوْنَ أي: لَيَنْظرون الغرفةَ في الجنة، كما تَرَاءَوْن الكوكبَ في السماء، وفي الرواية الأخرى قال: كما تَرَاءَوْنَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ، والكوكب الدُّري: هو شديدُ الإنارة، كأنه نُسِبَ للدُّرِّ تشبيهًا له بِصَفَائه.

قال: في الأُفق الشرقي أو الغربي، وفي الرواية الأخرى: إن أهل الجنة لَيَتَرَاءَوْن الغُرَف من فوقهم يعني: كما قال القُرطبيُّ: المعنى: أن أهل الجنة الذين يكونون في الأسفل ينظرون إلى أهل الجنة الذين فوقهم في الأعلى على تفاوت منازلهم، فيرون أصحاب الجنة في الغُرَف وفي منازلهم: كما تَرَاءَوْنَ الكوكب الدُّرِّي، كما ينظر مَن على الأرض إلى دَرَارِي السماء وإلى الكواكب على تفاوت منازلها، فعندما ننظر إلى السماء، وننظر فيها الكواكب، ننظر هذا المُشتري، وهذا كوكب الزهرة، وهذا كوكب زُحَل، وهذا كوكب كذا.

وهكذا أيضًا يكون تفاوتُ أهل الجنة، فأهل الجنة الذين في الدرجة الأسفل ينظرون لمَن في الدرجة الأعلى هكذا، ينظرون لأهل الغُرَف: هذا منزل فلانٍ، وهذا منزل فلانٍ، وهذا منزل فلانٍ؛ لِتَفَاوُتِ ما بينهم.

فانظر إلى هذا التفاوت العظيم فيما بين أهل الجنة؛ ولهذا قال: كما تَرَاءَوْنَ الكوكب الدُّرِّي في الأُفق الشرقي أو الغربي، فقال: لِتَفَاضُلِ ما بينهم، بيَّن النبيُّ عليه الصلاة والسلام السببَ في هذا؛ قال: لتَفَاضُل ما بينهم.

قالوا: “يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم؟” يعني: إذا نظر الإنسان وهو في الجنة إلى مَن هم في الأعلى درجةً كما ينظر إلى الكوكب الدُّرِّي، قالوا: هذه منزلةٌ عاليةٌ رفيعةٌ، “تلك منازل الأنبياء”.

فقال عليه الصلاة والسلام: بلى، والذي نفسي بيده، رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المُرسلين يعني: أن هذه الدرجات العَلِيَّةَ تكون أيضًا لغير الأنبياء، لكن مجموع الأدلة يدل على أن الأنبياء أعلى درجةً في الجنة، ثم مَن الذي يلي الأنبياء؟

الصِّدِّيقون، فالصديقون في المرتبة التي تلي الأنبياء، ومَن الذي يلي الصديقين؟

الشهداء، ومَن الذي يلي الشهداء؟

الصالحون، ثم بقية أهل الجنة.

فيكونون بهذا الترتيب: أعلى أهل الجنة درجةً الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون.

فالصديقية هي أعلى مراتب البشر بعد النبوة، وهي أعلى من درجة الشهادة، الصديقية أعلى من درجة الشهادة، فيكون بين أهل الجنة هذا التفاوت العظيم الذي ذكره النبي .

وقد ذكر الله تعالى في سورة “الواقعة”، قسَّم أهلَ الجنة إلى قسمين، قال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۝ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10- 11]، ثم قال: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة:27]، فقسَّم اللهُ تعالى أهلَ الجنة إلى السابقين، وإلى أصحاب اليمين، لكن ذكر الله في السابقين قال: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:13- 14]، يعني: أن السابقين في أول الأُمة أكثرُ من آخرها، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: من أول الأُمة، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني: من آخر الأُمة؛ لأن أفضل هذه الأُمة أولها، ولا يأتي عليكم زمانٌ إلا الذي بعده شرٌّ منه [22]، كما أخبر بذلك النبي .

بينما أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ۝ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:39- 40]، فذكر الله هذه المراتب لأهل الجنة.

وأيضًا في سورة “الرحمن” ذكر الله صنفين من النعيم، قال : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]، ثم بعد ذلك قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62]، مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66]، فذكر الله تعالى نوعين من النعيم، وهذا يدل على تفاوت أهل الجنة، فأهل الجنة يتفاوتون في النعيم تفاوتًا عظيمًا، وهذا التفاوت العظيم هنا وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأن مَن كان في الدرجة الأسفل يرى مَن في الدرجة الأعلى، كما يرى الناس في الدنيا الكوكب الدُّرِّيَّ، وهذا يدل على التفاوت العظيم.

وكما جاء في الحديث الآخر: إن في الجنة مئةَ درجةٍ .. ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض [23]، فأهل الجنة يتفاوتون بحسب أعمالهم، وهذا يدل على عظيم عدل الله ، وذلك أن البشر عندما يُحاسَبون تُوزَن الأعمال بعد ذلك، فتُوضَع الحسنات في كِفَّةٍ، والسيئات في كِفَّةٍ، فإن رجَحَتْ كِفَّة الحسنات كان من أهل الجنة: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6- 7]، وإن رجحتْ كِفَّة السيئات كان من أهل النار إلا أن يعفو الله عنه: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ۝ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:8- 11].

والقسمة المنطقية العقلية تقول: هناك قسمٌ ثالثٌ، يعني: إما أن ترجح كِفَّة الحسنات، وإما أن ترجح كِفَّة السيئات، والقسم الثالث ما هو؟

أن تتساوى الحسنات والسيئات، وهؤلاء هم أصحاب الأعراف، ومن تمام عدل الله أنهم لا يتساوون مع مَن رجحتْ كِفَّة حسناتهم في دخول الجنة، بل يُوقَفون في مكانٍ بين الجنة والنار اسمه: الأعراف، حتى إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، أدخلهم اللهُ الجنة برحمته وفضله.

هذه هي القسمة العامة، وهذا هو الميزان العام، وتأتي بعد ذلك التفاصيل: فأهل الجنة الذين دخلوا الجنة ورجحتْ كِفَّة حسناتهم يتفاوتون فيما بينهم، فكل واحدٍ يدخل منزلته في الجنة بحسب حسناته.

طبعًا أعلى البشر منزلةً: النَّبيون، وبعدهم الصديقون، وبعدهم الشهداء، وبعدهم الصالحون، وبعدهم بقية أهل الجنة، وكل واحدٍ من أهل الجنة يدخل مرتبته في الجنة بحسب عمله.

تفاوت أهل النار في العذاب

أيضًا في النار دَرَكاتٌ، وأهلُ النار يدخلون النارَ بحسب ذنوبهم أيضًا، وأخبر اللهُ تعالى أن المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النار.

وبذلك يتبيَّن للإنسان أن كلَّ شيءٍ بعد موته مُرتَّبٌ على ما عَمِل في الدنيا، فيندم الإنسان ندمًا عظيمًا: كيف فرَّط في العمر؟ كيف ذهبتْ عليه هذه الأيام والليالي؟ وهو يرى أن كلَّ شيءٍ مُرتَّبٌ على ما عمل في الدنيا، حتى مثقال الذَّرة: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]، حتى مثاقيل الذَّرِّ يأتي بها الله، ويُحاسِب الإنسانَ عليها: إما له، وإما عليه، فيندم الإنسان كيف فرَّط في عمره؟ كيف ذهبتْ عليه أيامه ولياليه وهو في لهوٍ وفي غفلةٍ؟

ولذلك حتى أهل الجنة مع أن الله يُكْرِمهم بنعيم الجنة لا يتحسَّرون على شيءٍ إلا على ساعةٍ مضتْ من أعمارهم لم يذكروا الله فيها؛ لأنهم يرون كلَّ شيءٍ مُرتبًا على العمل، حتى أهل الجنة يتفاوتون فيما بينهم بحسب العمل، وهذا يدل على عظيم عدل الله سبحانه -سبحان الله العظيم- عظيم عدل الله .

ولذلك جعل اللهُ ​​​​​​​ الدار الآخرة هي دار العدالة المُطلقة: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47]، عدالةٌ مُطلقةٌ، يتعجَّب الإنسان من هذه العدالة، حتى إنَّ مَن أنكر أو جحد يُخْتَم عليه، فتشهد عليه الشهود، يُخْتَم على فيه، لا يتكلم، ثم تشهد عليه شهودٌ؛ يشهد عليه سمعه، وبصره، ويده، ورِجْله، ولسانه، وجِلْده، هذه ستة شهودٍ الآن، هذه ستةٌ، والسابع: الملائكة الذين كانوا معه: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23].

وأيضًا الشاهد الثامن: الأرض التي عمل عليها: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4- 5].

ثمانية شهودٍ يشهدون عليه، فهل يستطيع أن يُنكر شيئًا؟

فيرى الإنسانُ تمام عدل الله .

فالدار الآخرة هي دار العدالة المُطلقة: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، أما الدنيا فليست بدار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، وقد يموت الظالم ولم يُعاقَب، يُؤجَّل عقابه للآخرة: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].

فلذلك -أيها الإخوة- ينبغي أن يستحضر المسلمُ هذه المعاني، وأن يغتنم ما تبقَّى من العمر في التَّزوُّد بزاد التقوى؛ حتى يفوز بالسعادة الأبدية في جنةٍ عرضها السماوات والأرض في هذه الدار العظيمة، وأيضًا حتى ينال مرتبةً عَلِيَّةً في هذه الجنة.

فانظر إلى التفاوت؛ تفاوت أهل الجنة، كيف أنهم يرون أهل الغُرَف كما يرى الناسُ في الدنيا الكوكبَ الدُّرِّيَّ في الأُفُق.

وهذا يدل على التفاوت العظيم والتَّفاضل الكبير فيما بين أهل الجنة.

طيب، نكتفي بهذا القدر، والآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

نعم، تفضل.

طالب: …….

الشيخ: نعم، طبعًا أهل الجنة يتفاوتون فيما بينهم، وذكرنا أن أعلاهم هو ما أعدَّه اللهُ ​​​​​​​ للأنبياء، يليهم الصديقون، ومرتبة الصِّدِّيقيَّة تكون لهؤلاء الصديقين، فالصِّدِّيق هو -أولًا- كثيرُ الصدق، يكون صادقًا في أقواله وأعماله، يتحرَّى الصدق، كما قال عليه الصلاة والسلام: وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يُكْتَب عند الله صِدِّيقًا [24].

وذكر ابن تيمية رحمه الله أن أكثر مَن ينال مرتبةَ الصديقية هم العلماء العاملون بعِلْمهم؛ ولذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في المقابل لهذا: أن أول مَن تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة ثلاثةٌ، ذَكَر منهم: رجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه الناس، لكن رياءً، فيكون أول مَن تُسَعَّر بهم النار، وفي مقابله الصِّدِّيق الذي تعلَّم العلم وعلَّمه وعَمِل به، فيكون من الصديقين، ورجلٌ قاتل ليُقال: هو جريءٌ، وهو شجاعٌ، مقابله الشهداء، ورجلٌ قرأ القرآن ليُقال: هو قارئٌ، يُقابله الصالحون [25].

فأكثر مَن ينال مرتبة الصديقية هم أولياء الله ، وأكثر مَن يكون من العلماء العاملين بعلمهم.

وولايةُ الله أيُّ مسلمٍ يمكن أن يصل إليها، فليست محصورةً بأناسٍ مُعينين كما تعتقد بعض الفرق المُنحرفة.

ولاية الله يمكن أن تحصل لأيِّ أحدٍ، فقد يكون من أولياء الله: إنسانٌ بسيطٌ عاملٌ من العُمَّال يعمل في مزرعته، لكن عنده صلاحٌ وصدقٌ فيكون من أولياء الله، وقد يكون إنسانٌ نجَّارٌ من أولياء الله، وقد يكون إنسانٌ أُمِّيٌّ من أولياء الله، وقد يكون إنسانٌ في باديته من أولياء الله، وقد يكون العالِم العامل، وهذا أكثر مَن يكون، فأكثر مَن يكون من أولياء الله هم العلماء العاملون؛ ولهذا قال الإمام الشافعي: “إن لم يكن العلماء أولياء الله، فما لله من وليٍّ”، لكنها لا تنحصر فيهم، فقد تكون الولايةُ في أيِّ إنسانٍ، وهذا من حكمة الله وعدله: أنها ليست محصورةً في أناسٍ مُعينين، فبعض الناس يكون عنده صلاحٌ وتقوى، وإن لم يكن من العلماء، لكن يكون عنده صلاحٌ وتقوى واجتهادٌ في الطاعة، فهذا ينال الولاية -ولاية الله – وربما يصل أيضًا إلى مرتبة الصديقية، قد يصل إلى مرتبة الصديقية.

السؤال: يقول: هل يصح ما يُقال بأن الإمام أحمد له أكثر من قولٍ في المسح على الجوارب؟

الجواب: نعم، الإمام أحمد له أكثر من روايةٍ، ومعظم المسائل الخلافية تجد أن الإمام أحمد له فيها أكثر من روايةٍ.

السؤال: هل مَن قال بجواز المسح على الجوارب هم الحنابلة؟

الجواب: نعم، هو المشهور من مذهب الحنابلة، وأما الحنفية والمالكية والشافعية فإنهم لا يقولون بالمسح على الجوارب، لكنهم يقولون بالمسح على الخُفَّين، فالمسح على الخُفَّين المذاهب كلها تقول به.

والفرق بين الجوارب والخِفَاف: أن الخِفَاف تكون من الجِلْد، والجوارب من غير الجِلْد، لكن الناس اليوم إنما يلبسون الجورب الذي يُسميه الناس: الشراب، فالقول الراجح هو قول الحنابلة، وهو مشروعية المسح على الجوارب، ونُقِل إجماع الصحابة على مشروعية المسح على الجوارب.

السؤال: ما فضل أذكار الصباح والمساء؟

الجواب: أذكار الصباح والمساء هي حِصنٌ حصينٌ للمسلم، يتحصَّن بها من الشرور، فإن الإنسان في هذه الحياة مُعَرَّضٌ لكثيرٍ من الشرور؛ من شرور شياطين الإنس والجن، ومن السحر، ومن العين، ومن المَسِّ، ومن أمورٍ كثيرةٍ، فهذه الأذكار تُحَصِّنه -بإذن الله – من هذه الشرور.

فعلى سبيل المثال: المُعوذتان: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس]، هاتان السورتان على وَجَازة ألفاظهما -يعني: لا تتجاوز كتابتهما في المصحف نصفَ صفحةٍ- ومع ذلك تَضَمَّنَتَا الاستعاذةَ بالله تعالى من جميع الشرور التي في الدنيا، فأيُّ شرٍّ يخطر ببالك هاتان السورتان تضمَّنتا الاستعاذة بالله تعالى منه؛ ولذلك يُشْرَع أن يُؤْتَى بهاتين السورتين مع سورة “الإخلاص” -مع أذكار الصباح والمساء- ثلاث مراتٍ، ودُبُر كلِّ صلاةٍ مرةً واحدةً.

وكذلك أيضًا الأذكار الواردة في السُّنة، مثل: قول النبي : مَن قال: بسم الله الذي لا يَضُرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاثَ مراتٍ؛ لم يَضُرَّه شيءٌ [26]، مَن قال صباحَ كل يومٍ، ومساء كل ليلةٍ ثلاثًا، ثلاثًا: بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يضُرَّه شيءٌ [27].

وكذلك أيضًا بقية الأذكار هي حصنٌ حصينٌ يتحصن بها المسلم من الشرور؛ ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم عليها، ولا بأس أيضًا أن يُحَصِّن أهله وأولاده، فقد كان النبي يُحَصِّن الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يقول: أُعيذكما بكلمات الله التَّامة من كلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كل عينٍ لامَّةٍ [28]، فلا بأس أن يُحَصِّن الإنسان أهله أو أولاده بهذه الأذكار.

السؤال: هل صحَّ أن درجات الجنة بعدد آيات القرآن؟

الجواب: هذا قولٌ لبعض أهل العلم، لكن لا دليل عليه، وهذه من أمور الغيب التي لا تُدْرَك إلا بالوحي، وليس للعقل البشري فيها مجالٌ للاجتهاد، ولم يصح في ذلك شيءٌ عن النبي .

السؤال: أنا شابٌّ مُستقيمٌ، وأشعر بفتورٍ في الطاعة، وأخشى الانتكاسة، فما التَّوجيه؟

الجواب: ينبغي أن تحرص على الصُّحبة الصالحة، فإن الصُّحبة الصالحة من أعظم أسباب الثبات، كما قال النبي : مَثَلُ الجليس الصالح والجليس السُّوء كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَكَ، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكِير إما أن يُحْرِق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثةً [29].

فاحرص على أن تُجَالِسَ أهل الخير والصلاح، وأن تُجالس الجُلساء الصالحين، فإن هذا من أعظم أسباب الثبات.

وكذلك ينبغي أن تحرص على أن يكون لك وِرْدٌ من القرآن تُحافظ عليه كلَّ يومٍ، فإن هذا أيضًا من أسباب الثبات، بل من أسباب زيادة الإيمان، كما قال الله : وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، إذا كان مجرد الاستماع للقرآن يزيد به الإيمان، فكيف بتلاوة القرآن؟!

وكذلك أيضًا ينبغي أن يحرص المسلم على الدعاء: أن يسأل الله ​​​​​​​ الثبات، وأن يُكْثِر من قول: يا مُقلِّب القلوبِ، ثَبِّتْ قلبي على دينك، يا مُصَرِّف القلوب، صَرِّفْ قلبي على طاعتك، ربِّ لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتَنِي، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب، اللهم ثَبِّتْني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

يُكْثِر من هذه الأدعية، يسأل الله تعالى الثبات.

وكذلك أيضًا من أسباب الثبات: أن يحرص على قيام الليل؛ لأن قيام الليل هو بمثابة الوقود الروحي للمسلم طوال يومه وليلته؛ فقيام الليل أولًا: هو دليلٌ على صدق الإنسان وبُعْده عن النفاق، كما قال السلف: “ما قام الليلَ منافقٌ”، فالذي يقوم الليل هذه أمارةٌ -إن شاء الله تعالى- على أنه بعيدٌ عن النفاق.

ثانيًا: قيام الليل يُعطي الإنسان وقودًا روحيًّا، ويزيد به الإيمان.

ثالثًا: أنه بقيام الليل يتعرَّض لنفحات الله ؛ يتعرض لمغفرته، ويتعرض أيضًا لإجابة الدعوات، والله حين يبقى ثلث الليل الآخر ينزل إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله وعظمته، ويُنادي عباده: هل من داعٍ يُستجاب له؟ هل من سائلٍ يُعْطَى؟ هل من مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَر له؟ [30].

فقيام الليل من أسباب الثبات.

السؤال: ما رأيكم في نشر العلم عبر (الواتس)؟

الجواب: (الواتس) وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي من الأمور التي يُقال فيها: أنها سلاحٌ ذو حَدَّين، يمكن أن يُستفاد منها في الخير، ويمكن أيضًا أن تُستخدم في الشرِّ، فإن أحسن الإنسانُ الإفادةَ منها انتفع انتفاعًا عظيمًا ونفع غيره، وربما تكون هذه الوسائل وَبَالًا على الإنسان إذا استخدمها في الشر.

فينبغي الحرص على أن تُستخدم في أمور الخير، وفي نشر المقاطع النافعة، المقاطع الهادفة التي فيها الدعوة إلى الله ، وفيها نشر العلم الصحيح، وهذه من مزاياها: أنها تصل لجميع شرائح المجتمع؛ لذلك ينبغي الحرص على الإفادة منها، وأن تكون وسيلةً من وسائل الدعوة إلى الله  ونشر العلم.

ويمكن للإنسان إذا كان له درسُ مُباحثةٍ مع بعض أصحابه أن يستفيدوا من هذه الوسائل، يستفيدوا منها -مثلًا- بوضع مجموعةٍ والتَّباحُثِ عبرها، ونشر العلم عبرها، ونحو ذلك.

السؤال: لم أفهم مسألة “الدعاء يرد القدر”، والقدرُ مكتوبٌ، وقد رُفِعَت الأقلام، وجَفَّت الصُّحُف؟

الجواب: لمَّا أراد اللهُ ​​​​​​​ أن يخلق الخلق: أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكْتُبْ، قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيءٍ حتى تقوم الساعة، فجرى القلم بكتابة ما هو كائنٌ إلى قيام الساعة [31].

وقد قال عليه الصلاة والسلام: كتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة [32]، لكن الكتابة على نوعين:

كتابة اللوح المحفوظ، فهذه لا تتغير، كما قال : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، أُمُّ الْكِتَابِ اللوح المحفوظ، وما يُكْتَب فيه لا يتغيَّر، لكن الذي في الصُّحف التي بأيدي الملائكة يدخله المحو والإثبات: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، فمن ذلك: الدعاء يرد القدر، فقد يدعو الإنسانُ بدعوةٍ تكون سببًا لردِّ مُصيبةٍ، فَيُكْتَب بأن فلانًا سيُصاب بهذه المُصيبة، لكن بسبب دعوته تُرْفَع عنه تلك المُصيبة، أو لا تُصيبه تلك المُصيبة، والذي يُكْتَب في اللوح المحفوظ ما ينتهي إليه الأمر.

ومثل ذلك أيضًا: صِلة الرحم، فهي من أسباب طول العمر وبَسْط الرزق، لكن هذا أمرٌ نسبيٌّ، فَيُكْتَب بأن فلان بن فلان عمره كذا، لكن بسبب صِلته لرحمه يُمَدّ في عمره إلى كذا، وأن رزقه كذا، وبسبب صِلته لرحمه يُبْسَط رزقه إلى كذا، والذي يُكْتَب في اللوح المحفوظ هو ما ينتهي إليه الأمر.

إذن الذي يتغيَّر هو الصحف التي بأيدي الملائكة، هي التي يدخلها المحو والإثبات: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، أما اللوح المحفوظ فلا يتغير: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.

السؤال: كنتُ أنا وصاحبٌ لي في سفرٍ، وفي أول الطريق قبل انقطاع البنيان دخل علينا وقتُ صلاة المغرب، فصلَّينا المغرب والعشاء جمعًا وقَصْرًا، فهل فعلنا صحيحٌ؟

الجواب: التَّرخص بِرُخَص السفر إنما يبدأ بعد مُفارقة العمران، أما قبل مُفارقة العمران فليس لكما التَّرخص بِرُخَص السفر.

فإن كان الأخ السائل يقصد: أنهم صَلَّوا المغربَ والعِشاء قبل مُفارَقة العُمْران فيُعيدون صلاةَ العشاء؛ لأنهم قدَّموها قبل وقتها بدون عذرٍ، أما صلاة المغرب فوقعتْ في وقتها.

ولذلك مَن أراد أن يُسافر ليس له التَّرخص حتى يُفارق العمران، والنبي في حجة الوداع استعدَّ للسفر، ولبس لباسه، وصلَّى بالناس في مسجده صلاة الظهر أربعَ ركعاتٍ، ثم سار عليه الصلاة والسلام ووصل إلى ذي الحُلَيفة قبل صلاة العصر، وصلَّى صلاة العصر في ذي الحُلَيفة ركعتين [33].

طيب، لماذا لم يُصَلِّ النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الظهر أربع ركعاتٍ، مع أنه قد لبس لباس السفر واستعدَّ؟

لأنه لم يُفارق العمران.

إذن التَّرخص بِرُخَص السفر إنما يبدأ بعد مُفارقة العمران، يعني: بعد مُفارقة آخر حيٍّ من أحياء البلد الذي أنت مُقيمٌ فيه.

السؤال: يقول: هل يجوز الحَلِفُ على التَّأوُّلِ إذا احتجتُ للكذب؟

الجواب: أولًا: التَّأول معناه: أن الإنسان يقصد أمرًا صحيحًا، ويفهم المُخاطَب أمرًا بخلافه، وهذا لا بأس به عند الحاجة، عندما يحتاج الإنسان للتَّأول لا بأس؛ ولهذا يقول بعض السلف: عجبتُ لمَن عرف التَّأول كيف يكذب؟!

كأن يدعوك أحدٌ إلى مناسبةٍ، وأنت مُنشغلٌ ولا تريد أن تحضر هذه المناسبة، فتعتذر منه وتقول -مثلًا-: عندي رجلٌ اليوم في البيت. فهو يفهم أنه سيزورك زائرٌ، وأنت تقصد بـ”عندي رجلٌ”: ابنك -مثلًا- أو تقصد: أخاك، أو تقصد: أباك.

فهذا مثالٌ للتَّأول، وهذا لا بأس به، لكن يكون عند الحاجة، وأيضًا لا يُكْثِر منه الإنسان؛ لأن الإنسان إذا أكثر منه أصبح لا يُوثَق في كلامه.

وينبغي التَّورع، وألا يحلف الإنسان عليه؛ لأنه في ظاهره يقصد أمرًا، وفي باطنه يقصد أمرًا آخر، فينبغي أن يحرص على ألا يُكْثِر منه، ولا يحلف عليه أيضًا، فالورع ألا يحلف عليه، والإمام الشافعي رحمه الله يقول: “ما حلفتُ بالله، لا صادقًا، ولا كاذبًا”، طوال عمره ما حلف بالله، لا صادقًا، ولا كاذبًا، والله تعالى يقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89].

ينبغي للإنسان أن يُعَظِّم شأن اليمين، فلا يجعل يمينه مُبتذَلةً؛ يحلف عند أدنى شيءٍ، إنما يحلف عند الحاجة المُلِحَّة.

السؤال: ما حكم قراءة الأبراج؟

الجواب: هذه الأبراج تقوم على التَّنجيم، والتَّنجيم من علوم الدَّجَل والشَّعوذة؛ ولذلك فعلى المسلم أن يبتعد عن قراءة هذه الأبراج، حتى وإن لم يعتقد صحَّتها، فكيف تقرأ شيئًا تعرف أنه غير صحيحٍ؟! تَضَعُ وقتك في أمرٍ غير صحيحٍ!

فهذه الأبراج ليست صحيحةً، وهي بعيدةٌ عن الواقع، حتى وإن صادف أنها أحيانًا ربما يكون بعض ما يُذكر فيها صحيحًا، فهذا إنما حصل اتِّفاقًا؛ لأنها لا تقوم على علمٍ، وليست لها قواعد، فهي من الدَّجل والشَّعوذة.

فعلى المسلم أن يبتعد عن قراءة الأبراج وكلِّ ما يتعلق بالشعوذة والدَّجل، وأن يحرص على صفاء عقيدته؛ فإن التوحيد شأنه عظيمٌ.

ولذلك أرسل الله الرسل لأقوامهم، لا ليُعلموهم أن الله الخالق؛ لأن هذه الأمم تُقِرُّ بأن الله الخالق، الرازق، المُدبر للكون: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، وإنما أرسل اللهُ ​​​​​​​ الرسلَ لأجل تصحيح الانحراف في العقيدة الذي وقع عند هذه الأمم، فإنهم حصل عندهم انحرافٌ في العقيدة؛ فجعلوا أصنامًا وقالوا: نريد أن تكون واسطةً بيننا وبين الله، تُقَرِّبنا إلى الله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فأرسل الله ​​​​​​​ الرسل، وأنزل الكتب؛ لأجل تصحيح هذا الانحراف الذي وقع في عقائد الناس.

وهذا يدل على أهمية العناية بتحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله ، والبُعد عن الشرك والبدعة وكل ما يتعلق بها.

والتوحيد شأنه عظيمٌ؛ لأن الإنسان إذا مات مُوحِّدًا -حتى وإن كانت عنده ذنوبٌ كبائر- لا يُخلَّد في النار إذا دخل النار.

مُعتقد أهل السنة والجماعة: أنَّ مَن مات على التوحيد من أهل الكبائر لا يُخلَّد في النار، بل هو تحت مشيئة الله تعالى: إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، لكن إذا دخل النار يخرج منها برحمة أرحم الراحمين، ولا يُخلَّد فيها بفضل التوحيد.

وهذا يدل على عظيم شأن التوحيد، فمآل المُوحِّدين إلى الجنة، مآل المُوحِّدين كلهم إلى الجنة، حتى أهل الكبائر منهم؛ ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم حرصًا شديدًا على صفاء العقيدة، وعلى تحقيق التوحيد، وعلى البُعد عن كل ما يخدش في العقيدة الصحيحة.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه مسلم: 2822.
^3, ^4, ^5 رواه مسلم: 2824.
^6 رواه مسلم: 2825.
^7 رواه البخاري: 6571، ومسلم: 186.
^8 رواه مسلم: 189.
^9 رواه أبو داود: 4744، والترمذي: 2560، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^10 رواه مسلم: 1901.
^11 رواه الترمذي: 2572، والنسائي: 5521.
^12, ^13 رواه مسلم: 2826.
^14 رواه مسلم: 2827.
^15 رواه مسلم: 2828.
^16 رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031.
^17 رواه مسلم: 2829.
^18 رواه الترمذي: 2552، وأحمد: 18941.
^19, ^20 رواه مسلم: 2830.
^21 رواه مسلم: 2831.
^22 رواه البخاري: 7068.
^23 رواه البخاري: 2790.
^24 رواه مسلم: 2607.
^25 رواه مسلم: 1905.
^26 رواه أحمد: 474.
^27 رواه البخاري في “الأدب المفرد”: 660، وابن ماجه: 3869.
^28 رواه أبو داود: 4737، والترمذي: 2060 وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^29 رواه البخاري: 5534، ومسلم: 2628.
^30 رواه البخاري: 6321، ومسلم: 758.
^31 رواه أبو داود: 4700، والترمذي: 2155، وأحمد: 22707.
^32 رواه مسلم: 2653.
^33 رواه أحمد: 13488.
zh