logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(68) كتاب صفة القيامة والجنة والنار- من حديث “إنه ليأتي الرجل العظيم..”

(68) كتاب صفة القيامة والجنة والنار- من حديث “إنه ليأتي الرجل العظيم..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس الثامن والستون في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، التاسع والعشرين من شهر جمادى الأولى من عام (1444 هـ).

وكنا قد وصلنا إلى كتاب صفة القيامة والجنة والنار، وقبل أن نستمع للأحاديث الواردة فيها، أشير إلى أن أوصاف القيامة والجنة والنار لها حضورٌ قويٌّ في نصوص الكتاب والسنة، عندما تقرأ القرآن العظيم، كم ورد ذكر الآخرة وأحوال الآخرة في القرآن من مرةٍ؟ وكم ورد ذكر الجنة من مرةٍ؟ وكم ورد ذكر النار من مرةٍ؟ وهكذا أيضًا في سنة النبي ؛ وذلك لأن هذا هو المصير الذي نحن سائرون إليه، نحن الآن في رحلةٍ، وفي أخطر مراحل الرحلة، وهي رحلة العمل، في دار الاختبار والامتحان: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، ولا بد من التوقف للقاء الله ، يتوقف هذا الكدح، ويلقى الإنسان ربه، وينتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة.

وعالم الآخرة عالمٌ عظيمٌ جدًّا، لا يستطيع الإنسان بعقله البشري المحدود أن يتخيله؛ ولذلك يُقرِّب بعض العلماء المسألة، يقول: أرأيت الجنين في بطن أمه في ظلماتٍ ثلاثٍ، لو افترضنا طبعًا افتراضًا، لو افترضنا أنه قيل له: ستخرج من هذا المكان إلى مكانٍ أوسع وأرحب، إلى مكانٍ يقال له: الدنيا، وهذه الدنيا فيها ليلٌ ونهارٌ، وشمسٌ وقمرٌ، وأنهارٌ وأشجارٌ وأحجارٌ، وفيها كذا وكذا، هل سيتصور؟ هل سيتخيل -وهو في بطن أمه- الدنيا التي سيخرج إليها؟ هكذا الآخرة بالنسبة للدنيا، أرأيت تصوُّر الجنين لعالم الدنيا وهو في بطن أمه؟ كتصور من في الدنيا لعالم الآخرة، فهو فوق تصور الإنسان، فوق تخيل الإنسان بعقله البشري المحدود؛ ولذلك نؤمن بالأحاديث الواردة في الآخرة والجنة والنار كما وردت، لكن حقيقة ما ورد في النصوص لا نستطيع أن نحيط به؛ كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “ليس في الجنة شيءٌ مما في الدنيا إلا الأسماء”، الأسماء فقط؛ ولهذا وصف الله تعالى الجنة، قال: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن الجنة: فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشرٍ [1]، فوق مستوى الخيال البشري، الذي في الجنة فوق مستوى الخيال، ما تستطيع أصلًا أن تتخيله.

وهكذا أيضًا بالنسبة للنار، وبالنسبة لأحوال الآخرة، فوق مستوى الخيال البشري، الخيال ليس فقط: التفكير، وإنما الخيال فوق هذا المستوى، لكن المؤمن يؤمن بأن ما قاله الله حقٌّ، وما قاله رسوله حقٌّ.

نبدأ أولًا: بالاستماع للأحاديث التي ساقها المصنف رحمه الله تعالى.

طيب قبل هذا، هناك نسخةٌ من “صحيح مسلمٍ” موجودةٌ هنا، من ليس معه نسخةٌ يمكنه أن يأتي ليستلم نسخةً من “صحيح مسلمٍ”، نعم في القَدْر الذي نقرؤه الآن، موجودةٌ هنا خلف العمود.

القارئ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

كتاب صفة القيامة والجنة والنار

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب صفة القيامة والجنة والنار

حدثني أبو بكر بن إسحاق قال: حدثنا يحيى بن بكيرٍ قال: حدثني المغيرة -يعني الحِزَامِي- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ، عن رسول الله قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضةٍ، اقرءوا: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] [2].

الشرح:

نعم، إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، وذكر السِّمَن هنا؛ لأن السمن يرتبط عند الناس من قديم الزمان بالغنى والثروة والجاه؛ فكأنه يقول: إن الرجل العظيم الثري ذا الجاه، الذي ليس في قلبه إيمانٌ، لا يزن عند الله جناح بعوضةٍ، هذا معنى الحديث.

ثم قال: اقرءوا: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا، وإنما لا يزن عند الله جناح بعوضةٍ؛ لسوء عمله وخلو قلبه من الإيمان، والله تعالى كما جاء في الحديث: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم [3]، فمحل نظر الله تعالى من العبد هو القلب والعمل.

الوزن يوم القيامة

وقد دل هذا الحديث على إثبات الوزن يوم القيامة، ودلت له نصوصٌ كثيرةٌ من الكتاب والسنة؛ منها: قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا، سبحان الله! انظر لدقة الميزان، مثقال حبةٍ من خردلٍ من خيرٍ أو شرٍّ يؤتى بها، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ويقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، ويقول عن لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]، كل ما تعمل من خيرٍ أو شرٍّ تجده محصًى، ويوضع في الميزان، وهو ميزانٌ حسيٌّ له كفتان.

واختلف العلماء في الذي يوزن، ما الذي يوزن؟

فقال بعضهم: إن الذي يوزن هو الإنسان نفسه.

وقيل: إن الذي يوزن صحائف الأعمال.

وقيل: إن الذي يوزن هو العمل، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه ظاهر النصوص، فإن الله تعالى قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7]، فظاهر النصوص أن الذي يوزن العمل، والعمل وإن كان معنويًّا، إلا أنه يكون حسيًّا -يعني: يجسم- يوم القيامة، والله على كل شيءٍ قديرٌ؛ كما أن الموت يؤتى به على صورة كبشٍ أملح، والله على كل شيءٍ قديرٌ.

فالقول الراجح: أن الذي يوزن إذنْ هو العمل.

قال القرطبي: إذا انقضى الحساب؛ كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة؛ لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها.

فالحساب يكون قبل الميزان، الحساب: يُحاسَب الإنسان، فيقرِّر الله العبد بذنوبه، فإما أن يُعطَى كتابه بيمينه، أو يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ثم بعد ذلك يكون الميزان، والميزان يكون للأعمال كما ذكرنا على القول الراجح، يؤتى بأعمال الإنسان التي عملها في الدنيا، الحسنات في كفةٍ، والسيئات في كفةٍ، وتوزن بهذا الميزان، فإن رجحت كفة الحسنات ولو بحسنةٍ واحدةٍ؛ كان من أهل الجنة: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ۝ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11]، إن رجحت كفة الحسنات؛ كان من أهل الجنة، وإن رجحت كفة السيئات؛ فهو موعودٌ بأن يكون من أهل النار، إلا أن يعفو الله عنه.

طيب القسمة المنطقية العقلية تقول: هناك قسمٌ ثالثٌ، يعني: إما أن تَرجَح كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات، هناك قسمٌ ثالثٌ: وهو التساوي، سبحان الله! يعني: هناك بعض البشر تتساوى حسناتهم وسيئاتهم، لم ترجح كفة الحسنات بحسنةٍ واحدةٍ، ولا السيئات بسيئةٍ واحدةٍ، يعني: سبحان الله! لاحِظ، لو قال: سبحان الله وبحمده؛ رجحت كفة الحسنات، هؤلاء تساوت حسناتهم وسيئاتهم، هؤلاء هم أهل الأعراف، يوقفون في مكان بين الجنة والنار، من تمام عدل الله أنهم لا يكونون كمن رجحت كفة حسناته، وإنما يوقفون في مكانٍ بين الجنة والنار، ثم تكون نهاية أمرهم إلى الجنة برحمة أرحم الراحمين.

ويتعجب الإنسان من هذه الدقة في وزن الأعمال، وفي إحصاء الكتاب أيضًا لأعمال الإنسان؛ كما قال سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ، يعني كتاب الأعمال، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

الدار الآخرة هي دار العدالة المطلقة، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، أما الدنيا فليست بدار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، قد يموت المظلوم وما أخذ حقه من الظالم، وإنما أُخِّر إلى يوم القيامة؛ كما قال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].

هل يحاسب الكفار يوم القيامة؟

أيضًا استدل بهذا الحديث على أن الكفار لا يحاسبون؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يزن عند الله جناح بعوضةٍ، إنما يحاسب من له حسناتٌ وسيئاتٌ، أما الكافر فليس له في الآخرة حسناتٌ توزن، فالكفار لا توزن أعمالهم؛ كما قال سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

إنما الميزان ينصب لمن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، لكن الميزان يقرر النتيجة العامة، فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ ‌وَفَرِيقٞ ‌فِي ‌ٱلسَّعِيرِ [الشورى:7]، والكفار قلنا: لا توزن أعمالهم؛ لأنهم يكونون في النار.

لكن هناك نتيجةٌ تفصيليةٌ أخرى غير هذه النتيجة العامة: وهي أن أهل الجنة في درجاتٍ بحسب أعمالهم، وأهل النار في دركاتٍ بحسب ذنوبهم.

فعندما تَرجَح كفة الحسنات؛ لا يتساوى الذي حسناته عظيمةٌ وكثيرةٌ بمن رجحت كفة حسناته بحسنةٍ واحدةٍ، فيكون بينهما تفاوتٌ في درجات الجنة، وما بين كل درجةٍ وأخرى كما بين السماء والأرض؛ هكذا أيضًا أهل النار، فالنار دركاتٌ، والله تعالى قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، منهم من يكون في الدرك الأسفل من النار، ومنهم من يخفف عنه العذاب؛ مثل أبي طالبٍ، شفع له النبي عليه الصلاة والسلام بتخفيف العذاب: وإن له شِرَاكان يغلي منهما دماغه [4]، بعد التخفيف، والتخفيف ليس لأنه عم النبي عليه الصلاة والسلام، فعمه أبو لهبٍ سيصلى نارًا ذات لهبٍ، لكن بسبب دفاعه العظيم عن الإسلام وعن النبي عليه الصلاة والسلام.

كمال قدرة الرب وعظمته

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:

حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس: حدثنا فُضيلٌ -يعني ابن عياضٍ- عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن عَبيدة السَّلْماني، عن عبدالله بن مسعودٍ ، قال: جاء حَبْرٌ إلى النبي فقال: يا محمد -أو يا أبا القاسم- إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبعٍ، والأَرْضِينَ على إصبعٍ، والجبال والشجر على إصبعٍ، والماء والثَّرَى على إصبعٍ، وسائر الخلق على إصبعٍ، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله تعجبًا مما قال الحبر تصديقًا له، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] [5].

الشرح:

نعم، “جاء حبرٌ”: الحَبْر معناه: العالِم، يعني عالمًا من علماء اليهود، علماء اليهود يُسمَّون أحبارًا، فحبرٌ يعني: عالمٌ من علماء اليهود، “إلى النبي فقال: يا محمد، أو يا أبا القاسم” -أخذ هذا من التوراة- “إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبعٍ”، السماوات العظيمة يضعها الرب سبحانه على إصبعٍ واحدٍ، “والأرضين على إصبعٍ”، لاحِظ هذه الأرض العظيمة الكبيرة الواسعة التي يعيش عليها البشر، والتي فيها البحار والأنهار والجبال والوِهَاد، يضعها الرب سبحانه على إصبعٍ، انظر إلى عظمة الله سبحانه! “والجبال والشجر على إصبعٍ، والماء والثرى على إصبعٍ، وسائر الخلق على إصبعٍ -سبحان الله!- ثم يهزهن”، فذكر هنا خمس أصابع، وسيأتي في الرواية التي بعدها أربعة أصابع، “ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله ؛ تعجبًا مما قال الحبر؛ تصديقًا له، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فهذا إنما يكون يوم القيامة، والله يأخذ هذه التي ذكرت في الحديث، ويضعها على أصابعه جل وعلا على الوجه اللائق به، وإنما خصت هذه المخلوقات لتكون على أصابع الرحمن؛ ليدل على ظهور كمال قدرته؛ ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا؛ يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا.

فانظر إلى عظمة الرب سبحانه، كيف هذه الخلائق كلها يجعلها على أصابعه، خمس أصابع، ويهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الملك، فانظر إلى عظمته جل وعلا، كيف أن هذا الإنسان المخلوق الصغير يعترض على هذا الرب العظيم، الذي له هذه العظمة وهذه القدرة!

صفة الأصابع لله

وقد دل هذا الحديث على إثبات الأصابع لله سبحانه، والرواية الصحيحة ذكر خمس أصابع، كما في هذا الحديث، وأهل السنة والجماعة، يثبتون أن لله تعالى خمس أصابع، لكنها ليست كأصابع المخلوقين، وإنما على الوجه اللائق بالله سبحانه، من غير تمثيلٍ، ومن غير تشبيهٍ، ومن غير تعطيلٍ، ومن غير تحريفٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فنثبت أصابع الرحمن، وأن الإصبع صفةٌ ثابتةٌ لله، نثبتها ونعتقدها لله ، والإصبع كسائر صفاته، كسائر صفات الله سبحانه؛ كسمعه وبصره ويده جل وعلا وذاته وسائر صفاته، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، والنووي رحمه الله وعفا الله عنا وعنه، عنده أشعريةٌ؛ ولذلك النووي وبعض الشراح قالوا: إن النبي لما ضحك ليس تصديقًا، وإنما إنكارًا على هذا اليهودي، فإن مذهب اليهود التجسيم، ولكن هذا كلامٌ باطلٌ، يرده الحديث.

أولًا: أن ابن مسعودٍ في الحديث نفسه قال: “تصديقًا له”، كيف يكون إنكارًا وابن مسعودٍ يقول: “تصديقًا له”؟! والصحابة أفقه الناس بحديث رسول الله .

ثانيًا: أن النبي قرأ الآية تصديقًا لليهودي.

ثالثًا: أنه ضحك عليه الصلاة والسلام تصديقًا له.

فالعجب من بعض الشراح، كيف يأتي يريد أن ينكر صفة الأصابع، أُورِدَ عليه: أن النبي عليه الصلاة والسلام صدَّق اليهودي، قال: لا، ما صدقه، أنكر عليه، كيف أنكر عليه، وهو ضحك، وابن مسعودٍ يقول: “تصديقًا له”، وقرأ النبي عليه الصلاة والسلام الآية؟! هل هناك شيء أبلغ من هذا؟

ولهذا قال ابن خزيمة رحمه الله وهو من علماء السلف: أجلَّ الله نبيه عن أن يُوصَف ربُّه بحضرته بما ليس هو من صفاته، فيجعل بدل الإنكار والغضب على هذا الواصف ضحكه.

يقول: لو كان اليهودي وصف النبي عليه الصلاة والسلام بصفةٍ غير لائقةٍ؛ لكان عليه الصلاة والسلام ينكر عليه، لا يضحك، وأن الله أجلَّ نبيه عن أن يضحك والله يُوصَف بصفةٍ ليست من صفاته جل وعلا، لكن النووي وبعض الشراح إنما أُتُوا من جهة أنه يَعتقد ثم يَستدل، وهذا هو الخطأ، والواجب أن الإنسان يستدل ثم يعتقد، وقد نشؤوا في بيئاتٍ كان مذهب الأشاعرة هو المذهب السائد، مذهب الأشاعرة في تلك الأزمنة كان هو المذهب السائد في كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي.

الأشاعرة ينكرون الصفات إلا سبعًا، ومثل النووي، ومثل ابن حجرٍ، ومثل هؤلاء نشؤوا في تلك البيئات، فتبنوا تلك المذاهب؛ ولذلك نذكر هذا، ونحمد الله أن وفقنا للمذهب الحق، مذهب أهل السنة والجماعة وما عليه الصحابة والتابعون؛ من إثبات الصفات لله كما أثبتها الكتاب والسنة، وكما فهم ذلك الصحابة والتابعون، فنحمد الله أن وفقنا لهذا، وإلا فهؤلاء أئمةٌ وعلماء كبارٌ، ومع ذلك أنكروا بعض الصفات تبعًا لمذهب الأشاعرة.

ما المانع من أن نثبت أن لله  خمس أصابع؟

قالوا: إنك إذا أثبت لله خمس أصابع؛ جعلت الله مشابهًا للمخلوق، نقول: هذا غير صحيحٍ، طيب إذا أثبتنا لله سمعًا؛ أليس المخلوق له سمعٌ؟ الأشاعرة يثبتون السمع والبصر لله، طيب المخلوق له سمعٌ وبصرٌ، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: القول في بعض الصفات كالقول في بعضٍ، لا تفرقوا، لماذا تثبتون سبع صفاتٍ، وتنكرون البقية؟ القول في بعض الصفات كالقول في بعضٍ، هذه قاعدةٌ من القواعد التي ذكرها في “التدمرية”.

وأيضًا قال: القول في الصفات كالقول في الذات، أليست جميع الطوائف تثبت أن لله تعالى ذاتًا ليست كذات المخلوقين؟ طيب له صفاتٌ ليست كصفات المخلوقين، فما العجب من أن نثبت لله أصابع على الوجه اللائق بالله سبحانه؟!

فإذنْ: الصواب المقطوع به: إثبات صفة الأصابع لله سبحانه، وأن لله خمس أصابع ليست كأصابع المخلوقين، وإنما على الوجه اللائق بالله سبحانه، من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ ولا تحريفٍ ولا تعطيلٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

الحق يؤخذ ممن أتى به

أيضًا مما دل عليه هذا الحديث: أن الحق يؤخذ ممن أتى به حتى وإن كان كافرًا؛ فإن النبي قَبِل هذا الكلام الحقَّ من يهوديٍّ، وضحك تصديقًا له، وقرأ الآية تصديقًا له، فالحق ضالة المؤمن، يأخذه ممن أتى به ولو أتى به غير مسلمٍ، بل حتى ولو أتى به شيطانٌ؛ ولهذا لما قال الشيطان لأبي هريرة : ألا أدلك على أمرٍ إذا فعلته؛ لم يقربك شيطان؟ إذا أويت إلى فراشك؛ فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح، قال له النبي : يا أبا هريرة صَدَقَك وهو كذوبٌ [6]، فأَمَر أبا هريرة  بأن يأخذ الحق من شيطانٍ، فالحق يؤخذ ممن أتى به حتى وإن كان كافرًا، حتى وإن كان شيطانًا مَريدًا، ما دام أنه أتى بالحق، فالحق ضالة المؤمن، وهذا من عظمة الإسلام، أن يُربِّيَ أتباعه على قبول الحق، وأخذ الحق ممن أتى به؛ لأن الحق هو ضالة المؤمن، يبحث المؤمن عن الحق، فإذا أتى به من أتى؛ نأخذ هذا الحق ونقبله ما دام أنه حقٌّ؛ ولهذا قبل النبي عليه الصلاة والسلام -هنا في هذا الحديث- كلام اليهودي، وضحك تصديقًا له، وقرأ الآية تصديقًا له.

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:

حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جريرٍ، عن منصورٍ، بهذا الإسناد، قال: جاء حبرٌ من اليهود إلى رسول الله ، بمثل حديث فُضيلٍ، ولم يذكر: ثم يهزهن، وقال: فلقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه؛ تعجبًا لما قال؛ تصديقًا له.

النواجذ: هي الأنياب، فهذه الرواية فيها زيادة أنه ضحك حتى بدت أنيابه عليه الصلاة والسلام من الضحك.

ثم قال رسول الله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، وتلا الآية [7].

حدثنا عمر بن حفص بن غياثٍ: حدثنا أبي: حدثنا الأعمش قال: سمعت إبراهيم يقول: سمعت علقمة يقول: قال عبدالله : جاء رجلٌ من أهل الكتاب إلى رسول الله ، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات على إصبعٍ، والأرْضِينَ على إصبعٍ، والشجر والثَّرى على إصبعٍ، والخلائق على إصبعٍ، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فرأيت النبي ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] [8].

الشرح:

هنا ذكر كم إصبعًا؟ نعم، ذكر أربعةً، لكن الرواية الصحيحة الرواية الأولى: خمس أصابع، الرواية المحفوظة: هي الرواية الأولى.

طيب هل نقول: إصبعٌ، أو أُصبعٌ؟ كلها تصح، يقولون: إن كلمة أصبعٍ لا يَلحن فيها أحدٌ؛ لأن فيها عشر لغاتٍ جمعها الناظم في قوله:

وهمز أنملةٍ ثََلَّثْ وثالثه والتسع في إصبعٍ واختم بأصبوع

وهمز أنملةٍ ثَلَّثْ، يعني: بالفتح والضم والكسر، وثالثه -الذي هي حرف الباء- بالضم والفتح والكسر، ثلاثةٌ في ثلاثةٍ كم؟ تسعةٌ، واختم بأصبوعٍ، هذه عشرةٌ، ففيها عشر لغاتٍ؛ ولذلك يقولون: لا يَلحن أحدٌ في كلمة “أصبعٍ”؛ إن شئت قلت: أُصبعٌ أو إصبعٌ أو أَصبعٌ، يعني عشر لغاتٍ.

وهذا الحديث كالأحاديث السابقة، فيها إثبات الأصابع لله ، وأيضًا دل لذلك أحاديث أخرى؛ مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء [9].

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُريبٍ قالا: حدثنا أبو معاوية، ح، قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خَشْرمٍ قالا: أخبرنا عيسى بن يونس، ح، قال: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جَريرٌ، كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد، غير أن في حديثهم جميعًا: والشجر على إصبعٍ، والثَّرى على إصبعٍ، وليس في حديث جريرٍ: والخلائق على إصبعٍ، ولكن في حديثه: والجبال على إصبعٍ، وزاد في حديث جريرٍ: تصديقًا له؛ تعجبًا لما قال [10].

الشرح:

خذ هذه فائدةً، الإمام مسلمٌ عندما يورد أكثر من روايةٍ، فالرواية الأصح: هي الرواية الأولى، والرواية الأضعف: هي الرواية الأخيرة، هذه فائدةٌ، فأصح الروايات التي يوردها الإمام مسلمٌ هي الرواية الأولى، وأحيانًا يورد الرواية الصحيحة، ثم يورد بعدها الرواية الضعيفة؛ من باب التنبيه على ضعفها.

صفتا الطي والقبض

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:

حدثني حرملة بن يحيى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، قال: حدثني ابن المسيب بأن أبا هريرة  كان يقول: قال رسول الله : يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! [11].

الشرح:

يقبض الله الأرض ويطوي السماء، جعل الله الطي للسماوات والقبض للأرض؛ لأن السماوات أوسع من الأرض وأشد وأعظم، فطيها أبلغ في القدرة، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، والأرض يقبضها جل وعلا، يقبض الأرض بيمينه؛ وهذا يدل على عظمة الله سبحانه، وأنه متفردٌ بالملك، وأن الخلائق يفنون.

وهذا الرب يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي السماء، يقبض الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الأرض؟

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال:

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة، عن سالم بن عبدالله قال: أخبرني عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ [12].

دل هذا الحديث على إثبات صفة الطي والقبض، وأنهما صفتان من صفات أفعاله تعالى، فنثبتهما ونعتقدهما على الوجه اللائق بالله سبحانه، ولا نُكَيِّفُهما، ولا نمثلهما.

يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟، عندما يقبض الله تعالى الأرض، ويطوي السماء؛ يهزهن هزًا، يقول: أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ سبحانه وتعالى.

وفي هذا الحديث قال: ثم يطوي الأَرْضِينَ، وهي جمع أرضٍ، أين الأرضون؟ هل الأرضون سبع أرضين؟

جاء في الحديث: من ظلم قِيدَ شبرٍ؛ طُوِّقَه بسبع أَرْضِينَ [13]، ونحن الآن نرى الأرض التي نعيش عليها، قيل: إن المقصود بالسبع أرضين: سبع طبقاتٍ لهذه الأرض التي نعيش عليها، وقيل: إن هناك أرْضِينَ أخرى، والله تعالى أعلم، الله تعالى أعلم وأحكم.

الجمع بين يطوي الأرضين بشماله..، ووكلتا يديه يمين..

ثم يطوي الأرضين بشماله، فهنا ذكر الشمال، فهل تُثبَت اليد الشمال لله ، أو لا تثبت اليد الشمال لله سبحانه؟ من يجيب عن هذا السؤال؟ يعني: ذُكرت اليمين، يطويهن بيمينه هذا واضحٌ، أن الله تثبت له اليمين، لكن هل يثبت لله تعالى اليد الشمال؟ أن لله يدًا يمينًا وشمالًا؟

الطالب:

الشيخ: هذا قولٌ لبعض العلماء، يعني بعض العلماء قال: إن الله تعالى كلتا يديه يمينٌ، ولم يثبتوا له اليد الشمال؛ وذلك لأن إثبات اليد الشمال قد يوهم بالنقص؛ ولهذا جاء في إحدى الروايات: وكلتا يديه يمينٌ [14]، لكن يُشكِل على هذا الرأي أنه في هذه الرواية قال: ثم يَطوي الأرضين بشماله، فالنبي عليه الصلاة والسلام أثبت الشمال هنا؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن لله يدًا يمينًا ويدًا شمالًا من حيث الاسم، أما من جهة الفضل: فكلتاهما يمينٌ مباركةٌ، ليس فيهما نقصٌ بأي وجهٍ من الوجوه، بل له سبحانه الكمال المطلق، وهذا لا يعارض رواية: وكلتا يديه يمينٌ؛ لأن معنى كلتا يديه يمينٌ: يعني مباركتان، لا شؤم ولا نقص في شماله، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.

فإذنْ الصواب: أننا نثبت الشمال كما ورد في الحديث، الحديث: أثبت النبي عليه الصلاة والسلام الشمال، قال: ثم يطوي الأرضين بشماله، فنثبت أن لله يدًا يمينًا ويدًا شمالًا، لكن من حيث الاسم، أما من جهة الفضل: فكلتاهما يمينٌ مباركةٌ، ليس فيهما أي نقصٍ، وليس كما لبني آدم أن الشمال أنقص وأقل قدرًا من اليمين، بل كلتاهما يمينٌ مباركةٌ من جهة الفضل، ليس فيها نقصٌ بأي وجهٍ من الوجوه، بل له سبحانه الكمال المطلق.

وأن معنى قوله في الرواية الأخرى: وكلتا يديه يمينٌ، يعني: كلتا يديه مباركتان لا نقص فيهما ولا شؤم بأي وجهٍ من الوجوه، هذا هو القول الذي تجتمع به الأحاديث؛ لأن القول بأنه ليس لله يدٌ شمالٌ، يُشكل عليه هذا الحديث، والحديث صحيحٌ، رواه مسلمٌ.

لكن هذا القول يجمع النصوص، فنقول: لله يدٌ يمينٌ ويدٌ شمالٌ، لكن من حيث الاسم، أما من حيث الفضل: فكلتا يديه يمينٌ، وبذلك تجتمع الأحاديث الواردة في هذه المسألة.

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال:

حدثنا سعيد بن منصورٍ: حدثنا يعقوب -يعني ابن عبدالرحمن- حدثني أبو حازمٍ، عن عبيدالله بن مِقْسَمٍ أنه نظر إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كيف يَحكي رسولَ الله قال: يأخذ الله سماواته وأَرْضِيه بيديه، فيقول: أنا الله -ويقبض أصابعه ويبسطها- أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيءٍ منه، حتى إني لأقول: أساقطٌ هو برسول الله ؟ [15].

الشرح:

هذا الحديث كالأحاديث السابقة، إلا أن فيه هذه الزيادة، قال: “حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيءٍ منه، حتى إني لأقول: أساقطٌ هو برسول الله ؟”.

طيب ما الذي تحرك؟ هل الذي تحرك النبي عليه الصلاة والسلام، أو الذي تحرك المنبر؟

محتمِلٌ، محتملٌ أن النبي عليه الصلاة والسلام تحرك لما قال: يهزهن هزًّا، تحرك عليه الصلاة والسلام، فتحرك معه المنبر، ويحتمل أن يكون المنبر هو الذي تحرك من نفسه؛ هيبةً للكلام الذي سمعه؛ كما حن الجذع، كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب على جذعٍ، فصنعت له امرأةٌ من بني النجار منبرًا، فترك الجذع، فقام الجذع يبكي ويصيح كبكاء الطفل، حتى نزل النبي عليه الصلاة والسلام وضمه كما يضم الطفل، وجعل يسكته كما يسكت الطفل، وجاء في روايةٍ أنه قال: أما ترضى أن تكون جذعًا في الجنة [16]، فسكت سبحان الله! فقالوا: إن المنبر أيضًا تحرك لعظمة الكلام الذي قاله عليه الصلاة والسلام، هو يحتمِل، يحتمل أنه تحرك بحركة النبي عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن المنبر تحرك، وهذا هو الأقرب، أن المنبر تحرك بنفسه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لو تحرك حركةً يسيرةً، وهو قال: يهزهن؛ ما تحرك المنبر بأكمله، كون المنبر كله يتحرك، حتى إن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “حتى إني لأقول: أساقط برسول الله ؟”.

فالأقرب: أن المنبر تحرك بنفسه، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة كان إذا خطب؛ كأنه منذر جيشٍ يقول: صَبَّحكم ومسَّاكم [17]، فكان عليه الصلاة والسلام أحيانًا يتحرك عندما يخطب، عندما يتكلم، لكن لا يتحرك المنبر.

هنا قال: تحرك حتى إني لأقول: أساقطٌ برسول الله ، فهذا مما يرجح القول بأن المنبر تحرك بنفسه؛ هيبة للكلام الذي سمعه؛ لأن هذا الكلام كلامٌ عظيمٌ، أن الله يأخذ السماوات والأرضين ويقبضها بيمينه ويهزهن هزًّا، ويقول: أنا الملك، أنا الملك، هذا كلامٌ عظيمٌ، فتأثر المنبر وهو جمادٌ من شدة وقع الكلام عليه، ومن عظمة هذا الكلام الذي سمعه.

إثبات صفة اليدين لله

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:

حدثنا سعيد بن منصورٍ قال: حدثنا عبدالعزيز بن أبي حازمٍ قال: حدثني أبي، عن عبيدالله بن مِقسَمٍ، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله  على المنبر وهو يقول: يأخذ الجبَّار سماواته وأَرَضِيه بيديه..، ثم ذكر نحو حديث يعقوب [18].

نقل النووي في “شرحه على صحيح مسلمٍ” عن القاضي عياضٍ، قال: الله أعلم بمراد نبيه فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكلٍ، ونحن نؤمن بالله وصفاته، لا نشبه شيئًا به.

نقول: ليس في هذه الأحاديث مشكلٌ والحمد لله، الأحاديث واضحةٌ وظاهرةٌ، ما هو المشكل في أن نثبت خمس أصابع لله؟

هو يقول: نخشى من التشبيه بالمخلوق، ليس فيها تشبيهٌ بالمخلوق، القول في بعض الصفات كالقول في بعضٍ، ألستم تثبتون السمع والبصر؟ لله سمعٌ وللمخلوق سمعٌ، ولله بصرٌ وللمخلوق بصرٌ، وبصر الله على الوجه اللائق بالله، بصر المخلوق على الوجه اللائق بالمخلوق، سمع الله على السمع اللائق بالله، سمع المخلوق على السمع اللائق بالمخلوق، الله ليس كمثله شيءٌ.

ليس معنى أننا نثبت لله خمس أصابع؛ أننا نقول: كأصابع المخلوقين، فهذا الإشكال الذي ذكره القاضي عياضٌ؛ لأنه ظن أننا عندما نقول: نثبت لله خمس أصابع؛ أننا شبهنا الله تعالى بالإنسان، وهذا غير صحيحٍ، نحن نُثبِت مع اعتقادنا أن الله لَيۡسَ ‌كَمِثۡلِهِ ‌شَيۡءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ [الشورى:11]، هذه الشُّبَه هي التي أدت بكثيرٍ من الطوائف إلى الانحراف في باب أسماء الله وصفاته، يعتقدون أنك إذا أثبت هذه الصفات؛ شبهت الله بخلقه، وهذا غير صحيحٍ، مع أن جميع الطوائف تُثبت أن لله ذاتًا، طيب للمخلوق ذاتٌ، ذات الله على الوجه اللائق به، المخلوق ذاته على الوجه اللائق به؛ هكذا أيضًا في بقية الصفات، فما هو الإشكال في أن نثبت لله خمس أصابع؟ وما العجب في ذلك؟! لكن -سبحان الله!- تجد التردد من الشراح، وذكر الإشكالات؛ لأنهم -كما ذكرنا- نشؤوا في بيئةٍ يغلب فيها مذهب الأشاعرة الذي ينكر الصفات، ما عدا سبع صفاتٍ، يقولون: إن العقل قد دل عليها.

والصواب: ما عليه أهل السنة والجماعة، وما عليه الصحابة والتابعون من إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، ولا تحريفٍ ولا تعطيلٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:

باب ابتداء الخلق وخلق آدم

باب ابتداء الخلق وخلق آدم

حدثني سُريج بن يونس وهارون بن عبدالله قالا: حدثنا حجاج بن محمدٍ قال: قال ابن جريجٍ: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالدٍ، عن عبدالله بن رافعٍ مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم  بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل، قال إبراهيم: حدثنا البِسْطَامي -وهو الحسين بن عيسى- وسهل بن عمارٍ، وإبراهيم ابن بنت حفصٍ، وغيرهم، عن حجاجٍ بهذا الحديث [19].

الشرح:

قال: ابتداء الخلق، وخلق آدم، لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم وبنيه؛ أخبر الملائكة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فأخبرهم بأنه سيخلق خلقًا ويجعله على هذا الكوكب، على الأرض.

لماذا قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا..؟

ولهذا لا يقل قائلٌ: لولا أن آدم أكل من الشجرة؛ لكنا في الجنة، الله تعالى قدَّر هذا أصلًا قبل أن يخلق آدم ، قدر أن يَخلق خلقًا يعيش على الأرض، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، كيف عَرَفَت الملائكة أنه سيحصل من بني آدم إفسادٌ في الأرض وسفكٌ للدماء؟

في هذا قولان للعلماء:

  • قيل: إن هناك خلقًا قبل بني آدم، يشبهون بني آدم، حصل منهم إفسادٌ في الأرض وسفكٌ للدماء، ولاحِظ قولهم: وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، يدل على أنهم خلقٌ يَخرج منهم دماءٌ، فهم يشبهون بني آدم.
  • والقول الثاني: أن الله تعالى أعلمَ الملائكةَ بما سيكون منهم عندما يخلقهم، قالوا: ويؤيد هذا: أن إبليس لعنه الله قال: أنظرني إلى يوم الدين، يعلم بأن هناك يوم دينٍ يُحاسَب فيه الناس.

والأظهر هو القول الأول: أن هناك خلقًا قبل بني آدم، فإن الله عظيمٌ ليس قبله شيءٌ، ليس مسبوقًا بأي شيءٍ حتى بالعدم، ليس قبله عدمٌ، الأول الذي ليس قبله شيءٌ، والآخِر الذي ليس بعده شيءٌ جل وعلا، فيحتمل -والله أعلم- أن هناك خلقًا قبل بني آدم حصل منهم ذلك؛ ولذلك قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، لكن يبقى الاحتمال الثاني قائمًا أيضًا؛ لأنه ليس هناك دليلٌ قاطعٌ يُرجَّح به أحد الأمرين بشكلٍ واضحٍ، قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، ثم أراد الله أن يظهر شرف هذا المخلوق بأمرين:

  • الأمر الأول: اختار الله أشرف صفةٍ في الإنسان، وهي العلم، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، ويظهر -والله أعلم- أنها أسماء أشياء محصورةٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۝ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33]، فأظهر الله تعالى شرف آدم  بالعلم.
  • ثم أراد الله أن يظهره شرفه بأمرٍ آخر، وهو السجود، أن تسجد له الملائكة: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الكهف:50].

هل إبليس من الملائكة؟

ليس من الملائكة، كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، لكن كان مشمولًا بالأمر فاستكبر وأبى، أبى أن يسجد، فلعنه الله وطرده، ولما لعنه الله وطرده؛ لم يتب إلى الله كما تاب آدم ، وإنما فقط توعد آدم وبنيه، قال: هم السبب، ما قال: يا رب تب عليَّ، قال: أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14]، لماذا؟ لإضلال ما يستطيع من بني آدم.

خلق حواء

ثم بعد ذلك خلق الله حواء عليها السلام من أحد أضلاع آدم ، وأمر الله تعالى آدم وحواء عليهما السلام بأن يسكنا الجنة ويأكلا منها رغدًا، وحذرهما من الشيطان، قال: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، أمرهما الله تعالى أن يأكلا من الجنة حيث شاءا، إلا شجرةً واحدةً، اختبارًا وامتحانًا.

أتاهما الشيطان، مع أن الله حذرهما منه، وقال: عدو لكما، وقال: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، ومع ذلك نسي آدم   وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه:115]، نسي هذا التحذير، فأتاه الشيطان، ونظر الشيطان الخبيث إلى نقطة الضعف عند آدم وحواء عليهما السلام: وهي الحرص والطمع، قال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، هذه الشجرة فيها سرٌّ، أنا أعرف السر، أنا خُلِقتُ قبلكما وأعرف السر، ما هو السر؟ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، انظر، الإنسان يبحث عن الخلود من قديمٍ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ.

فكان بإمكان آدم  أن يقول: ما دمت عرفت السر؛ كل أنت من الشجرة؛ حتى تكون أيضًا مَلَكًا ولا تكون من الجن، وتكون من الخالدين، لكن آدم  صدق؛ لأنه قام، وحلف له بالله العظيم، وَقَاسَمَهُمَا يعني: أقسم لهما بالله: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21].

قالوا: إن آدم لم يصدق أن أحدًا يحلف بالله كاذبًا، مع أن الله حذَّر آدم من هذا الشيطان، فأكلا من الشجرة، ويقال: إن أول من بدأ: حواء، ثم تبعها آدم، منذ أن أكلا من الشجرة، سبحان الله! انظر إلى شؤم المعصية! بعد الأكل مباشرةً طار عنهما لباس الجنة، وانكشفت عوراتهما: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ يعني: ظهرت لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [الأعراف:22]، يعني: عوراتهما، ففزعا لما انكشفت العورة، فَزِعَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22]، أخذا من ورق الجنة يستران به العورة، وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22]، فعرفا أن الشيطان اللعين قد غرهما، فجعلا يبكيان -ولم يعرفا كيف يتوبان- بكاءً عظيمًا، فالله تعالى من رحمته بهما فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37]، يقولها هو وحواء ويتوب الله عليهما، ما هي هذه الكلمات؟

أفضل كلمات يقولها التائب إلى الله

جاءت في آيةٍ أخرى، وهي: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، هذه أفضل كلمات يقولها التائب إلى الله ، فتاب الله عليهما، لكن اقتضت حكمته، قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38]، يعني: آدم وحواء وإبليس، واختار الله تعالى هذا الكوكب، الأرض، وهيأه لسكنى آدم وزوجه وبنيه، وأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة، واتضحت المحجة.

فهذه قصة ابتداء خلق أبينا آدم، وهي في شريعة الإسلام واضحةٌ وضوحًا تامًّا، لا تجد مثل هذا الوضوح في الملل الأخرى، إنما في شريعة الإسلام، وعند المسلمين قصة خلق الإنسان بهذا الوضوح التام، وبهذه التفاصيل الدقيقة، وليس لهذا نظيرٌ في أي دينٍ من الأديان، أو ملةٍ من الملل.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث، وهذا الحديث في صحته كلامٌ، مع أن الإمام مسلمًا خرجه، و”الصحيحان” تلقتهما الأمة بالقبول، لكن هذا من الأحاديث التي أخذت على الإمام مسلمٍ.

وللعلماء في ذلك اتجاهان:

  • الاتجاه الأول: قالوا: إن هذا الحديث صحيحٌ، وأنه أخرجه مسلمٌ، وممن ذهب إلى هذا ابن الجوزي وابن الأنباري، وقالوا: صحيحٌ أنه ذُكر في هذا الحديث سبعة أيامٍ، لكن ليست هذه الأيام هي الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض، فالله تعالى يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق:38]، فتلك الأيام أيامٌ أخرى، وهذه أيامٌ سبعةٌ لخلق ما ذكر في هذا الحديث.
  • والاتجاه الثاني: أن هذا الحديث لا يثبت، وأنه من كلام كعب الأحبار، قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله، قال: هذا الحديث من غرائب “صحيح مسلمٍ”، فقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري وغير واحدٍ من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعلوه مرفوعًا، وقال البخاري: رواه بعضهم عن أبي هريرة عن كعب الأحبار، وهو الأصح، وضعفه كذلك يحيى بن معين، وضعفه الإمام ابن تيمية رحمه الله، قال: إنه من كلام كعب الأحبار، وقالوا: إنه اشتبه على أحد الرواة، وهو أيوب بن خالدٍ، لو لاحظت سند الحديث؛ قال: حدثني سويد بن يوسف وهارون بن عبدالله قالا: حدثنا حجاج بن محمدٍ قال: قال ابن جُريجٍ: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالدٍ، قالوا: أيوب بن خالدٍ لين الحديث، وكان يحيى بن سعيدٍ ونظراؤه لا يكتبون حديثه، وأنه اشتبه على أيوب بن خالدٍ ورفع الحديث، وإلا هو موقوفٌ على كعب الأحبار.

قالوا: ومما يؤيد ذلك: أن الله تعالى ذكر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ، بينما هذا الحديث ذُكر فيه سبعة أيامٍ، وهذا ينافي ما ورد في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة من أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ.

والأقرب -والله أعلم- والراجح: أن هذا الحديث لا يثبت؛ لأن الحفاظ وأئمة هذا الشأن قرروا عدم ثبوته، هؤلاء هم الأئمة؛ فابن المديني ويحيى بن معينٍ والبخاري، كلهم جزموا بأنه لا يثبت مرفوعًا، وأنه من كلام كعب الأحبار، وأن أيوب بن خالدٍ وَهِمَ في رفعه.

ولسنا بحاجةٍ لأن نقول: إن هذه الأيام السبعة غير الأيام الستة المذكورة في الآية؛ لأنه أيضًا في الآية الله تعالى يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق:38]، فهذه المذكورة في الحديث تدخل في قوله: وَمَا بَيْنَهُمَا تدخل فيها كلها؛ الشجر والجبال والدواب تدخل في قوله: وَمَا بَيْنَهُمَا.

وبكل حالٍ: المرجع في الرواية لأئمة الحديث، وكبار أئمة الحديث حكموا بعدم ثبوت هذا الحديث، وهم أئمة هذا الشأن؛ ولذلك أنا رأيت بعض طلاب العلم يقول: إن هذا الحديث رواه مسلمٌ، وأن إنكار من أنكره لأجل أنه ذكر فيه سبعة أيامٍ، وأن هذه الأيام السبعة غير الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض.

نقول: لا، إنكار هؤلاء الأئمة ليس فقط لأجل هذا، وإنما لأجل ضعف أحد رواته، وهو أيوب بن خالدٍ، وأيوب بن خالدٍ -كما ذكرنا- كان يحيى بن سعيدٍ لا يَكتب حديثه، والبخاري من أئمة هذا الفن، والبخاري قال: إنه من كلام كعب الأحبار، كذلك ابن المديني، كذلك يحيى بن معينٍ وابن تيمية، كلهم جزموا بأنه من كلام كعب الأحبار.

فالأقرب -والله أعلم- أن هذا لا يصح عن النبي ، وما ذكر يؤيد هذا، يعني ذِكر المكروه، وذكر النور، فيشبه أن هذا ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين.

“وخلق المكروه”، المكروه يقولون: هو ما يُكره مما يُهلِك أو يؤلم؛ كالسموم والحيوانات، وإفراده في الذكر مما يرجح أنه ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

“وخلق النور”، النور: يقولون: هو الأجسام النيرة؛ كالشمس والقمر والكواكب، طيب هذه تدخل في قوله: وَمَا بَيْنَهُمَا، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل.

فالأقرب -والله أعلم- أن هذا الحديث غير ثابتٍ عن النبي ، وأنه من كلام كعب الأحبار، وأنه من الأحاديث التي أخذت على الإمام مسلمٍ، وهذا لا يؤثر على قولنا: إن “الصحيحين” تلقتهما الأمة بالقبول؛ لأنه يقال: إن الأحاديث التي أخذت على البخاري، أو على مسلمٍ أحاديث قليلةٌ جدًّا، ومنها هذا الحديث.

وأيضًا دل هذا الحديث على أن أرجى ساعات الإجابة يوم الجمعة: أنها آخر ساعةٍ بعد العصر؛ لقوله: وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل، وهذا يؤكد على أن هذه الساعة ساعةٌ عظيمةٌ لها شأنٌ، وأن الله خلق فيها آدم .

وقد ذكر ابن القيم في “الهدي”: أن أهل الكتاب يعظمون هذه الساعة، وأن هذا مما لم يدخله التحريف؛ لأنه لا غرض لهم في تحريفه، فهذه الساعة معظَّمةٌ عند أهل الكتاب، فهي أرجى ساعةٍ توافق ساعة الإجابة يوم الجمعة.

ولكن المقصود بساعة الإجابة ليست هي الساعة التي هي ستون دقيقةٌ، وإنما المقصود بها لحظاتٌ يستجاب فيها الدعاء، وأرجى أوقات هذه اللحظات: اللحظات التي تسبق غروب الشمس يوم الجمعة بعد العصر.

فهذه ينبغي للمسلم أن يحرص على أن يدعو فيها؛ لأنه قد يوافق دعاؤه ساعة الإجابة فيستجاب له الدعاء، ورُبَّ دعوةٍ واحدةٍ تستجاب لك؛ يَكتب الله تعالى لك بسببها خيرًا عظيمًا، أو يكتب الله تعالى لك بسببها سعادة الدنيا والآخرة.

بابٌ في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة

القارئ:

أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:

بابٌ في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا خالد بن مخلدٍ، عن محمد بن جعفر بن أبي كثيرٍ، قال: حدثني أبو حازم بن دينارٍ، عن سهل بن سعدٍ  قال: قال رسول الله : يُحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاء عفراء كقُرصة النَّقِيِّ، ليس فيها عَلَمٌ لأحدٍ [20].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا علي بن مُسْهِرٍ، عن داود، عن الشعبي، عن مسروقٍ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن قوله : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:48]، فأين يكون الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ فقال: على الصراط [21].

الشرح:

قال: يحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاء عفراء: العَفَر: هو البياض الذي ليس بالناصع، وقال عياضٌ: العفر: هو بياضٌ يضرب إلى الحمرة قليلًا، يعني: ليس بياضًا ناصعًا، فتكون الأرض بيضاء بياضًا ليس ناصعًا؛ ولهذا قال: على أرضٍ بيضاء عفراء.

كقُرصة النَّقِي: النقي: الدقيق النقي من الغش والنخالة، كما قال الخطابي، يعني: تكون الأرض مثل قرص هذا الدقيق الخالي من النخالة، أو من الغش.

ليس فيها عَلَمٌ لأحدٍ: يريد أنها مستويةٌ، يعني: ليس بها علامةٌ، لا علامة سُكنى، ولا علامة بناءٍ، ولا أي علامةٍ أو أثرٍ، يريد أن هذه الأرض مستويةٌ، فتكون الأرض يوم القيامة أرضًا بيضاء عفراء، وتكون ممدودةً مستويةً، ليس عليها جبالٌ ولا بناءٌ ولا أعلامٌ ولا أشجارٌ، وإنما مستويةٌ وممدودةٌ.

الحكمة من تبديل الأرض يوم القيامة

قال ابن مسعودٍ : “تكون الأرض يوم القيامة كأنها فضةٌ، لم يسفك فيها دمٌ حرامٌ، ولم يُعمل عليها خطيئةٌ”، قال: تكون الأرض كأنها فضةٌ، لم يسفك فيها دمٌ حرامٌ، ولم يعمل عليها خطيئةٌ.

قيل: إن هذه هي الحكمة من تبديل الأرض؛ لأن الرب يجيء مجيئًا يليق بجلاله وعظمته والناس في الموقف، يجيء الرب سبحانه للفصل والقضاء بين عباده، يجيء في ظُللٍ من الغمام، وتشرق الأرض بنور ربها عند مجيء الرب .

قال: يحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاء عفراء، وهذه الأرض جاء تحديدها في أحاديث أخرى بأنها أرض الشام، أرض المحشر، في ذلك المكان.

وفي الحديث الآخر، حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت رسول الله عن قوله : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:48]، فأين يكون الناس يومئذٍ؟ قال: على الصراط، وجاء في روايةٍ أخرى عند مسلمٍ: هم في الظُّلمة دون الجسر [22]، في الظلمة دون الصراط، والله أعلم كيف يكون ذلك، وأحوال الآخرة لا نستطيع أن ندرك كُنهها بالعقول التي في الدنيا، كيف يكون الناس عند الظلمة دون الصراط؟ لا ندري، فالله تعالى أعلم وأحكم، لكن دلت النصوص على أن الأرض يوم القيامة تمد: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ۝ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [الانشقاق:3-4]، بينما الأرض في الدنيا كرويةٌ، لكن يوم القيامة تكون ممدودةً، يُسمعهم الداعي، ويَنفُذهم البصر.

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إبراهيم:48]، هل المراد تغيير ذاتها وصفاتها، أو أن المراد تغيير صفاتها فقط؟

قولان للعلماء، والله تعالى أعلم، وكما ذكرنا في مقدمة الدرس: أن العقل البشري يعجز عن تخيل أحوال الآخرة، لكن نؤمن بها كما وردت، وإلا فمثلًا يومٌ طويلٌ مقداره خمسون ألف سنةٍ، كيف يكون الناس؟ كيف يمر عليهم هذا اليوم؟ يومٌ عظيمٌ يَجعل الولدان شيبًا، أرأيت المولود الصغير؟ يشيب من أهواله، يومٌ عظيمٌ، ودلت النصوص على أن الناس يبقون خمسًا وعشرين ألف سنةٍ قبل الحساب، ثم بعد مرور خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، ويحاسب الناس، وهذا ورد فيه آثارٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ ، ذكر المفسرون عند قول الله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، قالوا: القيلولة تكون منتصف النهار، واليوم يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنةٍ، منتصفه كم؟ خمسةٌ وعشرون ألفًا، يقف الناس قبل أن يحاسبوا على أرض المحشر، يومٌ ثقيلٌ؛ ولذلك عندما يقوم الإنسان من قبره؛ يصاب بالذهول، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]، تصور في الدنيا أعظم حدثٍ، أعظم حدثٍ تتخيله، يعني مثلًا: لو أن امرأةً ترضع طفلها، ووقع انفجارٌ في المكان التي هي فيه، هل ستذهل عن طفلها الرضيع، أو تضمه إلى صدرها وتذهب به؟ تضمه وتذهب به؛ معنى ذلك: أن يوم القيامة أعظم من هذا، أعظم، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ، ما قال: مرضعٌ، مُرْضِعَةٍ يعني: تباشر الرضاع، ألصقت ثديها برضيعها، تذهل من شدة الموقف، سبحان الله! انظر إلى دقة الوصف، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ من شدة الموقف، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، لكن سكر اندهاشٍ وذهولٍ، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى يعني: سكر الخمر المعروف في الدنيا، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، فانظر إلى عظمة الوصف، ودقة الوصف من ربنا سبحانه لأهوال يوم القيامة! هو يومٌ عظيمٌ، ويومٌ شديدٌ، ويومٌ ثقيلٌ؛ ولهذا ينبغي أن يستعد المسلم له بالأعمال الصالحة، وأن يتزود بزاد التقوى.

فإذنْ أين يكون الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:48]؟ عند الصراط، أو عند الظلمة التي دون الجسر، لا ندرك ذلك بعقولنا، الله أعلم، نؤمن بذلك، والله أعلم بكيفية ذلك وبحقيقته.

ونقف عند باب نُزُل أهل الجنة، ونجيب الآن عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: بعض الناس يقول: شمالك يمينٌ، فما حكم ذلك؟

الجواب: هذا لا يجوز، هذا إنما هو خاصٌّ بالله سبحانه، هو الذي كلتا يديه يمينٌّ، فلا يجوز أن يطلق هذا على المخلوق.

السؤال: ما الضابط الفارق بين الأحكام التي يُعذر فيها الإنسان بجهله، وبين الأحكام التي لا يعذر ويلزمه إعادة العبادة؟

الجواب: ما كان من باب ترك المأمور: لا يعذر فيه الإنسان بالجهل، لكن قد يعذر بالتأخير، وما كان من باب ارتكاب المحظور: يعذر فيه الإنسان بالجهل، ونوضح هذا بأمثلةٍ:

إنسانٌ صلى صلاة العشاء ناسيًا الوضوء، هل يعذر بالنسيان؟ لا يعذر، نقول: اذهب وتوضأ وأعد الصلاة.

طيب صلى صلاة العشاء، وعلى لباسه نجاسةٌ جهلها، أو نسيها، ولم يعلم بها، أو لم يتذكرها إلا بعدما فرغ من الصلاة، نقول: هو معذورٌ؛ لأن هذا من باب ارتكاب المحظور.

طيب في الصوم لَمْ يبيِّت النية من الليل لجهله بدخول رمضان، هل نعذره بالجهل؟ لا نعذره، نقول: يجب عليك أن تقضي هذا اليوم، طيب أكل أو شرب ناسيًا؟ معذورٌ، صومه صحيحٌ.

في الحج لم يرم الجمرات جاهلًا أو ناسيًا مثلًا، يعني رمى بعض الجمرات، رمى مثلًا الجمرة الصغرى والوسطى وجهل الكبرى، أو العكس، أو حصل منه نسيانٌ فلا يعذر، لا يعذر، يطالب بإعادة الرمي إن كان يمكن التدارك، وإلا فعليه دمٌ.

طيب ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام ناسيًا أو جاهلًا؛ غطى رأسه مثلًا ناسيًا أو جاهلًا، نقول: ليس عليك شيءٌ.

هذه القاعدة قاعدةٌ مطردةٌ في أبواب العبادات، وهذا هو الضابط: ما كان من باب ترك المأمور؛ لا يعذر فيه بالجهل ولا بالنسيان، وما كان من باب ارتكاب المحظور؛ يعذر فيه بالجهل والنسيان.

السؤال: في بعض الأحيان أجد على اللباس الداخلي بقعةً من المَذْي، أظنه مذيًا؛ لأنه رقيقٌ، فأحكه، هل هذا يكفي، أم يجب غسله؟

الجواب: أولًا: لا بد من التحقق أنه مَذْيٌ، المذي يخرج بشهوةٍ، أما الذي يخرج بدون شهوةٍ، هذا لا يسمى مَذْيًا، وإنما وَدْيٌ، بالدال، فالودي سائلٌ يخرج بعد البول، ويخرج غالبًا ممن لديه مشاكل في المسالك البولية، وحكمه حكم البول تمامًا.

أما المذي فهو سائلٌ رقيقٌ يخرج عند اشتداد الشهوة وانكسارها، ويخرج من الرجل ومن المرأة جميعًا، المذي أيضًا نجسٌ، لكن نجاسته مخففةٌ، يكفي فيه النضح، ولكن انتبه، المقصود بالنضح: ليس المقصود به الرش، وإنما المقصود به: أن تغمره بالماء من غير عصرٍ، وليس المقصود به مجرد الرش.

وأما قول الأخ الكريم: فأحكه، الحك لا يكفي؛ لأنه نجسٌ، لكن إذا كان مذيًا، إنما الذي يُحك: المني، المني هذا هو الذي يحك، كما كانت عائشة رضي الله عنها تفعل ذلك؛ لأنه طاهرٌ وليس نجسًا، وأما المذي فلا بد من غسله، أو على الأقل نضحه، أما الحك فلا يكفي في المذي، وعلى المسلم ألا يتساهل في أمر النجاسات؛ فإن التساهل في أمر النجاسة من أسباب عذاب القبر، مر النبي بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، ثم ذكر: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة بين الناس، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله [23].

فينبغي عدم التساهل، كون الأخ الكريم يخرج منه مذيٌ ويكتفي بحكه، هذا من التساهل المذموم، فلا بد من غسله، أو على الأقل نضحه بالماء.

الطالب:

الشيخ: لا، الغسل من باشر النجاسة باليد الغسل، نعم..، لا ينتقض منه الوضوء.

السؤال: من صلى صلاة العصر، ثم دخل مسجدًا، فوجد جماعة هذا المسجد ما زالوا يصلون، فهل يدخل معهم بنية النافلة؟

الجواب: يشرع له أن يدخل معهم بنية النافلة، حتى وإن كان ذلك في صلاة العصر أو الفجر، ولا يقال: إنه وقت نهيٍ، بل إن هذا ورد في قصة الرجلين اللذَين أتيا بعدما صلى النبي بالناس صلاة الفجر، وكان في سفرٍ، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟، قالا: صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما جماعةً؛ فصليا معهم؛ تكن لكما نافلةً [24].

فيسن للإنسان إذا صلى ثم وجد جماعةً يصلون: أن يدخل معهم، وتكون في حقه نافلةً، سواءٌ وجدتهم يصلون في مسجدٍ، أو مثلًا في استراحةٍ، أو في البر، أو في أي مكانٍ، إذا صليت صلاة الفريضة ثم ذهبت إلى مكانٍ ووجدت من في المكان يصلون الفريضة؛ فصل معهم بنية النافلة، هذه هي السنة في ذلك.

السؤال: هل يجوز أن أحدد بعض المنهج للطلاب وأخبرهم أن غالب الأسئلة من التحديد، وسيأتي بعضها من غيره، ربما واحدٌ أو أكثر؟

الجواب: هذا نوعٌ من الغش، وإلا ما الفائدة من الاختبار؛ كأنك حددت الآن أسئلة الاختبار، ما دام أنه لن يخرج إلا واحدٌ أو غيره، واحدٌ أو أكثر؛ فهذا لا يجوز، هذا خلاف ما تقتضيه الأمانة، إنما تقرب المنهج بالتوضيح، ربما إذا كان المنهج طويلًا؛ يختصر اختصارًا مقبولًا، لكن ما يكون بهذه الطريقة أن تحدد المنهج، وتبين أن غالب الأسئلة من هذا التحديد، ثم لا تخرج الأسئلة، إلا سؤالًا واحدًا، هذا خلاف ما تقتضيه الأمانة، الأصل أن الطالب مطالبٌ بجميع المنهج، إنما يساعده المعلم في التوضيح وفي التقريب، وربما إذا كان هناك مسائل مشكلةٌ، ربما أن المعلم يستبعدها إذا كان أيضًا من صلاحيته ذلك، لكن لا يبالغ في هذا بحيث تكون الأسئلة شبه مكشوفةٍ، وهذا -مع الأسف!- واقع لدى بعض المدارس الخاصة، يكون عندهم هذا التحديد، بحيث تكون الأسئلة شبه مكشوفةٍ، وهذا خلاف ما تقتضيه الأمانة، ولا تبرأ به الذمة، والمطلوب في الأسئلة أن تكون باعتدالٍ لا تكون صعبةً على الطلاب وتعجيزيةً، ولا تكون أيضًا سهلةً لا تكشف عن مستواهم.

السؤال: ما حكم شراء سيارةٍ بطريقة التأجير المنتهي بالتمليك من “مصرف الراجحي”؟

الجواب: لا بأس بذلك، اطلعت على عقد “مصرف الراجحي”، وهو منضبطٌ بالضوابط الشرعية، وليس فيه إشكالٌ، وليس فيه إشكالاتٌ شرعيةٌ، التأجير مع الوعد بالتمليك هو تأجيرٌ حقيقيٌّ تترتب عليه آثار عقد الإجارة مع وعدٍ بالتمليك.

وهذه الصورة أجازها “مجمع الفقه”، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، فهو تأجيرٌ حقيقيٌّ تترتب عليه آثار عقد الإجارة مع وعدٍ بالتمليك بصورةٍ من صور التمليك؛ إما بطريق الهبة، أو بطريق البيع بسعرٍ مخفضٍ، وهو ما يسمى بالدفعة الأخيرة، كل هذا لا بأس به، لكن بعض عقود التأجير مع الوعد بالتمليك يرِد عليها إشكالية شرط غرامة التأخير، يُكتب من ضمن بنود العقد: إذا تأخر المستأجر عن سداد الدفعة الإيجارية؛ يحسب عليه غرامة تأخيرٍ قدرها كذا، فإن أخذ هذه الغرامة الدائن -يعني المؤجر- فهذا حرامٌ بالإجماع، أما إذا كان المؤجر لا يأخذها، وإنما يصرفها في وجوه البر؛ فهذه محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين؛ هناك من أجازها، وهناك من منعها، والأقرب فيها المنع.

والتأجير المنتهي بالتمليك الموجود الآن في الساحة هنا عندنا في المملكة، هو على الصورة الجائزة، لكن الإشكالية تَرِد في شرط غرامة التأخير، فإذا سَلِم من شرط غرامة التأخير؛ فهو على الأصل، وهو الجواز.

أما الصورة التي منعتها “هيئة كبار العلماء” في المملكة، فهذه الصورة من صور التأجير المنتهي بالتمليك غير موجودةٍ في السوق الآن، وأصلًا لا تحبذها الشركات ولا البنوك، فهي غير موجودةٍ، فالموجود الآن هو صورةٌ من الصور الجائزة، لكن تأكَّدْ من عدم وجود شرط غرامة التأخير في هذا العقد.

السؤال: من الذي يدفع الدية إذا كان القاتل امرأةً؟

الجواب: إذا كان القتل شبه عمدٍ أو خطأً؛ فالمطالب بدفع الدية: العاقلة، سواءٌ كان القاتل رجلًا أو امرأةً، “العاقلة” يعني: عصبة القاتل، عصبته: أبوه وجده وأبناؤه وإخوانه، وأبناء أخيه، وأعمامه، وأبناء عمومته، هؤلاء هم العصبة العاقلة، فهم المطالبون بدفع الدية.

أما إذا كان القتل عمدًا؛ فلا تطالب العاقلة بدفع الدية، وإنما القاتل نفسه إذا تنازل أولياء الدم عن القصاص إلى الدية، فالدية يدفعها القاتل وليس العاقلة.

طيب نختم بهذا السؤال:

السؤال: يقول: أنا لا أستطيع التفريق بين المَنِيِّ والمَذْي، عندما أستيقظ؛ أجد آثارًا فأقوم بأخذ كفٍّ من الماء، وأرشه في السروال بدون حكه، إذا اختفى الأثر؛ فهو مذيٌ، وإن بقي الأثر فهو منيٌّ؟

الجواب: بينهما فرقٌ ظاهرٌ؛ المني يخرج دفقًا بلذةٍ، أما المذي فيخرج عند الشهوة، لكن من غير أن يشعر الإنسان به، وإنما يجد أثره، والمني يكون كثيرًا، والمذي يكون يسيرًا، فبينهما فرقٌ ظاهرٌ.

وننصح الأخ الكريم بألا يدقق في طرح مثل هذه الأسئلة؛ لأن هذا قد يقود للوسواس، فهناك مَن عنده وسواسٌ فيما يتعلق بالمني والمذي والودي، وتشتبه عليه الأمور، فنقول: كثرة التدقيق في هذه الأمور يسبب الوسواس، فالودي كما ذكرنا يخرج بعد البول، ويخرج بدون شهوةٍ، فهذا حكمه حكم البول، المذي لا يخرج إلا عند اشتداد الشهوة، وهو يسيرٌ، وهو نجسٌ، لكن نجاسته مخففةٌ، ويوجب الوضوء، المني يخرج دفقًا بلذةٍ، ويوجب الغسل.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري (3244) ومسلم (2824).
^2 رواه مسلم: 2785.
^3 رواه مسلم: 2564.
^4 رواه مسلم: 212.
^5, ^7, ^8, ^10 رواه مسلم: 2786.
^6 رواه البخاري: 2311.
^9 رواه مسلم: 2654.
^11, ^12 رواه مسلم: 2787.
^13 رواه البخاري: 2453، ومسلم: 1612.
^14 رواه مسلم: 1827.
^15, ^18 رواه مسلم: 2788.
^16 رواه أحمد: 21260، بنحوه.
^17 رواه مسلم: 867.
^19 رواه مسلم: 2789.
^20 رواه مسلم: 2790.
^21 رواه مسلم: 2791.
^22 رواه مسلم: 315.
^23 رواه البخاري: 216، ومسلم: 292.
^24 رواه أبو داود: 575، والترمذي: 219، والنسائي: 858، وأحمد: 17474، وقال الترمذي: حسن صحيح.
zh