logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(66) بابٌ في حديث الإفك – من حديث: “كانت عائشة تكره أن يُسَبَّ حسان ..”

(66) بابٌ في حديث الإفك – من حديث: “كانت عائشة تكره أن يُسَبَّ حسان ..”

مشاهدة من الموقع

تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله ​​​​​​​ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

قبل أن نبدأ أريد التَّنبيه إلى أن هذا سيكون آخر درسٍ، ثم تكون فترة توقُّفٍ لأجل الاختبارات والإجازة مدة شهرٍ تقريبًا، ثم يُستأنف هذا الدرس مع بداية الدراسة في الفصل الثاني يوم الثلاثاء الثاني عشر من شهر جمادى الأولى من عام 1444 للهجرة، إن شاء الله.

يعني: أول ثلاثاء من الدراسة للفصل الثاني -بإذن الله تعالى- 12/ 5/ 1444 للهجرة، بإذن الله تعالى.

تتمة حديث قصة الإفك

في هذا الدرس سنُكمل الفوائد والأحكام المُستنبطة من حديث قصة الإفك، وكنا قد أخذنا أولًا الرواية المُطولة التي ساقها الزهري رحمه الله، ونستكمل بقية الروايات، ثم بعد ذلك نأخذ أبرز الأحكام والفوائد والدروس.

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا ووالديه ومشايخه والمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال المؤلف رحمنا الله وإياه:

وحدثنا أبو الربيع العتكي: وحدثنا فُلَيح بن سليمان. ح، وحدثنا الحسن بن علي الحلواني وعبد بن حُميد، قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد: حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان -كلاهما عن الزهري- بمثل حديث يونس ومعمر بإسنادهما، وفي حديث فُلَيْحٍ: “اجْتَهَلَتْه الحَمِيَّةُ” كما قال مَعْمرٌ، وفي حديث صالحٍ: “احْتَمَلَتْه الحَمِيَّةُ” كقول يونس.

الشرح:

معنى “احتملته الحميَّةُ”: المقصود بذلك سعد بن عُبَادة في القصة التي مرَّتْ معنا في الدرس السابق.

القارئ: وزاد في حديث صالحٍ: قال عروة: كانت عائشة تَكْرَه أن يُسَبَّ عندها حَسَّان، وتقول: فإنه قال:

فإنَّ أبي ووالده وعِرْضي لِعِرْضِ محمدٍ منكم وقاءُ

الشرح:

حَسَّان بن ثابتٍ الشاعر -شاعر النبي عليه الصلاة والسلام- كان أحد مَن وقع في حديث الإفك، سمعه ونقله، فَجَلَدَه النبيُّ حدَّ القذف ثمانين جلدةً، هو وحَمْنَة بنت جَحْشٍ ومِسْطَح بن أُثَاثَة.

أما الخبيثُ عبدالله بن أُبَيٍّ الذي تولَّى كِبْرَه -الذي كان يُشيع حديث الإفك- لم يجلده؛ لأن عنده مكرًا، ينشر الخبر بين الناس، وإذا رأى أحدًا يمكن أن يشهد عليه لم يتكلم، ينشره بطريقةٍ خبيثةٍ وماكرةٍ، فلم يثبت عليه؛ ولذلك لم يُجلد.

ولعل الحكمة -والله أعلم- أن يكون عذابه عظيمًا في الآخرة؛ لأنه رأس النفاق، آذى النبيَّ عليه الصلاة والسلام أذيةً شديدةً.

فكان ممن جلده النبي عليه الصلاة والسلام: حسان بن ثابت ، وكانت عائشة رضي الله عنها تكره أن يُسَبَّ عندها حسان ، وتقول: إنه قال في النبي عليه الصلاة والسلام:

فإن أبي ووالده وعِرْضي لِعِرْض محمدٍ منكم وقاء

وأيضًا مَدَح عائشة رضي الله عنها بقصيدةٍ عظيمةٍ عصماء، ووصفها قال:

حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ برِيبَةٍ وتُصْبِحُ غَرْثَى مِن لُحُومِ الغَوَافِلِ

ومَدَحها مدحًا عظيمًا، فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: اتركوه، يعني: هو أيضًا قد جاءه العذاب في الدنيا بأنه جُلِدَ، ثم إنه عَمِيَ في آخر حياته، فتكره أن يُسَبَّ عندها رضي الله عنها، مع أنه ممن وقع في حديث الإفك.

القارئ: وزاد أيضًا: قال عروة: قالت عائشة: والله، إن الرجل الذي قيل له ما قيل لَيَقُول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده، ما كشفتُ عن كَنَفِ أنثى قطُّ. قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيل الله شهيدًا.

الشرح:

تقصد صفوان بن المُعطَّل السُّلَميَّ الذي اتُّهم مع عائشة رضي الله عنها، فتقول: إن هذا الرجل يقول: “ما كشفتُ عن كَنَفِ أنثى قطّ” يعني: لم يتزوج، ولم يقع منه الزنا، لكن يُشْكِل على هذا ما ذكرنا في الدرس السابق من أن زوجته اشتكته للنبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا يُصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فدعاه النبيُّ ، فقال: إنَّا من قومٍ عندهم ثِقَلُ الرؤوس، لا نقوم حتى نستيقظ من أنفسنا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا قُمْتَ فَصَلِّ [2].

سبب تأخر صفوان بن المُعطل عن الجيش

كما مرَّ في الدرس السابق: هذه حالةٌ قليلةٌ أو نادرةٌ موجودةٌ في بعض الناس؛ أنه إذا نام لا يمكن لأحدٍ أن يُوقظه، حتى لو ثار عنده مدفعٌ لا يستيقظ، يقوم من نفسه، فكانت أسرة صفوان بن المُعطَّل من هذا النوع؛ ولذلك تأخَّر عن الجيش.

وأنا أعرف شخصًا من هذا النوع، يقول أهله: إنه إذا نام لا أحد يستطيع أن يُوقظه.

فهذا موجودٌ، وإن كان قليلًا في الناس، ولا أحد يحتج به ويتخلَّف عن صلاة الفجر، ويقول: نومي ثقيلٌ. هذه حالاتٌ قليلةٌ ونادرةٌ.

الشاهد: أن زوجة صفوان اشتكته، فكيف نُوفِّق بين هذا وقول عائشة عنه أنه يقول: “سبحان الله! والذي نفسي بيده، ما كشفتُ عن كَنَفِ أنثى قطّ”؟

أجاب عن هذا بعض الشُّرَّاح، قالوا: إنه تزوج بعد ذلك. يعني: قصة الإفك وحديث عائشة رضي الله عنها كانا قبل أن يتزوج، ثم تزوج بعد ذلك.

هذا أحسن ما قيل في الجواب عن هذا الإيراد.

ثم قُتِلَ شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه، وأثنى عليه النبي خيرًا، قال: ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا [3].

القارئ: وفي حديث يعقوب بن إبراهيم: “مُوعِرِين في نَحْر الظَّهيرة”، وقال عبدالرزاق: “مُوغِرين”، وقال عبد بن حُميد: قلتُ لعبدالرزاق: ما قوله: “مُوغِرين”؟ قال: الوغرة: شدة الحر [4].

الشرح:

“مُوغرين” يعني: أتوا في شدة الحر، وهذا يدل على أنه ما خطر ببالهما هذا الأمر أصلًا، يعني: عائشة رضي الله عنها غافلة، وهذا الرجل أيضًا غافلٌ؛ ولذلك أتى بالناقة يقودها في الضُّحى في شدة الحر، لكن الخبيث ابن أُبَيٍّ لما رآهما استغلَّ الفرصة وأشاع الإفك.

القارئ: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لمَّا ذُكِرَ من شأني الذي ذُكِرَ -وما علمتُ به- قام رسول الله خطيبًا، فتشهَّد، فَحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، أشيروا عليَّ في أُناسٍ أَبَنُوا أهلي.

الشرح:

“أَبَنُوا” يعني: اتَّهموا، معنى “أَبَنُوا” يعني: اتَّهموا أهلي.

القارئ: وايم الله، ما علمتُ على أهلي من سوءٍ قطُّ، وأَبَنُوهم بمَن؟ والله ما علمتُ عليه من سوءٍ قط، ولا دَخَل بيتي قط إلا وأنا حاضرٌ، ولا غِبْتُ عن سفرٍ إلا غاب معي، وساق الحديث بقصته.

الشرح:

طبعًا النبي عليه الصلاة والسلام ما قام خطيبًا إلا لما رأى أن الخبر شاع في المدينة، والعجيب أن كل الناس علموا إلا عائشة رضي الله عنها، سبحان الله!

من حكمة الله تعالى: أنها ما تدري عن شيءٍ، ولا أحد جرأ أن يُخبرها بشيءٍ، ومن حكمة الله: أنها لم تعلم إلا بعد شهرٍ؛ لأنها لمَّا علمتْ أصبحتْ تبكي طوال الوقت، لا تأكل، ولا تشرب، ولا تنام، قالت: “حتى ظنَّ أبواي أن البكاء فالِقٌ كَبِدِي”، ظنُّوا أنها ستموت، مع أنها ما بقيتْ إلا يومين وليلة فقط، فمن حكمة الله تعالى: أنها ما علمتْ إلا بعد شهرٍ.

القارئ: وساق الحديث بقصته، وفيه: ولقد دخل رسول الله بيتي، فسأل جاريتي، فقالت: والله ما علمتُ عليها عيبًا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها. أو قالت: خَمِيرها -شكَّ هشامٌ- فانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله . حتى أسقطوا لها به.

الشرح:

يعني: مُرادها أنها غافلةٌ، يعني: امرأة غافلة وعفيفة وصغيرة في السنِّ، يعني: عمرها تقريبًا أربع عشرة سنة، ومع ذلك اتَّهموها بهذا الإفك العظيم، وبهذه الفِرْيَة، رضي الله عنها وأرضاها.

قوله: “اصدقي” يدل على أن الغالب على النفوس سُوء الظن، تقول لهم هذا فيقولون: لا، اصدقي. فالغالب على النفوس سُوء الظن.

القارئ: فقالت: سبحان الله! والله ما علمتُ عليها إلا ما يعلم الصائغ على تِبْرِ الذهب الأحمر.

وقد بلغ الأمرُ ذلك الرجلَ الذي قيل له، فقال: سبحان الله! والله ما كشفتُ عن كَنَف أنثى قط.

قالت عائشة: وقُتِلَ شهيدًا في سبيل الله .

وفيه أيضًا من الزيادة: وكان الذين تكلَّموا به: مِسْطَح وحَمْنَة وحسَّان.

فعل أبي بكرٍ مع مِسْطَح بن أُثَاثَة

الشرح:

“وكان الذين تكلموا به: مِسْطَح” مِسْطَح بن أُثَاثَة ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكان يُنْفِق عليه، فلما تكلَّم قال: “والله لا أُنْفِقُ عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة”، فأنزل الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ يعني: أبا بكر الصديق أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى يعني: مِسْطَحًا وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، قال أبو بكرٍ: “بلى، أُحِب أن يغفر الله لي”، فرجع إليه النفقة وزاده فيها [5].

والثالثة حَمْنَة بنت جحشٍ، ما علاقتها بالموضوع؟

حَمْنَة بنت جحشٍ أختُها زينب رضي الله عنهما، وزينب بنت جحشٍ هي زوج النبي عليه الصلاة والسلام، إحدى أمهات المؤمنين، سألها النبي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيرًا”. قالت عائشة: “فعصمها الله بالورع” [6].

صحيحٌ أنها مُنافِسةٌ مُنافَسةً شديدةً لعائشة رضي الله عنها، لكن حماها اللهُ بالورع.

أختها أخَذَتْها الحَمِيَّة فوجدتها فرصةً، فقامتْ تُشيع الحديث لأجل أن تنال من عائشة رضي الله عنها؛ لأنها هي المُنافِسة لأختها، فأصبحتْ تتكلم من باب الحَمِيَّة لأختها، فجلدها النبي عليه الصلاة والسلام حدَّ القذف ثمانين جلدةً.

جُلِدَ هؤلاء الثلاثة مع أنهم من أفاضل الصحابة، ومِسْطح أحدُ البَدْرِيِّين، وهذا يدل على أن الإنسان أحيانًا قد يتكلم بالكلام، قد يكون فاضلًا، لكن ربما العجلة أحيانًا تدعوه لذلك، يعني: مِسْطَحًا رجلًا فاضلًا، وأحد البدريين، وحسان بن ثابتٍ شاعر النبي عليه الصلاة والسلام، وحَمْنَة بنت جحشٍ رضي الله عنها أيضًا من المؤمنات الصادقات، ومع ذلك حصل أن استعجلوا في نقل الحديث من غير تثبُّتٍ، مع أنه مجرد نقلٍ؛ ولهذا قال الله سبحانه: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ الذي يَتَلقَّى الحديثَ: اللسانُ أو الأذنُ؟ ما الجواب؟

الأذن، فكيف يقول الله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ؟

فيه إشارةٌ إلى السرعة والعجلة، يعني: سمعوه فتكلموا به مباشرةً من غير تثبُّتٍ، من غير تبيُّنٍ، من غير تَحَرٍّ، فكأن الذي تلقَّى هو اللسان، كأن الذي استمع هو اللسان: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني: مُستسهلين الأمر، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.

خطر الوقوع في أعراض العباد

الوقوع في أعراض العباد أمره عند الله عظيمٌ، خاصةً في وقتنا الحاضر، فإذا بلغك حديثٌ في عِرْض أحدٍ من المسلمين احذر، ثم احذر، ثم احذر أن تنقل هذا الحديث، ما تدري: ربما يكون مكذوبًا عليه، ربما يكون كذبًا، ربما نشر أحدٌ هذا الخبر عنه لمآرب، اتركه له، قُلْ كما قالت زينب رضي الله عنها: “أحمي سمعي وبصري”، لا تنقل ولا تنشر هذا الحديث.

الآن في وسائل التواصل الاجتماعي إذا نَشَرْتَ هذا الحديث فأنت مُشتركٌ مع الذي قال ذلك؛ ولذلك فالذي قال حديث الإفك هو ابن أُبَي، لكن هؤلاء الصحابة الأفاضل نقلوه، فقط نَقْلٌ، ومع ذلك جلدهم النبي عليه الصلاة والسلام.

طالب: …….

الشيخ: لا، هذا تُؤْزَر، انشر تُؤْزَر، إذا كان مُتعلقًا بعِرْض مسلمٍ فاحذر أن تنشره، لا تنشر شيئًا مُتعلقًا بأعراض المسلمين، يقول الله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، فحُرمة المسلم عند الله عظيمةٌ جدًّا.

القارئ: وأما المنافق عبدالله بن أُبَيٍّ فهو الذي كان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولَّى كِبْرَه.

الشرح:

“يستوشيه” يعني: يستخرجه بالبحث والمسألة، ثم يُفشيه ويُشيعه ويُحركه، عنده احترافٌ في نشر الأخبار، يعني: هذه شغلته، وهذه مهمته الخبيثة الدَّنيئة؛ يأخذ الخبر وينقله بطريقةٍ ماكرةٍ في المجتمع، رأس النفاق؛ ولهذا قال الله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يعني: عبدالله بن أُبَي لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، توعَّده الله تعالى بالعذاب العظيم.

القارئ: وهو الذي تولَّى كِبْرَه وحَمْنة [7].

الشرح:

يعني: حَمْنة فعلتْ ذلك بحُسن نيةٍ، يعني: حَمِيَّةً لأختها، لكن هو الخبيث، هو الذي تولَّى كِبْره، لكن طبعًا كلام عائشة رضي الله عنها كأنها وجدتْ في نفسها على حَمْنة، لماذا تفعل هذا؟ لماذا حَمْنة تفعل ذلك؟ هي حَمِيَّةٌ لأُختها.

فوائد من حديث الإفك

هذه القصة فيها فوائد، والنووي رحمه الله كما فعل في حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا؛ بعد نهاية الحديث ذَكَر عدة فوائد، أيضًا بعد روايات قصة الإفك ذكر عدة فوائد.

قال النووي: “وفي حديث الإفك فوائد كثيرةٌ”.

قال القرطبي: “حديث الإفك فيه فوائد كثيرةٌ، لو تُتُبِّعتْ لطال الأمر فيها وأفضى إلى الملال”، يعني: فوائد ودروسًا كثيرةً.

نذكر من هذه الفوائد:

  • أولًا: “جواز رواية الحديث الواحد عن جماعةٍ، عن كلِّ واحدٍ قطعة مهمة منه، وهذا وإن كان فِعْل الزُّهريِّ وحده، فقد أجمع المسلمون على قبوله منه، والاحتجاج به”.
    الزهري رحمه الله نقله عن أربعةٍ من التابعين، وجمعه وأتى بهذه القصة مجموعةً، فلو أنك أخذتَ قصةً من القصص أو حديثًا من الأحاديث عن عدة أشخاصٍ، ثم جمعتَه في حديثٍ واحدٍ فهذا أمرٌ مقبولٌ.
  • أيضًا من الفوائد: “صحة القُرعة بين النساء .. ووجوب الإقراع بين النساء عند إرادة السفر”.
    القُرعة هي مخرجٌ وطريقٌ شرعيٌّ يُلْجَأ إليه عند المُشَاحَّة وعدم وجود المُرجِّح، وقد ذكرها الله تعالى عن ثلاثة أنبياء: عن زكريا: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، وعن يونس: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، ومحمدٍ عليهم الصلاة والسلام.
    وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه [8]، وهذا يدل على أن مَن كان عنده أكثر من زوجةٍ فهو بين أمرين:
    إما أن يُقْرِع بين نسائه، فأيَّتهن خرجتْ لها القرعة هي التي تُسافر معه، ولا يلزمه حينئذٍ القضاء لباقي نسائه.
    والخيار الثاني: أنه إذا سافر بواحدةٍ يُسافر بالأُخريات.
  • أيضًا من الفوائد: “إعانة الملهوف، وعون المُنقطع، وإنقاذ الضائع، وإكرام ذوي الأقدار، كما فعل صفوان “، فإن صفوان كان قد تأخَّر عن الجيش؛ لأنه -كما ذكرنا- كان نومه ثقيلًا، كان من أسرةٍ تُعْرَف بثِقَل الرؤوس؛ فتأخَّر عن الجيش، ولما رأى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سعى لإنقاذها وإغاثتها وإكرامها، تقول: “والله ما كلَّمني كلمةً”، قال: “إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون”، وأناخ ناقته، وركبت عائشة رضي الله عنها عليها، وجعل يقودها، عائشة راكبةٌ وهو يقود الناقة.
  • أيضًا من الفوائد: “حُسْن الأدب مع الأجنبيات، لا سيما في الخلوة بهن عند الضَّرورة في بَرِّيَّةٍ أو غيرها، كما فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلامٍ ولا سؤالٍ، وأنه ينبغي أن يمشي قُدَّامها، لا بجنبها ولا وراءها”.
    يعني: صفوان كان في غاية الأدب، لما رأى عائشة رضي الله عنها عرفها، وكان قد رآها قبل الحجاب، قال: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، تقول: “والله ما كلَّمني كلمةً”، كان مُؤدبًا، أناخ ناقته، وما قال لها ولا كلمة، وركبتْ عليها عائشة رضي الله عنها، فجعل يقود ناقته ولا يتحدث معها، من غير أن يقول: ما السبب؟ لماذا تأخرتِ؟ لماذا ذهبوا عنكِ؟ ولا كلمة، ما قال لها ولا كلمة.
    انظروا إلى الأدب العظيم من هذا الصحابي، وأتى بها يقودها، وهو يمشي، وهي راكبةٌ على الجمل، ومع ذلك حصل الذي حصل، وكان السبب هو المنافقون الذين أشاعوا ذلك.
  • أيضًا من الفوائد: “استحباب الاسترجاع عند المصائب، سواء كانت في الدين أو الدنيا، وسواء كانت في نفسه أو مَن يَعِزُّ عليه”، فيُستحب الاسترجاع عند المصيبة، أي قول: “إنا لله وإنا إليه راجعون”؛ لقول الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156- 157].
    قال عمر: “نِعْم العدلان، ونِعْمَت العلاوة”.
    العدلان: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، والعلاوة: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
    فَعَوِّد نفسك كلما وقعتْ مصيبةٌ -أيُّ مصيبةٍ: صغيرةً كانت أو كبيرةً- قل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ حتى تنال هذه الفضائل: صلواتٌ ورحمةٌ وهدايةٌ، فتنال هذه الفضائل إذا قلتَ: إنا لله وإنا إليه راجعون.
    وهنا يقول النووي رحمه الله: “سواء كانت في الدين أو الدنيا” يعني: حتى لو كانت المصيبة في الدنيا، أو المصيبة في الدين، يعني: المصيبة في الدين مثلًا: تخلَّفْتَ عن الصلاة حتى فاتتك الصلاة مع الجماعة، وكان بعض السلف يُعزِّي بعضُهم بعضًا إذا فاتته الصلاة مع الجماعة، فتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه مصيبةٌ.
    أما المصيبة في الدنيا، فمصائب الدنيا كثيرةٌ: في نفسه، أو في ماله، أو أهله، أو ولده، فتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
    حتى لو كانت المصيبة فيمَن يَعزُّ عليك: بلغتك مصيبةٌ عن إنسانٍ تُحبه أو يَعِزُّ عليك، فَيُشْرَع أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
    قالوا مثلًا: فلانٌ حصل له حادثٌ، أو فلانٌ حصلتْ له مصيبةٌ، فيُشرَع أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وإن كانت المصيبة لم تقع لك، وإنما وقعتْ لغيرك، لكن ما دام أن هذا الإنسان أخوك المسلم فيُشرع أن تسترجع عندما تعلم بمصيبته، خاصةً إذا كان يَعزُّ عليك.
  • أيضًا من الفوائد: قال النووي: “من الفوائد: تغطية المرأة وَجْهَها عن نظر الأجنبي”.
    “تغطية المرأة وجهَها” يصح أن نقول: “وَجْهِها” و”وَجْهَها” في اللغة العربية، لكن “وَجْهَها” أقرب أو أفصح من “وَجْهِها”.
    إذن من الفوائد: “تغطية المرأة وجهَها عن نظر الأجنبي، سواءٌ كان صالحًا أو غيره”.
    وهذه الفائدة أُخِذَتْ من قول عائشة رضي الله عنها: “فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني، فَخَمَّرْتُ ‌وجهي ‌بجلبابي” [9]، وهذه اللفظة في الصحيحين -في البخاري ومسلم- أصحِّ كتابين بعد كتاب الله ، وهي صريحةُ الدّلالة في تغطية الوجه: “فَخَمَّرْتُ ‌وجهي ‌بجلبابي”، هل هناك شيءٌ أصرح من هذا؟
    وهذا يدل على أن النساء في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كُنَّ يُغطين وجوههن عن الرجال الأجانب.
  • أيضًا من الفوائد: “جواز الحلف من غير استحلافٍ”؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: فوالله، ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، “والله” فلا بأس بالحلف، خاصةً عند الحاجة للحلف.
  • أيضًا قال النووي رحمه الله: “من فوائد هذه القصة: أنه يُستحب أن يُسْتَر عن الإنسان ما يُقال فيه إذا لم يكن في ذِكْره فائدةٌ، كما كتموا عن عائشة رضي الله عنها هذا الأمر شهرًا، ولم تسمع بعد ذلك إلا بعارضٍ عَرَضَ، وهو قولُ أمِّ مِسْطَح: تَعِسَ مِسْطَح”.
    عائشة رضي الله عنها، كان الناس يتحدثون حديث الإفك، ولم تعلم بذلك إلا بعد شهرٍ، وهذا يدل على أنه يُستحب أن يُسْتَر عن الإنسان ما يُقال فيه إذا لم يكن في ذِكْره فائدةٌ؛ لأن إخباره بما يُقال فيه يُؤذيه، ولن يستفيد هو من ذلك.
    ولذلك إذا بلغك أن أناسًا يقدحون في عِرْض مسلمٍ فلا تُبْلِغْه إلا إذا كان في إبلاغه مصلحةٌ؛ تخشى عليه من الضَّرر، أو نحو ذلك، أما إذا لم تَخْشَ عليه من الضَّرر فالأحسن أنك لا تُبلغه؛ لأنك إذا أبلغتَه سبَّبتَ له إزعاجًا وتأذَّى بذلك؛ ولذلك كتموا الأمر عن عائشة رضي الله عنها شهرًا كاملًا، لم يُخبرها أحدٌ بما كان يُقال فيها.
  • وأخذ بعض العلماء من هذا فائدةً، وهي: أنه ينبغي لأهل المريض ألا يُعْلِموه بما يُؤذيه، فإذا كان هناك شيءٌ يُؤذي المريض فلا يُخبرونه، مثلًا: إذا عرفوا أن المريض إذا علم حقيقة مرضه انزعج وجزع، وربما زاد مرضه فلا يُخْبَر، فليس بالضَّرورة أن يُخْبَر المريض بما يُؤذيه، بل ينبغي أن تُرْفَع معنوياته وأن يُشجع.
  • أيضًا من الفوائد: “استحباب مُلاطفة الرجل زوجته، وحُسن المُعاشرة”، وهذا أُخِذَ من قول عائشة رضي الله عنها: “أنه كان يُريبني أني لا أرى من النبي عليه الصلاة والسلام اللُّطْف الذي كنتُ أجده منه”.
  • أيضًا من الفوائد: قال النووي: “ومن الفوائد: أنه إذا عرض عارضٌ بأن سمع عنها شيئًا أو نحو ذلك يُقلِّل من اللُّطْف ونحوه؛ لِتَفْطِن هي أن ذلك لعارضٍ، فتسأل عن سببه فتُزيله”، يعني: إذا عرض عارضٌ ينبغي أن يتغير ذلك اللُّطْف بحيث يَشْعُر المُخاطَب بتغيره، فيبحث عن السبب فيُزيله.
  • أيضًا من الفوائد: “استحباب السؤال عن المريض”؛ لقول عائشة رضي الله عنها: أنها كانت إذا مرضتْ كان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل عنها.
  • أيضًا من الفوائد: “أنه يُستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجةٍ أن تكون معها رفيقةٌ تستأنس بها، ولا يتعرض لها أحدٌ”؛ لأن عائشة رضي الله عنها ذهبتْ مع أمِّ مِسْطَح، ولم تذهب وحدها.
  • أيضًا من الفوائد: “كراهة الإنسان صاحبَه وقريبه إذا آذى أهل الفضل أو فَعَل غير ذلك من القبائح، كما فعلتْ أمُّ مِسْطَح في دعائها عليه”؛ لأن أم مِسْطَح مع أن مِسْطَحًا هو ابنها، ومع ذلك كرهتْ فعله؛ لكونه وقع في عِرْض عائشة رضي الله عنها.
    فإذا كان للإنسان صديقٌ أو قريبٌ يُؤذي أهل الفضل بكلامٍ فيه إساءةٌ وأذيةٌ ينبغي أن يُكْرَه فِعْله، وأن يُتبرَّأ منه.
  • أيضًا من الفوائد: “فضيلة أهل بدرٍ، والذَّبّ عنهم، كما فعلتْ عائشة رضي الله عنها”، فقد قالت عائشة: لِمَ تقولين هذا وهو قد شهد بدرًا؟!
  • أيضًا من الفوائد: قال النووي: “من الفوائد: أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها”؛ لأن عائشة رضي الله عنها لما أرادتْ أن تذهب لبيت أبيها استأذنت النبيَّ فأذن لها.
  • من الفوائد: “جواز التَّعجب بلفظ التَّسبيح، وقد تكرر في هذا الحديث وغيره”، فكان هَدْي النبي إذا تعجَّب من شيءٍ قال: سبحان الله!، وأيضًا ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “سبحان الله!”، فالإنسان إذا تعجَّب من شيءٍ يُشْرَع له أن يُسبح، أن يقول: سبحان الله!
  • قال النووي: “من الفوائد: استحباب مُشاورة الرجل بطانتَه وأهلَه وأصدقاءه فيما يَنُوبه من الأمور”، خاصةً الأمور الكبيرة.
    فإذا وقعتْ للإنسان مُصيبةٌ أو كُربةٌ أو ضائقةٌ فينبغي أن يستشير مَن يثق فيه من أهل الرأي من أهله وأصدقائه، فقد يذكرون له حلولًا لا تخطر على البال، خاصةً أن المُصَابَ بمصيبةٍ يكون مُشوَّشَ الفكر، فلا يُفكر بالطريقة الصحيحة، فينبغي أن يستشير، لكن لا يستشير أيَّ أحدٍ، إنما يستشير أهل الرأي.
  • أيضًا من الفوائد: “جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمَّن له به تعلُّقٌ، أما غيره فهو مَنْهيٌّ عنه”، يعني: إذا أُشيع عن إنسانٍ شيءٌ أو قيل فيه شيءٌ، فينبغي أن يبحث عن هذا الأمر، هل هو صحيحٌ؟ وما رأيك في فلانٍ؟ كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لما حصل حديث الإفك سأل زينب رضي الله عنها، وسأل الجارية، وسأل عليًّا ، وسأل أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، فكلٌّ أشار عليه بالرأي، وكلهم قالوا: هم أهلُكَ، ولا نعلم عنهم إلا خيرًا.
  • أيضًا من الفوائد: “فضائل ظاهرةٌ لصفوان بن المُعطَّل  بشهادة النبي له بما شهد، وبفعله الجميل في إركاب عائشة رضي الله عنها، وحُسن أدبه” رضي الله عنه وأرضاه.
  • أيضًا من الفوائد: “فضيلة سعد بن معاذ وأُسَيد بن حُضَير رضي الله عنهما”، حيث إنه لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: مَن يعذرني من رجلٍ قد بلغ أذاه في أهلي؟ قام سعد بن معاذ وأُسيد بن حُضَير وقالا: نحن نعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك[10].
    فقوله عليه الصلاة والسلام: مَن يعذرني، ثم قالوا: “نحن نعذرك” هذا دليلٌ على فضيلة سعدٍ وأُسَيد رضي الله عنهما.
  • أيضًا من الفوائد: “تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار؛ لأنهم أعرف”؛ لأن النبي لما خاطب عائشة رضي الله عنها وقال: إن كنتِ بريئةً فَسَيُبْرِئكِ الله، وإن كنتِ أَلْمَمْتِ بشيءٍ فاستغفري الله وتُوبي إليه، قالت: “يا أبي، أجب عني رسول الله “. قال: “والله ما أدري ما أقول”. قالت لأمها: “أجيبي عني رسول الله “.
    فأخذ العلماء من هذا فائدةً هي: تفويض الأمر إلى الكبار دون الصغار.
  • أيضًا من الفوائد: قال النووي: “من الفوائد: جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز، ولا خلاف أنه جائزٌ”؛ أخذًا من قول عائشة رضي الله عنها: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، وهذه مقولة يعقوب ، فاستشهدتْ بها عائشة رضي الله عنها، فلا بأس بالاستشهاد بآياتٍ من القرآن الكريم، كأن تقول -مثلًا-: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86]، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، ونحو ذلك.
    والنبي عليه الصلاة والسلام قال في غزوة خيبر: إنَّا إذا نزلنا بساحة قومٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات:177] [11]، فالاستشهاد بآيات القرآن لا بأس به، حتى وإن كانت في غير مواضعها، والنووي يقول هنا: إنه لا خلاف في أنه جائزٌ.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب المُبادرة بالتَّبشير.
    قال النووي: “من الفوائد: استحباب المُبادرة بتبشير مَن تجدَّدتْ له نعمةٌ ظاهرةٌ، أو اندفعتْ عنه بليةٌ ظاهرةٌ”؛ وذلك لأن النبي بَشَّرَ عائشة رضي الله عنها قال: أَبْشِري يا عائشة، أما الله فقد بَرَّأكِ [12].
    وأيضًا في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا تسابق الصحابةُ إلى تبشيرهم، حتى ركب رجلٌ على فرسٍ يريد أن يُبَشِّر كعب بن مالكٍ ، وقام آخرُ وصَعِدَ على جبل سَلْع وقال بأعلى صوته: “يا كعب بن مالك، أَبْشِر بتوبة الله عليك”.
    فتبشير المسلم بنعمةٍ مُتجددةٍ، أو باندفاع نقمةٍ، هذا من الأمور المشروعة، فينبغي أن يحرص المسلم على تبشير أخيه بما يَسُرُّه من تجدد النعمة أو اندفاع النقمة، كأن يسمع عن أخيه المسلم خبرًا سارًّا، فيتَّصل عليه ويقول: أُبَشِّرك بكذا، فهذا من الأمور المشروعة، ومن الأمور التي تُدْخِل السرور إلى النفس.
    وذكرنا في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا: أنه يُشْرَع لمَن بُشِّر أن يسجد سجود الشكر؛ لأن سجودَ الشُّكر يُشْرَع عند تجدُّد النعمة أو اندفاع نقمةٍ، ويُشْرَع له أمرٌ آخرُ مع سجود الشكر، ما هو؟ ذكرناه.
    طالب: …….
    الشيخ: الصدقة، أحسنتَ؛ لأن كعب بن مالكٍ قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله . فقال له عليه الصلاة والسلام: أَمْسِكْ عليك بعضَ مالِكَ [13]، فأقرَّه النبي على الصدقة، لكنه أشار عليه بألا يتصدَّق بجميع ماله، وإنما ببعضه، فدلَّ هذا على أنَّ مَن تجدَّدتْ له نعمةٌ أو اندفعتْ عنه نقمةٌ يُشْرَع له أن يتصدق بصدقةٍ؛ شُكْرًا لله ​​​​​​​.
    إذن مَن تجدَّدتْ له نعمةٌ أو اندفعتْ عنه نقمةٌ يُشْرَع له أمران:
    • الأمر الأول: سجود الشكر.
    • والأمر الثاني: أن يتصدق لله تعالى بصدقةٍ؛ شكرًا لله على تجدُّد هذه النعمة أو اندفاع النقمة.
  • أيضًا من الفوائد: “براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، وهي براءةٌ قطعيةٌ بنص القرآن، فمَن تشكك فيها من إنسانٍ -والعياذ بالله- صار كافرًا مُرتدًّا بإجماع المسلمين، قال ابن عباسٍ وغيره: لم تَزْنِ امرأةُ نبيٍّ من الأنبياء قط صلوات الله وسلامه عليهم”.
    براءة عائشة رضي الله عنها براءةٌ قطعيةٌ، أنزل الله في براءتها عشر آياتٍ في كتابه الكريم، فمن اتَّهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أو شكك فيها فهو كافرٌ خارجٌ عن مِلة الإسلام بإجماع المسلمين، بل يَكْفُر مَن لم يُكفره؛ لأن مَن يقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذا مُكذبٌ لله ورسوله ، فالله تعالى أنزل في براءتها عشر آياتٍ في كتابه الكريم، ثم يأتي مَن يردّ ذلك، هذا تكذيبٌ لله، وتكذيبٌ لرسوله ؛ ولذلك أجمع العلماء على أن مَن قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أو شكَّ في براءتها: أنه كافرٌ مُرتدٌّ.
  • أيضًا من الفوائد: “تجديد شُكر الله تعالى عند تجدد النِّعم”؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تحمد الله وتشكره على أن الله تعالى بَرَّأها، كلما ذكرتْ ذلك حمدت الله وشكرته، فينبغي عندما يتذكر الإنسان نعمةً أن يحمد الله، وأن يشكره.
    ومن الأمور المتعلقة بالحمد والشكر، والتي يغفل عنها كثيرٌ من الناس: تذكُّر نِعَم الله ، وقد ورد الأمر بتذكر نِعَم الله في آياتٍ كثيرةٍ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9]، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ [الأعراف:69]، فتذكُّر نِعَم الله من الشكر، داخلٌ في شُكرها، فينبغي عندما تحمد الله تعالى وتشكره على نعمه أن تذكر بعض هذه النعم فتقول: يا ربّ، أحمدك وأشكرك على أن -مثلًا- رزقتنا الصحة والعافية، على أن -مثلًا- رزقتني كذا وكذا، وأنعمتَ عليَّ بكذا وكذا. هذا من تذكُّر نِعَم الله.
    فتذكر نِعَم الله داخلٌ في شُكرها؛ ولذلك ورد الأمر بتذكر نِعَم الله في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:69].
  • أيضًا من الفوائد: فضائل أبي بكر الصديق ؛ لأن الله تعالى أنزل في شأنه: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]، وَلَا يَأْتَلِ يعني: لا يحلف أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ، فوصف الله ​​​​​​​ أبا بكرٍ  بالفضل وبالسعة.
    الفضل معناه: أنه فاضلٌ، وهو أفضل الصحابة، هو أفضل فُضلاء الصحابة .
    والسَّعَة يعني: الغنى؛ لأن أبا بكرٍ كان غنيًّا، وكان ثريًّا، فأبو بكرٍ من أغنياء الصحابة، لم يكن فقيرًا، فوصفه الله تعالى بأنه من ذوي السعة.
    ونصفُ العشرة المُبشرين بالجنة كانوا أغنياء: فكان أبو بكرٍ غنيًّا، وكان عثمان غنيًّا، وكان عبدالرحمن بن عوف غنيًّا، وكان الزبير غنيًّا، فنصفهم كانوا أغنياء.
    وهذا يدل على أن المال بيد الإنسان ليس عيبًا، ولا ينقص من قدره، بل إن الله
    سمَّاه: خيرًا: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]، إنما الذي يعيب الإنسانَ هو: أن يكون المال في قلبه، وليس في يده، فإذا كان المال في قلبه شغله عن الله، وعن الآخرة، أما إذا كان في يده فلن يشغله، فإذا جعل الإنسان الدنيا في يده، وليست في قلبه، فإنها لن تشغله عن الآخرة، أما إذا كانت في قلبه أَلْهَتْهُ وشغلته عن الآخرة.
    فوصف الله تعالى أبا بكرٍ بأنه من أُولي الفضل: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ، وهذا يدل على فضائل أبي بكر الصديق .
  • أيضًا من الفوائد: “استحباب صِلة الأرحام وإن كانوا مُسيئين”؛ لأن أبا بكرٍ أرجع النفقة لمِسْطَحٍ ، مع كون مِسْطَحٍ قد أساء له بأن وقع في عِرْض ابنته، لكن أبا بكرٍ قابل الإساءة بالإحسان وأرجع النفقة له.
  • أيضًا من الفوائد: “العفو والصَّفْح عن المُسيء”، كما فعل أبو بكرٍ مع ابن خالته مِسْطَحٍ.
  • أيضًا من الفوائد: “أنه يُستحب لمَن حلف على يمينٍ ورأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خيرٌ، ويُكفِّر عن يمينه”، كما فعل أبو بكر الصديق ، فإنه حلف ألا يُنفق على مِسْطَحٍ، فلما نزلت الآية: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، قال أبو بكرٍ : “بلى، أُحب أن يغفر الله لي”، فأرجع النفقة إلى مِسْطَحٍ، وكفَّر عن يمينه.
  • أيضًا من الفوائد: “فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها”، فإنها كانت المُنافِسة لعائشة رضي الله عنها، وكانت فرصةً لها لأن تنال منها وتُقلل من شأنها عند النبي ، لكن -كما تقول عائشة رضي الله عنها- عصمها الله بالورع، فقالت: “يا رسول الله، أَحْمِي سمعي وبصري، ما علمتُ عليها إلا خيرًا”.
    فانظر إلى عظمة موقفها رضي الله عنها، كان بالإمكان أن تجدها فرصةً سانحةً لأن تنال من عائشة رضي الله عنها، قالت: “هي التي كانت تُساميني”، يعني: تُنافسني، وهي جارتها، ومع ذلك عصمها الله بالورع، قالت: “أَحْمِي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيرًا”.
    ولهذا ينبغي للمسلم إذا سُئل عن أحدٍ ولم تكن عنده معلوماتٌ مُؤكَّدةٌ عنه أن يقول كما قالت زينب رضي الله عنها، يقول: أَحْمِي سمعي وبصري، ما علمتُ عليه إلا خيرًا.
    إذا لم تكن عندك معلوماتٌ مُؤكَّدةٌ وعندك يقينٌ عن حالة ذلك الإنسان لا تتكلم بالظنِّ؛ لأنك إذا أخطأتَ فإثمك عند الله عظيمٌ، كما قال الله سبحانه: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وإنما المشروع أن تقول كما قالت زينب رضي الله عنها: أَحْمِي سمعي وبصري، ما علمتُ عليه إلا خيرًا.
    اجعل هذا مبدأً لك في الحياة، إذا سُئِلْتَ عن إنسانٍ ولم تكن عندك عنه معلوماتٌ مُؤكَّدةٌ، وتخشى أن تُخطئ في إخبارك عنه؛ فقل كما قالت زينب رضي الله عنها، قل: أَحْمِي سمعي وبصري، ما علمتُ عليه إلا خيرًا. واخرج منها، ولا تُعرض نفسك للإثم العظيم؛ لأنك لو أخطأتَ في حقِّ هذا الإنسان فالإثم عند الله عظيمٌ، كما قال الله سبحانه: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
  • أيضًا من الفوائد: “أنه يُستحب في الخطب أن يقول بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي والشهادتين: أما بعد، وقد كثرتْ فيه الأحاديث الصحيحة”، كان من هَدْي النبي في خُطَبه أنه يفتتحها بالحمد والثناء على الله والصلاة على رسوله والشهادتين، ثم يقول: أما بعد [14]، فيُستحب للخطيب أن يأتي بهذه الكلمة: “أما بعد”.
  • من الفوائد: قال النووي: “جواز سَبِّ المُتعصِّب لمُبْطِلٍ، كما سبَّ أُسَيْدُ بن حُضَير سعدَ بن عُبَادة لِتَعصُّبِه للمُنافق، وقال: “إنك مُنافقٌ تُجادل عن المنافقين”، وأراد أنك تفعل فعل المنافقين، ولم يُرِدِ النفاق الحقيقي”.
    سعد بن عُبادة لم يكن مُنافقًا، لكن عاتبه سعد بن معاذ وأُسَيد بن حُضَير رضي الله عنهما على دفاعه عن المنافق، كيف يُدافع عن المنافق ابن أُبَيٍّ ومَن معه؟! لا تُدافع عنه: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105].
    فينبغي للمسلم ألا يُدافع عن المنافقين، لا تُدافِع عمَّن أظهر شَرَّه وخُبْثَه وأذيته للمسلمين وطعنَه في الدين: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
    ؛ ولذلك لما ذكر الله تعالى المنافقين قال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] يعني: فيكم أنتم أيها المؤمنون الصادقون مَن يسمع لهم، فـ”سَمَّاع” أتت على صيغة المبالغة، “سمَّاع” يعني: كثير الاستماع.
    فهنا أُسَيد بن حُضَير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما عاتَبَا سعد بن عُبادة على دفاعه عن المنافق؛ ولهذا قال الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا
    [النساء:88]، فلا يُدافع المسلم عن المنافقين، على الأقل يسكت، لكن لا يُدافع عنهم، ولا يُخاصم عنهم.
  • أيضًا من الفوائد: استشارة الأعلى لمَن هو دونه؛ لأن النبي لمَّا وقعتْ هذه الحادثة استشار مَن هو دونه: استشار الجارية، واستشار أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، واستشار عليَّ بن أبي طالبٍ ، واستشار زينب رضي الله عنها.
  • أيضًا من الفوائد: فضل مَن يُفوض الأمر إلى ربه ​​​​​​​، فإن عائشة رضي الله عنها قالت: “وأُفوض أمري إلى الله، وأقول كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]”.
  • أيضًا من الفوائد: حصول المغفرة لمَن أساء إليه وصَفَحَ عنه؛ لقول الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، فقوله: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ فيه إشارةٌ إلى أن العفو والصَّفْح من أسباب حصول المغفرة.
  • أيضًا من الفوائد -وهذه مرَّتْ معنا-: التَّأسِّي بزينب رضي الله عنها في الورع؛ وذلك لأنكَ إذا سُئلتَ عن إنسانٍ ولم تكن عندك عنه معلوماتٌ مُؤكَّدةٌ، ولم تكن مُتيقنًا من حاله، فينبغي أن تقول كما قالت زينب رضي الله عنها: “أَحْمي سمعي وبصري، ما علمتُ عليها إلا خيرًا”.
  • أيضًا من الفوائد التي ذكرها بعض العلماء: أن مَن أراد أن ينصح ويُشير ينبغي أن ينصح ويُشير بخيرٍ، ويُمسك عن الشرِّ، قالوا: لأن عليًّا لما أشار على النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: “يا رسول الله، لم يُضيق الله عليك، والنساء سواها كثيرٌ” [15]، قالوا: إن هذا وقع في نفس عائشة رضي الله عنها موقعًا عظيمًا، وظلَّ أثر هذه الكلمة في نفس عائشة سنواتٍ طويلةً على الرغم من أن النبي لم يعمل بهذه المشورة، لكن مع ذلك أثَّر ذلك في نفس عائشة رضي الله عنها.
    وعليٌّ
    إنما قال ذلك لأجل أن يُريح النبيَّ عليه الصلاة والسلام؛ لأنه رأى أن النبيَّ كان قلقًا، وكان بلاءً عظيمًا، واجتهد ، لكن لم يُدافع عن عائشة رضي الله عنها كما دافع بقية الصحابة.
    هكذا قال بعض أهل العلم،
    لكن لو رجعنا للقصة، قالت: “وأما عليٌّ فقال: لم يُضيق الله عليك، والنساء سواها كثيرٌ، وإن تسأل الجارية تصدقك”، فقالوا: كان ينبغي أن عليًّا يُدافع عن عائشة رضي الله عنها كما دافع بقية الصحابة، لكنه اجتهادٌ منه ؛ لأنه أراد مصلحة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رأى قلقه وتكدره، فهو قد اجتهد في ذلك، لكن هذا وقع موقعًا عظيمًا ومُؤلمًا في نفس عائشة رضي الله عنها، بقي سنواتٍ طويلةً، وحصل ما حصل أيضًا من معركة الجَمَل وغيرها.
    بل قالوا: إن عليًّا بهذه المقولة كأنه أشار للنبي تلميحًا بأن يُطلقها؛ ولذلك أخذوا من هذا فائدةً هي: أن الإنسان إذا استُشير ينبغي أن يُشير بالخير أو يسكت، فلو استشارك أحدٌ أن يُطلق امرأته، لا تقل: طلِّقها، إما أن تُشير عليه بأن يُمسكها، أو تسكت وتقول: والله أنت أدرى، وأنت صاحب القرار وأعلم. لكن لا تُشِرْ عليه بالطلاق، أو لا تُشِرْ عليه بالشر عمومًا؛ لأن هذا قد يبلغه فيقع في نفسه، كما حصل في قصة عائشة رضي الله عنها، مع أن عليًّا من أفاضل الصحابة: أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المُبشرين بالجنة، وأول مَن أسلم من الصبيان، فهو أيضًا قد اجتهد في هذا، ورأى أن المصلحة في ذلك، وأراد أن يُرِيح النبيَّ عليه الصلاة والسلام، لكن مع ذلك بلغ هذا عائشة رضي الله عنها، ووقع في نفسها موقعًا مُؤلمًا.
  • أيضًا من الفوائد: أن سُنة الله ماضيةٌ في ابتلاء المؤمنين، وأشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فإن كان في دينه صلابةٌ شُدِّد عليه في البلاء.
    ففي هذه القصة ابتُلي النبي ابتلاءً عظيمًا حتى قيل: إن ابتلاءه هو أشدُّ ما لقيه النبي في حياته. قيل: إنه حتى أشدّ من ابتلائه يوم أُحُدٍ، وأشدّ مما أوقعوا عليه سَلَا الجَزُور، وأشدُّ من أيِّ ابتلاءٍ آخر؛ لأنه ابتُلي في عقر داره، وفي أحبِّ الناس إليه؛ في زوجته عائشة رضي الله عنها، وبقي في هذا البلاء شهرًا كاملًا، ولم يُوحَ إليه فيه شيءٌ، وتكدَّر خاطره عليه الصلاة والسلام، وحصل له بلاءٌ عظيمٌ بسبب هذه الحادثة.
    وأيضًا ابتُليت أم المؤمنين الطاهرة، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، يعني: فتاة في سِنِّ الزهور، عمرها أربع عشرة سنةً، أو خمس عشرة سنةً، وابتُليت بهذا الابتلاء العظيم حتى إنها لمَّا علمتْ جعلتْ تبكي طوال الوقت ليلًا ونهارًا، لا يَرْقَأ لها دمعٌ، ولا تكتحل بنومٍ، ولا تأكل، ولا تشرب، ولا تنام، حتى ظنَّتْ أنها ستهلك، وظنَّ أبوها وأمها أنها ستموت من شدة البكاء، حتى إن امرأةً من الجيران من الأنصار دخلتْ عليها وجعلتْ تبكي مُتأثرةً ببكائها، فحصل لها هذا الابتلاء العظيم، لكن الله بَرَّأها من فوق سبع سماواتٍ، وأنزل فيها عشر آياتٍ في براءتها، قرآنًا يُتلى إلى قيام الساعة، رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

والفوائد كثيرةٌ من هذه القصة، كما قال القرطبي: “لو تُتُبِّعتْ لطال الأمر فيها وأفضى إلى الملال”، ففوائدها كثيرةٌ جدًّا، وقد جعلها الله تعالى درسًا للأُمة، قال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:17]، وقال في أولها: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، وهذا يدل على أنَّ كلَّ حادثةٍ فيها جوانبُ خيرٍ وجوانبُ شرٍّ، فهذه كان فيها من جوانب الخير: أنَّ الله أظهر فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأخزى المنافقين، وجعل فيها دروسًا عظيمةً للصحابة وللأُمة جميعًا في التَّثبُّت وعدم التَّسرع في نقل الأخبار، خاصةً إذا كانت مُتعلقةً بأعراض المسلمين، وخاصةً إذا كانت مُتعلقةً بأعراض أهل الفضل والخير والصلاح.

طيب، نريد أن ننتهي من هذا الباب، ونقف عند كتاب “صفات المنافقين”.

بقي معنا حديثٌ واحدٌ.

نعم، حدَّثني زُهير بن حرب.

باب براءة حَرَم النبي من الرِّيبة

القارئ: باب: براءة حَرَم النبي من الرِّيبة.

حدثني زُهَيْر بن حربٍ: حدثنا عفان: حدثنا حماد بن سلمة: أخبرنا ثابتٌ، عن أنسٍ: أن رجلًا كان يُتَّهم بأمِّ ولدِ رسول الله ، فقال رسول الله لعليٍّ: اذهَبْ فَاضْرِبْ عنقه، فأتاه عليٌّ فإذا هو في رَكِيٍّ يتبرَّد فيها، فقال له عليٌّ: اخرُجْ. فَنَاوَلَه يَدَه فأخرجه، فإذا هو مجبوبٌ -ليس له ذكرٌ- فَكَفَّ عليٌّ عنه، ثم أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إنه لَمَجْبُوبٌ، ما له ذَكَرٌ [16].

الشرح:

إن رجلًا كان يُتَّهم، وهذا الرجلُ ذَكَر القاضي عياض أنه كان قبطيًّا، وكان يُتَّهم بأم ولد رسول الله ، مَن هي أمُّ ولدِ النبي ؟

طالب: ……..

الشيخ: مارية القبطية، وكان هذا قبطيًّا، وكان يتكلم مع مارية باعتبارها من أهل بلده، وهناك مَن اتَّهمه، اتَّهمه بعض الناس من أجل ذلك، والناس غالبًا يُسيؤون الظنَّ؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يبتعد عن مواطن التُّهَم.

فقال رسول الله لعليٍّ : اذهب فَاضْرِبْ عنقه.

وقوله: فَاضْرِبْ عنقه سيأتي الكلام عنه على كل حالٍ.

“فأتاه عليٌّ ، فإذا هو في رَكِيٍّ”، الرَّكِيُّ: هي البئر التي لم تُطْوَ، البئر التي لم تُطْوَ يُقال لها “رَكِيّ”، وما زال العامة يستخدمونها، يقولون: رَكِيٌّ ورَكِيَّةٌ.

“يتبرد فيها” يغتسل فيها اغتسالَ تبرُّدٍ.

“فقال له عليٌّ : اخْرُجْ. فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوبٌ، ليس له ذكرٌ” فَانْتَفَت التُّهمة بهذا، فَكَفَّ عليٌّ عنه، ثم أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إنه لَمَجْبُوبٌ، ما له ذكرٌ.

استشكالٌ حول الحديث والردّ عليه

هنا استشكالٌ: كيف يأمره النبي بقتله بمجرد التُّهمة، ولم يثبت ذلك بشهودٍ ولا بإقرارٍ منه؟

وأجاب عن هذا العلماء فقالوا: إنه يحتمل أن هذا الرجل فَعَل فعلًا آخر يُوجب قتله.

لكن يرد عليه أن عليًّا أمسك عنه بعدما رآه مَجْبُوبًا، فلو كان السبب المُوجِبُ للقتل أمرًا آخر غير تُهمته بالفاحشة لَمَا أمسك عليٌّ عن ذلك.

وقيل في الجواب عن هذا: إن النبيَّ أُعْلِم عن طريق الوحي بأن هذا الرجل مجبوبٌ، وأن عليًّا سيرى ذلك منه؛ لتنكشف الحقيقة وترتفع التُّهمة، فلعل النبي أرسل عليًّا لأجل أن يحصل هذا: أن يراه مجبوبًا فَيُخبر الناسَ بأنه مجبوبٌ؛ فترتفع هذه التُّهمة عن أن يتَّهمه الناس بأم ولد النبي .

وبكل حالٍ، هذا من الأحاديث المُشتبهة، فَتُرَدُّ إلى الأحاديث المُحْكَمَة، والأحاديث المُحْكَمة تدل على أن النبيَّ لا يمكن أن يأمر بقتل أحدٍ إلا بعد ثبوت ارتكابه ما يُوجب القتل، هذا معلومٌ بالنصوص القطعية والنصوص المُحْكَمة، فلا يُؤخذ هذا النص على ظاهره.

ولهذا لم يَرْوِ هذا الحديثَ إلا مسلمٌ، لم يَرْوِه غيره، وكما ذكرنا هو مُتأوَّلٌ بأن النبيَّ عليه الصلاة والسلام أُعْلِمَ بالوحي، فلعله أرسل عليًّا لأجل أن يراه مجبوبًا، فَيُبين للناس أنه مجبوبٌ؛ فتنتفي هذه التُّهمة عنه، لعل النبيَّ أراد ذلك، لكن ينبغي ألا يُفهم أن النبي أمر بقتله لأجل تُهمةٍ؛ لأن التُّهمة لا تُوجب القتل؛ لأنه لا بد من قيام البينة من الإقرار أو الشهادة.

يعني: بعض الأحاديث يكون ظاهرُها مُشْكِلًا، وتُرَدُّ إلى النصوص المُحكمة، وهذه طريقة الراسخين في العلم: رَدُّ المُتشابه إلى المُحكم.

أما الذين يأخذون بالأحاديث المُتشابهة فهؤلاء هم أهل الزَّيْغ، كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7].

فإذا أشكل عليك حديثٌ رُدَّه للمُحكم، وهذه طريقة الراسخين في العلم.

وهذا الجواب تستطيع أن تُجيب به عن أي شبهةٍ تُطْرَح عليك، أي شبهةٍ في أمور الدين تُطْرَح عليك تقول: غاية ما يُفيد هذا النص، أو غاية هذا النص أنه مُتشابهٌ، فَيُرَدّ إلى النصوص المُحكمة التي تدل لكذا وكذا وكذا؛ لأن هناك أناسًا يتَّبِعون المُتشابه، يقولون: أليست هذه آيةً من القرآن؟ أليس هذا حديثًا رواه البخاري، أو رواه مسلمٌ، أو رواه البخاري ومسلمٌ؟

فالجواب عن هذا: أننا نردُّ هذا المُتشابه إلى النصوص المُحكمة، وهذه هي طريقة الراسخين في العلم، أما الذي يتَّبع المُتشابه من النصوص فهذا ذكره الله تعالى عن أهل الزيغ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فلا يمكن للنبي أن يأمر عليًّا أن يقتله لأجل تُهمةٍ، ولعل النبيَّ عليه الصلاة والسلام إنما أراد من بَعْث عليٍّ أن يراه على الطبيعة -أن يراه مَجْبُوبًا- فيذكر ذلك في الناس؛ فتنتفي التُّهمة عن هذا الرجل.

وبذلك نكون قد انتهينا من هذا الباب، ونقف عند كتاب “صفات المنافقين”.

وكما ذكرنا: أن الدرس سيتوقف -إن شاء الله- إلى الثاني عشر من شهر جمادى الأولى، ونستأنف معه الدرس -بإذن الله تعالى- في كتاب “صفات المنافقين وأحكامهم”.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

نُجيب عمَّا تيسر من الأسئلة:

السؤال: هذا الأخ الكريم يطلب توجيه نصيحةٍ، قال: رأيتُ بعض الإخوة يركل كراسة الدرس بِرِجْله.

الجواب: هذا يُنافي الأدب، ينبغي لطالب العلم أن يلتزم بآداب طالب العلم، وما كان فيه ذِكْرٌ لله تعالى ينبغي أن يُعَظِّمه تعظيمًا، ينبغي أن يُعَظِّم المصحف، وأن يُعَظِّم الكتب التي فيها ذِكْرٌ لله ، فالرَّكْل بالرِّجْل أو وَضْعُها أو امتهانها بأي طريقةٍ، هذا لا يجوز، وهذا يُنافي الأدب المطلوب من طالب العلم.

السؤال: هل يجوز أن نقول: إن الصحابي أخطأ مثلما حصل لعليٍّ ؟

الجواب: عليٌّ اجتهد، الأحسن أن يُقال: اجتهد، ولا يُقال: إنه أخطأ، إنما يُقال: اجتهد، والصحابة بشرٌ يقع منهم الخطأ، وليسوا معصومين، لكنهم لا يتعمدون ذلك، قد يجتهدون أحيانًا اجتهادًا لا يُوافقهم غيرهم على ذلك الاجتهاد، وإلا فالصحابة هم خير القرون، هم أفضل القرون، هم أفضل الأُمة، ترضَّى اللهُ عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وأثنى الله ​​​​​​​ عليهم ثناءً عظيمًا: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [التوبة:100]، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29] .. إلى آخر الآيات تجد الثناء العظيم عليهم.

بينما تجد أن الله تعالى ذمَّ بعض الأمم السابقة الذين آذوا أنبياءهم، لكن الصحابة  نجد الثناء العظيم من الله عليهم في كتابه الكريم، لكن قد يقع الخطأ من بعضهم ، وهذا الذي حصل من عليٍّ اجتهادٌ منه؛ لأنه أراد إراحة النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يُقال: إنه أخطأ، وإنما يُقال: إنه اجتهد، الأحسن أن يُقال: اجتهد في هذا.

السؤال: لماذا لم يتفقد النبي عائشة رضي الله عنها أثناء السفر، وهو سفرٌ طويلٌ؟ هل معنى ذلك: أن المرأة تُسافر بدون مَحْرَمٍ؟

الجواب: عائشة رضي الله عنها بَيَّنَتِ السببَ، قالت: “ظنُّوا أني في الهَوْدَج”، فكانوا كلهم يظنون أنها داخل الهَوْدَج، والهَوْدَج يكون مستورًا، تأخذ المرأة فيه راحتها، ويُوضع على البعير، وكان يُوضع فيه النساء، وأيضًا كان يركب فيه المُتْرَفون، فكانوا يظنون أن عائشة رضي الله عنها داخل الهودج، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيبَ، بشرٌ، كما قال الله عنه: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188].

وأما كون عائشة رضي الله عنها تأتي مع رجلٍ أجنبيٍّ للضرورة، يعني: ماذا تفعل؟ هي في البَرِّيَّة، وأتاها صفوان مُنْقِذًا لها، فهذه حالةُ ضرورةٍ.

طالب: ………

الشيخ: نعم، لم يقم النبي عليه الصلاة والسلام، واختُلِفَ في السبب، قيل: إن الله أراد أن يَدَّخِر عذابه للآخرة. وقيل: إنه كان سيدًا في قومه، وخشي النبي عليه الصلاة والسلام الفتنة. وقيل: إنه -كما قال النووي وغيره- كان يستوشيه، لكن ما ثبت عليه، والله تعالى ذكر هذا، لكن لم يُسَمِّه: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ [النور:11]، لم يقل: إنه ابن أُبَيٍّ.

فلله الحكمة في هذا، وأيضًا لأن الحدَّ مُطَهِّرٌ، وهذا رأس النفاق لا يُطَهِّره الحد.

طالب: كم كانت -يا شيخ- مدة السفر؛ سفر عائشة رضي الله عنها؟

الشيخ: نعم، كانوا يبقون في اليوم والليلة أربعين كيلو مترًا، وفي اليومين ثمانين كيلو مترًا، لكن لا أدري كم كانت المسافة، الله أعلم.

طالب: ………

الشيخ: لا، النساء كُنَّ يَرْكَبْنَ على الهَوْدَج، تُوضع في الهَوْدَج فوق البعير، وكان يمشي الجميع.

طالب: ………

الشيخ: وشعرها أي شيءٍ؟

طالب: ………

الشيخ: كيف معقوفًا؟

طالب: ………

الشيخ: يعني: هذا وَرَدَ، هذا مكروهٌ، نعم.

السؤال: هل يجوز إذا أدركتُ مع الإمام التَّشهدَ الأخير فقط، وسمعتُ جماعةً أخرى؛ أن أَقْلِبَ صلاتي إلى نَفْلٍ وأُدْرِكَ الجماعة الثانية؟ وإذا كنتُ مُنفردًا هل لي ذلك؟

الجواب: نعم، هذا هو الأفضل، الأفضل أنك إذا كنتَ تُصلي مُنفردًا أن تَقْلِبَ صلاتك إلى نافلةٍ، تُكملها ركعتين خفيفتين، أو أنك إذا دخلتَ مع الجماعة الأولى في التَّشهد الأخير، وسمعتَ بجماعةٍ أخرى أنك تقلب صلاتك أيضًا إلى نافلةٍ، وتُصليها ركعتين خفيفتين، ثم تلتحق بالجماعة الجديدة؛ لأنك إذا فعلتَ ذلك ضمنتَ أجر الجماعة، بينما لو أنك بَقِيتَ في صلاتك مُنفردًا أو مع الجماعة الأولى التي أدركتَها في التَّشهد الأخير، فلا تحصل على فضل الجماعة، يكون قد فاتك أجر الجماعة؛ لأن الجماعة إنما تُدْرَك بإدراك ركعةٍ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: مَن أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة [17]؛ ولذلك حتى تضمن أجر الجماعة تقلب صلاتك إلى نافلةٍ، وتُكملها ركعتين خفيفتين، ثم تدخل مع الجماعة الجديدة.

وهذا اختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم: كابن تيمية وغيره من المُحققين؛ لأنك إذا فعلتَ ذلك ضمنتَ أجر الجماعة، بينما لو بقيتَ في صلاتك مُنفردًا أو مع الجماعة التي أدركتَ معها التَّشهد الأخير لم تكن أدركتَ الجماعة، وفاتك أجر الجماعة.

السؤال: ما حكم السُّتْرَة في الصلاة؟

الجواب: السُّترة سنةٌ في حقِّ الإمام والمُنفرد، أما المأموم فإن سُترة الإمام سُترةٌ لمَن خلفه، لكن الإمام وكذلك المُنفرد يُسَنُّ لهما السُّترة، والمرأة إذا صَلَّتْ في بيتها يُسَنُّ أيضًا أن تُصلي خلف سُترةٍ، فاتِّخاذ السُّترة في الصلاة سُنةٌ.

طالب: ………

الشيخ: أقلُّ السُّتْرة قَدْر مُؤخِّرة الرَّحْل، يعني: ثلثي ذراعٍ، يعني: في حدود ثلاثين سنتيمترًا تقريبًا.

السؤال: أريد أن أَدْخُل شريكًا بالمال مع صديقٍ في مشروعٍ تجاريٍّ، وهو يتكفل بالعمل، ما الصيغة الصحيحة للشراكة وتقسيم الأرباح؟

الجواب: تكون مُضاربةً، منك المال، ومنه العمل، فأنت ربُّ المال، وهو العامل أو المُضارب، فلا بأس بذلك.

وعلى هذا تتفقان فيما بينكما على الربح بأية طريقةٍ، يعني مثلًا: يكون لك 50% وله 50%، أو لك 40 وله 60، أو العكس، فالربح على ما اتَّفق عليه الشريكان، وأما الخسارة فإنها تكون على ربِّ المال، هذه هي القاعدة في الشركات: أن الخسارة على ربِّ المال، وليست على المُضارب، وأن الربح على حسب ما اتَّفقا عليه.

إذن الربح على ما اتَّفقا عليه، والخسارة على ربِّ المال، ولا يجوز ضمان الربح، ولا ضمان عدم الخسارة؛ لأن ضمان الربح وضمان عدم الخسارة يَقْلِبها من كونها مُضاربةً إلى قرضٍ ربويٍّ.

السؤال: هل أموال الأرباح التي يتقاسمها الشركاء في الشركة عليها زكاةٌ، أو يُكتفى بزكاة السلع التجارية؟

الجواب: الربح تجب زكاته، الربح يجب أن يُزَكَّى، حتى لو لم يَحُلْ عليه الحول؛ ولهذا قال الفقهاء: إنَّ نِتاج السَّائمة وربح التجارة حولهما حول أصليهما، والواجب على مَن يتعامل بالتجارة أن يُزكِّي رأس المال مع الربح.

إذن هذه الشركة إذا كانت عندها عروض تجارةٍ لا بد أن تُقيِّم هذه العروض مع أرباحها.

السؤال: ما نصيحتكم لمَن أراد أن يحفظ القرآن؟

الجواب: أولًا: القرآن يُؤخذ بالتَّلقي، فمَن أراد أن يحفظ القرآن لا يحفظ على نفسه؛ لأنه إذا حفظ على نفسه ربما يحفظ خطأً؛ لأن بعض الآيات ربما ينطقها بطريقةٍ خاطئةٍ، فالقرآن يُؤخذ بالتَّلقي، تلقَّاه جبريل  عن الله ، وتلقَّاه نبينا محمدٌ عن جبريل، وتلقَّاه الصحابة عن نبينا محمدٍ ، وتلقَّاه التابعون عن الصحابة، وهكذا، فالقرآن يُؤخذ بالتَّلقي.

فإذا أردتَ أن تحفظ فأحسن طريقةٍ: أن تلتحق بحلقة تحفيظ القرآن، وأن تُسَمِّع حفظك أولًا؛ لتقوم بتصحيح التلاوة، فإذا قمتَ بتصحيح التلاوة وضبطتَ التلاوة مُصَحَّحةً تبدأ بعد ذلك بالحفظ.

ومن أفضل وسائل تقوية الحفظ: التكرار، تُكرر ما تريد أن تحفظه، لا تُكرره خمس مراتٍ أو عشرًا، تُكرره على الأقل خمسين مرةً، فبذلك يكون حفظك قويًّا، وإن رفعتَ مستوى التَّكرار أكثر من ذلك كان حفظك أقوى، فمن أعظم أسباب تقوية الحفظ: تكرار المحفوظ.

وأيضًا من الأسباب -من أسباب تقوية الحفظ-: فهم معاني الآيات؛ ولذلك لما سمع أعرابيٌّ رجلًا يقرأ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، أخطأ القارئ فقال: “والله غفورٌ رحيمٌ”، فقال الأعرابي: ما هكذا نزلتْ. فرجع القارئ ووجدها: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، قال: نعم، عَزَّ فقطع. لا يمكن أن تكون: “والله غفورٌ رحيمٌ” مع فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، فَفَهْمُ الآيات أيضًا مما يُعِين على الحفظ.

كذلك أيضًا: الالتزام بحفظ قَدْرٍ مُعينٍ كلَّ يومٍ، فإذا حفظتَ كلَّ يومٍ -مثلًا- خمس آياتٍ، فإنك مع مرور السنة تكون قد حفظتَ أجزاء كثيرةً، لكن المهم هو الالتزام مع الاستمرار.

وحفظ القرآن منقبةٌ عظيمةٌ؛ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: الماهر بالقرآن مع السَّفَرَة الكرام البَرَرَة [18]، فيكون مع السَّفَرَة الكرام البَرَرَة، والله تعالى يقول: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، ويَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله [19]، وهذا يدل على فضل الحافظ لكتاب الله ، ومَن أراد أن يطلب العلم فأصل العلوم هو القرآن، فلا بد أولًا أن يبدأ بحفظ كتاب الله .

السؤال: ما حكم الصلاة بين الأعمدة؟

الجواب: الصلاة بين الأعمدة -وهي ما يُسميه العلماء بالسَّواري- مكروهةٌ إلا عند الحاجة؛ كأن يضيق المسجد -مثلًا- فهنا لا بأس بالصلاة بين السَّواري، أما مع عدم الحاجة فالصلاة بينها مكروهةٌ.

السؤال: ما المقصود بقول النبي : ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها [20]؟

الجواب: المقصود بذلك السنة الراتبة للفجر، ففيها فضلٌ عظيمٌ، يقول عليه الصلاة والسلام: ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها رواه مسلمٌ.

وكان هَدْيه عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر أنه يُخفِّفهما حتى تقول عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله يُصلي ركعتي الفجر فَيُخَفِّفُ حتى إني أقول: ‌هل ‌قرأ ‌فيهما بأم القرآن؟” [21].

فالسنة إذن تخفيف ركعتي الفجر، وينبغي أن يحرص المسلم عليهما: ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها، وكان عليه الصلاة والسلام يُحافظ عليهما، ولا يتركهما حتى في السفر.

السؤال: أُذِّنَ للمغرب الساعة الخامسة، وأخَّرتُها للخامسة والخمسين، والعشاء يُؤذَّن به في السادسة والنصف، فهل فات وقتها؟

الجواب: نرجو أن تكون صلَّيْتَ في الوقت، لكن ينبغي أن يُعلم أن وقت المغرب ليس طويلًا، وقت المغرب لا يتجاوز ساعةً تقريبًا، وأما ما وُضِعَ في التقاويم من كونه ساعةً ونصفًا فهذا من باب التوسعة على الناس -ساعة ونصف على مدار السنة في تقويم أم القرى-؛ ولذلك ينبغي التَّنبه إلى أن وقت المغرب ينتهي قبل ذلك.

السؤال: تُوفيت والدتي وأنا حائض، هل يجوز لي دخول المسجد للعزاء بعد انتهاء الصلاة؟

الجواب: ليس لكِ ذلك، وإنما العزاء يكون في البيوت، وأنت معذورةٌ، فليس عليكِ صلاةٌ، ولا تأتي للمسجد للعزاء؛ لأن الحائض والجنب ممنوعان من المُكْث في المسجد.

السؤال: هل الصلاة على الميت في المقبرة يُنَال بها فضل الصلاة على الجنازة؟

الجواب: نعم، النبي يقول: مَن صلَّى على جنازةٍ فله قيراطٌ [22]، وهذا يشمل مَن صلَّى على الجنازة في المقبرة، أو مَن صلَّى عليها في المُصلَّى، أو مَن صلَّى عليها في المسجد، فالحديث عامٌّ.

طالب: ………

الشيخ: لا، الصلاة واتِّباع الجنازة.

السؤال: ما حكم الزكاة في الذهب الملبوس؟

الجواب: الزكاة في الذهب الملبوس أو الحُلِيِّ المُستعمل محلُّ خلافٍ بين الفقهاء، فالجمهور على أنه لا تجب الزكاة في الحُلِيِّ المُعَدِّ للاستعمال، وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، والمنقول عن أكثر الصحابة.

والقول الثاني: أنها تجب، وهو مذهب الحنفية.

والراجح هو قول الجمهور، والأحاديث التي استدلَّ بها القائلون بالوجوب كلها ضعيفةٌ؛ ولهذا قال الإمام ابن تيمية: لا يثبت في هذا الباب شيءٌ.

قاعدة الشريعة: أن ما كان مُعدًّا للاستعمال والقُنْيَة لا زكاةَ فيه، وعلى ذلك فالراجح هو: أنه لا تجب الزكاة في الحُلِيِّ المُعدِّ للاستعمال.

السؤال: الهدية التي تُهْدَى للمولود الجديد، هل هي من حقِّ الأم أو للمولود؟

الجواب: الذين يُهدون هذه الهدايا إنما يُهدونها لأم المولود، ولا يقصدون بذلك المولود، فالمولود يعرفون أنه صغيرٌ، طفلٌ صغيرٌ لا يُدرك، ولا يعرف الهدية، فهم يُهدونها لأم المولود، فهذه الهدايا كلها لأم المولود.

السؤال: هل تجوز مُصافحة أخت الزوجة؟

الجواب: لا تجوز، لا تجوز مُصافحة المرأة الأجنبية، كان النبي لا يُصافح النساء، وإنما يُبايعهنَّ بالكلام [23]، فأخت الزوجة أجنبيةٌ لا يجوز لك أن تُصافحها، ولا أن تُصافح أي امرأةٍ أجنبيةٍ عنك.

واستثنى العلماء من ذلك: الكبيرة في السنِّ، العجوز التي أصبحتْ من القواعد من النساء، فقالوا: هذه تجوز مُصافحتها؛ لانتفاء الفتنة، ولأن الله تعالى أباح لهنَّ وضع ثيابهن، قال: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60].

فالكبيرة في السنِّ التي هي من القواعد من النساء، هذه الأمر بالنسبة لها أوسع، فيجوز لها أن تضع ثيابها، وألا تتحجب، وإن كان تحجُّبها أفضل: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، وذكر الفقهاء أنه تجوز أيضًا مُصافحتها؛ لانتفاء الفتنة، وأما ما عداها فلا يجوز، فالأصل أنه لا تجوز مُصافحة المرأة الأجنبية؛ للفتنة التي تحصل بسبب ذلك.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه أبو داود: 2459، وأحمد: 11759، وكلاهما بلفظٍ قريبٍ.
^3 رواه البخاري: 2637، ومسلم: 2770.
^4, ^7, ^12 رواه مسلم: 2770.
^5, ^9, ^10 رواه البخاري: 4141، ومسلم: 2770.
^6, ^15 رواه البخاري: 2661، ومسلم: 2770.
^8 رواه البخاري: 2593.
^11 رواه البخاري: 371، ومسلم: 1365.
^13 رواه البخاري: 2757، ومسلم: 2769.
^14 رواه البخاري: 925.
^16 رواه مسلم: 2771.
^17 رواه البخاري: 580، ومسلم: 607.
^18 رواه مسلم: 798.
^19 رواه مسلم: 673.
^20 رواه مسلم: 725.
^21 رواه مسلم: 724.
^22 رواه مسلم: 946.
^23 رواه أحمد: 6998.
zh