عناصر المادة
- كتاب “صفات المنافقين وأحكامهم”
- سبب نزول سورة “المنافقون”
- ما يُستفاد من حديث: خرجنا مع رسول الله
- تكفين النبي لابن سلول بقميصه والصلاة عليه
- ما يُستفاد من حديث: “أتى النبي قبر عبدالله بن أُبَيٍّ ..”
- سبب نزول قوله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ ..
- سبب نزول قوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
- الأسئلة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
ننتقل بعد ذلك للأحاديث التي ذكرها المصنف رحمه الله.
كتاب “صفات المنافقين وأحكامهم”
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.
قال المُصنف رحمه الله تعالى:
سبب نزول سورة “المنافقون”
كتاب “صفات المنافقين وأحكامهم”.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن بن موسى: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو إسحاق: أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خرجنا مع رسول الله في سفرٍ أصاب الناسَ فيه شدةٌ، فقال عبدالله بن أُبَيٍّ لأصحابه: لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله.
قال زُهير: وهي قراءة مَن خفض: “حوله”.
وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8].
قال: فأتيتُ النبيَّ فأخبرتُه بذلك، فأرسل إلى عبدالله بن أُبَيٍّ فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقال: كذب زيدٌ رسولَ الله . قال: فوقع في نفسي مما قالوه شدةٌ، حتى أنزل الله تصديقي: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1]. قال: ثم دعاهم النبي ليستغفر لهم، قال: فَلَوَّوا رؤوسهم، وقوله: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]. وقال: كانوا رجالًا أجمل شيءٍ [2].
الشرح:
هذا وقع في أحد الأسفار، وأصاب الناسَ في هذا السفر شدةٌ، فقال عبدالله بن أُبَيٍّ -رأس النفاق- لأصحابه المنافقين: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7]، يعني: يلمزهم، يقول: إن هؤلاء الذين عند النبي عليه الصلاة والسلام ما أتوا إلا يريدون مالًا، فاتركوهم، لا تُنفقوا عليهم، فإذا ما وجدوا مالًا انفَضُّوا وتركوه.
انظر إلى هذا الخُبْث، وهذه الكلمة الشديدة.
ثم قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ يعني: من السفر لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يقصد نفسه ومَن معه من المنافقين مِنْهَا الْأَذَلَّ يريد النبيَّ وأصحابه.
والمنافقون يُظهرون أنفسهم أنهم هم الأعزّ، وأنهم هم الأغلب، وأن كلمتهم هي الكلمة في المجتمع.
فسمع بذلك هذا الصحابي الجليل زيد بن أرقم ، وكان صغير السنِّ، شابًّا، فلما سمع هذه الكلمة العظيمة الشديدة ذهب للنبي فأخبره، فأرسل النبي إلى عبدالله بن أُبَيٍّ فسأله، “فاجتهد يمينه” قام يحلف أيمانًا مُغلظةً أنه ما قال هذا الكلام، وقال: كذب زيدٌ، هذا كذب علينا، ما قلنا هذا الكلام أبدًا. ويحلف أيمانًا مُغلظةً، واجتهد يمينه.
قال زيد بن أرقم : “فوقع في نفسي مما قالوه شدةٌ”؛ لأنه قد كُذِّبَ، وما استطاع أن يُثبت أنهم قالوا هذا الكلام، “حتى أنزل الله تصديقي” أنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ .. [المنافقون:1] إلى آخر السورة، إلى قوله سبحانه: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقالوا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7]، فأنزل الله تعالى تصديق هذا الصحابي، وتكذيب هؤلاء المنافقين.
لما نزلت السورة أرسل النبي عليه الصلاة والسلام -وهو الرحيم بأُمته والرؤوف- دعا هؤلاء المنافقين ليستغفر لهم، لعل الله أن يعفو عنهم، فَلَوَّوا رؤوسهم، يعني: حرَّكوها استهزاءً بالنبي : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].
وقوله: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، قال: “كانوا رجالًا أجمل شيءٍ”، كانوا إذا رأيتهم عندهم جمالٌ في الخِلْقَة، وعندهم فصاحةٌ في اللسان، لكن عندهم خُبْثٌ ومكرٌ ونفاقٌ: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، فجمعوا بين جمال الأجسام وفصاحة اللسان، لكن عندهم هذا النفاق، فهذا مما ذكره الله تعالى عن هؤلاء المنافقين.
ما يُستفاد من حديث: خرجنا مع رسول الله
- دلَّ هذا الحديث على جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يُعدّ نميمةً، يجوز أن يُبلغ عن الكلام السيئ الذي يُقال، ولا يُعدّ ذلك نميمةً إذا كانت فيه مصلحةٌ، وكان المُبَلِّغ لا يقصد الإفساد، إنما يقصد المصلحة، ولا يُعتبر هذا من النَّميمة، فزيد بن أرقم أبلغ النبيَّ عليه الصلاة والسلام بكلام عبدالله بن أُبَيٍّ، وأنزل الله تصديقه، فليس هذا من النَّميمة.
بعض الناس يعتقد أن كل نقلٍ للكلام نميمةٌ، وهذا غير صحيحٍ.
النَّميمة هي: نقل الكلام بقصد الإفساد، أما نقل الكلام إذا كانت تترتب عليه مصلحةٌ فلا بأس به، فهذا إنسانٌ خبيثٌ يقول مثل هذا الكلام عن صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، فَنَقْلُه للنبي فيه مصلحةٌ.
إذن -كما ذكرنا في درس سابق– الغيبة تجوز في مواضع، وكذلك نقل الكلام يجوز في مواضع: إذا ترتبتْ على ذلك مصلحةٌ راجحةٌ، إذا كان نقل الكلام ليس بقصد الإفساد، وإنما بقصد الإصلاح فإنه لا بأس به، بل قد يكون هذا مطلوبًا ومندوبًا إليه.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: ترك مُؤاخذة كُبراء القوم بالهفوات؛ لئلا ينفر أتباعهم، والاقتصار على مُعاتبتهم وقبول أعذارهم، وإن كانت القرائن تدل على خلاف ذلك.
فهذه الكلمة من هذا الخبيث كلمةٌ شديدةٌ، فلو أن النبي حاسبه لكان العقاب شديدًا، بل ربما تستوجب القتل، لكنه عليه الصلاة والسلام ترك مُؤاخذته؛ لأنه كان سيدًا في قومه، وله أتباعٌ، وأيضًا حتى لا يُقال: إن محمدًا يقتل أصحابه. فاكتفى النبي عليه الصلاة والسلام بمُعاتبتهم، لكن لما دعاه النبي عليه الصلاة والسلام نفى، وحلف على ذلك أيمانًا مُغلظةً، حتى أنزل الله تعالى هذه الآيات، فأرسل له النبي عليه الصلاة والسلام ليستغفر له ومَن معه، فــلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتألف أصحابه، وأيضًا يتألف هؤلاء المنافقين، لعل الله تعالى أن يهديهم؛ ولذلك ترك مُؤاخذة هذا الخبيث، واكتفى بمُعاتبته.
- أيضًا دلَّ هذا الحديث على المنقبة العظيمة لزيد بن أرقم ، حيث صدَّق الله تعالى إخباره للنبي ، فصدَّق الله مقولة هذا الشاب الصغير الذي أخبر النبيَّ بهذا الكلام، وتمالأ عليه هؤلاء المنافقون وكذَّبوه، وصدَّقه الله تعالى بهذه الآيات، وهذا فيه منقبةٌ لهذا الصحابي الجليل.
- أيضًا من الفوائد: بيان ما عليه المنافقون من الكذب والبُهتان والحقد والحسد والمكر والتَّآمر على الإسلام والمسلمين، وهذا هو حال المنافقين في كل زمانٍ ومكانٍ، عندهم حقدٌ عظيمٌ على الإسلام، وعلى المسلمين، وعلى المُتمسِّكين بالإسلام، وعندهم الكذب والأيمان الكاذبة والتَّآمر على الإسلام والمسلمين؛ ولهذا قال الله تعالى عنهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
القارئ: أحسن الله إليكم.
تكفين النبي لابن سلول بقميصه والصلاة عليه
قال رحمه الله:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وأحمد بن عبدة الضّبي -واللفظ لابن أبي شيبة- قال ابن عبدة: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو: أنه سمع جابرًا يقول: “أتى النبيُّ قبر عبدالله بن أُبَيٍّ، فأخرجه من قبره، فوضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه”، فالله أعلم [3].
حدثني أحمد بن يوسف الأزدي: حدثنا عبدالرزاق: أخبرنا ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، قال: سمعتُ جابر بن عبدالله يقول: جاء النبيُّ إلى عبدالله بن أُبَيٍّ بعدما أُدْخِلَ حُفْرَته. فذكر بمثل حديث سفيان [4].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة: حدثنا عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما تُوفي عبدالله بن أُبَيّ ابن سلول جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله ، فسأله أن يُعطيه قميصه يُكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يُصلي عليه، فقام رسول الله ليُصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله فقال: يا رسول الله، أتُصلي عليه وقد نهاك الله أن تُصلي عليه؟! فقال رسول الله : إنما خيَّرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة:80]، وسأزيده على سبعين، قال: إنه منافقٌ! فصلى عليه رسول الله ، فأنزل الله : وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] [5].
قال: حدثنا محمد بن المُثنى وعبيدالله بن سعيد، قالا: حدثنا يحيى -وهو القطان- عن عبيدالله بهذا الإسناد نحوه، وزاد قال: فترك الصلاة عليهم [6].
الشرح:
لما مات رأس النفاق عبدالله بن أُبَيٍّ كان ابنه من الصالحين الصادقين، واسمه: عبدالله بن عبدالله بن أُبَيٍّ، وكان يتألم من وضع أبيه، فلما مات أبوه ذهب للنبي عليه الصلاة والسلام -صاحب الخلق العظيم والكريم والحليم- وطلب منه أن يأخذ قميص النبي عليه الصلاة والسلام فيُكفن به أباه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام -صاحب الخلق الكريم- وافق وأعطاه قميصه -القميص مثل الثوب الذي نُسميه الآن: ثوبًا- فأخذه، وأخرجه ابنه من قبره، ووضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه.
يعني: أتى النبيُّ عليه الصلاة والسلام قبر عبدالله بن أُبَيٍّ، وأخرجه من القبر، ووضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، مع أنه آذاه أذيةً شديدةً، ومع ذلك فعل به النبي عليه الصلاة والسلام هذا.
ثم بعد ذلك لما أتى وقت الصلاة عليه قال النبي عليه الصلاة والسلام: سأُصلي عليه؛ لأنه طلب ابنُه أن يُصلي عليه، فأُحضرت جنازته للصلاة عليه، فأتى عمرُ واعترض وأخذ بثوب النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله، كيف تُصلي على هذا المنافق؟! كيف تُصلي عليه؟! وأخذ بثوب النبي عليه الصلاة والسلام هكذا: يا رسول الله، هذا منافقٌ، كيف تُصلي عليه؟!
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما خيَّرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة:80]، وسأزيده على سبعين، فإذا زدتُ على سبعين يغفر الله له، قال: إنه منافقٌ يا رسول الله! لكن النبي عليه الصلاة والسلام رجَّح أن يُصلي عليه، فصلَّى عليه، فأنزل الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، فوافق القرآنُ عمرَ، عمر المُحَدَّث المُلْهَم.
فهذه القصة من أعجب القصص، وفيها فوائد:
ما يُستفاد من حديث: “أتى النبي قبر عبدالله بن أُبَيٍّ ..”
- أولًا: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان كريم الخلق، كما قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وهذا الرجل عبدالله بن أُبَيٍّ من أشدِّ أعدائه، آذى النبيَّ عليه الصلاة والسلام في كل شيءٍ، حتى في أهله، فهو الذي أشاع حديث الإفك في عائشة: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11] هو عبدالله بن أُبَيٍّ، آذى النبيَّ عليه الصلاة والسلام أذيةً شديدةً بالمكر والدسائس والخُبْث، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه قميصه، ووضعه على ركبتيه، ونفث فيه من ريقه، وصلَّى عليه، وهذا يدل على عظيم خلق النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يُقابل السيئة بالسيئة، إنما قابلها بالحُسْنَى.
وأيضًا فعل ذلك لاعتباراتٍ أخرى؛ لأنه أراد أن يُكرم ابنه؛ لأن ابنه كان من الصَّادقين، وكان صالحًا.
وأيضًا اعتبارٌ آخر: لتأليف قومه من الخزرج؛ لأنه كان سيدًا فيهم؛ فلهذا فعل ذلك النبي ، لكن الله تعالى لم يُقره، قال: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84].
- أيضًا من الفوائد: جواز التَّكفين في القميص.
الأصل أن التَّكفين يكون في أثوابٍ مُدرجةٍ بدون قميصٍ، لكن لا بأس بالتَّكفين في القميص الذي نُسميه: الثوب، لا بأس به، لكنه خلاف الأفضل، لو دعت الحاجة إليه فلا بأس. - أيضًا من الفوائد: النَّهي عن الصلاة على الكافر.
لا تجوز الصلاة على الميت إذا كان الميت كافرًا، فلو كان الميت -مثلًا- يقع في الكفر لا يجوز أن يُصلَّى عليه، لكن إذا كان الإنسان في بلد الإسلام فالأصل أن الجنائز التي تُقدم جنائز مسلمين.
ولو كان الإنسان في مكانٍ وشكَّ: هل الجنازة التي تُقدم جنازة مسلمٍ أو غير مسلمٍ؟ كأن تنتشر في البلد -مثلًا- أمورٌ كفريةٌ، أو بدعٌ مُكفرةٌ.
هذه المسألة أشكلتْ على الإمام ابن تيمية رحمه الله، نقل عنه ابن القيم -عن شيخه ابن تيمية- أنه أشكلتْ عليه هذه المسألة، وأنه يُؤتى بجنائز، ولا يدري: هل أصحابها مسلمون أم لا؟ قال: فرأيتُ النبيَّ في المنام، فقال: “عليك بالشرط يا أحمد”، يعني: إذا شككتَ هل هذا الذي يُصلَّى عليه مسلمٌ أم لا؟ فادعُ له وقُل: اللهم اغفر له وارحمه، وعافِه واعفُ عنه، إن كان مسلمًا.
“عليك بالشرط يا أحمد” فالشرط يزول به ويرتفع هذا الإشكال.
وهذا وإن كان منامًا إلا أن المنامات يُستأنس بها، فالمنامات هي البشارة والنّذارة والاستئناس، لكن هذا المنام فَطَّنَ ابن تيمية رحمه الله لمسألة الشرط، فلو شككتَ في هذا الذي قُدِّمتْ جنازته، خاصةً في البلدان التي ينتشر فيها الكفر والبدع المُكفرة؛ فتُصلي وتشترط، فتقول: اللهم اغفر له إن كان مسلمًا.
- أيضًا من الفوائد: جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيًّا وميتًا؛ لقول عمر: “إن عبدالله بن أُبَيٍّ منافقٌ”، ولم يُنكر عليه النبي ذلك، فيجوز أن يُشهد على الإنسان بما يظهر من حاله، فإذا كان الذي ظهر من حاله الصلاح يشهد له بالصلاح، وإذا كان ظهر من حاله الفسق، أو ظهر من حاله أذية أهل الخير والصلاح فيشهد بذلك.
- أيضًا من الفوائد: أن المنهي عنه من سَبِّ الأموات ما قُصِدَ به الشَّتم، لا التعريف؛ فلذلك قال عمر: إنه منافقٌ، مع أنه قد مات، فلا يدخل هذا في النهي عن سَبِّ الأموات، فقد أراد عمر بذلك تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام وتعريفه بأن هذا الرجل منافقٌ، كيف تُصلي عليه؟!
- أيضًا من الفوائد: أن المنافق تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة؛ ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يُجري أحكام الإسلام الظاهرة على المنافقين، ويستغفر لهم، وكان يُصلي عليهم، حتى أنزل الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، لكن هذا خاصٌّ بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يعلم عن طريق الوحي أن هذا منافقٌ، أما غيره فلا يعلم ذلك؛ ولهذا لو قُدِّمَ إنسانٌ أظهر الإسلام يُصلَّى عليه، حتى وإن كان قد أبطن الكفر؛ لأنه تُجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة.
- أيضًا من الفوائد: تنبيه المفضول للفاضل على ما يظن أنه قد سها عنه؛ لأن عمر أتى ونبَّه النبيَّ عليه الصلاة والسلام: كيف تُصلي على هذا الرجل وهو منافقٌ؟!
استشكل بعض العلماء هذا الحديث، وبعضهم ضعَّفه، قال: كيف يقول عليه الصلاة والسلام: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة:80]، وسأزيده على سبعين، وظاهر الآية أن المقصود: حتى لو استغفرتَ بأي رقمٍ، وإنما السبعون للتَّكثير؟
فبعضهم ضعَّف الحديث، وقال: إنه حديث آحادٍ. وضعَّفه لأجل ذلك، لكن الحقَّ أنه على ظاهره؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أجرى الآية على ظاهرها؛ لأن الله قال: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فقال عليه الصلاة والسلام: سأستغفر أكثر من سبعين، لعل الله أن يغفر له.
فهذا التَّضعيف لا وجهَ له، والحديث صحيحٌ، ورواه مسلمٌ، والنبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالآية على ظاهرها.
- أيضًا من الفوائد -وهذه فائدةٌ عظيمةٌ-: أن الاستغفار سبعين مرةً له شأنٌ في الدين، شأنٌ عظيمٌ.
من الفوائد: أن الاستغفار سبعين مرةً فأكثر له شأنٌ عظيمٌ؛ لأن الله قال: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، وهذا يدل على عظيم شأن الاستغفار سبعين مرةً فأكثر، فكأنه يقول: إن تستغفر لهم استغفارًا كثيرًا يصل إلى سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم. وهذا يدل على فضل كثرة الاستغفار، وأن المسلم ينبغي له أن يستغفر كثيرًا.
وقد كان النبي يُعَدُّ له في المجلس الواحد قوله: ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التواب الغفور مئة مرةٍ في المجلس الواحد [7]، فينبغي أن يحرص المسلم على كثرة الاستغفار.
اجعل من وقتك كل يومٍ نصيبًا للاستغفار، وأشهر صيغ الاستغفار: “أستغفر الله وأتوب إليه”، وهناك صِيَغٌ أخرى، مثل: “أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه”، “ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التواب الغفور”، “ربِّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم”، “ربِّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإلا تغفر لي وترحمني أَكُن من الخاسرين”، وسيد الاستغفار: “اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وعلى عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”.
فينبغي أن يحرص المسلم على كثرة الاستغفار، وكثرة الاستغفار أولًا: هي سببٌ لمغفرة الذنوب، ثانيًا: أنها أمانٌ من العذاب، ومن نزول العقوبة، والدليل: قول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، وأتت بالفعل المضارع الذي يدل على المستقبل: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
ولهذا قال ابن عباسٍ: “أنزل الله أمانين من العذاب: أمانٌ انتهى بموت النبي عليه الصلاة والسلام”، يريد: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ يعني: وجود النبي بين ظهراني الصحابة، “والأمان الثاني باقٍ إلى قيام الساعة”، يريد قول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فكثرة الاستغفار أمانٌ من نزول العقوبة ومن العذاب، فينبغي للمسلم أن يحرص على كثرة الاستغفار.
القارئ: أحسن الله إليكم.
سبب نزول قوله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ ..
قال رحمه الله تعالى:
حدثنا محمد بن أبي عمر المكي، قال: حدثنا سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن أبي معمر، عن ابن مسعودٍ قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفرٍ: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليلٌ فقه قلوبهم، كثيرٌ شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ وقال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله : وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ .. الآية [فصلت:22] [8].
الشرح:
هذا الحديث -يعني- أراد المؤلف أن يجمع الأحاديث الواردة في المنافقين.
حديث ابن مسعودٍ قال: “اجتمع عند البيت” يعني: عند الكعبة، “ثلاثة” يعني: من هؤلاء المنافقين، “قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليلٌ فقه قلوبهم، كثيرٌ شحم بطونهم” يعني: أن هؤلاء ليس عندهم فقهٌ، وليس عندهم إيمانٌ.
فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟
وقال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.
والثالث قال: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا.
وهذا الكلام الذي قالوه كلامٌ باطلٌ وقدحٌ في الربِّ .
فأنزل الله تعالى قوله: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: 22]، فالكلام الذي يكون فيه قدحٌ وطعنٌ وتنقصٌ في الله هذا غالبًا يكون من الكفار ومن المنافقين، فمن علامة أهل النفاق: أنهم يحصل منهم هذا الكلام، وتحصل منهم اعتراضاتٌ على الله، وعلى رسوله ، وعلى الدين، فإذا رأيتَ مَن يُكثر الاعتراضات على دين الله فهذه من أمارات المنافقين.
ولهذا لاحظ: أن هؤلاء لما اجتمعوا قالوا هذه المقولة الخبيثة: أترون أن الله يسمع ما نقول؟
كيف لا يسمع الله تعالى الذي خلق كل شيءٍ ما تقولون؟!
الله تعالى خلق كل شيءٍ من العدم، إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون، ولو شاء الله تعالى أزال هذا الكون كله بكلمة: كن، ولأتى بكونٍ آخر بكلمة: كن، لا يُعجزه شيءٌ في الأرض، ولا في السماء، لكنه حكيمٌ، يُقدر الأمور بأسبابها، يسمع السرَّ وأخفى، الجهر والسر عنده سواء جلَّ وعلا، فكيف تُقال هذه المقولة: أترون أن الله يسمع ما نقول؟!
ثم يقول الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.
فردَّ عليه الثالث -وهو أعقلهم- قال: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا.
فأنزل الله هذه الآية: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ، وهذا هو السبب الذي يُؤدي إلى الوقوع في الكفر والنفاق ومُحادّة الله ورسوله : ضعف المُراقبة لله ، أو ضعف اليقين بأن الله يعلم ما تعمل؛ ولهذا تكرر قول الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] في القرآن تسع مراتٍ، فالله تعالى مُطلعٌ على عباده، لا تخفى عليه خافيةٌ، يعلم السرَّ وأخفى من السرِّ، وهو ما لم تُوسوس به النفس، قبل أن تُوسوس به النفس.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
وحدثني أبو بكر بن خلاد الباهلي، قال: حدثنا يحيى -يعني: ابن سعيدٍ- قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني سليمان، عن عمارة بن عُمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبدالله. ح، وقال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني منصور، عن مجاهد، عن أبي معمرٍ، عن عبدالله بنحوه [9].
قال رحمه الله:
حدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعبة، عن عديٍّ -وهو ابن ثابتٍ- قال: سمعتُ عبدالله بن يزيد يُحدث عن زيد بن ثابتٍ: أن النبي خرج إلى أُحُدٍ، فرجع ناسٌ ممن كان معه، فكان أصحاب النبي فيهم فرقتين، قال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا، فنزلت: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] [10].
قال: وحدثني زهير بن حربٍ، قال: حدثنا يحيى بن سعيدٍ. ح، وحدثني أبو بكر بن نافع، قال: حدثنا غُنْدَر، كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد نحوه [11].
الشرح:
المنافقون كان لهم موقفٌ سيئٌ في غزوة أُحُدٍ، عبدالله بن أُبَيٍّ انخذل بثلث الجيش، فكان لهم هذا الموقف السَّيئ.
قال زيد بن ثابتٍ : “خرج النبي إلى أُحُدٍ، فرجع ناسٌ ممن كان معه”، يقصد: عبدالله بن أُبَيٍّ ومَن معه، “فكان أصحاب النبي فيهم فرقتين، قال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا”.
كان بعض الصحابة بحُسن نيةٍ يُدافع عنهم، ويلتمس لهم الأعذار، وبعض الصحابة يقول: لا، هؤلاء منافقون عندهم خُبْثٌ، لا تُدافع عنهم.
فالله تعالى قال عن بعض الصحابة: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]، هناك مَن يستمع لهؤلاء المنافقين، وأنزل الله تعالى قوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ، لماذا تختلفون فيهم؟ هؤلاء المنافقون المفروض ألا تختلفوا فيهم، أصحاب خُبْثٍ ومكرٍ للإسلام والمسلمين: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]، فأحيانًا بعض المؤمنين الصادقين يُدافع عن بعض المنافقين بحُسن نيةٍ، فعاتبهم الله .
فإذا كان إنسانٌ ظهر منه الخُبْث والمكر والكيد للإسلام والمسلمين والأذية، فلا تُدافع عنه، لا يُدافَع عن هؤلاء؛ لأن مَن دافع عن خبيثٍ ولو بحُسن نيةٍ فيُخشى عليه، إنما ينبغي أن يكون لدى المسلم الولاء والبراء؛ الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين والمنافقين.
هذه العقيدة التي ينبغي أن يُوالي المسلم عليها: عقيدة الولاء والبراء؛ ولهذا أنزل الله تعالى قوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا، ولكن في المقابل إذا تكلم أحدٌ في عِرْض مؤمنٍ صادقٍ ينبغي الدفاع عنه؛ ولهذا قيل للنبي : “مَنَعَ الزكاة ابنُ جميلٍ، وخالد بن الوليد، والعباس”.
انظر إلى موقف النبي عليه الصلاة والسلام من هذا، قال: أما العباس فهي عليَّ ومثلها معها يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام تعجل زكاة عمِّه العباس، وأما خالدٌ فإنكم تظلمون خالدًا دافع عنه النبيُّ عليه الصلاة والسلام، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله يعني: رجلٌ أوقف أدراعه وأعتاده في سبيل الله، فكيف يمنع الزكاة؟ فدافع عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وأما ابن جميلٍ كان مُنافقًا فما يَنْقِم إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله [12]، فدافع النبي عليه الصلاة والسلام عن خالد بن الوليد، وذمَّ ابن جميلٍ، وذكر العُذر لعمِّه العباس.
فهذا هو الموقف الشرعي: أنه إذا كان المؤمن صادقًا ينبغي الدفاع عنه، وأن تَذُبَّ عن عِرْض أخيك المسلم، لكن إذا كان مُنافقًا يُظهر المكر للإسلام والمسلمين، فهذا يُذَمُّ بما أظهر، يُعامل بظاهره.
القارئ: أحسن الله إليكم.
سبب نزول قوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
قال رحمه الله:
حدثنا الحسن بن علي الحلواني، ومحمد بن سهل التميمي، قالا: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيدٍ الخدري: أن رجالًا من المنافقين في عهد رسول الله كانوا إذا خرج النبي إلى الغزو تخلَّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خِلاف رسول الله ، فإذا قدم النبيُّ اعتذروا إليه وحلفوا وأحبُّوا أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا، فنزلتْ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188] [13].
الشرح:
هذه نزلتْ في المنافقين، وأيضًا في اليهود كما سيأتي من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
المنافقون كانوا يتخلفون عن الغزو، ثم يفرحون بذلك؛ لأنهم يأتون للنبي عليه الصلاة والسلام ويستغفر لهم، فيفرحون ويُحبون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:81]، وقال: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، فهذه نزلتْ في المنافقين، وفي اليهود أيضًا، يعني: لا يمتنع أن تكون نزلتْ في هؤلاء وهؤلاء.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا زهير بن حربٍ، وهارون بن عبدالله -واللفظ لزهير- قالا: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريجٍ: أخبرني ابن أبي مُليكة: أن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أخبره: أن مروان قال: اذهب يا رافع -لبوابه- إلى ابن عباسٍ فقل: لئن كان كل امرئٍ منا فرح بما أتى، وأحبَّ أن يُحْمَد بما لم يفعل مُعَذَّبًا لنُعَذَّبَنَّ أجمعون. فقال ابن عباسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟! إنما أُنزلتْ هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] هذه الآية، وتلا ابن عباسٍ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، وقال ابن عباسٍ: سألهم النبي عن شيءٍ فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه [14].
الشرح:
يريد ابن عباسٍ أن هذه الآية نزلتْ لهذا السبب، وأنها ليست على عمومها، فنزلتْ في قومٍ من اليهود أتوا النبيَّ وسألهم عن شيءٍ، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا وهم فرحون بذلك، واستحمدوا بذلك، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم العلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، لكن كون الإنسان يفرح بما آتاه الله تعالى فالأدلة الأخرى تدل على جوازه، لكن هذه الآية وردتْ في شأن هؤلاء الذين كتموا العلم وفرحوا بذلك.
فهي إذن إما نزلتْ في هؤلاء اليهود، أو في هؤلاء المنافقين.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أسود بن عامر، قال: حدثنا شعبة بن الحجاج، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيسٍ قال: قلتُ لعمارٍ: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر عليٍّ، أرأيًا رأيتُموه أو شيئًا عهده إليكم رسول الله ؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله شيئًا لم يعهده إلى الناس كافةً، ولكن حذيفة أخبرني عن النبي قال: قال النبي : في أصحابي اثنا عشر مُنافقًا، فيهم ثمانيةٌ لا يدخلون الجنة حتى يَلِجَ الجمل في سَمِّ الخِيَاط، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدُّبَيْلَة، وأربعةٌ لم أحفظ ما قال شعبة فيهم [15].
الشرح:
هذه الرواية وما بعدها من الروايات نزلتْ في اثني عشر مُنافقًا، وليس المعنى: أن المنافقين عددهم اثنا عشر، وإنما هؤلاء اثنا عشر مُنافقًا تآمروا على النبي عليه الصلاة والسلام -كما سيأتي- وأثاروا الفتن، فأرسل الله تعالى عليهم الدُّبَيْلَة.
والدُّبَيْلَة قيل: الطاعون، وقيل: إنه خُرَّاجٌ ودُمَّلٌ كبيرٌ يظهر في الجوف يقتل صاحبه، فقال: ثمانيةٌ يموتون بهذا، فَيُكْفَى المسلمون شرّهم: لا يدخلون الجنة حتى يَلِجَ الجمل في سَمِّ الخِيَاط.
فهذه وردتْ في قصةٍ مُعينةٍ، ورأيتُ بعض الإخوة ذكر أن عدد المنافقين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام هو اثنا عشر، واستدلَّ بهذا الحديث، لكن هذا فهمٌ غير صحيحٍ، فهذا الحديث ورد في قصةٍ مُعينةٍ؛ لأن هؤلاء اثنا عشر تآمروا على النبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتي، وإلا فقد جاء في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا: أن الذين استغفر لهم النبيُّ عليه الصلاة والسلام كانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فالمنافقون يزيدون على ثمانين، وليس عددهم اثني عشر، لكن هذا ورد في قصةٍ معينةٍ.
وعمار قال النبي عليه الصلاة والسلام: تقتله الفئة الباغية [16]، وكان الناس يتبعونه، بعد مقتل عثمان كان الناس يذهبون مع عمار، كلما ذهب إلى مكانٍ ذهبوا معه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: تقتله الفئة الباغية يعني: هو مع أهل الحق، إلى أن استقرَّ وكان مع عليٍّ ، فعُلِمَ أن عليًّا هو الذي على الحق، ولكن غيره من الصحابة كانوا مُجتهدين في ذلك.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال:
حدثنا محمد بن المُثنى، ومحمد بن بشار -واللفظ لابن المُثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عباد قال: قلنا لعمار: أرأيتَ قتالكم، أرأيًا رأيتُموه؟ فإن الرأي يُخطئ ويُصيب، أو عهدًا عهده إليكم رسول الله ؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله شيئًا لم يعهده إلى الناس كافةً. وقال: إن رسول الله قال: إن في أُمتي، قال شعبة: وأحسبه قال: حدثني حذيفة. وقال غُنْدر: أراه قال: في أُمتي اثنا عشر مُنافقًا، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يَلِجَ الجمل في سَمِّ الخِيَاط، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدُّبَيْلَة، سِرَاجٌ من النار يظهر في أكتافهم حتى يَنْجُمَ من صدورهم [17].
الشرح:
هذا ورد في قصةٍ ذكرها الطبراني عن حذيفة قال: “إني لآخذ بزمام ناقة رسول الله أقوده، وعمار يسوق به، إذ استقبلنا اثنا عشر رجلًا مُتلثمين” يريدون الفتك بالنبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام لما رآهم: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة [18].
وكما في الرواية الأخرى: لا يدخلون الجنة حتى يَلِجَ الجمل في سَمِّ الخِياط.
قلتُ: “ألا تبعث إلى كل رجلٍ منهم فتقتله؟” لأن حذيفة عرفهم، قال عليه الصلاة والسلام: أكره أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وعسى الله أن يكفينهم بالدُّبَيْلَة [19]، والدُّبَيْلَة -كما ذكرنا- الطاعون، أو يعني: خُرَّاج كبير يظهر في الجوف يقتل صاحبه في الغالب.
فهنا هؤلاء أرادوا الفتك بالنبي عليه الصلاة والسلام في أحد الأسفار، لكن كان معه عمار ، وكان معه حذيفة ، وعرفهم حذيفة ، وقال: لماذا لا تقتلهم يا رسول الله؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر مانعًا، قال: أكره أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وهذا دليلٌ أيضًا على اعتبار العُرف الدولي إذا لم يكن مُخالفًا للشرع، فالنبي عليه الصلاة والسلام اعتبر العُرف الدولي في زمنه، يعني: حتى لا يقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه؛ ولذلك ولي الأمر له هذه الصلاحية، فإذا رأى المصلحة في ترك بعض العقوبات التعزيرية فله ذلك، يعني: لولي الأمر أن يعفو عن بعض الناس ممن استوجبوا عقوبات تعزيرية لمصلحةٍ راجحةٍ، ومن هذه المصالح الراجحة: اعتبار العُرف الدولي إذا لم يكن مُخالفًا للشرع.
فلاحظ: النبي عليه الصلاة والسلام هنا قال: أكره أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه وإلا فهؤلاء مُستوجبون للقتل، أرادوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا زُهير بن حربٍ، قال: حدثنا أبو أحمد الكوفي، قال: حدثنا الوليد بن جُمَيع، قال: حدثنا أبو الطُّفَيل، قال: كان بين رجلٍ من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله، كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك. قال: كنا نُخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنتَ منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثةً، قالوا: ما سمعنا مُنادي رسول الله ، ولا علمنا بما أراد القوم. وقد كان في حَرَّةٍ، فمشى فقال: إن الماء قليلٌ، فلا يسبقني إليه أحدٌ، فوجد قومًا قد سبقوه؛ فلعنهم يومئذٍ [20].
الشرح:
حذيفة سأله رجلٌ، يقول أبو الطُّفَيل.
أولًا: أبو الطُّفَيل هو عامر بن واثلة الليثي، وهو آخر مَن مات من الصحابة، مات سنة مئةٍ وعشرةٍ للهجرة.
فيقول أبو الطُّفَيل: “كان بين رجلٍ من أهل العقبة”، ليس المقصود بها العقبة التي كانت في مِنًى، وإنما المقصود بها عقبةٌ على طريق تبوك اجتمع فيها هؤلاء المنافقون للغدر بالنبي ، فعصمه الله تعالى منهم.
فسأل هذا الرجلُ حذيفةَ، وكان قال: “كان بين رجلٍ من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس”، يعني: من المُنازعة والمُشاغبة، فدائمًا يُنازع حذيفة ويُجادله ويشغب عليه.
فقال هذا الرجل لحذيفة: “أنشدك بالله، كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك” يا حذيفة، فأراد أن يسكت، يريد أن يستر على هذا الرجل؛ لأن هذا الرجل شكَّ أنه منهم، لكن قالوا: أخبره، كم عددهم؟ قال: “كنا نُخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنتَ منهم” يعني: أنت أيها السائل، “فقد كان القوم خمسة عشر”، هو أراد أن يستر عليه، لكنه سأل.
“وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا”؛ لأنهم أرادوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام، “ويوم يقوم الأشهاد” يعني: في الآخرة.
“وعذر ثلاثةً” منهم، ثلاثةٌ مع هؤلاء الاثني عشر اعتذروا، قالوا: “ما سمعنا مُنادي رسول الله “، يعني: أن المُنادي قال: لا أحد يسبق النبيَّ عليه الصلاة والسلام إلى الماء؛ لأنه أراد عليه الصلاة والسلام أن يأتي الماء ويُبَرِّك عليه؛ حتى يكفي مَن معه من الناس، قال: لا يسبقني إليه أحدٌ، فهؤلاء ذهبوا وسبقوه.
فثلاثةٌ قالوا: يا رسول الله، والله ما سمعنا مُنادي رسول الله ، ولا علمنا بما أراد هؤلاء، هم أخذونا وما كنا ندري أنهم يريدون هذا المقصد الخبيث.
وهذا يحصل من بعض الناس، فبعض الناس يُؤخذ على حين غِرَّةٍ، يأتي أناسٌ عندهم مقاصد سيئةٌ، وعندهم خُبْثٌ ومكرٌ، فيأخذونهم معهم، لكن هؤلاء الثلاثة تداركوا واعتذروا للنبي عليه الصلاة والسلام، فقبل اعتذارهم، فهؤلاء عذرهم النبي عليه الصلاة والسلام، أما اثنا عشر فكما قال حذيفة ، قال: أشهد أنهم حربٌ لله ولرسوله.
قال: “وقد كان” يعني: النبي “في حَرَّةٍ” يعني: في أرضٍ ذات حجارةٍ سودٍ، فالأرض إذا كانت ذات حجارةٍ سوداء يُقال لها: حَرَّة، وهذه كثيرةٌ في المدينة، وحول المدينة أيضًا.
فمشى فقال: إن الماء قليلٌ، فلا يسبقني إليه أحدٌ يعني: حتى آتي فأدعو الله تعالى وأُبَرِّك عليه؛ فيُبارك الله تعالى في هذا الماء ويكفي الجيش.
“فوجد قومًا قد سبقوه”، وهؤلاء المنافقون وجدهم قد سبقوه، “فلعنهم يومئذٍ” سبَّهم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم لم يمتثلوا أمره، يعني: كان هذا من أذية هؤلاء المنافقين للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني: فعلوا ذلك، يعني: هذا مما ذكره حذيفة من شأنهم.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا قُرة بن خالد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله : مَن يصعد الثَّنية -ثَنِيَّة المِرَار- فإنه يُحَطُّ عنه ما حُطَّ عن بني إسرائيل، قال: فكان أول مَن صعدها خيلنا -خيل بني الخزرج- ثم تَتَامَّ الناس، فقال رسول الله : وكلكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تَعَالَ يستغفر لك رسول الله . فقال: والله لأن أجد ضالتي أحبّ إليَّ من أن يستغفر لي صاحبكم. قال: وكان رجلٌ ينشد ضالةً له [21].
الشرح:
هذه القصة أيضًا ذكرها المُصنف للإشارة لهذا المنافق، وقيل: إنه الجدّ بن قيس، فالنبي كان في غزوة الحُديبية لما مَرَّ بثَنِيَّة المِرَار، وثَنِيَّة المِرَار ثَنِيَّةٌ معروفةٌ، وَعِرَة المُرْتَقَى، والمِرَار هو شجرٌ مُرٌّ يكثر في تلك الثَّنية.
فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحثَّ أصحابه على صعود تلك الثَّنية، فَرَغَّبهم وقال: مَن يصعد الثَّنية -ثنية المِرَار- فإنه يُحَطُّ عنه يعني: يُغفر له ما حُطَّ عن بني إسرائيل يعني: من الذنوب، كما في قول الله تعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58].
قال: “فكان أول مَن صعدها خيلنا -خيل بني الخزرج- ثم تَتَامَّ” يعني: تتابع الناس، فقال رسول الله : وكلكم مغفورٌ له؛ لأنكم امتثلتم هذا الأمر إلا صاحب الجمل الأحمر وهو الجدّ بن قيس.
“فأتيناه” يعني: أتى الناسُ للجدِّ بن قيس، قالوا: “تَعَالَ يستغفر لك رسول الله”، وكان أصلًا ما أتى مع النبي عليه الصلاة والسلام، كان يبحث عن ضالةٍ له، لكن وجدهم، وكان معهم، فقالوا: “تَعَالَ يستغفر لك رسول الله”، قال: “والله لأن أجد ضالتي أحبّ إليَّ من أن يستغفر لي صاحبكم”، نعوذ بالله من الخذلان، “وكان رجلٌ ينشد ضالةً له”.
وهذه القصة فيها فوائد:
أولًا: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُرَغِّب أصحابه، خاصةً في الأمور التي فيها مشقةٌ وصعوبةٌ، فكان يستعمل معهم أسلوب الترغيب، وهذا من أفضل الأساليب التربوية، وتجد أن أسلوب الترغيب والترهيب حاضرٌ في نصوص الكتاب والسنة.
ولذلك مَن أراد أن يُعلم غيره، أو أن يسوس غيره لا بد من أسلوب الترغيب والترهيب، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان في أسفاره لما أتت هذه الثَّنية الوَعِرَة المُرْتَقَى أراد أن يُرَغِّبهم في صعودها فقال لهم عليه الصلاة والسلام: مَن يصعد الثَّنية -ثَنِيَّة المِرَار- فإنه يُحَطُّ عنه ما حُطَّ عن بني إسرائيل، فأخذت الحماسةُ الصحابة، كلٌّ يريد أن يصعد هذه الثَّنية، فصعدها الصحابة ، فقال: وكلكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر؛ لأنه ما أتى مع النبي عليه الصلاة والسلام قاصدًا، إنما أتى يبحث عن ناقةٍ له.
ومع ذلك قال له الصحابة: اذهب يستغفر لك النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لَوَّى رأسه، وقال: “لأن أجد ضالتي أحبّ إليَّ من أن يستغفر لي صاحبكم”، وهذا يدل على الخذلان، وأن المسألة هي مسألة توفيقٍ من الله ، وإلا فهذا الرجل لو أنه صدق مع النبي عليه الصلاة والسلام، أو على الأقل طلب من النبي أن يستغفر له، وأن يكون مع المؤمنين الصادقين لحصلتْ له المغفرة، لكنه لم يُوفق وخُذِلَ.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال:
وحدثناه يحيى بن حبيب الحارثي، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا قُرة، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله : مَن يصعد ثَنِيَّة المُرَار، أو المِرَار بمثل حديث معاذٍ، غير أنه قال: وإذا هو أعرابيٌّ جاء ينشد ضالةً له [22].
الشرح:
وهو الجدُّ بن قيس، ولم يكن معهم، وإنما لحق ضالةً له، وكان أيضًا لم يحضر بيعة الرضوان، تخلف حتى عن بيعة الرضوان.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال:
حدثني محمد بن رافع، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا سليمان -وهو ابن المغيرة- عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: كان منا رجلٌ من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله ، فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمدٍ. فأُعجبوا به، فما لبث أن قصم اللهُ عنقَه فيهم، فحفروا له فَوَاروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فَوَاروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فَوَاروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذًا [23].
الشرح:
هذه آيةٌ من آيات الله، هذا الرجل كان قد أسلم، وكان يكتب للنبي ، حفظ سورة البقرة وآل عمران، وكان كاتبًا، وكان يقول للناس: إن محمدًا لا يدري ما أكتب. ثم انطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب، أي: اليهود، فقال: “فرفعوه” يعني: عظَّموه؛ لأنه أتى من عند النبي عليه الصلاة والسلام وارتدَّ عن الإسلام، وقالوا: “هذا كان يكتب لمحمدٍ، فأُعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم”.
والله تعالى قد يُعاجل بعض الناس بالعقوبة، خاصةً إذا كذب الإنسان على الله، أو كذب على النبي عليه الصلاة والسلام قد يُعاجله الله بعقوبةٍ؛ ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44- 46]، لا يُمكنه الله ، مَن تَقَوَّل على الله الأقاويل لا يُمكنه الله سبحانه، فقصم الله عنقه فمات.
ثم أظهر الله تعالى آيةً للناس في هذا الرجل؛ لما دفنوه وواروه أصبحت الأرض تلفظه، كلما دفنوه نبذته الأرض ثلاث مراتٍ، ثلاث مراتٍ وهم يدفنونه والأرض تلفظه، آيةٌ من آيات الله .
قال أبو العباس القرطبي: “إنما أظهر الله تلك الآية في هذا المُرتد ليُوضح حُجَّة نبيه لليهود عيانًا؛ وليُقيم لهم على ضلالة مَن خالف دينه برهانًا؛ وليزداد الذين آمنوا يقينًا وإيمانًا”.
آيةٌ من آيات الله، هذه الأرض أوحى الله إليها أن تلفظ هذا الرجل، كلما دفنوه لفظته الأرض ثلاث مراتٍ، حتى تركوه منبوذًا، لم يستطيعوا أن يدفنوه، فهذا فيه آيةٌ من آيات الله تعالى، كيف أن الله عاقب هذا الرجل: قصم ظهره، ثم جعل الأرض تلفظه، كلما دُفِنَ لفظته الأرض.
أحيانًا قد يرتكب بعض الناس أعمالًا تُوجب غضب الله سبحانه، فيقصمه الله ، ثم يُظهر فيه العبرة بعد موته للناس، كما حصل لهذا الرجل.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال:
حدثني أبو كُريبٍ محمد بن العلاء، قال: حدثنا حفصٌ -يعني: ابن غياث- عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ : أن رسول الله قدم من سفرٍ، فلما كان قُرب المدينة هاجتْ ريحٌ شديدةٌ تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله قال: بُعِثَتْ هذه الريح لموت منافقٍ، فلما قدم المدينة فإذا منافقٌ عظيمٌ من المنافقين قد مات [24].
الشرح:
أيضًا هذه قصةٌ وقعتْ لما قدم النبي من سفرٍ، لما كان قُرب المدينة هاجتْ ريحٌ شديدةٌ تحمل التراب والرمل، تكاد أن تدفن الراكب مع مركوبه مما تُلقي من التراب والرمل، فقال النبي : بُعِثَتْ هذه الريح لموت منافقٍ.
وقوله: بُعِثَتْ هذه الريح لموت منافقٍ قيل: المعنى: يعني عقوبةً له، فقتلته هذه الريح حتى مات؛ لترتاح منه البلاد والعباد.
وقيل: إن الله جعلها علامةً لنبيه على موت ذلك المُنافق، وأنه قد مات ذلك المُنافق.
والأول أظهر: أن الله تعالى قصمه، وأرسل عليه هذه الريح حتى قصمته.
فلما قدم المدينة فإذا مُنافقٌ عظيمٌ من المنافقين قد مات، وقد قصمه الله وأراح منه البلاد والعباد.
وهذا يدل على أن الله تعالى قد يُعاجل بعض الناس بالعقوبة، خاصةً إذا آذى المؤمنين الصالحين، قد يُعاجله الله تعالى بالعقوبة، وقد يقصمه الله تعالى.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال:
حدثني عباس بن عبدالعظيم العنبري، قال: حدثنا أبو محمد النَّضر بن محمد بن موسى اليمامي، قال: حدثنا عكرمة، قال: حدثنا إياس، قال: حدثني أبي، قال: عُدْنَا مع رسول الله رجلًا مَوعُوكًا، قال: فوضعتُ يدي عليه، فقلتُ: والله ما رأيتُ كاليوم رجلًا أشدّ حرًّا. فقال نبي الله : ألا أُخبركم بأشدّ حرًّا منه يوم القيامة؟ هَذَيْنِكَ الرجلين الراكبين المُقَفِّيين لرجلين حينئذٍ من أصحابه [25].
الشرح:
هذا الحديث حديث سلمة بن الأكوع ، قال إياس -يعني: إياس بن سلمة-: حدثني أبي -يعني: سلمة بن الأكوع- قال: “عُدْنَا مع رسول الله رجلًا مَوعُوكًا” مريضًا، مُصابًا بالحُمَّى، قال: “فوضعتُ يدي عليه، فقلتُ: والله ما رأيتُ كاليوم رجلًا أشدّ حرًّا” يعني: كانت معه حرارةٌ شديدةٌ.
قال نبي الله : ألا أُخبركم بأشدّ حرًّا منه يوم القيامة؟ هَذَيْنِكَ الرجلين الراكبين المُقَفِّيين، وفي إحدى الروايات: المُنافِقَين لرجلين يومئذٍ سمَّاهما النبي ، سمَّى هذين الرجلين.
قال: “لرجلين حينئذٍ من أصحابه”، كيف يقول: “من أصحابه” وهما مُنافقان؟
قالوا: إن المقصود أنهما ممن أظهر الإسلام والصُّحبة، لا أنهما ممن نال فضيلة الصُّحبة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما رأى هذا الرجل الذي أصابته الحرارة والحُمَّى قال: ألا أُخبركم بأشدّ حرًّا منه يوم القيامة؟ هذان الرجلان، كانا من المنافقين.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثني محمد بن عبدالله بن نُمير، قال: حدثنا أبي. ح، وقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة، قالا: حدثنا عبيدالله. ح، وحدثنا محمد بن المُثنى -واللفظ له- قال: أخبرنا عبدالوهاب -يعني: الثقفي- قال: حدثنا عبيدالله، عن نافعٍ، عن ابن عمر ، عن النبي قال: مثل المنافق كمثل الشَّاة العائرة بين الغنمين، تَعِير إلى هذه مرةً، وإلى هذه مرةً [26].
قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبدالرحمن القاري- عن موسى بن عقبة، عن نافعٍ، عن ابن عمر ، عن النبي بمثله، غير أنه قال: تَكِرُّ في هذه مرةً، وفي هذه مرةً [27].
الشرح:
قال: مثل المنافق كمثل الشَّاة العائرة، العائرة يعني: الصَّائحة بصوتها المعروف، الحائرة في شأنها، المُترددة.
قال: كمثل الشَّاة العائرة بين الغنمين يعني: بين قطيعين من الغنم.
تَعِير يعني: تصيح إلى هذه مرةً، وإلى هذه مرةً، وفي الرواية الأخرى: تَكِرُّ في هذه مرةً، وفي هذه مرةً.
وكذلك المنافق يكون مُذبذبًا، كما قال الله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [النساء:143]، ظاهره مع المسلمين، وباطنه مع الكافرين.
فهذه من صفات المنافقين: أنهم مُذبذبون، لا هم مع المسلمين، ولا هم مع الكافرين، ظاهرهم مع المسلمين، وباطنهم مع الكافرين، لكن ضررهم عظيمٌ، المنافقون ضررهم على الإسلام والمسلمين عظيمٌ؛ ولهذا قال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].
فذكر الله تعالى صفات المنافقين في كتابه الكريم، فمن ضمن صفاتهم: التَّذبذب، وأيضًا من صفاتهم: أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كُسَالَى، ومن صفاتهم: أنهم لا يُنفقون إلا وهم كارهون، ومن صفاتهم: كثرة الحلف الكاذب: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة:16]، فذكر الله تعالى صفات هؤلاء المنافقين وفضحهم.
فعلى المسلم أن يحذر من النفاق، ولا يُزكي نفسه، قال البخاري في “صحيحه”: قال ابن أبي مُليكة: “أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه” [28].
فالمؤمن ينبغي أن يكون خائفًا من النفاق، فهؤلاء الصحابة الثلاثون من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم يخاف النفاق على نفسه.
فعلى المسلم أن يحرص على البُعد عن مُشابهة المنافقين، والبُعد عن الاتِّصاف بأوصافهم التي ذُكرتْ في الكتاب والسنة.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الأسئلة
نُجيب عما تيسر من الأسئلة:
السؤال: ما حكم الصلاة خلف الشخص الكذاب؟
الجواب: كثرة الكذب من صفات المنافقين: آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذب [29]، لكن الصلاة خلفه صحيحةٌ؛ لأنها صلاةٌ مُكتملة الأركان والشروط والواجبات، والكذب -حتى الكبيرة- لا يقتضي خروج المسلم من دائرة الإسلام، ومُعتقد أهل السنة والجماعة: أن مُرتكب الكبيرة مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته.
السؤال: هل يُقال دعاء الاستخارة في صلاة الفريضة؟
الجواب: لا يُقال دعاء الاستخارة في صلاة الفريضة؛ لأنه قد ورد في حديث الاستخارة في قول النبي : إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فَلْيَرْكَع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك [30]، فجاء التَّصريح بأن الركعتين من غير الفريضة.
فدعاء الاستخارة يكون في غير الفريضة، والاستخارة لها عدة صورٍ، أكملها: أن يُنْشِئ ركعتين، يتوضأ ويُنْشِئ ركعتين، ثم بعدما يُسلم يرفع يديه مُستقبلًا القبلة، ويأتي بدعاء الاستخارة: “اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقُدرتك، وأسألك من فضلك العظيم ..” إلى آخر الدعاء المعروف.
ومن صور الاستخارة: أن يأتي بدعاء الاستخارة من غير صلاةٍ؛ وذلك -مثلًا- للمرأة الحائض أو النفساء، أو الإنسان يكون -مثلًا- في وقت نهيٍ، أو يكون في سفرٍ، أو في مكانٍ لا تتيسر معه الصلاة، فيأتي بدعاء الاستخارة من غير صلاةٍ.
ومن صور صلاة الاستخارة: أن يأتي بدعاء الاستخارة بعد صلاة نافلةٍ، كأن يأتي بدعاء الاستخارة بعد صلاة الضحى، أو بعد السنة الراتبة، أو بعد تحية المسجد.
فهذه كلها صورٌ لصلاة الاستخارة، لكن أكملها: أن يُنْشِئ ركعتين، ثم يأتي بعدهما بدعاء الاستخارة.
السؤال: هل يجوز أن يُخصص الواقف نسبةً من ريع وقفه لتوزيعه على أولاده وإخوانه، مع أنهم غير مُحتاجين: كهديةٍ لهم وتطييبٍ لخاطرهم، وباقي الرّيع يُصرف في الأعمال الخيرية؟
الجواب: نعم، لا بأس بذلك، الأمر في هذا واسعٌ، وأيضًا هذا ربما يدخل في صِلة الرحم، لكن ينبغي أن يضبط ذلك بحيث لا يقع التنازع؛ لأنه أحيانًا يقع التنازع بين الورثة في استحقاق الوقف، فإذا جعل الواقف جزءًا منه للورثة فلا بد من ضبط ذلك؛ ولذلك ينبغي لمَن أراد أن يُوقف وقفًا أو يكتب وصيةً أن يستشير أهل العلم فيما يُوقف، وفيما يُوصي به، وأيضًا في عبارة الوقف وعبارة الوصية.
ولهذا عمر لما أصاب أنفس مالٍ في حياته استشار النبيَّ ، فأشار عليه النبي بالوقف، وأيضًا بيَّن له، قال: لا يُباع، ولا يُوهَب، ولا يُورث [31].
فينبغي لمَن أراد أن يُوقف أو أن يُوصي أن يستشير أهل العلم في ذلك.
السؤال: هل يصح أن أجعل ختمةً كاملةً للقرآن يكون أجرها وثوابها لمُتَوفّى؟
الجواب: نعم، يصح ذلك عند جمهور الفقهاء، وهو المذهب عند الحنفية، وأيضًا قولٌ عند المالكية، وهو أيضًا مشهور مذهب الحنابلة، والمنقول عن جمهور السلف: أنه يجوز إهداء ثواب التلاوة للأموات، خلافًا للشافعية.
ولكن الأفضل أن يدعو لهذا الميت، وأن يتصدق عنه، ويعتمر عنه ويحج؛ لأن هذا هو الذي قد ورد به النص، وأما ما لم يرد به النص فيبقى على الجواز، لكنه من قبيل الجائز غير المشروع؛ ولهذا لم يرد عن الصحابة أنهم كانوا يتسابقون في إهداء ثواب التلاوة للأموات، لكن لما ورد عن النبي جواز ذلك في مثله أخذ جمهور العلماء من ذلك أن هذا يجوز؛ يجوز إهداء ثواب التلاوة للميت.
السؤال: ما الحكم فيمَن وجد حائلًا يسيرًا على يده بعدما أكمل الصلاة؟
الجواب: إذا كان هذا الحائل له جُرْمٌ ويمنع وصول الماء للبشرة فيجب عليه أن يُزيل هذا الحائل، وأن يُعيد الصلاة، والنبي رأى رجلًا وفي قدمه قدر الظفر لم يُصبه الماء، فأمره أن يُعيد الوضوء والصلاة [32]، فدلَّ هذا على أن هذا الأمر من المواضع التي لا يُتساهل فيها.
ولما رأى النبي نفرًا من أصحابه تلوح أعقابهم لم يُصبها الماء نادى بأعلى صوته: ويلٌ للأعقاب من النار، ويلٌ للأعقاب من النار [33].
فإذا وجد الإنسان قدرًا لم يُصبه الماء بعد الصلاة، أو عليه حائلٌ، كأن يكون عليه طلاءٌ أو نحو ذلك، فعليه أن يُعيد الوضوء والصلاة بعدما يُزيل ذلك الحائل.
السؤال: هل مال القُصَّر المُدَّخر لهم عليه زكاةٌ؟
الجواب: نعم، عليه زكاةٌ، مال اليتامى، ومال المجانين، ومال ذوي الاحتياجات الخاصة والقاصرين عمومًا عليه زكاةٌ؛ ولهذا كان عمر يقول: “اتَّجروا بأموال اليتامى؛ كي لا تأكلها الصدقة” يعني: الزكاة؛ ولهذا ينبغي لمَن ولي مالًا لقاصرين أن يستثمر ذلك المال في مجالات استثمارٍ قليلة المخاطر؛ لأنه إذا تركه ستأكله الزكاة مع مرور الوقت.
لو افترضنا -مثلًا- أن طفلًا عمره سنة، خلَّف أبوه أربعين ألف ريالٍ، فمعنى ذلك: أن هذا المال سيُزكَّى كل سنةٍ، يعني: السنة الأولى ألف ريالٍ، والسنة الثانية قريبٌ من هذا الرقم، والثالثة والرابعة، فربما إذا بلغ هذا الطفل عشرين عامًا إذا بنصف هذا المبلغ أو ما يُقارب النصف قد ذهب في الزكاة.
ولهذا ينبغي لمَن ولي أموال القاصرين أن يستثمرها في مجالات استثمارٍ قليلة المخاطر، ويجب عليه أن يُزكيها كل سنةٍ.
السؤال: ما حكم تربية الكلاب في البيوت؟
الجواب: تربية الكلاب في البيوت لا تجوز، والنبي يقول: مَن اقتنى كلبًا إلا كلب صيدٍ أو زرعٍ أو ماشيةٍ فإنه ينقص من عمله كل يومٍ قيراطٌ [34]، وفي روايةٍ: قيراطان [35].
وجاء تفسير القيراط في حديث الجنازة بأنه مثل الجبل، وهذا وعيدٌ شديدٌ، كل يومٍ ينقص من أجرك وعملك إذا كان عندك كلبٌ في البيت إلا أن يكون كلب صيدٍ أو حرثٍ -يعني: مزرعة- أو ماشيةٍ، يعني: إذا كان هذا الكلب مما يُحتاج إليه: إما في حراسة المزرعة، أو في حراسة الغنم، أو يُصاد به، ومثل ذلك: الكلاب التي يُحتاج لها في الوقت الحاضر، مثل: الكلاب البوليسية التي يُكشف بها عن المُخدرات، وعن المُتفجرات، فهذه مُستثناةٌ، هذه لا بأس باقتنائها، أما أن يقتني الإنسان كلبًا في بيته لغير هذه الأغراض فهذا لا يجوز، والذين يفعلون ذلك يفعلون هذا تقليدًا لغير المسلمين.
ثم أيضًا وجود الكلب في البيت يمنع دخول الملائكة لهذا البيت، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةٌ [36]، فإذا لم تدخل الملائكة هذا البيت دخلته الشياطين، والشياطين أعداء الإنسان، فربما تُعين على السحر، وكذلك الشياطين تُؤذي أهل البيت في منامهم، وتُسبب لهم الكوابيس المُزعجة، فيكون هذا الذي أدخل الكلب إلى بيته تسبب على نفسه وعلى أسرته بهذا.
ولهذا فلا يجوز اقتناء الكلاب في البيوت إلا أن يكون كلب صيدٍ، أو حرثٍ، أو ماشيةٍ.
طالب: ………
الشيخ: المقصود بالصورة الصورة المُحرمة، والصورة المُحرمة هي التي تتحقق فيها عِلة المُضاهاة لخلق الله، وهي الصورة المُجسمة، المُجسمات لذوات الأرواح هذا أشدّ ما يكون من الصور، سواء كانت صورةً لإنسانٍ، أو صورةً لحيوانٍ.
وكذلك الرسومات لذوات الأرواح، هذه من الصور المُحرمة، وهي الواردة في حديث عائشة رضي الله عنها لما سَتَرَتْ سَهْوَةً لها بِقِرَامٍ، وكان على هذا القِرَام رسمة خيلٍ لها أجنحةٌ، مجرد رسمة خيلٍ، فَتَلَوَّن وجه النبي ، وقال: يا عائشة، أشدّ الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يُضاهون بخلق الله، قالت عائشة رضي الله عنها: فأخذناه فجعلنا منه وسادةً أو وسادتين [37].
فهذه الرسومات لذوات الأرواح من الصور المُحرمة.
أما الصور الفوتوغرافية والتليفزيونية فالذي يظهر أنها لا تدخل في الصور المُحرمة؛ لأنها لا تتحقق فيها عِلة المُضاهاة لخلق الله، وإنما هي صورة الإنسان الحقيقية كما خلقه الله، لكنها في التليفزيونية مُسرعةً بسرعةٍ كبيرةٍ لا تُدركها العين، يعني: من ستّ عشرة إلى خمسٍ وعشرين مرةً في الثانية الواحدة، وفي الفوتوغرافية مُثبتةٌ، فهي كصورة الإنسان في المِرْآة، لكن بحكم التقنية الحديثة جُعلتْ هكذا.
ولذلك فإن تسميتها صورةً ليس دقيقًا، وكانت قديمًا عندنا في المملكة العربية السعودية تُسمى: عكسًا وعكوسًا، ما كان الناس يُسمونها: صورةً، يُسمونها: عكسًا، وهذا هو الوصف الدقيق لها، هي عكسٌ، وليست صورةً.
فالصور الفوتوغرافية والتليفزيونية لا تدخل في هذا، إنما الصور المُحرمة هي المُجسمة لذوات الأرواح، وأيضًا رسومات ذوات الأرواح.
السؤال: هل يُعدّ الرجل مَحْرَمًا لأم زوجته؟
الجواب: نعم، وهذا بالنص والإجماع: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23]، وبإجماع العلماء على أن الرجل مَحْرَمٌ لأم زوجته، حتى وإن طلَّقها، حتى وإن ماتت زوجته، حتى وإن طلَّق زوجته أو ماتت زوجته يبقى مَحْرَمًا لأُمها.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2772. |
^3, ^4 | رواه مسلم: 2773. |
^5, ^6 | رواه مسلم: 2774. |
^7 | رواه الترمذي: 3434، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 4726. |
^8, ^9 | رواه مسلم: 2775. |
^10, ^11 | رواه مسلم: 2776. |
^12 | رواه البخاري: 1468، ومسلم: 983. |
^13 | رواه مسلم: 2777. |
^14 | رواه مسلم: 2778. |
^15, ^17, ^20 | رواه مسلم: 2779. |
^16 | رواه البخاري: 447. |
^18, ^19 | رواه الطبراني في “المعجم الأوسط”: 8100. |
^21, ^22 | رواه مسلم: 2780. |
^23 | رواه مسلم: 2781. |
^24 | رواه مسلم: 2782. |
^25 | رواه مسلم: 2783. |
^26, ^27 | رواه مسلم: 2784. |
^28 | صحيح البخاري: 1/ 18. |
^29 | رواه البخاري: 33، ومسلم: 59. |
^30 | رواه البخاري: 1162. |
^31 | رواه البخاري: 2764. |
^32 | رواه ابن ماجه: 666. |
^33 | رواه البخاري: 60، ومسلم: 241. |
^34 | رواه البخاري: 2322، ومسلم: 1574. |
^35 | رواه مسلم: 1575. |
^36 | رواه البخاري: 3322، ومسلم: 2106. |
^37 | رواه البخاري: 5954، ومسلم: 2107. |